الفصل الأول

فاسيلي كاندينسكي

«عن التكوين المسرحي» و«الصوت الأصفر»
في عام ١۹١٢م صَدَر لفاسيلي كاندينسكي مقالٌ بعنوان «عن التكوين المسرحي» Stage Composition في إصدار «المناخ» Almanac١ المسمَّى «الفارس الأزرق». كان عنوان المقال نفسه بمثابة إعلان للمبدأ البنائي باعتباره المبدأَ الحاكم لمسرح الفنان، ألَا وهو مبدأ التكوين (في الوقت نفسه أطلق كاندينسكي على أعماله الفنية التجريدية اسم التكوينات، بمعنى أنه كان يفهم هذا المبدأ بمعناه الواسع باعتباره مبدأً جامعًا لمختلف أشكال الإبداع).
كان كاندينسكي يرى أن التكوين المسرحي يمكن إحرازه من خلال مُركَّب Synthesis من كلٍّ من اللون والصوت والحركة، وأنَّ من الضروري أن يكون للَّون والصوت والحركة تعبيرٌ تجريدي؛ لكي يكشف بشكل تامٍّ عن الصوت الداخلي، ومن ثَم يحلُّ المهمَّة الرئيسية، وهي إثراء الرُّوح وتوسيع عالمها وتعميقه ونقْل المشاعر والمعاناة التي تعتمل فيها. وكان مؤمنًا أنَّ المسرح الحالي في حالٍ لا تسمح له بحلِّ هذه المهمَّة؛ لأنه يتَّجه ناحيةَ وصف المظهر الخارجي للظواهر. إنه مسرحٌ غارقٌ في الوضعية Positivism٢ ومشغولٌ بوصف الجوانب المادية للواقع، الأمر الذي كان من نتيجته أن الدراما والأوبرا والباليه انفصلتْ بعضها عن بعض؛ ليصبح كلٌّ منها في عزلة، و«تجمَّدت» جميعًا في الأشكال التي هي عليها.
وفي رأي كاندينسكي أن البحث عن المُركَّب في الفنون التمثيلية، والذي استُخدم من قبل، بما في ذلك تلك التي قدَّمها ريتشارد فاجنر، كان ذا أثرٍ محدود؛ إذ إنه كان ينطلق من التصوير التقليدي للمشهد الظاهري للواقع. ففاجنر، على سبيل المثال، حاوَلَ أن يصل إلى المُركَّب عن طريقِ «التكرار المتوازي» في الموسيقى وفي الحركة المسرحية، ولكنه ظلَّ واقفًا «على أرضية الظاهر الصرف». لقد استطاع أن «يثري من فعاليةِ الوسائل المنفردة» من جانبٍ، ولكنَّه، من جانبٍ آخَر، قلَّل من مغزاها الداخلي، وكذلك من «المدلول الفني التجريدي لها».٣ أما فيما يتعلق بالشكل التصويري للمُركَّب المسرحي؛ فقد ظلَّ هذا العنصر دائمًا بعيدًا عن اهتمامِ فاجنر. وحتى التطور اللاحق بكامله لمسرح الأوبرا، (بما في ذلك أعمال الفنانين من أمثال قسطنطين كوروفين وألكسندر جولوفين، ومعهم فنَّانو عالم الفن)، لم يقرِّب المسرح، من وجهة نظر كاندينسكي من المُركَّب المنشود، ويرجع السبب في ذلك لأنَّ «التصوير لا يزال يستخدم حتى الآن باعتباره «ديكورًا» فقط، أي ليس باعتباره عنصرًا جوهريًّا، وإنما كزخرفة ظاهرية، وهذا التصوير لم تكن تربطه أي رابطة، في الواقع، بالعرض الأوبرالي. ومن هنا جاء استخدامه على نحو تعسفي. ومن ثَم فقد كان من الممكن استخدام الديكور أو عدم استخدامه.»٤ وفي معرض إشارته إلى أنَّ «الشكل التصويري» ينبغي أنْ يكون «عنصرًا جوهريًّا» في المسرحية، كان كاندينسكي في هذا المجال أيضًا يفكِّر في المستويات الجمالية لمسرح الفنان، وفي التكوينات التي يكتسب فيها «الشكل التصويري»، مِثله مِثلُ أيِّ عنصرٍ بصري آخَر، دلالته باعتباره «عنصرًا جوهريًّا» تحديدًا.
لقد اعتبر كاندينسكي أن مُركَّب اللون والصوت والحركة هو أكثر الأشياء طبيعيةً، والذي يسهل تحقيقه في الباليه، ولكن ليس في هذا النوع من الباليه الذي كان يشاهده على المسرح آنذاك؛ ففي تصوُّر الفنان أنَّ هذا الباليه هو نفسه دراما، ولكنَّها مؤدَّاةٌ على نحوٍ راقص، ومبنيةٌ على تنويعات الحركة الظاهرية، ولا يظهر مغزاها، إذا ظهر، إلا بمحضِ المصادفة. لقد تبيَّن أن الطريق إلى باليه جديدٍ يكمن في الاتجاه إلى الحركة المجردة للإنسان، الحركة في ذاتها، الحركة التي تنطوي على «قوة التأثير الداخلي في الروح».٥ سوف تتساوى في الباليه الجديد وسائل التعبير كافة، سواء من ناحية الأهمية أو من ناحية القيمة؛ فإلى جانب حركة المؤدين، وبمصاحبة الموسيقى، فإن حركة «أكثر الأشياء اختلافًا، بما في ذلك الأشكال المجردة»،٦ وبطبيعة الحال اللون المجرد، الذي سيصبح «عنصرًا جوهريًّا» في التكوين المسرحي، سوف تجعل كلها من هذا التكوين لوحةً فنية دينامية حيَّة.
إن دلالة اللون Semantics تكمن في أساس التأثير الدينامي للصورة في المشاهِدين. والفنان، وهو يستخدم اللون، يكون قادرًا على التعبير عن الأحوال العاطفية المتنوعة، وأنْ يثير أكثر «خلجات الرُّوح» صعوبةً. وقد أعدَّ كاندينسكي مفهومَ دلالة اللون وطرحه في كتابه عن «الروحاني في الفن»، الذي كتبه ونشره قبل عامٍ من مقاله «عن التكوين المسرحي» (في ألمانيا أولًا وباللغة الألمانية).
الأصفر لونٌ دنيوي نموذجي، تفتر سخونته عند مزجه بالأزرق؛ فيكتسب عندئذٍ مسحةً حزينة، أما الأزرق فلونٌ عميق، يبعث في الإنسان الإحساس بالأبدية، ويثير فيه الجوعَ والنقاء، فإذا ما كان أشدَّ عمقًا فإنه يضفي الإحساس بالسكينة؛ حتى إذا ما اقترب من حدود الأسود، فإنه «يكتسب طابع الحزن الإنساني …». الأخضر هو الطمأنينة والسكون، والأبيض «ينطق بالصمت». الرمادي هو «السكون المفتقد للسلوى، والذي كلما ازداد دكنةً، ازداد افتقادًا للسلوى، إلى أن يتملكه الشعور بالاختناق». والأحمر «يؤثِّر في الباطن باعتباره لونًا مُفعمًا بالحيوية والنشاط والاضطراب. وهو عندما يكون دافئًا فاتحًا؛ فإنه يثير الشعور بالقوة والطاقة والاندفاع المفعم بالعزيمة والفرح والانتصار»، أمَّا الأحمر البارد «فإنه يسمع مثل فرح الشباب الذي لا تعكِّر صفوَه شائبة». والبرتقالي «أشبه بإنسانٍ شديد الثقة بقوته». وفي النهاية، فإنَّ البنفسجي «يبعث بقدْرٍ من الإحساس بالألم، مثل شيء ذابل وحزين».٧

لم يكن من قبيل المصادفة أنَّ كاندينسكي كان يستخدم طَوال الوقت كلمةَ «يسمع»، فالصورة بالنسبة إليه هي موسيقى مرئية. كانت الألوان جميعها تكتسب عنده دويًّا موسيقيًّا، فضلًا عن مضمونها العاطفي.

انظر كيف يبدو صوت الأزرق في مقاماته اللونية المختلفة: الفاتح يشبه الفلوت، والداكن يشبه التشيلو، فإذا ما ازداد دكنه فإنه يشبه الكونترباص، وفي دكنته القصوى وتشبُّعه يشبه الأرغن. للأخضر صوتُ «أنغام الكمان الوُسطى بهدوئها». الأبيض والأسود يتَّفقان والوقفةَ الموسيقية، غير أنَّ الأول ليس سوى ختامٍ مؤقت لموضوعٍ ما، في حين أن الثاني هو «وقفةٌ نهائية، تعقبها بداية عالم جديد». إن الظلال الدافئة للأحمر الفاتح تذكرنا بلحنٍ للبوق Fanfare، أما البرتقالي الزاهي فيشبه «البوق، وربما يمكن مقارنته بضرباتِ الطبول المدوية». الأخضر يشبه ناقوسًا متوسطًا أو صوت ألطو قويًّا، بشريًّا ووتريًّا. البنفسجي يشبه آلة الكور آنجليه Cor anglais (ألطو أوبوا)، ناي، وفي درجاته الداكنة يشبه الفاجوت.
كان كاندينسكي ينبِّه على أنه يعطي مجرد رسم تخطيطي تقليدي وتقريبي لدلالة اللون. ففي سياق عملية إنتاج العمل الفني (كان كاندينسكي هنا يقصد التكوينات الفنية التجريدية التي كان يرسمها) تدوي الموسيقى الأكثر تعقيدًا من لوحة الفنان في قرارةِ نفسه. يكمن جوهر هذا المفهوم Concept في أنَّ «اللون هو وسيلة التأثير المباشر في النفس. واللون هو المفتاح، والعين هي الشاكوش. والنفس هي بيانو متعدِّد الأوتار. والفنان هو اليد التي تأخذ النفس الإنسانية، من خلال هذا المفتاح أو غيره، إلى الاهتزاز المناسب.»٨
هذا المفهوم «للشكل في اللوحة» يجعل منه «عنصرًا جوهريًّا» أيضًا في التكوين المسرحي، وهو التجسيد العملي الذي اقترح كاندينسكي تنفيذه على خشبة المسرح الفني في ميونيخ عند إخراج مسرحية «الصوت الأصفر». وقد نشر سيناريو هذه المسرحية في العدد نفسه من مجلة «الفارس الأزرق» التي نشر بها مقال كاندينسكي الذي جاء بمثابة تفسير عملي لتأملاته النظرية. وكان كاندينسكي قد كتب النسخة الأولى لسيناريو هذه المسرحية، إلى جانب سيناريوهَين لتكوينَين مسرحيَّين آخرَين في عامَي ۱۹۰۸م، و١٩٠٩م. وقد حملتْ تلك النسخ أسماء: «العمالقة»، «الأصوات»، و«أسود وأبيض». وقد شدَّد كاندينسكي في أسماء النسخ التالية على المكونات الأساسية فيها، وهي اللون والصوت، فجاءت على النحو التالي: «الصوت الأصفر»، و«الصوت الأخضر». كانت هذه النسخ مشروعات كشفَت عن السعي إلى استخدام المبادئ البنائية الأساسية لمسرح الفنان. واليوم عندما نقرأ سيناريو «الصوت الأصفر» يمكننا أن نجد فيه خُططًا تمهيديةً أصبح كثيرٌ منها وسائلَ تعبيريةً استخدمها كلٌّ من ويلسون وفراير في أعمالهما التي قدَّماها لمسرح الفنان الخاص بهما. والحديث هنا يدور حول خَلقِ حالات ضوئية-لونية في الفضاء المسرحي من ناحية، وعن حركة الشخصيات التي تبني في هذا الفضاء تكوينات وفقًا لقوانين الرسم التجريدي من ناحية أخرى، ثم — من ناحية ثالثة — عن إعداد السمع الصوتي (الموسيقى) الذي يشكِّل هذه التكوينات. على هذا النحو، كان مشروع كاندينسكي (في صورته الروسية التي نشرها ف. تورتشين للمرة الأولى).٩

يصِف كاندينسكي رؤيته لكيفية بداية المسرحية بقوله: «ينبغي أن تبدأ المسرحية «بافتتاحية» ضوئية-لونية. تأخذ في الاتساع (بعد عدَّة «ألحانٍ غير محدَّدة» للأوركسترا) في الفراغ المطلق.» «وبعدَ بُرهة يشتعل في المنتصف ضوءٌ أخضر، مثل نجمة، يأخذ ضوءُها في الاشتداد كلما ازداد اللون الأزرق دُكنةً»، وبعد برهةٍ زمنية فقط (يعطيها الفنان للمشاهدين لكي يتمكنوا من معايشة هذا الانطباع البصري الخالص) ينبغي أن تشرع أصوات الجوقة غير المرئية في العمل (على نحوٍ رتيب منتظِم ورصين تتخلَّله وقفات) بحيث يعكس صوتها المشهد اللوني الصوتي الموجود في الفضاء الخالي. ومع الكلمات الأخيرة للجوقة يختفي المشهد: «تنطفئ النجمة، وعلى الفور يسُود الظلام خشبةَ المسرح.»

يبدأ المشهد الأول ﺑ «افتتاحيةٍ» بصرية. ووفقًا لفكرة العمل، يظهر الفضاء المبني بروح الاعتدال Minimalism أمام المشاهِدين (إذا ما استخدمنا هذا الاصطلاح المعاصر والمناسب هنا، لأنه بالنسبة إلى هذا الاتجاه في السينوجرافيا في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن مشروع «الصوت الأخضر» يمكن تصوره باعتباره العمل الرائد في هذا المجال). وفي الخلفية ستارةٌ زرقاء داكنة ناعمة ومعتِمة، عليها رسمٌ «لتلٍّ أخضر، له قمَّةٌ عريضة، عليها بضع زهرات بسيطة». هنا تُعزف الموسيقى، وبقدرِ تغيُّر المقامات من الأصوات العالية إلى الأصوات المنخفضة بشكلٍ حادٍّ؛ يدوي صوت الجوقة غير المرئية، «وكأنها جوقةٌ آلية تؤدي لحنًا بلا كلمات أو مشاعر». إن الحالة اللونية الضوئية للفراغ آخذةٌ في التغير؛ فاللون الأزرق للخلفية يتحوَّل إلى الأسوَد حتى يصل إلى الظلام التام. فقط عندما تنتهي «الافتتاحية» البصرية، ويصبح من الضروري أن تتحرك الشخصيات المسرحية — خمسة عمالقة لونهم أصفر ساطع (من الشمال إلى اليمين، دون أن تصدر عنهم أيُّ أصواتٍ البتة). ويضع الفنان تصوُّره عن انسجام الوقفات والإيماءات والحركات، وكأنها تكويناتٌ جرافيكية حيَّة. العمالقة («تارة بأكتافٍ مرفوعة، وتارة بأكتاف منخفضة»، وبوجوهٍ صفراء) يديرون رءوسهم ببطءٍ شديد، كلٌّ تجاه الآخَر، وكذلك إلى الأجناب وكأنهم يصدرون صوتًا حزينًا واهنًا أو غير قادر، مؤدِّين حركاتٍ بسيطةً بأيديهم (تارةً يفتحونها، وتارةً يضمُّونها ناظرين إلى أكفِّهم كأنهم يدفعون بها شيئًا ما عن أنفُسهم … إلخ) وفي أثناء حركتهم البطيئة باتجاه أضواء المسرح الأمامية، يختفي العمالقة في غيومِ المسرح الملبَّد بالضباب، الذي يتحوَّل إلى اللون «الأزرق الشفَّاف» على أصواتِ الجوقة غير المرئية والأوركسترا. وتحلِّق «كائناتٌ حمراء تُشبه طيورًا ذات وجوهٍ تشبه وجوه البشر».

ومع بداية المشهد الثاني يعقُب العرض البصري مقطعٌ موسيقي صاخب مرتفع وعاصف (يدوِّي هذا المقطع على خلفية التل المُزهر وقد غمره الضوء البنفسجي). تنقطع الموسيقى ويجري العرض في صمتٍ مطبق. ويكتسب التل «لونًا أخضر معتِمًا عكرًا». وعلى قمة التل تنمو زهرة كبيرة لها عود رقيق تشبه زهرة عباد الشمس الشديدةَ الصُّفرة في منتصفها تحيطها أوراق الزهر القانية الحُمرة، وقد انتفشَت الورقة الوحيدة الشوكية إلى جانب. وعلى امتداد فترةٍ زمنية ما، تتأرجح الزهرة والورقة الشوكية ببطء في الصمت المطبق. تدخل موسيقى الافتتاحية، وعندما تأخذ الزهرة في التمايل، «تدوي نغمة سي الحادة؛ وعندما تهتزُّ الورقة، تدوي نغمة «لا» الرقيقة»؛ وفي اللحظة التي تمتزج فيها النغمتان تتمايل الزهرة وتهتز الورقة معًا.

بعد أن يعزف كاندينسكي هذا العرض البصري، فإنه يواصل الأداء بأن يدفع إلى التكوين المسرحي مكوناتٍ رمزيةً عبارة عن مجموعةٍ من الناس يرتدون ملابسَ فضفاضةً ذات قلنسوة ولها ألوان حمراء وزرقاء زاهية، يمسكون زهورًا كبيرة تشبه تلك الزهرة التي كانت «تعزف منفرِدة» على قمة التل، ولكنها بيضاء اللون. يتجمع أصحاب الملابس الحمراء والزرقاء مكوِّنِين مجموعةً متراصَّة ويشرعون في إلقاء الكلام الملحَّن Recitative — في البداية بشكلٍ جماعي، ثم بعد ذلك يكرِّرون فُرادى أو في الفراغ: «ألطو، باص، سوبرانو». وبعد أن تظهر مجموعةٌ أخرى («شخصيات صغيرة مبهَمة تشبه مياهًا عكِرة ضاربة إلى اللونَين الأخضر والرمادي»)، تأخذ الزهرة التي على التل في الخفقان على نحوٍ عاصف ثم تختفي. أما الزهور البيضاء التي يمسك بها في أيديهم أصحابُ الملابس الفضفاضة الحمراء والزرقاء؛ فإنها تتحوَّل في غمضةِ عين إلى اللون الأصفر. وعندما تنتقل المجموعة ببطء إلى عمق المسرح لتتوقف هناك بلا حركة؛ تنزف الأزهار دمًا؛ فيلقونها من أيديهم على الأرض، ثم يهربون في فزعٍ نحوَ أضواء المسرح الأمامية.

لقد بنى كاندينسكي المشهدَين الأخيرين باعتبارهما تكوينَين مجازيَّين يأخذ كلٌّ منهما مكانَ الآخَر. في البداية يجب أن يكون المشاهِدون قد رأوا العمالقة في خلفية المسرح. هؤلاء كانوا يهمسون دون صوت، وأحيانًا يؤدُّون «حركاتٍ واهنةً جدًّا بأيديهم»، وأحيانًا أخرى يمدُّونها إلى الأمام، مسقطين إياها دون إرادة، أو «يفتحون أذرعتهم على الجانبين بجنون بالغ».

بعد أن يستعيد العمالقة خُطة حركات الأيدي؛ تتجمد حركتهم لتظهر في مقدمة المسرح مجموعةُ شخصياتٍ أشبه بتماثيل عَرْض الملابس Lay Figures يشبه بعضُها بعضًا في افتقادهم لملامحَ محددة، يضعون على رءوسهم باروكات خاليةً من الشَّعر، ويرتدون أقنعةً بيضاء لها الملامح نفسها، وسراويلهم موحَّدة (تختلف ألوانها بين الرمادي والأسود والأبيض والمُبرقَش). يتحرك الجميع ببطء وفقًا لخطة كاندينسكي «كأنهم يحلُمون» ثم ينتشرون على خشبة المسرح في تكويناتٍ متنوعة: بعضهم يتَّخذ وضعَ الجلوس، وبعضهم يقف في جماعةٍ متراصَّة أو متباعِدة بعضها عن بعض «ينظرون في اتجاهاتٍ مختلفة، إلى أعلى وإلى أسفل»، «كالذي أصابه الغم من جرَّاء الكسل والفتور». وفي لحظةٍ ما تقوم إحدى الشخصيات بلفْتِ الانتباه العام «بحركاتٍ سريعة تؤديها تارةً بيدَيها وتارةً بقدمَيها»، ثم يأتي بعد ذلك أحد الممثلين «ليجلس فجأةً ليمدَّ يدًا كما لو كان يستعدُّ على نحوٍ مهيب ليشرع في ليِّها ببطءٍ ناحيةَ مرفقه، ثم يقرِّبها من رأسه … ثم يضمُّ مرفقه إلى ركبته، ثم يسند رأسه بذراعه المنبسطة». تنطلق أصواتٌ موسيقية متفرِّقة (هنا يمكننا أن نرى مبادرةَ كاندينسكي نحو استخدام مبادئ الحد الأدنى، ولكنه في هذه المرة يستخدمها استخدامًا موسيقيًّا). ينهض أصحاب السراويل «ببطء ومهابة أو بسرعةٍ واحدة»، ثم ينظرون «تارةً إلى أعلى، وتارةً بميلٍ، وتارةً إلى الأجناب وهَلُمَّ جَرًّا»، ثم يعودون إلى السكون التام مرةً أخرى.

في عمق المسرح «يمرق ضوءٌ أحمر، وتهتزُّ ألوانٌ متعددة» فوق الصخور وعلى نحوٍ مضطرب عاصف، «مسلَّطةً على العمالقة». تتحرك الشخصيات في مجموعات، تتجمع معًا ثم تتفرق وتختفي خلف الكواليس لتظهر مرةً أخرى. «أصحاب السراويل السوداء والبيضاء والرمادية يختفون. لا يبقى سوى أصحاب السراويل المبرقَشة. يبدأ الرقص في نقاطٍ متعددة، ثم يزداد وضوحًا كما لو كان يتدفق في أنحاء المكان. هنا وهناك يمكن أن نرى أنَّ الراقصين يتحركون مقترِبين بعضهم من بعض أو مبتعِدين بعضهم عن بعض، يهرعون، يتقافزون ويسقطون على الأرض. بعضهم يحرك أرجله فقط بقوة، وبعضهم الآخَر يحرِّك يدَيه فقط، والآخرون يحركون إمَّا رءوسهم فقط وإمَّا أجسامهم. البعض يمزج كلَّ هذه الحركات معًا. أحيانًا تصبح الحركة جماعيةً، ومن ثَم يؤدي الجميع الحركة نفسها. وينتهي الأمر بأن تجتاح الجميعَ حركاتٌ عاصفة من كلِّ نوع، وتصِل الموسيقى إلى ذروة الصخب». وفجأةً يسُود الصمت، ويغيب المكان في الظَّلام.

المشهد الرابع والأخير أعِدَّ باعتباره يعرِض حركةَ انتقال العملاق ذي اللون الأصفر الفاتح إلى الخلفية الزرقاء المعتِمة. وكان ينهض رافعًا يدَيه إلى الأجناب وأكفَّه إلى أسفل ليحتلَّ مكانه، ثم يثبت على وضع الصَّلب.

لم تتحقق إمكانية إخراج مسرحية «الصوت الأصفر» (وفقًا للسيناريو الذي نُشر عام ١٩۱۲م، إصدار المناخ Almanac «الفارس الأزرق»، وبمشاركة الموسيقار ف. جارتمان الذي تسلَّم من كاندينسكي «توزيعًا دقيقًا بالدقيقة والثانية»، «للحركة الموسيقية» للتكوين الذي وضعه)١٠ بسبب نشوب أحداث الحرب العالمية الأولى. أما فكرة «التكوين المسرحي» فلَمْ تتحقق إلا بعد مرور ستة عشر عامًا في باليه «صور من المعرض» للموسيقار م. موسورجسكي الذي وضع كاندينسكي الرؤيةَ البصرية له.

(١) «الانتصار على الشمس» لكازيمير ماليفيتش

عندما كان كازيمير ماليفيتش يضع هذه المسرحية الأولى من نوعها في القرن العشرين، من ناحية شكلها الجديد بالنسبة إلى الإبداع المسرحي، لم يخطر بباله أن يكون الأمر على هذا النحو (خلافًا لكاندينسكي)؛ فالذي فَعَله أنه — ببساطة — صمَّم الملابس واللَّوحات الجرافيكية لخلفية الأوبرا التي ألَّفها رفاقه في «اتحاد الشباب»: ف. خليبنيكوف (الذي وضع المقدمة Prologue)، أ. كروتشين (النص والحوار الأوبرالي Libretto)، وم. ماتيوشين (الموسيقى). لكنَّ الذي حدَثَ أنَّ التصميمات الأولية للملابس واللوحات (التي ظهرتْ أولًا كمشروع، إذْ إن تنفيذها في الواقع لم يكن موفقًا تمامًا، وقد ظهرت على المسرح مرتَين فقط يومي ٣ و٥ ديسمبر عام ۱۹۱۳م) هي التي حدَّدت — في الواقع — الأهمية الكبرى للرؤية البصرية لهذا العمل المسرحي، والتي جعلتْ منه أولَ عمل لمسرح الفنان في تاريخ فنِّ المسرح في القرن العشرين.
لقد عكست هذه التصميمات الأولية النزعات الأسلوبية لمختلف الاتجاهات التي مرَّ بها إبداع ماليفيتش عام ١٩١٠م: سواءٌ الولع بالفطرية الجديدة Neoprimitivism، أو تجارب التكعيبية المستقبلية. وكان هناك تصميمٌ يحتوي على فكرة «المربَّع الأسوَد»١١ المستقبلية، والتي مثَّلت الأساس للسوبرماتيزم البهي في النص.

لقد ترَكَ الولع بالفطرية الجديدة أثرَه في معالجة نماذج الشخصيات، وجعَلَ من الطبيعي والشرعي أن ماليفيتش بفضل تصميماته (دون أن يفكِّر هو خصوصًا في الأمر على هذا النحو) قد بعث على أيِّ حال — على أساس تكعيبي — المبدأ السينوجرافي للعروض الطقسية التي سبقت ظهور المسرح، والتي تعدُّ أحد المصادر الأصلية لمنشأ مسرح الفنان؛ لأن الملبس والقناع كانا يمتلكان في العروض الطقسية ما قبل المسرحية قدرًا كبيرًا من القدرة التعبيرية وقوة التأثير في المُشاهِدين، الأمر الذي يجعلهما يتحولان إلى شخصياتٍ تعبيرية تشكيلية مستقلة.

إنَّ الصورة الإنسانية الحقيقية للممثِّل، هيئته ووجهه، كانا يختفيان داخل الملابس وخلف القناع. بتعبيرٍ آخر، لم تكن الملابس في خدمة الممثل ولمساندة أدائه، بل على العكس، كان الممثل وهو يرتدي الملابس والقناع يتحرك بهما ومعهما، وكان يخضع للشخصية التصويرية التشكيلية.

لقد رسم ماليفيتش نماذج للشخصيات التعبيرية التشكيلية على هيئة تماثيل رسْم ترتدي أقنعة، في حين تشكِّل الملابس في مظهرها تكويناتٍ ذاتَ أشكالٍ هندسية مجسمة ومسطحة: مخروط، أسطوانة، مثلث، كرة، مربع.

عمالقة شبيهة بالروبوت، تم تجميعها من أشكالٍ مخروطية مختلفة المقاييس والاتساع: الخوذة مخروطية الشكل ذات واقٍ أمامي تغطي الرأس بكامله، ياقة كبيرة على الأكتاف، السُّترة قصيرة مخروطية الشكل، بنطلونات، أحذية، أكمام تنتهي بقبضات يدٍ كبيرة. هؤلاء هم الطيَّارون الأشدَّاء الذين يؤدُّون الشخصيات البطولية الرئيسية للأوبرا. في بداية المسرحية، يمزقون الستارة إلى نصفَين، ثم يدمِّرون كلَّ شيء ينتمي إلى العالم القديم. أما الشخصيات الأخرى فتقف في مواجهتهم. يرتدي العدو ملابس أشبه «بشجرةِ عيد الميلاد» مزيَّنة بكثيرٍ من الزهور: الصدر أصفر، الظَّهر أحمر، السراويل سوداء وحمراء وبنِّية، الأقدام حمراء مصفرَّة، القناع والقلنسوة لونهما أخضر. شخصٌ عِربيد يشبه جلَّادي العصور الوسطى: رأسه على هيئة كُرة بنفسجية على جسدٍ بنفسجي وأكمام وتنورة بنيَّتان وسروال أحمر. شخص ما يُدعى زلوناميرني،١٢ هو كائنٌ ماكر، لونه أخضر رمادي، يرتدي قفَّازات حمراء، ويمسك في يدَيه لعبةً على هيئة بندقية. بعد أن ينتصر الطيَّارون الأشدَّاء على أعدائهم يخطفون الشمس.
وتمرُّ أمام المشاهدين شخصيات أخرى أيضًا، لكنها تختلف اختلافًا شديدًا من ناحية الشكل واللون والمرونة. ستاروجيل١٣ يضع قناعًا، وله شاربٌ ولِحية مُفرِطا الطول، يرتدي في إحدى قدمَيه حذاءً أسودَ ذا رقبةٍ، وفي القدَم الأخرى سروالًا واسعًا لونه بنفسجي فاتِح. نيرون كاليجولا — شخصية مغطَّاة من القناع حتى الكعبَين بقطعٍ كبيرة وصغيرة تشكِّل رسومًا تكعيبية من ملابس «إغريقية». بوتيشيستفينيك١٤ جميع الأزمان — شخصية بيضاء سوداء مُركَّبة من مثلثاتٍ محكمة التركيب بعضها ببعض، ومجهَّزة للحركة الدائمة. بوخورونشيك١٥ شخصية على هيئة أسطوانة حمراء، يرتدي نظَّارة فوق القناع، له صدر مربَّع بني اللون ويدان على هيئة مثلثات حمراء قائمة الزوايا.
في الفصل الثاني، وبعد أن يتحقق الانتصار على الشمس، تظهر شخصيات من طرازٍ مختلف قليلًا. نوفيي،١٦ وهؤلاء يضعون أقنعة خضراء وقلنسوات رمادية ويجسدون الجماهير الغفيرة التي لا ملامح لها. وهؤلاء يجمعون في مظهر ملابسهم جميع أشكال الشخصيات السابقة وألوانها. تروسليفي:١٧ شخصية تختبئ داخل هيكلِ مِعطف أصفر مصنوع من مادةٍ صُلبة، وتحت قبعته السوداء الملتصقة مباشرة بياقاتٍ مرتفعة لا تظهر أي رأس أو وجه، وتتأرجح يداه وكأنهما مُركَّبتان على مفصلات، أما سرواله وحذاؤه فمن لونَين مختلفَين ويتحركان على نحو تلقائي. يظهر على المسرح فنيماتلني رابوتشي،١٨ وهو كائن أسود وأبيض يمسك بيدين سوداوَين مطرقةً وجاروفًا، يختفي رأسه وراء قناع أسود له فتحتان عند العينَين، والقدمان على هيئة «عوازل كهربية» حلزونية؛ باختصارٍ، هو شيء ما صناعي ميكانيكي. وأخيرًا تولستياك،١٩ وهو عبارة عن بطنٍ حمراء ضخمة، والرأس عبارة عن بالون أحمر من أدوات المسرح يطير فجأةً محلقًا في الهواء. وبالطريقة نفسها تظهر شخصيات أخرى باعتبارها الأقنعة-النماذج التي تأتي تعميمًا لكلِّ الشخصيات: خوريست،٢٠ منوجيي إي أدين٢١ سبورتسمان.
وإذا كانت الشخصيات المعبَّر عنها من خلال الملابس-الأقنعة قد ارتبطتْ بأعمال التصوير المنتسبة إلى الفطرية الجديدة التي رسمها ماليفيتش في تلك الفترة، وهي الأعمال التي تذكِّرنا بتقاليد ديكورات العروض القديمة والعروض الفولكلورية؛ فإن التكوينات الجرافيكية الموضوعة في عمق المسرح باعتبارها خلفيات مسرحية تفرض إيقاعها على العرض كلِّه، ليس لها مثيل في تاريخ المسرح بأسْره. فكل تكوين من هذه التكوينات يعبِّر عن جوهر شكلِ المشهد عن طريق البناء الإيقاعي للأشكال التجريدية الممزوجة بعلامات من الواقع (النُّوت الموسيقية، الساعات، قضبان النوافذ، السلالم، العجلات، قرص الشمس … إلى آخره). وقد أشار م. ج. إتكيند — أول باحث سوفيتي ينظِّر لمسرح المستقبليين — إلى أن الفنان، وهو يوازن بين التكوينات التي يضعها، «ينقل التعقيد التدريجي لبنية العمل الفني، مضخِّمًا من جوِّ الرعب والقلق، منشِّطًا للحركة التشكيلية فيه». إن الطريق من الصرامة الهندسية والإيجاز عند وضع التصميمات الأولية إلى الدينامية والتعقيد في المكان، هو نفسه الطريق الذي قطَعَه ماليفيتش الفنان «من الأعمال التكعيبية المبكِّرة إلى التكعيبية المستقبلية».٢٢ وعلى هذا النحو، وبدخوله في عملية تطوير موتيفات هذه التكوينات المسرحية، جسَّد ماليفيتش في النهاية الفكرة الرئيسية للمسرحية، وهي هدم العالم القديم وانهياره. هنا كان من الضروري أن تصبح الذروة هي استخدام ستارةٍ مرسومٍ عليها مربَّع أسوَد من التكوينات التكعيبية والتكعيبية المستقبلية.
أما الستارة (مثلها مثل التصميمَين الأولين: شخص قوي البنية مرسوم على نحوٍ تكعيبي يمسك في يدَيه بالسلاح-المعجزة، الذي يصيب عند استخدامه بصدمةٍ كهربية، ووحش على هيئة منشور ناقص يبتلع الشمس) فلم تنفَّذ في المسرحية؛ بسبب عدم الرضا التامِّ عنهما من جانب ماليفيتش. وبعد مرور عامَين يطلب م. ماتيوشين من ماليفيتش أن يقدِّم إليه تصميمات لاستخدامها كرسومٍ توضيحية للطبعة المفترضة لليبيرتو الأوبرا، والتي ستظهر في كتابٍ منفصل، هنا أصرَّ الفنان على نَشْر تصميم هذه الستارة في مربَّع أسوَد تحديدًا وقبل كل شيء. وقد كتب ماليفيتش إلى ماتيوشين بعد ذلك في معرض ذكره للأسباب التي دفعتْه إلى عدم تجسيد الستارة في المسرحية قائلًا: «لقد بدا لك أنَّ الستارة أقلُّ أهميةً؛ لأنك رأيت أن تفكُّك المربَّع الأسود قد يجعلك تعتقد هذا الشعور الذي كان من الممكن أن يأخذك إلى فكرةٍ جديدة.» وقد تعرَّض الفنان لشرح جوهر هذه الفكرة قبل ذلك بقليل في خطابه عندما كتَبَ قائلًا: «الستارة تجسِّد المربع الأسود الذي هو مصدر كلِّ الإمكانات، والذي يكتسب في سياق تطوُّره قوةً ضخمة. فهو أصل المكعب والكرة، وتفكُّكه سوف يخلق ثقافةً مدهشة في فنِّ التصوير. وهكذا، فإنه في الأوبرا يدلُّ على بداية الانتصار.»٢٣
كُتِبتْ هذه السطور في مايو عام ١٩١٥م، أي قُبيل افتتاح المعرض التكعيبي الذي أُقيم في بتروجراد٢٤ بستة أشهر، وقد عُرض فيه وللمرة الأولى «المربَّع الأسوَد» الشهير باعتباره عملًا فنيًّا. وهكذا اعتبر الفنان نفسه أن الستارة في مسرحية «الانتصار على الشمس» جاءت بمثابة مبادرة منه. وهو ما يعني أن فكرة السوبرماتيزم قد ظهرتْ للمرة الأولى في خيال ماليفيتش باعتبارها ذروةَ الحدث التشكيلي. وعلى هذا، فقد كان من المفترَض أن يكون المربَّع الأسود هو الشكل المركزي في هذه المسرحية التي أعلنتْ ميلاد مسرح الفنان.
لقد تجلَّت عناصر مسرح الفنان في المسرحية الثانية أيضًا، والتي قدَّمتها جماعة «اتحاد الشباب» (والتي جاء عَرْضها في أعقاب عرضِ «الانتصار على الشمس») يومَي الثاني والرابع من ديسمبر عام ١٩١٣م في تراجيديا «فلاديمير ماياكوفسكي».٢٥ وقد شارك فيها شخصياتٌ رسَمَها ب. فيلونوف على ورقٍ مقوًّى، ثم قطعتْ وعُرضت في الجزء الخلفي من المسرح. وخلف هذا الورق المقوَّى يقف الممثلون، حيث يقوم كلٌّ منهم عند إلقاء النص بالتزحزح جانبًا من خلف الرسم الممثِّل للشخصية التي يؤديها. إن الشخصية الجروتسكية التعبيرية للأشكال التي رسمها فيلونوف (والتي تشبه في مظهرها اللوحات التي كان يعرضها فيلونوف في تلك الفترة) كانت تتوافق تمامًا مع فكرة ماياكوفسكي في: «الشخص ذو الوجه الممطوط»، «رجل بلا أذن»، «رجل بلا رأس»، «الرجل صاحب القبلتَين على وجهه»، «العجوز ذو الألف عام وقِططه السوداء العجفاء». ومن بين الشخصيات التي رسمها كانت هناك «يفو زناكومايا»،٢٦ وقد صوَّرها على هيئة دُمية طولها ثلاثة أمتار، لها وجه أحمر، وترتدي ملابس رثَّة. ولكنه لم يخرج في باقي المسرحية عن قواعد الإبداع الفني أو حدود جماليات المسرح العادي. وقد شكَّل النص الإبداعي الأدبي لماياكوفسكي أساسَ العرض المسرحي، وكان البطل الرئيسي هو الشاعر نفسه بهيئته اليومية المعتادة في تلك السنوات (بلوفر أصفر، تلفيعة، عصًا، قبَّعة، سيجارة في الفم)، وقد وضع إ. شكولنيك تصميمَ ديكوراتِ الخلفية، ومع أنها لم تزِدْ على كونها لوحاتٍ توضيحيةً؛ فإنها كانت ذاتَ نزعةٍ تعبيرية؛ وفي الوقت نفسه، جاءت أماكن الأحداث محدَّدة تمامًا: مدينة عصرية، «مرحة» في الفصل الأول و«كئيبة» في الثاني.

(٢) تماثيل إل. ليسيتسكي

وكما حدث في العَقد الأول من القرن العشرين، جاء المشروع الذي قام على نَص أوبرا «الانتصار على الشمس» ليدشِّن في عام ١٩٢٠م مسيرة البحث عن مسرح الفنان. أما المؤلف فكان إل. ليسيتسكي، المعاصِر الأصغر لماليفيتش. ولم ينفِّذ ليسيتسكي مشروعَه على خشبة المسرح، بل عبْر سلسلة من اللوحات التخطيطية يضمُّها ملفٌّ واحد. أصدر منها ٧٥ نسخةً فقط في هانوفر عام ۱۹۲۳م تحت اسم «صور تشكيلية للعرض الميكانيكي الكهربي «الانتصار على الشمس»». وكان ليسيتسكي قد رسَمَ هذه اللوحات إبَّان إقامته في فيتيبسك٢٧ حيث عمل منذ عام ۱۹۱۰م حتى ۱۹۲۰م بالتدريس هو وماليفيتش في المدرسة الفنية الشعبية. وكان مديرًا لورَش العمارة والجرافيك وفن إخراج الكتاب بها. وكان المغزى الرئيسي لنشاط ليسيتسكي وماليفيتش وتلاميذهما من أعضاء جماعة «أونوفيس»، «أنصار الفن الجديد» في فيتيبسك، يتمثَّل في تطوير مبادئ السوبرماتيزم ونشْرها خارجَ حدود لوحات الحوامل Easel، أيْ في الفضاء الواقعي، مجسمًا، وتحقيقها في عالم الأشياء الملموسة، وفي العمارة. وقد مثَّلت خشبة المسرح بالنسبة إلى السوبرماتيزم واحدةً من إمكانات حلِّ هذه المهمَّة؛ فإذا ما قيَّمنا هذه العملية من وجهة نظر تطوير الإبداع المسرحي في الثلث الأول من القرن العشرين، فسنجد أن اتجاهات تحقيق الكتلة في الفراغ، وفقًا لمبادئ السوبرماتيزم، قد أدَّت هنا أيضًا إلى خَلْق شكلٍ آخر يضاف إلى أشكال مسرح الفنان.

ويتميز هذا الشكل عن الشكل الذي اقترحه ماليفيتش في عام ١٩١٣م، وعلى نحوٍ واضح، في أنه في الوقت نفسه الذي عمل فيه ليسيتسكي على مشروع العرض الميكانيكي الكهربي؛ عرضَت جماعة «أونوفيس» (أنصار الفن الجديد) في ٦ فبراير ١٩٢٠م على المشاهدين النسخةَ البطرسبورجية من هذه الأوبرا. وتحت إشراف ماليفيتش، قامت ف. يرمولايفا بتصميم الملابس ورسوم الخلفيات (مع شيءٍ من التعديل والإضافة).

وفي هذه المرة عُرضَت الستارة أيضًا على هيئة المربَّع الأسوَد، والتي — كما نتذكر — لم تدخل في المسرحية عندما عُرضَت عام ۱۹۱۳م، والتي اعتبرها ماليفيتش سبقًا جاءت به السوبرماتيزم. أما الآن، وبعد أن أصبحت السوبرماتيزم بحواملها أمرًا واقعًا؛ فضلًا عن أنها راحت تستعد للتوسع في اتجاه مجالاتٍ أخرى في الإبداع الفني، فإن قيام مثل هذا الحل التشكيلي لمَا نسميه ما قبل السوبرماتيزم على مدى سبع سنوات، كان من الممكن أنْ يكون ذا أهميةٍ فقط باعتباره تكرارًا لمَا سبق أنْ قدَّمه ماليفيتش ومساعدوه.

لم يكن من قَبيل المصادفة أنه في الليلة نفسها التي عُرضت فيها مسرحية «الانتصار على الشمس» لماليفيتش، عُرض في السادس من شهر فبراير ۱۹۲۰م باليه قامَت على تصميمه ن. كوجان، التي لم تستند في عملها إلى مبادئ التكعيبية والمستقبلية (كما فعَلَ ك. ماليفيتش في عام ١٩١٣م)؛ وإنما اعتمدت كليةً على مبادئ السوبرماتيزم. وقد رأت الفنانة في خطتها أنَّ المسرحية ينبغي أن تقدِّم تطورًا ديناميًّا في فضاء المسرح لأشكالٍ هندسية ملونة: مربع أسود، مربع أحمر ودائرة. وحين يحرِّك المؤدُّون هذه الأشكالَ على خشبة المسرح («وهُمْ يرتدون ملابس صمِّمت أيضًا على هيئة أشكال سوبرماتيزمية»)،٢٨ كانت هذه الأشكال تعطي تكويناتٍ متنوعةً: صليبًا، نجمًا، قوسًا. لكنَّ الأساس في كل هذه التكوينات هو المربَّع. كتبَت ن. كوجان في السيناريو تقول: «وحتى نؤكِّد تفوُّق المربع؛ نحيطه برسومٍ تخطيطية لميزانسين «سوبرماتيزمي»، فنُسقط الدائرة الموضوعة في المنتصف. ثم يبدأ المربع الأحمر أولًا في التحرك. بعد ذلك، تقترب الدائرة من المربع الأسود، ثم تسقط، وينتهي المشهد بالمربَّع الأسود السوبرماتيزمي.»٢٩ كانت هذه هي المحاولة الأولى لبعث بنية فن التصوير السوبرماتيزمي ودفعه نحو الحركة بواسطة نقل أشكال لوحات الحوامل Easel المرسومة على مسطح من القماش، إلى شكل العرض المسرحي الذي يأخذ في النمو في المكان والزمان.
لكن ما جرى في الواقع، اختلف قليلًا عمَّا كان مقرَّرًا من قبل. فالفنانة لم تكن تمتلك قَط خبرةَ العمل المسرحي، فضلًا عن أنها نفَّذت فكرتها في ظروف مسرح الهواة التعليمي، فلمْ تنجح في حل المشكلات التقنية، وبدلًا من أنْ «تقدِّم نظامًا لتطور حركة الأشكال»؛٣٠ اضطرَّت إلى الاكتفاء بتقديم عرضٍ ساكن لهذه الأشكال تعوزه الحركة Static من خلال تشكيلاتٍ سوبرماتيزمية مختلفة في المكان.

وعلى نحو أكثر حسمًا أشارت لوحات إل. ليسيتسكي إلى المسافة التي قطعها الفن بدءًا من التجارب التي أُجريَت عام ١٩١٣م حتى محاولات البحث التي جرَت عام ١٩٢٠م؛ إذْ إنَّ ليسيتسكي تحديدًا قام — وعلى نحوٍ أكثر منطقية، إبَّان وجوده في مدينة فيتيبسك — بالعمل على فكرة وجود الكتلة داخل الفراغ بالنسبة إلى الأشكال والأسطح السوبرماتيزمية الهندسية الجديدة. وقد جسَّد هذه الفكرة في «مشروعات تأكيد الجديد»؛ ومن ثَم أصبحت الرسوم التخطيطية ﻟ «الانتصار على الشمس» جزءًا مباشرًا واستمرارًا لهذه الفكرة.

على أيِّ نحو تصوَّر ليسيتسكي «المرض الميكانيكي الكهربي» ﻟ «الانتصار على الشمس»؟

ينبغي ألَّا يُجرى العرض على خشبة مسرح عادية يجلس أمامها المشاهدون (كان ماليفيتش قد قدَّم نسخته من عرض «الانتصار على الشمس»، في كلٍّ من بطرسبورج وفيتيبسك، واضعًا في حسبانه خشبةَ المسرح العادية)؛ وإنما يجرى على خشبةٍ مكشوفة من جميع الجهات يحيط بها المشاهدون. على هذا النحو بعث ليسيتسكي تقاليد مسرح الميدان (وفي هذا السياق يكون قد سبَقَ لبضع سنوات الإنشائيين، الذين كانت فكرة الخروج من مبنى المسرح إلى خشبات الشوارع تشغل لديهم الأهميةَ الكبرى، وإن كانت قائمةً على عددٍ من المبادئ الأخرى التي تتعارض كثيرًا ومبادئ السوبرماتيزم). لقد تميَّزت خشبة مسرح الميدان عند ليسيتسكي جوهريًّا عن خشبات مسرح الشارع التقليدية. فإذا كانت خشبة مسرح الشارع مجرد مكان للتمثيل لا يتطلب جهدًا عقليًّا خاصًّا، فإن الخشبة — وفقًا لمشروع ليسيتسكي — تمثِّل أداة من أدوات العرض، كل عنصر عليها يمكن أن يتحرك وهو مجهَّز لتحولاتٍ مختلفة.

«إنَّ الأشياء كافة المشاركة في العرض تتفرَّق إلى أجزاء، تنزلق وتتدحرج، تصعد إلى خشبة المسرح وترتفع أعلاها.» هذا ما كتَبَه الفنان في شرحه الذي أرفقه بملفِّ لوحاته المطبوعة،٣١ والملحق بتصميماته الجرافيكية المتنوعة لتركيب المعدَّات المسرحية.
رسم ليسيتسكي تصميم هيكل البناء، بحيث يمكن رؤيته بصورةٍ كاملة من الجوانب كافة، ويتكون من شُرفاتٍ مسرحية دائرية Circles متصلةٍ بعضها ببعض، وذلك على هيئة عدَّة خشباتٍ مسرحية تتصاعد على نحوٍ حلزوني، لونها أزرق، «منظومة» بعضها بالآخَر على محورِ ارتكاز، تقطعها عارضةٌ مزخرَفة من الصُّلب يخرج منها سُلَّم. ويرتفع هذا البناء من الأرضية الخشبية إلى أعلى نقطة، ويرتكز على عارضة أفقية وضعَت فوقها كرةٌ صفراء تمثِّل «الشمس». ومن الأجناب شرفات — خشبات مسرحية دائرية تحيطها مثلثاتٌ غير متساوية الأضلاع ذات لون رمادي. على واحدةٍ منها لافتةٌ قائمةُ الزوايا كُتب عليها بكلماتٍ خليط من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية: «أفضل الأشياء ما بدأ على نحوٍ جيد، ثم لم ينتهِ قَط.»
إنَّ دينامية عناصر الإنشاءات القائمة في فضاء المسرح بأسلوب السوبرماتيزم، وكذلك حركة الشخصيات؛ ينبغي أن تُدار — وفقًا لفكرة ليسيتسكي — من قِبَل شخصٍ واحد هو الشخصية الرئيسية. ويشغل هذا الشخص مكانَه في وسط المسرح أمام لوحة التشغيل. ويتركز عمله في «قيادة»٣٢ كلٍّ من أشعة الضوء والمؤثِّرات الصوتية (والتي يضع ليسيتسكي من بينها تلك المؤثرات، مثل: ضجيج محطات السكك الحديدية، وهدير شلالات نياجارا، وأصوات الطَّرق في وحدة درفلة المعادن). وأخيرًا ينطلق نَص المسرحية كلُّه من الشخصية الرئيسية؛ فهو يسلط على الشاشة الإسقاطات الضوئية لهذه الجملة أو غيرها، ويتحدث بالكلمات التي صاغها ليسيتسكي لكلِّ شخصية من الشخصيات الرئيسية في مسرح الفنان (مغيِّرًا من نبرة صوته بمساعدة مكبِّر الصوت).
يُطلِق ليسيتسكي على هذه الشخصيات اسمَ «التماثيل الصغيرة» Figurines، وتمثِّل صورهم المادةَ الجرافيكية الأساسية للمشروع، وهي هنا عبارةٌ عن عَشْر لوحاتٍ مطبوعةٍ بالألوان. وتُقدَّم التماثيل في شكلَين؛ في شكل ملابس تشكيلية تعتمد في حركتها وحيويتها على المؤدِّين الذين يرتدونها، وفي شكلِ مجرَّد تماثيل نُفذَت باعتبارها تكويناتٍ مستقلةً (أي على نحوٍ مستقل عن المؤدين أنفسهم) من عناصر الكتلة والمسطح ذات الطابع السوبرماتيزمي، تتحرك (كليًّا أو جزئيًّا) بواسطة الشخصية الرئيسية وبمساعدة الميكانيكا.

ومن خلال شكل الملابس التشكيلية عولجتْ شخصيات: الرياضي، الحانوتي، ورحَّالة جميع الأزمان. وإذا كانت شخصيات ماليفيتش كافة في عام ١٩١٣م قد تمَّ تأويلها بطريقةٍ تكعيبية ووفقًا للفطرية الجديدة (وهو ما جرى التعبير عنه في حجم الأجزاء المكونة لها)؛ فإن الشكل التكعيبي للملابس — الدروع، مع أنه تمَّ الاحتفاظ به — فإنه اكتسب طابعًا مختلفًا. والآن نجد أنَّ هذا الشكل قد أخفى الشخصية تمامًا بداخله. فبدلًا من الرُّءوس (عند الرياضي على سبيل المثال) نجد أحجامًا هندسية: أهرامًا ثلاثية الأضلاع، قطاعًا مجسمًا من نصف كرة، أسطوانة.

وقد تعامَلَ الفنان مع الملابس التشكيلية باعتبارها سطوحًا صالحة للرسم السوبرماتيزمي (فالرياضيون يرتدون شرائطَ حمراء أفقية وصفراء رأسية ومربَّعات خضراء وزرقاء ودوائر سوداء، أمَّا الحانوتية فيرتدون ملابسَ على هيئةِ صُلبان سوداء وصفراء ورمادية وبنِّية أفقية ورأسية بأطوالٍ وعُروض مختلفة). أمَّا ثالثُ المجموعة فهو رحَّالة جميع الأزمان، وهو شيء ما انتقالي من الملبس التشكيلي إلى التمثال المستقل. فمن ناحية، جاء تصميمه لتكون نِسَبُه نسبَ إنسان، أما الجسد فهو يتَّخذ هيئته من تشكيلة من العناصر السوبرماتيزمية، يمكن بتركيبها خلْقُ تمثالِ الممثل، خاصةً أنَّ ليسيتسكي رسَمَ إحدى ركائزه على هيئة ساقٍ طبيعية جدًّا في حالة تأرجُح، بحيث تنقل وضع الحركة والاندفاع إلى الأمام. ومن ناحيةٍ أخرى، تغيب هذه الساق في عددٍ من التصميمات الأولية، باعتبارها العلامةَ الواقعية الوحيدة لوجود الممثِّل (الركيزة الثانية هي الدائرة السوداء)، في حين يعتمد التكوين السوبرماتيزمي على الدائرة السوداء فقط، والتي تدرك بوصفها تمثالًا قائمًا على نحوٍ منفصل ومستقل. وقد اكتسب هذا الشكل تعميمًا كبيرًا؛ والآن فقط، فإن دينامية الاندفاع في اتجاهٍ واحد إلى الأمام، وكذلك وجود منحوتةٍ «دائمة الحركة»، قد تحقَّقا، لا بفضل حركة الممثل، بقدر بنية التكوين نفسه.

لقد عبَّرت التكوينات السوبرماتيزمية لتماثيل ليسيتسكي عن الموتيفات المؤسسة لكل شخصية على انفراد.

وهكذا تم التعبير عن الانحناء والاستدارة والميل والانضغاط في شخصية «ستاروجيل» (الساكن القديم)، المصممة على هيئة مجسمٍ ناقص Ellipsoid وبخطوط متعددة الزوايا. وقد جاء التواري خلف الأسطح الهندسية السوداء والبيضاء التي تخفي الأشكال الأخرى الشبيهة بالبشر Anthropoid، بالإضافة إلى تفرطُح الأوجه — الأقنعة المعبِّرة عن الفزع من أجل التعبير الأقصى عن الرعب الشامل — عند شخصيات «تروسليفيي» (الجبناء). ويعتبر البوق الضخم المثبت على القناع البيضاوي لشخصية «تشيتيتس» (الراوي) علامةً على الإرسال الإذاعي ذي الصوت الجهوري. ويأتي تمثال «نوفي» (الجديد) المضاء بمربع أحمر ونجمة ذات معنًى رمزي ليمثِّل الطاقة الطائشة النزِقة. وأخيرًا تمثل شخصية «بوديتليا نسكي سيلاتش» (رجل المستقبل القوي) القدرة والقوة المجسدتَين في التكوين المصمَّم على أساس العمارة الحديثة: المكعب الضخم المتوَّج بنصف كرة «لاقطة للأصوات»، تمسك به ركائز لبناءٍ مزخرَف من المعادن الرقيقة.

(٣) مسرحية «زانجيزي» لفلاديمير تاتلين

«زانجيزي» عملٌ مسرحي من إخراج تاتلين، مأخوذٌ من دراما شِعرية للشاعر ف. خليبنيكوف، عُرضَت مرةً واحدة في الثلاثين من مايو عام ١٩٢٣م، في قاعة الاحتفالات بمتحف الثقافة الفنية في بتروجراد.

تتلخص مهمَّة التجربة عنده في السعي نحو الحصول على تجسيدٍ بصري للمبادئ البنيوية للإبداع الأدبي المشبع برُوحِ نظرية البنائية Constructivism، التي تشكَّلت أفكارُها وتدعمتْ آنذاك في روسيا. وقد أُشير في أفيش المسرحية إلى أنها «من إخراج البنائي ف. تاتلين، ويشارك فيها البشَر والآلات والفانوس السِّحري».
وفي المعالجة التي توصل إليها للصورة البصرية، انطلق الفنان من أنَّ «الصوت عند الشاعر خليبنيكوف هو أحد عناصر العمل»؛ فهو يحوي بداخله الباعثَ على ميلاد الكلمة … ومن أجل إظهار طبيعة هذه الأصوات «استعنتُ بأسطُحٍ متنوِّعة في مادتها وطريقة تشغيلها».٣٣

يدور الحديث هنا عن إنشاء بناءٍ مُركَّب من أسطُحٍ على شكل معيَّن منحرف، معدنية وخشبية، ناعمة وخشنة، مطليَّة بألوانٍ صارخة متناقضة: أصفر وأسود، وأزرق وأحمر، وذهبي وكحلي. الموتيفة الأساسية هي ضوءٌ ساقط من أعلى، كأنه قادِم من نقطةٍ واحدة، يقف عندها بطل المسرحية على قمَّةِ «صخرة» مخروطيةِ الشكل (كان تاتلين يقرأ دور البطل بنفسه) ومن هناك تصدح كلمات «أغاني لغة النجم».

وفي الأسفل، تتجمع الجوقة (التي تجمعَت من طلبة أكاديمية الفنون، ومعهد التعدين، والجامعة) عند سفح الصخرة-الضوء، مستمِعةً إلى البطل، ثم مردِّدة بصوتٍ عالٍ وراءَ زانجيزي الغناءَ، من أشعار خليبنيكوف، في أثناء هبوطها وقد أمسكَت بحبلٍ وأزهارٍ وَرَقيَّة، وقد أخَذَت في نطق الكلمات واللَّحن مشدِّدة على طابع الإيقاع للجُمل والأصوات الموسيقية. يُعرض النصُّ أيضًا بواسطة رسومٍ جرافيكية على لوحاتٍ خاصة، كانت تُستخدم لعرض حروف-أصوات متفرِّدة، ومعادلات حسابية جبرية صوتية. وبالنسبة إلى الموتيفة الهابطة من أعلى والمتمثِّلة في الإشعاعات الساقطة من السماء إلى الأرض (والتي عبِّر عنها بقوةٍ شديدة، وانعكسَت بصفةٍ خاصة في رسوم تاتلين المؤثِّرة والمبنيَّة على التضاد بين الضوء والظلام التي صمَّمها للمسرحية) فقَدْ جُسِّدت أيضًا بفضل السريان المتدفق بحِدَّة للضوء المسلَّط في المكان. وفيما بعد يشرح تاتلين استخدام هذه التقنية (المسرح التعبيري المكشوف) في وضع بنية إنشائية على نحوٍ منطقي للتركيب المسرحي قائلًا: «وحتى يمكن السيطرة على اهتمام المُشاهِد، فإنَّ عدسة الفانوس السحري تنزلق من مكانٍ إلى آخر، محدِثة نظامًا ونسقًا في التتابع.» ثم يُضيف: «إنَّ الفانوس السحري ضروري أيضًا لإظهار خصائص المادة.»٣٤
١  مجموعةٌ غير دورية من الدراسات الأدبية والتاريخية وغيرها. (المراجع)
٢  الوضعية: فلسفةُ أوجست كانط التي تُعنى بالظواهر والوقائع اليقينية فحسب، مهملةً كلَّ تفكيرٍ تجريدي في الأسباب المطلقة. (المترجم)
٣  ف. ف. كاندينسكي: عن البناء المسرحي. من تاريخ العلم السوفيتي عن المسرح، موسكو، ۱۹۸۸م، ص٩٥.
٤  المرجع السابق، ص٩٦.
٥  المرجع السابق، ص۹۷.
٦  الاستشهاد من ف. ف. كاندينسكي، كاتالوج المعرض، موسكو، ۱۹۸۹م، ص٥٤.
٧  ف. ف. كاندينسكي: عن الروحاني في الفن. ليننجراد، ۱۹۹۰م، ص٤٣–٤٩.
٨  المرجع السابق.
٩  فن الديكور، ۱۹۹۳م، ص٢٤–٢٦. وفي هذه المجلة نفسها نشر ف. تورتشين مقالًا عن عملية وضع هذا السيناريو: «الصوت الأصفر» هو مفهوم تصويري وضعه ف. ف. كاندينسكي. انظر في هذا الموضوع أيضًا المطبوعات التالية: ف. س. تورشين: المفهوم المسرحي عند كاندينسكي؛ ن. ب. أمتونوموفا: التكوينات المسرحية عند ف. ف. كاندينسكي، الطليعة الروسية ١٩١٠–۱۹۲۰م والمسرح، سان بطرسبورج، ۲۰۰۰م؛ مارتشيلا ليستا: ف. كاندينسكي وأ. شيونبرج أو فكرة Gesamtkunstwerk (مُركَّب العمل الفني الشامل) بين روسيا وألمانيا. الطليعة الروسية ۱٩١٠–۱۹۲۰م في السياق الأوروبي. موسكو، ۲۰۰۰. في هذا الكتاب تعرض م. ليستا على نحوٍ مقنِع أن الرغبة في «استبدال الدراما بالنصِّ الأدبي أمرٌ بصري بشكلٍ استثنائي» (ص۸۳)، بمعنى الحركة باتجاه مسرح الفنان، كانت أمرًا مميزًا ليس فقط لكاندينسكي الرسَّام، وإنما لشوينبرج الموسيقي، الذي حاوَلَ أن يضع حلًّا لهذه المسألة في كتابه «الدراما مع الموسيقى» Die Glückliche Hand (۱۹۱۰–۱۹۱۳م).
١٠  انظر: ف. س. تورتشين: مفهوم المسرح عند ف. ف. كاندينسكي … ص۸۱–٨٦.
١١  المربع الأسود: اعتبر ماليفيتش أنَّ لوحة «المربع الأسود» هي بداية عصرٍ جديد في الفن هو عصر السوبرماتيزم، وقد رُسمتْ هذه اللوحة في عام ١٩١٥م، وعُرضت آنذاك في «المعرض الأخير للَّوحات المستقبلية «٠، ١٠» (صفر، عشرة)» في بتروجراد. وقد استمرت المرحلة السوبرماتيزمية في حياة ماليفيتش حتى عام ١٩٢٧م. (المترجم)
١٢  زلوناميرني: تعني بالروسية سيِّئ النيَّة. (المترجم)
١٣  ستاروجيل: تعني بالروسية الساكن القديم. (المترجم)
١٤  بوتيشيستفينيك: تعني بالروسية رحَّالة. (المترجم)
١٥  بوخورونشيك: تعني بالروسية الحانوتي. (المترجم)
١٦  نوفيي: تعني بالروسية الجدد. (المترجم)
١٧  تروسليفي: تعني بالروسية الجبان. (المترجم)
١٨  خوريست: عضو الجوقة. (المترجم)
١٩  منوجيي إي أدين: الكثير والفرد. (المترجم)
٢٠  فنيماتلني رابوتشي: العامل الحريص. (المترجم)
٢١  تولستياك: السمين. (المترجم)
٢٢  م. ج. إتكيند: «اتحاد الشباب» وتجاربه السينوجرافية. فنانو المسرح السوفيت والسينما، ۷۹، موسكو، ۱۹۸۱م، ص٢٥٨. في هذه المقالة تم للمرة الأولى استخدام تعبير «مسرح الفنان» (ص٢٥٤)، ولكنْ بمعنًى آخر يختلف عن المعنى الذي ورد في أعمال مؤلف هذا الكتاب. إن مسألة مسرح الفنان باعتباره شكلًا خاصًّا من أشكال الإبداع المسرحي لم تكن قد طُرحت على يد م. ج إتكيند بعدُ.
٢٣  الاستشهاد من: ي. كوفتون، «الانتصار على الشمس». مطلع السوبرماتيزم. مجلة ناشي ناسليديه (تراثنا) ١٩٦٩م، العدد ٢، ص١٣٥.
٢٤  بتروجراد: اسم مدينة ليننجراد من عام ١٩١٤م حتى ١٩٢٤م، وكان اسمها قبل ذلك سان بطرسبورج، وهو اسمها الحالي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. (المترجم)
٢٥  فلاديمير ماياكوفسكي: شاعر روسي سوفيتي (۱۸۹۳–۱۹۳۰م). (المترجم)
٢٦  يفو زناكومايا: تعني بالروسية «صديقته». (المترجم)
٢٧  فيتيبسك: مدينة تقع شمال شرق جمهورية بيلاروس (روسيا البيضاء). (المترجم)
٢٨  أ. س. شاتسكيخ: عروض ومشروعات «المسرح الجديد». الطليعة الروسية ۱۹۱۰–۱۹۲۰م، والمسرح … ص١٣٦.
٢٩  ن. كوجان: الباليه السوبرماتيزمي، روسيا ۱۹۰۹–۱۹۳۰م/L’Arte della Scena. ميلانو، ص١٥٧.
٣٠  المرجع السابق.
٣١  الاستشهاد من كتاب: إل. ليسيتسكي. ١٨٩٠–١٩٤١م، متحف تريتياكوف الحكومي. موسكو، ۱۹۹۱م، ص۷۸.
٣٢  يستخدم المؤلف هنا كلمة «قيادة» بالمعنى الموسيقي. (المترجم)
٣٣  ف. تاتلين، عن «زانتيزي»، مجلة «جيزن إيسكوستقو» (حياة الفن)، ۱۹۲۳م، العدد ۱۸، ص١٥.
٣٤  المرجع السابق، ص١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥