الفصل الثاني

في ألمانيا

لوثر شراير
في الوقت الذي كان فيه إل. ليسيتسكي يعرض أعماله الفانتازية، كان شراير يقدِّم في ألمانيا نسخته من مسرح العرائس والملابس التشكيلية. وإذا كان ليسيتسكي قد الْتزم بالاتجاه السوبرماتيزمي؛ فقد راح الفنان الألماني يعتمد على جماليات المذهب التعبيري Expressionism، وكانت التماثيل ذات الوجه الواحد، والمضمون الفلسفي العام والمتَّسم بالغموض من ناحية، والجروتسكي الساخر من ناحيةٍ أخرى، تستحوذ على اهتمامه. وقد جرى تصوُّر المكان أيضًا، والذي كان من المفترض أن تؤدي فيه العرائس عروضَها، على نحوٍ تعبيري، باعتباره مكانًا فضائيًّا خاليًا تمامًا من أيِّ شيء يشير إلى الواقع، بما في ذلك أي عناصر تقنية أو ميكانيكية أو إنشائية أو غيرها من عناصر غريبة، فضلًا عن كونها مُعادية للفن والإنسان.١

وقد بدأ شراير بحوثه في هذا الاتجاه بدءًا من عام ١٩١٨م، عندما أسَّس في برلين هو وخ. فالدن، المحرِّر في مجلة «شتوورم» (الانقضاض) ذات النزعة التعبيرية، «مسرحَ الانقضاض»، ثم واصل عمله في هامبورج، حيث أسَّس «مسرح الهجوم»، وهنا أخرج مسرحيات «الإنسان»، «الصَّلب»، «موت طفل»؛ التي قام فيها وحده بعمل مؤلِّف المسرحية وكاتب السيناريو والمخرِج ومصمِّم الصورة التشكيلية البصرية، أي القائم بأعمال السينوجرافيا. بالإضافة إلى ذلك، فقد قام — باعتباره مخرجًا وسينوجرافيًّا — بإخراج مسرحيات الشاعر ذي النزعة التعبيرية والكاتب المسرحي أ. شترام، القريب منه في طموحه في التعبير من خلال المسرح عن قضايا الوجود الإنساني المشترك والجامع بلغة الرموز والمفاهيم العامة.

يعتبر مسرح العرائس المعروف باسم «الميلاد» هو المشروع التأليفي الأول الذي ينتمي إلى شراير بشكلٍ تام (التصميمات الأولية مؤرَّخة ١٩١٨-١٩١٩م). من المفترض أن تظهر العرائس أمام المشاهدين تباعًا على أنغام آلة الهارمونيكا الموسيقية الزجاجية، ثم تأخذ في الدوران حول «صليب الميلاد». يفتتح العرض «مَلَاك الميلاد». وخلْفَه يظهر أزواج: «رجل شهواني» و«امرأة شهوانية»، «رجل راقص» و«امرأة راقصة»، «رجل مثقف» و«امرأة مثقفة».

تشبه هذه العرائس المركَّبة من المسامير اللولبية والتروس والعجَل والأسلاك والأذرُع وغيرها من العناصر الميكانيكية «ساعة ميكانيكية» مفتوحة؛ وبفضل هذا، فإنَّ كلَّ عروسة من العرائس تعبِّر عن جوهرها تمامًا على نحوٍ ساخر، وتحديدًا الخصال الأنثوية والذكورية في ثلاث حالات تمثيلية مختلفة.

هكذا يبدو، على سبيل المثال، الزوجان «الشهوانيان».

المِرآة مصنوعة كلُّها من أخفِّ العناصر وزنًا، وهي عبارة عن مظلَّةٍ دائرية مفتوحة تمامًا مثل زهرةٍ ذات أوراق متعددة الألوان. تقوم بدلالٍ وإلحاح، بعد أن تميل في وضعٍ تمثيلي رائع، بإطلاق «سوائل» تبدو وكأنها تتطاير من التمثال على أطرافِ الأسلاك المرنة. أما رفيقها «الرجل الشهواني» فيبدي استجابة لدعوتها على نحوٍ جاد من خلال شكله كله ومفاصله. وعلى خلاف التمثال النسوي، فإن التمثال الرجالي يتميز بالسكون، وهو مكوَّن من أشكالٍ أكثر بساطة: مثلثات قائمة الزاوية، مربع، مثلث، الجزء الأسفل فقط من التمثال يتحرك بسهولة، بل بشكل عدواني، وذلك بفضل اللوالب والتروس.

وقد استُخدمت هذه العرائس بعد ذلك في مسرحية «الإنسان»؛ حيث تألفتْ مع الملابس التشكيلية والأقنعة الضخمة، وراحت تتحرك وفْقَ حركة المؤدين الذين يرتدونها. وقد عبَّرت مثل هذه الملابس والأقنعة التي اتخذت شكلًا تشكيليًّا نحتيًّا فوق ذلك أيضًا عن موتيفاتٍ تتجاوز المضمونَ الإنساني وتعبِّر عن نشأة الكون. إن القناع هنا يقدِّم نفسه باعتباره موديلًا رأسيًّا للكون. يذكِّرنا في هيئته بشخصيةٍ إنسانية، ولكنها مكوَّنة من مزيجٍ مركَّب بكثافة من دوائر وأنصاف دوائر وكُرات ومثلثات قائمة الزوايا؛ ويمثل الجزء الأعلى من التكوين شمسًا تبثُّ أشعتها، والأوسط عبارة عن مدار دائري به كواكب، والأسفل نصف كرةٍ أرضية وقوس تستند إليها هذه الكرة، وأسفل القوس، عند قاعدة هذا الموديل الكوني، تتجمع مثلثاتٌ قائمة الزاوية ومربعاتٌ ضئيلة الحجم متعدِّدة الألوان تمثِّل — على نحوٍ مجازي — كما يبدو، سكَّانَ الأرض.

ويعبِّر الزيُّ التشكيلي النحتي الذي يحمل اسمَ «الجنس البشري» عن الموضوع نفسه ولكنْ بنِسَب أخرى، وعلى صورة التمثال المجازي للممثل، الذي يرتدي بالكامل سروالًا أسود وقناعًا له خوذة تغطِّي رأسه. إن شخصية «الجنس البشري» باعتباره مركزًا للكون تتجسد بواسطة أسطوانات ودوائر وعجلات ومقاطع من كرات وأقواس، كلها ذات ألوان متعددة، وهي منتشرة على التمثال كله، وتدور في اتجاهاتٍ مختلفة: أفقيًّا (حول الساقَين، حول الصدر والرقبة)، ورأسيًّا (بين الساقَين وحول الخصر). وقد ثُبِّتتْ هالةٌ زاهية الألوان فوق خوذة الرأس. في الوقت نفسه، يمكننا أن نتصور هذا التمثال باعتباره «كائنًا من كوكبٍ آخر» (على النحو الذي جادت به قريحة الفنان وخياله)، وأيضًا باعتباره شخصيةً من شخصيات عرضٍ مسرحي من العروض القديمة الطقسية.

وفي العرضَين الآخَرين، اللَّذين أخرجهما شراير على «مسرح الهجوم» في هامبورج، وهما «الصَّلب» و«موت طفل»، نلاحظ وجود العرائس الجروتسكية مع الشخصيات ذات الملابس التشكيلية النحتية في آنٍ. وكلتاهما تجسِّد نماذج تعميمية لمضمونٍ رمزي. يشكل الممثلون، الذين يرتدون ملابس تشكيلية نحتية، صليبًا، وذلك عن طريق عمل تقاطع للخط الرأسي للمثلث القائم الزاوية للجسم (والذي يتصل برأسٍ على هيئة مثلث قائم الزاوية أيضًا) مع اليدين المفتوحتين أفقيًّا. لا تختلف التماثيل-الصلبان بعضها عن بعض إلا من ناحية العلامات الهندسية المرسومة على السطح الأسود للملابس. عند الأم نجد دائرةً بيضاء في منطقة البطن، وعند العشيقة نجد دائرتَين صغيرتَين على الصدر، وعند الرجل نجد صليبًا لاتينيًّا أبيض يبدأ من الصدر وينتهي عند أسفل نقطة مكررًا نفسَ تكوين شكل الصليب الذي للتمثال. ويظل الصليب هو الرسم المميز للملابس في المشاهد المسرحية الأخرى كافة. يظهر الموت نفسه في موضوع مسرحية «موت طفل» في صورة قناعِ موت أبيض اللون وثوبٍ أسود فضفاض (مرةً أخرى على هيئة صليب) وقد رُسمت عليه شرائط جنائزية ذات لونٍ بنفسجي «تتساقط» على الأرض مثل أكمامٍ واسعة تمثل مطرًا حزينًا، تطوِّق السطح الرأسي للثوب «بمداراتٍ فضائية» تنسدل حتى طرَف الثوب، حيث تضاء في الأسفل نصفُ كرةٍ حمراء ترمز إلى «الشمس الغاربة».

إذا كانت شخصيات مسرح الفنان عند شراير ذات طابع تعبيري، كما ذكرنا من قبل، وأنه قد جرى تصميمها باعتبارها شخصيات لعرضٍ مسرحي طقسي تعبدي، فإنها من ناحيةِ الشكل ووسائل التعبير قد بنيت من عناصر النحت التكعيبي والدينامية المستقبلية (النقل والإزاحة)، وكذلك من الكولاج التركيبي الذي يعود في أصوله إلى الدادية Dadaism.٢ وقد واصَلَ الفنان بحثه في هذا الاتجاه في فايمر أيضًا، حيث ترأَّس الورشة المسرحية للباوهاوس.

لقد كانت الفكرة الرئيسية التي حدَّدت طابع نشاط الباوهاوس، وهو المؤسَّسة التي جمعت بين الفن وفن الصناعة، والتي تأسَّست عام ١٩١٩م على يد المعماري جروبيوس، تتلخَّص في السعي نحو توحيد أشكال الإبداع وخلْق عملٍ فني موحَّد، عمل يقوم قبل كلِّ شيء على المعمار، أي البناء. وهو أيضًا عملٌ مسرحي يقدِّم عرضًا مسرحيًّا. وهكذا بعث مفهوم المُركَّب الذي أعلنه الرومانتيكيون الألمان منذ مائة عام مضتْ مرةً أخرى على يد الباوهاوس. على أنه إذا كانت الموسيقى والدراما عند الرومانتيكيين تمثلان الأساس للمُركَّب المسرحي (نذكر أن إبداع الفنان كان يمثِّل أساسَ المُركَّب في المسرح الأوبرالي في القرن الثامن عشر، ولكن على نحو مختلِف، وذلك انطلاقًا من مبادئ جمالية أخرى مختلفة تمامًا). وقد عبَّر الفن عن ذلك بلغةِ الطليعة التشكيلية في الربع الأول من القرن العشرين، بعد أن استوعب الاتجاهات الرئيسية لها (التكعيبية، المستقبلية، التكعيبية المستقبلية، السوبرماتيزمية، الدادية، الإنشائية). زدْ على ذلك أنَّ فنَّاني الباوهاوس، الذين مثَّلوا هذه الاتجاهات الطليعية المختلفة، هُم أنفُسُهم الذين ترأَّسوا وِرَش الإبداع التشكيلي في مختلف المجالات: أ. شليمر في النحت، ف. كاندنيسكي في الرسم الجداري، ل. موجولي-ناد في الطباعة والتصوير الفوتوغرافي والتصميم، وقد أسهم هؤلاء إسهامًا كبيرًا وجوهريًّا في البحوث التي قاموا بها في مجال المسرح أيضًا.

لقد حمل التوجه الجمالي للباوهاوس في أولى سنواتها طابعًا تغلب عليه النزعة التعبيرية. ومن ثَم فقد جاءت دعوة شراير ليقوم بإدارة الورشة المسرحية أمرًا منطقيًّا جدًّا. وكان شراير قد أخرج، قبل عامَين من عمله في الباوهاوس (۱۹۲۱–۱۹۲۳م)، مسرحيتَين، هما: «الميلاد» (۱۹۲۱م)، و«لعبة القمر» (۱۹۲۳م). كانت مسرحية «الميلاد» هي تحقيقًا لمشروعه التأليفي الأول الذي جرى إعداده في العامين ۱۹۱۸-١٩١٩م. وقد أخرج شراير «لعبة القمر»، وهي العمل الثاني له في الباوهاوس، متخيرًا الحلول نفسها التي استخدمها في الإخراج في مسرحيات هامبورج. وهكذا نجد أن شراير واصَلَ في الباوهاوس تأكيدَ الاتجاه التعبيري لمسرح الفنان.

بعد مرور رُبع قرن من تأسيس مسرح الفنان؛ قام شراير، وقد استوعب تجاربه الشخصية (إلى جانب تجارب شليمر)، بتحديد الوحدة الجامعة والفكرة الرئيسية لهذه التجارب: «كنا، أنا وأوسكار شليمر، الأوائل الذين عملوا، في فترة التعبيرية في ألمانيا، بوعيٍ ودأب من أجل التحرُّر الكامل وخلْق «السوبرماريونيت» (هذا ما أطلقه الآخرون، وليس نحن، على الشكل الذي توصَّلنا إليه للعرائس). ولقد فهمنا — شليمر وأنا — المغزى من وراء العمل الذي نقوم به بالقدر نفسه، وهو ما أدَّى بنا إلى أن نجمع بين ميكانيكية العرائس و(غموضها)، كما وصفها كلايست، وبين صورتها المجازية.»٣ كان شراير محقًّا جزئيًّا فقط في وجهة نظره عندما تحدَّث عن وحدة التجارب المسرحية التي قام بها هو ورفاقه، لأن ثمة خلافًا جوهريًّا كان قائمًا بينه وبين شليمر، الأمر الذي نتج منه خروجه من الباوهاوس. وقد جاء هذا الاختلاف في التوجه الجمالي؛ فإذا كان شراير قد ظلَّ حتى النهاية تعبيريًّا، فإن شليمر كان يمثل الاتجاه الإنشائي، وهو الاتجاه الذي أصبح الاتجاه المحدَّد لنشاط الباوهاوس بكامله إلى أن أُغلقت هذه المدرسة على يد النازيين.

(١) أوسكار شليمر والتجارب المسرحية للباوهاوس

والآن أصبحت المهمة الرئيسية هي بحث البنية الشكلية للإبداع الفني في أنواع الفنون كافة، بما في ذلك المسرح. وها قد أخذت التجارب المسرحية الأولى لهذا النوع مكانَها في الباوهاوس حتى فترة اعتزال شراير. في البداية، كانت هذه التجارب تُعرض في أمسياتِ المعهد على هيئة حفلاتٍ ارتجالية. ثم أُجريت بعد ذلك على خشباتِ مسارح الهواة، التي أُقيمت في إحدى ضواحي مدينة فايمر؛ إذْ إنَّ الباوهاوس لم يكن لها آنذاك مسرحها الخاص. وفي أغسطس من عام ١٩٢٣م، جرى على مسرح مدينة فايمر تنظيم «أسبوع الباوهاوس». وكانت المسرحيتان «غرفة الرموز» و«الباليه الثلاثي»، اللتان أخرجهما شليمر، هما العملَين الأساسيَّين في هذا «الأسبوع».٤
وقد ظهرت فكرة «الباليه الثلاثي» في عام ١٩١٢م، عندما كان شليمر لا يزال يدرس في أكاديمية الفنون في شتوتجارت على يد أ. خيلتسيل، وكان يتلقَّى في الوقت نفسه دروسًا في فن الرقص. وقد عرض شليمر مشاهِد منفصِلة من «الباليه الثلاثي» للمرة الأُولى عام ١٩١٦م. وهكذا ظهرَت الفكرة الرئيسية لمسرح الفنان عند شليمر٥ فترةً طويلة من انضمامه إلى الباوهاوس. وقد اكتسبت هذه الفكرة هنا بعض التطور، وأصبح لها نسقها، وتمَّ استيعابها، وتشكَّلت باعتبارها مفهومًا نظريًّا متكاملًا.
لقد وحَّد هذا المفهوم بين تقاليد الرومانتيكيين الألمان (مُركَّب العمل الفني الشامل Gesamtkunstwerk؛ ولكنْ، لا على النحو الذي فهمه به د. فاجنر؛ وإنما على طريقة ف. أ. رونجي وأ. ت. أ. هوفمان من ناحية، ومن فكرة عرائس كلايست من ناحيةٍ أخرى) وبين البحوث التي جرَت في مجال الطليعة التشكيلية التي نفَّذها شليمر للمرة الأولى في الأعمال الموضوعة على حوامل. «بعد أن وصلتُ إلى النحت البارز والتماثيل الملوَّنة، وكنت قد بدأت بالتصوير، لم يعُد الأمر يستحقُّ تحويل مثل هذه العروض النحتية إلى راقصين وتحويلهم إلى حقيقةٍ واقعة تتحرك في الفراغ.»٦ بتعبيرٍ آخر، فالشخصيات التي ابتدعها شليمر في مسرحية «الباليه الثلاثي» لم تكن سوى تماثيلَ لِلَوحاته الفانتازية (على سبيل المثال، أعمال الحوامل التي رسَمَها عام ١٩١٩م: «الصف الأخضر»، «اللَّوالب»، «تجريد»، «الراقص»)، وهي الأعمال التي اتخذَت حجمًا واقعيًّا واكتسبت حيويةً في فضاء المسرح. من جانبٍ آخر فإن «الدافع والعلَّة الأُولى، اللَّذين كانا وراء ظهور هذا الباليه، كانا هما الاستمتاع البسيط والخالص في اختراع شكل Form، واختراع بناء Construction من طرازٍ مختلف، وكذلك اللَّعب بالمواد.»٧

لقد اكتشف شليمر عندما ظهَرَ في الباوهاوس أن هذا النوع من «غريزة اللعب» الناشئ عن الاستمتاع بعملية إدراك الأشكال الفنية الجديدة نفسها؛ هو أحد أقوى الدوافع المحفِّزة وراء عملِ غالبية رفاقه في هذه المدرسة.

ما الذي كان يمثله إذن هذا العمل المسرحي الأول والرئيسي لشليمر؟

لقد أدَّى هذا العمل ثلاثةُ راقصِين: رجلان (أحدهما شليمر)، وامرأة. قدَّموا اثنتَي عَشْرة رقصةً تشكِّل في مجموعها الأجزاءَ الثلاثة للباليه. الجزء الأول كوميدي هزلي Burlesque يجري على خلفيةٍ ذات لون أصفر ليموني ويتضمن خمس قطع. وفيها تُشارك راقصة باليه ترتدي تنورةَ رقْصٍ كلاسيكية Tu tu من شرائط متعددة الألوان، وعروسة تمثِّل شخصيةً مستوحاة من موتيفات لعبةٍ شعبية من الفولكلور الألماني. القناع والثوب يغطيان الممثل تمامًا باستثناء قدمَيه. أما باقي الشخصيات الراقصة؛ فيبدون في شكلِ تماثيل ترتدي ملابس والرُّءوس فيها على هيئة مثلثات قائمة الزاوية ومتساوية الساقَين ودائرية وإهليلجية (ذات قطع ناقص)، في حين تتخذ الصدور والأيدي أشكالًا كروية (باللونَين الأحمر والأزرق)، أو على هيئة قلوبٍ مجزَّأة إلى نصفَين من لونَين مختلفَين، بدءًا من الرأس حتى الكعبَين. يتحرك كلُّ ثوب على طريقة دوران لعبة النحلة في تنويعات مختلفة. إنَّ مبدأ العرض الدائري بتنويعاته النحتية هذه استُخدم في الفصلَين الآخرين أيضًا من هذا الباليه.
الجزء الثاني من الباليه يتميز بجوِّ الاحتفاليات والمراسم، ويجري في فضاءٍ مزيَّن بألوان وردية ناعمة. ويبدأ هذا الجزء أيضًا بعرضٍ لراقصةِ باليه وهي ترتدي التنورة الكلاسيكية، ثم يتبع ذلك ثنائي يؤدي موتيفةً قديمة. الشخصية الرجالية تشبه الظِّل Silhouette والرسوم التفصيلية عليها الهبليت الإغريقي٨ وهي ترتدي «خوذةً» و«درعًا» من صنع الفنان؛ ولكنْ، لا من معادنَ صُلبة؛ وإنما بطريقةٍ غير مألوفة وغير منطقية، أي من «طبقاتٍ من ورق مقوًّى» ليِّن يحيط بالقامة في سهولةٍ ويسر. ومن الأشياء المفارقة أيضًا وغير المنطقية ملابس الراقص الشريك Partner الذي من المفترض أن عليه — كما يبدو — أن يغطِّي الجسد كلَّه بليونة؛ ولكن، عند شليمر يتمُّ الأمر على عكس ذلك، فالشخصية تبدو منتفشة على نحوٍ خشِن بثنياتها المروحية. وينتهي الجزء الثاني برقصة ثلاثية Pas de Trois في ملابس «كراميلا»؛٩ فنجد «دراجيه» (بملابس نسويةٍ مصنوعة من كُرات ملوَّنة سميكة، وغطاء رأسٍ في الكُرات نفسها، ولكن أكثر لينًا)، و«برالينيه» (بملابس رجاليةٍ مخطَّطة بخطوط ملوَّنة، على هيئة الورق الذي تُلفُّ به الحلوى).

في الوقت نفسه، تحمل هذه الملابس بعض سمات الملابس القومية؛ فالملابس النسوية تشبه أزياء العيد عند السلافيين، والملابس الرجالية تشبه الأزياء الرومانية والصينية.

الفصل الثالث، فصلٌ فانتازي ميتافيزيقي يتَّسم بالغموض، ويُجرى عرضه في فضاءٍ أسود، هنا تؤدي الشخصيات دورَها مجسِّدة شكلًا هندسيًّا أو تقنيًّا محددًا. هناك امرأة مكونة من ثلاث حلقات ترتديها فوق تنورةٍ واسعة من أسفل، وهناك شخصيتان مربوطتان كليةً (الجسم، الأيدي، الأفخاذ) في سحابةٍ واحدة سوداء وخلف ظهريها وُضعت أقراصٌ زرقاء مذهبة وأخرى حمراء بنفسجية. بقية الشخصيات تشبه لعبةَ النحلة مخروطية الشكل («السراويل») وهي على هيئةِ قِطع من دائرة («التنورات») ومن الشكل الإهليلجي («بلوزة»). وهناك شخصيةٌ أخرى، وهي الراقصة، وهذه يتحوَّل جسدها إلى محورِ ارتكاز لبناءٍ مكوَّن من كثير من العجلات المصنوعة من عدَّة دوائر من السلك مختلفة المقاييس في أقطارها تلتفُّ كلُّها على هيئة لولب حول الخصر والرأس. ينهي الراقص عرضه مرتديًا قناعًا وثوبًا غير متماثِلَين، ألوانهما متنافِرة من الجانبَين الأيمن والأيسر. إنَّ هذا الشكل الذي يعدُّ تجسيدًا للفانتازيا البهيَّة، التي كُتبت في عام ۱۹۱۹م، «تجريدٌ» قد تميَّز بالنسبة إلى الأشكال الأخرى (التي هي أقرب إلى النحت الإنشائي والمستنِدة إلى الطاقة الحركية للمشهد) بالنزعة التعبيرية التي تمَّ التعبير عنها من خلال التناقض والتنافر في الأشكال والألوان. وإذا كانت الشخصيات الأخرى في الباليه قد جرى تصميمها عن طريق إدخال تغييرات على شخصية الممثل (بإلباسه أزياء ناعمة أو خشِنة)؛ فإن الزي الذي ترتديه هذه الشخصية يمكن أن يخفي إلى أبعد درجة الممثل الرئيسي لها (والذي كان هو شليمر نفسه). وبهذا المعنى اقتربت هذه الشخصية، أكثر من أي شخصيةٍ أخرى في «الباليه الثلاثي»، من طابع ملابس الشخصيات التي قدَّمها شليمر في مسرحية «غرفة الرموز».

تم عرض «غرفة الرموز» باستخدام تماثيل مسطَّحة متنوعة الأشكال، يحملها مؤدون يقفون خلفها، وهذه التماثيل تشبه في الوقت نفسه عرائس بول كلي، و«الموسيقيون الثلاثة» لبابلو بيكاسو، والشخصيات السينمائية في أفلام شارلي شابلن الصامتة، والمهرِّج عند ماكس وموريس في كتب الأطفال الألمانية. وهذه التماثيل مستوحاة من موتيفات الحكايات الرومانتيكية عند هوفمان، وكذلك الأشكال البصرية الساذجة للرسوم الخشِنة على «الأهداف» في ألعاب الرماية والتنشين في أسواق الأرياف. في هذا العمل سيطرت الفانتازيا المرِحة والمتَّسِمة بالذكاء للفنان الذي أبدع هذا المسرح الفريد بأعاجيبه الخارقة للعادة، وبما فيه من تحوُّلات وضحك ومفاجآت. في السطور التالية يصِف شليمر نفْسُه على أيِّ نحو بدَتْ هذه المسرحية:

«نِصف المكان ميدان رماية، والنِّصف الآخَر تجريد ميتافيزيقي. إنه خليط، أي تنوُّع من ظلال أشياء ذات معنًى وأخرى لا معنى لها، تدخُل جميعها في نظامٍ بفضل اللون والشكل والطبيعة والفن؛ هنا الإنسان والآلة، الصوت والميكانيكا. التنظيم هو كلُّ شيء؛ أصعب الأمور أن تنظِّم ما هو غير متجانِس.

وجهٌ أخضر ضخم، أكبر جزء فيه هو هذا الأنف المتعطِّش للمواجهة، وهو ما تحرزه امرأة تُدعى جريتا.

إنها تتحدَّث كثيرًا وتُدير رأسها طوالَ الوقت،
ويشبه أنفها ماسورةً كبيرة!
… يختفي رأسها وجسدها بالتناوب.
تتلألأ عيناها ذات الألوان المتعددة.
تعبُر التماثيل ببطءٍ: تمشي الكرة البيضاء والخضراء والحمراء والزرقاء؛ تتحوَّل الكرة إلى بندول، يتأرجح البندول، وتأخذ الساعة في العمل. جسدٌ على هيئة كمان، شابٌّ يرتدي ثوبًا على هيئة خلايا لامعة. «شخصية مهمة»، عفوية، مثيرة للشك، الآنسة كراسنايا روزا (الوردة الحمراء)، تركي، أجساد تبحث عن الرُّءوس، التي تتحرَّك في الاتجاه المعاكِس عبْر خشبة المسرح. هزة قوية، الأوركسترا، يعزف مارش الانتصار عند كلِّ مرة يتَّحد فيها الرأس مع الجسد Hydrocephalus،١٠ جسد ماريا، جسد التركي. خطوط قُطرية وجسد «الرجل المهم».

يد عملاقة تقول: قفْ! — مَلَاكٌ مدهون بالطلاء يرتفع إلى أعلى وهو يغني: ترا لا لا…

في المنتصف يأخذ الأستاذ سبالا نتساني من أعمال هوفمان في السَّير جَيئةً وذهابًا، مُصدرًا إيماءاتٍ وإشارات، مديرًا قرصَ الهاتف، وينتهي الأمر بأن يُطلِق الرصاص على رأسه ليسقط ميتًا من الرعب.

وكأنَّ شيئًا لم يحدُث، تتحرك عجلةُ ستارة النافذة؛ فتظهر مربعاتٌ ملوَّنة وسهم وعلامات أخرى، مثل فاصلة الكتابة وأجزاء من أجسام بشرية وأرقام وإعلانات: «افتحوا حسابًا تجاريًّا» … من كلِّ جانب تبرز تماثيلُ لها أزرارٌ نحاسية، وأجسامٌ من النيكل تعرض أنواعًا من البارومترات.

نيران بنغالية، تيرير فيبس يقف مستقيمًا.

تُقرع الأجراس. يدٌ عملاقة – رجلٌ أخضر – جسدٌ خارق؛ تسقط البارومترات من اليد، لولبٌ يدور، عين تبرق بضوءٍ كهربي؛ أصوات مدوِّية تصمُّ الآذان، ضوء أحمر. في النهاية، ينتحر الأستاذ لحظةَ انسدال الستار، وهذه المرة يحالف المسرحية النجاح.»١١
لاقت المسرحية نجاحًا كبيرًا واستمرَّ عرْضُها في الباوهاوس حتى عام ١٩٢٨م. وقد أدخل عليها شليمر بعض التصحيحات وأضاف إليها شيئًا ما من التجديد. مرتجِلًا بعض الأمور مثل تحوُّل الأستاذ إلى شيطان يرقص وحوله «تماثيل معدنية ترتبط بعضها ببعض بسلك، تأخذ في الحركة إلى الخلف وإلى الأمام. بينما تطير وتسقط بعض التماثيل الأخرى، والبعض يدور ويأخذ شكلَ حلقات، تُصلصِل وتتبادل الحديث أو تغني.»١٢

(٢) النظرية والمفهوم

لقد جرَت في الوقت نفسه محاولاتٌ لفهم التجارب المسرحية بصورةٍ نظرية، ففي الإصدار الرابع لأعمال الباوهاوس في عام ١٩٢٥م، نشرت مقالات شليمر ول. موجولي-ناد، وفيها ظهرت إحدى مقالات شليمر تحت عنوان «الإنسان والشخصية الاصطناعية»، وقد تناول فيها شليمر السوبر ماريونيت، أي «التمثال المخروطي» وفقًا للتعريف الاصطلاحي الذي صكَّه الكاتب نفسه.

وقد وضع شليمر أولًا تعريفًا لوضع فن المسرح بين الظواهر الثقافية الأخرى بعد أن وضع هذا الفن بين العبادة الدينية التي تتخذ شكل العروض المقدسة في المعابد من جانب، وبين عروض الميادين الشعبية من جانبٍ آخر. فإذا اعتبرنا أن نواة المسرح في الفهم المعاصر هي المسرحية التي تُعرض على المسرح-العلبة في إطار يشبه الباب؛ فقد سبقها — في رأي شليمر — العروض التي تُشبه أداء العبادات، والتي تؤدَّى على مسارح من طراز الساحات (التراجيديات الإغريقية والأوبرات المبكرة) من جانب، ومن جانبٍ آخر العروض الشعبية التي تؤدَّى في الميادين، وهي عروض من طراز الاستعراض-السيرك (الكاباريه – الفاريتيه (المنوعات) – السيرك).

بعد أن وضع شليمر هذا التخطيط للعلاقات المسرحية المتبادلة مع مجالات الثقافة الأخرى قريبةِ الصلة، قسَّم فيما بعد العروض المسرحية إلى ثلاثة أنواع؛ الأول: على أساس التأليف الأدبي أو الموسيقي، الثاني: التمثيل الإيمائي (البانتوميم)، الثالث: العروض البصرية للأشكال النحتية والألوان. وبطبيعة الحال، كان النوع الثالث هو أكثر الأنواع إثارة لاهتمام شليمر نفسه؛ إذ كان يرى أنه هو نفسه المبدع الرئيسي لها، مؤكِّدًا أنَّ الفنان في المسرح المعاصر يستطيع، كما كان الأمر دائمًا، أن يقوم بوظيفته العادية (رسْم أماكن أحداث المسرحية والأوبرا أو الباليه، أو المشاركة في التمثيل)، وقد توقف شليمر بوجهٍ خاص عند إمكانيتَين أخريَين أكثرَ مستقبليةً. فقد اعتبر أن بإمكان الفنان، أكثر من غيره، أن يحقِّق فنَّه في المسرحيات ذات الطابع البصري. وفي هذه المسرحيات تكون الشخصيات مبنيةً على اللَّعب بالشكل واللون والتماثيل باعتبارها ممثلين، وكذلك على الحياة المستقلة على المسرح، بما في ذلك استخدام الأجهزة والمعدَّات الآلية. وفي هذا السياق، فقد وضع شليمر في اعتباره الإمكانات المحدودة للتقنيات المسرحية المتوافرة في زمنه، ولكنه افترض أنَّ كلَّ هذا ينبغي ألَّا يقيِّد الفانتازيا عند الفنان، الذي ليس عليه بالضرورة أن يسترشد بالمسرح الموجود في الواقع، فالفنان من حقِّه أن يضع المشروعات على الورق وفي الماكيتات، وأن يعرضها في المعارض أيضًا ويتحدَّث عنها في المحاضرات موجِّها إيَّاها نحو المستقبل.

بعدما وصَلَ شليمر إلى الفكرة الرئيسية لمقالته، أي إلى فكرة وضع العرائس والماكينات الآلية بدلًا من الإنسان، تذكَّر الرومانتيكيين الألمان: ج. فون كلايست، وأ. ت. أ. هوفمان، ول. أرنيم، وك. بريتانو؛ وقد استند شليمر أيضًا إلى فكرة ج. كريج بشأن «السوبر ماريونيت» وإلى ف. بريوسوف الذي فكَّر في استبدال العرائس الميكانيكية بالإنسان وجعلها تتحدَّث عن طريق الفونوجراف المختفي داخل كل عروسة من هذه العرائس. كان السبب وراء اتجاه شليمر نفسه نحو التماثيل الفنية هو «السعي لتحرير الإنسان من الطُّرق الجسدية وإطلاق حركاته خارجَ حدود إمكاناته الطبيعية …».١٣
إنَّ التمثال الفني الذي يبدعه الفنان يمكن — في رأي شليمر — أن يكتسب أيَّ مظهر، «أن يقوم بأيِّ حركات، أن يتَّخذ أيَّ وضعٍ في أيِّ وقت. وهذا التمثال يمكن أيضًا أن يعطي إمكانية تغيير المقياس النسبي للعرائس بحيث يصبح إحدى التقنيات الفنية الرئيسية بمرور الوقت؛ فالشخصيات المهمة تجسدها تماثيل كبيرة وغير المهمة تجسدها تماثيل صغيرة.»١٤
أما الفكرة الأخرى التي راودتْ شليمر؛ فقد كانت تتلخَّص في إمكانية إخراج عرضٍ بصري مبني على حركة اللون والأشكال المتنوعة — المستقيمة والمسطحة والمجسمة. لقد تصوَّر موضوعاتٍ يمكن للفنان أن يجسِّدها بواسطة تلك الحركة، التي تمتلك كثيرًا من التنويعات المختلفة للتعبير النحتي، والتي يندرج فيها أوسع مدًى للضوء المسرحي القادر على «تشكيل» «أشكالٍ لا تدرَك باللمس»، ورسْم «خطوطها الهندسية»، وتجميل الفضاء المسرحي في ألوانه الخاصة به. تشارك في هذه المسرحية أيضًا البنى المعمارية المتحركة، والتي تغيِّر من الشكل والتناسب في العلاقات المكانية الداخلية وفي الوضع داخل الفضاء المسرحي. وقد استبعد شليمر شخصَ الممثل من مثل هذه العروض البصرية واختصَّه بدورٍ آخَر لا يقلُّ أهميةً، ألَا وهو دور قوة خلَّاقة مسرحية فريدة في نوعها تضفي — بواسطة لوحة التحكم — الحيوية على هذا العرض، أي تبعث الحياة فيه.١٥
وقد اقترح ل. موجولي-ناد استخدامَ فكرة المُركَّب في عمل شكل العرض، الذي يتم إخراجه باستخدام إبداعات الفنان نفسه، وهي الفكرة الشائع استخدامها عند الباوهاوس. كما استخدم كلمة «كيان» Organism لوصف العمل المسرحي باعتباره عملًا إبداعيًّا. وكان يعني بهذه الكلمة شكلًا فنيًّا جديدًا هو «المسرح الشامل الجامع للعلاقات المتنوعة الكثيرة والمتبادلة بين الضوء والفراغ والسطح والشكل والحركة والصوت والإنسان …».١٦

وقد اعتبر موجولي-ناد الإنسان هو العنصر الأخير في سلسلة الوسائل التعبيرية للمسرح الشامل، وهو أمرٌ لم يأتِ بالطبع بالمصادفة. لقد رأى الفنان أن مهمته تتلخص ليس فقط في تحرير الفضاء المسرحي من «العبء الأدبي»؛ بل في تحريره من المبدأ الذاتي المرتبط أولًا وقبل كلِّ شيء بإبداع الممثل تحديدًا، والذي تكون لديه نتيجةُ المفاهيم التقليدية. لم تكن حتى الخبرات المسرحية للتعبيريِّين والمستقبليِّين والداديِّين تناسب موجولي-ناد. وعلى الرغم من تقديره لتجاربهم الطليعية التي رفضوا فيها الخضوع للأدب، فإنه لم يتقبل هذه التجارب؛ لأنه رأى أن الإنسان فيها ظلَّ هو العنصر المهيمن في المسرحية. ما وجه التناقض بين الدور المهيمن للإنسان وبين المسرح الشامل، وكيف يبدو هذا الدور من وجهة نظر موجولي-ناد؟

«هناك سببٌ بسيط، هو أن الإنسان مهما بلغ من التدريب، لن يكون باستطاعته أن يؤدي إلا حركاتٍ محدودة، مقيَّدة بالميكانيكا التي وهبتْها الطبيعة لجسده. إن مهمَّة وضعِ شكلٍ موضوعي خالِص للعمل المسرحي، هي مهمةٌ حاكمة بالنسبة إلى المسرح الشامل، وهي التي تؤدي إلى ضرورة التشكيل المحكم للشكل والحركة، اللَّذين ينبغي أن يكوِّنا مُركَّبًا للظواهر المتناقضة والدينامية (الفراغ، الشكل، الحركة، الصوت، اللون).»١٧
وعلى هذا النحو كانت رؤية موجولي-ناد المسرحية باعتبارها كيانًا مُركَّبًا مشكلًا أولًا وقبل كلِّ شيء من تلك الوسائل المسرحية، الخاضعة لإدارةٍ دقيقة ومعيارية موجَّهة نحو هدفٍ وحيد بواسطة وسائل ذات طابع تقني. وهذه الوسائل تتمثل في المعدَّات الصوتية، التي يمكن بواسطتها خلْق فضاء من الموجات الصوتية متباينة الاختلاف من ناحية الكثافة والحجم والتردد. وكذلك تلك الأدوات التي توفِّر إمكانية تحريك خشبة المسرح (سواء أفقيًّا أو رأسيًّا)، ووضْع تصميماتٍ ضخمة مختلفة، وتحريك الطرقات وخشبة المسرح، عبْر حفرة الأوركسترا وأضواء المسرح الأمامية، بهدف ربط خشبة المسرح بالصالة. وأخيرًا الاستخدام اللانهائي للضوء بأشكاله وتنوعاته كافة. لقد أعطى موجولي-ناد أهميةً خاصة للضوء، وبحَثَ مختلفَ تأثيراته: في انعكاساته، وفي نفاذيته، في تشتُّته وكثافته؛ وذلك بهدفِ عملِ بُقعٍ ضوئية تعبيرية، وإحداث لمعانٍ وسطوع، أو خلْق تناقضات من الظلال من شأنها عمل إسقاطات أو كادرات سينمائية أو رسوم فوتوغرافية. ويمكن تفسير اهتمام الفنان تحديدًا بالعنصر الضوئي في المسرح الشامل أيضًا بأنَّ موجولي-ناد كان قد تعامل إبَّان وجوده في الباوهاوس مع مشكلات التصوير الفوتوغرافي والرسم بالضوء (Light-Painting) وقد أصبح هو مؤسِّس هذا الاتجاه في الطليعة التشكيلية، وكذلك أستاذ لفازاريللي الممثِّل البارز لفنِّ الأوب-آرت Op-Art بعد الحرب العالمية الأولى.

(٣) مشروعات المختبر المسرحي للباوهاوس ومسرحياته

خلال أسبوع «الباوهاوس» الذي أُقيم عام ١٩٢٣م، والذي عُرضت فيه أعمالٌ من إخراج شليمر؛ قام تلاميذه — ك. شميدت، ف. ف. بوجلر، وج. تيلتشر — بتقديم عرْض «الباليه الميكانيكي»، وهو عرضٌ قائم على التأثير الضوئي، وعلى حركة الكُتَل الهندسية التي تشكِّل تكويناتٍ مختلفةً في الفراغ، أو للتماثيل الخمسة المكوَّنة من أسطُح وأشكال تجريدية ملوَّنة تشبه عن بُعد أشكالًا بشرية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كلَّ تمثال بشكلٍ خاص هو (من حيث الشكل واللون والبناء) «كائنٌ اصطناعي» من حيث الشخصية، الأمر الذي يخلق صراعًا محددًا في علاقتهم المتبادَلة، ويضفي ثراءً على مضمون العرض المسرحي. تشرع التماثيل في الحركة من خلال المؤدين الموجودين خلفها، والذين يظلُّون مختفين عن أعيُن المشاهِدين. وقد اعترض شليمر على اعتبار هذه المسرحية (كما اعترض على مسرحيتَيه التي أخرجهما هو شخصيًّا: «الباليه الثلاثي»، و«غرفة الرموز») مسرحيةً ميكانيكية بالمعنى الحَرفي للكلمة؛ بسبب اشتراك ممثِّلين فيها. لقد رأى شليمر أنَّ الممثلين — مع أنهم لم يكونوا ظاهرين أمام المشاهدين — أسهموا — على أي حال — في هذا العمل التجريدي الخالص من ناحية الشكل والمضمون برُوحهم الإنسانية وفنِّهم.

وفي عام ١٩٢٤م، تُعرض مسرحية «السيرك» من إخراج خ. شافينسكي، وهي عملٌ بصري مبني على استخدام عرائسَ لوحوشٍ مضحِكة ومهرِّجين تشبه ملابسهم النحتية دروعَ الحيوانات أو صدفاتها، ومعهم «إنسانٌ» يجلس خلْفَ لوحة التحكم، هو ك. شميدت، وفي المسرحية يؤدي الممثلون أدوارَهم في ملابسَ صمِّمت على هيئة بَكراتٍ كهربائية ومخروطات مطليَّة بألوان فوسفورية ساطعة وبرَّاقة تجسِّد فكرة حركة الطاقة الكهربية في قوَّتها وتوترها. يقود هذه الشخصيات شخصيةٌ ترتدي سروالَ مهرِّج مخططًا بشكل أفقي دائري، يقوم بتشغيل لوحة التحكم الكهربية فيبعث الحياة في المشهد المسرحي.

عندما انتقلت الباوهاوس إلى مدينة ديساو الألمانية في النصف الثاني من العَقد الثاني من القرن العشرين قام كلٌّ من: أ. فايننجر، وخ. شافينسكي، ور. كليمنس، وخ. لويف؛ بإعداد مشروعات «المسرح الميكانيكي».

وقد اختصَّ «المسرح الميكانيكي» للمخرِج فايننجر (جرَت تجاربه الأُولى عامَي ١٩٢٢-١٩٢٣م) في العروض الموسيقية، وكان هذا المسرح يمثِّل نظامًا من الخطوط والمربعات والمثلثات والدوائر المزيَّنة بألوانٍ ناصعة: الأحمر، والأصفر، والأزرق، والبرتقالي، والأخضر. وكانت كلُّ هذه التماثيل تتحرك وفقًا للنُّوَت الموسيقية التي حدَّدها الفنان، ووفقًا لثلاثِ مراحل. تنتقل الخطوط الأفقية بطول المسرح وعمقه، في حين تتحرك الخطوط الرأسية إلى أعلى وإلى أسفل. كما تتحوَّل أسطُح الكواليس وتتقارب وتتباعد. تتردد الدوائر المتعدِّدة الألوان. تتبعثر في الهواء المثلثات المزخرَفة. ويتحرك لوح المسرح الخشبي المغطَّى بسجادةٍ باللونين الأزرق والأخضر. باختصار، كان هذا هو التكوين السوبرماتيزمي والإنشائي في الوقت نفسه، والمتحرك في الفراغ الثلاثي الأبعاد للمسرح، الحيوي بكل عناصره المكونة أيضًا من أشكال هندسية، التي تشارك فيها بشكلٍ محدود العرائس الميكانيكية المصمَّمة من أشكالٍ هندسية (مربع، مخروط، دائرة، بيضة) والتي تصوِّر «دون جوان»، «راقصة الباليه»، «الساذج»، وكذلك «المصباح» الهابط.

أطلق شافينسكي على مشروعه اسمَ «سبكترودراما» في ثلاثة فصول «اللعب، الحياة، الوهم» وأعدَّ كلَّ جانب من جوانب هذا العرض البصري تفصيلًا. ويبدأ العرض بحركة (بمصاحبة غناء) تمرُّ عبْر اتساع الفراغ المظلِم لخطٍّ أفقي أزرق، يرتفع الخط ببطءٍ أعلى لوح المسرح الخشبي. يظهر على اليسار سطح أفقي أحمر يدور حول محوره، ينتقل من العمق إلى اليمين. الصوت الأزرق يردُّ بحيوية على الصوت الأحمر بغناءٍ للجوقة والصوت الانفرادي، يزداد ارتفاعًا وقوة.

عند لحظة الذروة، يشارك صوت ملوَّن آخَر Accord: يظهر مربَّع أصفر كبير في خلفية الفضاء المسرحي، يتحرك إلى الأمام باندفاعٍ باتجاه الجمهور، يتصاعد صوت الأوركسترا عاليًا Fortissimo.

يبدأ المشهد الثاني بانسحاب المربع الأصفر ناحية اليسار مستديرًا حول محوره. بارتفاع الفضاء المسرحي كله وعمقه، تتنقل ثلاثة تماثيل لونها أبيض: مثلث، ودائرة، ومربع؛ مشكِّلةً تكويناتٍ متنوعة. وبعد أن تعود إلى نقطة البدء، يتحرك القرص الأحمر مثل طيف. تزداد الأقراص أكثر فأكثر. تتغير الأوضاع اللونية للفضاء المسرحي من الأخضر إلى الأزرق، ومن الأحمر إلى الأصفر، ومرة أخرى تعود الأشكال البيضاء إلى الحركة وتتزيَّن بالضوء الملوَّن؛ وبواسطة التكوينات التي تتخذها تشكِّل عمارةَ مسرحيةٍ فريدة. تنزلق الستارة السوداء عبْر المسرح تاركةً الفضاء كلَّه في ظلامٍ دامس، وخلال لحظةٍ خاطفة تُضاء الأقنعة البيضاء من خلال شعاعٍ داخلي موجَّه إليها. تقوم الأقنعة بإنشاء سوناتا ك. شفيتيرس بمصاحبة صفٍّ من المَشاهد التجريدية البصرية، يتمُّ إسقاطها على شاشة.

المشهد التالي مبني على اللعب بالفضاء بواسطة تحريك جدران بألوانٍ زرقاء وحمراء وصفراء. تتجمع في تشكيلات مختلفة، تتقارب وتتباعد وتتبادل الأماكن، مصطفَّة في تكويناتٍ متنوعة، مؤدِّية تكويناتٍ معماريةً وأحوالًا ضوئية في الفضاء المسرحي على أنغام نوتة موسيقية. يشارك في هذا اللعب أيضًا ممثلون يرتدون سراويل ملوَّنة. كلٌّ منهم يجسِّد هذا اللون أو ذاك: الأزرق يوافقه التشيلو، والأحمر الكلارنيت، والأصفر الترومبون، يَقُودهم السوليست الأبيض؛ وهم جميعًا ومعهم الجدران الملوَّنة المتحركة يكوِّنون — بهذه الطريقة — «أوركسترا» بصريًّا مماثلًا للأوركسترا الذي يعزف الموسيقى.

لقد سعى شافينسكي إلى استخدام جميع الوسائل التعبيرية المتاحة أمامه، من تمثالَين كبيرَين بحجم شخصَين، إلى إسقاط الضوء على شاشة، حيث يظهر عليها تيار كامل من اللوحات الفنية المتنوعة من ناحية الشكل والفترة التاريخية والأسلوب: من التصوير في الكهوف إلى اللوحات المعاصرة، من الجريكو وروبنز إلى النحت المصري البارز والصور الضوئية على طريقة الستروبوسكوب وأعمال جوتو وبيكاسو ومايكل أنجلو ون. جابو. هذا المشروع أعِدَّ على يدِ شافينسكي في أثناء دراسته في الباوهاوس وعرَضَه الفنان عدَّة مرات بأشكال متنوعة في السنوات التالية، عندما هاجر ليعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.

اقترح كليمينس عدة خُطط لعرض مسرحية «ألعاب الأشكال والضوء واللون والنغم». وكان من المقدَّر أن تكون هذه المسرحية من خمسة فصول، ومن ثَم من خمسة تكويناتٍ بصرية، تقوم حركة العناصر فيها وتبادُل الأوضاع فيما بينها في خلْق مواصفاتٍ خطيَّة لونية وجرافيكية في الفضاء المسرحي. كلٌّ من التكوينات الخمسة خصِّص له شكلٌ محدَّد من الموسيقى والإيقاع، بل آلات موسيقية بعينها، بحيث تؤدي هذه التكوينات دورَها بمصاحبة الموسيقى وبقيادة الفنان نفسه.

الفصل الأول، «البداية – قوية Fortissimo»، لحنُ فوكس تروت Es-dur يؤديه أوركسترا للجاز مع بيانو صولو. ومن الجانب الأيسر تتحرك، باتجاه الجمهور، شرائطُ ضيِّقة رأسية صفراء، تمتدُّ حتى أعلى المسرح، بدءًا من الخشبة حتى الشواية Gridiron، قادمة من عمقِ فراغ المسرح الغارق في السَّواد. تشارك في المشهد أشرطةٌ سوداء تتجه إلى الأمام، ثم تأخذ في تبادل الأماكن متقاطعةً بعضها مع بعضها الآخَر، تظهر في الجانب الأيمن من فضاء المسرح ثم ترتفع إلى أعلى ثم تهبط أسفل الخشبة، من حيث يظهر قرص أحمر يشرق مثل «الشمس» في منتصف التكوين. اللحن الختامي يتمثَّل في حركة الأسطح الموجودة على الجانب الأيمن باللون الوردي نحو منتصف الفضاء المسرحي.

الفصل الثاني، «لعبة الدوائر – روسية»، تبدأ رقصة الأقراص والدوائر المختلفة الألوان والأقطار، من الحجم الكبير إلى الحجم المتناهي الصغر على أنغام البيانو وآلة البانجو والطبول على خلفية سوداء وبمصاحبة إيقاع الموسيقى، مع نهاية المشهد يزداد الإيقاع قوةً، وفي الوقت نفسه تصبح الإضاءة أكثر كثافة.

يقوم الفصل الثالث المسمَّى «تانجو» على تبادُل الأماكن بين أربعة خطوط سوداء أفقية وسبعة متموِّجة وقرص أحمر يدور في اتجاه عقارب الساعة.

يحمل الفصل الرابع اسم «باليه الثِّقاب». أعواد ثقاب ضخمة يصل حجمها إلى ارتفاع المسرح مكوِّنة «سياجًا من الخوازيق»، ترتفع برءوسها إلى أعلى من أسفل إلى اليسار، أو تخفض رءوسها إلى أسفل قادمةً من شواية المسرح باتجاه الجانب الأيمن.

«مروحة» تنفتح في عمق خشبة المسرح؛ خطٌّ قطري يقطع فضاء المسرح قادمًا من الزاوية اليسرى العليا إلى الأمام باتجاه الزاوية اليُّمنى السُّفلى.

الفصل الخامس «الخاتمة»، على أنغام الفوكس تروت التي يعزفها أوركسترا الجاز، تشرع في الرقص أكبر المسطحات الملوَّنة حجمًا وضخامة: تتحرك ناحية اليسار شرائط عريضة أفقية باللون الأحمر الساطع، في حين يتحرك ناحية اليمين جدار وردي يمثِّل اللحن الأخير Accord لموسيقى المسرح الملونة.

صمَّم لويف «المسرح الميكانيكي» باعتباره استعراضًا للأشكال والمسطحات التشكيلية الملونة التي تنتقل على ثلاثة قضبان تمتدُّ عبْرَ خشبة المسرح بمحاذاة الأضواء الأمامية وعلى ثلاثة مستويات. أبعَدُ هذه القضبان مخصَّصٌ لحركة الأسطح الملونة. والأوسط للعناصر والإنشاءات المتحركة على نحوٍ لا مركزي. والأقرب لحركة الأسطح شبه الشفافة. وما بين القضيبَين الأبعد والأوسط قرصان دوَّاران مثبتةٌ عليهما أيضًا أشكالٌ تشكيلية. كان لويف يحاول عادةً أن يقدِّم إلى المشاهدين تقنيةً ومعدَّات مسرحية خافيةً عنهم، وفي الوقت نفسه يخلق من هذه التقنيات وسيلةً مستقلة للتعبير المسرحي.

(٤) شليمر: الإنسان في الفضاء المسرحي

مع أنَّ صُنَّاع مسرح الفنان راحوا يصمِّمون مشروعاتِ المسارح الميكانيكية المفرَّغة من الممثلين؛ فإنهم رأوا مع ذلك أنَّ أبحاثهم هذه لا تمثِّل سوى إمكانيةٍ واحدة من إمكانيات التجديد الراديكالي الذي أرادوه لفنِّ المسرح. على كلِّ حال، فقَدْ عادوا جميعهم حتمًا إلى الممثِّل بعد أن خاضوا غِمار مثل هذه التجارب. لقد انضمَّ الممثل إلى خبراتهم الطليعية وأصبح جزءًا لا يتجزَّأ، إن لم يكن العنصرَ الرئيسي في مسرح الفنان والمعادِل للوسائل التعبيرية البصرية الأخرى كافة.

ومن الأمور المميزة في هذا المجال، هذا التطور الذي مرَّ به شليمر. فبعد أن أعلن عن فكرة التمثال الفتى، وبعد أن قدَّم تجسيدًا عمليًّا له في «الباليه الثلاثي» وفي «غرفة الرموز»، وبعد أن طرَحَ بعد ذلك مفهومَ العرض البصري الخالي من الممثِّل، والمبني على حركتَي اللون والشكل؛ فكر شليمر إلى أيِّ مدًى يمكن لهذا النمط من العروض أن يظلَّ قادرًا على إثارة اهتمام المتفرج: «… إلى متى يمكن لهذا البناء القائم على الدوران والاهتزاز والضجيج أن يجذب الاهتمام بفضل ما يحتويه من تنوُّعٍ للشكل واللون والضوء؟» وعمومًا، «هل يمكن قبول مسرح ميكانيكي صرْف باعتباره نوعًا مستقلًّا Genere، وهل يمكن لهذا المسرح أن يعمل — يومًا ما في المستقبل — في غياب العنصر البشري؟»١٨

بعد أن طرح شليمر هذه الأسئلة، انطلق في بحوثه المسرحية التالية (التي أجراها بعد انتقال الباوهاوس في عام ١٩٢٥م إلى ديساو، حيث تمَّ بناء معهد الباوهاوس ومسرحه، والذي وضع تصميمه ف. جروبيوس) استنادًا إلى أن الممثل لا بد أن يكون هو العنصر الأساسي لبناء المسرحية، حتى لو كان صانعها فنانًا. فالممثل يستطيع أن يتآلف مع التماثيل الفنية بأشكالها كافة، وحتى مع تلك التماثيل التي تفوقه حجمًا. وقد جرَت تجاربُ شبيهة في الباوهاوس، سواءٌ على يد شليمر أو على يد فنانين آخرين.

وهنا، في ديساو، شرع شليمر في بحث مشكلة «الإنسان والمكان»، وقد ميَّز شليمر بين مدخلَين للتعامل مع هذه المشكلة؛ الأول: وكان بالنسبة إليه حلًّا غير مقبول تمثَّل في تلاؤم المكان التجريدي مع الإنسان الطبيعي، وهنا يقبل المكان — بفضل هذا التلاؤم — أشكالَ الواقع المتخيل (أي يصبح ديكورًا لمكانٍ واقعي محدد للحدث). والثاني: عندما يحدث العكس، فيتلاءم الإنسان الطبيعي مع المكان التجريدي ويتعايش هذا الإنسان معه وفقًا لقوانينه العامة. وقد أصبحت دراسة قوانين تلاؤم الإنسان مع المكان التجريدي هي المهمة الرئيسية التي قام على إدارتها شليمر في الورشة المسرحية للباوهاوس.

وقد انطلق شليمر هنا من أنَّ الإنسان ذو طبيعة ثنائية. فهو من جانبٍ، يعدُّ بناءً جسديًّا محكمًا بطريقةٍ محددة، تخضع حركاته وإيماءاته ومرونته لحساباتٍ رياضية، تنفذ جميعها بشكلٍ عقلاني مفروض عليه على نحوٍ ميكانيكي. وهو من جانبٍ آخر، نظامٌ عضوي يخضع سلوكه لحالته العاطفية الداخلية، ولمعاناته وانفعالاته. وقد رسم شليمر خطتَين للعلاقة بين الإنسان والمكان التجريدي. إحداهما تتناول الجانب الأول من هذه الثنائية Dualism، قدَّم المكان فيها باعتباره واقعًا موضوعيًّا، يقف الإنسان بهيئته في القلب منه، وهذه الهيئة هي «معيار الأشياء كلها» والنموذج Model بالنسبة إلى المكان. وهي مدرجة في شبكة خطوط القوة المرسومة على هيئة مسطحات — المسطحات الستة لمكعب الفضاء المسرحي وحجمه. يقف الإنسان تحت «إشعاع» خطوط القوة، يدركها ويخضع لها. بهذه الطريقة أدرك شليمر قوانين تأثير المكان على الممثل، تلك القوانين التي درسها فيما بعد تطبيقًا في سلسلة «رقصات الباوهاوس» التعليمية، وعلى رأسها «رقصة المكان».

وفي الوقت نفسه، اهتم شليمر بالعلاقة بين الإنسان والمكان النابعة من الجانب الثاني للثنائية، فوضع خطةً أخرى لا تسير فيها خطوط القوى بشكلٍ مستقيم، وإنما تسير متعرِّجة في سلاسةٍ منطلقة من الإنسان، من رأسه ويدَيه وكتفَيه، من قلبه وصدره وأنفه متفرِّقة إلى الجوانب كافة، حتى تستولي على المكان بكامله. الإنسان هنا يمثِّل «الناقل»، في حين يمثِّل المكانُ الوسط التجريدي، الذي يدرك الدوافع النفسية، والذي يتشكَّل تحت تأثير هذه الدوافع. وقد عُرضت هذه التنويعة أيضًا في إحدى رقصات الباوهاوس التي أخرجها شليمر.

وبعد أن حدَّد شليمر الشكلَين الرئيسَين لعلاقة الإنسان بالمكان؛ راح يبحث في العناصر المسرحية الأخرى الوثيقة الصلة بهذَين الشكلَين، كل على حِدة، باعتبارها عناصرَ فنية في المسرحية. على سبيل المثال: الستارة، والحائط. كان شليمر يرى أن ثمَّة شيئًا مشترَكًا بينهما، فكلاهما يحجب مكانًا ما خلفه، الستارة تحجب خشبة المسرح، والحائط (المقام على خشبة المسرح) يحجب الفضاء العميق غير المرئي، ومن هذا الفضاء «تولد الطرقات والممرَّات، وكذلك التوتر الذي ينتقل عبْر هذا الفضاء بامتداده وأمامه».١٩
وعلى سطحِ حائطٍ نظيف محايد يظهر ظِل الإنسان، وهذا السطح مؤهَّل لأنْ يتلقَّى الضوء في درجاته كافة، ويمكن إسقاط أيِّ نوع من الصور عليه، وأي بصيص من الضوء، كما أنه يتحوَّل إلى مِرآةٍ عاكسة. وأخيرًا، يمكننا «بفضل الحائط أن نتلقَّى على سطحه أصغرَ تكويناتٍ مكانية داخل الفضاء المسرحي الكبير».٢٠

لقد رأى شليمر إمكاناتٍ كبيرةً في حركة الستارة، في بُطئها أو اندفاعها، في حركتها على نحوٍ مهيب أو في رَفْعها على دفعاتٍ حادَّة.

أما بالنسبة إلى خشبة المسرح، كما هي، فقَدْ رآها شليمر شديدةَ الأهمية بفراغها البدائي. ومن أجْل إظهار هندسة الخشبة اقترح تخطيط مَحاورها طولًا وعرضًا، الأقطار والدائرة، باعتبارهما القوى الموجَّهة لحركة الممثل على المسرح. ثم حوَّل الخطوط المرسومة على الخشبة إلى خطوطٍ من السلك تمتدُّ بطول الفضاء المسرحي، بين أركانه وعبْر أقطاره، من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى.

وهكذا جعَلَ شليمر الأمر مرئيًّا وواضحًا أمام الجمهور، ومن ثَم أصبح تأثير خطوط السير الرئيسية للممثل، تبعًا للوضع الذي يشغله أو للجزء الذي يقف فيه من المسرح، عُرضةً للاختبار المعملي. «وفي هذه اللحظة التي يصبح فيها الشكل الإنساني جزءًا من المسرح، يتحوَّل إلى كائنٍ (مسحور بالمكان)». بالإضافة إلى هذا، أبرَزَ شليمر الأهميةَ الكبيرة للشخصية الإنسانية عند ظهورها على خشبة المسرح. إنَّ ظهورها يأتي بمثابة حدَثٍ كامل؛ إذْ إنَّ الإنسان — بالنسبة إلى الفنان — «هو في جوهر الأمر، عنصرٌ مكاني تشكيلي، وهو شكل ولون، وهو عناصر أخرى كثيرة لا نهائية».٢١

أما العناصر الأخرى المرتبطة بهذا العنصر المكاني التشكيلي: الملبس، القناع، الكماليات؛ فمن الضروري أن تكون لها أهميتها في سياق الأحداث.

كان شليمر يرى أن الدور الرئيسي للملابس والأقنعة يتمثل في إعطاء الممثل شكلًا فنيًّا بحيث يدعم صورة الشخصية ليصِلَ بها إلى النمطية Type، ثم تُضفى عليها ملامح غير شخصية، تتخطى فرديتها وتجعلها تتسم بالعمومية. واعتبر شليمر أنَّ أزياء شخصيات الكوميديا ديلارتي الإيطالية: بييرو، أرلكين، كولومبين؛ هي أنسب أنواع الأزياء في تاريخ المسرح الأوروبي التي جسَّدت الروح الحقيقية للمسرح، وأكثرها مثاليةً بالنسبة إلى جسدِ الممثل المؤدي للدور. وفي سياق حديثه عن الأقنعة، يتذكر شليمر التقاليد المسرحية الشرقية، وكذلك الإغريقية، ومن ناحية أخرى، الفولكلورية وكرنفالات الأسواق. وعندما راح يعدُّ نماذج الشكل الفني للإنسان بطريقته الخاصة؛ فقَدْ مثَّلت الملابس والأقنعة بالنسبة إليه عناصرَ راسخة لهذا النموذج باعتبارها جزءًا لا يتجزَّأ منه.

وقد قدَّم شليمر أربعةً من هذه النماذج التي انعكستْ من خلالها جوانب مفهومه المسرحي كافة. انطبق النموذجان الأوَّلان منها على مفهوم العلاقة بين الإنسان والمكان، والذي تحدثنا عنه آنفًا. وفي الوقت نفسه، إذا كان المكان هو واقعًا موضوعيًّا يدخل الإنسان إليه، حيث تفرض عليه أشكالٌ مثلثة خشنة؛ إذ يقوم الفنان بإلباس الممثل، من قمة رأسه إلى أخمص قدَمه، أشكالًا مثلثة محوِّلًا إيَّاه إلى عمارةٍ متحرِّكة مماثلة لعمارة الفضاء المسرحي. وعلى الجانب المقابل، عندما يتمُّ فهْم المكان باعتباره وسطًا له طبيعة ذاتية، أي عندما يكون مشتقًّا من الإنسان ومشكَّلًا باعتباره نتيجةَ تأثير الانفعالات النفسية له؛ هنا تصمَّم الأزياء انطلاقًا من القوانين الوظيفية لجسم الإنسان ومن الأشكال الأولية المكوِّنة له: الرأس بيضاوية، البدن أشبه بآنيةِ الزهور (الفازة)، اليدان والقدمان على هيئة صولجان أو أنابيب أو هراوة، المفاصل تشبه الكُرة. هذا هو الموديل الذي كان يعني عند شليمر عروسةَ الماريونيت.

كان من المفترَض أن يجسَّد النموذج الثالث، خطوط حركة الجسد الإنساني، من خلال تجسيد الملابس وجعلها تتحرك في جزءٍ من الفراغ، كما لو كانت قد تجمدت على هيئة مخروطٍ وقمْعٍ وقطْعٍ ناقِصٍ. تُستكمل بقطع من القطن، تلفُّ التمثال الموجود بداخله الممثِّل، وهنا يُسفر الأمر عن أشياءَ تشبه كيانًا صناعيًّا: سلكًا، خصلة شَعر، لولبًا. هذه الأشكال من أشكال الملابس عرَضَها شليمر في الرقصة الحادية عشرة عن الجزء الثالث من «الباليه الثلاثي».

ثم يأتي النموذج الرابع في النهاية، والذي رأى فيه الفنان خلاصًا من المادية وتصويرًا «للأشكال الميتافيزيقية في التعبير، والتي ترمز إلى أعضاء الجسد الإنساني المختلفة: فكفُّ اليد المفتوح بالأصابع المتباعِدة تشبه شكلَ نجمة، وعلامة (اللانهاية) تتكوَّن من خلال وضْع اليدَين مغلقتَين على الصدر، الصليب يأتي من تقاطُع خطَّي العمود الفقري والكتف. الحجم المضاعَف للرأس، الجسد ذو الأطراف المتعددة. تقسيم الأشكال وضغطها».٢٢
وإذا كان «الباليه الثلاثي» قد سبق إعداد هذه النماذج الأربعة؛ فإن الملابس في «رقصات الباوهاوس» كانت — على العكس من ذلك — تطويرًا لهذه النماذج في ظروف التجارب العملية المسرحية الجديدة التي جرَت على خشبة مسرح مدينة ديساو. هنا نجَحَ شليمر في الوصول إلى شكلٍ عام ومعياري Standard، فألبَسَ تماثيل ثلاثةِ ممثلين (كان هو نفسه أحَدَهم) سراويل منتفِخة حمراء وصفراء وزرقاء وأقنعة من لدائنَ ورَقيَّة Papier Mâché. ووضع في أيديها كمالياتٍ مختلفة: هروات، صولجانات، زانات، وكُراتٍ ذاتَ أقطارٍ متنوعة. وقد بحَثَ شليمر إمكانات مرونة هذه الأشياء وإيماءاتها وحركاتها وما تثيره في الممثلين. وقد عرَضَ على الممثلين اللعب بالعجلات والأشكال التكعيبية الملونة، التي راحوا يدفعونها ويديرونها وينقلونها ويتقاذفونها ثم يوقفونها في هذا الوضع أو ذاك مع عناصر الأثاث: الأرائك، والمقاعد، والكراسي الهزازة. والشخصية الرابعة هي «البهلوان الموسيقي» (وقام بدوره أ. فاينينجر)، وهو أحد أكثر شخصيات مسرح شليمر جاذبيةً وحيوية، يرتدي قناعًا له أنفٌ على هيئة الكوز، وعينان واسعتان محملِقتان، وشَعر أجعد من الألياف الزجاجية معلَّقة به كُرات من الصُّوف أو الحرير بألوانٍ عدَّة؛ «مِظلَّة» من الصنانير ليس لها غطاء، سروال منتفِخ من قماشٍ غليظ. يلتصق بجسده من جوانبه كافة آلاتٌ موسيقية مختلفة: على الصدر أوكورديون، على الذراع الأيمن إكسليفون، وعلى الأيسر ساكسفون لعبة، على إحدى الساقَين كمان، وعلى الساق الأخرى طبلة.

وهكذا، إذا تصورنا التجارب المسرحية التي نفَّذها شليمر في مسرح الباوهاوس في ديساو في الفترة من ١٩٢٥م إلى ١٩٢٩م إجمالًا، فسوف تبدو على النحو التالي، وكما وصَفَها الفنان نفسه:

«نبدأ بمعرفة ألف باء المسرح، ندرس ونتعلم كيف نطبِّق العناصر الأولية؛ هنا ظهرت دائرة المهام المطروحة … وُلد النظام وتشكَّل مع القوانين والنظرية استنادًا إلى الأساس العملي للتجارب والارتجالات الحيَّة، الإنسان والمكان يتمُّ التعامل معهما باعتبارهما مكوناتٍ قطبية Polar Components لكلِّ ما يحدُث على خشبة المسرح. سيادة المسطحات والمجسمات على المكان تؤدي إلى تثبيت هندسة الهواء والأرض، وإلى تقسيم المكان إلى أشكالٍ مسطَّحة وأخرى مجسَّمة. فوق الأسطح والأشياء — أدوات المسرح، الستارة، القاعة التي يجلس فيها الجمهور — يتراقص الضوء واللون؛ الشفافية وإسقاط الصور على الشاشة. أما الإنسان فوجوده يمثِّل ظاهرة، إنه كيانٌ مدهش يظهر على خشبة المسرح، تكتسب إيماءاته وخطواته وخطوط حركته على المسرح أهميةً كبرى، واقعي من ناحية الجوهر، باعتباره — من جانبٍ — كيانًا لحمًا ودمًا، فردًا يحسُّ ويفكر، وباعتباره – من جانبٍ آخر – آلةً ميكانيكية، مقيدة بأبعادٍ محدَّدة، يتحرك وفقًا للقوانين التي يفرضها عليه بناؤه المكوَّن من العِظام والمفاصل. من هنا الطبيعة الثنائية لحركاته المتباينة في تأثيراتها المادية الجمبازية، وتأثيراتها الروحانية الدرامية.»

إنَّ المقاييس والقوانين المتكاملة داخل المكان والتي يخضعها الممثل لصالحه، تمتزج بمقاييس وقوانين المكان.

وبعد ذلك، فإن تغيير النموذج البشري، والتدريب على التوازن ومزجه مع الوسائل البصرية والمادية والوقوف في مواجهة النموذج الفردي وخلْق تخصصاتٍ جديدة مبنية على هذه الأُسس إنما يتحقَّق عن طريق عالَم الأزياء والملابس والأقنعة متعددة الأشكال.

التجربة تسبق النظرية دائمًا. إنها تقدِّم وتعرض المشاهد المسرحية البسيطة، تقدِّم الرقص والتمثيل، على سبيل المثال: «الرقص في المكان»: المشي، الخطو، القفز، كل هذا في مكانٍ مقسَّم بصرامة. «رقص الأشكال»: أي الرقص بمصاحبة أدوات المسرح؛ العصا، الزانة، الصولجان. «الرقص الإيمائي»: السير، الوقوف، الرقاد، الجلوس، الإيماء، الحديث الصامت؛ والصراع باستخدام أشياء تتصادم في الفضاء. «الرقص بالعصي»: هو الرقص مع تثبيت الزانات بالأقدام والأيدي. «رقص الأطواق»، و«رقص العرائس»: باستخدام أطواق الأطفال الخشبية من مختلف المقاييس. «لعبة الإنشائي»: باستخدام المكعبات المختلفة الألوان. «رقصة الكواليس»: الرسم الدرامي للحوائط والممرات والمنعطفات. «الرقص الزجاجي»، و«الرقص المعدني»: ينبع من الرغبة في استخدام المعدن وما ينتج منه من أفكار راقصة. «الرقص النسوي»: ويؤديه رجال يرتدون ملابس وأقنعة مبالغًا فيها. «البهلوان الموسيقي»: ويهدف إلى رسم الحدود بين ما هو كوميدي وما هو جروتسكي. «المجتمع ذو الأقنعة»: ويمثِّل اجتماعًا ما لا أهمية له لجوقةٍ كنسية من مملكة الظل تغني على صوت رنين الزجاج وقرع الطبول وهَلُمَّ جَرًّا.

هنا يطرح شليمر على نفسه السؤال نفسه الذي يبدو أن الجمهور والمعاصرين له قد طرحوه عند مشاهدتهم لتجاربه ذات الطابع البالغ الشكلانية؛ «ألَا يعتبر مثل هذا العمل منفصلًا عن الحياة، شديد الخصوصية، نحسبه خطأ نشاطًا فكريًّا؟ تُرى ما جدواه للمسرح، المسرح الرسمي، الذي يصارع في كل مكان من أجل وجوده الروحي والمادي؟ ويقدِّم شليمر الإجابة التي من الممكن أن تتفق مع تجارب مسرحية أخرى كثيرة مشابهة، قام بها الفنانون الطليعيون في الثلث الأول من القرن العشرين: «في زمن الركود، عندما يأخذ الجسد في استنفاد قوته، تصبح الحاجة ماسَّة إلى دوافعَ جديدة، ويصبح التوجُّه ناحية العلاقات السببية أمرًا ناجحًا، وكذلك التنظيف الجذري وإعادة تنظيم وجرد مسرحٍ أصبح يعاني الفوضى، وإذا كان الناس في مختلف مناحي مسرح الحياة الكبير يهذِّبون الأشياء ويقلِّمون الزهور وينظفون الأماكن لكي تعبِّر عن الإنسان الذي يعيش فيها؛ فالأحرى أن يكون هذا دافعًا لنا لأنْ نفعل الشيء نفسه في مجالات المسرح؛ في الكلمة والصوت واللغة والموسيقى، كي نتآلف في مكانٍ جديد ونتَّحد في قوى جديدة من أجل واقعٍ جديد.»٢٣

(٥) كاندينسكي: «صورٌ من المعرض»

يعدُّ هذا العمل هو المؤلَّف المسرحي الوحيد، الذي نجح المنظر الأول لمسرح الفنان في تحقيقه، وقد جرى عرضه في عام ١٩٢٨م على مسرحِ فريد ريختياتر في ديساو.

وقد صمَّم كاندينسكي لكلِّ مشهد من المشاهد الستة عشر تكوينًا تجريديًّا متأثرًا بالموسيقى، ومعبِّرًا عن نظام البناء الإيقاعي لها ولتقنياتها. وقد بنيت هذه التكوينات من خلال المزج بين الأشكال الهندسية (سواء على نحو رمزي-علاماتي، أو برسومٍ يشبه كلٌّ منها هذا أو ذاك من الرسوم الأصلية Prototype) وبين الألوان المحلية والألوان التي تُضفيها الإضاءة المسرحية. وفي مشهدَين فقط («اليهوديان: الغني والفقير»، و«سوق ليموج»)٢٤ أطلق كاندينسكي إلى خشبة المسرح الراقصين، الذين لعبوا دور عرائسَ دبَّت فيها الحياة. أما في بقية المَشاهد، فقَدْ تمَّ التعبير عن الموسيقى بوسائل الفنون الجميلة. لقد بسط الفنان أمام المشاهدين «صورًا من المعرض» على نحوٍ تجريدي، صورة في إثر صورة، بعد أن جسَّدها بحجم الفضاء المسرحي من خلال حركة اللون والشكل والإضاءة. وقد حدَثَ ذلك على النحو التالي:
تقوم صورة «القزم»٢٥ على التناقض الحادِّ بين إيقاع الأسْوَد والأبيض في الخطوط الرأسية والأفقية التي تشكِّل الجانبَين الأيسر والأيمن من الفضاء المسرحي، والتي تشدِّد على عمق خطِّ الأفق، وتؤدي بنا إلى التكوين القابع في عمق تكوين السطح الأمامي للتكوين. وعلى الجزء الأيسر من مساحةٍ بيضاء صورةٌ لخطوطٍ أفقية ورأسية مرسومة على نحوٍ منقط ومتقطِّع تصطفُّ في قلبِ شكلٍ ضخم على هيئة قرصٍ أزرق يمثِّل «الشمس»، أسفلها إلى الركن الأيمن نجِدُ تركيباتٍ من مثلثات ومستطيلات وأشكالًا أخرى باللونين الأحمر والأزرق تخلق انطباعًا لصورةِ «بيتٍ روسي على الطراز القديم على هيئةِ بُرج»، وقد جسَّد الفنان الخصائصَ الرئيسية للتقنية الموسيقية لهذا المشهد: تتابُع الصوت الهادر وتلاشيه، القفزات المفاجئة والانكسارات.

أما في صورة «القلعة القديمة» فنجد إيقاعاتٍ وألحانًا أخرى. تنتصب باتِّساع الفضاء المسرحي الأسْوَد ثلاثةُ مستطيلاتٍ تتوسَّط المسرح، وفي لحظةٍ ما تُضاء هذه المستطيلات البيضاء، تزداد قوةُ الضوء ببطءٍ كأنها «ألحان» عاطفيةٌ رخيمة. يضاء المستطيل الأيسر أولًا باللون الأحمر، ثم يليه الأيمن باللون الأخضر. وفي ليونة يكمِّل كلٌّ منهما الآخَر مكونَين خلفيةً متناغمة من اللونين، ثم يظهر أمامها تمثالان تجريديان يمثِّلان شخصياتٍ نحتيةً من مسرح الفنان. يسقط شعاعٌ من الضوء على كلِّ تمثال بشكلٍ منفرد، ويصوِّر كلٌّ منهما على نحوٍ هندسي عناصرَ «منظرٍ طبيعي عاطفي»، كما في رسوم الأطفال، أحدهما يُشبه شجرةَ الشوح، مكوَّنة من مثلثات صفراء تصغر في الحجم كلما صعدنا إلى أعلى، والآخَر تمثالٌ مائل يمثِّل «برج حصن» ذا سلالمَ صاعدةٍ حتى قمَّته. وبين التمثالَين «فِطر» عشِّ الغراب ذو قبَّعاتٍ خمس مختلفة الألوان خيالية، مرصوصة بعضها فوق بعض بشكلٍ غير طبيعي (الصُّغرى في الأسفل وتعلوها الأكبر). يختفي التمثالان بنهاية الصورة. وكما في بداية المشهد، تُضاء المستطيلات الثلاثة الرأسية المنتصِبة في وسط الفضاء المسرحي، ثم تختفي في الظلام الدامس بعد بُرهةٍ من الزمن.

في التكوين الذي صمِّم لصورةِ «عامل الماشية» يقدَّم الموضوع الموسيقي للحركة من خلال موتيفات الدائرة-«القرص» بمقاطعها السوداء والبيضاء على نحوٍ متتالٍ. أمَّا اللَّحن الشجيُّ الرتيب للحركة فيعبَّر عنه بواسطة ثلاثيةِ خطوطٍ بيضاء متموِّجة تسير أفقيًّا دون بدايةٍ أو نهاية، على أرضيةٍ سوداء، على «طريقِ» مثلثٍ قائم الزاوية ممتدٍّ. كلُّ الأشياء يسيطر عليها «لحن باص» ثقيلٌ صادَرَ الألوانَ الزاهية للتماثيل الهندسية المتتابعة، تمثالًا وراءَ الآخَر، من اليسار إلى اليمين، على خلفيةِ لونٍ بُنِّي كثيفٍ جميل؛ مثلث وردي رأسي قائم الزاوية، يليه مثلثٌ آخَر بلونٍ أصفر أفقي وخلفه مربَّع أحمر، ثم مقصٌّ أصفر مثبَّت به مربَّع صغيرٌ أزرق، ثم يلحق بهذا التكوين مستطيلٌ ضيِّق برتقالي رأسي.

في صورة «سوق ليموج» كانت الخلفية الفنية للراقص خريطةً ضخمة بسعة المسرح، انتثرت على سطحها بُقعتان ملوَّنتان تمثِّلان لحنَين موسيقِيَّين Accord. «السراديب»، مرةً أخرى، تكوينٌ تجريدي عادي من كُتلٍ من القِباب تكوِّن عقودًا Arch تمثِّل إيقاعاتٍ كئيبةً، ثقيلةَ الوطء، تثير الإحساس بالشجن، تدوِّي على خلفيةِ وسطٍ، لونه أخضر فاتح رتيب، يبدو فيه «برجٌ» مترنِّح، موحِل، يبدو لا نهاية له، يمتدُّ عبْر فضاء المسرح كله. وفي الصورة الأخيرة، «بوابة الأبطال»، يدور المشهد على خلفيةِ تكوينٍ تجريدي باللون الأحمر من موتيفاتٍ تأويلية لعمارة مدينة كييف؛ مجموعة من التماثيل من تصميم الفنان. هذه التماثيل تصطفُّ كأنها في حالةِ لعبٍ طفولي، وهي مصمَّمة من عددٍ من المثلثات والدوائر وأنصاف الدوائر والأقواس والعصي بألوانٍ مختلفة، وتجسِّد جميعها موضوعَ الفرحة بالعيد.

بعد أن بدأ كاندينسكي في عام ۱۹۱٢م بالتفكير النظري في مسرح الفنان باعتباره شكلًا خاصًّا من أشكال الإبداع المسرحي، استطاع أن يُنهي بمسرحيته هذه الجولة الأُولى للبحوث في هذا الاتجاه الذي سار فيه كلٌّ من الفنانين الرُّوس والألمان. ولم تُستكمل هذه البحوث مرةً أخرى إلا بعد مرور ثلاثة عقود في ألمانيا، وما يزيد على نصف قرن في روسيا ما بعد السوفيتية.

١  من بين أفكاره أيضًا، كانت مسرحية «الصوت الأصفر» لكاندينسكي، وهو ما يؤكِّد اهتمام شراير بهذا الاتجاه في البحوث المسرحية.
٢  الدادية: مذهبٌ في الفن والأدب، انتشر في سويسرا وفرنسا نحو ١٩١٦–١٩٢٠م، وهو يتميز بتأكيد حرية الشكل تخلصًا من القيود التقليدية. (المترجم)
٣  L. Schreyer: Expressionistisches Theater. Aus Meinen Erinnerungen. Hamburg, 1948. S. 51-52.
٤  كتبت الباحثة ز. بيشنوفسكايا، المتخصِّصة في إبداع هذا الفنان تقول إنَّ هذه الرقصات الثلاث «قد قام بأدائها إ. خيتسل وأ. بورجر»، وقد ارتديا ملابس جروتسكية خيالية بناءً على الرسوم التخطيطية التي وضَعَها شليمر، وقام بتنفيذها أخوه كارل. فيما بعد تُورِد ز. بيشنوفسكايا حكايةَ هذا العمل كما رواها شليمر نفسه: «تلتصق الملابس ونتجمع وتتقوى بعضها ببعض، في أشكالٍ من الورق الملوَّن محشوَّة بورقِ الصحف وتكون النتيجة ظهور شيءٍ ما غير قابل للارتفاع.» (الاستشهاد من Oskar Schlemmer. Das Triadische Ballett. Akademie der Künste. Documentation 5. Berlin: Albert Hentrich. Druck 1977. S. 31) وقد فرضت بقوة قوانينها على الراقصين الذين يشبهون عرائس غير عادية الشكل، تتحرك ببطء على موسيقى الموسيقار الإيطالي ماركو إنريكو بوصي، المعاصِر لشليمر، ز. بيشنوفسكايا؛ «ثلاثية» أوسكار شليمر في سياق الفن الطليعي. الطليعة ١٩١٠–۱۹۲۰م. تفاعل الفنون، موسكو، ۱۹۹۸م، ص۲۲۲.
٥  شارك شليمر في إخراج عدد من المسرحيات، والعمل في الوقت نفسه في إعدادها، باعتباره أيضًا مصممًا للديكور، أي إنه وضَعَ التصميمات بناءً على طلبات مخرِجي هذه المسرحيات في المسارح العادية: مسارح الأوبرا والباليه والدراما (نحو ۲۰ عرضًا في الفترة من عام ١٩٢١م إلى ١٩٣٠م) وقد سار هذا النشاط على نحوٍ موازٍ مع التجارب المسرحية في إطار مدرسة الباوهاوس.
٦  Oskar Schlemmer: Bühnenbild und Bühnenelemente (1931). Die Maler und das Theater ì S. 526.
٧  Oskar Schlemmer: Eléntiques. Théâtre en Europe. 1986. No. 11. P. 73.
٨  الهبليت: جندي إغريقي مدجَّج بالسلاح. (المترجم)
٩  «كراميلا»: «دراجيه»، «برالينيه»: أسماء حلوى. (المترجم)
١٠  Hydrocephalus : استسقاء الرأي. (المترجم)
١١  Oskar Schlemmer/László Moholy-Nagy/Farkas Molnár: The Theater of the Bauhaus. Middletown. Connecticut.
١٢  المرجع السابق، ص٤٢.
١٣  In.: The Theater of the Bauhaus ì P. 28.
١٤  المرجع السابق، ص۲۹.
١٥  كما نذكر كان اشتراك الإنسان في المسرحية هو النموذج المماثل، وكذلك ل. ليسيتسكي عندما عَملَ في مشروع إخراج «الانتصار على الشمس».
١٦  László Moholy-Nagy: Das kommende Theater: Theater der Totalität. Die Maler und das Theater ì S. 515.
١٧  L. Moholy-Nagy: Theater. Circus. Variety. The Theater of the Bauhaus ì P. 54.
١٨  Oskar Schlemmer. Eléntiques ì P. 73.
١٩  أوسكار شليمر: المرجع السابق، ص٧٤.
٢٠  المرجع السابق، ص٧٤.
٢١  المرجع السابق، ص٧٤.
٢٢  In.: The Theater of the Bauhaus ì P. 27.
٢٣  Oskar Schlemmer: Bühnenbild und Bühnenelemente ì S. 256.
٢٤  ليموج: مدينة فرنسية. (المترجم)
٢٥  القزم: مخلوقٌ خرافي يقوم على حماية كنوز الأرض. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥