في ألمانيا
إذا كان مطلع القرن العشرين قد شهد مولدَ التجارب السابقة على يد فنَّاني الطليعة التشكيلية، فقد سارت حركة مسرح الفنان في ألمانيا في النصف الثاني من القرن من السينوجرافيا أولًا لتنتقل بعد ذلك إلى النشاط الحركي الذي دخَلَ أيضًا ليصبح في مجال الاهتمامات الإبداعية لأبطال هذا الفن من الألمان: أ. فراير، وب. شومان. إنَّ الإعداد الذي قام به فنَّانو السينوجرافيا للوسائل التعبيرية البصرية، التي اكتسبت في بنية العمل المسرحي نفْسَ أهمية الشخصيات، كما أصبح لهذه الوسائل أثرها المستقل، قد جرَت استنادًا إلى مبدأ بريخت بشأن «تفكيك العناصر». وهكذا اتَّجه نحو مسرح الفنان أكبرُ أساتذة السينوجرافيا الألمانية: ف. مينكس، خ. زاجرت، أ. مانتيه، ك. إ. خيرمان، خ. فيرنيكي، إ. فوندر، أ. شليف، ف. جيونيج، د. خاكير، إ. شيوتس، م. أ. ماريللي؛ الذين طبَّقوا هذا المبدأ مع تفسيرهم له تفسيراتٍ مختلفةً، واستكماله، والإضافة إليه إضافاتٍ جوهريةً. وكانت النتيجة أنهم أحسُّوا جميعًا، في لحظةٍ ما من لحظات إبداعهم، بالحاجة إلى الخروج من حِرفتهم والعمل بتأليف مسرحياتٍ كاملة. وهكذا انتقلوا من حرفة السينوجرافيا إلى الإخراج؛ البعض (خيرمان، فيرنيكي، شليف، جيونيج، خاكير، شيوتس، ماريللي) الْتزموا جمالياتِ المسرح الدرامي والموسيقي الذي كانت ملامحه قد تشكَّلت، ونجحوا في إثراء الثقافة البصرية لهذا المسرح. والبعض الآخَر (مينكس، زاجرت، مانتيه) حاوَلَ من خلال الإخراج أن يقدِّم نوعيةً جمالية مختلفة في أعمال مسرح الفنان. على أيِّ نحوٍ جرى تطوُّر كلٍّ من هؤلاء الفنانين من السينوجرافيا إلى مسرح الفنان؟ سوف نبدأ حديثنا بالذين اقتربوا أكثر من غيرهم من جماليات مسرح الفنان.
(١) فيلفريد مينكس
إنَّ إبداع هذا الفنان الذي يعدُّ ممثلًا للمسرح الطليعي الألماني (ألمانيا الغربية) «أسلوب بريمن» في الستينيات، وهو المسرح الأكثر قربًا من مفهوم بريخت للسينوجرافيا، سواءٌ من ناحية المضمون أو من ناحية الأساليب والوسائل التعبيرية المستخدَمة. وقد الْتزم مينكس بمبدأ «تفكيك العناصر» بكلِّ ثقةٍ وحماسة، مقترِحًا على المخرِجين استخدامَ السينوجرافيا باعتبارها أسلوبًا بصريًّا لديه القدرة على التأثير بشكلٍ منفرد، وبهذه الطريقة يمكن للسينوجرافيا أن تعمل على كشْفِ الفكرة العامة للمسرحية؛ قدَّم مينكس هذا الأسلوب البصري باستخدام الأساليب والوسائل التعبيرية في شكلِ تكوينات تعبيرية من خلال إسقاطات أو صور فوتوغرافية يمكن تصوُّرها باعتبارها التطوير اللاحق للأساليب والوسائل التعبيرية للعروض المسرحية، التي كتبها بريخت وأخرجها تيير (رسوم تعبِّر عن موضوع المسرحية تُقدَّم إلى المشاهد باعتبارها «ملاحظاتٍ» بصريةً مستقلَّة للفنان)، وكذلك الخبرة المبكِّرة «للمسرح السياسي» عند بيسكاتور.
كانت المعالجة الأُولى من سلسلة المعالجات السينوجرافية التي قدَّمها مينكس، والمبنية على الانطباع المنفصِل لمثل هذه الأنواع من التكوينات، هي المعالجة التي قدَّمها في مسرحية «البطل هنري» لوليم شكسبير (عام ١٩٦٤م)، عندما نظَّم معرضًا لوجوهِ خمسة عشر ملِكًا من ملوك إنجلترا ينتشرون بعرض المسرح وارتفاعه، وكانوا موجودين في تاريخ إنجلترا بدءًا من القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وهم هنا قد تحوَّلوا إلى مشارِكين صامتين على امتداد أحداث المسرحية في فترةٍ زمنية تشمل العصر الشكسبيري كله، مُكسِبًا هذا الموضوع حيويةً على امتداد جميع الأزمان. وبعد مرور أربعة أعوام، وفي عام ١٩٦٨م، عندما كان مينكس يعمل (لا بصفته مصمِّمًا للسينوجرافيا فقط، وإنما بصفته مخرجًا أيضًا) في إخراج العرض الاجتماعي «مهداة إلى فريدريخ الأكبر» نجِد المشهد يتطور من جديد أمام الشاشة. الآن فقط، تظهر عليها صورٌ لشخصيات من الحياة السياسية المعاصِرة (على سبيل المثال صورة ضخمة لماو تسي تونج) إلى جانب لقطات تسجيلية أخرى. ولم يفقد هذا الأسلوب أهميته بالنسبة إلى مينكس حتى في التسعينيات؛ فقد وضع في عام ١٩٩٤م مونتاجًا سياسيًّا يربط فيه بين المناظرات التليفزيونية السياسية وذكريات عن الهولوكوست النازي، وقد أنشأ في عمق المسرح «حائطًا للأيقونات» عليه خمسةٌ وعشرون وجهًا من أكثر الوجوه التي تظهر من حينٍ إلى آخَر على شاشات السينما الحديثة، يمكن أن نذكر منها مارجريت تاتشر، وهيلموت كول، وجون كينيدي. يُضاء «حائط الأيقونات» كليًّا وجزئيًّا، ثم يغطَّى بالستائر ليختفي بعد ذلك في الظلام. وفي النصف الثاني من المسرحية، تظهر في منتصف الحائط «غرفة غاز» تمتلئ كلُّ حوائطها الجانبية وأرضيتها وسقفها بالكامل بصفوفٍ من أرقام سداسية كان ضحايا الهولوكوست يحملونها. عرضٌ تليفزيوني لوجوهٍ لرجال المجتمع والسياسة، تتقاطع من وقتٍ إلى الآخَر مع «سطرٍ يمرُّ سريعًا» لمعلوماتٍ وتيترات؛ وفي أعلى نقطةٍ فوق «حائط الأيقونات»، هناك قناعٌ ينظر بشكلٍ طبيعي جدًّا وعلى نحوٍ ثابت إلى كلِّ شيء، متابعًا كلَّ ما يحدث؛ وفي أوقاتٍ محدَّدة، يحرِّك هذا القناع شفتَيه وينطلق في مونولوج، في الوقت الذي يرتفع فيه من أسفل الخشبة عمودٌ مضيء عليه الأرقام السداسية المشئُومة. وأمام «حائط الأيقونات» يتأرجح مونيتور معلَّقًا بشواية المسرح تظهر على شاشته «رءوس متحدِّثة» تظهر في مناظراتٍ تليفزيونية. شخصية سينوجرافية من نوعٍ آخَر تشارك في هذه المسرحية، وهي صليب يهبط ببطء محترقًا في النار.
كانت موضوعات التكوينات التعبيرية التي اقترحها مينكس في الستينيات، باعتبارها شخصياتٍ سينوجرافيةً ذات تأثيرٍ مُستقِلٍّ منفصِل، شديدةَ التنوع. ففي الصياغة المعاصرة التي أعدَّها المخرج ب. تساديك لمسرحية «قُطَّاع الطُّرق» لشيلر (١٩٦٦م)، أصبحت صورة الممثِّل الكوميدي ر. ليختتستان، التي كبرتْ بحجم المسرح، هي الشخصية السينوجرافية، وهي الصيغة الجمالية الإعلامية لأحد مؤسِّسي فن البوب آرت الأمريكي، والتي أكَّدت — بشكل صريح — الطابع الهزلي للعرض المقدَّم. أمَّا في مسرحية «حرب الزهرة القِرمزية والزهرة البيضاء» (١٩٦٧م)، فقَدْ تمثَّل العنصر السينوجرافي الرئيسي في إفريز رُسمت عليه تكويناتٌ بارزة موضوعها الحرب: جماجم، هياكل عظمية، أذرع، أسلحة قتل، تروس.
وقد صمَّم مينكس في عددٍ من المسرحيات تكويناتٍ من مصادرِ الضوء الحديثة. ففي مسرحية «ماكبث» (١٩٦٦م)، شكَّل مينكس تراكيب لأشكالٍ هندسية: دائرية، ومربعة، ومتقاطعة على هيئة صلبان، وتعرجات من أضواء حمراء وخضراء وصفراء. وقد استغلَّ مينكس فضاء المسرح في عمل مشهدٍ تمثيلي يؤديه ممثلون شبَّان، يرتدون الجينز وقمصانًا مفتوحةَ الأزرار وتنوراتٍ قصيرةً، أو وهُمْ متنكِّرون في عباءات الرهبان؛ وهُمْ يقومون باستخدام «الحوارات التشكيلية» (حسب تعبير مخرِج المسرحية ب. تساديك) موضوع مسرحية «دقة بدقة» لشكسبير (١٩٦٧م) بمصاحبةِ أنوار الزينة الجذَّابة بلمباتها الملوَّنة بالأحمر والأخضر والأزرق. وفي مسرحية «العاصفة» لشكسبير (١٩٦٩م)، يضع المخرِج قوسًا ضخمةً لقوسِ قُزح من الضوء النيوني الباهر فوق بروسبيرو الساحر ذَرِب اللسان. هذا النموذج المثالي للقبَّة السماوية التي صمَّمها مينكس؛ جسَّد — على نحوٍ رياضي دقيق — شكلًا يتَّسم بالانسجام والكمال، ذا علاقةٍ بشخصياتِ ثقافة عصر النهضة التي تمثِّلها هنا تماثيلُ رائعة، كلٌّ منها على حِدَة في الجانب الأيسر لمنظرٍ صحراوي لأعوادِ قصبٍ جافَّة، ورمالٍ تتناقض مع البياض الناصع لحائطٍ حديدي بارد بُرودَ الموت، يسدُّ الفضاء المسرحي في عمق الخشبة.
لا تندرج غالبية الأعمال التي أخرجها مينكس، والتي اتَّبع فيها مبدأ بريخت في «تفكيك العناصر»، مستخدِمًا أساليب الشخصيات السينوجرافية، لا تندرج ضمن مسرح الفنان (من وجهةِ نظرنا لجوهر هذا الشكل الخاص من الإبداع المسرحي). لقد أُخرجت هذه المسرحيات في إطارِ جماليات المسرح الدرامي العادي، مع أنها ازدادت ثراءً نتيجةً لاستخدام وسائل الثقافة البصرية، التي استطاع هذا الفنان الألماني وأستاذ السينوجرافيا أن يطوِّعها. وقد كانت تجربةُ إخراج مسرحيةِ «نقطة، نقطة، فاصلة، شَرطة» (١٩٨٨م)، والتي أُلِّفت — وفقًا لسيناريو خاص — لتكون من أعمال مسرح الفنان تحديدًا، كانت تجربةً شديدةَ الأهمية. وقد كانت هذه المسرحية هي العمل الثلاثين الذي أخرجه مينكس.
في هذا العرض البصري تمثَّلت الشخصيات في ممثِّلين أشبهَ بالعرائس، وتماثيل-مانيكانات مصنوعة من تفاصيلَ بالحجم الطبيعي، كانت تملأ ورشة الفنان وتقف أمام المشاهِدين بشكلٍ مصطنع. الممثلة التي تؤدي دورَ امرأةٍ عجوز، تجلس على كرسي هزَّاز وتغْزِل بيديها نسيجًا من التريكو، وتضع فوق وجهها قناعًا جامدًا يشبه وجه تمثال-مانيكان آخَر لعجوز تجلس بالقرب منها، في نافذةِ عرضٍ زجاجية، مرتديةً مِعطفًا، معتمرةً قبَّعة. وثلاث رجال يرتدون قبَّعات سوداء متشابِهة، ومعهم ثلاث حقائب من الشكل نفسه يمثِّلون مسافِرين يسيرون مبتعدين داخل عمق المسرح، ولكنْ برءوسٍ ملتفِتة على نحوٍ غير طبيعي باتجاه قاعة العرض. عاشقان ملتصقان كلٌّ منهما بالآخَر، عاريان تمامًا إلا من حذاءٍ في قدمَيها وحذاءٍ عالٍ في قدمَيه. وفي الرُّكن المقابل بدنٌ لرجلٍ «إغريقي» منتصِب من الحجر يمدُّ يدًا وحيدةً ناحيةَ رأسٍ مصبوبٍ من الحديد مثبَّت على دعامةٍ معدنية. وهنا في المكان نفسه، تقف سيارة «مرسيدس» حقيقية بداخلها عجوزٌ وامرأته يتجوَّلان عند مُقدَّم خشبة المسرح. مائدة منخفضة تشغل منتصف الخشبة، مغطَّاة بزجاجٍ لونه أحمر، تستخدم كقاعدةٍ وُضعت عليها ثلاثة تماثيل سيريالية: امرأة عارية في رداءٍ مفتوح، وقناع ذو عينَين مضيئتَين، وفارسان في صورة هيكلَين عظميَّين قد ألقي على «أكتافهما» — بشيء من قلة الاكتراث — معطفَين، يبتسمان وقد تلوَّن وجهاهما على طريقةِ مهرِّجي السيرك واكتسيا بمسحةٍ ماسونية. ومرةً أخرى يدخل في التكوين المسرحي روبوت ميكانيكي، وجهه عبارة عن شاشة تليفزيون، تتحرك أقدامه، التي تكاد لا تصل إلى الأرض، في هيئةِ «مَن يخطو»؛ وفتاة عارية رائعة الجمال منبطِحة على سطح ألواح من جذوع الأشجار وكأنَّها مفتَّتة إلى أجزاءٍ جُمعتْ داخل إطارٍ واحد (الرأس، الصدر البطن، الأقدام)؛ وجذع «رجل هندي» يطير فوق خشبة المسرح في وضعٍ أفقي؛ وأخيرًا نقْش كلاسيكي بارز على لوحةٍ «من المرمر» مرسومة بأسلوبٍ «تأثيري».
أصبحت كل هذه الشخصيات شخصياتٍ فاعلةً بفضل ظهور «وجوه» الممثِّلين على نحوٍ طبيعي وكأنها وجوهٌ حقيقية (العجوز، الرجال أصحاب الحقائب، العاشقان، العجوز وزوجته في السيارة، البدن الإغريقي، الفتاة على اللوح الخشبي) وفي شكلِ الأقنعة (التماثيل الثلاثة الموضوعة على المِنضدة) أو، أخيرًا، في شكل الشاشة التليفزيونية (الروبوت). كلُّ هذا خلَقَ انطباعًا «بحيويةِ» هذه الشخصيات واستحالة اندماج سكونية التماثيل الخيالية والهياكل الطبيعية والأعمال الممنتَجة ميكانيكيًّا مع الإيماءات الطبيعية، بالإضافة إلى النصوص الدادية التي يقوم الممثلون أنفُسُهم بنُطقها؛ فتعكسها وجوه التماثيل-المانيكانات.
(٢) خورست زاجرت
وعندما عمل زاجرت في عام ١٩٦٩م بصحبة بيسون في إخراج مسرحية «تورنادوت، أو مؤتمر المبررين»، لم يكن قد أصبح مجرَّدَ سينوجرافي فقط؛ وإنما مخرِج مشارك أيضًا. وقد انعكس هذا في قيامه أيضًا بإعداد بنيةِ الأداء الخاصة به، إلى جانب إعداده للهيئة البصرية-التشكيلية للمشهد المسرحي. وتقوم هذه البنية على براعة الحركة عند الممثلين في تعاملهم مع الستائر والأقمشة الملوَّنة، بحيث يمكن تحويل خشبة المسرح التي بناها زاجرت إلى مشهدٍ في قاعة العرش، هو مشهد اجتماع مؤتمر المبررين، وكذلك التحوُّل إلى أماكن أخرى في مَشاهدَ أخرى. كما أنه جعَلَ للملابس طابعًا تمثيليًّا أيضًا؛ حيث أصبحت الملابس المصنوعة من الحرير الأبيض أو الورق المغطَّى بنصوص مطبوعةٍ بالخط الأسود؛ مجهَّزةً لجميع أشكال الحركة مع الأيدي والجيوب والقلنسوات والمَرايل (المصنوعة على هيئة أدراجِ «دولابٍ» متنقِّل)، وكذلك مجهَّزة للحركة مع الأقنعة.
وفي المسرحية التالية، وهي مسرحية «دونيا روسيتا، أو لغة الزهور» من تأليف فردريكو جارسيا لوركا (۱۹۷۰م) عَملَ زاجرت فيها أيضًا مخرِجًا مشارِكًا، وإنْ كان دوره هنا كصانعٍ للتكوين البصري دورًا كبيرًا ومهمًّا بشكلٍ محدَّد، وقد أقام الفنان على الشُّرفة العلوية للفضاء المسرحي تكوينًا مُركَّبًا يناسب الموضوع الإسباني للمسرحية بعد أن خلَقَ من الستائر الخفيفة غرفةً مجازية توحي بالعالم الهشِّ المزركَش الذي تعيش فيه البطلة: سلسلة من قِمم الجبال، قطعة قماش مخطَّطة بدوائر، نوافذ على هيئة عيونٍ بشريَّة تطلُّ على قاعة العرض، رءوس سوداء لثيران موضوعة على أعمدة، عرائس تحمل مِظلَّات، سيدات وفُرسان في ملابسَ فاخرة، أزواج من الشخصيات في أحجامٍ صغيرة، باقات من زهورٍ قرمزية، نخلات من الريش باللونين الأبيض والأسود. في منتصف المسرح، المادونا وطفلها، مزيَّنة بالزهور والخرز والقلائد، وعلى طرْحَتِها وتاجِها كثيرٌ من صورٍ فوتوغرافية لمختلف الأشخاص. في هذا التكوين الموجود أعلى خشبة المسرح؛ يجري مشهدٌ آخَر موازٍ لهذا المشهد الدائر على خشبة المسرح؛ تختفي بعض عناصر التكوين لتظهر عناصرُ جديدة، منها المَلاك الوردي. في الفصل الأخير، يمتلئ التكوين العلوي بآذانٍ وشفاهٍ وحدقاتٍ تبدو كما لو كانت قد انفصلتْ عن الوجوه البشرية لتظهر على نحوٍ مبالَغٍ فيه؛ لتصبح عملاقة. تظهر على المسرح شخصياتٌ تؤدي أدوارها بعد أن حدَّد زاجرت أشكالها من خلال هيئة الملابس والأقنعة. فالمَلاك الوردي يظهر في صورة شُجيرةٍ ذات زهور حمراء ناصعة مكلَّلة بما يشبه الجمجمة. ويروح يعزف على آلةِ كمانٍ تطير في حديقة العمِّ الذي يُلبسه إكليلًا من الزهور، بعدما يختفي العم في عمق المسرح المظلِم وقد اكتسى وجهه بقناعِ الموت الأبيض. الرءوس التي تشبه الجماجم تحمل طابعًا نسويًّا وتحيط بحصانٍ أبيض. والنتيجة أنَّ المشهد المسرحي للموضوع الدرامي عند لوركا يكتسب — في كثيرٍ من جوانبه الجوهرية — طابعًا بصريًّا وتشكيليًّا صرفًا.
لقد دفع العمل في «دونيا روسيتا» زاجرت مباشرةً نحوَ إخراجِ مسرحيةٍ يمكن اعتبارها من أعمال مسرح الفنان بكلِّ معنى الكلمة. وقد جاءت مسرحية «الملك بامبا» للوبي دي فيجا لتكون هي هذا العمل. ولقد جرى افتتاح هذه المسرحية في عام ١٩٧١م على خشبة المسرح الألماني في برلين. وقد شكَّلت الرسومُ التخطيطية للمسرحية، وكذلك اللوحات والماكينات، إلى جانب الملابس والأقنعة والديكورات والأدوات المستخدَمة في المسرحية، شكَّلَت الأساسَ لمعرض زاجرت الذي أقيم في كوادرينالي براج – ١٩٧٩م، حيث حصل المعرض على الجائزة الكبرى المتمثِّلة في الميدالية الذهبية باعتباره مشروعًا فريدًا لعرضٍ مسرحي من طرازٍ خاص؛ هو مسرح الفنان.
كان زاجرت يصمِّم المشهد المسرحي باعتباره مشهدًا تمثيليًّا بالدرجة الأُولى، مستخدِمًا في ذلك الأقمشةَ بمختلف أشكالها: الحرير الأبيض، الخيش، التيل، المشمَّع الناعم، النسيج اللَّيِّن والهش، الخشِن والطري، الخالي من الألوان والملوَّن؛ مؤلِّفًا منها تكويناتٍ مفاجئةً ولكنَّها دائمًا أنيقة. كانت الستائر الخفيفة المتحركة، والمصنوعة من القماش، تكوِّن أشكالًا متناسِقة في المكان، مشكِّلة «عمارة» من القماش، تتلاعب بشكلٍ حر، متحوِّلة من شكلٍ إلى آخَر: كنيسة، قصر، مدينة نيميس التي دمرتها الحرب، «مضيق جبل طارق» وقد غطَّاه الزبَد الأبيض الناشئ عن اضطراب الموج والذي يأتي بحركةٍ تفتح المغاليق. وهي نفسها التي تشكِّل سماءً تهبط منها النجوم بواسطة الحبال، وأجراسًا تصلصل، وفي وسط السماء ثغرة يصعد نحوَها بامبا، ملك الفلاحين، بواسطة سُلَّم؛ ليتحول إلى مَلاك. ومن خلالها ينهمر مطرٌ من الحبوب الذهبية. يلتفُّ القماش ليصبح مستديرًا مكوِّنًا جِوالًا كبيرًا يختبئ فيه، ويتصارع بداخله، ثم تقفز من داخله عربةٌ بعد أن يتحوَّل الجِوال إلى قرنٍ كبير. وبواسطة أدوات وموادَّ متنوعةٍ يُعيد زاجرت تشكيلَ تماثيل المؤدِّين مضفيًا عليها هيئةَ كائناتٍ خيالية غير حقيقية. وإلى جانب الممثِّلين، تظهر حيواناتٌ محنَّطة ساخرة. على سبيل المثال عِجل، أو حمار أزرق، يحمل الملك بامبا. ثم إذا بهذا الحمار يلتهم القماشَ المرسوم عليه صورةُ المستقبل الزاهر، ليعود يُخرجه مرةً أخرى مكرمَشًا منشورًا على خشبة المسرح. بالإضافة إلى ذلك، كان زاجرت يرسم ويكوِّن أشكالًا من الصلصال، كما كان يعدُّ بنفسه أقنعةً مُخيفة، وأخرى مضحِكة من مختلف المواد الصلبة واللينة (بعضها صنعه ف. شتروب). كما كان زاجرت يجهِّز تفاصيلَ الأدوات المسرحية كافَّة؛ وأخيرًا، كان يصمِّم الأزياء والملابس الخاصة بالتمثيل أو الألعاب. وقد ساد هذا العمل مبدأُ التنوع في الأسلوب والنوع المميز للفولكلور والمسرح الشعبي على وجه الخصوص، وكانت هذه الأمور بالنسبة إلى زاجرت تتمُّ بشكلٍ حِرفي رفيع منسجِم وجمالي.
وفي كوادرينالي – ۷۹ عرض زاجرت مشروعًا آخَر لمسرحية «ميديا» ليوربيدوس. وقد وضَعَ زاجرت هذا المشروع في عام ١٩٧٧م، وقد عُرضت الديكورات المنفَّذة في هذا المعرض بالحجم الطبيعي. كان هناك بيتان: بيت ياسون، وبيت ميديا. «غرفتان»، هما معبدان من نوعٍ خاص تمَّ جمْعُهما ووضعهما بعد خياطتهما من أقمشة مختلفة، تمامًا كما حدَثَ في مسرحية «الملك بامبا» من الحرير، والتيل الخشِن المغزول في البيت، وقِطَع من الجوبلان والفرو والجِلد وشظايا من الزجاج والشاش والسيور. وبهذه الطريقة في التصميم، اتسمتْ هذه البيوت، التي تُشبه اللعب، بالارتجال وفقًا لمبدأ الأزياء الشعبية أو الألحفة المصنوعة من بقايا الأقمشة، كما تميَّزت بالانسجام والأناقة. وقد عبَّرت موتيفة الطيور عن الموضوع التراجيدي بصورةٍ بصرية. فقَدْ جلستْ هذه الطيور، كما لو كانت في أعشاشها، المبنية من فروع شجرةِ الشوح (شجرة عيد الميلاد) والوبر، في صناديق-جيوب أبواب بيت ياسون. وفي صناديق بيت ميديا، تقبع طيورٌ بيضاء وريشٌ وعِظام صغيرة، كُتبَ على إحداها تاريخ «٢١ يوليو ۱۹۷۱م» وتوقيع الفنان.
لم يتحقَّق مشروع «ميديا» على المسرح. وفي عام ١٩٨٤م فقط، نجح زاجرت في إخراج مسرحيةٍ لمسرح الفنان هي «برا-فاوست»، عُرضت في مسرح «برلينر إنسامبل». استطاع الفنان أن يُظهر فيها على نحوٍ واضح ما أعلَنَ عنه في أعماله السابقة من أستاذيةٍ في التفكير المسرحي، الذي تمثَّل في الجمع العضوي بين مبدأ التمثيل الفولكلوري والثقافة التشكيلية الرفيعة في أشكالها الطليعية الجمالية المُتقَنة.
(٣) أكسيل مانتيه
تلعب تكويناتُ الحوائط والستارة الحمراء دورًا كبيرًا في معظم أعمال التصميم المسرحي. الفضاء في باليه «أورفيوس» لخينزي (۱۹۷۹م)، تشغله بشكلٍ محيطي الحوائطُ المصنوعة من الورق، والتي تُنتزع تدريجيًّا طبقةً وراء الأخرى؛ مما ينتج منه تغيير في لون المكان: في البداية يسُود اللون الأسود، ثم يليه الأبيض، ثم يعود اللون الأسود من جديد. وبعد مرور عامٍ تُعرض مسرحية «هاملت»، وفيها نجِدُ اللون الأزرق يزيِّن فضاء المسرح ثم يأخذ في «السقوط» على الأرض. يتحول هذا اللون في منتصف المسرح، وفي مقدمته، إلى اللون الأحمر؛ ثم ينفتح شقٌّ أسود عن غَورٍ عميق أسفل الخشبة، ويظهر حائطٌ مرسوم عليه بُنيان وعمود، ويبدو الحائط وكأنه مطليٌّ بالدم. عجلتان موضوعتان كلٌّ في مواجهة الأخرى، على حافة خطٍّ منقَّط باللون الأبيض؛ تدوران، ثم تنتقلان (معًا وفي الوقت نفسه) في مختلف الاتجاهات على الخشبة، ثم تتحولان ناحيةَ الجمهور بظَهْر هيكلهما المعدني؛ وتظهر هناك بعض الأشياء المأخوذة من الحياة اليومية الحاضرة لتكمل وظيفتهما في العرض (أريكة، مائدة تتحرك على عجلات، فوتيه، بعض الكراسي، دولاب يخرج منه الشبح ويختفي فيه بعد ذلك بولونيوس، وأخيرًا بيانو يعزف عليه الطفل فورتنبراس). في العرض الحركي «الليلة الرمادية» الذي وضع موسيقاه ج. ي. فون بوزي (۱۹۸۱م) تقوم الحوائط الموضوعة في منتصف الخشبة، والتي تكوِّن زاويةً حادَّة بتحديدِ فضاء الحدث المسرحي. ومن الناحية الخارجية، فإن هذه الحوائط كانت مزيَّنة بخطوطٍ مائلة على نحوٍ تأثيري، تشكِّل حول البطل نوافذَ سوداء لمدينةٍ غريبة عليه؛ وعلى سطح الواجهة ينشقُّ «جسدٌ» أحمر بلونِ الدم يمثِّل العالَم الضيِّق المغلَق الذي لا مخرَجَ منه للعذابات الرُّوحية ومعاناة البطل. وفي مسرحية «فويتسك» لبوخنر (۱۹۸۲م). مرةً أخرى تسير الأحداث في وجود حائطين؛ في الجانب الأيسر من المسرح هناك مسطح أبيض ثابت يستند إليه سُلَّم نقَّال يصعد عليه الممثلون عند خروجهم. وفي المنتصف لوحٌ سميك أصفر اللون ملطَّخ بدهاناتٍ تعبيرية باللونَين الأسود والأزرق تغطي لون المسطح حتى أعلاه. الحائط يتخذ شكلًا مائلًا يمكن إدراكه بالبصر والإحساس به ماديًّا، وهو هنا يمثِّل أيضًا تهديدًا للممثلين ولبيتِ ماريا الذي يشبه اللعبة، في الخاتمة ينهار هذا الحائط بالفعل فوق البطلة التي تنزف دمًا دافنًا إيَّاها تحت أنقاضه، ويعطينا سطحه الآخَر ذو اللون الأزرق دلالةً على «بحيرة». السطحان الأبيضان لحائطَين (أحدهما يمثِّل «غابة» يُضيئها هلالٌ يرسل أشعَّته عبْر تيارٍ مرسوم من «رقائقَ» بيضاء و«نُدَف الثلج»، والآخر يمثِّل «مدينة»، وقد رُسم على الحائط هنا إطارُ شبَّاك في ضوءِ الليل وفى ضوء النهار)، ثم ستارة لونها أحمر فاتح تعمل باعتبارها عناصرَ علاماتية وتمثيلية في الفضاء لحركة الممثلين في مسرحية «حُلم ليلة صيف» لشكسبير (۱۹۸۳م). وفي مسرحية «بنتيسيليه» لكلايست (١٩٨٥م)، تسدُّ الستارة الحمراء الدموية الفضاء تمامًا؛ في هذا الفضاء، توجد كومةٌ من التراب الطبيعي، ترتفع وقد وضعت أسفل زاوية حادَّة لحوائط بيضاء من الظاهر، وسوداء من الباطن. الستارة الحمراء الساقطة في منتصف خشبة مسرح بيضاويةُ الشكل (نموذجٌ بدائي لممشًى مُغلَق لا يؤدي إلى شيء) تصبح هي الموضوعَ البصري الرئيسي الذي يؤدي فيه الممثلون دورَهم في مسرحية «في انتظار جُودو» لصمويل بيكيت (١٩٨٤م).
أعد مانتيه الشكل البصري للرسم العام للمسرحية. مصمِّمًا إيَّاها على هذا النحو منظرًا بعد الآخر باعتبارها تكويناتٍ متتابعةً، بحيث يمكن فهْمُ قوة تعبير العناصر المكانية والمادية والفنية للسينوجرافيا الموجودة فيها من خلال العمل الجرافيسكي الصارم والتصميمات الواضحة باعتبارها أساسَ الميزانسين التعبيري النحتي للممثلين. وبالطريقة نفسها، فقد اقترب مانتيه مباشرةً من جعل الإخراج نفسه يتبع المنهجَ نفْسَه.
ترجع الخبرات الأُولى لهذا النوع من الإخراج إلى مطلع الثمانينيات، عندما جرَّب مانتيه، آخذًا على عاتقه وظيفةَ المخرِج المشارِك، إخراجَ المسرحية من خلال الحلِّ السينوجرافي للفضاء الذي يحدِّد فن نحْتِ تماثيل الممثِّلين. وفي باليه «همس القمر»، الذي وضَعَ موسيقاه ف. بولكوم (١٩٨٤م) وصمَّم رقصاته أ. فورسايت، جاء تصميم نحْتِ تماثيل الممثلين لتكون على هيئة ملابس زرقاء تُشبه «الأغلفة» (سراويل، بَلاطِي مطر من المشمع، بِدَل سهرة) تذكِّرنا «برقصات الباوهاوس» لشليمر. وقد قدَّم هذا التصميم «شعاعًا» أزرقَ إسفيني الشكل لقطع مثلث من الفضاء، الذي امتدَّ على نحوٍ موازٍ إلى الأضواء الأمامية للمسرح من اليسار إلى اليمين.
وفي الأعمال المسرحية الأُولى، التي أخرجها مانتيه على نحوٍ مستقل تمامًا، مثل: «الطوفان» ﻟ ج. أختيرنبورش (١٩٨٤م)، «هوراشيو» ﻟ ب. كورنيل (١٩٨٥م)، فايتون» ﻟ ن. يوميللي (١٩٨٦م)، و«لعبة الأحلام» ﻟ أ. ستريندبرج (۱۹۸۷م)؛ أعلن عن نيته: تأسيس مسرحِ الفنان على أساسِ قوةِ التعبير الصارمة للتصميم، والنماذج الجروتسكية، على نحوٍ سيريالي ودرامي صهيوني تعبيري.
في مسرحية «الطوفان»، تقوم الشخصيات بالتمثيل على مائدةٍ مستديرة، مائلة من جانبٍ واحد بحِدَّة، وأريكةٍ مرتفعةِ القوائم، ويظهرون إمَّا في هيئةٍ عادية تمامًا (نوح في ملابس ليِّنة أو مرتديًا قميصًا أبيضَ، ملاءة ملفوفة؛ المؤلف يعتمر قبَّعة مكرمشة ويحمل في يده شنطةَ سفر) وإمَّا في هيئةٍ خيالية، كما في مسرحية «بيرة فاتحة» (على هيئة كأسٍ ضخمة بِطُولِ إنسان، برأسِ ممثِّل يستيقظ بالداخل من خلال الحائط الزجاجي)، وفي «ديك الماء» نجِدُ كائنًا أخرقَ يرتدي قناعَ طائرٍ وله جناحان بدلًا من الذراعَين. وعلى خشبة المسرح، يخرج البخار من بيضةٍ رمادية ترمز إلى «السماء» ذات الهلال؛ وفي الخاتمة، يظهر وجهٌ يخرج من عينَيه العمياوين الباكيتَين تيارٌ أزرق «يُغرِق» خشبةَ المسرح؛ حيث تقف في الجانب المواجه سيارةُ الأبطال السوداء، مركب بالحجم الطبيعي على أهبة الاستعداد لأخذهم.
على الموتيفات البصرية، التي تظهر باعتبارها صورًا يجري إسقاطها على سطح جسمٍ بيضاوي ضخم يخرج منه البخار إلى الفضاء المسرحي، وقد صمَّم مانتيه مسرحيةَ «هوراشيو» لكورنيل (١٩٨٥م). ويمكن اعتبار هذا الجسم البيضاوي كوكبًا تُجرى رؤيته من خلال مِنظارٍ فضائي؛ وعلى العكس من ذلك، يمكن تصوُّره كقطاعٍ في مخِّ إنسان كُبِّر عدةَ مرَّات، وكذلك باعتباره قشرةً مضلَّعةً لقوقعةٍ لم تُفتَح. وفي سياق الأحداث، فإن أجزاءً منها، على شكل مقاطع وقطع، تتحول إلى تفصيلاتٍ على موضوعات إغريقية: موتيفة كتابات على آنيةٍ لشخوص باللون الأسود، فسيفساء رومانية قديمة تمثِّل نافورةً مع طبيعةٍ صامتة (ثمرتَي كمثرى غضتين)، أو موضوع منظرٍ طبيعي (صخرة على خلفية سماء زرقاء لا نهائية).
وقد عُرضت تكوينات لترتيب المناظر البصرية (ميزانسين) المتتابعة لأوبرا «فايتون» أمام الجمهور، وفيما يلي وصفٌ لمَا بدتْ عليه المقاطع الأساسية لهذه الأسطورة كما قدَّمها مانتيه.
ستارةٌ ذهبية مثل النار، تتلاعب طيَّاتها التي من «طراز الباروك»، وأمامها يبدو قُرص الشمس المذهب مثلَ صقرٍ يحيط بصورةِ هليوس، مرتفعًا فوق خشبة المسرح، مباعِدًا بين قدمَيه العملاقتين بأقصى اتساعهما، ناظرًا في رعبٍ إلى أعلى، إلى فايتون الذي ارتدى قناعًا لطفلٍ صغير أحمق وبدون شَعْر في رأسه، يرتدي بدلةً حديثة ويرفع «سيفًا» لونه أحمر. وخلفه تقف مجموعةٌ من التماثيل السوداء، تدير أمامها مجاديفَ معدنيةً مضيئة، وتؤدي رقصةً شعائرية على موضوع الزمن صمَّمها فورسايت خصوصًا لمانتيه. شخصياتُ الرقصة الأخرى، تمثل آلهةً بحرية تأتي تجسيدًا لتيارٍ نحتي من المياه صنعه مانتيه. «ينساب» هذا التيار من إبريق معلَّق فوق خشبة المسرح. مشهد آخر: مركبة فايتون ذات العجلات تطير في سماء المسرح متَّجهةً نحو الشمس يجرُّها حصانٌ جميل، تذكرنا بنماذج النحت التشكيلي الإغريقي. وأخيرًا، نشاهد المركبة والحصان في وضعِ السقوط إلى «الأرض»، والتي يمثِّلها مسطح رأسي، عليه رسومٌ بارزة وفوقه قرصُ الشمس تسيل منه نيران منصهرة «تشعل» ألسنتُها فضاءَ المسرح «بلهيبٍ» دموي أحمر.
ألَّف مانتيه سلسلةً من المَشاهد المسرحية، عبارة عن تكويناتٍ بصرية، مكونًا رؤيته في «لعبة الأحلام». إنَّ كلَّ مشهد من المشاهد-التكوينات بُنيَ بفضل الدقة والأناقة المؤثرة المميزة لمانتيه، وعلى التركيز على موتيفةٍ دلالية واحدة ذاتِ مغزًى. وكلُّ مشهد يجسِّد جوهرًا تشكيليًّا على هذا الموقف أو ذاك كما فسَّره الفنان، وقد قارن الناقد ج. خينسلي بين هذه المشاهد الشديدة الحِدَّة وغير المحايدة ﺑ «قرع عِصيِّ الطبول على الأرض». لقد أثار مانتيه المشاهدين منذ اللحظة الأولى ليدفعهم إلى الدرجة الضرورية للتخيل، وذلك عندما وضَعَ أمامهم الستارة الحمراء ذات الطيَّات، والمفضَّلة لديه. وعلى ضوء أجهزة البروجيكتور المتصاعِد، تروح الستارة في «التوهُّج» تدريجيًّا أكثرَ فأكثر. وبعد أن تُفتح، يجمَّد على الأجناب الإطارُ الأحمر الدموي للفضاء المسرحي؛ فضاء مرصَّع بالنجوم. يحلِّق هابطًا من السماء إلى الأرض تمثالُ بطلة المسرحية؛ ابنة إيندرا. وفي المَشاهد التالية، تقف ابنة إيندرا أمام صورةِ حائطٍ حجري يحلِّق منطلقًا فوق المسرح وعلى نحوٍ غريب كما في الأحلام، يظلُّ يدور ويلفُّ مثلَ صفحةٍ من الورق، ومن طرَف الحائط تطير صورةُ وميضٍ ناري لشفاهٍ شديدةِ الحُمرة تلتصق بالسماء السوداء لتقف مثلَ «سحابةٍ» خيالية. وبعد ذلك، تظهر هذه الشفاه مرةً أخرى في مشهدِ الحجْر الصحي للكوليرا مرتفعةً فوق خشبة المسرح باعتبارها علامةً على الفقر والخطر وانتشار مختلف الأوبئة. وعبْرَ فضاءِ الفراغ الأسود تطير مائدةٌ طويلة جدًّا بشكلٍ قُطري، ومن حولها تجلس البطلة مع الضابط والأم، وفي نهاية المشهد تنهار المائدةُ أسفلَ خشبة المسرح. وفي مشهد «عند المحامي» الخيالي جدًّا، يحلِّق فوق رءوس الشخصيات تيارٌ من الأوراق البيضاء «المنطلقة» مثلما ينطلق الجِن من الزجاجة، ومن شقِّ الباب الموجود في عمق المسرح الفارغ؛ وفي المشاهد الأخرى، يتحرك هذا الباب إلى الأمام، ويتوقف أمام مسطحٍ مرسوم عليه بناء حجري، مضفيًا إحساسًا بفنِّ البوب آرت: دينامية الاندفاع البصري نحو عمقِ رسْمِ الحائط، تكتسب قوةً من خلال سكون تماثيل الممثِّلين والعناصر المادية (الباب، الستارة الحمراء، الملصق). يقوم التكوين بخلق الإحساس بالخوف والسيريالية. والإحساس نفسه يتولَّد من جرَّاء منظرِ حائطٍ آخَر. وعلى سطح هذا الحائط المطليِّ باللون الأخضر، رسمٌ لفتحةٍ سوداء تبدو مواربةً قليلًا. وفي الحقيقة، فهذا الباب قد رُسم مقوسًا على نحوٍ غريب. ينفتح هذا الباب المرسوم بواسطة مقبضٍ حقيقي من المعدن الطبيعي لتخرج منه شخصياتٌ واقعية. وعلى خلفية صورةٍ ليدٍ ضخمة، يتم لقاء ابنة إيندرا والشاعر. وعلى سطح الكفِّ المفتوحة والأصابع الممدودة، تسبح تارةً أمواجٌ زرقاء وبيضاء، وتارةً أمواجٌ بحرية، وتارة أخرى سحابة. إنَّ موتيفة الطبيعة الحية ودفءَ اليد الإنسانية، يخلقان جوًّا للتماثيل الهشَّة للأبطال يحميها في الصحراء السوداء لهذا الفضاء اللانهائي.
يقدِّم مانتيه «لحنًا» بصريًّا ختاميًّا، يتمثل في عمودٍ من اللهب، يندفع من أسفلِ خشبةِ المسرح، وذلك بعد أن يكون قد وضع علاماتٍ بصريةً متنوِّعة لكلِّ مشهد، إلى جانب تلك العلامات التي ذكرناها من قبل: رسم الورقة الخضراء؛ المجلدات السميكة المرفوعة على أكتاب المؤدين للأدوار؛ الشريط الأحمر الدال على النوع البشري، وعلى الحائط الدال على الحدود الرأسية الفاصلة بين الرجال والنساء.
في مسرحية «ممثِّل وراقِص ومغنٍّ» لفيسوتسكي (۱۹۸۸م)، بحَثَ مانتيه طبيعةَ الأقانيم الأساسية الثلاثة نفسها لفن الأداء المسرحي: الدراما، الرقص، الغناء؛ وقد قدَّمها في وحدةٍ عضوية مع فنِّ العلامات التعبيرية. وقد تمَّ الكشف عنها بطريقةٍ بصرية ذاتِ مغزًى دلالي.
على الستارة الحمراء المطوية يُضيء جسمٌ بيضاوي الشكل يوحي ببيضةِ الميلاد الأول. التي يخرج منها كلُّ ما هو حي. وفي هذه الحالة، يتحرك وجه الممثِّل، ويدور التشكيل الجسدي للراقص، ويعلو صوت المُغني، وهؤلاء جميعهم يعرضون إمكاناتهم في الفضاء المكوَّن من ثلاثة أسطح تجريدية التصميم: الأبيض (يسارًا)، المُعتِم وتظهر فيه دوائر بيضاء متماثلة (في المنتصف)، والأسود (يمينًا). يقطع هذه الأسطح شقَّان رأسيان، يخرج منهما في لحظاتٍ محدَّدة سهمٌ أحمر مشتعِل يسير في اتجاهات مختلفة عبْر الفضاء، مخترقًا إياه، مهدِّدًا الأفق، متَّجهًا نحْوَ كلِّ شخصية من الشخصيات الواحدة تلوَ الأخرى: إلى المُغنِّي، ثم إلى الجذع الأسود للراقص العاري، وأخيرًا إلى الممثِّل. وعندئذٍ يعود السهم مرةً أخرى لتبرز من الشقَّين أشكالٌ بيضاوية مرسومٌ على أسطُحِها شاراتٌ تدلُّ على المهن الثلاث: عند الراقص، قدَمٌ مرسومةٌ بشكلٍ تخطيطي للدلالة على مراكز الأعصاب وبرسومٍ بيانية لخطوط الحركة. عند المغنِّي، حنجرة. وعند الممثِّل، قناع المهرِّج. ومن وراء نسيج الستارة وعلى الأشكال البيضاوية الأخرى، تظهر موتيفاتٌ أخرى: سماء مرصَّعة بالنجوم، قطعة من ستارةٍ حمراء، أعمدة أيونية، أيادٍ في قفَّازات جِلدية وأصابع ملوَّنة بطِلاء الأظافر ممتدَّة كلٌّ منها نحو الأخرى. يُمسك المؤدُّون بالأشكال البيضاوية واضعين إياها أمامهم، ثم يرفعونها إلى أعلى، متَّخذين إياها خلفيةً، ثم يختبئون خلْفَ أسطُحِها وقد رُسم عليها — على سبيل المثال — قناعُ المهرِّج أو القدم.
عندما أخرج مانتيه مسرحية «الطيور» لأرستوفانيس (۱۹۸۹م)، قام بتأليف عرْضٍ مسرحي، المشهد البصري فيه حدَّدته وسائلُ تعبيريةٌ متنوِّعة، ومتباينة الأشكال: ملابس، وأقنعة، ودُمًى، أشياء مِثل آلات طائرة، تشكيلات تصميمات تعبيرية؛ وأخيرًا، هذه الستارة الحمراء المطوية نفسها المحبَّبة عند الفنان، وهي أول ما يراها الجمهور. ومع ارتفاع الستارة الحمراء عن المسرح، يظهر راتجب وهوفمان في مملكة الطيور، يرتديان ملابسَ معاصرة وقبَّعات ويحملان حقائب ظَهْر. تختفي الستارة وينفتح أمامنا تكوينٌ جرافيكي لظلالٍ سوداء لسِربِ طيور، تحلِّق آتيةً من عمق المسرح باتجاه المُشاهِدين. يجِدُ راتجب وهوفمان أنفُسَهما أمام بيضةٍ ضخمة تفقس ليخرج منها كائنٌ وحشي له ظفرٌ ضخم، يحلِّق فوق خشبة المسرح، مُمسِكًا بطرَف الستارة، جاذبًا إياها خلْفَه. يتميز قائد الطيور بين جوقة الطيور الأخرى بلونِ ظفره الأحمر، وبقدمه وحذائه ذي الكعب العالي. باقي الطيور لها أظافر خضراء وبرتقالية وزرقاء وصفراء، وجميعها لها «أبدان» بيضاء ملساء (مغطاة بطواقي الاستحمام)، وكذلك لها أجنحةٌ بيضاء في جانبٍ واحد تُستخدم كأداةٍ للعب. يتَّخذ راتجلب وهوفمان هذا الشكلَ نفْسَه، كما يكتسبان القدرة نفسها على الطيران، وهو ما فعلاه وشرعا في التحرك بأقدامهما على نحوٍ أخرق وقد احتضنا البلبل. والبلبل يجسِّده هنا تمثالٌ نسوي غائم يرتدي فستانًا طويلًا، ينسدل حتى الأرض، ويضع على رأسه قناعًا كبيرًا له فتحة عند منطقة الفم محشورٌ فيها وجهٌ حي؛ وهذا القناع نفسه الذي يخرج منه (فمه) وجهٌ نسوي، يتحوَّل فيما بعدُ إلى رأسِ شخصيةٍ أخرى. قوس قزح «بجسد» مثل قوس خشن، ملوَّن بعدَّة ألوان، يعادل ارتفاعُه ارتفاعَ المسرح كله، وينتهي بأقدامٍ ترتدي حذاءً له دبابيس تبرز وتتدلَّى على مساحةِ عدَّة أمتار من الرأس. يدور المشهد على خلفيةِ سطحٍ محايد لحائط شبهِ مستدير، لا يحمل أيَّ معنًى، ولا يدلُّ على أيِّ شيء وكأنه بمثابة «صفحةٍ بيضاء» يمكن إجراء تخطيط تعبيري لجرافيك الميزانسين عليها، وإذا لزم الأمر فإنها تسمح لجوقة الطيور أو لشخصيةٍ واحدة للصعود إلى أعلى الحافة، حيث يمكنها من هناك مراقبةُ ما يحدُث على المسرح.
في مسرحية «ليونس ولينا»، لبوخنر (۱۹۹۱م)، تؤدي الشخصيات الحداثية موضوعًا دراميًّا أمام حائطٍ أملس يغطي خشبةَ التمثيل بشكلٍ متموج، وقد اكتسب ضوءًا أصفرَ مذهبًا، ودرجات لونية من الأزرق والكحلي والأخضر. كانت خشبة المسرح مرفوعةً قليلًا فوق لوحٍ من الخشب، بحيث تظهر من تحت حافته السُّفلى أقدامُ الواقفين خلْفَها أو المارِّين بجوارها. كلُّ حركة أو وقفة للممثل، كلُّ تفصيلة من تفاصيل الملابس؛ في النهاية، كلُّ عنصرٍ مادي (ساعة قديمة، مثبتة في وضع مائل بشِدة، أريكة ذات أربع أرجُلٍ رفيعة، أو منصَّة حمراء عليها ميكروفون) ينعكس على الخلفية بشكلٍ مؤثِّر جدًّا.
وفي الأعوام من ١٩٩٠م إلى ۱۹٩٣م، نفَّذ مانتيه عددًا من عروض الأوبرا بالتوجه نفسه من ناحية التصميم والأسلوب الدلالي العلاماتي، الذي ميَّز أعماله في المسرح الدرامي. وفي مسرحية «لوينجرين» لفاجنر (۱۹۹۰م)، ارتدَت شخصيات الأسطورة ملابسَ معاصرة، وأدَّت في فضاءٍ أعِدَّ بواسطة أسطُحٍ محايدة باللون الأبيض البارد الخالي من أيِّ رسوم. تجتمع الشخصيات في الرُّكن مكونين وضعَ التتويج: في الأعلى تماثيل الجوقة البيضاء، وفي الأسفل الفارس وإيلزا. يشكِّل السطح الهابط من أعلى في وضعٍ أفقي نصفَ دائرة لمائدة القضاء والمبارزات الكلامية، أمَّا المثلث الأبيض الضخم المتساوي الساقَين، المنتصف فوق خشبة المسرح في وضعٍ مائل على نحوٍ تأثيري (مستندًا إلى الأرض على زاويةٍ واحدة فقط) فيتحول إلى شاشة، يقوم مانتيه على خلفيتها بتخطيط رسمٍ جرافيكي يبيِّن وقفات وإيماءات وميزانسين الأبطال الرئيسيين.
هكذا بدا الأمر، عندما جرى تقطيع الحائط المسطَّح الخلفي المائل بواسطة «السيف الناري»، ومن خلال هذا الشقِّ شاهَدَ الجمهور مقطعًا من الصورة الشخصية للفنان رُسمت عام ١٨٨٧م وقد راح ينظر بعينَين مِلؤهما التوتر والألم، تشعُّ منها طاقة خارقة للطبيعة، وعندما يقف فان جوخ على الكرسي تحيط به جوقةٌ بيضاء وقد أمسك أفرادها في أيديهم بأجزاءٍ من أعماله (مناظر طبيعية، مداخل، صور شخصية) وقد جعلوا وعي بطلِ الأوبرا مثلَ تيارٍ نابض، فوضوي، مهشَّم، ممزَّق، ولكنَّه أكثرُ وضوحًا وعاطفية. وفي أحد المَشاهد تبدو الشخصيات (تيو، وإيو، والدكتور وفنسنت (فان جوخ) نفسه) أمام مسطحٍ فاقع الحُمرة، وقد بلغ هذا المسطح من التجريد بحيث أصبح «بقعةً» مكثفة من درجةٍ لونية واحدة تُشبه هذا «الحقل» الذي بعدَ أنْ رآه فان جوخ فقَدَ وعيَه من جرَّاء تلك القوة غير المحتملة، التي أصابتْه بالاضطراب. وقد ساد هذا «الحقل» الأحمر على خشبة المسرح، وفي خلفيتها يقف تيو وإيو والدكتور وقد ارتدوا أقنعةً تمثِّل صورًا فوتوغرافية لوجوههم الحقيقية، ولكنَها تأتي على نحوٍ وهمي مبالَغ فيه إذا ما قورنتْ بتماثيلهم. وبالطبع تأخذ «صورة الفنان الشخصية بالأذن المقطوعة» مكانها في أحداث المسرحية؛ في البداية، تظهر الصورة معلقةً على حائطٍ أبيضَ محايد للمدخل نفسه الخالي من الإحساس وغير المناسب لهذه الصورة، ثم تظهر على هيئة صورةٍ مرسومة لبطل الأوبرا راقدًا على وسادةٍ على سريرٍ مرسوم من أسِرَّة المستشفيات. وفي هذه اللحظة، يظهر البطل على المسرح، ويبدو واقفًا في مواجَهة ظلٍّ أسود جرافيكي. يموت فنسنت عند أرجُل كرسي عملاق بارتفاع حائطِ المسرح، عليه لوحته الشهيرة. هنا فقط يبدو هذا النموذج الفني واحدًا من الموتيفات الثابتة في لوحةِ فان جوخ، التي ظلَّت تجسِد لديه العالَم بأسْره، والذي قدَّمه في شكلٍ درامي خالص. هذا العالم المليء بالانحراف والسقوط، والذي أصبح تجسيدًا معبِّرًا عن الكارثة الرُّوحية. يكتنف الظلام الدامس فضاءَ المسرح. ويسقط آخِر شعاعٍ من الضوء على مقطعٍ صغير جدًّا من هذه اللوحة للبطل الميت (جزء عند أرجل الكرسي)، ولكنْ حتى هذا الجزء من لوحته يحمل في أطوائه قدْرًا كبيرًا من شحنة من الطاقة العاطفية؛ بحيث يقف وحده في مواجهة كلِّ هذا الظلام اللانهائي الذي يحيط به.
لقد قدَّم مانتيه سلسلةً من المَشاهد المتتالية، جمع فيها تكويناتٍ من تماثيل الممثِّلين ترابطتْ وتعارضت وتفاعلت فيما بينها من ناحية الملابس أحيانًا، وأحيانًا أخرى في شكل أقنعتها والعناصر البصرية والسينوجرافية على نحوٍ خاص: التعبيرية، والعلاماتية، والمادية، والضوئية، واللونية؛ وذلك في أوبرات «أريادنا في ناكسوس» لشتراوس، «الناي السحري» لموتسارت، «عودة أوليس» لمونتفردي (جميعها قدِّمتْ في عام ۱۹۹۲م)، و«دون كيخوت من لامنشا» لزندر (١٩٩٣م). ومرةً أخرى، يشاهد الجمهور في «أريادنا» (ثم في «دون كيخوت» بعد ذلك) الستارة الحمراء المطويَّة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ لمسرحٍ داخل مسرحٍ جُلبتْ إليه كراسي من صالة المشاهِدين لتوضع في عمقه، وقد لعبتْ هذه الكراسي دور شخصيات الأوبرا وقد ارتدتْ ملابسَ حديثة. وعندما وُضعت هذه الكراسي على الخشبة لتؤدي موضوعًا إغريقيًّا، صارتْ هذه التماثيل-الممثلون جزءًا من التكوين «السوبرماتيزمي» التجريدي، المكوَّن من دائرةٍ زرقاء هائلة «للكرة الأرضية»، ومثلثٍ ذي أسطُحٍ ثلاثة يمثِّل «أشعةً مضيئة». كانت هذه «الأشعة المضيئة» تنطلق ملوَّنة باللون الأحمر الساطع والأخضر الفاتح بدرجاته المختلفة مرصَّعة بآلاف النجوم، من أعلى ومن أسفل وقطريًّا، ومن خلال أجهزة البروجيكتور المسرحية العادية، الموضوعة في أعلى المسرح وعلى جانبه وبشكل قطري.
لقد تم عمل التكوينات المسرحية «للناي السحري» كعرضٍ تمثيلي ساذج من الناحية الجمالية، وقد جرى تطوير هذه التكوينات على خشبة المسرح البيضاء الفارغة، حيث أدار الممثلون العرض وقد حملوا علاماتٍ تعبيريةً من قطَعٍ من الورق، مسطَّحة وذاتِ مغزًى مجازيٍّ واضح.
تندفع من وراء الكواليس «حيَّة بشِعَة» لونها أخضر تهدِّد تومينو بلسانٍ طويل أحمر ناصع. تنسدل ستارةٌ سوداء عليها نجومٌ ليلية زرقاء تُشبه تلك الستارة التي غطَّت تنورةَ ملكةِ الليل. بيضة كبيرة تأخذ في الظهور، «تفقس» ليخرج منها باباجينا. تتصاعد في الهواء مروحةٌ مفصلة على شكل «أشعة الشمس»، وتحلق حمامة بيضاء، حاملةً فوقها طفلًا مزينًا بأوراقٍ متعددةِ الألوان. الركن المرفوع من خشبة المسرح يتَّخذ شكل الهرم. وعلى موسيقى آلة الناي التي يعزف عليها تاتيو تمتلئ خشبة المسرح بشخصياتٍ من عالم الحيوان: زرافة، نعامة، أفعى، طيور تحيط بالأمير؛ وتُدار بواسطة أقدامٍ بشرية، وتتحرك بطريقةٍ آلية، ويمكن أن ينمو فوقها شيءٌ ما رأسيًّا على نحوٍ متعرِّج ما، يدلُّ على شجرة. يُنزَل سطحٌ شفَّاف لمسرحِ الظِّل، أو ستارةٌ ورقية بيضاء، يخترقها الممثلون عابرين من خلالها. كلُّ هذه المشاهد تكوِّن مشهدًا مسرحيًّا «هزليًّا» يتحول إلى سلسلةٍ من «الكادرات» البصرية البسيطة (تتألَّف من رسومٍ جرافيكية وكمالياتٍ علاماتية مختصَرة مطليَّة بدرجاتٍ لونية محلية) تصوَّر لحظةٌ من هذه أو تلك من أوبرا موتسارت.
وعلى نحوٍ مشابه يأتي الحلُّ الإخراجي أيضًا ﻟ «دون كيخوت» كمسرحيةٍ «هزلية» مكوَّنة من أربعةٍ وعشرين مشهدًا.
يُفتتح العرض بثلاثةِ ممثِّلين يقفون بعضهم فوق بعض، يؤدُّون دورهم من على السطح الأحمر في يسار المسرح، يقرَءُون الكلماتِ الأُولى من النص، وبعدها يُضيء الفضاء الغارق في الظلام «أفاعيَ» تصعد بشكلٍ قطري متلويةً فوق درجاتِ سُلَّمٍ مكوَّن من درجاتٍ من الكتب. يظهر بعد ذلك دون كيخوت، وبعد أن يقوم هو وتابعه بانسو بسرج ظِلَّين مسطحَين لحصان وحمار يذهبان عبْر تلٍّ منحدر. ثم يظهران أمام صلبان زرقاء تمثل طواحين الهواء. بعدما يقابلان عربةً سوداء (أيضًا على هيئة ظِل) وعربةَ يدٍ مليئةً بالأقنعة الكرنفالية (المَلاك، المَلِكة، الشيطان، الموت، الإمبراطور، الجندي)، يصعدان على ظِل لدميةِ فرسٍ أبيضِ اللون. ينظِّم دون كيخوت عرضًا لمسرح الظلال. ويدخل في معركةٍ ضدَّ أسدٍ ضخم (تم تصويره بشكلٍ طبيعي تمامًا). دون كيخوت يقف أمام صخرةٍ عظيمة. وفي الخاتمة يدخل في حديثٍ مع «صورته» الشخصية، التي تَظْهر خلْفَ إطارٍ فارغ.
استخدم مانتيه في أوبرا «عودة أوليس» نقوشًا دلاليةَ الطابع: «الزمن»، «الحظ»، «الحُب»؛ مكتوبةً على ثلاثةِ أسطح على النحو التالي، اللون الأبيض (الفناء التام)، والأسود (عمى الحظ)، والأحمر (شهوة الحُب). تمثِّل هذه الأسطح بما تحمله من كلماتٍ القوى الثلاث (تجسِّدها في الافتتاحية ثلاثة تماثيلَ مجازيةٍ تهبط فوق رجلٍ نصفِ عارٍ راقدٍ على الأرض). وهذه الأسطح تتوزع في أماكنَ مختلفةٍ في الفضاء، مائلة تارةً أو معتدلة تارةً أخرى، هابطة في وضعٍ أفقي، أو مرتفعة رأسيًّا، وكلُّها تعمل باعتبارها شاشاتٍ تسقط عليها ظلالٌ سوداءُ مكبَّرة (تزداد بقدْرِ اقتراب الممثِّلين منها)، وعندما تحلِّق عربةُ منيرفا في الفضاء، وتمثِّلها عجلةٌ بيضاء، نحوَ سماءٍ مرصَّعة بالنجوم، تبدو في خلفيتها بشكلٍ جرافيكي ميزانسين للممثِّلين وأشياءُ سينوجرافيةٌ ذاتُ مغزًى علاماتي: قرص الكوكب الذهبي، صخرة ضخمة، بيت لعبة أسود اللون مرسوم عليه نافذةٌ صغيرة يهبط من السماء ليتوقف فوق رأس البطل «يد الإله»؛ وأخيرًا، فضاءٌ برونزي والسهم الأبيض للزمن، مكتسيًا باللهب.
وفي العمل الدرامي «إغواء القديس أنطونيني» (التي أنهى بها مانتيه في عام ١٩٩٤م طريقه الإبداعي)، كانت كلمة «الليل» المكتوبة على سطح، أتمَّ توظيفه هنا أيضًا بأشكالٍ مختلفة، هي الصورة الجرافيكية السائدة. وعندما ينقلب السطح بشكلٍ أفقي؛ يصبح بمثابة خشبةِ عرض. وعندما يكون في وضعٍ رأسي؛ فهو يمثِّل شاشةً ملوَّنة بدرجاتٍ لونية فاتحة، يستقبل الضوء الساقط ويؤدي وظيفةَ الخلفية للممثِّلين. وكما يحدث دائمًا، كان مانتيه يُدخل في كلِّ مشهدٍ علاماتٍ جذَّابةً على نحوٍ بالِغ الأناقة والدقَّة، تحدِّد المظهر البصري للتكوينات؛ على سبيل المثال: قرص «الشمس» الأحمر الملتهب، أو الظِّل المرسوم بشكلٍ استعاري لألسنة اللهب المتصاعدة في السماء، أو السيدة إرزاخليون وهي تعرض صفحة من الورق وقد قصَّت عند محيطها على شكلِ طائر، أو يد الإله يخرج منها شعاعٌ من الضوء باتجاه المسرح. وفي لحظة الذروة، تحيط الأقنعة النارية الدموية للمهرجين بالبطل المنبطِح على سطح «الليل» الأزرق المرصَّع بالنجوم، وتمدُّ نحوه كلَّاباتها وقرونَ استشعارها؛ أمَّا الشيطان، فيجرُّه آخذًا إيَّاه من تلابيبه.
(٤) كارل إرنست خيرمان وآخرون
فنَّانون ألمان آخَرون انتقلوا، كلٌّ على طريقته، من السينوجرافيا إلى الإخراج. ومع أنَّ الغالبية العُظمى من المسرحيات التي أخرجوها ظلَّت في حدود جماليات المسرح الموسيقي والدرامي المألوف، فإن أجزاءً من هذه المسرحيات كانت تستقبل باعتبارها تكويناتٍ بصريةً ذات مضمونٍ تشكيلي خاص. وكانت القدرة الفائقة لدى هؤلاء الأساتذة ونزوعهم نحْوَ خلقِ مسرحيةٍ برُوحِ مسرح الفنان عاليةً وثابتة، كان من الممكن أن تتحقَّق في مسرحيةٍ ما (كما حدَثَ مع مينكس) وقد لا تتحقق؛ وإنما تفتح الطريق فقط للحركة في هذا الاتجاه.
أما الطريق الذي قطعه كارل إرنست خيرمان من السينوجرافيا إلى الإخراج، فكان طريقًا مميزًا. لقد مثَّلَت الخبرة الكبيرة التي اكتسبها في سياقِ تعاونه مع مُخرِجي ألمانيا العِظام أساسًا كبيرًا لعمله باعتباره مخرِجًا، وهو الذي بدأ العمل في الإخراج منذ منتصف الثمانينيات، وكان ب. شتاين وك. بايمان من أوائل المُخرِجين الذين عمِلَ معهم. وقد قام خيرمان، في فترة إعداده لمسرحياتهم، بتجربة كثيرٍ من طرائق تكوين الفضاء المسرحي، وهي الطرائق التي تحقَّقت على نحوٍ مميَّز في أعماله المسرحية الخاصة.
صمَّم هيرمان الفضاء المسرحي لنسخةِ شتاين من مسرحية «بير جونت» لإبسن (۱۹۷۱م) التي عُرضت لمدة ليلتَين، باعتباره فضاءً ضخمًا ذا لونٍ أبيض «ثلجي» لتلٍّ بارز على نحوٍ بالغ التعقيد. وهو مُركَّب خلْفَ حدود خشبة عرضٍ من صناديقَ في منتصفِ صالة العرض، لتصبح مكانًا عامًّا لعَرْض «قصة من القرن التاسع عشر»، وتمثِّل نموذجًا للأرض التي يعيش عليها بطلُ إبسن. من الأجناب عرَضَ الفنان رسْمًا لموتيفاتٍ لمناظرَ طبيعيةٍ وجغرافية على لوحاتٍ من القماش تحمل دلالةً مجازية علاماتية للمكان الذي قام فيه البطلُ برحلته. وقد اقترح الفنان على المخرِج تقديمَ «الأمير جومبورسكي» لكلايست (۱۹۷۲م) باستخدام عناصرَ ماديةٍ ضرورية وظيفيًّا، توضع على خلفيةٍ محايدة تتمثَّل في ستارةٍ لونها أسود. وعند فتْحِ الستارة (جزئيًّا وعلى نحوٍ كامل)، يشاهد المتفرِّجون في العمق منظرًا طبيعيًّا لتلٍّ.
وعلى الرغم من الحِرفية الرفيعة لخيرمان في إعداده لهذه المسرحيات؛ فإن السينوجرافيا التي وضَعَها لم تتجاوز حدودَ صياغة مكان الأحداث؛ وكما نعلم، فإنَّ فنَّ السينوجرافيا بالنسبة إلى مسرح الفنان لا يقترب منهجيًّا إلا باستخدام أشكالٍ من طرازٍ آخَر: أشكال تكتسب هيئة الشخصيات ومغزاها، وهذه الأشكال لم تكن في دائرة اهتمام خيرمان. وبالنسبة إلى الأعمال المسرحية التالية لشتاين، قام خيرمان بإعداد وسطٍ للحياة المسرحية لأبطال هذه المسرحية؛ كانت تُقدَّم أحيانًا باعتبارها نمطًا عامًّا، وفي معظم الأحيان، كانت هذه الحياة تُقدَّم على نحوٍ مقارِب للطبيعة، وبصورةٍ غاية في الدقَّة والتحديد، على الرغم من تنفيذها بطرائقَ مختلِفة.
تمَّ عرض مسرحية «الحصالة» للابيشي (۱۹۷۳م) في فضاءٍ لمكانٍ عام حديث (محطة قطارات، سوق مسقوفة، صالة تجارية) بسقفٍ زجاجي نصفِ مستدير، وتركيبات من العوارض والقوائم من الأعمدة المعدنية. حوَّلها خيرمان لتبدو على هيئةِ شارعٍ من شوارع باريس في القرن الماضي؛ وفي الوقت نفسه عارضًا هنا، في «الديكورات» الخارجية، أشياءَ من التي تُوضع في المداخل، مطعمًا في الفصل الثاني، ثريَّا من البِلَّوْر تعلو مائدةً طويلة مليئة بالمُشهِّيات وزجاجات الشراب. وبعد مرورِ عامٍ على عرض هذه المسرحية خارج خشبة المسرح، قدَّم خيرمان على مسرح «شاوبيون» في برلين الغربية لشتاين نموذجًا معاصرًا نُسي منذ زمن بعيد، وهو — كما يبدو — يبتعد تمامًا عن الديكور الطبيعي، ويمثِّل مكان الأحداث في مسرحية «المصطافين» لمكسيم جوركي كما هو في الحياة الحقيقية: جذوع طبيعية من شجرة البتولا مقتطعة من الغابة، سياج خشبي، تربة طبيعية، فحم نباتي، زهور، أوراق شجر، أغصان، كرسي من القش المجدول، أريكة من النوع الذي يوضع في الحدائق وسِلال بها أطعمة رحلات. وبعد تصوير المسرحية على شريط فيديو بعد العرض الأول، اقترح المخرِج أن تُعرض المسرحية في أحضان الطبيعة وفي حديقةٍ صيفية، وفي تراس وغُرَف مَسكنٍ صيفي للاستجمام، بحيث تحلُّ السينما — بشكلٍ محدود — محلَّ الديكورات المشابِهة للحياة.
بهذا القدْر من الواقعية تم استخدام الديكور في مسرحية جوركي، وبالطريقة نفسها صمَّم خيرمان أيضًا ديكور كوميديا شكسبير «كما تهواه» (۱۹۷۸م). وفي الفصل الأول يبني خيرمان سرادقًا مسقوفًا مغلقًا من الجوانب كافة بحوائط، ويمثل هذا السرادق فناءً داخليًّا لقصرٍ من عصر النهضة، يدلف إليه المشاهدون كما لو كانوا يدلفون إلى معبدٍ، ثم ينظرون إلى الشخصيات من أسفل إلى أعلى واقفين على أرضيةٍ مغطاة بالحصى.
يتعارض الكمال المثالي للمظهر المعماري لهذا العالم المرسوم بكلِّ دقة (النسب المنسجمة للأعمدة والفتحات والتجاويف ودرجات السُّلم) مع المكائد والمؤامرات التي تحاك هنا، والتي يحاول الأبطال الاختفاء بعيدًا عنها في غابة أردين (آخذين معهم المشاهدين أيضًا. تنفتح بوابة السرادق ويبدو عالم الطبيعة مرةً أخرى على النقيض من الأشكال المعمارية المثالية المتناغمة) على هيئةٍ فوضوية غير منظَّمة وفي حجمها الطبيعي.
بُنيت لوحة الديكور المسرحي الخاص التي صمَّمها الفنان من تجهيزاتٍ وعناصر طبيعية أصيلة: جذوع أشجار اقتطعت من غابة حقيقية، أغصان جافة وخمائل كثيفة كان على الأبطال أن يمرُّوا من خلالها، وفيها نظم أورلاندو أوراق رسائله التي بعث بها إلى روزاليندا، بقايا أغصان وحطب يتكسر تحت الأقدام. بحيرة صغيرة مليئة بالمياه يمكن الاستحمام والاغتسال فيها. أعواد قصب سكر وشاطئ أخضر. غابة أردين التي صنَعَها خيرمان مليئة بالمفاجآت؛ في جزء منها ينفتح بناءٌ خشبي أقام فيه أناس واستقروا، يمكن هنا أن يظهر شخص ما قادمًا من مكانٍ آخر، على سبيل المثال، صيَّادون يحملون وحشًا مقتولًا، أو — في الخاتمة — عربة يركبها الحاكم، يمرُّ بواسطتها — مرةً أخرى — عبْرَ بوابةٍ مفتوحة عائدًا إلى الفضاء الأبيض لعمارةِ عصر النهضة.
لقد اكتسب خيرمان بصورةٍ تامة خبرةَ تشكيل الفضاء المسرحي باعتباره «البيئةَ» المشتركة، سواءٌ للممثلين أو للجمهور (وهو ما حقَّقه في غابةِ أردين والفناء الداخلي لقصرٍ من قصور عصر النهضة) وذلك عندما عمِلَ قبل ذلك لمدَّة عامَين مع شتاين في إعداد عرضِ «ذكرى شكسبير» (١٩٧٦م)، وقد أقام الفنان سرادقًا معرضيًّا فسيحًا، وأُعِدت أماكن الأحداث في نقاطٍ متعددة من الفضاء المسرحي. وانتقل المشاهدون من بعض أماكن العرض إلى أماكن أخرى، حيث غموض العصور الوسطى بظهور شخصية ترتدي قناعًا تفرِّق الناس بكرباج، مفسحًا المكان لكرنفال تنكري. فتاة تقفز من برجٍ مرتفع لتقع على يدي شاب، ويؤدي الاثنان تمريناتٍ رياضيةً على سجادةٍ زرقاءَ مفروشةٍ على الأرض. يعرض على الجمهور الاستدارة نحو البهلوان، الذي يتلاعب بالكرات والصولجانات والريش. يطلق أحد الحُواة فقاعاتِ صابون، ويقدِّم الخدع الممكنة كافة: اللعب بالورق والحبل والكرات الصغيرة. يسير أحد اللاعبين متوازنًا على الحبل. وفي شتَّى الأماكن داخل السرادق تؤدَّى موضوعاتٌ من الدراما الفولكلورية للقرنَين الخامس عشر والسادس عشر. تمَدُّ موائدُ طويلةٌ، وتُقدَّم إلى الجمهور فرصةُ تبديل الوضع: يتحول المتفرجون «الكسالى» الآن للجلوس كمُستمِعين خلف المائدة، في حين يصعد الممثلون فوقها، باعتبارها خشبةَ مسرح، ليقرَءُوا «في مديح الحماقة» للكاتب أرزام روتردامسكي. يتم إحضار تمثال نصفي أبيض له على عربة، يمثل «المتحذلق». يؤدي الممثلون مقاطع من «الملك لير» (توم المجنون، المهرج، الملك العجوز) أمام العربة، ثم مقاطع من «اثنان من فيرونا»، وبعد ذلك يتَّجه اهتمام المُشاهِدين إلى الجزء المواجِه من السرادق، حيث تُنزَل لوحةٌ عليها رسوم لموديلات مختلفة للعالم: موديلات من العصور الوسطى للبطالمة وكوبرنيكوس. عند كلِّ لوحة يقف «محاضر-مرشد سياحي» يمسك بيده مؤشرًا. المخرج والفنان يفتحان بانوراما لعُروضٍ علمية ومعارف عن عصر شكسبير. هنا مائدة تشريح، عليها تمثال إنسان وكرة كبيرة تكشف بداخلها عن مركزٍ لعالم عصر النهضة و«معيارٍ لكلِّ شيء»؛ تمثال ليوناردو لإنسان عارٍ يداه مفتوحتان. يُدعى المشاهدون أيضًا للنظر في طالع إليزابيث الأولى ومعرفة كلِّ أسرارها. يأخذ أحد الممثِّلين، واقفًا على منصةٍ داخل حلقةٍ محاطة بالجبال، في قراءة «تشريح الكآبة» لبورنون. محاضِرٌ آخَر يقدِّم مَشاهِد تمثيلية من «علم الكآبة» لديورير. عند الأرفف أذرُع من الجبس، مضغوطةٌ بأشكالٍ مختلفة مرفوعة، أصابعها مفتوحة ومتباعدة. يُجرى تقديم درسٍ في مبادئ الكتابة والقراءة بطريقةٍ بصرية، للصُّم والبُكم، يتم بعده إنزال لوحاتٍ عليها رسومُ طيورٍ تغطِّي الأرفف الموضوع عليها الأذرع المصنوعة من الجبس، ويتحول فضاءُ المسرح إلى متحفٍ لعلم الطيور.
على هذا النحو، قاد المخرِج والفنان المشاهِدين المعاصرين، عبْر دوائر المعارف العلمية والفكر الفلسفي لعصر شكسبير، آخذًا إياهم نحو إليزابيث المتربِّعة على العرش. لقد سمَت الملكة فوق المواطنين والجمهور جالسةً على حاملٍ مرتفع خرجتْ من أسفله عربةٌ ذات عجلات، عليها جماعةٌ من الحاشية. «يتراءى» هيكلٌ لمركبٍ ضخم، يستدير بجانبه ليخرج منه ماكيتَ لخارطةٍ (عليها رسمٌ للكرة الأرضية والبحار والأساطيل) كما تفرغ منها بآلاتٍ ومحتوياتٍ أخرى، وهنا يقوم شتاين ممثِّل الفرقة بالوقوف على مؤخر السفينة وقراءة نصٍّ للفيلسوف ميشيل دي مونتين. وبهذا تنتهي هذه المسرحية الضخمة التي جرتْ في «بيئةٍ» صنَعَها خيرمان من فضاءٍ مسرحي من عصر شكسبير، من فضاءِ ذاكرته وفَهْمه للعالم، ومن خبرته الفنية؛ وفي الوقت نفسه، فضاء عرضٍ من عروض الشارع والميادين، فضاء مُوحَّد بالنسبة إلى المشاهدين والممثلين.
في مسرحية «أوريست»، يضع خيرمان نسخته لنموذج المسرح الإغريقي، مستغلًّا وسائل التصميم المسرحي الحديث، ويظلُّ الموضوع الرئيسي للسينوجرافيا عنده هو الحائط، والذي كان — في واقع الأمر — محايدًا من الناحية البصرية، متجردًا من أيِّ واقع أيًّا كان، أو إشارةً إلى زمان الحدث التراجيدي ومكانه، ولكنَّه يكتسب مغزًى عميقًا غنيَّ المضمون في عملية الأحداث، وفي سياقها.
إن الديكورات في مسرحية «الأخوات الثلاث» لأنطون تشيخوف (١٩٨٤م)، تشبه الديكورات التي استُخدمت في مسرحية «المصطافون»، التي عُرضت قبلها بعشر سنوات؛ فهي تقف على النقيض تمامًا من التصميم المسرحي. وفي هذه الديكورات، يعرض الفنان مرةً أخرى حِرفيةَ رسمِ موضوعاتٍ من الطبيعة الحيَّة، والمناظر الداخلية للمكان، على الحائط. ها هي غرفة الاستقبال الرحبة في بيت آل بروزوروق، بنوافذها المرتفعة التي ينساب من خلالها ضوء شمس الربيع، والمؤثَّثة بأثاثٍ من طرازٍ مريح، ولها حديقةٌ خريفية أمام المنزل تنمو فيها أشجارُ الصنوبر الضخمة، وقد اكتستْ أرضها بأوراق الشجر الساقطة، وهذا السِّياج المنهار في مقدمة المشهد والمنظر الطبيعي الرحب في عمقه، تمَّ تنفيذها وفقًا لتقاليد عمل الديكورات في مسرح موسكو الفني، الذي ازدهر مع الإتقان الألماني والدقة التي تصل إلى حدِّ الصرامة. لكلِّ فصلٍ تصميمه الخاص، الذي ينفذ بأعلى قدْر من الإتقان وفقًا لملاحظات المؤلِّف المسرحي. وبهذه الطريقة نفسها تمَّ تصميم «بستان الكرز».
آنذاك، وبعد مرور عشر سنوات، تلقَّى خيرمان مرةً أخرى دعوةً من شتاين للعمل في «بستان الكرز» (١٩٩٥م)، وهذه النسخة تختلف جوهريًّا في حلولها عن تلك الحلول الواقعية التي استُخدمت في مسرحياتِ تشيخوف في الثمانينيات، والتي استلهمتْ رُوح المسرح الفني القديم. لقد صنع الآن وضعًا موحدًا، يعبِّر عن موتيفات الديكورات الأساسية للمسرحية؛ في المقدمة، الطفولة الغابرة. وفي العمق، خلف «نافذة» كبيرةِ الحجم، تبدو حديقة الكرز المزهِرة والمَمشى الذي يتحوَّل إلى طريقٍ تنتصب على جانبَيه أعمدةُ البرق، وإلى منظرٍ صناعي لمداخن المصانع تنفث الدُّخان.
لقد صمَّم خيرمان مسرحيةَ ك. بايمان على نحوٍ مختلف؛ فقد اقترح من أجْلِ إخراج مسرحيةِ «الحكيم ناتان» لجوتخولد ليسينج تصميمًا مسرحيًّا يبدو محايدًا، ولكنه يكتسب مغزاه في سياق الأحداث، فضاءً مسرحيًّا أبيض، في إطارٍ من صفوف من لمبات تبعث ضوءًا نهاريًّا، وهذا الضوء يوحي بجوِّ الصحراء، أو «بصفحةٍ ناصعة» للعالَم القديم؛ وفي الوقت نفسه، يعطي انطباعًا (عند الكاتب المسرحي ج. تابور) بغرف الغاز المميتة في معسكرات هتلر.
في مسرحيتي «توركفاتو تاسو» لجوته (۱۹۸۰م) و«قصة شتوية» لوليم شكسبير (۱۹۸۳م)؛ صمَّم خيرمان مكانًا أشبه بالمكان الحقيقي للأحداث. ولكنه ليس هذا المكان الذي اقترحه الكاتبان؛ وإنما نُقلت الأحداث إلى عصرٍ تاريخي آخَر. هنا يعيش أبطال جوته، في ركنٍ من الفضاء المسرحي مكوَّنٍ من حوائطَ بيضاء من القماش، بين مستلزمات الحياة اليومية في النصف الثاني من القرن العشرين: ثلاجة، مروحة معلقة، لمبات كهربائية، حمامات من القاشاني الحديث؛ وخلف الباب المؤدي إلى الشارع، سيارة تنتظر. وقد بنى الفنان للبطل الرئيسي «حوضَ ماء» من الزجاج، في منتصف المسرح؛ وفي غرفته المعزولة التي يمكن في الوقت نفسه مشاهدتها من جميع الجوانب، يجلس الشاعر وراء الآلة الكاتبة. تخيَّر خيرمان قاعةً رحبة على طراز عصر النهضة؛ لتكون مكانًا لأحداث مسرحيةِ «قصة شتوية»، بها صفٌّ من الأعمدة الضخمة و«سحابةٌ» صيفية خيالية معلَّقة فوق هذا الفضاء، تشبه تلك السحابة التي كان فنَّانو ديكور مسرح الباروك يحبُّون صناعتها. وقد شاهَدَ جمهور مسرحية «ليتسيدي» لبرنخارد (١٩٨٥م)، على العكس ممَّا سبق، مكانًا واقعيًّا لوجود أبطال المسرحية، بار «الغزال الأسود» للبيرة، قذرًا ومهجورًا وخاويًا. ومرةً أخرى، نعود إلى تصميمٍ خالص لمسرحيةِ «الساعات التي لم نكن نعرف فيها بعضنا بعضًا» لخانكي (۱۹۹۱م): خشبة خالية تحيطها ستة أسطح ذات حواف حادَّة تشير مجازًا إلى قطاعٍ عرضي في بيوت تقوم بوظيفةِ تنظيم مكانٍ في ميدان إحدى المدن، تتفرع عنه ديكورات شوارع متفرقة تشبه في تصميمها مروحةً لمسرح «أوليمبيكو» من طراز عصر النهضة. وعبْر الميدان يسير موكبٌ؛ ومن بين الممرات التي تفصل «البيوت»، تخرج الشخصيات لتؤدي المَشاهِد الخاصة بها.
أما خربرت فيرنيكي، فقد بدأ طريقه الإبداعي أيضًا باعتباره مصمِّمًا للسينوجرافيا. وممَّا يُذكر له، هذا الماكيت الذي صنَعَه لمسرحية «طبول في الليل» لبرتولت بريخت (١٩٧٤م)، والذي عُرض في معرض كوادرينالي براج-٧٥. هناك وُضع هذا النموذج السينوجرافي ومعه وُضعت كرةٌ كبيرة من الصُّلب، جاءت بمثابةِ شخصيةٍ فاعلة على نحوٍ نشيط. وقد قام بتعليق الماكيت أعلى المسرح، على امتداد الأحداث كلِّها، ليسقط في نهايتها، هذه «العمارة» الهشَّة المصنوعة من أكوام ورقِ الصُّحف واللفائف الورقية وغيرها من الأشياء التي تخصُّ عالَم أبطال المسرحية، فتتحطم وتتفرَّق هنا وهناك باعتبارها كومةً ضخمة من النفايات.
كان السعي نحو إضفاء هذا الدور الشخصي الحيوي للسينوجرافيا؛ أمرًا مميَّزًا للأعمال التي أخرجها فيرنيكي. ففي أوبرا «بوريس جورونوف» لموسورجسكي (١٩٩٤م)، وضَعَ المُخرِجُ النموذجَ البصري الرئيسي للمسرحية على هيئةِ نصف دائرةٍ في عمق المسرح تمثِّل معرضًا مكوَّنًا من ثلاث دوائر يضمُّ عشرات من صور القياصرة والجنرالات والوزراء ورجال الدولة وغيرهم من قادة روسيا على امتداد تاريخها كله. وللمرة الأُولى يقوم فيرنيكي، بعد أن استخدم هذا الأسلوب في مسرح الأوبرا بإضفاء طابعٍ فني جديد عليه (جرَت تجربته على خشبة المسرح الدرامي في مدينة مينسك). ومع أنَّ هذه الصور الصامتة لأبطال المسرحية، ليست لها علاقةٌ مباشرة بالقصة التي تدور أحداثها على المسرح، ولكنَّها أضفتْ على العمل سياقًا واسعًا بحيث تمَّ استيعابها باعتبارها واحدةً من المَشاهد الدرامية من الحياة الروسية التي تتكرَّر بلا نهاية. وفي إخراجه «تيودور» لهاندل (١٩٩٤م) نكاد نرى مرةً أخرى للمرة الأولى على مسرح الأوبرا ظهورَ أسلوبٍ سينوجرافي آخَر، تنوَّع استخدامه قبلَ ذلك عدَّة مراتٍ في الدراما، وهو قطع سياق الأحداث بظهور وسطٍ أبيض؛ فضاءٌ فارغ بشكلٍ مثالي. مسطحات من حوائط وأسقُف وَرَقية وخشبة كلُّها باللون الأبيض، تتمزَّق تدريجيًّا من جرَّاء اختراقِ المغنِّين لها. تخترق الحوائط أغراضٌ مادية: قوالبُ لأيدي مخضَّبة بالدماء، وأجنحةٌ ضخمة لمَلَاك، صُلبان وأشواك، ميدانُ حاكمٍ روماني، وأخيرًا، مَحاور معدنية ذاتُ أطرافٍ حادَّة، موجَّهة ناحيةَ وسط المسرح، نحو تماثيل أبطال الأوبرا.
وقد هيمنت أشكال العمارة المسرحية عند فيرنيكي عندما أخرج للأوبرا «دون كيخوت» لفردي (سالزبورج، ۱۹۹۸م) و«إليكترا» لشتراوس (ميونيخ، ۱۹۹۸م)، وقد تمَّ نصْب بناءٍ عملاق يرتفع إلى أعلى نقطةٍ في المسرح؛ حائط أبيض وبوَّابات تأتي كإطارٍ لفتحاتٍ أفقية سوداء متتالية على نحوٍ إيقاعي مُنذِرة بالسوء تشكِّل مكانًا عامًّا واحدًا لأحداث «دون كارلوس». ومع تطوُّر موسيقى المسرحية، تُغير العمارة المسرحية من تكوينها، فتتحول عن طريقٍ مختلف، وتميل وتتلوَّن بالضوء بدرجاته المختلفة، وتسقط عليها أشعته التي تنفُذ من العمق عبْرَ الفتحات السوداء. لقد أتاح فيرنيكي السينوجرافي لفيرنيكي المخرِج الظروفَ المكانية والتكوينية والمزاجية العاطفية لهذا الموقف أو ذاك في المشهد المسرحي. بهذا القَدْر من الضخامة، وبهذا القَدْر من التجريد، من الأسلوب الملموس المحدَّد (في حالتنا هذه؛ تجريد الدراما الإغريقية القديمة) توصَّل فيرنيكي إلى الحلِّ الإخراجي لمسرحية إليكترا. المسطح الرأسي للمربع الأسود العملاق يحجب مِرآة المسرح، دافعًا إلى المقدِّمة تماثيلَ الشخصيات، مواجهًا إيَّاها طوال الوقت بصريًّا، كأنه تجسيدٌ مرئي للقدر التراجيدي. وعندما يستدير، تنفتح وراءه من اليسار درجاتُ سلَّمٍ صاعد إلى لا مكان، مؤديًا وظيفةَ علامةٍ تشكيلية للجرائم: القتلة واقفون في ثباتٍ على درجات السُّلم، فوق جثث الضحايا المُلقاة عند أقدامهم.
وحتى عندما ألَّف فيرنيكي نسخته من أوبريت «أورفي في الجحيم» لأوفنباخ (۱۹۹۷م)، فقَدْ أدخَلَ إلى المسرحية أكثرَ الأحداث غرابةً من ناحية الإخراج السينوجرافي. وقد جرَتْ هذه الأحداث في هذه المرة في فضاءٍ، تشبه الديكوراتُ فيه تمامًا الديكوراتِ الموجودةَ في مقهى «عند الموت المفاجئ» في بروكسل، والذي يقع غيرَ بعيدٍ من مسرح «لامونيه»، والموضوع يتَّسم بالمرح المأخوذ من حياة الآلهة والأبطال الأسطوريين، وعُرِض في جوِّ الحفلات الماجنة، وراء الموائد وفوقها، وهو وضعٌ يعرفه المُشاهِد جيدًا. وفي لحظةٍ ما، ينهار الحائط الخلفي فجأةً، ومن فتحته يقتحم المقهى قطارٌ بخاري كبير؛ وفي لحظة أخرى، ينفتح ثُقْب في السقف لتهبط منه شخصيةٌ توزع الصحف، مؤديةً رقصة ضاحكة وهي تؤرجح ساقيها في الهواء. وفي الخاتمة، وفي مدخل المكان، يبدأ سقوط الثلج؛ ويغمر أبطال المسرحية والمشاهِدين بغطاءٍ أبيض.
وفي معرض كوادرينالي براج-٧٥ أيضًا، حيث أُقيم ماكيت فيرنيكي، لفَتَ رفيقُه الأصغر أ. شليف الأنظارَ إليه، بأعماله التي تجسَّدت فيها فكرةُ الفضاء الخاوي وخشبة المسرح الخالية، باعتبار هذه الخشبة نسخةً مسرحية من «الصفحة البيضاء» التي تُرسم عليها صورةٌ جرافيكية بصرية للميزانسين والتكوينات المادية في سياق الأحداث، وفي هذه الأعمال التي صنَعَها شليف — تلميذ ك. فون أبيين — يمكن أن نرى التطور المتميِّز وانعكاس الاغتراب البريختي والنزعة الوظيفية التي تحدَّثنا عنها سابقًا.
بَنَى شليف النموذج المسرحي لمسرحية «دون خيل: البنطلونات القصيرة» لتيرسو دي مولين (۱۹۷۲م) على كسر فراغ الصفحة البيضاء، الذي أُعِد باعتباره لعبةً تجمع بين السرور والمرح. أحدث شليف ثقبًا في الحائط وألقى عليه بأشكال كرنفاليةٍ جامحة: شخصيات في ملابسَ فاتحةٍ وأقنعة، وحوش خيالية، عرائس، تماثيل. وفي الوقت نفسه، لوَّن الأسطح البيضاء بطِلاء ملوَّن، وحوَّلها إلى تكويناتٍ لونية تجريدية.
في مسرحية «انبعاث الربيع» لفيديسكين (١٩٧٤م)، رسَمَ شليف تماثيلَ الممثلين، ظلالَهم وأحجامَهم، إيماءاتِهم وحركاتِهم، تبادلَهم للأماكن على «الصفحة البيضاء»، الفراغَ الخاوي للمسرح (الذي بُني على هيئة حائطٍ أبيض مسطَّح نصفِ دائري وأرضيَّة بيضاء بشكلٍ دقيق مع شيءٍ من التضخيم). وقد وصلَت الدقَّة والتضخيم حدًّا كبيرًا، حتى إنَّ كلَّ شيء أُدخل هنا، في هذا المناخ المخلخل والمعقَّد، بدا واضحًا جدًّا؛ على سبيل المثال: مقعد عادي، أو أرجوحة من الشِّباك، كل شيء هنا، حتى البشر أنفسهم. والأشياء تبدو وكأنها تظهر للمرة الأُولى، وكأنها هبطَت لتوِّها من الفراغ، أو كأنَّ كلَّ شيء قد استيقظ ليستقبل الحياة. وعندما نقترب من نهاية المسرحية، يلطخ السطح الأبيض النظيف للأرضية ببقعٍ من أوراق الشجر وتُجعل تكتسب شكلَ أرضٍ حقيقية، ويتم إدراك ذلك باعتباره تعبيرًا عن النزعة الدرامية واستباقًا لحتمية النهاية التراجيدية للمسرحية.
إنَّ فكرة الفراغ الخاوي، «الصفحة البيضاء»، باعتبارها أساسًا لرسم التكوينات المسرحية، قد تحقَّقت أيضًا عندما عَرَض شليف في عام ١٩٨٩م مسرحية «فاوست» لجوته كاملةً من إخراجه. هنا كانت الخشبة البيضاء المثلَّثة بمثابة «الورقة البيضاء»، تحدُّها من الأجناب ستائر سوداء، تظهر بياضها بشكلٍ حادٍّ، لتجمع في العمق أسفل الركن. عند افتتاح المسرحية، تخرج إلى الخشبة أربعُ نساء متقدِّمات في السِّن في ملابس السهرة، وهؤلاء يمثِّلن الرذيلة، الذنب، الهم، الحاجة؛ ومن إنذار بالنهاية الحزينة للقصة بقيادة مفيستوفيليس (في هذا يكتب الناقد ب. زوخير قائلًا: «مفيستوفيليس هو المحرِّك لهذه المسرحية، وهو مروِّض الذباب … السوبر ستار … وهو يظهر دائمًا إمَّا عاريًا تمامًا، أو نصف عارٍ … يزحف ويعوي … يتغندر ويُبهر …»). ستُّ شخصيات يلعبون دورَ فاوست.
هذا فقط بعض مما «رسمه» شليف على «الصفحة البيضاء» للخشبة برسومٍ جرافيكية، وتكويناتٍ تعبيرية من الظلال.
الشبَّان الستة، الذين يلعبون فاوست، يرتدون فانلات وبنطلونات قصيرة، وبحركةٍ تعبيرية يندفعون ناحية المشاهِدين. اثنتا عشرة مؤدِّية يلعبْنَ دور جريتخن، يجلسن أزواجًا داخل جرادل من الألومنيوم، بعد أن يُلقين بفساتينهن أولًا، ثم باقي ما يرتدينه. بعد هذا الميزانسين الإغوائي اللعوب يظهر الفاوستيون، وهؤلاء يروحون ينظرون بشغفٍ إلى ما في الجرادل، وهناك تحديدًا، وكما ينظر المرء في مرآة، يتراءى لهم رؤية جريتخن الرائعة والمؤثرة. مفيستوفيليس في رداء البريمادونا يؤدي دور «صولو» عند الأضواء الأمامية للمسرح، وفي هذه الأثناء يطوقه من الأجناب بامتداد الستائر السوداء صفان من مغني الجوقة، اثني عشر فردًا على كل جانب: الرجال أسفل والنساء أعلى، تمامًا أسفل المواقد. أما البناء الهندسي المعدني الشديد التعقيد، الذي فتحه الفنان أمام المشاهدين، فيبدو هنا في صورةِ قنطرةٍ ضخمة قائمة أعلى خشبةٍ مثلثة في بياض الثلج؛ بحيث تضفي على الفضاء المسرحي طابع المعبد، وهو يقف على النقيض من المظهر الجروتسكي البريمادوني لمفيستوفيليس.
وقد قام إنريكو توفولوتي أيضًا، وهو واحدٌ من الذين تخرَّجوا في مدرسة السينوجرافيا البريختية، والذي جرَّب العمل بالإخراج في الثمانينيات، بتقديم تنويعاته على «الورقة البيضاء» للفضاء الخاوي، الذي تنشر عليه الملابس فتبدو كالبقع الملوَّنة، إلى جانب الرسوم الجرافيكية للتفاصيل المادية. وفي إخراجه لمسرحية «كما تهواه» لشكسبير (١٩٧٥م)؛ يحيط المسرح حائطٌ أبيض نصف دائري على شكل حصيرة نافذة مستطيلة، يظهر الممثلون من خلالها وهم ينظرون ويسيرون ويتقافزون، لكي يؤدُّون دورهم الكوميدي على الخشبة الفارغة. وفي مسرحية «الطائر الأخضر» لجوتسي (١٩٧٥م)، يلعب الحائط القرميدي المطلي باللون الأبيض ذي الفجوة نصف الدائرية، أعلاه أبواب ونوافذ مفتوحة كالثغرات دور «الورقة البيضاء». هي مسرح على المسرح، أما الفضاء فهو مخصص ليمتلئ بالمشهد الذي يؤديه الممثلون. وفي المكان بابٌ على هيئة قوقعةٍ، مصنوعٌ من مادةٍ ليِّنة يبدو مناقِضًا للفراغ المحيط بشكلٍ حادٍّ، يذكِّرنا بالديكورات الفخمة القديمة التي لم تعُد تُستخدم الآن، والتي انهارت تمامًا؛ ولهذا فقَدْ تمَّ تجميعها من أعلى إلى أسفل لتعبَّأ في غطاءٍ أسودَ شفَّاف.
قام فرانس جيونيج — ممثل الجيل التالي — بالسَّير في إثْر زملائه القدامى؛ ليقطع الطريق من السينوجرافيا إلى الإخراج. وقد الْتزم في تصميمه للمسرحيات بمبادئ التصميم المسرحي: الحياد، التجريد، الابتعاد عن الواقع الملموس للمسرحية، ثم القدرة على اكتشاف المضمون في سياق الأحداث. وقد اقترح شفارتس في مسرحية «التنين» (١٩٨٥م) لجيونيج على الممثلين أن يعيشوا القصةَ في الفضاء المبني من سقفٍ وحوائطَ قرميدية. وفي سياق أحداث المسرحية، توضع علاماتٌ بيضاء تمثِّل سُحبًا ونوافذ وأبوابًا، تشير إلى مطبخٍ في بيت، أو إلى ميدان في مدينة مزيَّن برسومٍ لنوافذ بارزة مرفوعة عليها أعلامٌ سوداء كُتب عليها حرف «د»، ويظهر التجسيد المادي للرءوس الثلاثة لهذا الحرف قادمًا من شقٍّ في السقف. وفي أوبرا «أورفي وإيفريديكا» لجليوكا (١٩٨٥م)، لجأ جيونيج إلى التنويع في ارتفاع واتساع وعمق عمارة الفضاء وبنائها التكويني (بواسطة فتْحِ وإغلاق المسطحات في شتَّى المناطق وتغيير الدرجات اللونية للإضاءة). أما بالنسبة إلى مسرحية «المصطافون» (١٩٨٥م)، فقد وضع تصميمها لصناديق زجاجية ذات ارتفاعاتٍ واتساعاتٍ مختلفة تصعد على أعلى خشبة المسرح، وُضع فيها نباتاتٌ غريبة من مختلف الأنواع والفصائل، هي طبيعةٌ عامة لا علاقةَ لها أبدًا بواقع المسرحية التي كتَبَها جوركي. ومع أنَّ هذا التصميم أصبح هنا هو الوسط والخلفية بالنسبة إلى شخصيات هذه المسرحية تحديدًا؛ فقد أصبح من الممكن استخدامه، وبالقَدْر نفسه من النجاح في سياقِ أيِّ موضوعٍ درامي آخَر ذي علاقةٍ بموتيفة هذا المنظر الطبيعي.
يعدُّ أساس تصميم مسرحية «فاوست ١-٢»، التي أخرجها ف. إنجل، والتي استمرت تسع ساعات على مدى ثلاث ليالٍ، هو الفضاء الخاوي للمسرح. على السطح الأبيض للخلفية (يُضاء بين الفَينة والفينة باللونين الأزرق أو الأحمر ويؤدي هذا السطح أيضًا دورَ شاشة العرض السينمائي) تفتح ثغرة على هيئة إسْفِين، يشاهد الجمهور من خلالها سماءً مرسومة. إلى هذا الفضاء الخاوي يدخل اثنان يرتديان مِعطفَين رماديَّين وقبعتَين متشابهتَين؛ فاوست ومفيستوفيليس (كلاهما يجسِّد الطبيعتَين المتناقضتَين في الشخصية الإنسانية). وهما يظهران في المَشاهِد الأخرى أيضًا وقد ارتديا ملابسَ متشابِهة؛ في بدل بيضاء، أو أرواب منزلية مخطَّطة. وفي لحظةٍ ما، يرقدان جنبًا إلى جنب على سرير حديدي وُضع في وسط حجرة فاوست (فضاء الغرفة يصنعه حائط في العمق بنوافذ عارية). يظلُّ السرير موجودًا على المسرح، وإن ابتعد من الوسط جانبًا، وعندما يُزال الحائط، ينكشف الفضاء من جديد تمامًا ويدخل إليه بناءٌ من ثلاثة أدوار بهدف أداء مشهدَين: «عند جريتخن»، و«ليلة فالبورجيفا». في المشهد الأول، يمثِّل البناء مَقْطعًا من جزءٍ من منزلٍ خرساني حديث، له شرفات مزينة بالورود (هي المكان الأساسي الذي تدور فيه الأحداث)؛ وفي الدور العلوي «تنمو» شجيراتٌ جافَّة عارية من الأوراق، وهذه هي المنطقة الخارجية. وعندما تُدار، يبدو في البناء بسطةُ سُلَّم؛ حيث يقدَّم عليها مَشهَد ليلة فالبورجيفا الذي يتناول باعتباره حفلًا عربيدًا يشارك فيه سكَّان المنزل.
لقد امتزج تصميم مشاهد ذكريات ورؤى فاوست بالنثر اليومي الحديث والعناصر الفانتازية السوريالية؛ فعلى السطح الأملس لرصيف شارع دائري، يظهر خيالُ فتاةٍ جميلة عارية، يسير بنعومة على الخشبة، ثم يزحف وقد فقَدَ سماته، ويتشوَّه شكلُه. وفي أحد المشاهد، يظهر فاوست ومفيستوفيليس على طاولاتٍ مرتفعة، ومن ثَم يزداد حجمها حتى يتجاوز كلَّ ما يحيط بهما من أشياء. ومن الأبواب المشرعة على الغرفة، حيث يرقد فاوست فاقدًا الوعي على السرير، تندفع فظائع الحرب وقد اكتسبت شكلَ أشخاصٍ لتقدِّم كرنفالًا رهيبًا. وفي الخاتمة، لا يبقى على خشبة المسرح الذي أُخْلي سوى مائدتين للمكياج، يجلس وراءهما الممثلون يجربون الأقنعة، التي تعبِّر عن مختلف حالات النفس البشرية.
إنَّ الفضاء المخصَّص لأداء أوضاع أوبرا «الثلاثة بنسات» لبريخت (۱۹۹۱م)؛ قد وضع جيونيج تصميمها بمساعدة الحوائط المتنقلة قطريًّا عبْر خشبة المسرح (من الجزء الأمامي الأيمن إلى العمق)، وقد رسم على الحوائط صورةَ بناء حجري، وفي هذا الحائط ينفتح باب، خلفه أكشاكٌ حمراءُ لامعة، يخرج منها ويدخل إليها الزبائنُ الذين تقوم الفتيات شِبه العاريات بدعوتهن إليهنَّ بإلحاح. يمتلئ الممشى الممتدُّ عبْر الجزء الأعلى من الحائط بالعابرين الكسالى. تفتح النوافذ المُركَّبة في حائط المنزل. يضع التصميم المسرحي هناك شارعًا عامًّا في مدينة، يصلح — وظيفيًّا — لاستخدامه ليس فقط في هذه المسرحية، وإنما في أي مسرحيةٍ أخرى تدور فيها أحداثٌ مشابِهة.
معالجة أخرى أكثر تجريدية عن واقع المسرحية، كانت هي المعالجة التي قُدِّمت في مسرحية «أمفيتيريون» لكلايست (۱۹۹۰م)؛ في الافتتاحية بناءٌ خارجي، يُدخل الفنانَ الفضاءَ، على هيئة مكعبٍ داخلي فارغ تمامًا (مقعد واحد فقط في المنتصف، فوقه مصباح كهربائي عارٍ). المسرح يستوعب كليةً من خلال «صفحةٍ بيضاءَ نظيفةٍ» محايدةٍ، يبدو عليها بوضوحٍ ميزانسين جرافيكي لشخصِ الممثِّلين.
وقد قدَّم جيونيج في مسرحية «الأمير جومبورسكي» لكلايست (۱۹۹۲م) سلسلةً من التكوينات السينوجرافية واحدًا تلوَ الآخَر. وقد بنى كلَّ تكوينٍ باعتباره تكوينًا مستقلًّا، يُعرض كما لو كان منفصلًا عن باقي التكوينات الأخرى. باختصار، مشهد وراء الآخر، مثلما كان يحدث في الزمن القديم الذي سبق نظام وضع الديكورات فيما قبل المسرح الفني. أما الآن، فالمَشاهِد هنا كانت مجزَّأة إلى أقصى حدٍّ، وتحتوي فقط على عناصرَ معماريةٍ ومادية وطبيعية، تنفِّذ ميزانسين محددًا أو وظيفة ذات دلالة. قنطرة خضراء (تظهر من خلال فتحة مثلثة في الفضاء) تصطفُّ عليها مجموعةٌ تقف في مواجهة الأمير الموجود في الأسفل في مقدم واجهة المسرح، وللدلالة على أنَّ الأحداث جميعها تدور في حديقة. حائط أخضر به فتحةٌ أفقية في الجزء الأعلى؛ حيث على خلفية السماء ورسمٍ جرافيكي أسْوَد لفروع شجرةٍ، تظهر تماثيل نصفية لضبَّاط يتلقون الأمر بالمعركة المقبِلة. وهذا الحائط يُتيح تنويعةً أخرى لتكوين ميزانسين من دورين؛ يصنع الفنان مشهدًا دالًا على موقع المعركة بواسطة تلٍّ مُقام في خلفية المسرح. والمشهد التالي يمثِّل غرفةً في منزلٍ ريفي عبارة عن مربَّع أبيض ذي فتحة في السطح الأسود لحائط، يُفتح خلفه فضاءٌ آخَر «خارجيًّا». وللدلالة على مقطع من المسرحية يدور في برلين، يكفي سُلَّم من درجاتٍ حجرية، صاعد بشكلٍ حادٍّ من اليسار إلى اليمين بعرض المسرح متجهًا نحو الخشبة العلوية، حيث يوضع تابوت، عليه تماثيل لنساءٍ يبكين. وبالنسبة إلى السجن. وهو سطح رمادي نازل، يطبق على الفراغ من أعلى. في الخاتمة يضيق على تمثال البطل أيضًا من الأجناب (بواسطة أجزاء من أسطح الحائط) ثم يختفي في فتحةٍ ضيقة.
وعلى نحوٍ مختلف يبدو التصميم المسرحي عند جيونيج في مسرحية «موت دانتون» لبشيبيشيفسكي (١٩٩٤م). هنا يغلق الفنان الفضاء بأسطح الحوائط، التي كانت — مع التصميم الآخر بكامله (الحوائط العليا للمسرح، الكواليس، السلالم، الأريكة، آنية الزهور، التماثيل النحتية) — قد طُليت بلونٍ أخضر غامق يشبه لون الجوخ الأخضر على الطراز الإمبراطوري النابوليوني. وقد أُكدت حيادية هذا الفراغ بالنسبة إلى الزمن التاريخي ومكان الأحداث موضوع المسرحية؛ بواسطة مروحةٍ من طرازٍ حديث تدور تحت السقف. بالإضافة إلى ذلك، خلق جيونيج — بمساعدة الألوان — جوًّا خانقًا ودراما مثيرة للفزع. على هذا النحو حلَّ الفنان، وهو يعمل هنا باعتباره مصمِّمًا مسرحيًّا، المهمَّة التي ظهرت في وقتٍ ما باعتبارها المهمة الأساسية لفنِّ الديكور، سواءٌ أكان المسرح مسرحًا نفسيًّا أم تعبيريًّا. وعندما شرع الفنان في إخراج مسرحية «فريوكين يوليا» لسترندبرج (١٩٩٤م) بطريقته الخاصة (بصفته مخرجًا أيضًا)، فقَدْ عبَّر باللون تحديدًا عن الحالة الداخلية للحدث المسرحي. لقد خلقت بيئة مشبَّعة عاطفيًّا بدت مكانًا واقعيًّا تمامًا للحدث (المطبخ)، وفي الوقت نفسه جاءت تجسيدًا للدراما المتوترة للحالة النفسية للأبطال. وهؤلاء عبَّروا عن علاقات الحُب المتبادَلة المُضنية في مكانٍ مغلق من جميع الجوانب، حتى في أعلاه، مكان بُنِي على نحوٍ غير متماثل، له حوائط مائلة في كل الاتجاهات، حوائط ذات لون أحمر فاقع. وفي هذا الفضاء الحسي الذي يمتلك جاذبيةً داخلية قوية، تهبط يوليا الدرجات الحمراء للسُّلَّم المنحدِر مرتديةً ثوبًا أحمر بلون الدم، وتلتقي «جان» على أرضٍ حجرية باردة حادة التناقض، حيث يدور مشهد «هذيان في الأحمر». بعض الأشياء الضرورية للحدث (من المروحة المعلَّقة على الحائط الأحمر، والتي يظهر من خلاله ضوء القمر، حتى سكاكين المطبخ والسرير الخشبي، سرير الحُب والموت، والهاتف) استخدمها الفنان لا باعتبارها أدواتٍ معيشيةً، وإنما باعتبارها أشياءَ ماديةً تمثِّل «علامات في غرفة تنفيذ إجراءاتٍ طقوسية في ليلةٍ خاصة». في الخاتمة، يختفي الحائط الأحمر وينفتح منظرٌ طبيعي صيفي مغطًّى بالثلوج؛ مشهدٌ بصري يعبِّر عن التحرُّر التراجيدي للبطلة.
في عام ١٩٩٠م قدَّم المخرِج خاكير، عرضَه الأول عندما أظهر في مسرحية «تيمون الأثيني» لشكسبير نموذجًا سينوجرافيًّا لشخصيات تجسَّد من خلال أقنعة، سرعان ما أصبحت هي الوسيلةَ التعبيرية الأساسية في اتجاهه الإخراجي. وفي هذا العمل نُحِت قناع شخصي لكل بطل في التراجيديا جسَّد عن طريق التشكيل النحتي والشكل واللون جوهرَ هذه الشخصية. وقد بلغ عدد الأقنعة أربعةً وخمسين قناعًا تُخفي عن المشاهدين الملامحَ الفردية «العرضية» لوجه الممثِّل، إيماءاته الشخصية، مستبدلةً بهيئته الحياتية هيئةً أخرى تتماهى وفنَّ الفنان بمساعدة التشكيل الحيوي لحجم الرأس، غير مُتماثِلة في حركةٍ أجزائها ومشوَّهة النِّسب.
يعطي قناعُ تيمون بما يحمله من آثار للقهر المشوِّه، والجمجمة المجتزأة من أعلى، والعينان الغائرتان بعمق، كأنما ضغطت داخل شقٍّ، وفتحة الفم الضيِّقة؛ طاقةً داخلية قوية، وتعبِّر عن إرادةٍ شديدة ونزعةِ شكٍّ متوترة، كما تعكس تعبيرًا جيَّاشًا بالعواطف تفور مثل الحمم. وإذا كان تشكيل البطل الرئيسي مبنيًّا على الانتقال الدرامي المضني للبروزات والوِهاد من حالةٍ إلى حالة، فإنَّ قناع إبمنت المكعَّب المتعدِّد الجوانب؛ يأتي نتيجةَ مؤثراتِ الهندسة الفراغية. الضلع الأمامي: الخط الأوسط للوجه ذي الأنف المثلَّث الرأسي، وأجفان العيون الأفقية المثلثة، وفمٌ هو فتحةٌ سوداء غير متماثِلة الشكل. كانت أقنعةُ الكفياد وجيشه جميعها ذات أشكالٍ هندسية، على هيئة دروعٍ نصف أسطوانية، بالإضافة إلى أن لدى الجنود دروعًا مسطَّحة ملساء بها نتوءاتٌ وفتحتانِ على هيئةِ عينَين مثلثتَين متماثِلتَين. أمَّا الضبَّاط، فعلى دروعهم يُضاف فمٌ مثلَّث أيضًا، ومرسوم عليها بعض العلامات الفردية (حواجب، شوارب، ذقون). وبدرجةٍ أكبر نجِدُ أن التصوير الموجود على سطح الدرع يعطي ملامح وجه الكفياد مقرِّبًا إيَّاه من قناع المحارب أكثر من باقي الأقنعة التي تجسِّد الجوهر الأساسي للشخصية الإنسانية. ونجِدُ لدى التاجر والصائغ تركيزًا متطرِّفًا على المادة التي تهمُّهم، وفي الوقت نفسه الشكَّ والحرصَ والخوفَ المُضمَر. الرسوم بدائية؛ دب، مسطَّح على هيئةِ فطيرة مُكَرمشة، يضع قناعًا يشبه بالتة الألوان. الشاعر رومانسي أجْعَد الشَّعر، له نظرةٌ مغرضة. أعضاء مجلس الشورى (السيناتورات)، لهم ملامح واحدة، حمراء وشائخة، وعيون متماثلة تشبه الخُروم، الأنوف نفسها التي تشبه كُرات العجين، والابتسامات الجيزويتية المراوِغة نفسها، الشيء المختلِف فيما بينهم هو علاماتهم الخارجية فقط: «قَصة الشَّعر»، بقايا تافهة لشَعرٍ أشيب، يزين كلٌّ منهم بها رأسه الأصلع؛ الغيرة، الخنوع، البخل، النهم. والشخصيات الأخرى المحيطة بتيمون تجسِّدها أقنعةٌ أخرى. وجوه خدَمٍ لوكولا تكتسي بالعبوس والتجهم، فلاميني يشبه الفأر، أمَّا فينستيدي فصراحته واضحةٌ وعيونه «شاردةٌ» (بحدقتَيهما اللتين هما فتحتان في كل عين). فلاخي فقط هو الذي يمتلك وجهًا ينمُّ عن طيبة؛ وجهٌ خالٍ من المكر، ونفسٌ مفعمة بالإخلاص. وكان هناك قناعٌ واحد مميز لدى الأثيني العجوز، يمثِّل نموذجًا لإنسانٍ عاش حياةً صعبة ويمتلك عالمًا داخليًّا دراميًّا على نحوٍ عميق.
تنتقل الأقنعة بقدرٍ مماثل من التعميم، على الرغم من اكتسابها طابعًا شخصانيًّا. إنها تخفي تماثيل الممثِّلين؛ الأكفُّ وحدها التي تعمل. العري يخلق تضادًّا حادًّا مع المظهر. في الخاتمة، ينزع الممثِّلون الأقنعة ويضعونها على الأرض، وللمرة الأُولى يظهرون أمام الجمهور في هيئتهم الطبيعية خارجَ حدود الموضوع الشكسبيري.
وقد استثمر سينوجرافِيُّو المسرحِ الألماني هذه الخبرة الإخراجية: إ. شيوتس في «رحيل فاتسر الأناني» لبريخت (۱۹۹۲م)، وأوبرا «تتويج بوبيا» لمونتفردي (۱۹۹۳م)، م. إ. ماريللي في أوبرا «كاديلاك» لخيندميت (١٩٩٤م). وفي الوقت نفسه، فإن كلَّ هذه المسرحيات، مِثلُها مِثل مسرحياتِ خيرمان وفيرنيكي وجيونيج، لم تكن تنتمي — من ناحية بِنيتها — إلى هذا النوع من المسرح، الذي تصنفه الكتب باعتباره مسرحَ الفنان، والذي تُعدُّ علامته الأساسية أنَّ كتَّابَه يتعاملون مع الجمهور بلغةٍ تشكيلية بالدرجة الأُولى؛ لغة بصرية. إنَّ هؤلاء السينوجرافيين، الذين نتحدث عنهم، ظلُّوا يعملون — بعد أن أصبحوا مخرِجين — في إطار المسرح الدرامي الأدبي المعتاد أو المسرح الأوبرالي. فهُمْ لم يسعوا إلى إحداث تغييراتٍ جذرية في الإبداع الفني للمسرح، وإنما أدخلوا عليه قدْرًا كبيرًا من «البصرية»؛ فمن ناحية، نجدهم قد استخدموا العناصر السينوجرافية التي تدخل في نطاق حِرفتهم (اللون، الضوء، الفضاء المسرحي، الأزياء، الأقنعة)، والتي يمتلكون ناصيتها بحِرفيةٍ عالية، ومن ثَم راحوا الآن يستخدمونها باعتبارهم مخرِجين. ومن ناحيةٍ أخرى، فقَدْ أدخلوا المبدأ الفني في تكوينات الأبنية الإخراجية لميزانسين الممثلين، وفي الحركة والإيقاع.
يتميز إيريك فوندر بالفكر الإخراجي المعبَّر عنه بوضوح، مع أنَّ هذا السينوجرافي — كما يبدو — لم يُظهر طموحاته الإخراجية، فقَدْ فضَّل أن يعمل في مجال تصميم المسرحيات، وأن يحقق الأفكار الإخراجية التي ظهرت لديه من خلال إيجاد معالجةٍ للفضاء المسرحي، وقد وضَعَ في هذه الحدود عددًا من عروض البرفورمانس والأكشن المؤثِّرة.
يعدُّ فوندر واحدًا من أكبر ممثلي التصميم المسرحي. ويعدُّ الحلُّ الذي وضعه ﻟ «دون جوان» لموتسارت (١٩٩٠م) من أشهرها في هذا المجال.
إنَّ ما قُدِّم أمام الجمهور، في المشهد الأول، لا يمتُّ بصلةٍ لا إلى إسبانيا القرن السابع عشر، ولا إلى سفيليا، ولا إلى الحديقة الواقعة أمام بيت كوماندور. لقد استخدم الفنان موتيفةَ مدينةٍ أكثر عمومية، لا تنتمي إلى زمنٍ محدَّد أو أسلوبٍ بعينه. وإنما جعلها لمدينةٍ أكثر معاصرةً من مدن هذا العصر البعيد، فهي: حائط ذو نوافذَ عاريةٍ ميتة تشبه الفتحات، يسير مبتعِدًا نحو الظلام. وأمام الحائط في مقدمة المسرح حفرةٌ يخرج منها البخار، وعلى الأطراف أكوام من التراب الطبيعي. يمثِّل هذا المكان الإجرامي مسرحًا للجرائم الليلية، وفيه يقتُل دون جوان كوماندور. وبالنسبة إلى المشهد التالي، الذي يتطلَّب زيادة الفضاء المسرحي («ميدان في المدينة»، وفقًا لِلِّيبيرتو) يقوم الممثل الذي يؤدي دور دون جوان بإزاحة السطح الأسود الذي يحجب عمق المسرح جانبًا (إلى اليمين)، فيمتد أمامنا شارع المشهد الأول (رصيف، وحائط رمادي، وقواعد حجرية، ودعامات). ومن بعيدٍ تنعكس أضواء منظرٍ ريفي (حقلٌ وبيتٌ ريفي)؛ وهي علامةٌ تعبيرية تشير إلى أن الحدث قد انتقل إلى مكانٍ ريفي، إلى جواره مصنع للعلف ينتشر بعضٌ منه على الخشبة. وهذه التركيبة من التقنيات السينوجرافية، تبدو غريبةً وغير متآلِفة (فضاء مفتوح، يقوم على تنظيم حدثٍ واقعي تمامًا في مدًى ثلاثي الأبعاد مع خلفيةٍ خيالية واضحة مرسومة؛ مدونات موسيقية تأثيرية لإضاءة مسرحيةٍ رمزية، ضوءٌ ملوَّن وآخَر أسْوَد وأبيض يتماشى مع طبيعةٍ مطلقة تميِّز إبداعَ فوندر). وفي مخزن العلف، يقوم دون جوان بإغواء تسيرلينا. يكشف السقوط المفاجئ على الأرض لإحدى دعامات الحائط الجانبي الأيمن عن ظهور إلفيرا. وتتغيَّر الحالة المكانية من جديدٍ عندما تدخل دونا أنَّا وخطيبها — ينتقل الحائط الأيسر ليحجب الجزءَ الأكبر من المسرح، ليتركز المشهد على الجزء الأقرب، ولكي يتسنَّى لدون جوان أداء أريا — مونولوجًا؛ اقترَحَ الفنان على البطل الاقترابَ بشدَّة من أضواء المسرح الأمامية ليعرض خلفه رسمًا لمسرحٍ قديم من طراز الباروك (لوج، تراس، شموع) ولكنْ، دون جمهور؛ إذ إنَّ هذا الجمهور يكون قد اختفى منذ فترةٍ بعيدة في الدنيا.
من جديد، يظهر مخزن العلف على خلفية منظرٍ ريفي مسائي، لكنَّه في هذه المرة يكون مرسومًا إلى أعلى الخلفية، وإنما على سطح حائط يغطي الفضاء المسرحي. وفي لحظةٍ معينة، تنفتح الأسطح المرسوم عليها منظرٌ طبيعي، كما تنفتح الأبواب على مصاريعها لينكشف خلفها عمقٌ مظلِم، وأمَّا الأسطح نفسها فتصطفُّ على أجناب المسرح وتستدير ليظهر جانبها الأزرق، لتصنع إطارًا لمكانٍ يمثِّل بهْوًا في بيتِ دون جوان، يحيط الحوائط الرمادية المحايدة وسط العلف المنثور على الخشبة؛ ومن فتحة في السقف، يسقط على الرُّءوس مطر من العُملات. يعيد دون جوان وليبوريللو الأسطح الزرقاء مرةً أخرى إلى أوضاعها في المقدمة، الأمر الذي يشير إلى انتهاء الحفل، وينتج من ذلك أن مكان البهو يبدو من جديدٍ مغطًّى برسم المنظر الريفي المسائي.
بالنسبة إلى المشهد الذي يصوِّر مكانًا بالقرب من بيت رونا إلفيرا؛ أقام فوندر بالنسبة للمشهد الذي يصوِّر حوائطَ رماديةً محايدة وسُلَّمًا. كما أقام فوق الخشبة ساحةَ عرضٍ مرتفعةً، ضرورية وظيفيًّا لكي يضع ميزانسين «في التراس». المشهد التالي — «غرفة دونا آنا» — يقام من خلال دفْعِ الحائط الخلفي إلى الأمام قريبًا من الجمهور، وقد فُتحتْ فيه عدَّة فتحات تمثِّل أبوابًا، ووُضعتْ فيه من أعلى ستارةٌ بيضاء. يتحوَّل المكان كليةً إلى «مدفن» ليظهر بعد ذلك في العمق ممرُّ أعمدةٍ ومنظرٌ جبلي خلفه؛ تمَّ إعداد فضاءٍ يمثِّل بهوًا في بيت دون جوان، هنا المشهد الوحيد في المسرحية الذي يظهر فيه إشارةٌ إلى المكان الواقعي للحدث، والذي يُتدارك باعتباره، كما لو كان، جملةً مقتبَسة من مفرداتِ فنِّ الديكور وُضعتْ بوعيٍ تام في الخاتمة في بنية التصميم المسرحي.
لقد ألهمت لوحةُ مارك روتكو التجريدية، وقبل كلِّ شيءٍ لوحةُ «الأزرق فوق البرتقالي»، فوندر عندما كان يضع التصميمات لمسرحية «تريستان وإيزولدا» لفاجنر (۱۹۹۳م)، وهي العمل الإخراجي الأول لموللر في مسرح الأوبرا. وفي رأي ت. فيورديخوف، وهو الباحث المتخصِّص في إبداع فوندر، أنَّ فوندر وصَلَ إلى حلِّ عنصر المكان بواسطة الأسطح (التي لا تحمل هنا أيَّ دلالة أو تعبير بمفردها، ولكنها تخلق تكويناتٍ لونيةً تجريدية في الوسط المسرحي إذا ما استُخدمَت الإضاءة المناسبة معها). وقد تتبَّع الباحثُ هذا الفهمَ للفن، والذي كتب عنه في عام ١٩٨٨م نتيجةً للانطباع الذي تولَّد لديه تحديدًا بفضل لوحة روتكو. ويرى فوندر أنَّ الفن ينبغي أن يجسِّد الجوانب الموجودة خارج حدود المرئي، والتي لا تتجسَّد في أشكالٍ واقعية ملموسة، وبالأحرى التي لا تعدُّ نتيجةً لتفسير أي شيء مطروح على نحوٍ مسبَق، بما في ذلك تعليقات المؤلف المسرحي (الدراماتورج) أو المؤلف الموسيقي. وفي هذا السياق، يُورِد ن. فيورديخوف ما قاله ب. شيرو بشأن مسرحية «تريستان وإيزولدا»: «هذه مسرحيةٌ إذاعية.»
على أيِّ نحوٍ إذن بدَت التكوينات المسرحية التجريدية التي وضعها الفنان، والتي راح المغنُّون في وسطها يصدحون بالأنغام الموسيقية اللانهائية، ويؤدون موضوعاتِ هذه «المسرحية الإذاعية» لفاجنر؟
يقدِّم فوندر بدايةَ كلِّ فصل من خلال تكوينٍ تجريدي مقتبَس على سطح الستارة الأمامية، وفيه يصوِّر لوحةً تمثِّل ملخَّصًا لمَا يمكن رؤيته وسماعه على المسرح بعد ذلك، بعد أن يكون قد وضَعَ التصميم المسرحي لأوبرا فاجنر من خلال تكويناتٍ تجريدية لثلاثة مكعبات تغيِّر من وضعها الدرامي نتيجةَ استخدام تنويعاتٍ موسيقية وأضواء ملوَّنة مُركَّبة.
قُبيل الفصل الأول، تظهر موتيفة المكعب الأحمر وسْطَ «خشبةٍ» مضاءة باللون الذهبي الناري، ممتدة بعيدًا خلف حدود المكعب، وكذلك تُعرض وحدها أيضًا (على هيئة قطعةٍ مستقِلَّة) موتيفةٌ لقاربٍ أسْوَد عليه بطلانِ يجدفان عبْر «أمواج» حمراء بلون الدم من خلال «بوَّابات» الابتلاء الثلاث التي تختبر حُبَّهما. وقُبيل الفصل الثاني، يظهر وسْطَ فضاءٍ من «الخمائل» مكعَّب أزرق وصفٌ من لوحاتٍ تذكارية عسكرية تتراءى بلونها الأبيض. وفي النهاية، قُبيل الفصل الثالث، يظهر مكعب رمادي مرسوم عليه شريطٌ أبيض متعرج ومحاط بهالةٍ من فضاء كوني خالٍ من الحياة.
عند إخراجه لأوبرا «وليم تل» لروسيني، اقترح فوندر مشهدًا كبيرًا يصوِّر مجموعاتٍ كبيرةً من الجوقات المغنية، تظهر باعتبارها تكويناتٍ تعبيريةً من كثيرٍ من الأشخاص تُحيطها أُطُر (بشكلٍ كامل أو جزئي)؛ في البداية، يظهر فلَّاحون في أزيائهم القومية يتبعهم بعد ذلك مدنيون. وبعد أن يُخلَى — بهذه الطريقة — المسرحُ من وجود الجوقات بأعدادهم الكبيرة، يضع مشهدًا بصريًّا خالصًا مثبتًا على سطح ميزانسين عام لهم، وهنا يعطي الفنان (المخرِج) لأفراد الجوقات الممثلين الإمكانيةَ المطلقة لاستخدام الوسيلة الأساسية التي يكمن فيها قوةُ تأثيرهم والمتمثِّلة في الغناء بكلِّ معناه، على ألَّا يقوموا «بأداء» شيءٍ آخَر.
يستخدم فوندر، عند الضرورة وبأستاذيةٍ رفيعة، أسلوبَ نقْلِ مكان الحدث من الماضي إلى الحاضر. وبعد أن اقترح أن تبدأ أوبرا «ألفونسو وإستريللا» لشوبيرت (۱۹۹۷م) باستخدام ديكور الغرفة الحقيقية التي عاش فيها المؤلف الموسيقي في عام ١٨٢١م، يقوم في الجزء الثاني من المسرحية، وطبقًا للأحداث، حيث يلتقي الجنرالات وتبدأ الحرب ببَسْط الحدث ليتمَّ وسط أجهزةٍ دفاعية حديثة: خنادق، وأكياس رمل.
وفي الوقت نفسه، الذي كان فوندر يعمل فيه على المسرح، كان يفكِّر بين الحين والآخَر في أشكالٍ مختلفة من الإنستاليشن والأكشن والبرفورمانس التي عرَضَها في الجاليريهات والمعارض (على سبيل المثال: في مايلشترومزدبول، في معرض «الوثيقة» في كاسل، ١٩٨٧م؛ أو إنستاليشن «الفضاء الأحمر» في مبنى لينكوم في موسكو ١٩٨٩م). وفي ١٦ مايو ١٩٩٢م، وعلى مسرح فينا، عرَضَ عملًا كبيرًا تحت اسم «عين الإعصار» شاهَدَه نحو عشرة آلاف وخمسمائة مُشاهِد.
تابع الجمهور شيئًا يشبه كتلةَ ثلجٍ ضخمة، يبلغ طوله عشرين مترًا، يتحرك ببطء على قضبان خلال ثلجٍ (يتطاير بواسطة مراوحَ كبيرة)؛ وفي فضاء هذا «القطار» المضيء من الداخل بضوءٍ أزرق بارد، فريقٌ من موسيقيِّي الرُّوك يعزفون بإيقاعاتٍ صوتية مزعِجة لا معنى لها، في حين يصرخ الممثِّل في الميكروفون مؤديًا نصوصَ خ. موللر وبلين وشنيتسلر (يقول فوندر: «لا فرقَ إنْ كان الذي يقال هو هذا النَّص لهذا أو أنه للآخَر، النص ببساطة يهدِّئ الرعاة»). وفي لحظةٍ ما، يتوقف هذا «الديناصور» (كما أطلق عليه الناقد ت. فيورديخوف) الذي يحرسه الرعاة الذين يهرولون عبْر الخط الجانبي، عن إطلاق الأصوات المدوية المصرصرة المجلجِلة. في الأسفل، يتصاعد صوتُ منشارٍ دائري يفتِّت هذا الجندي المستقبلي، بعدها يأخذ «الديناصور» في التحرك ليشقَّ ويكسر الحواجز الزجاجية، وعندما يقترب من مبنى أوبرا «فينا» تصطدم به مدرَّعة لتفجِّره.
(٥) يوزيف بويس، جيونتر يونكر وآخرون
وقد ظهر هذا السعي — على سبيل المثال — في «عرض أكشن للأيدي» (١٩٦٩م). وقد بُني العرض على التناقُض بين أيدي أناسٍ يجلسون على مقاعد من الصُّلب وقد وضعوا أيديهم على نحوٍ ثابت لا يتحرك على مائدة من الصُّلب، وبين الحركة الحرة ليَدَي الفنان المرفوعتَين إلى مستوى العيون، وحركة الأصابع المرنة، تستقيم بشكلٍ متوتر، تعتدل، ثم تتجمَّع في قبضةٍ تُمسك بالإشارات الضوئية والمكانية، التي تنطلق من هؤلاء الجالسين وراء المائدة. وقد قُدِّم عرض هذا الأكشن المسمَّى «إيفجينيا/تيت أندرونيك» (١٩٦٩م) باعتباره إحدى خبرات التعاون القليلة بين بيوس والمسرح، حيث راح المخرِج ك. بايمان والممثِّل ف. فينتس يقرآن مونتاجَ نصوصِ مسرحيتَي جوته وشكسبير، في حين كان الفنان يصاحب قراءتيهما بأصواتِ «تعليقاتهما» (المضاعَفة بواسطة الميكروفون)، فضلًا عن صوت خشخشة القش، الذي يمضغه حصان أبيض يقف في عمق المسرح. هذا التوازي الصوتي إلى جانب الأشياء المادية التي يضعها الفنان مصاحبةً للحدث (زبد، سكر، قِطَع ثلج، يضعها على رأسه بين الحين والآخر)؛ يخلق سياقًا جديدًا تمامًا — للعرض وللجانب السمعبصري فيه — أمام النص المسرحي الكلاسيكي.
إن المونو أكشن الذي يقدِّمه فنانٌ ألماني بارز آخَر في مجال الإبداع البصري، في النصف الثاني من القرن العشرين (يوكر)، مع ما به من اختلافات، يمتلك مغزًى كبيرًا من الناحية الطقسية، بقدْرِ ما فيه من لوحاتٍ مليئة بالمسامير وموضوعة على حوامل، وتجميع لأشياءَ مختلفةٍ وإنشاءات. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ عملية تقسيم اللوحات والأشياء وعمليات الدمج والإنشاءات أو حتى التبييء يمكن تقديمها بواسطة الفنان باعتبارها «أكشن». على سبيل المثال — الرسم باللون الأبيض على شَعرٍ متنامٍ على سطح «البيانو» (١٩٦٤م)، دق المسامير في البركة وعلى الثلج، وقد وثِّق سينمائيًّا؛ «السير على المسامير» (١٩٦٩م)، سلسلة عروض الأكشن على الساحل الرملي في ليبيا، التي أنتجها الفنان عام ١٩٧٤م، رَسَم فيها حول نفسه حلقاتٍ طقسيةً — «إزالة الأثر» بنى فيه خطًّا رأسيًّا من الأحجار — «العمود الناقص». دقَّ مسمارًا ضخمًا في مكان الْتقاء خطَّين رسَمَهما على الرمل؛ حيث يلتقي الخطان، تتكوَّن «النقطة»؛ شقَّ الشاطئ الليلي «بالحمم» المتوهِّجة في عرض «أكشن ناري في الصحراء الليبية». وفي فضاء الجاليري، سار الفنان حافيًا، بعد أن غمس أقدامه في وعاءٍ به طلاء أبيض، على قماشٍ مفرود على الأرض، وذلك في عَرْض «السير على الحلقة» (١٩٧٥م) برُوح «لوحة المشهد». يصنع الفنان من المسامير «حوض زهور من مدينة آخن» (١٩٧٥م)، وبعد مرور بعض الوقت، تنمو عليها شتلات لشجرة الصفصاف. يتلخَّص عرض الأكشن المسمَّى «العرض المجزَّأ مكانيًّا» (۱۹۸۲م) في تَجْزِيء عارضةٍ خشبية طولها ثلاثة أمتار إلى ثلاثين جزءًا مليئةٍ بالمسامير، تُعلَّق بعد ذلك على الحوائط وتُقدَّم للجمهور باعتبارها أعمالًا فنيةً منفصلة. وفي النهاية، نجِدُ عددًا من عروض الأكشن بُنيت على أساس الرمي بالقوس؛ فعلى قماشٍ أبيض ناصع، يتكوَّن في النهاية رسمٌ جرافيكي فظيع وفوضوي من الأسْهُم المغروزة («الرمي بالقوس»، ١٩٦٠–١٩٧٢م)، أو على هدفٍ رأسي بطول إنسان يتولد لدينا تصور منفصل للقديس سباستيان متدثرًا بلباسٍ أبيض، «جسده» مغطًّى تمامًا بالأسْهُم يُلفُّ بها بعد ذلك في قماشٍ أبيضَ، ويُسجى على الأرض («تمثال السر»، ۱۹۸۲م).
وإذا كانت عروض الأكشن، التي قامت على إعدادها جماعة «الطليعية التشكيلية»، ترتبط بمسرح الفنان، بفضل الطبيعة الفعَّالة المشتركة لهذا الشكل أو ذاك من الإبداع، فإنَّ عروض الإنستاليشن، وخاصة تلك التي تخلق عروض الإنفايرومنت «التَّبْييء»، التي يرتادها المُشاهد، من الممكن النظر إليها من وجهةِ نظرِ المسرح باعتبارها تكويناتٍ سينوجرافيةً لهذا النوع من المسرحيات التي تُقدَّم بدون ممثِّلين، وإنما «تُمثَّل» بواسطة الأشياء والفضاء والإضاءة.
حوَّل يوكر وهو يضع مسرحيةَ «الإنسان يهدِّد الإنسان»، وهي من نوع الإنستاليشن، متعددة الفضاءات (۱۹۸۳م)، أنفاقَ المناجم وعنبرَ كنيسة مهجورةٍ إلى «خندق»، «حفرة من السلك»، ومَقلبٍ لألواح الخشب؛ وفوقه، في العنبر نفسه، قدَّم أمام المشاهدين قماشًا مفرودًا مرسومًا عليه صفَّان من حيوانِ القنطور الخرافي، وأناسٌ قتلى وطاحونةٌ مؤهلة للتدمير النهائي (هدف حركي، غُرست في منتصف كوم من الجير بوابةٌ خشبية وقد أُنزلتْ حتى نهايتها بحبالٍ ممتدة حول حلقة). وفي عَرْض الإنستاليشن المسمَّى «المطعم الأسود للجبل» (١٩٨٥–١٩٨٦م) وضَعَ يوكر بناءً فنيًّا من ستة «تماثيل لسكاكين»، ومن تركيباتٍ مختلفة لأبنية رأسية، مبنية بواسطة أعمدةٍ من خشب الشوح مربوطة بعضها ببعض، وتستند إلى شفراتِ سكاكين مغروزةٍ في الأرض، مُمسِكة هذا البناءَ المهتزَّ القابل للانهيار في أيِّ لحظةٍ تحت ضغط الحجر الثقيل؛ الأمر الذي أدَّى إلى ميل تقاطعه الأعلى وشرخ الفضاء الداخلي، حيث راح «النجَّار» يخرج من أظافر الطيور. ومن عروض الإنستاليشن الأخرى، التي قدَّمها بوكر، والتي استهدفت أن يدركها الجمهور لا من بعيد، وإنما بأنْ يُوجدوا في فضائها، نذكُر مسرحية «تمثال الاختفاء» (۱۹۷۹م) وفيها نجد «كرسيًّا صغيرًا» يبلغ ارتفاع أرْجُله مترَين مغطًّى بحبالٍ بين الأرجل، بها فتحات تدعونا إلى الدخول من خلالها، ومسرحية «الغابة» (١٩٨٤م) تقوم على وجود سبعة جذور بارتفاعاتٍ مختلفة، لها «قبَّعات»، و«الجذور» على هيئة مسامير.
إنَّ البناء الفني المكاني عند ب. بيلابيل (مصمِّمة أزياء)، يحكي لنا عن أربع لحظاتٍ من حياةِ امرأةٍ «عديمة الأهمية» (حسب توصيف بيلابيل نفسها): في القسم الأول، يراها المشاهدون من خلال نافذة الغرفة، كما يرون أيضًا صورها الفوتوغرافية وكيف تضع مكياجها صباحًا بتأنٍّ؛ وفي القسم الثاني، يراها تجلس على مقعدٍ وقد حلَّ بها التعب واضعةً قبضتَيها على رُكبتَيها في ضعف، وقد صُورت على هيئةٍ تفوق الواقع في تفاصيلها: الملابس، تفاصيل المكياج، الجِلد الذابل والوجه المليء بالتجاعيد والنظارة؛ وفي القسم الثالث، نراها تقف في مفترق الطريق مرتديةً مِعطفًا جلديًّا أخضر اللون حاملةً في يدها باقةً من الزهور الذابلة؛ وفي القسم الرابع، نراها ترقد في بركةٍ من الدماء، بعد أن أنهت حساباتها مع الحياة.
وفي غرفةٍ سوداءَ أخرى، يقدَّم أمام الجمهور قفصٌ حديدي حيث يقف تمثالا عرْضٍ (مانيكانان) لشخصَين منتحرَين، كلٌّ في مواجهةِ الآخَر؛ وكلاب شرِسة مُزمجِرة وقد تلطَّخت خِلقتها بالدم، وأحاط بِرِقابها أطواقٌ مغروزة فيها سكاكين. وفي القفص نفسه، حوض ماء على هيئة تابوت، وبداخله شخصٌ آلي لونه أخضر يضع باروكةً حمراء، وذو عينٍ وحيدة، ومعه ميكروفون، يتردد منه بلا انقطاعٍ صوتٌ يقول: «هذا دم … هذا دم، هذا دم … هذا دم.» المايسترو الميكانيكي يقود الموضوع واقفًا أمام القفص، غير مبالٍ، وكأنه لا يولي اهتمامًا بأحد، يهزُّ عصاه، ومن أسفل سُترته، وكما يحدث مع الذين يُنهون حياتهم انتحارًا، يبرز صدرُ امرأة.
قدَّم ج. ليبيلمان مشروعَ ماكيت صَنَعه بنفسه باعتباره فنانًا ومخرجًا أيضًا؛ لعَرْض ميني-مسرح إلكتروني لمسرحيةِ «جوندلينج» لموللر: يظهر فردريك الكبير وهو يعاني سكرات الموت، ويتردد أنينه في أرجاء قاعة العرض، تحيطه شخصياتٌ من البلاط تقف مُتملمِلة حول المقصورة. يستمرُّ العرض خمس عشرة دقيقةً ليبدأ من جديد.
لقد تحدثنا سابقًا عن الأساتذة الذين امتلكوا ناصيةَ العمل في فضاءات المعارض، وعن التطور الذي مرُّوا به من السينوجرافيا إلى مسرح الفنان، وهم: خيرمان، وفيرنيسكي، وفوندر، وفراير.
عند خيرمان، في الغرفة البيضاء الخاوية ذات النافذة الوحيدة، والتي يمكن أن نشاهد من خلفها منظرًا طبيعيًّا جبليًّا تمامًا، يجلس مانيكان روبوت أبيض حليق الشَّعر على مقعدٍ قائم وسط كومةٍ من طين الأرض الطبيعية. وبِيَدٍ اصطناعية يستمرُّ في كتابةِ شيءٍ ما على لوحٍ من الأردواز موضوعٍ على رُكبتَيه. مصباح كهربائي كبير يتدلَّى من السقف فوق رأس الروبرت، يضيء بضوءٍ جهنمي، وخلف ظهْره تنفتح ببطء «مِروحة» تشبه أوراق قصب السكر، مع أوراق مذكراته. وبعد أن تنفتح كليةً تنغلق «المروحة» بحركةٍ حادَّة، وتسقط مُحدِثةً جلَبةً. وفي الوقت نفسه، يُخفَّف ضوء المصباح، ثم يتكرَّر الأمر كلُّه: ترسُم اليد الكهربائية على لوح الأردواز بعضَ الكتابة، ترتفع الأجنحة مع الكتابة ويشتعل الضوء.
وفي أوبرا «فالتسازار» لهاندل (۱۹۷۸م)، التي أخرجها فيرنيسكي، يعرض شرائحَ لمشهدٍ خطابي على شكلِ موكبٍ احتفالي كرنفالي باروكي، يُجرى المشهد خلْفَ مائدةٍ طويلة، بعرض المسرح كلِّه، موضوعة أمام حائطٍ مسطح مستقيم؛ وفي لحظة الذروة، تدوي عِبارةٌ نبوئية. يُعمِّق فوندر عرْضَ «البرعم الوردي» عندما يضفي عليه تأويلًا بصريًّا حرًّا لموتيفات موللر، ويؤدِّيه الممثل ف. شيديفي من مسرح دوسلدورف في فضاءٍ مسرحي يغمره الضوءُ الأحمر بمختلف ظِلاله وكثافته.
وأخيرًا، يقوم فراير في الفضاء المسرحي، في القسم المخصص له في المعرض، بتعريف الجمهور بنماذجَ لعرض الأكشن المسمَّى «تمثال هنري فون كلايست» (مجمِّعًا في الركن حوائطَ بيضاء ناصعة وأفقًا أبيضَ مبهِرًا، عليه ظِلالٌ لطيور النورس)، وقد جرى هذا العرض على مسرح الدولة في مدينة شتوتجارت (١٩٧٥م)؛ وبعد مرور ثلاثة أعوام، عُرضت عليه مسرحية «كانط» لبرخاردت من إخراج ك. بايمان. وفي كتيب العرض، يمكن أن نرى أيضًا صورًا فوتوغرافية للمسرحيتَين للمخرِج نفسه فراير.
ومع نهاية السبعينيات، اخْتِيرت المسرحيتان من بين عَشْر مسرحيات، واعتُبِرتا نموذجًا كاملًا لمسرح الفنان، على النحو الذي تصوَّره هذا الفنان.
(٦) أخيم فراير
يظهر عند فراير، على نحوٍ خاص وواضح، المنطقُ العام للحركة الموازية تجاه مسرح الفنان من ناحية السينوجرافيا، وأيضًا من ناحية أشكال الأكشن عند «الطليعية التشكيلية»، بل إنه بدأ العمل في المجالَين في الوقت نفسه في عام ١٩٥٩م، عندما قدَّم عمله الأول باعتباره مصممًا للسينوجرافيا (تصميم المَشاهد الراقصة لمسرحية «الطيران نحو الشمس» لمصمِّم الرقصات دوت برخاوس)، وعرض «الهابيننج» الأول له والمسمَّى («الاستيلاء على الليموزين الزرقاء»). وقد امتدَّت خبراته أيضًا في هذَين المجالَين في وقتٍ واحد وعلى نحو متوازٍ. لاحقًا، وبعد أن شرع في بناء مسرح الفنان الخاص به، استغل فراير خبرة الاتجاهَين في بحوثه؛ مع أنه لم يعُد يقوم بذلك في وقتٍ واحد (كما كان يفعل ذلك الفترة المبكرة من إبداعه) وإنما على نحوٍ متتابِع.
منذ البداية (في عام ١٩٧٠م)، حدَّدت الوسائل السينوجرافية لقوة التعبير أسلوبَ مسرحياته. فيما بعد فقط (في الفترة من ١٩٨٠م إلى ١٩٩٠م)، حدَّدته الأبنية الفنية لأشكال الشخصيات التي استُخدمت لأول مرة في التجارب المختلفة الأنواع لأشكالِ «الطليعية التشكيلية» في عروض الأكشن. من ناحيةٍ أخرى، فإن تجارب أشكال «الطليعية التشكيلية» كانت مرتبطةً بالأعمال المسرحية. بالإضافة إلى ذلك، فقَدْ نمَتْ هذه التجارب وأصبح لها نُسَخها من العروض. وحتى في تلك الأحوال، عندما كان فراير يعرض — كما يبدو — عروضَ أكشن مستقِلَّة (برفورمانس)، فقد كان الإحساس بهذه الطبيعة المسرحية لهذه العروض محدَّدًا بدرجةٍ كبيرة.
(٦-١) العمل في السينوجرافيا وعروض الأكشن والإنستاليشن والبرفورمانس
بدأ فراير عمله باعتباره مصمِّمًا للسينوجرافيا، وإن استمر ذلك إلى فترةٍ قصيرة (عامَين فقط من ١٩٥٤م إلى ١٩٥٥م)، ولكنَّها كانت فترةً مهمَّة ليتعلم فيها على يدِ برتولت بريخت في أكاديمية برلين للفنون، التي الْتحق بها فور أن أنهى مدرسة الجرافيك التطبيقية (١٩٥١–١٩٥٤م)؛ كان الذهاب إلى بريخت اختيارًا واعيًا، فقد وقع الفنان الشاب تحت التأثير القوي لفنه في عام ١٩٤٩م، وكان لا يزال طالبًا في المرحلة الثانوية، وكان يبلغ من العمر آنذاك خمسة عشر عامًا، عندما شاهَدَ على مسرح برلينر إنسامبل مسرحيةَ «الأم شجاعة وأبناؤها». ومنذ هذه اللحظة، أصيب «بهَوسِ» المسرح.
وكما اتَّضح من إبداع فراير التالي، نجِدُ أنَّ توجُّهه في بداية نشاطه المسرحي نحو تقاليد الكوميديا «ديلارتي» لم يكُن مصادفةً؛ فقد كانت هذه التقاليد قريبةً من شخصيته. وفيما بعد امتزجتْ على نحوٍ عضوي مع الإخراج الأوبرالي «لمسرح الفنان» الذي عمل به في التسعينيات، مثل: «سندريلا»، و«الناي السحري»، و«دون جوان».
بعد عرْضِ «حلَّاق إشبيلية» جذَبَ كلُّ عمل سينوجرافي لفراير اهتمامَ الجمهور والنقَّاد. وفي مسرحية «رجلٌ طيِّب من سيزوان» لبريخت، وضع للمخرج ب. بيسون بناءً من شرفتَين، عبارة عن دُرجَين يفتحان ويغلقان بستائرَ ناعمةٍ، على هيئة حوائطَ خشبية. كان هذا نوعًا من «ماكينة للَّعب» تميَّز بها. ومع تطور الحدث، اكتشف فراير في نفْسِه، «وأطلق» من داخله، بصورةٍ وظيفية، العناصر الضرورية للتصميم (كشكًا لبيع التبغ، ظلالَ منازل) أو رسومًا لرءوسٍ ضخمة ذاتِ «ألسنة» تتدلى من أفواهٍ مفتوحة. تضع الشخصيات أقنعةً جروتسكية من مختلف الرسوم والأشكال.
بعد مرور عامٍ على فضيحة عرض «كلافيجو»، وبعد أن وصَلَ في جولةٍ فنية إلى إيطاليا لعرض مسرحية «رجلٌ طيب من سيزوان»، قرَّر فراير ألَّا يعود مرةً أخرى إلى ألمانيا الشرقية. وقد اكتسب عمله السينوجرافي في ألمانيا الغربية تميزًا جديدًا من حيث المفهوم. لقد أصبحت الحلول التي اقترحها هنا للفضاء المسرحي ذاتَ تعبيرٍ مؤثِّر للفكرة الرئيسية للمسرحية. كما حدَّدت هذه الحلول أكثر فأكثر الأسلوبَ العام للبناء والإيقاع، وحتى طابعَ بناءِ الحدث المسرحي.
وفي الوقت نفسه، فقد أعلن فراير عن نفسه من خلال عروض قدَّمها على المسرح الموسيقي وأعمال أخرى قدِّمت على مسارح الدراما في ألمانيا الغربية، في مسرحيات للمُخرِجَين ج. ليتساو وك. بايمان. وفي كلا النوعين من العروض، قدَّم فراير أشكالًا متنوِّعة من أداء الممثلين باستخدام قوة تأثير الوسائل السينوجرافية: المعالجة الفنية للضوء، الأقنعة، الملابس؛ وجميعها هنا كمنتْ وراء المعالجة الشاملة للمسرحية.
في سياق عمله مع ليتساو في إخراج مسرحية «لير» لبوند (۱۹۷۳م)، أقام فراير خشبةَ تمثيل مربعة من حاجزٍ مرتفع من الرمل، وقد أبرز الشكل الطبيعي للمعالجة التي قام بها للرمل على واقعية الحدث، الذي يدور في هذا الفضاء المسرحي المجازي للتعذيب والخيانة والقتل. من جانبٍ آخَر، فإن الصراع الدموي على السلطة قد جرى تقديمه على نحوٍ جروتسكي ساخر؛ «مثل: ألعاب الأطفال». وفي هذا الصراع، شاركت لُعَب على هيئة جنود، في حين راحت الشخصيات تراقب «المعركة» من أبراج المراقبة. غُطيَت الأرض بشريط من السيلوفان. وقد خلقَت المعالجة الفنية أرضيةً جديدة للمسرحية؛ اصطناعية من مادةٍ تخليقية زلقة تُصدر خشخشة. وقد غطَّت الأقنعة، المعبِّرة عن الحالة العاطفية للشخصيات، وجوهَ الممثلين. وفي عمله التالي مع ليتساو، وهو المسرحية المأخوذة عن عملٍ مسرحي معاصر يسمى «مصرع آيس، أو محاكمة الحطَّاب» من تأليف خ. لانجي، اقترح فراير أن يتم التمثيل بدون أقنعة، وإنما بوجوه تبدو وكأنها طبيعية تمامًا (على سبيل المثال: السيد صاحب النظَّارات والشَّعر الأشيب، أو صاحب الشوارب السوداء واللحية، واللذان، على الرغم من ذلك، تضاعَفَا بطريقةٍ غريبة ليرتفع أحدهما فوق الآخر (عند الأول)، أو ليتضاعفا ثلاث مرَّات ويلتصقا خدًّا إلى خد (عند الثاني)). هذه الهيئة السوريالية والشخصيات الأسطورية أو المعاصرة المختلطة بالملابس الصحيحة من الناحية التاريخية؛ أثارت الشك في المغزى الحاد للمناقشات السياسية التي دارت بينهم. وقد ظهرت تحت أقدامهم «أرضٌ» غير مستقرة لتل بارز، عولجت لتبدو مكرمشةً ولينة، تتكسَّر من جرَّاء كلِّ خطوةٍ لتعطي إحساسًا بعدم الاستقرار.
عرضَت النسخ المسرحية لكل من «اللصوص» و«كيتخن من خايلبرون» معًا في مبنى البهو المسرحي باعتبارها إنستاليشن وإنفايرومنت، أي بأشكال «الطليعية التشكيلية»، وهي اتجاهاتٌ تسير بشكل متوازٍ مع البحث الفني لفراير، وقد قدَّمها عندما كان لا يزال موجودًا في ألمانيا الشرقية كما ذكَرْنا من قبل. وعن التجارب الأُولى آنذاك (في منتصف الستينيات)، كان فراير يجرب الأكشن؛ أما الآن (في منتصف السبعينيات) فهو يجرب الإنستاليشن.
في «اللصوص» أنشأ فراير التماثيل، ليصِفَ من خلالها بشكلٍ ساخر نقاد المسرح المستائين والمُشاهِدين الساخطين الذين «يصيحون» قائلين: «لقد وضعوا شيلر في الوحل!» وهذه الشخوص تقدِّم عَرضها أمام النماذج الأصلية الواقعية، عندما تخرج في فترة الاستراحة من الصالة وهي مستاءة بالفعل من جرَّاء هذا التعامل الوقِح مع الأعمال الكلاسيكية.
في البداية لا يشاهد الجمهور سوى فرشاة الرسَّام، يمسكها من اليد الطويلة، التي يدفعها أمامه على الخشبة، متحرِّكًا ببطء من الطريق الأيسر باتجاه وسط المسرح. ونتيجة حركة الرسام بالفرشاة على السطح الأبيض للخشبة؛ يتخلق شريطٌ أسْوَد عريض. يقترب الشريط من الراقص الواقف كمَنْ يمشي مذهولًا وهو نائم. يضع الرسَّام يدَيه ببطء على رُكبتَيه. عندما يقترب الشريط منه؛ فإنه يقفز بحدَّة جانبًا. يتجمد في وضعِ خطوته ملوِّحًا بيدَين شِبه معقوفتَين إلى الخلف وإلى الأمام. وبعد أن يصل إلى الجانب المقابل من الخشبة يبدأ الرسَّام الأسود، بالإيقاع البطيء نفسه، في دفْعِ الفرشاة على الخشبة في الاتجاه العكسي، مضاعِفًا مثنَى وثُلاث ثم مرَّات عدَّة من كمية الشرائط السوداء. يحاول الراقص أن يتجنَّب هذه الشرائط مبتعدًا عن الشرائط السوداء الآخذة في التحرك فوق جسَدِه والتي تمرُّ فوق المناطق البيضاء من المسرح، التي لم ينتهِ طلاؤها بعد. وإن كانت آخذةً في التناقص بشكلٍ مطَّرد. يظلُّ يجري في يأسٍ في مكانه مُسرِّعًا من إيقاعه، محاولًا بأقصى ما يستطيع أن يقلل من تلامُس قدمَيه بالأرض. يسقط، يزحف على خشبة المسرح المبلَّلة بالطِّلاء محاولًا دون جدوى القيام، يتلطَّخ بالطلاء الأسود. وهكذا «ينغمس» في «بحر» الظلام الكوني التام هو والبقايا الأخيرة للسطح الأبيض لخشبة المسرح.
(٦-٢) باكورة الإخراج المسرحي
لقد توصَّل فراير إلى معالجة الفضاء المسرحي باعتباره «منظرًا طبيعيًّا داخليًّا» يعكس الحالة النفسية للبطلة الرئيسية بقدْرٍ كبير من التعبير العاطفي، وذلك في المسرحية الأوبرالية الكبرى الأولى «إفيجينيا في تافريد». ترتدي الشخصية البيضاء الهشَّة ذات الرأس الأصلع حذاءً مرتفعًا، وتقف في وسط منظرٍ طبيعي تجريدي تأثيري يعبِّر عن تشوُّش المشاعر ومأساوية الرغبات بواسطة «ومضاتٍ» لبُقَعٍ من العجين، ثقيلة، عريضة، ذات ألوانٍ كثيفة مُتناقِضة (أسود وأحمر ناري، أصفر وأزرق). وقد غطَّت هذه «الومضات» الملوَّنة، الموجَّهة ديناميًّا على نحوٍ قُطري إلى أعلى وفي العمق، أسطح المسطحات الأربعة للفضاء المسرحي، مكوِّنةً إحساسًا بالامتلاء، والفيض كذلك، في الوقت الذي نجِدُ فيه أنَّ الداخل كان خاليًا من أي عناصرَ ماديَّةٍ، ولكنَّها متاحةٌ تمامًا للممثلين ولحركتهم التشكيلية وللميزانسين والبناء الفني للشخصيات.
وقعَت تجارب تامينو وبامينا كافة على خشبةِ المسرح باعتباره مكانًا للتمثيل المسرحي. وقد تميَّز هذا المكان بوجود بقعةٍ سوداء على هيئة هلالٍ يرمز إلى ملكة الليل، وهو مخطَّطٌ بشرائط غروية متَّجهة إلى العمق، وخطوطٍ هندسية حادة الزوايا. ومن أعلى تهبط الشمس (كما لو كانت مرسومةً بيَدِ طفلٍ وقَدْ طُليتْ باللون الأزرق)، في حين تتساقط أسْهُم البرق النارية، وتملأ فضاءَ المسرح أشكالٌ هندسية ملونة: معيَّنات، ودوائر، ومربَّعات. في الوقت نفسه، يحتوي هذا العالم التمثيلي المسرحي على النقاء والفطرية، على الصعوبة والبساطة، تتجلى فيه روحانية الأمير تامينو بِنَايه السحري وسذاجة باباجينو بأجراسه. في النهاية، يخرج تامينو وبامينا إلى الفضاء المفتوح، صاعدَين درجات السُّلم المؤدي إلى السماء.
بنى فراير كلَّ مشهدٍ مسرحي باعتباره تجسيدًا بصريًّا وتشكيليًّا لموسيقى هاندل. وبالتحديد، فإنَّ أشكال الممثلين، الذين يؤدون أدوارًا غنائية، أو يعملون باعتبارهم مجردَ أشكالٍ تشكيلية، أي صامتين (على سبيل المثال، المهرِّجون الذين يشاركون في الفصول الثلاثة للمسرحية) يصبحون هم أساسَ التكوينات الفنية التي يضعها المخرِج، وهم «العلامة» التشكيلية الرئيسية، على حدِّ تعبيره هو نفسه، وتقبع الجوقة خارج حدود المسرح، في حضرة الأوركسترا؛ ذلك لأن الجوقة كانت ضروريةً لفراير فقط باعتبارها «آلةً» موسيقية جماعية، أي باعتبارها صوتًا. لقد اكتفى فراير بأنْ عرَضَ على الجمهور الوجوه المغنية وقد سقَطَ عليها الضوء محليًّا باعتبارها مجرد مصادر لأصواتٍ تؤدي دورها.
وعلى هذا النحو تَحدَّد بناءُ المسرحية هنا لا بفضل السينوجرافيا (كما حدث في الأعمال الأولى التي أخرجها فراير)؛ وإنما بفضل تشكيل (الإيماءات) الأشكال البشرية، الذي يتمُّ بناؤه داخل فضاءٍ مكشوف حر. بتعبيرٍ آخَر، فإنَّ المشاهدين يرون العمل المسرحي وقد تم التعامل معه بصورةٍ تامة باعتباره عملًا من أعمال مسرح الفنان.
(٦-٣) «ساتياجراخا»، «إخناتون»
قدَّم فراير منذ اللحظة الأُولى قمَّة الخطوط الرأسية لطموحات غاندي الروحية، عندما علَّقَ في «السماء» على نحوٍ مرتفع جدًّا (أسفل شوَّاية المسرح مباشرة) صورةَ ليف تولستوي مضاءة. إذ رأى فيه إلهًا ما يكرِّس أفكارَ «عدم مقاومة الشرِّ بالعنف» كعقيدةٍ لساتياجراخا. وقد ظهرَت صورةُ تولستوي في لحظاتِ ذروة المسرحية. المشهد المسرحي ينفتح على بناءٍ فنِّي أفقي خاص ودنيوي؛ على المسرح تجلس جماعاتٌ متفرِّقة من الناس، يسير إلى جانبهم أفرادٌ من الشُّرطة. ومن خلال المحاور العَرْضية لخشبة المسرح، ومن العمق حتى أضواء المسرح الأمامية، يوضع شريطٌ مضيء يكاد يبدو مرفوعًا عن الأرض مثل عارضةٍ زجاجية ضيِّقة. ويعني هذا، على امتداد المسرحية كلها، «الطريق» الصعب الذي قطَعَه غاندي نحْوَ الناس. في المشهد الأول، يقف غاندي على الشريط حاملًا على كتفَيه عمودًا على جانبَيه ثِقْلان باللون الأزرق، يسقط من فرط ثِقْله على الأرض. يغوص مشهد الوادي الأرضي في الظلام، ومن الظلام يظهر تكوينٌ رأسي لثلاثة شخوص لغاندي. يبدون وكأنهم ينمون كلٌّ فوق الآخَر من أسفل المسرح إلى أعلى نقطةٍ فيه، كلٌّ من الشخوص الثلاثة يمثِّل أحدَ أقانيم البطل. في الأسفل يقف غاندي الدنيوي على شريط مضيء مرتديًا ملابسَ مدنية (مِعطفًا أزرق، سروالًا أبيض) وفوقه شخصٌ في ملابسَ قوميةٍ وجذعه عارٍ. الثالث، الأعلى، إلهٌ ذو أيادٍ كثيرة، عليه هالةٌ مضيئة ونجمةٌ صفراء مُشتعلة. هذا الخط الأفقي المكوَّن من ثلاثة شخوص يغنُّون؛ مثَّل نموذجًا بصريًّا عامًّا لمصير بطل الأوبرا. صعوده الروحي من الوجود الأرضي إلى السماء؛ وعلى الأجناب منه، من بين ظلام سماء الفضاء المسرحي، تضاء وتتحرك ببطء، قادمةً من الكواليس نحو المركز، مجموعةٌ زرقاء (يسارًا) وحمراء (يمينًا). هم شخوصُ جوقةِ «الملائكة» يوحِّدهم لونٌ واحد، ووقفةُ طيرانٍ واحدةٌ (في وضع الاستلقاء إلى الخلف)، هاتان المجموعتان ينظر إليهما باعتبارهما «كائنًا» متعدِّد الرءوس مع وجوهٍ مغنية مضيئة، وكائنًا ذا أيادٍ كثيرة تقوم ببطء وفي آنٍ واحد بعمل إيماءةِ «تقديرٍ» طقسيةٍ واحدة بكفِّ اليد موجَّهة نحْوَ السماء.
هذا البناء الفني الضخم الذي شمل المسرح كلَّه بارتفاعه وعرضه؛ يتغير مرةً أخرى ليحلَّ محله أفقٌ أرضي للوجود العادي للناس. تظهر في العمق «واجهةُ عرضٍ» مكوَّنةٌ من أربعة أجزاء: في الجزء الأخضر في أقصى اليمين وسط الأشجار، يتجول حارسٌ أسود جيئةً وذهابًا بصحبة كلب رعي حقيقي مقيَّد؛ وفي أقصى اليسار «سيدٌ» ما يحلق لحيته؛ الأجزاء المركزية تشغلها، الجزء الأول، مانيكانات عرض نصفية عليها حُلي للزينة، والثاني، شاب يرقد على ظَهْره، ينهض مستندًا إلى قدمَيه ويدَيه. على المسرح (أمام «واجهة عرض») في وسط الشريط المضيء، يقف غاندي مرتديًا معطفًا قاتمَ اللون، في حين يقف قريناه الآخران على الأجناب. في لحظةٍ ما، يخلع ثلاثتهم المعاطف القاتمة بحركةٍ بطيئة في آنٍ، ويُخرجون بطاناتها اللامعة إلى الخارج. يتوقفون عن الحركة وقد أنزلوا أيديهم إلى أسفل فاتحين أكفَّهم نحو المشاهِدين. يتغير الكولاج السوريالي المكوَّن من موضوعات بصرية في «واجهة عرض» الخلفية إلى كولاج من تكوينات جديدة. وهذا الكولاج يتكون من أنماطٍ إنسانية متنوعة (امرأة تضع على وجهها قناعًا، كمامة، جندي بيَدٍ وحيدة اصطناعية، كاتبة على الآلة الكاتبة لا تتوقف عن الدق على مفاتيح الماكينة). الجميع يجلسون على الأحجار المنتشرة على خشبة المسرح متسخة بالقمامة، مطلية بالأزرق، وعلى جانبَيها شخصية ساكنة، كما في السابق، واقفة على الشريط المضيء، حليقة الرأس ترتدي نظَّاراتٍ ورِداءً كنسيًّا. لا يوليه أحدٌ اهتمامًا، وكلٌّ مشغول بعمله. وفجأةً ومرةً واحدة يخلعون الملابس المدنية ذات الألوان المختلفة ويظهر الجميع في يونيفورم أبيض موحَّد، ويصبح الشخص نفسه من الرعية. يدور الجميع حول المحور المركزي للمسرح، الشريط الزجاجي المضيء، ينظفون الخشبة من القمامة ويخططون الحلقة المسرحية للمشهد التالي.
يتم التعبير عن هذا المشهد بواسطة إنشاء الخط الرأسي الثاني للمسرحية، تحلِّق إلى السماء صفحات عليها نصوص لتعاليم غاندي. أصحاب الأردية البيضاء يطلقون إلى أعلى شرائطَ، ويدورون في رقصة حاملين سلالمَ خشبيةً زرقاء، يدورون بها في اتجاهاتٍ مختلفة. كلٌّ يحاول أن يصعد درجات سُلَّمه. عندما يفشل كلٌّ منهم في ذلك، يصنعون من السلالم هرمًا مدرَّجًا، بعد ذلك يقوم أشْجَعُهم بالصعود إلى قمة الهرم قائدًا الآخرين خلْفَه. وهناك في القمة يغنِّي أريا. هذا هو الميزانسين الرأسي الثاني في المسرحية. يصعد فوق التكوين الأفقي للمجموعة البيضاء للممثلين الآخرين، الذين يتجمدون في الأسفل، على الخشبة في الانتظار. وفي الخاتمة، فإن هذا المشهد المسرحي ينتعش في سور، ويلوِّح الجميع بالأعلام وتُطلَق في السماء بالوناتٌ متعدِّدة الألوان.
الميزانسين الختامي للفصل الأول: حركةٌ راقصة بطيئة جدًّا، تكاد تكون واقفة في مكانها، تبدأ من العمق باتجاه الأضواء الأمامية للمسرح للمجموعة الأولى، التي تتبع الكاهن، الذي «يهرب» عبْرَ «طريق» الشريط المضيء. وتقريبًا في مكانه، ولكنْ تدريجيًّا، ينفصل عن الرعية ويقترب من المنطقة الأمامية للمسرح.
يفتتح فراير الفصل الثاني بمشهد الستارة المنسدِلة على الشاشة: طيورٌ بيضاء في فضاءِ سماءٍ زرقاء. وعندما تختفي الرؤية، يظهر على المسرح أمام المشاهدين أفقٌ آخَر لبناءٍ فني من شخوصٍ متعددة. وعلى امتداد الأضواء الأمامية للمسرح رجال يحملون أكواب البيرة، وقد أعطوا ظهورهم للجمهور، كما لو كانوا يجلسون خلف بارٍ، ومن حين إلى آخر يصبُّ الساقي كمياتٍ جديدةً من الشراب. يتطابق اتساع البناء الفني، سواء للمكان المسرحي (اتساع المسرح بكامله) أو للزمان، تشكيليًّا، مع تكرار المشاهد الكثيرة للجملة الموسيقية نفسها التي يتخللها ضحكُ سكارى خشِن أجوف. وعبْرَ الشريط المضيء القادم من العمق «كانت تُبحِر» سفينةٌ صغيرة «يبحر بها»، بواسطة عصًا، غاندي في ملابسَ بيضاء. أيادٍ نسوية تلقي إليه بالتحية، ملوِّحة له بمناديلَ بيضاء، تبرُز هذه الأيادي من «نوافذ» ثُقبَت في الحائط الحديدي المسطح الممتدِّ بطريقةٍ قطرية في الجزء الأيمن من الفضاء المسرحي؛ أما السكارى، الواقفون في الجانب المقابل، فقَدْ كانت استجابتهم لظهور المبشِّر عدوانية. لقد ظهروا وتجمهروا وتحركوا في مواجهته مشكِّلين تهديدًا له. ودون أن يُولُوا اهتمامًا لكونه قد توجَّه ناحيتهم وقَدْ رفَعَ بيده منديلًا أبيض، راحوا يرشقونه بالحجارة. سقَطَ غاندي على وجهه بالقرب من الحائط الأيمن (الذي يأخذ في هذه اللحظة في التلون باللون الأحمر الدموي بفضل ومضاتِ السماء الأرجوانية). وعندما يرفع عصاه، تقترب زُمرة السكارى من هذا الشخص الأبيض الراقد بلا حراك. لقد كان لظهور النساء بملابسهنَّ السوداء في هذه اللحظة فقط أثره في وقف التنكيل بالرجل، تقوم إحدى النساء بمساعدة المبشِّر على النهوض فيأخذ في الابتعاد ببطء إلى عمق المسرح سائرًا فوق الشريط، ولكنه يعود بعد ذلك ليسقط من الإعياء فوق المكعب الأزرق القائم أمام الشريط.
المشهد التالي هو ذروةُ إدراكِ فكرة ساتياجراخا. وهو درسٌ مُلْهم أعطاه غاندي لتلاميذه الذين ارتدوا ملابسَ ناصعةَ البياض. هؤلاء يدرسون معًا، وفي الوقت نفسه راحوا يغنُّون (صوتيًّا)، يكتبون ويرسمون (بصريًّا) حروفًا ومقاطع وكلمات وجملًا تكوَّنَت منها الساتياجراخا.
جرى رسم الحروف والمقاطع والكلمات فوق ثلاث سبوراتٍ مدرسية، وعلى السطح المتَّسع للخلفية. إذا كان هناك مَن يقف أمام السبورات المدرسية يكتب ويرسم، وهناك مَن يتكلم ويغني؛ فإن الشخوص الموجودة في «أرجوحاتٍ» مشيدة معلَّقة على مستوى الخلفية، قد دمجها فراير بعد أن وضَعَ كلَّ شخص في ظهر الآخر؛ ليجعلهما يبدوان كما لو كانا «كائنًا» واحدًا من شخصَين، ووجهاهما ينظران في اتجاهَين: أحدهما (الذي يرسم بفرشاة طويلة) ينظر إلى الخلفية، والآخَر (الذي يغني) ينظر باتجاه الجمهور.
تزداد الحروف والكلمات، ليس فقط فوق أسطح الخلفية وعلى السبورات المدرسية، بل إنها تظهر أيضًا على شاشات أجهزة مونيتور مختلفة المقاييس (موضوعة على الخشبة)، حيث يقوم غاندي بوضعها؛ كما أن هذه الحروف والكلمات تظهر أيضًا على الأوراق التي يعرضها غاندي على الأطفال المُنصِتين إليه. يقف الأطفال، وفي أيديهم الأوراق، واحدًا وراء الآخَر على الشريط المضيء، صانعين تكوينًا من أيادٍ وأوجهٍ كثيرة.
في الخاتمة، تملأ النماذج الجرافيكية الناطقة بتعاليم ساتياجراخا الفضاءَ المسرحي تمامًا بدوامةٍ من الرقص الكوني الدينامي. تدور السبورات المدرسية بما عليها من نصوصٍ مكتوبة. وتدور أيضًا جوقات الحروف بألوانها المتعددة وقد رفعها التلاميذ فوق زانات. تحلق فوق الخشبة أوراق بيضاء مشكَّلة على هيئة «طيور». تطير اللافتات من أسفل لوح الشريط المضيء على هيئة شرائطَ شفَّافةٍ، مكتوبة عليها الكلمات الرئيسية المؤسِّسة لمفاهيم الساتياجراخا.
تتغير بعد بُرهةٍ هذه «الصورةُ الثابتة» مرةً أخرى لتحلَّ محلَّها صورةٌ من الضوء الساقط، وبعدها تتغطَّى سماء المسرح بغلالةٍ سوداء، ويبدو المسرح ممتلئًا بالشخوص البيضاء. يبدأ تكوينهم النحتي وعلى رأسهم غاندي في الحيوية، ثم يتحرك ببطءٍ شديد في اتجاه الجانب الأمامي الأيسر للقطر المسرحي. وفي اللحظة الأخيرة يظهر رجال الشرطة ليسدُّوا الطريق، تدوي ومضاتُ طلقاتِ رصاصٍ بضوءٍ مُبهر حاد. تتفرق الشخوص البيضاء على المسرح وقد ملأها الرعبُ. وهنا يعرض فراير المواجهةَ غير المتكافئة من خلال سلسلة من «الصور الثابتة». تثبت — بعد الإظلام — كلُّ أعداد الجنود المتزايدة وتختفي المجموعة البيضاء من أتباع غاندي، ليبقى وحيدًا على المسرح مصروعًا على الأرض، ثم ينهض بصعوبة، مستندًا إلى عكَّازَين، يقترب من الشريط الذي يأخذ في الإضاءة من جديد. يتحوَّل الشريط إلى علامةٍ بصرية ﻟ «طريق المسيح» الأخير، وذلك بعد أن يضع غاندي عليه عكَّازَيه وكتاب تعاليم الساتياجراخا ونظَّارته. عبْرَ هذا الطريق يخرج غاندي إلى عمق المسرح المُظلِم؛ حيث يبدأ الصعود إلى العالَم الآخَر، صاعدًا درجةً وراءَ الأخرى، ويظلُّ حتى اللحظة الأخيرة موجودًا في الميزانسين مواجِهًا الناس الذين تحوَّلوا إلى شخوصٍ جروتسكية (عاهرة لها مؤخرةٌ كبيرة عارية وصدرٌ عارٍ، زنجي في سروالٍ أصفر وريشٌ أزرق فوق رأسه، سيدة تعتمر قبعةً وتنورة ذات رسوم مربعة) يمرُّون في مللٍ عند قدمَيه، يسحبون الشرائط الحمراء الأرجوانية، التي «تسيل» من الجروح المُدماة عند منطقة القلب. وبعد أن يَهَبهم غاندي «الدم» الأخير، يصعد إلى السماء. ومن الظلام فوق، في أعلى نقطةٍ في الفضاء المسرحي، يُضيء وجهه، وكذلك تضيء هناك نجمةٌ صفراء، وفي أسفل يشتعل، على خشبة المسرح وللمرة الأخيرة، شريطٌ من شعاع ضوئي في طريقه الأخضر. والآن «تنساب» من أسفل هذا الشريط أمواجٌ من تياراتٍ ضوئية (حمراء، زرقاء، خضراء؛ ثم مرةً أخرى حمراء، زرقاء، خضراء) لتغمر المسرح بمختلف درجات الألوان وكثافتها، وفي تراكيب متنوِّعة. كان هذا هو النموذجَ البصري الختامي للمسرحية، صُنع باستخدام وسائل الموسيقى اللونية، والذي عبَّر عن موتيفة خط الأفق للوجود الدنيوي، الذي تحوَّل إلى تضادٍّ واضح للنداء الختامي لصوت غاندي، الواصل من قمة الخط الرأسي الروحاني للعالم الآخَر الذي وصَلَ إليه.
بعد مرور ثلاثة أعوام، يُخرِج فراير الجزءَ الثاني من ثلاثية جلاس «إخناتون»، وقد بَنَى فراير تكويناتِه المسرحيةَ هنا بأسلوب الفن المصري القديم، بما فيه من تعميمات للظلال والإيقاعات.
في فضاءٍ خاوٍ غاب عنه القمر، ظهرَت شخصية الفرعون الشبحية في ملابسَ فضيةٍ وتاجٍ مرتفع، ثابتًا مثل تمثالٍ منحوت متَّخذًا وقفةً معيارية (غير ملحوظة بالنسبة إلى المُشاهِد تقريبًا)، يتحرك كما لو كان على نحوٍ تلقائي عبْرَ طريقٍ سحري مخطط بشريط من ضوء خلال قُطر مثلث خشبة المسرح؛ من أقصى الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن الأمامي. بعد أن يصل إلى وسط المسرح، يتوقف إخناتون ثابتًا في مكانه ويغني لحنًا موسيقيًّا. تحيط به شخوص غير محدَّدة الشخصية تمامًا، مختفية من الرأس إلى القدمَين تحت رداءٍ أسود واسع، له طاقية مدببة، لا يظهر منهم سوى راحةِ اليد، التي تتلألأ على نحوٍ معبِّر على الخلفية السوداء للرداء، وتتميز الإيماءات المصاحِبة لانتقالاتهم الطقوسية بالمرونة. تنقسم جوقة الرهبان السُّود، وينزلون إلى الأرض واحدًا بعد الآخَر مكوِّنين دائرة. بعدها يزحفون ببطء خارجين إلى ما خلف الكواليس. الآن يقوم راهبٌ نصف عارٍ، نصف حليقِ الرأس بأداء رقصةٍ حول شخص الفرعون المتجمِّد في وقفته النحتية. وبعد انتهاء الرقصة فقط، يواصل الفرعون، بعد أن أصبح وحيدًا مرةً أخرى في فراغٍ خاوٍ، حركتَه البطيئة من وسط المسرح لفترة أطول متَّجهًا إلى الأمام عبْرَ الشريط المضيء إلى أن ينتهي من سيره عند الجانب الأمامي الأيمن للمسرح.
موضوع تشكيلي آخَر للمسرحية: على المسرح في مختلف أركانه، إخناتون ونفرتيتي على عرشَيهما على هيئة تمثالَين. ينتقل العرشان في سلاسة بصحبة الشخوص المغنية في محيط المسرح دائرَين ببطء. يتوقَّف العرشان على أجناب المحور الطولي للمسرح ويبدآنِ الحركةَ بالمواجَهة. وعندما يقترب إخناتون ونفرتيتي تمامًا أحدهما من الآخر حتى لا يكاد يفصل بينهما سوى خطٍّ رأسي ذهبي ضيِّق مضيء في العمق. يتوقف العرشان، ويمدُّ إخناتون ونفرتيتي يدَيهما كلٌّ نحْوَ الآخَر في إيماءةٍ بطيئة. تتلامس الأيدي لحظةً، لكنَّ قوةً ما تفرِّق بينهما. وبالإيماءة البطيئة نفسها، يرفعان يدَيهما إلى وجهَيهما ثم يتوقفان تمامًا عن الحركة. يستدير عرش إخناتون ليصبح في مواجهة المُشاهِدين. يصبح الفرعون مركزًا للتكوين التالي، المبنيِّ حول شخصيته الفضيَّة، التي يحتشد حولها في حلقةٍ واسعة أناسٌ غير محدَّدي الشخصية في ملابسَ واحدةٍ فاتحة، يسحبون الشرائط الصفراء المثبتة على كتفَيه. يركعون على رُكَبهم ويذوبون في سراب أضواء شبحية. لا يتبقى سوى نموذجٍ بصري للفرعون باعتباره شمسًا تنساب منها الأشعة.
في الخاتمة، مرةً أخرى فضاء خاوٍ يغمره ضوءُ القمر. تملأ الفراغ الآن علاماتٌ بصرية لرموز ترتبط بالشمس: أشكال إشعاعية دائرية، قرص ذو حلقاتٍ على جانبَيه مرفوع على قائمٍ بثلاثة حوامل، طارة تجلس بداخلها شخصيةُ نفرتيتي، قرص كبير يحلِّق في الهواء. طوق تلتصق به تكويناتٌ كأنَّها مأخوذةٌ من النقوش البارزة لعازفات آلة الهارب القديمة يجلسْنَ وفي وسطهنَّ إخناتون. يهبط قرص الشمس الضخم. قبل أن يختفي خلف الأفق، يغمر المكان بضوءٍ ساطع، بعدها تغوص خشبة المسرح مرةً أخرى في زُرقة القمر. يتجمع أناسٌ من الجوانب كافة باتجاه قرصٍ ذي تكوينات. إخناتون وعازفات الهارب يرتدون ملابسَ حديثة ويعتمرون قبَّعات. يكوِّنون حلقةً أخرى كأنما تكرر الاندفاع الرأسي لرمز الشمس، وإنْ بَدَت هنا منبسطة أفقيًّا على «أرض» المسرح. هذه الدائرة من أناس معاصرين تضيق بانتظامٍ منكمشةً لتلتهم آخِرَ آثارِ عالَم مصر القديمة الذي وضَعَه فراير.
وفقًا للتصميم الأول، فإن مِرآة المسرح تغطيها ستارةٌ شفَّافة على شكلِ «صفحةٍ» كبيرة مسطَّرة إلى مربَّعات. على «الصفحة» تطوف نقاطٌ ملوَّنة «مرسومٌ» عليها، بخطوطٍ بيضاء أو بضوءٍ ملوَّن، أشكالٌ هندسية (دوائر، مربعات، مكعبات). وفي النهاية نقرأ، كما لو كان مرسومًا عليها، تكوينات من شخوصٍ بشرية ترتدي ملابسَ بيضاء؛ تجري، تحلِّق، تطير ورءوسها إلى أسفل أو تسقط.
كلُّ شخصية تؤدِّي دورًا مستقلًّا من الإيماءات والحركات أعدَّها فراير في سلسلةٍ من الرسوم. فبالنسبة إلى «شوارب الفأر» وضَعَ فراير أشكالًا متنوِّعة (لا أقل من عشرين شكلًا) لأيادٍ على سطحِ مائدة، وهذه الأيادي قد وُضعَت عليها في أوضاعٍ شديدةِ التبايُن، تمتدُّ هذه أو تلك أو كلتاهما نحو العكس، تنثرها هنا وهناك. الكائن ذو «الرأس» على هيئةِ كرةٍ من النسيج «يمسح» النهاية الزئبقية للترمومتر بعد أن يسحبه من «رأس» جاره؛ هذه الأقدام التي تطلُّ من أكمام مِعطف، «تمسك» بزجاجة، «تصبُّ» منها كأسًا ثم تقذف بمحتوياتها على نفسها. في هذا الاتجاه الذي برز منه الترمومتر، شدَّد فراير على المظهر الجروتسيكي بعد أن رسَمَ على «خدَّين» (يشبها أليتَين) نقطتَين تمثلان عينَين، وأنفًا وشاربًا. ربطة العنق المفروشة على المائدة توحي إلينا «بلسانٍ» طويل مُتدلٍّ، بل حتى «بعضو الذكورة».
لقد تم التعبير عن التأليف التشكيلي للشخصيات، من خلال جُمل (ابتكرها فراير بشكل مُركَّب) في تراكيب غيرِ مفسَّرة تُنطق من خلال صوتٍ رتيب رصين يدوي خلف خشبة المسرح. أما فيما يخصُّ موسيقى جلاس، فقد كانت تصاحب الأكشن البصري الذي كان يحدث أمام صفحةٍ مرسوم عليها ترابيع.
قدَّمَت مجموعةَ البرفورمانس النحتية ثمانية شخوص ترتدي الأبيض، كانت كلُّ شخصية تقوم بدورٍ على حِدَة، يتميز عن غيره من خلال الرسم، والإيقاع، وحركات الأيدي (رفع الأيدي)، إنزالها، شدِّها، ثنيها، بسطها بأكفٍّ مفتوحة، الأقدام (إلى أعلى، إلى الجانب، مباشرة، أو تُثنَى حتى الرُّكَب، تسير أو تركض في المكان)، الجسد كله (الانحناءات، الجلوس، الوقوع على الظَّهْر، على الجنب، الالتواء، الاستقامة وخِلافه). إن التمارين التشكيلية التي يؤديها كلُّ ممثل، والجميع معًا، تذكِّرنا بالبيوميكانيكا الخاصة بمايرخورد. وهي هنا لا تظهر من خلال تمارين لممثلي المسرح الدرامي، بل من خلال عناصر اللغة البصرية لمسرح الفنان، الذي كما ذكرنا آنفًا يعتبِر الجانبَ التشكيلي للشخصيات الإنسانية الوسيلةَ التعبيرية الرئيسية له.
إلى جانب عروض الأكشن الجماعية التي تؤديها الشخوص البيضاء جرَت عروضٌ أخرى فردية، استُخدمَت فيها بعضُ الأشياء، على سبيل المثال: سُلَّم أبيض، أو طوق أبيض، تقف بداخله مؤدِّية؛ ترفع يديها إلى الأجناب، لها صدرٌ مرسومة عليه في منتصفه بلونٍ أسود علامةُ التنشين، وعلى الفخذ اليسرى علامة تنشين أخرى مرسومةٌ باللون الأحمر. وعلى الجانب الخارجي للطوق تنزلق ببطءٍ كرةٌ بيضاء، وعلى إيقاع حركتها تخفض شخصية في ملابسَ بيضاء يدَيها إلى أسفل، ثم تضع الطوقَ على رأسها، ثم تعود من جديدٍ لترفعه إلى أعلى، وتدور مع الطوق عكْسَ عقارب الساعة.
تُستبدل الشخوص الملتفة كليةً في ملابسَ بيضاء (والتي تعمل باعتبارها تماثيلَ حيَّة) شخوصًا تظلُّ أطرافها فقط ذاتَ لونٍ أبيض، في حين تلتفُّ أبدانها ورءوسها بقماشٍ قاتم اللون. بتعبيرٍ آخَر، هذه الشخصية مبنية تشكيليًّا لا بصورةٍ نحتية، بقَدْر ما هي مبنية على نحوٍ جرافيكي. لم يشكِّل فراير هنا تكويناتٍ، وإنما رسَمَ على السطح الأسود «للصفحة» خطوطًا بيضاء لأقدامٍ وأيادٍ (تُمسك بأشياءَ بيضاء) تتحرك كأنها منفصِلةٌ ليس فقط عن البدن والرأس (مندمجة مع الخلفية السوداء)، وإنما بعضها عن بعض. وهذه المَشاهد يتمُّ إدراكها، هي والأشياء، باعتبارها استمرارًا للبحوث التي قام بها شليمر عام ١٩٢٠م في مسرحية «رقصات الباوهاوس». شخصٌ ما يتلاعب بأقراصٍ بيضاء بمقاساتها الكبيرة والصغيرة وبأعدادٍ مختلفة منها، من قرصٍ إلى تسعة أقراص: تلتصق هذه الأقراص بالشخصية، بالتشكيلات الممكنة كافة، مُعطِيةً إيَّاها جزئيًّا أو كليًّا، من باطن القَدَم حتى اليدَين المرفوعتَين إلى أعلى. لقد شكَّل الخطُّ الرأسي للأقراص موضوعًا يُعرض من خلال مؤدية تختفي خلفه. شخصٌ ما آخَر يعمل مستخدمًا ثلاث عصِيٍّ بيضاء. في البداية، تصطفُّ هذه العصيُّ على نحوٍ متوازٍ ممتدة في اتجاه جانبَي اليدَين، على المستويات الثلاثة؛ لطول الشخصية الواقفة (أسفل الأقدام، عند الخصر، فوق الرأس). في لحظةٍ ما، تبدأ العصا العليا في النزول، في حين ترتفع العصا السفلى (تحركها الشخصية الموجودة في الخلف، والتي لا يراها الجمهور). يُنزل المؤدي الأطراف الحرَّة للعصيِّ مُغطِّية الجسَدَ، تشبه «مروحةً» مفتوحة على اتساعها (من الأقدام حتى الرأس)، وهذه المروحة بدورها تنغلق بالتدريج. وعندما تتقاطع العصيُّ البيضاء؛ فإنها تأخذ شكلَ «مروحة» يقع محورها في مركز ثقل جسد الممثِّل.
شخصٌ ما تظلُّ يداه أو قدماه فقط غيرَ مربوطتَين بقماشٍ أسْوَد، في حين أنه عند آخَر يكون كلُّ شيء عنده مغطًّى، أسفل الخصر، أو على العكس، يكون الجزء العلوي من الجسد هو المغطَّى. لقد أعطى هذا لفراير إمكانيةَ أن يرسم على «الصفحة السوداءِ» للفضاء المسرحي تنويعاتٍ جديدةً تحرِّكها رسومٌ جرافيكية بيضاء.
وأمام هذه «الصفحة» تقف شخوصٌ لها مظهر جروتسكي، على سبيل المثال، جذع شجرة على شكل كرةٍ مخطَّطة كبيرة برأس كروي مخطَّط وفوقه ترتفع عاليًا «ماسورةٌ» عليها غطاء رأسٍ مخطَّط، وهذه الشخصية تتحرك ببطءٍ بأقدامها الضئيلة، مُمسِكةً أمامها عصًا طويلةً مخطَّطة؛ وفي لحظةٍ ما، تتحوَّل الشخصية لتُشبه لعبةَ النحلة، أو تتحوَّل إلى مهرِّج بأصابعَ مفتوحة، يضع قناعَ رأسٍ أخضر، يبرُز من مؤخرته مثلَّثٌ مدبَّب من «الشَّعر»، وفي الأمام يبرُز له «أنفٌ» طوله مترانِ يستند إلى عُكَّاز، وعلى سطح «الأنف» يتوازن خطٌّ رأسي لشريطٍ أبيض من الورق، مكوَّن من أربعة أجزاءٍ مقوَّسة، كما لو كان بفعل تنفُّس المهرِّج، في اتجاهاتٍ مختلفة وزوايا عِدَّة.
قبل «أينشتاين» ظهَرَ المؤدُّون في الصورة المتحوِّلة على خشبة مسرح أوبرا برلين الألمانية في مسرحية «انفجار الضوء – مشهد من سفر الرؤيا» على موسيقى إجروسكوب (۱۹۸۷م). وفي المسرحية شخوصٌ جروتسكية مشوَّهة ترتدي معاطف رمادية وبنطلونات وقبَّعات، لهم ثلاث أقدام ورأسان، وأكتافهم غير متساوية في مقاييسها. يظهرون عبْرَ غلالة. يتنقلون كأنهم عميان. كلٌّ منهم يقوم بإيماءةٍ بلهاء؛ يتمدَّدون إلى أعلى، يتعلَّقون فوق المسرح، يدورون ويتأرجحون في رقصةٍ خرقاء عبثية تفتقد عمدًا إلى الانسجام. تصميم الرقصات وضَعَه ل. تشايلدس، لكنَّ أسلوب العرض حدَّدته هذه النماذج التي وضعها فراير. ومع ذلك، فإنَّ الأفيش قد حمَلَ اسمه باعتباره مصمِّمًا للسينوجرافيا.
«التحولات لأوفيد»٤٢⋆
جميع الشخصيات موجودةٌ على نحوٍ مستقل، ليس بينها اتصال، وحتى عندما يبدون في تكويناتٍ جماعية، أو في أي تراكيب (مَثْنى وثُلاثَ إلى آخِره)؛ فإنهم، وحتى في هذه الحالة، يؤدُّون «أدوارًا فردية». كلُّ شخصية تمرُّ عبْرَ الفضاء المسرحي في إيقاعٍ بطيء جدًّا كأنه إيقاعُ حُلْم. وفي لحظةٍ ما، تتجمَّد الشخصية في وضعِ تمثال، ثم إذا بها تعود مرةً أخرى إلى الحياة، وفي خِضَم الإيقاع البطيء تختفي لكي تظهر من اتجاهٍ طولي، يسارًا ثم يمينًا، يمينًا ثم يسارًا، على نحوٍ متوازٍ أو كلٌّ في مواجهةِ الآخَر. بعبارةٍ أخرى، فالمسرحية مبنيَّةٌ على أنَّ فراير كان يقود. «يحرِّك» سلسلةً من الأفكار الرئيسية البصرية للنماذج على موضوع «التحولات»، التي كتَبَها الشاعر الروماني الكلاسيكي.
بعد أن تظهر إلى اليمين، تتجمَّد أمام المُشاهِدين شخصيةُ امرأةٍ ملفوفة في رداءٍ أحمرَ من قمَّة رأسها إلى أخمص قدمها، ينشقُّ طرَف «غلاف» الرداء، ليكشف بداخله عن جسدِ امرأةٍ عارية في بياضِ الثلج (يلتصق بجسد المؤدِّية سروالٌ نسوي مخطَّط على السطح). في الوقت نفسه، يظلُّ الرأس ملفوفًا مُختفيًا، أي لا وجودَ له، وكذلك اليدان. في مواجهةِ هذه الشخصية، وعلى مسافةٍ بعيدة على الجانب الأيسر المواجِه، يظهر ظلٌّ أسْوَد مائل يعتمر قبَّعة ويُمْسِك أمامه بحقيبةٍ ويسير متهاديًا. يتبع هذا الظِّل رحَّالةٌ في وضعٍ مائل، يُمسكون بحقائب، مادِّين أيديَهُم إلى الأمام. أحد هؤلاء ينتقل، جالسًا على الأرض ويستدير برأسه مع فترةِ توقُّفٍ يستند فيها إلى يدَيه. وفي سماء المسرح يحلِّق ببطء سِربُ «آلاتٍ طائرة» سوداء شديدة، ظلالها تشبه «أسماك القرش»، في اتجاه الرحلة نفْسِه وموازيًا لهم. بعد أن ينتهي المرور الطويل للرحَّالة؛ يختفون وراء الكوليسة اليمنى الموجَّهة. في حين تظهر الشخصية الملفوفة بالأحمر يسارًا، بعدما يقطع خشبة المسرح ببطءٍ شديد كائنٌ عظيمُ الارتفاع يشبه ديناصورَ ما قبْلَ التاريخ، له «بدنٌ» ضخم (يختفي تمامًا تحت قماشٍ أبيض، عريض من أسفل يضيق بشدَّةٍ كلَّمَا اتجهنا إلى أعلى) ينتهي برقبةٍ طويلة ممتدة بعيدًا إلى الأمام آخِرها يدٌ ظاهرة بأصابعَ متباعِدة. بعد «الديناصور»، تزحف على أرض المسرح «كابوريا» خياليةٌ، جسمها مكوَّن بشكلٍ متشابِك من أجسام وأيادٍ وأقدام، يقوم الممثلون بأداء دورها.
المشهد التالي يظهر فيه من الكوليسة الأمامية اليسرى فتاةٌ تركب درَّاجة، دورها الانفرادي يعبِّر عن موضوع الطفولة وقد بُني على الحركات المتكرِّرة: مسافة قصيرة تقطعها الفتاة على الأرض، قفزة على بدَّال العجلة تعبُر بها إلى الأمام، تتقهقر إلى الخلف لتهبط على منحدَرٍ مائل. مرةً أخرى تركض وتتقدَّم إلى الأمام، ويستمرُّ الأمر على هذا النحو حتى تبلغ الطرف الأيمن البعيد من الفضاء المسرحي لتختفي وراء حدوده.
مرةً أخرى تظهر الشخصية الملتفَّة في الرداء الأحمر من وراء الكوليسة اليمنى عبْرَ مقدمة المسرح، ومرةً أخرى تزيح عنها الغطاء، ومن ورائه يبدو جسَدٌ مخطَّط بخطوطٍ مثل الأوردة الدموية تغطِّي سطح الجلد، تتحرك متأرجِحةً إلى وسط المسرح. يخرج إلى مواجهتها سبْعُ سيدات، واحدة تلوَ الأخرى، في فساتين بيضاء لها كُرات ذاتُ ريش، شخصيات تمثِّل فترةَ نهاية القرن التاسع عشر. كلُّ امرأةٍ تحمل أمامها في يدها اليمنى لمبة كيروسين، وقد رُحْن يغطِّينها باليد اليسرى الممتدة إلى الأمام. وطوال الفترة التي يتحرك الموكب فيها خطوةً وراء خطوة، باتجاه الطرف المقابِل للمسرح، تكرِّر الشخصية الملتفة بالرداء الأحمر حركةَ كَشْف «الغلاف»؛ «ليظهر» مرةً أخرى جسَدٌ طبيعي عارٍ تحيط به البطانة الحمراء، بالإضافة إلى أجنحة زرقاء تحوِّل الشخصية إلى صورةِ المَلَاك جبريل. وبعد أن تصل إلى الكوليسة اليمنى، يبدأ مركب السيدات من القرن التاسع عشر، اللاتي يحملن لمباتِ الكيروسين، طريقَ العودة. على أنَّ وجوههنَّ الآن تبدو وقد أصابها تحوُّل مخيف (وكأنَّهن على مدى حركتهن على المسرح قد عِشْن حياةً كاملة)؛ وبدلًا من الوجوه الشابة الجميلة، يرى المشاهدون أقنعةً شائخة مشوَّهة. وفي الجهة المقابلة (من الكوليسة اليسرى)، يتحرك مرةً أخرى «الديناصور» وقد أصبحتْ له رقبة، ويد.
يسود الظلامُ المكان، وعندما يُضاء، لا يبقى من دائرة التكوينات المتعددة الشخوص سوى التوءمِ ذي الرأسَين، وفي العمق تبدو شخصيةٌ أخرى تمسك في وضعٍ مخالِف لقوانين الطبيعة طوقًا، مستنِدةً بصدرها إليه؛ ليدورا معًا. ومن جديد تقطَعُ المسرحَ فتاةُ الدرَّاجة، وبالإيقاع البطيء الساحر نفسه، الممتد إلى باليه ناعم، تندفع إلى حيث الرمل الأصفر لشاطئ البحر الملتصق بالفضاء الأزرق البحري.
بدأت النسخة السينمائية على شاطئ بحرٍ عليه أوركسترا، يقوده مايسترو يقف مُديرًا ظَهْرَه للمشاهدين. وعلى رصيفٍ ممتد في البحر، يجلس الرحَّالة يصطادون وقد اعتمروا قبَّعاتٍ سوداء ومعهم حقائبهم. يقذف البحر بأجسامٍ وأشياء إلى الشاطئ (على سبيل المثال: كثير من كُراتِ الأطفال التي تتقافَزُ على ارتفاعاتٍ مختلفةٍ). في نهاية الفيلم، تدخل إلى البحر درَّاجة الفتاة (كانت المسارات الغنائية المتمهِّلة لها، على الشاطئ الرملي، هي أحد الموضوعات الرئيسية هنا) ومعها يحدُث آخِر تحوُّل مفاجئ. تُلقي الفتاة بثوبها ليظهر جسمٌ عارٍ لامرأةٍ ناضجة. تنزع المرأة (وهي تفتح سوستة) جسمًا ملتصقًا — غلافًا — «بجلدها». ينكشف من تحته رجُلٌ يذهب ليغوص في البحر ويختفي في العمق. وفوق الأمواج، تتأرجح درَّاجةُ أطفال.
النموذج الذي يمثِّل الموضوع الرئيسي لمسرحية عام ١٩٧٨م هو الشيخوخة. يتجسَّد هذا الموضوع في نسخةٍ سينمائية من خلال مساراتٍ بِطُول حائطٍ طويل لا نهاية له. لا لشخصيةٍ محنيَّة وحيدة، وإنما لسلسلةٍ كاملة من عجائز محدَوْدِبات الظَّهر. تظهر أيضًا موضوعاتٌ أخرى جديدة مستوحاة من الخصائص السينمائية وإمكانات التصوير الفوتوغرافي. على سبيل المثال: أكشاك تليفونات خاوية، بداخلها سمَّاعات تثرثر وتُصدِر صفَّارات متقطِّعة. تنقل الأحداث إلى حديقة، غابة، على درجة سُلَّم في المدينة (تزحف عليه صاعدةً كابوريا وعقارب). وعلى أرضٍ معزوقة، عليها مقابر محفورةٌ لتَوِّها، ترقد أجسادٌ عارية، ظهورها إلى أعلى ووجوهها. الأقنعة تستدير ١٨٠° لتصبح مواجِهةً للسماء، ومن باطن الأرض الرملية، تبرُز يدٌ تشبه «نبتةً» تبشِّر بحياةٍ جديدة، وذلك على صوتِ مضخِّم لدقَّات قلبٍ صادرة عن ميكروفون. بطبيعة الحال، فقَدِ استخدَمَ فراير في النسخة السينمائية مؤثراتِ التكبير والتصوير عن بُعد، والانتقال من مشهدٍ إلى آخَر مع فيضٍ وتحوُّلاتٍ ذاتِ طابعٍ سوريالي فانتازي، مثلًا: سمكة على بلاطةٍ حجرية، لحم متخثر دموي يعجُّ بالدِّيدان البيضاء (تظهر الديدان عند اقتراب الكاميرات منها وتكبيرها إلى أقصى درجة) في نعاجٍ بيضاء ترعى في مرج.
النساء السَّبْع الجميلات، اللائي انتقلْنَ من المسرحية، يرتدِينَ فساتينَ بيضاء من طراز القرن التاسع عشر، يحملن لمبات كيروسين في أيديهنَّ ويَسِرنَ في موكبٍ على شاطئ البحر مثلَ جوقةٍ إغريقية. ثم يؤدِّينَ رقصةً خليعة عاصفة، يقفزْنَ فيها ويتشقلبْنَ. وفي لحظاتٍ أخرى (في المنتزه)، يتمرجحْنَ على الأراجيح. يبدُونَ فجأةً، كما يبدُونَ على المسرح، في أقنعة نساء شكِسَاتٍ مشوَّهات، وجوههنَّ مليئةٌ بالتجاعيد، لا أسنانَ لهنَّ، أنوفهنَّ معقوفةٌ، وعيونهنَّ جاحظةٌ. بعد أن تعود إليهنَّ مرةً أخرى وجوههنَّ الجميلة، تنضمُّ النسوة في نعومةٍ إلى الشخوص السُّود العاشقين، الذين يروحون يطعنونهنَّ دون رحمةٍ بضربات السكين.
عرَضَ فراير تنويعاتٍ على موضوعٍ نمطي أحادي لشخصياتٍ ذكورية موحَّدة، لها أشكال جروتسكية (قبَّعات رمادية واحدة، ملابس مشوهةٌ مكرمشة تشبه الأجْوِلة على نحوٍ متعمَّد: بنطلونات مختلفة الاتساع، معاطف أجنابها مائلةٌ، بأكتافٍ مختلفة الارتفاع والاتساع). أحد هؤلاء الأشخاص يبدو مدخِّنًا متغطرِسًا، أو ينطلق راقصًا بصورةٍ جروتسكية خرقاء، يصفِّق بشكل فوضوي بيديه، رافعًا أقدامه بشكلٍ مجافٍ للذَّوق. مجموعةٌ شبيهة بهذه الشخصيات، تقوم بعمل أكشن جماعي مستخدِمةً كراسي الشاطئ؛ يحضرونها وببطءٍ، كلٌّ على طريقته وبإيقاعه، يتمدَّدون على الأرض ويبدَءُون، الجميعُ بالإيقاع البطيء نفسه، يتسلَّقون ظهور الكراسي، يتدحرجون، يتخذون فوقها أوضاعًا مختلفة، مكوِّنين التكوينات الفوضوية المتغيِّرة نفسها. وفي نهاية الأكشن، يبتعدون مصطحبين معهم الكراسي بالحركة غير المنظَّمة نفسها وقد الْتصق كلٌّ منهم بكرسي منها. تظهر شخصية ترتدي البدلة الرمادية المشوَّهة نفسها التي تشبه جوالًا. ولكننا نجد قناعًا مكان الوجه الإنساني يشبه الجمجمة، يمسك في يديه جرسًا؛ رمز الموت، وهذا نتيجة لتحوُّل آخَر من التحولات.
من وقتٍ إلى آخَر تتدحرج شخصيةٌ وقد ضمَّت ركبتَيها إلى صدرها، وفي نوبة من التشنج تفتح ذراعَيها، كانت هذه الشخصية نموذجًا للجسد البشري الذي يتلوَّى من الألم. سَاقٍ، في مكان رأسه حبَّةُ بطاطس مغروزةٌ فيها شوكةُ مائدة، يؤدي رقصةً وقد أمسك بأطباق في يدَيه. كائنٌ يشبه الكابوريا ذو أيادٍ كثيرة وأقدام متعددة ورأس آدمي (قادم من المسرحية أيضًا)، يدور مؤديًا دوراتٍ ميكانيكية، راقصة باليه في صورة لعبة النحلة تندمج في سياق المسرحية باعتبارها مقطعًا من أحد تكوينات «الباليه الثلاثي الأبعاد» لشليمر من زمنِ الباوهاوس.
لقد تجسَّد موضوع التحولات أيضًا في تنويعِ موتيفة المضاعفة. وقد قدِّمَت هذه الموتيفة بواسطة شخوصٍ قادمين إلى الوسط السينمائي من المسرحية («التوءم السامي» والرجل العاري ذو الظِّل)، وكذلك باعتبارها وسائلَ سينمائية جديدة. وبفضل انعكاسها على المرآة، تتضاعف وجوه الشخصيات التي تمسك أمامها (كلٌّ في وضع وانعطافة مختلفة) بمرايا بيضاء. خيوطٌ دموية تمتدُّ خارجةً من الأعيُن بدون انقطاعٍ، رابطةً جسَدَي رَجُلَين متصارِعَين (يعرضهما فراير على نحوٍ تأثيري كما لو كانا بلا جِلدٍ، وقد برزت منهما رسومٌ للعضلات، والأعصاب حمراء دموية كأنها مأخوذةٌ من كتاب أطلس التشريح). يتلوى الرجلان على الأرض في حركاتٍ تشنجية من الألم، يحاولان الوقوف دون جدوى. تظهر أمامنا، في تركيباتٍ وأوضاع وأبنية مختلفة وأفعال، شخوصٌ لعازفِ كمان أسْوَد، طويل القامة، وبهلوان ضخمٍ أبيض يمسك في يديه بأشخاصٍ صغار، صيَّاد أسْوَد يجري (ببطءٍ أيضًا مثل الشخصيات الأخرى)، «يلتصق» بحزامه ظلٌّ أبيض لكلبٍ سلوقي. امرأة جالسة على كرسي ترتدي ثوبًا أزرق، تخرج من أسفله ساقان عاريتان تمتدَّان عدَّة أمتار عن جسدها. وأخيرًا، كائنات فانتازية وُضِعَت في مكان رءوسها مانيكاناتٌ أو مكعَّب من النوع الذي يُستخدم في لعبة النرد. يدٌ ممدودة، أو مؤخِّرة ضخمة عارية. دُميةٌ وردية تضع أدوات المسرح الضخمة. على المسرح أيضًا أشكالُ الملائكة كافَّة: مَلَاك أسْوَد ذو أجنحةٍ بيضاء (مضمومة-مفرودة، مثل مصراعَي صدفةٍ كبيرة)، مَلَاك أشقر يحمل سيفًا وله جناح أبيض، ثم مَلَاك أزرق ذو أجنحةٍ زرقاء.
إن النماذج التي أبدعها خيالُ فراير، والتي أفاض بها على المشاهِدين وعلى التكوينات المسرحية والسينمائية من خلال موضوع «التحوُّلات»، لم تقدِّم رؤيته لمسرح الفنان فقط بشكلٍ واضح وعلى نطاقٍ عريض وفي أكثر الصور تركيزًا؛ وإنما مثَّلَت استمرارًا لإبداع هذا الفنان (بما في ذلك من خلال الاستشهاد المباشِر، كما حدث في مسرحية «أينشتاين»).
(٦-٤) «فويتسيك»
بعد أن انتهى فراير من مسرحية «التحولات»، أخرج مسرحيَّتَين أخرَيَين على مسرح بورجتياتر في فينا؛ الأُولى: «فويتسيك» لبوخنز (۱۹۸۹م)، والثانية: «فايتون» ليوربيدس (١٩٩١م). وهما الجزآن الثاني والثالث في ثلاثيَّة «التحولات»، التي تجسِّد موضوع «الإنسان والإله»؛ و«فويتسيك»، وتجسد موضوع «الإنسان بلا إله»؛ و«فايتون»، وتمثِّل «الإنسان باعتباره إلهًا». وإذا كانت «التحولات» قد قدِّمت باعتبارها نوعًا من العقيدة المسرحية لمسرح الفنان الخاص بفراير (على النحو الذي تكون به، بحلول نهايةِ الثمانينيات)، فإنَّ المسرحيتَين الأخريَين كانتا محاولَتَين جادَّتَين للفنان؛ لكي يجرب من خلالهما مبدأ مسرح الفنان من خلال مسرحيةٍ أدبية.
تمَّ «تجميع» كلِّ «حدث» في رسم، وتقديم شخصيتَي فويتسيك وأندريس في ميزانسين يقرِّبهما أحدهما من الآخَر. يدقُّ كلٌّ منهما بالتناوب بعصًا على الأرض. وبعد أن يُلقيا بالعصِيِّ يقفان مستقيمَين، كلٌّ منهما يرفع يدًا إلى أعلى ويمدُّ الأخرى جانبًا. يهبطان إلى الأرض. يسقطان ويختفيان في الظلام خلْفَ خشبةِ المسرح. التكوين الفني التالي يمثِّل مواجهةً بين خمسة شخوص يُوجِدهم فراير وفقًا للوضع الدرامي، وفي هذه المرة، في أماكنَ مختلفةٍ على المسرح حول ماريا الواقفة في المنتصف. يرقد عند قدمَيها على ظَهْره طفلٌ ممسوخُ الهيئة، له رأسُ دميةٍ كبيرة. يسارًا يقف فويتسيك على قدمَين شبه معوجَّتَين؛ بسبب حمله لشيءٍ طويل ثقيل على كتفَيه. عند الركن الأمامي تقف مرجريت. وفي العمق عازف الطبلة الكبيرة. لا يتغيَّر هذا التكوين على امتداد «الحدث». لا يغادر مكانه المحدَّد له؛ كلُّ شخصية تؤدي بدقة الرسمَ، الحركات، الإيماءات التي وضعها فراير له في حدِّها الأدنى. وحتى أقلُّها تتحول بصورةٍ مرنة إلى أفعالٍ ذات مغزًى. لا تكتفي ماريا بمجرد الأداء البطيء للجلوس والقيام ودوران الرأس، مد اليدين إلى الأجناب وإنزالهما ثم ضمها إلى الصدر، وإنما تحريك الشفاه في أثناء نُطق أو غناءِ بعض الكلمات والعبارات. الأفعال التشكيلية للشخوص الأخرى تتمثَّل في: انحناء (مرجريت)، دوران (عازف الطبلة الكبيرة)، أو نقل القدمَين قليلًا إلى اليمين ثم قليلًا إلى اليسار (فويتسيك). كلُّ شخصية تتميز بضوءٍ ملوَّن، إمَّا تنزوي في الظِّل، وإمَّا تعود لتُضيء من جديد، تبدو مثلَ «بُقعةٍ» يتغير لونها في تكويناتٍ لونية في «مجموعاتٍ» مسرحية.
التكوين الذي يليه «الحدث»، مبنيٌّ على إيقاعٍ بطيء يشبه انتقالَ كلٍّ من فويتسيك وماريا وعازف الطبلة الكبيرة، بصورةٍ حالمة عبْرَ خشبة المسرح الغارقة في اللون البنفسجي. في البداية، يظهرون وقد اتخذوا أوضاعًا مختلفة على محيط الخشبة، ثم يأخذون في الانتقال عبْرَ الخشبة من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، ومن الأيمن إلى الأيسر ببطءٍ شديد وفي صمت، دون أن يلمس أحدهما الآخَر، يقفون ثم يواصلون الحركة، إلى الأمام أو عائدين إلى الخلف بظهورهم، كلٌّ بإيماءةٍ فردية صغيرة.
الثنائي التشكيلي الذي يعبِّر عن العلاقة بين الكابتن وفويتسيك، مبنيٌّ على أن يقف الأول في منتصف خشبة المسرح ولا يفعل شيئًا سوى أن يدور ببطءٍ حول محور، أمَّا الثاني فيدور بخطواتٍ قصيرة دون توقُّف عدَّة مرَّات (أكثر من ثلاثين دورةً في مشهد يدوم أقلَّ من تسع دقائق) قاطعًا قوسًا خلفه من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، وفي الوقتِ نفسه يستدير بصفةٍ دائمة بوجهه ناحيةَ الكابتن. مؤديًا حركةَ تبختُر، لا يتوقف فويتسيك عن القيام بحركاتِ دوران مُمسكًا في يده بمرآة. في لحظةٍ ما، يتوقَّف لكي يستمع إلى تعليمات الكابتن، الذي يواصِل القيام بحركاتِ دوران خرقاء.
يلائم وَضْع الشخصيات المرصوصة في نقاطٍ منفصلة شديدة التباعُد، في تكوين مثلَّث متعدِّد الضلوع، حالة الصراع العائلي: في الركن الأمامي الأيسر في المسرح تقف ماريا، في الجانب الخلفي الأيمن (بصورةٍ قطرية منها) يقف فويتسيك في وضعٍ مائل لشخصٍ مذنِب يتألَّم، وفي الطرف الأمامي الأيمن على الأرض يرقد طفل. في التكوين التالي، يرقد فويتسيك داخل دائرةٍ برتقالية مضيئة، هو نفسه مُضاء في وسَطِ خشبة المسرح الغارقة في لونٍ مكثف لثمرة التوت، وكأنما ينام على «طاولة عمليات جراحية» في وضعٍ لا أمَلَ فيه وقد مدَّ يدَيه وقدمَيه. في عمق المسرح، شخصية الدكتور، يرتدي قفَّازاتٍ زرقاء، مُمسكًا بمؤشرٍ يحكي عن المريض المضيء. تخرج من الظلام الشخصيات التي تقف خلف المسرح بطول جوانبها.
الرسم التشكيلي للِقاء ماريا وعازف الطبلة الكبيرة مبنيٌّ على تبادُلهما المشترك للأماكن. وهنا كلٌّ يتحرك وفقًا لخطِّ سيره. ماريا تتحرك من الطرف الأمامي الأيمن لخشبة المسرح نحو اليسار، ثم إلى المنتصف، مُحدِثة حركاتٍ حسيَّةً بيدَيها العاريتَين إلى أعلى، ثم إلى رأسها وإلى صدرها. أمَّا العازف فيتبعها من الطرَف الخلفي الأيسر المُواجِه، نحو الطرَف الأيمن، ثم من هناك قطريًّا نحو منتصف المسرح. اقترابُهما المكاني يعطي دلالةً بواسطة التضييق التدريجي لخشبة المسرح المُضاء بلونٍ وردي قاتم إلى درجة أنه يصبح في حجم بقعةٍ صغيرة في المكان نفسه الذي تبدو فيه الشخصيات في الميزانسين الأخير.
مرةً أخرى في وسط المسرح، تقف شخصيةُ الكابتن وهو يرتدي في هذه المرة مِعطف مطرٍ ويعتمر قبَّعةً سوداء. الآن يجري الدكتور جولةً بمحيط خشبة المسرح وقد اعترَته الفوضى. لِلَحظةٍ خاطفة يقف في الرُّكن. يرفع يده إلى أعلى، ثم يواصل الحركة إلى أن تظهر في العمق شخصيةُ فويتسيك في ملابسَ بيضاء منكِّسًا رأسه في يدَيه بمِرآة. ولا يظهر بين شخصيتَي الكابتن والدكتور بملابسِهما السوداء.
في «الحدث» الذي جرى في الحانة (يعمُّ الخشبةَ هنا أضواءٌ صفراءُ وبنفسجيَّة تشبه لونَ البيرة والبُقَع والسوائل المتخلفة عن صبِّ الخمور) أعدَّ فراير «أكشن» تشكيليًّا لحوارِ سُكارى يدور بين اثنَين من العمَّال. يدور هذا الأكشن على الأرض. في البداية يرقد العاملان على الأرض دون حراك. وقد ضمَّ كلٌّ منهما الآخَر إليه. ثم يتدحرج أحدهما جانبًا مُحاوِلًا النهوض. يزحف الآخَر باتجاهه. يتدحرج الاثنان تارةً يسارًا وتارةً يمينًا. يجلسان. يَبذُلان محاولاتٍ فاشلةً للوقوف. يسقطانِ مرةً أخرى على الأرض. يتشاتمان. وطَوالَ هذا الوقت، في الركن الأيسر البعيد، يقف فويتسيك دون حراكٍ في وضعٍ يائس. طوليًّا ببطء يقترب على طرَف المسرح منحنيًا في خضوع بيدَين منكَّستَين في ضَعْف.
ينكمش فويتسيك أكثرَ فأكثر. يجلس القرفصاء، واقفًا بصعوبة يغطي وجهه بيدَيه. يغطي جسَدَه شعاعُ ضوءٍ أحمرَ دموي.
ينفتح المشهد الثاني مِثل الأول بظهور المنادي من تحت الأرض في صورةِ قزم. وعندما يختفي، يضاء شخصُ فويتسيك وقد أمسَكَ بسكين في يده. وفي آخِر المسرح، بعيدًا على اليسار، ظِلٌّ مميَّز ليهودي (يدور حوار هنا حول شراء سلاح الجريمة). يظلُّ فويتسيك ينظر طويلًا إلى المُوسَى ثم يتحرك ببطءٍ ناحيةَ الطرَف الأيسر لخشبة المسرح.
قبل انتهاء مشهد جريمة القتل، يمرُّ أمام الجمهور تكوينُ «الحوادث»؛ موضوعاتها تمهِّد لهذا الأكشن. مع الابن الممسوخ، الذي أحضره فويتسيك، لعبةٌ عبارة عن حِصانٍ على هيئةِ عصًا. حكايةٌ حزينة عن الحياة يحكيها فويتسيك لرفيقه في الثكنة العسكرية المدعوِّ أندريس، الذي يأخذ في الابتعاد عنه تدريجيًّا أكثرَ فأكثر. ماريا تركع فوق الإنجيل وتؤدي صلاةً في شكل مونولوج تشكيلي تأثيري.
العبور القطري الأخير الطويل، يمتد زمنيًّا ومكانيًّا لفويتسيك وماريا من الطرف الأبعد الأيسر لخشبة المسرح إلى الطرف الأمامي الأيمن. تسير ماريا في الأمام، في حين يسير فويتسيك خلفها. كلُّ خطوة تصدُر عنها دقَّةٌ مكتومة. يمتدُّ أمامها على الأرض ظِل أسود. في لحظةٍ ما، تستدير ماريا نحو زوجها. ترفع طرف ثوبها، توحي البطانة الحمراء اللامعة لثوبها بعلامة الدم. تحتضن فويتسيك وتضمُّه إليها. يقطعان معًا بضع خطوات، تم تسقط ببطءٍ وقد أصابها سكينه.
يعرض فراير «الحادثَين» الختاميين للموضوع الدرامي لمسرحية فراير بواسطة تكويناتٍ للشخوص. في البداية، تترنح هذه الشخوص من السُّكْر في رقصة، ثم تتجمَّد مكانها من الرُّعب بعد أن تشاهد يدَي فويتسيك المخضبتَين بالدماء، ثم هلاوسه، عندما تشاهد — في فضاءٍ غارق في الظَّلام — جسَدَه فقط و«بِركة» من الدماء الحمراء الأرجوانية المتخثِّرة.
فرقة فراير ومسرحيته
في عام ١٩٩١م أسَّس فراير فرقته، وعلى غِرار أساتذة مسرح الفنان الآخَرين، الذين تحدَّثنا عنهم قبل ذلك في الفصول السابقة، شعَرَ فراير بالحاجة إلى العمل مع فرقةٍ ثابتة؛ لكي يحقق التكوينات التشكيلية التي يؤلفها. تتكوَّن هذه الفرقة من ممثلي مختلفِ التخصصات المسرحية والموسيقية: سبعة ممثلين دراما، مغنية، راقصين، لاعبي أكروبات، عازف بيانو، وعازف طبول. يجتمعون جميعهم مرتَين أو ثلاثة كلَّ عام ليقوموا بعملِ البروفات، ثم يعرضون المسرحيات على مختلف مسارح ألمانيا وغيرها من البلاد. كما يشاركون في العروض الأوبرالية الكبيرة التي يُخرِجها فراير.
لقد جسدَت الفرقة، بشكلٍ أكثر اكتمالًا، مفهومَ فراير لمسرح الفنان وأسلوبه. ومن المميز هنا، أنه في جميع أعمال الفرقة (وكذلك في معظم الأوبرات التي أخرَجَها فراير على امتداد التسعينيات على مسارح أوروبا الأخرى) فوَّض مساعديه وتلاميذه في تصميم السينوجرافيا والملابس (وعلى رأسهم ماريا إميلينا آموس)، ليقوم هو بالإدارة الشاملة في مجال الشكل البصري للتكوينات التي يقوم هو بوضعها؛ بعبارةً أخرى، ركَّز فراير اهتمامه على مرونة الشخوص البشرية.
Jowaegerli
شاهَدَ فراير في مخزن الديكورات لمسرح موسوفيت (حيث جرَت الجولة المسرحية) كراسي مختلفةَ الارتفاعات، من تصميم س. بارخين، باعتبارها سينوجرافيا المسرحية (الصيد المَلكي). بدا شكلها لفراير جذَّابًا جدًّا، حتى إنه أعاد إلى برلين التصميم السابق الذي كان قد أحضره للمسرحية واقترح على الممثلين أداء الدور على هذه الكراسي.
سبعة ممثلين يمثلون سبعة «نوتات» يلعبون «ألحانًا» بصرية، كلٌّ من «النوتات» السبع تؤدي في تتابُع مختلف، انفرادي، دويتو، تريو، كوارتيت، أو جميعهم معًا؛ ولكن في إيقاعاتٍ ومقامات موسيقية مختلفة. يؤدي الممثلون وقد ارتدوا بِدلًا سوداء ووضعوا أقنعةً شريرة بيضاء موحدة كلَّ الأعمال الممكنة، كلٌّ مستخدِمٌ كرسيِّه بارتفاعات مختلفة. وبهذه الطريقة، يعاني كلٌّ منهم في صمتٍ تلك الحالات التي تتناقل بواسطة النصوص المحسوبة والموسيقى المدوِّية (على طريقته يغنِّي على الآمال التي لم تتحقَّق، على النحو الذي حدَّدَه شنيبل لموضوع المسرحية).
على خلفية مطليَّة بضوءٍ متعدد الألوان (قاتم إلى حدِّ السواد، أحمر، وردي، أزرق، أخضر، ثم قاتم من جديد) تتجمَّد الشخوص السوداء في ميزانسين جلوسٍ طويل في أوضاع مختلفة. ثم ببطء، واحدًا وراء الآخَر، يتبادلون الكراسي صانعين منها تكوينًا غير متماثل. ينهضون. يتجمدون مثلَ كومة. يهبطون للجلوس. يعبُرون بها إلى الأرض. يقلبون الكراسيَّ نحوهم. خلال فترة من الزمن، بنفس بطء حركة السَّير في أثناء النوم، يعيدون مرةً أخرى الكراسي إلى الوضع الرأسي. يزحفون وهم جلوس، ثم يتجمدون في حالةٍ من الكدر، إلى أن يبدأ واحدٌ ما فجأةً في الضحك بجنون، فيفيق الجميع، ويزحف كلٌّ منهم واحدًا وراءَ الآخَر ينظرون بعضهم إلى بعض في تساؤل، ثم يتجمدون في هذا الوضع. تهبط من الظلام في أعلى، على حبلٍ، لمبةٌ عارية. تشتعل. تتأرجح فوقَ الرُّءوس. كلُّ تغييرٍ جديد للوضع والإيماءة والنظرة، كلُّ دوران، كلُّ خطوة، كلُّ حركة، يمثِّل تكوينًا جديدًا؛ يثبت بالضرورة في وقفةٍ زمنية، ثم يُنتقل إلى الآخَر. يتبادل الشخوص السوداء الجلوسَ من كرسيٍّ إلى آخَر، الواحد وراء الآخَر، متحركينَ نحو الكواليس ليختفوا وراءَها. آخرهم يبدأ في تقديم مونولوج تشكيلي بيدَين يفتحهما على جانبَين، يضمُّها إلى رأسه، يرفعها إلى أعلى. وعندما يختفي هو أيضًا بدوره وراء الكواليس؛ يرى المشاهدون لفترةٍ قصيرة على خلفية المسرح المظلمة تكوينًا جرافيكيًّا لظلِّ الكراسي الخالية، التي صمَّمَها بارخين. تعود الشخوص السوداء. كلٌّ يأخذ كرسيَّه. يقفون. يدورون في رقصةٍ ساحرة. يقفون في أماكنهم. يزحفون. يُمسكون بقاعدة الكراسي. يرقدون. يجلسون ويسحبون الكراسي من أسفل، ثم يرفعون إلى ركبهم مربعاتٍ ومثلثات بألوانٍ مختلفة؛ حمراء، زرقاء، صفراء، خضراء، بنفسجية، رمادية. يشكِّلون من هذه المربعات والمثلثات في البناء الجرافيكي الأسْوَدِ والأبيض للمسرح تكوينًا ملوَّنًا ناصعًا بروح التصوير السوبرماتيزمي؛ ليصبح هو اللَّحن الختامي القوي للعرض.
Dis Tanzen
سبعة شخوص تقف في صفٍّ واحد بِطولِ الأضواء الأمامية للمسرح على خلفيةٍ محايدة (في مسرحياتٍ مختلفة يمكن اعتبارهم «صفحةً بيضاء» لفضاءٍ مسرحي مفتوح وفارغ، أو سطحٍ مضطلع أحمرَ لستارةٍ حديدية) يعتمرون جميعهم قبَّعاتٍ رمادية متشابهة وبَدلات. كلُّ شخص مشوَّهٌ بطريقةٍ ما ويفتقد إلى التماثل. الشخصية قصيرةٌ ممتلئة، أو ممدودة إلى أعلى بشكلٍ مفرط، تقف على ساقَين خشبيتَين؛ بدينة جدًّا، أو لها كتفٌ مائل (بمقاييسَ وأشكالٍ مختلفة واتِّساع؛ تفصيل البنطلون، الأكمام، الأكتاف).
بعد توقُّفٍ طويل ممل، وبينما هم في سكونٍ تام مطلق دون حركة ينظرون من أسفل الحواف العريضة للقبَّعات إلى قاعة العرض، أيديهم المعقودة على بطونهم وصدورهم تبدأ ببطءٍ شديد في الهبوط إلى أسفل ثم تختفي في جيوب البنطلونات. هذا الأكشن الأول، بفضل اكتفائيته (استخدام الحد الأدنى) يتمُّ إدراكه باعتباره حدَثًا مهمًّا. كان الأكشن التالي يدور بالبطء نفسه، وبالتضخيم نفسه؛ ولهذا كانت لهم الأهمية نفسها: كل شخصية هي «قزم» و«عملاق»، سمين، ومائل الكتف، والآخَرون جميعهم في الوقت نفسه على انفراد، في إيقاعات مختلفة وإيماءاتٍ متنوعة يحمل يده إلى وجهه. يحكُّ أحدهم أنفَه، أحدهم أذنَه، أحدهم رقبتَه، وأحدهم قدَمَه. أحدهم، بعد ذلك، رفَعَ يده؛ فكَّر فجأةً في وضع يديه مرةً أخرى في جيوبه. بعد التوقف التالي، يبدَءُون باهتمامٍ بالغ وعناية في تهذيب أظافرهم وتنظيفها. بعد ذلك يثنون أكفَّهم. يفركونها. يشبكون أصابعهم. يضغطون عليها. يطرقعونها. يلقون عنهم ويغسلون عن أيديهم الأوساخ اللاصقة. يضعون أيديهم خلْفَ ظهورهم.
بعد أن ينفذ المسلسل الأول من «العرض الراقص» للحد الدنى من الإيماءات يبدأ الشخوص-المسخ في إصدار أصوات، مقاطع صوتية وكلمات (وفق التكوين الحديث، الذي وضَعَ ترتيبه م. خيرش، أحد ممثِّلي فرقة فراير) أحدهم صاح بشيءٍ ما. الآخرون بدهشةٍ يديرون رءوسهم في اتجاه الشخص الذي خرَقَ الصمت. ثم يقوم آخَر، وثالث. صراع الأصوات (كلٌّ منهم يشبه إيماءة، يتميز باللون، والأداء والجرس) يذوب في تنافُرٍ صوتي؛ ينطلق في الضحك. الشخوص المُقَهْقِهَة الخرقاء ترتجُّ. يتمايلون. يتحركون. يصاحب هذه «المكلمة» شكلٌ بصري؛ وضع متكرِّر للأيدي وراء الظَّهر أو عَقْدها على الصدر. فجأةً يصمت الجميع في وقتٍ واحد. مخفِضين أيديهم على الندبات يتجمدون. على وجوههم تظهر حركاتٌ بأسنانٍ بيضاء. مرةً أخرى، يتميَّز كلٌّ منهما على الآخَر، تمامًا مثل سبع «نوتاتٍ» بصرية. يؤدون في هذه اللحظة «لحنًا» تشكيليًّا. يتغير «اللَّحن» بألحانٍ أخرى، ورقصات (إيماءات) ولفتات وأصوات. وجوهٌ مرعوبة بسبب تهديدٍ مفاجئ. البحث عن شيءٍ ما أسفل بالأقدام. دوران واهتزاز بأسلوبِ رقصة البوجي ووجي، كلٌّ في مكانه وعلى طريقته. مرةً أخرى «لحنٌ» عام، فيغير محلَّه. مكملة، ثم «رقصٌ» مرةً أخرى. يسيطر على الجميع تيار عصبي، حكة، طبطبة على أجزاء مختلفة من الجسم، ضبط ربطة العنق والبدلة.
طرطشةُ مقاطعَ صوتية وعبارات تحدُّثٍ بشكلٍ دوري (همس، غمغمة، شكوى صارخة) تتغير إيماءات الدهشة والتظاهر، ارتفاع الرءوس وهبوطها، طبطبة أخرى واهتزاز. الميزانسين السكوني الختامي يتمثل في أن كلًّا من الشخوص السبعة يتجمد في الوضع الأول. الآن فقط، خلافًا لبداية المسرحية، رءوس مائلة خائرة القوة، بعد أن تغطِّي وجهًا بيدَيها. وبعدما يسود الهدوء تدوِّي دقةٌ مكتومة على الأرض شخصية «القزم» المربع.
فراير وتوسكانيني: بروفات أوبرا «ترافياتا»
إنَّ موضوع أوبرا فيردي يتبدَّى من خلال مرونة حركة البطلة ومجموعة الأبطال المقابلين من الرجال، فيبدأ العرض وكأنَّ البروفات تبدأ أمام المشاهِدين. بروفات يقوم بها من ناحيةٍ المايسترو الشهير أرتور توسكانيني والذي رحَلَ منذ زمنٍ بعيد (وتبدو مشاركته في البروفة من خلال يد المايسترو وعصاه التي ترتفع فوق سور حفرة الأوركسترا بحيث يسمع ولا يرى)، ومن ناحيةٍ أخرى فراير (والذي يُسمع صوته من وسط الصالة من حينٍ إلى آخَر صارخًا بتعليمات المخرِج وأوامره وإيضاحاته، مستوقفًا الممثلين والعرض عدَّة مرات ويأمر بإعادة بعض المقاطع).
على خشبة المسرح، تدور أحداث البروفات وتدريباتها وتنويعاتها التي ينشأ عنها في النهاية التراكيب المرنة التي تشكل العلاقات الدرامية الأساسية بين البطلة فيوليتا (وقد أدَّت دورها المغنية ﻫ. كيتنر) والمحيطين بها.
في البداية، تقوم هي (مرتديةً فستانًا أحمر) والرجال (مرتدين بدلاتٍ بيضاءَ) بأداءٍ تتابُعي للتعبيرات الحركية الشخصية والعامة، لحركة الأيادي والأرجل والأجسام، التأرجُح والالتفاف والانحناء، يتَّسع أفق حركتهم ويتبادل الرجال المقابِلين للبطلة مواقعهم حولها، وراءَها، أمامها، كلٌّ بطريقته الخاصة وفي اتجاهه الخاص نحوَ عُمق خشبة المسرح أو عرضها، أو في اتجاهِ قُطرها، مكوِّنين صفوفًا مشتركة وحلقات حول البطلة. يلاحقونها فُرادى وأزواجًا ومجموعات من ثلاث. وحينما تحاول البطلة — في نهاية المطاف — في نهاية الفصل الأول («الحُب المتحرِّر») غناءَ المقطع الأول من آريتها؛ فإن الرجال يقومون برفعها فوقهم عاليًا، وتكتسب حركتهم خصائص الأكروبات وقوالب السيرك.
تغوص خشبة المسرح في الظلام لبضع دقائق؛ لا يُشاهَد أيُّ شيء سوى عصا المايسترو، ويُسمع صوت فراير الذي يستوقف عزْف الأوركسترا (ﺑ «كلَّا»، «كلَّا»، «كلَّا!») مجبِرًا الأوركسترا على إعادة جُمَل موسيقية مرَّاتٍ ومرات. بدأ الفصل الثاني («الحب المتحرِّر»). تُضاء البطلة «فيوليتا» في وسط المسرح وقد ارتدَت أسطوانةً على رأسها. ويبدو الرجال الآن في أسطواناتٍ سوداء على الرأس، والجزء العلوي من بِدَل «سموكنج» سوداء أيضًا (تبقى من أزياء الفصل الأول البنطلونات البيضاء)، يتوجَّهون نحوَ فيوليتا في طابور، يوقفون تمريناتها الصوتية ويتحكمون بها كما لو كانت دُميةً حيَّة. يتحركون بها في جميع أنحاء الخشبة. كلٌّ يغيِّر من وضعها على طريقته الخاصة؛ فأحدهم يلفُّها ناحية اليمين، والآخَر ناحية اليسار؛ الثالث يثني جسَدَها، والرابع يرفع ذراعها، في حين يضمُّ أذرعها الخامس، ويفرد جسَدَها السادس. في لحظةٍ من اللحظات، يبدون وكأنهم جميعًا يشاركون في «نحتِ» حركتها المسرحية، وهم يحيطونها في دائرةٍ محكمة. وحينما يبتعدون عنها، فإنها تكرِّر وحدها في استقلالية حركةَ الرجال من حولها في الانحناء والدوران وحركة الأيدي، ويقوم الرجال بتكرار حركاتها وأوضاعها.
تُضاء يد المايسترو وعصاه المرفوعة من جديد. نسمع الفاصل الموسيقي، ولم يقُمْ أحدٌ بإيقاف عزف الأوركسترا الذي عزَفَ لحْنَ «الحُب» الحزين من الفصل الثالث. وعبِّر مرئيًّا عن هذا اللَّحن، الأداء الحركي المنفرد للبطلة؛ فبدى جسمها في الفستان الأبيض الطويل الملامس للأرض متوقفًا لِلَحظة ممتدة في وسط الفضاء المسرحي، واضعةً يدَيها على بطنها. ثم فتحتْ يدَيها نحو الجانبين وبدأت ببطءٍ شديد بشكلٍ يكاد يكون غيرَ ملحوظ في الدوران حول نفسها في اتجاهٍ عكس حركة عقارب الساعة، حيث تقوم خلال نصف الفصل بالدوران دورةً كاملة (٣٦٠°) في هدوءٍ تام. تظهر من وقتٍ إلى آخر، على مقدمة المسرح، ظلالُ أجسادٍ يصعب تمييزها لرجالٍ ونساء. حينما تنتهي البطلة من دورانها دورةً كاملة؛ تتوقَّف لِلَحظة ثم تتحرك بالكيفية نفسها وبالبطء نفسه في الاتجاه المعاكِس، متجهةً في هذه المرة نحْوَ الجلوس والهبوط شيئًا فشيئًا نحو أرضِ الخشبة مستلقية في النهاية على جانبها ثم على ظَهْرها، حينئذٍ تغنِّي بعضَ الجمل الموسيقية من آريتها، ثم تغوص في الكآبةِ المخيِّمة على المسرح.
يتكرَّر هذا الأداء الحركي المنفرد للبطلة مرةً أخرى في الفصل الرابع «فقدان الحُب». تظهر فيوليتا في فستانٍ قاتم وقفَّازات سوداء، وتقوم بدورانها وجلوسها وهبوطها نحو أرضِ الخشبة، ولكنها تفعل ذلك هذه المرة بدون صمت، فهي تغني آريتها في أثناء الحركة. ويحيطها الآن الرجال في بَدلاتٍ سموكنج سوداء، وقد وقفوا بلا حركةٍ طوالَ الفصل، تمتد أيديهم نحوها أو توضع على البطن، وقد غطَّت وجوهم الأقنعة.
بعد فاصلٍ موسيقي آخَر (ويد المايسترو مضاءةٌ وسط الظلام) تبدأ البطلة من وضْعِها السابق نفْسِه في نهاية الفصل الرابع، مستلقيةً بلا حراك، ترتدي الآن فستانًا أبيض يبدو من تحته أجزاءٌ سوداء من فستانها السابق (الأذرُع والياقة). تقوم بصعوبة، تغني الآريا الختامية. يقترب منها في الظلام رجُل. ويحيطها بثيابِ الحِداد، ليظهر بعد ذلك في تنُّورةٍ حمراء تذكِّرنا بفيوليتا الفصل الأول. بل إنه يقوم بحركاتٍ مشابهة لحركات فيوليتا من الفصل الأول محرِّكًا جسده إلى الأمام وإلى الخلف، حتى خروجه مناقِضًا بذلك الحالةَ التي آلتْ إليها البطلة فيوليتا في الفصل الرابع. الرجال في بَدلاتهم السوداء والأسطوانات على رءوسهم والأقنعة على وُجُوهم، يُقيمون كرنفالًا دراميًّا، ومبالَغَ السخرية في الوقت نفسه. في الختام، حينما يختفي بقيَّة الممثلين تقوم فيوليتا بإطلاق لعبة الأطفال «النحلة» المتنوِّعة الألوان. يبدأ سقوط الثلج مكوِّنًا لوحة مسرحية مستوية، تتدحرج عليها كُراتُ الثلج.
«رفرفة الأجنحة»
قدَّاس سي الصغير
بعد مرور عامَين، في العام ١٩٩٦م، أصبح الفراغ ذو اللون الأبيض الطاهر المكوَّن من بياضِ أسطُح الأرضيَّة والحوائط؛ هو الوسط الذي جسَّدت فيه أجسام ممثِّلي الفرقة مرئيًّا المدونةَ الموسيقية لقدَّاس يوهان سيباستيان باخ الشهير في سُلَّم سي الصغير. يعدُّ ذلك العرض أحدَ أكثر أعمال فراير في مجال عروض المسرح البصري تأثيرًا؛ حيث ارتقى المخرِج المخضرم إلى أعلى نقاط التلاحُم التام بين الموسيقى والحركة. فكما نعلم، عادةً ما توجد الموسيقى والحركة في شكل متوازٍ ومنفصِل، تكمل إحداهما الأخرى بقيمٍ متكافئة. هنا يختفي الكورال والسوليستات خارج نطاق الرؤية؛ فقَدْ وضَعَهم في حفرة الأوركسترا (حاول فراير كما، نتذكَّر، عمَلَ الشيءِ نفسه في الكورال وحده في مسيح هاندل). وكانت النتيجة أنَّ المخرِج، وقد دعَمَه في هذا بشدَّة قائدُ الأوركسترا ت؛ خيلدنبروك. استطاع أن يجعل أصوات الغناء تُسمع في هيئتها الأولية؛ فقد جاءت الأصوات من خارج الحيز المسرحي وكأنها تأتي من اللامكان. تم استخدام الحيِّز المسرحي لخلق معادِلٍ مرئي لموسيقى باخ. يقول فراير: «إنني لا أقوم بتأليف الموسيقى.» بل أنطلق قبل كلِّ شيء من محتوى العمل الموسيقي. إنَّ المشكلة الرئيسية تكمُن في تجسيد الكينونة الروحانية الداخلية للموسيقى العظيمة من خلال تطوُّر هيكل الحركة التعبيرية. يتكوَّن هذا الهيكل من أربع وسائلَ تعبيريةٍ أساسية، تترابط بقوة فيما بينها (وإن عُرضت في بعض اللحظات بشكلٍ منفصل)، تتراكم بعضها على بعض وتتفاعَلَ — في تعقيدٍ، وبطرائق شتَّى — فيما بينها لتُنتج في النهاية الوحدة الديناميكية المتكاملة للصورة المسرحية المرئية. تلك الوسائل تتضمن أولًا: إسقاط الأوجه الحيَّة للمغنِّين (السوليستات) التسعة، ثانيًا: رسومات تخطيطية على ستارةٍ ذات سطحٍ شفَّاف، ثالثًا: المكعب الخالي للحيز المسرحي، ورابعًا وأخيرًا: التعبيرات الحركية للأجسام التسعة (بعدد السوليستات نفسه) التي تكون في واقعِ الأمر مضمونَ التنويعات المرئية على موسيقى مسيح باخ التي يراها المُشاهِد.
ترتفع الأوجه الحيَّة للسوليستات — في لحظات الذروة في الأغلب — فوق مستوى خشبة المسرح وكأنها خيالاتٌ مضيئة زائلة، ثم تختفي بمجرد أداء دورها الغنائي، بهذا يشرك فراير أوجه السوليستات في الهيكل المرئي للعرض كعنصرٍ ذي شخصيةٍ تشكيلية. لقد كان فراير هنا بحاجةٍ إلى العاطفة التعبيرية الكامنة للوجه الذي يغنِّي، منفصلةً عن الجسد الذي غاص في حفرةِ الأوركسترا، ولم يكن مهمًّا في تكوين اللوحة المسرحية. بتعبيرٍ آخَر، كان وجه المغنِّي بالنسبة إلى فراير جزءًا مرئيًّا هامًّا في تجسيد الموسيقى، شأنه شأن التعبير الحركي للأجسام الصامتة على المسرح، والتي وقفتْ في المقابل بلا وجه (تمَّ تغطية الأوجه بأنسجةٍ من قماش)، موحَّدة الزيِّ في لباس فضِّي على أحذيةٍ ضخمة ثقيلة. ظهرَت الأوجه المغنية دائمًا في تداخُلٍ متنوع مع أحداث الأجسام وحالاتها وأوضاعها على المسرح.
يرى المُشاهِد بدايةً أوجه السوليستات التسعة متبخِّرة فوق خشبة المسرح، ثم في لحظةٍ أخرى يرى في المكان نفسه وجهَ المغنية يُضاء وقد بدأت في غناءِ مقطعها، ثم يتضاعف الوجه فيضاء وجهُ مغنٍّ آخَر، ونسمع دويتو (ثنائيًّا) لاثنَين من السوليستات. يتكرَّر تضاعُف الأوجه بشكلٍ آخَر من خلال إسقاط الوجه على شاشة خلفيةٍ وسط المسرح. كما نرى بشكلٍ أكبر ملامح الوجه والعينَين (مرآة الروح) التي تتطلع في أحد المقاطع نحو صالة الجمهور من علياء «سموات» المسرح، كما تتغير إضاءة جوانب وجه السوليست والإسقاط للثنائي، وباختفائهما تظهر في العمق عينٌ كبيرة. أوجه السوليستات يمكن أن تغطِّي كلَّ أسطح المرايا على المسرح ثم تغوص مختفيةً إلى أعلى أو نحو العمق. تظهر الأوجه في إسقاطٍ موجَب (بوزيتيف) كما تظهر في إسقاطٍ سالب (نيجاتيف). في النهاية، يكلِّل الحركةَ قبل الأخيرة ظهورُ وجه أحد السوليستات على خلفية رأس المسيح المصلوب، الذي يظهر في صورة سيلويت على الشاشة الخلفية.
الوسيلة التعبيرية الثانية: رسومٌ تخطيطية على ستارةٍ ذات سطح؛ أيادٍ، أرجُل، أعيُن، أذن، جذع، وأجزاء أخرى من جسم الإنسان. تبدو تلك الرسوم في بعض الأحيان كحاجزٍ شفَّاف يبدو من خلاله أجسام الممثلين وراء الستارة، في حين تبدو أحيانًا أخرى كحاجزٍ مُصْمت عليه رسوم تخطيطية يُغلِق الفراغَ المسرحي. كما ظهرَت أيضًا بعض الموتيفات التعبيرية متمثِّلة في الوجوه والأقنعة الفظَّة القبيحة ذات الطابع التجريدي، والمغالى فيها بشكلٍ واضح، تتواتر تلك الأشكال وتتكرَّر بتنويعاتٍ وظروف مختلفة. في إحدى لحظاتِ العرض، يستخدم فراير الستارة الشفافة بطريقةٍ تُحْدث تخطيطًا ديناميكيًّا (حيًّا) إلى جانب المرسوم الإستاتيكي؛ حيث تقوم الأجساد المتحركة وراء الستارة بشكلٍ منفرد، وكمجموعات، ثم جميعًا، في الوقت نفْسِه بإيقاعاتٍ ونبضٍ مختلف، بلمسِ الستارة بالإبهام أو بالكوع أو بالرأس أو بالرِّجل أو بالقَدَم أو بالظَّهر؛ فتكون النتيجة ظهور ظلٍّ مظلِم متحرك على الستارة بأحجامٍ متنوعة، لا يلبث أن يختفي بانتهاءِ لحظةِ لمْس الستارة. ويمثل ظهور واختفاء تلك البقع السوداء الفوضوية على الستارة الشفافة على موسيقى باخ؛ أحد القوالب التعبيرية المرئية لتلك الموسيقى.
هناك وظيفةٌ منفصلة للحيز المسرحي، فهو يعيش تطورًا معقَّدًا للحالات المختلفة، ليس فقط في الوقت الذي تتحرك عليه أجسام فراير. في الوقت الذي نسمع فيه أحد ألحان القدَّاس يرى المشاهدون ذلك الحيز فارغًا تمامًا ذا ألوانٍ بيضاء أقرب للضباب، ثم تتحوَل إلى اللون الأبيض الذي يقترب من اللون الأزرق ثم الأزرق القاتم فالأحمر القاني فالبنفسجي، بعد ذلك تفقد تلك الأطياف اللونية كثافتها وتشحب، وتكتسب لونًا رماديًّا وتغرق في البياض. وإلى جانب ذلك، فإن هذا النوع من اللحظات — حينما يصبح الشكل المرئي للعرض هو مكعبًا مرئيًّا — فارغٌ؛ يحمل معنًى مشتركًا فيما بينها، ألَا وهو الفاصل الفراغي بين الأحداث التي تقوم بها العناصر الأساسية لتجسيد الموسيقى، وهي أجسام فراير.
تقوم تلك الأجسام المنزوعة الوجوه والمتوحِّدة الحالة (أي إنها بدون أي خصائصَ ذاتيةٍ مميِّزة لشخصيتها الفردية) بالتعبير عن الحالة الداخلية للموسيقى من خلال الحركات التعبيرية (في الوقت الذي يعبِّر فيه انعكاس وجوه المغنين عن الجانب التعبيري لتلك الموسيقى). إن المدونة التي وضَعَها فراير لمكانِ وجود الأجسام في فراغ المسرح، وحركتها ولغتها التعبيرية وتركيبها التشكيلي (التي تظهر بشكلٍ متلاشٍ، بفضل الستارة ذات السطح الشفَّاف) تتفاعل في الوقت نفسه مع أصوات المغنِّين والأوركسترا والأفكار الموسيقية لقدَّاس باخ.
مع النغمات الأُولى للكورال الحزين (وانعكاس وجوه المغنين التسعة على المسرح) يظهر أمام المشاهدين جسمان ثابتان تجمَّدَا على جانبَي القُطر المركزي المتَّجه نحوَ عمق الخشبة وقد غاصا في اللون الأزرق. يبدآنِ في الحركة مع ذوبان الوجوه المغنية وبداية سماع أصواتها وهي تأتي من اللامكان وراء المسرح. يدور الجسم الأمامي ببطءٍ؛ ١٨٠° ثم يتوقف. يتحرك الجسم الموجود في عمق المسرح بالكيفية نفسها. ثم يتحركان ٩٠°؛ ليواجه كلٌّ منهما الحائطَ الجانبي الافتراضي لمكعب الفراغ المسرحي. يَبْدآنِ في الحركة نحوَ تلك الحوائط مع حركةِ الأرجُل بصعوبةٍ وبطء، وقد ارتديا أحذيةً يونانية قديمة مرتفعةً عن الأرض. في الجانب الأيسر من المسرح، يظهر الجسم الثالث. وتبدأ بعد ذلك حركةٌ أقرب إلى المشي في أثناء النوم للأجسام الثلاثة، مكوِّنين مثلثًا رأسه للجمهور يتحرك نحو العمق، ثم ينضمُّ جسمٌ رابع؛ فيصبح الشكل مربَّعًا.
تتغير الحركةُ في الفراغ، وتكوينُ الأشكال الهندسية الأساسية؛ إلى نوعٍ آخَر: حركة أعضاء الجسم. في البداية تتحرك الرُّءُوس: تدريجيًّا وببطءٍ نحو اليمين واليسار، ثم إلى أعلى وإلى أسفل. كلُّ زوج من الأجسام يتحرك على حِدة، في اتجاهاتٍ متضادَّة، دون توقُّف عن الحركة المتباطئة على الخشبة متقارِبين نحوَ المركز ثم متباعِدين. يفتتح لغةَ حوار الأيدي (والتي سوف تستمر في المَشاهد اللاحقة) الجسمُ الوحيد في عمق المسرح الذي يمثِّل محورًا رأسيًّا وسط البياض الشاهق. تتجمَّد في وضع تمثالٍ في منتصف الحائط الخلفي، وتبدأ أُولى حركاتِ الأيدي (على أنغام الدويتو النسوي؛ حيث يظهر وجهَا المغنيتَين في هذه اللحظة على المسرح) وهي تحرك إحدى الأيدي، ثم تحرك اليد الأخرى، ثم تثني الذراع أو تفرده نحو أحد الجوانب. وترفعه نحو الكتف ونحو الرأس. ثم تضع اليدَين بمحاذاة الجانب وتضغطها نحو الجسد أو بعيدًا عنه؛ ثم رفْع إحدى اليدَين إلى أعلى، في حين خفض الأخرى إلى أسفل. إحداهما إلى الأمام، والأخرى نحو الجانب في عدم تطابُق وببطء.
بعد «المونولوج» الذي تقوم به أيدي الجسم الأول، تُكمل الأجسام الأخرى ذلك التشكيل الحركي المسرحي. يقوم بذلك مبدئيًّا جسمان، ثم ثلاث، ثم خمس أجسامٍ، ثم في النهاية تقوم الأجسام التسعة جميعًا بتلك الحركات. إنهم «يرسمون» شكلَ حركة الأيدي، ويصلون إلى حالة التمثال (كما بدأ الجسم الأول في البداية)، في حين تتكوَّن في أثناء عملية التشكيل الجسدي، عن طريق الحركة لكثير من الأجسام في الوقت نفسه، صورةٌ تشكيلية متعدِّدة المستويات. في المشهد الختامي، نرى من خلال ثلاثة طوابير من الأجسام في كلٍّ منها ثلاث أجسام «التآلف الموسيقي» متجسدًا على الخشبة، ومتوِّجًا أصواتَ الكورال الجليل من موسيقى باخ.
يتغير اللحن الموسيقي، ويتكسر معه هيكل الشكل المسرحي السابق. يقوم كلُّ جسم على حِدة وبشكلٍ مختلف بالانكسار الموحي والمبالَغ فيه. ثم بالجلوس. ثم بثَنْي الأرجُل وفَردِ الذراعَين وفرد الأصابع. الاستلقاء على الظَّهر والتجمُّد في وضع الانكماش والتحجُّر على هذا الشكل. تتحوَّل خشبة المسرح إلى هذه الفوضى المكوَّنة من أجسامٍ سوداء متكورة. ببطءٍ تنام الأجسام على جوانبها وتتدحرج على أرض الخشبة، ويُضاء على كلٍّ منها شكلُ قناع (يأتي من التكوين الذي يظهر في الوقت نفسه على الستارة الأمامية الشفافة). وعلى إحدى تلك الكتل «المتكورة»، تظهر عينان ضخمتان تغمز إحداهما بشكلٍ مدهش.
يظهر مونولوج تشكيلي جسدي لجسمٍ وحيد في الفراغ الأزرق. ولكنه الآن يظهر في المقدمة، تقوم الممثِّلة بتحريك رأسها (إلى الأمام، إلى الخلف؛ نحو الأكتاف، ثم نحو الكتف الأخرى) تجلس تتمدَّد تقوم بعدد من الحركات باليدَين والرأس إنَّ تلك «الفوجا» الجسدية التي يؤديها جسدُ الممثل في فرقة فراير؛ تُعيد اللَّحن الموسيقي الذي يؤدِّيه المغنِّي بصوته.
تظهر أربعةُ أجسام على هيئة تماثيلَ منحوتةٍ في فراغٍ يتغير فيه طيفُ الإضاءة، وتتجمَّد في وضع مبالَغٍ فيه، لخطوةٍ غير تامة (وقد ارتفعَت إحدى الأرجُل) في اتجاهاتٍ مختلفة: إلى اليسار، وإلى اليمين، وإلى الأمام والخلف. بالكيفية نفسها، يصبح عدد الأجسام التي تقوم بتلك الخطوات الإستاتيكية ستةً، من مقدمة المسرح وحتى العمق. ثم ثمانية يقفون في اتجاه قُطر المسرح. يقف سبعة بعضهم وراءَ بعض باتجاه المحور الطُّولي المارِّ بمنتصف المسرح (كما يقف أيضًا جسمان يؤدي كلٌّ منهما الحركات الجسدية الخاصة به). يؤدي السبعةُ حركاتٍ مشتركةً بطيئة للأيدي (نحو الجوانب، ثم نحو الصدر، ثم إلى الأعلى، ثم إلى الأسفل مع حركة كفِّ اليد (إلى الأمام والخلف) وحركة الأجسام (الجلوس والوقوف) والرءوس (الانحناء). تؤدَّى الحركات أولًا بشكلٍ متزامن ثم بالترتيب (بفارقٍ واحد)، وهنا يظهر تأثيرُ تعدُّد الأيدي وتعدُّد الأرجُل وتعدُّد الرُّءوس للتكوينات المدهشة. والذي يتكوَّن من الأجسام التي تتوزَّع وتتناثر في فراغ المسرح، والتي تقوم مرةً أخرى بحركةِ الأيدي نحو الأعلى منفردة، ثم تبدأ الأجسام ببطء في الدوران وتظهر الوجوه الخمسة التي تغنِّي فوقهم.
يقوم فراير بعد ذلك في الحركة التالية من القدَّاس بخلقِ موقفٍ درامي يتضاد فيه ثمانية أجسامٍ وجسمًا واحدًا. يقع الجسم على الأرض ويتوجَّه نحوَه الثمانية ويمدُّون أيديهم مقبوضةً فيضربونه بتزامُن. يقوم الجسم المستلقي، ثم يقع مرةً أخرى، فيقوم، ثم يصبح على الأرض من جديد. حول الجسم المستلقي تظهر بقعةُ ضوءٍ حمراء، وبعد لحظةٍ تنطفِئ تلك الإضاءة وإضاءة الفراغ المسرحي كلِّه، ثم يظهر من عمق المسرح شعاعٌ أصفر اللون.
تقوم الأجسام التسعة ردًّا على تغيُّر الألحان الموسيقية بالقفز بطريقةٍ مبالَغٍ فيها. ويتفحص كلٌّ منها الأيدي والأرجُل والأجسام في أوضاعها المختلفة. ثم تتعبَّد من خلال الانحناء ببطء، وأنصاف الخطوات والالتفاتات، ورفْع الأذرُع نحوَ الأعلى والأكفِّ نحو السماء، والهبوط والانحناء نحو الخلف؛ ويجري ذلك كلُّه في مشهدٍ يقسم الخشبة على هيئة صليب، وتتغير أحداثه في دائرةٍ طقوسية تحني فيها الأجسام رءوسَها وتتوقف بعد كلِّ حركة.
قريبًا من الختام، يقوم فراير بعرض عددٍ من التشكيلات التي تنمو رأسيًّا نحو الأعلى. فالأجسام الموجودة هنا في الأسفل (مضطجعة أو جالسة القرفصاء أو مُنحنية) تقوم بالتدريج، وتشدُّ قامتها، وترفع عيدانًا نحو الأعلى في زوايا مختلفةٍ؛ لترسم في فضاء المسرح جميعَ التركيبات التشكيلية للخطوط المتجهة إلى أعلى. تتجمَّع في مجموعةٍ مترابطة تدير عيدانها ببطءٍ أحيانًا وبسرعة أحيانًا أخرى. تبلغ المجموعة الذروة في اللحظة التي تصبح فيها جميعُ العيدان عموديةً نحو الأعلى، ثم تسقط على الأرض. يبدأ الممثلون كلُّهم في التأرجُح بالتدريج وبشكلٍ عشوائي في اتجاهاتٍ متضادة وكأنَّهم عصا مترونوم [آلةٌ ميكانيكية إيقاعية. (المترجم)] حيَّة، وكأنهم يعدُّون إيقاع الموسيقى الذي يسمعونها على خشبة المسرح. وتتكرر تلك الفكرة مرةً أخرى في المشهد الذي يسبق الختام، ولكنْ بمعنًى آخَر؛ تقوم أغلبية الأجسام الحاملة للعيدان برسم لوحةٍ للمقاومة، بعد ذلك تتَّجه نحو منتصف المسرح وتضرب بالعيدان المطروحة أرضًا.
«تحت حديد القمر In Hora Mortis»
في الفراغ المسرحي، في «الميدان» (حيث تجمَّع سربٌ من الحمَام الأبيض بحثًا عن الطعام، ونسمع صوت اهتزاز الكريستال، ويقوم العازف بعزف البيانو) تظهر مجموعةٌ مكوَّنة من تسعة سائحين، يتقدَّمهم مرشدٌ سياحي يرتدي «بالطو» للمطر أبيض اللون ويحمل مكبِّرًا للصوت، كما يرتدي السائحون أيضًا اللون الأبيض، ولكنْ أنسجة مختلفة إلى جانب أنصاف أقنعة بيضاء ومكياج أبيض؛ الأمر الذي يميِّزهم جميعًا عمَّا يحيطهم؛ ومع ذلك، فإنَّ لكلٍّ منهم علامةً تميِّزه (قبعةً وشاربًا، باروكةً صفراءَ فاقعةَ اللون، حقيبةَ ظَهرٍ، سموكنج ذا ذيلٍ طويل … إلخ). كذلك يميَّزهم إيماءاتهم وحركاتهم وتعبيرهم الحركي والأصوات الصادرة عنهم، والتي تمشَّت مع حقيقةِ أنَّ كلًّا منهم كان يقوم بذلك منفردًا فيكمل بذلك الصورة الجماعية. بتعبيرٍ آخر، فهي الكيفية نفسها التي قام بها فراير من خلال اختراعه للإيماءات والتعبيرات الحركية والوقفات ومدونة الأصوات في عرض «الرقصات» عام ١٩٩٤م بخلق شخصياتٍ متفردة، كلٌّ منها على حِدَة من حيث المظهر الخارجي، في الوقت الذي تشترك فيه جميعًا في شكلٍ عام يميزها. «جماعية»، ولكنْ كلٌّ يغنِّي في «المقام» الخاص به. انطلقوا في الضحك بعد إحدى جُمَل المرشد السياحي. نظروا جميعًا في الاتجاه الذي يشير إليه المرشد، ثم يضعون أيديهم على أعيُنِهم، ثم يجْرُون جميعًا بشكلٍ مبالَغ فيه ويعودون مرةً أخرى، ثم يمرُّون على المكان كلِّه وتتَّفق خطواتهم، ولكنْ بأشكالٍ مختلفة. ينحنون نحو الحَمَام. يجتمعون استعدادًا لصورةٍ جماعية. يبحثون طويلًا عن شيءٍ على الأرض، مستخدِمين كشَّافاتهم الضوئية فتحدد آثارهم. يتجمدون في أماكنهم وقد الْتصقت أياديهم بأجسامهم. يؤدُّون رقصةً يبدأ فيها أحدهم ثم يتبعه الثاني فالثالث، تعبِّر عن رغبتهم في قضاء الحاجة، فترتفع رِجلٌ واحدة وتلتصق بالأخرى في عصبية؛ تعبيرًا عن إلحاح تلك الرغبة، وبعد أن يقوموا جميعًا بقضاء حاجتهم، فيجلس بعضهم القرفصاء، في حين ينزوي البعض وراءَ الكواليس، يعودون جميعًا وقد بدَت عليهم الراحة والسعادة، فيصطفُّون في طابور ويبدَءُون بأمرٍ من المرشد بتمريناتٍ رياضية مفعمة بالطاقة: فَرْد الذراعَين، وتحريك الأرْجُل، والدوران والقفز؛ ثم يتحوَّل ذلك إلى رقصةٍ مبالَغ فيها.
تخفتُ إضاءةُ المشهد. وتنزل ببطءٍ في الخلف دائرةٌ مضيئة، تصل إلى أرض المسرح. تتحرك نحو اليسار (حيث يعزف عازف البيانو المتلفِّع بالضباب). وتُظهر في اتجاه القطر عبْرَ المسرح شريطًا ناريًّا أحمر. يزحف السائحون نحوَ المركز على أربع وقد تملَّكهم الرعب وامتدَّت أيديهم في فوضويةٍ، وأصدروا أصواتًا أشبه بالخنازير.
كفقرةٍ حركية قدَّم فراير مشهدًا يصفِّق فيه السائحون طويلًا للمرشد في أوضاعٍ مختلفة، فبعضهم مستلقٍ والآخرون جالسون أو واقفون. وتوجَّه الجزء الآخَر من التصفيق الحار؛ بعضُهم نحوَ بعضٍ. تخفتُ حركة التصفيق وتتباطأ. وتنزل الأيدي إلى أسفل، وفي ذلك الوضع يتجمَّد السائحون لبعضِ الوقت. يقطع ذلك الصمت صوتُ صفعةِ يدٍ تقتل ناموسة؛ ثم بعد لحظةٍ، تقوم يدٌ ثانية بالشيء نفسه، ثم يدٌ ثالثة. يصفع الجميعُ الوجهَ والرقبة والحوض وبطْنَ القدَم، كلٌّ بإيقاعه الخاص، بطريقته الخاصة مع الجلوس والقفز إلى أعلى. تتوقف «الرقصة» الجماعية في مطاردة الناموس في ذروتها فجأةً، ويتجمد الجميع في أوضاعٍ مختلفة. ثم يبدَءُون الخروج ببطءٍ شديد في ضوءِ شريطٍ ضوئي أزرق.
في المشهدَين التاليَين في العرض، يظهر أيضًا ذلك الشريط الضوئي الأزرق الممتد على قُطر المسرح. وفيهما تتكرَّر المَشاهد الحركية بين السائحين والمرشد مع دراميةٍ أكثر، وتنويعات (مع قليل من التغيير)؛ ولكنَّ تغيُّر زيِّ الشخصيات هنا، من الأبيض إلى الأحمر (المشهد الثاني)، ثم إلى الأسْوَد (المشهد الثالث).
يبدأ التصوير الجماعي الختامي. ثم تُنثَر تسعُ صورٍ على الأرض. تتحوَّل الخشبة الغارقة في الظلام إلى «مقبرةٍ» جماعية، حيث تدور حولها في حركةٍ أشبهَ بالمشي في أثناء النوم تسعةُ أجسامٍ سوداء. تخرج الأجسام واحدًا تلوَ الآخَر للمرة الأخيرة في ظِل الشريط الضوئي الأزرق، وعلى أنغام موسيقى غامضة.
وقبل أن تختفي بشكلٍ تام، يتوقف كلُّ واحد لِلَحظةٍ وينظر إلى الجمهور، ثم يختفي. الآن تختفي وجوههم وراء أقنعةِ الموت السوداء، في حين يلبس عازف البيانو القناعَ نفسه.
Komödie/Orchesterstück
في «الكوميديا» كان المسطح على شكلِ حلبةٍ نصف دائرية، ظهَرَت في الوقت نفسه كشاطئ البحر (اتضح ذلك من الشريط الضوئي البعيد الذي يمثِّل سطح الماء، والذي تقع فيه الشخصيات من وقتٍ إلى آخر في أثناء أحداث العرض ورمي الصيادين بسنَّاراتهم هناك). على جانبَي المسطح، غرزَت أجزاءٌ متفرقة من أقواسٍ معمارية (وذلك وفقًا لتقاليد ديكورات مسرح الكوميديا ديلارتي): على الجانب الأيمن، ذات لونٍ أزرق، ومن ورائها ستارة سوداء وقد كانت موجودةً من البداية؛ وعلى الجانب الأيسر، بيضاء، ومن ورائها ستارة حمراء وقد ظهرَت بعد ذلك أثناء العرض. كذلك يسود الأبيض والأحمر والأزرق والأصفر في الملابس التي صمَّمها م. ي. آموس، ممَّا جعَلَ من هذا العرض أكثرَ عروض فراير تنوُّعًا لونيًّا وسطوعًا. كانت الألوان الداكنة من نصيب أزياء المرأتَين العجوزَين جريتينليزا وفراو كالك، اللَّتَين أضحَتَا من أكثر شخصياتِ ذلك العرض مبالغةً في عرضهما الدرامي لقضية الشيخوخة.
يبدأ العرض بِيَدٍ تَخرُج من الكواليس اليسرى للمسرح مُمسكةً بطائرٍ أسْوَد، ثم تعود لتختفي مرةً أخرى. في عمق المسرح من البحر، يقوم تلميذُ الساحر وقد ارتدى بنطالًا قصيرًا وقميصًا أحمر وقبَّعةً زرقاء. «كالك» امرأةٌ ضخمة (يلعب ذلك الدور رَجُل) تكنس الأرضَ بمكنسةٍ على إيقاع نغمات الكمان الصادرة عن حفرة الأوركسترا، حيث يجلس وراء آلة الكلافيسان (طوال مدة العرض) المايسترو وقد ارتدى باروكةً بيضاء وتحلَّى بالبودرة. كالك تخرج في اتجاه القوس الأزرق. وفي مقدمة المسرح يمشي عبْرَ الخشبة الدكتورُ البدين ذو الشارب الأسود وقد ارتدى بدلةً صفراء ومعه حاملٌ أسْوَد عليه حقيبةُ سفرٍ وراديو ترانزستور مفتوح. خلف الدكتور، جاء الخادم إيخين وقد ارتدى بنطالًا أزرق، وصِدارًا أصفر وقبعةً برتقالية وقد حمَلَ مجموعةَ صناديق تختلف في الحجم، وقد ارتفعَت فوق قامته. يقترب الدكتور من القوس، ويقرع الجرس الصغير. لا يردُّ أحدٌ؛ فيعود أدراجه. يضع إيخين حِمْله من الصناديق على الأرض، ويمشي نحو العمق، نحو الشاطئ، ليجلس هناك ومعه السنَّارة.
تأتي نحو الدكتور جريتينليزا، عجوزٌ نحيفة منحنية القامة ترتدي فستانًا أسْوَد طويلًا وقبعةً ذات ريشة. ومن ورائها ذيلٌ أسْوَد طويل. تحمل في يدها طائرًا أسود. مع اقترابها من طوقٍ معلَّق، تضع عليه الطائر الأسود. في الوقت نفسه، في المقدمة، يقطع الدكتور ومعه حقيبة السَّفَر والترانزستور، وإيخين ومعه الصناديق، الطريقَ من القوس الأزرق وإليه عبْرَ المسرح. حينما تصل جريتينليزا نحو حافةِ شاطئ البحر تقع إلى أسفل في البحر؛ وبعد لحظةٍ، تظهر من مكانٍ آخَر (من وراء القوس الأزرق) ومعها كالك. تسكب الماء من حذائها، وتُلبِسه لرفيقتها. ثم تمشي من ورائها حافيةَ القدمَين. في لحظةٍ ما، تتوقف المرأتان العجوزان وتبدآنِ فجأةً حركاتٍ راقصةً، فيرفعن الأرجُل ويصفِّقن بأيديهنَّ على الحوض وتَقُمْن مداعِبتَين بتحريك المؤخرة، ثم تعودان إلى المشية العجوز مرةً أخرى.
الآن يمرُّ الساحر من اليمين نحو اليسار عبْرَ الخشبة، يرتدي الأبيض وعلى رأسه قبعة بيضاء ووراءه تلميذه راقصًا. تظهر راقصة باليه ذاتُ شَعرٍ أصفر وقد ارتَدَت زيَّ راقصات الباليه الشهير ذا اللون الأحمر. تقف على أطراف الأصابع. تدور حول رأسها ثم تقوم وتهرول نحو القوس الأزرق الذي تلفُّ حوله عدَّة لفاتٍ على أنغام دويتو من أوبرا كلاسيكية. يقتفي أثرها «لاليفاري»، وهو السيد الذي يرتدي الباروكة وقد غطَّت البودرة وجْهَه وبيَدِه آلة كمان. تنتهي المحاكاة الساخرة للمطاردة بالْتقائهما ظَهرًا إلى ظَهْر ثم جريهما، أحدهما عكس الآخَر.
ومرةً أخرى، تتسلسل الأفكار الرئيسية عبْرَ المسرح، من اليسار نحو اليمين تمشي السيدة كالك (تقود نفسها بواسطة شريطٍ مربوط بحذائها)، والدكتور وخادمه إيخين وجريتينليزا. في الاتجاه المقابل يمشي لاليفاري. يحدث المشي على التوازي وفي الوقت نفسه. تعيش كلُّ شخصية قصَّتها الحركية الخاصة بها، وتمارس اللغة الحركية المعبِّرة عنها. وهكذا، ففي الوقت الذي يعرض فيه الساحرُ إحدى ألعابه على التلميذ؛ تلعب العجوزان في عمق المسرح كرةَ القدم بكرةٍ حمراء منفوخة وقد عُدْن إلى الطفولة. جريتينيزا تقع مرةً أخرى في الماء. كالك والتلميذ يلوِّحان لها بالمناديل. وحينما تظهر خارجةً من القوس الأزرق حيَّةً، دون أذًى لَحقَ بها، وتقفز نحو يدَي كالك؛ تُجلِسها الأخيرة على الطوق، وتُؤَرجِحها كما الأرجوحة. تقوم جريتينليزا بحركةٍ رياضية مرنة، فتتشقلب وتقفز من على الحبل وتهرول بعيدًا. تبدأ الشخصيات في الهرولة على الخشبة من ناحيةٍ إلى أخرى، وتأخذ في مصاحبةِ الساحر في الغناء، والذي وقَفَ الآن وسط الحبل الذي الْتفَّ حوله مثل برواز اللوحة، وأخذ يغنِّي عن أنَّ يوم الأحد قد جاء؛ يوم المرح الجماعي. يقترب من اليسار القوس الأبيض ذو الستارة الحمراء، في حين تحدَّث تلميذ الساحر عن طبيعته السحرية مشيرًا إليه بيدَيه. من وراء الستارة، يقفز إيخين ويقوم بعمل جسرٍ ثم عجلةٍ بجسمه. تتجمد الشخصيات وهي تؤدي لحنًا آخر. يجْرُون نحو أماكنَ أخرى، ثم يتجمدون في الأوضاع الجديدة، في حين أنَّ الوحيد الذي يحافظ على وضعه هو الدكتور. يؤدي أداءً منفردًا وهو يؤرجِح بالمقشة التي يمسكها في يدَيه أدواتِ الاتزان الخاصة بالسيرك والمعلَّقة حول المسطح. تنطق كلُّ شخصية بجملةٍ واحدة في الوقت نفسه ثم على التوالي، بشكلٍ مستقلٍّ ودون إلقاءِ أيِّ انتباه لمَا يقوله الآخَرون. حتى حينما دفعَت جريتينليزا بجارتها كالك (التي تقف بجانبها وجهًا إلى وجه على الشاطئ) إلى الماء؛ لم يلاحظ أحدٌ ذلك الحدث. وكأنَّ شيئًا لا يحدث؛ تستمر الشخصيات في نطق جُمَلها، الدكتور على مسطحه لا يعبَأ بنباح الكلب الذي ينبح باتجاهه من ناحية القوس الأزرق، الساحر على الجانب الآخَر عند القوس الأبيض.
تظهر كالك من البحر. تشدُّ الحبل متسلِّقة إلى الأعلى وتغنِّي أغنيةً تتأرجح على أنغامها بقية الشخصيات. بعد بُرهة من الوقت، يتجمع الجميع نحو المركز. يحيطون بالتلميذ ويهتمون بأغنيته البائسة مشاطِرين إيَّاه معانيها («إنني ولدٌ بائس …»). تتوقف تلك الحركة حينما ينخرط التلميذ في الضحك ثم يجري نحو القوس الأزرق. تبدأ الشخصيات في الحركة، كلٌّ وفقًا لخطته الحركية عبْرَ الخشبة. يمسك كلٌّ منهم بمقشة، بعضهم يمسكها إلى أعلى والآخَر بالعكس، وبعضهم يمسكها أمامه. وبناءً على أمرٍ من الساحر تخفتُ إضاءة الخشبة وتسُود إضاءةٌ قمرية خضراء.
بدأت المجموعة التالية من الأداء الحركي المنفرد: الظهور، المشي، الأفعال. يتحرك التلميذ في المقدمة، مُمسكًا أمامه بمنديلٍ أحمر ويقول كلمةً حول معجزة الحُب العظيمة. حول كيفية أنها هشَّة وقصيرة المدة. تحمل كالك كرةً مطاطية حمراء لا تلبث أن تنفجر فجأةً. بعد قليلٍ من الوقت، تظهر ومعها كرةٌ جديدة ولكنَّها تنفجر هي أيضًا. تمشي جريتينليزا المنحنية بخطواتٍ قصيرة مُهدهِدةً الطفل. تخرج راقصةُ الباليه مُمسكةً في يديها كلبًا وتجلس على الشاطئ. يمشي الدكتور مرةً أخرى. ووراءه إيخين وصناديقه. لم يستطع التوازن هذه المرة؛ فسقط وتناثرت الصناديق على خشبة المسرح. جاء الساحر بصندوقٍ، وأخرج منه طائرًا أسود، ثم وقَفَ على سقفِ الصندوق وغطَّى الطائرَ بمنديلٍ أسْوَد، ووضعه على الطوق.
الفصل التالي، خَلْق تشكيلٍ تكعيبي. يتكوَّن من: من اليسار؛ لوح خشبي طويل أخضر فاقع. في المنتصف؛ مستطيل برتقالي. من اليمين؛ مثلث أزرق (تحمله راقصةُ باليه، وتديره في اللحظة المناسبة على وجهه الأسود). يُخرج التلميذ من جيوبه ويرمي على الأرض منديلًا تلوَ الآخَر بألوانٍ مختلفة، وينطق بكلماتٍ تقول: إنَّ كلَّ شيء في العالَم أصله ملوَّن، ثم يصبح حتمًا أسْوَد.
بعد فترةٍ من الوقت، يتبقى من التشكيل التكعيبي الثلاثيِّ اللون المستطيلُ البرتقالي وحده. يسقط المستطيل على الأرض بإشارةٍ من الساحر. يغطيه الساحر والتلميذ بمنشفةٍ بيضاء، بعد ذلك يرفعونه بدون لمسه بطريقةٍ سحرية ويحوِّلونه إلى طاولة. تمشي بقية الشخصيات كما حدَثَ في البداية (والجميع هنا أيضًا يفعلون ذلك بطريقتهم الحركية وإيقاعهم وإشاراتهم، والدكتور على درَّاجة وقد ظهَرَ بوجهَين، الوجه الأول هو الطبيعي، والثاني هو الذي رسَمَه إيخين داخل البرواز)، يجلسون حول الطاولة. في التكوين التشكيلي حول الطاولة، كان لكلٍّ من الشخصيات «فقرة» جسدية وحوارية. قال الدكتور جملةً حول ضرورة أن يعرف الجميع الأبجدية. ينزع لاليفاري (السيد الذي يحمل الكمان) الباروكة، ويضعها على رأس إيخين، ثم يبدأ في اللعب بكلماتٍ تبدأ بحروفٍ مختلفة. تحاول جريتينليزا النهوضَ وقولَ أنَّ كلَّ شيء رائعٌ. يُجلسها الساحر في مكانها. تقول وهي منفعلةٌ تركيبةً غير مفهومة من الكلمات، ثم تبدأ في التجشُّؤ وتُخرِج من فمها إبرةً طويلة. يعلن التلميذ رافعًا يدَيه أنه قد حان الوقتُ لنسيان كلِّ شيء، وفي هذه اللحظة، وفقًا لإشارته، تُقرع أجراس الساعة ثلاثَ مرَّات. يبخُّ إيخين رغوةً من البخاخ في وجه الدكتور، ثم في وجه السيد صاحب الكمان، بعد ذلك يضع على الطاولة رِجلًا ثم يضع الأخرى، وفي هذا الوضع دون أيِّ محورِ استنادٍ آخَر، ودون سببٍ واضح يظلُّ كذلك لفترةٍ من الوقت.
انتهت جلسة الطاولة. وافترقَت الشخصيات في اتجاهاتٍ مختلفة. أوقف الساحر جريتينليزا. وقام بعمل حركاتِ تنويمٍ حول رأسها، ثم دفعها في الاتجاه اللازم. تعبُر خشبةَ المسرح دجاجةٌ ميكانيكية تاركةً وراءها بيضة. على أنغامِ موسيقى مرِحة بدأ القوسان الأحمر والأزرق في الحركة، بدأ في الدوران و«الرقص». بدأ الطوق والعقلة في التأرجُح على الإيقاع. ارتفعَت الطاولة بحريَّة وسبَحَت باتجاه الكواليس. ونزع الساحر المَفرشَ ووضَعَه على نفسه ليظهر في وسط المسرح جسمٌ أبيض مخروطيُّ الشكل، ترتفع قامته كثيرًا عن قامة الساحر المختبئ تحت المفرش، وأخَذَ التلميذ في تهذيب المفرش من جميع جوانبه ببطءٍ وتؤدة، ثم قام برفْعِه ليظهر أنَّ تحت المفرش (وفقًا لقواعد خدع السيرك) لا يوجد أيُّ أحد.
بدأت الخاتمة الحركية للمشهد بخروج الشخصيات تباعًا للمشاهِدين. راقصة الباليه وبيدها كلبٌ مربوطٌ بحبل. كالك ومعها كاميرا التصوير الفوتوغرافي. الساحر قذَفَ بكُرَةٍ مملوءة بالفرو، وحاول الْتقاطها بفمه، ثم عرَضَ خدعةَ شدِّ «اللسان»؛ فظهَرَ وكأنَّ لسانه منديلٌ أحمر. السيد ذو الكمان عبَّرَ للمرة الأخيرة عن عدم رضاه. إيخين غنَّى عن الحُب وقد تعلَّق بالعقلة ورأسه إلى الأسفل. جريتينيزا غنَّت أغنيةً حزينة باللغة الإيطالية. وصنعَت كرةً من الصحف. نزعَت الحذاءَ ذا الكعب العالي، وارتَدَت كرةَ الصحف داخل صدريتها؛ فامتلأ الصدر. خرجَت بمشيةٍ لعوب وراء المسرح، لتظهر مرةً أخرى بعد لحظةٍ وتؤدي فقرتها الختامية. بدأ الحفل الختامي الجماعي الداعر؛ حينما نزع التلميذ الهلال من بين يدَي راقصة الباليه وألقى به في البحر، فتمخضت السماء عن برقٍ ورعد. اتجَهَت جريتينليزا نحو الساحر وقد وضَعَت في المقدمة بالوناتِ الصدر البنفسجي وقفَزَت عليه. وحينما أبعَدَها عنه؛ رقصَت في أحضان كالك. وفي الذروة أخَذَت كلتاهما تتحرش بثياب الأخرى دون خجل. وضَعَت كالك بالونةً حمراء في فم جريتينليزا وقامت الأخيرة بنفخ البالونة لتصل إلى حجمٍ ضخم. اقتَفَت راقصة الباليه أثَرَ السيد ذي الكمان وقد وضَعَت هي أيضًا في المقدمة بالوناتِ الصدر. ظهَرَ الساحر ومعه رأس ديكٍ، وأكمَلَ الدكتور دورَتَه بالدرَّاجة على خشبة المسرح، ناقلًا التلميذ أولًا على الكرسي الخلفي للدرَّاجة، ثم ناقلًا إيخين (واقفًا على رأسه). ويوقف المايسترو الحفلَ؛ فيستلُّ المسدس ويُطلِق النار على منحنى الهلال. وتغرق الخشبة في الظلام.
جلس العازفون وراء حوامل النُّوت الموسيقية التي تدلَّت منها نحو الأرض في فوضويةِ أحبال مضفَّرة. خرج قائد الأوركسترا مرتديًا بنطالًا أسود و«بلوفر» أسود. قام الموسيقيون من مقاعدهم تحيةً له. صافَحَ القائد عازف الكمان ثم حيَّا الجمهور والْتف نحو عازفي الأوركسترا. تجمَّدَ الجميع في انتظار إشارة القائد وكلٌّ منهم على شكل حركاتٍ عصبية مختلفة؛ فعازف الكونترباص رفَعَ يده تجاه رأسه وهزَّها في عصبية، وعازف الكمان هزَّ كمانه الممتدَّ نحو الأمام، اهتزازَ ركبةِ عازف الترومبيت، واهتزازَ قدَمَي عازف الأكورديون. رفَعَ القائد يدَيه فتوقَّفَت الحركات العصبية، بدأ الموسيقيون في أداء أدوارهم الحركية الشخصية بدون صوت. وفقًا لإشارة القائد، يرفع عازف الكمان كمانه فوق رأسه ببطء، راجِعًا إلى الخلف ورافِعًا قدمَيه من على الأرض ومستلقيًا على مقعدة الكرسي ولامسًا برأسه الأرضَ وقد رفَعَ قدمَيه نحو الأعلى ومدَّ يدَيه في اتجاهَين مختلفَين بالكمان والقوس. الْتفَّ القائد إلى الناحية المقابِلة، وأعطى إشارةَ البدء لعازف الأكورديون؛ فقام الأخير من مقعده ولفَّ آلته في اتجاهٍ رأسي غير منطقي، وفردها وأخَذَ وضْعَ الطائر، وخرَجَ من ذلك الوضع ببطءٍ وجلَسَ مرةً أخرى على مقعده.
وقَفَ قائد الأوركسترا على يدَيه ثم نزل على قدَمٍ واحدة، اتَّزن عليها وقام بخطوةٍ إلى الأمام. رفَعَ يدَيه. فرَدَّ عازف الكونترباص على تلك الإشارة بأنْ قام من مقعده، ووضَعَ قدَمَه على المقعد وبدأ التسلُّق ببطءٍ مُمسكًا بآلته الكبيرة على كتفَيه. قام عازف الترومبيت هو أيضًا بدورٍ مشابه في التحول من وضع الجلوس على المقعد إلى التسلُّق عليه، ولكنْ بشكلٍ آخَر يتناسب مع الطبيعة الحركية المرئية ﻟ «صوتِ» الآلة، مدَّ يده نحو الأعلى وإلى الخلف، ومدَّ اليد الأخرى بالترومبيت نحو الأمام، ثم حرَّك الآلة تجاه شفتَيه وتجمَّد في ذلك الوضع. قام عازف التوبا على العكس بالتزحلق من المقعد، وأصبح في وضْعِ الخطوة العريضة مع ثَنْي الركبة للرِّجل الأمامية، وضَعَ آلته على الأرض ببطءٍ واتجاه البوق إلى أعلى، وانحنى على الآلة ووضَعَ رأسه في البوق متجمدًا على ذلك الوضع.
قفَزَ القائد وأمسَكَ بيدَيه في العقلة، ومدَّ جسمه وتعلَّق حيث رأسه إلى أسفل معبِّرًا بتلك الحركة عن الجملة «الموسيقية» التالية. تغيرَت صورة الجمل الحركية لكلِّ عازف؛ قام عازف الكمان من على الأرض ومدَّ جسمه ثم جلَسَ مرةً أخرى على مقعده، ثم وقَفَ بعد لحظةٍ والْتقط بواسطة القوس ببطء أحدَ الأسلاك المُلقاة على الأرض، جرَّه معه متحركًا باتجاه حامل النُّوت، ومدَّ يدَيه بالكمان من خلال الحامل نحوَ القائد. مدَّ عازف التوبا قامته. وعلى العكس انحنى عازفُ الكونترباص تحت المقعد وهو يجرُّ الآلة على ظَهْره. وقَعَ عازف الأكورديون من مقعده لوضْعِ القرفصاء. واستلقى على ظَهْره وارتفَعَت قدَمَاه واهتزَّتا على إيقاع «الموسيقى» التي يؤديها. استلقى عازف الإيقاع على الطبلة وقام عازف الهارب الذي كان يقف أمام آلته جاثيًا على رُكبتَيه بالوقوف، ورفع الهارب فوق رأسه وصَعدَ به فوق المقعد.
وفي كلِّ وضعٍ جديد للقائد على العقلة (تعلَّق على يدَيه، أو على رجلَيه المثنيتَين عند الركبة، أو على قدَمَيه، تشقلَبَ، قام بعملِ أوضاعِ كمال أجسام مختلفة، وقَفَ أو جلَسَ) فإنَّ عازفي الأوركسترا يقومون بحركاتٍ وتغييرات وأوضاع وإشاراتٍ جديدة. وقريبًا من الختام، تكتسب حركاتهم طباعًا متشابِهة ويبدَءُون في الحركة معًا في تناغُم. وكنوعٍ من ذروة العرض، قامت الشخصيات بتكوينِ تشكيلٍ متَّجه بأقصى ما يمكن إلى أعلى؛ وقف الجميع على مقاعدهم، ورفعوا فوقهم لا الآلات فحسب؛ بل رفعوا أيضًا حوامل النُّوت الموسيقية. ثم تساقطوا جميعًا بفوضويةٍ بصحبة الآلات والمقاعد وحوامل النُّوت على الأرض؛ وفوق حطام ذلك الأوركسترا المتهاوي، تعلَّق على العقلة جسمُ قائد الأوركسترا ورأسه إلى الأسفل ويداه تتأرجحان بلا تحكُّم.
إخراج أوبرا كلاسيكية
لقد شارَكَ ممثِّلو الفرقة في عروض فيينا التي جَرَت في مساءٍ واحد: «بيرسفونا» لسترافينسكي، و«توارندوت» لبوزون (١٩٩٤م). وهنا صنعوا مع المغنين السوليست في فراغ المسرح (في جوٍّ محايد مجرَّد من أيِّ واقع طبقًا للتصميم) تكويناتٍ متتابِعةً، لا قيمتها الذاتية، سواءٌ في التكوين البصري أو في الإيقاع الموسيقي. وكانت هذه التكوينات «موسيقى للعين» وموسيقى للأذن في الوقتِ نفْسِه.
وكان فراير، كالعهدِ به دائمًا، عند تأليفه لحركات الخطوط الحية لأجسام الممثلين، ينطلق من مبدأ بريخت «تقسيم العناصر»؛ إذْ إنَّ المغنين السوليست والشخصيات التشكيلية الصامتة، كانوا يؤدون وظائفَ مختلفة؛ فقد كان لكلٍّ منهم أشكالٌ مختلفة للوجود في الصورة المسرحية، ومناطقُ فراغية مختلفة، حيث كان «العنصر» المحدَّد يظهر ويبقى ويتراءى ويُسمع.
بيرسيفونا
وقد تحقَّق هذا المبدأ بدقَّة بشكلٍ خاص في «بيرسيفونا»، حيث يظهر الجزء العلوي للحائط الموجود في خلفية المسرح، وبذلك فإنه يعلو بصريًّا على مملكةٍ تحت الأرض المنتشرة في الأسفل على خشبة المسرح. أما في الفراغ الجهنمي لمملكة تحت الأرض، الذائب في ضبابٍ أزرق بشحوبِ الموت، فقد كان يسود شكل بيرسيفونا. كما كانت تكاد تكون ثابتةً كالتمثال، ليس فقط في لحظات الميزانسين الصامت؛ بل عندما كانت تؤدي المونولوجات الغنائية الانفعالية. وحوْلَها تجمَّدَ سبعةُ كائناتٍ بدون هويةٍ محدَّدة تبدو أثيرية، وهم سكَّان مملكة آيد، وقام بدورهم ممثِّلو الفرقة. وقد جاءت هذه الشخصيات هنا من عرضٍ لفرقة «فزماخ كريرلوف» (رفرفة الأجنحة) الذي عُرض قبل عدَّة أشْهُر من العرض الأول في فينيسيا. وقاموا بأداء الأدوار التشكيلية بعد انتهاء الجزء الغنائي للبطلة؛ عادوا إلى الحياة وقاموا بأداء حركاتٍ متباطئة مماثلة للمشي في أثناء النوم، في رُوح «رقصات الباوهاوس» لشليمر، كلٌّ بأدائه. بعصيٍّ موضوعة على الأعيُن (لتصور سيل الدموع)، ممدودة في الجوانب، مرفوعة إلى أعلى. وبطوقٍ يحيط بأشكالٍ مختلفة، بكائنٍ راقد على خشبة المسرح يقعد ويقوم. وبهيكلٍ على شكل متوازي مستطيلات يرتفع فوق الرأس ويهبط على الأكتاف وعلى الظَّهر ويوضع على الأرض ويُستخدم لكي تدخل فيه الأيدي والأقدام والأجسام من أجل عملِ تكويناتٍ نحتية غريبة. كما أن مسطح مثلث (يشبه مروحةً ضخمةَ الحجم موضوعة على خشبة المسرح) يتحكم فيه كائنٌ آخَر، يبدأ في لحظةٍ ما في التفتُّح ببطء متحوِّلًا إلى نصف دائرة، ويرتفع إلى أعلى، ثم يعود فينطبق على بعضه، ثم يعود فينتصب مستقيمًا ليُصبح «جناحَي فراشة» ضخمة ثم ينضغط مرةً أخرى ثم ينبسط، وبعد ذلك يغلف جسم المؤدي تمامًا. وأخيرًا يحدث التحول، وبِكرةٍ ضخمة كانت طَوالَ العرض ترقد ساكنةً في عمق المسرح، ولكنْ في الختام «يفقس» منها جسمٌ أسْوَد لشخصيةٍ أخرى ساكنة من مملكة الموتى وتتمدَّد على خشبة المسرح.
وفي إحدى اللحظات، عندما تتجمد الصورة البصرية للمشهد التشكيلي للشخوص الأثيرية في تكوينٍ هندسي تجريدي ساكن، يظهر كورال فتيات في ملابس بيضاء وعلى رءوسهن أكاليل. وكُنَّ يقُمْنَ بتزيين التكوين بالزهور السوداء للحِداد الأبدي، ثم يصطفِفْنَ على جانبي المسرح مُخلياتٍ الفراغَ للخروج الختامي لبيرسيفونا. وللمرة الأخيرة انتعشَت الشخوص الأثيرية لمملكةِ تحت الأرض بأشكالها الهندسية الفراغية. وللمرة الأخيرة قام كلٌّ منهم بأداء دوره ثم تجمَّدوا جميعًا في التكوين الختامي. ودوَّت الكلمات الأخيرة لبيرسيفونا. وتوارَت والشعلة في يدها في شقٍّ أسود في الحائط الخلفي. وامتلأ الفراغ بعتمةٍ تامة. ولم يظهر سوى ضوءٍ يخرج من الفتحة العلوية المركزية مع جسمِ آيد الأسْوَد.
«الناي السحري»
لقد تجسَّد انجذاب فراير إلى المبالغة الفنية والهزلية في صياغته الجديدة ﻟ «الناي السِّحري» لموتسارت، والتي كان عرْضُها أحَدَ الأحداث الرئيسية لمهرجان زالتسبورج عام ١٩٩٧م.
وفي الختام، يدخل زاراسترو إلى الحلبة في هيئةِ رئيس تشريفات الكنيسة؛ لكي يبارك الأبطال بعد أن يمرُّوا من الأسلاك الشائكة المشتعلة بنيرانٍ حقيقية، ويسيروا على الماء كما لو كانوا على الأرض، ثم يتجمعوا في النهاية.
وإذا كان فراير، في عروض الأوبرا المذكورة عاليه في التسعينيات، يقترح على مؤدي الأدوار الرئيسية ميزانسين نحتيًّا ويقومُ بنحت أشكالهم «كتماثيلَ» مغنيةٍ تدور حولها الصور التشكيلية البصرية وأعمال أفراد الفرقة؛ فإن المغنِّين في «الناي السحري»، كانوا مُنخرِطين في البنية التمثيلية الديناميكية لعرض السيرك. وكانوا كذلك بمظهر ملابسهم وبمكياجهم المبالَغ فيه وبالإكسسوارات التي أصبحت صفةً وموضوعًا لعملهم. لقد تلقَّى تامينو من ثلاث سيدات، مبعوثات ملكةَ الليل (مهرجة بأصابع طويلة جدًّا، وصدرٍ صناعي ضخم يبرز من الملابس)، إطارًا متعدد الألوان تظهر منه بشكل فانتازي بامينا الحقيقية التي تمدُّ ذراعها إلى الأمير المنبهر بجمالها، ثم تختفي فجأةً. ويسبق الظهور الأول لصائد الطيور، دخولُ درَّاجته الذاتية الحركة بعجلاتٍ غير متساوية الارتفاع (الأمامية صغيرة، والخلفية ضخمة) وعلى الدرَّاجة منشأ من أقفاصِ الطيور. وعلى أثر الدراجة يظهر باباجينو وهو يمسك في يده أقفاصًا مرفوعة بعضها فوق بعض ويوازنها بمهارة. ويجلس على الدراجة المضحكة ويسير بها مؤديًا أغنيةً فردية. وفي الختام، يخرج بصديقته معه على الدراجة. وكانت الخرقة السوداء، التي يلقيها على الأمير وصائد الطيور كَهَنةٌ برءوسٍ طويلة، تعني الليل العميق. وكانت بعض الفقرات تؤدَّى كفقرات سيرك منفصِلة مثل ثلاثةِ مهرِّجين بمماسح أو مصارعة، مقترحة على المشاهِدين بين الفصلَين الأول والثاني، بين مدينتَين تمثِّلان «الشمس» و«القمر» كنفثةِ ساخرٍ لموضوع صراع زاراسترو وملكة الليل.
أما بالنسبة إلى ممثلي الفرقة، فكانوا هنا يؤدون أدوار الكائنات الخيالية والسيريالية، التي كانت تظهر وتصاحب الأبطال في رحلاتهم. كان هناك حصان حزين يتبع بامينا. والأمير كان يخيفه وحشٌ غريب بوجه سمكة تزوم وبرأس قِط ضخم بقرون يُخرج لسانًا أحمر ويحرك شواربه.
الظلال السوداء تقود حلقةَ رقص وغناء، تشبه عن بُعد أكْلَ نملٍ ضخمًا، وطائرًا له رأس فقمة، وبجعة لها رقبةٌ طويلة ترتدي ثوبَ راقصة باليه، وكائنًا يشبه الحصان له رقبة فأر عندما يغني تامينو آريا، ممسكًا أمامه بالناي السحري ذي الأجنحة، تقوم الكائنات بأداء حركاتٍ راقصة على إيقاع الموسيقى وتضيء «عيونها» مثل المصابيح. وفي نهاية المسرحية، يظهرون مرةً أخرى؛ يتجمعون فيما يشبه تكوينًا لمجموعةٍ مشتركة من الظلال في تضادٍّ مع شخوص الأبطال البيضاء، المضيئة في عمقِ فضاء المسرح، في صورةٍ ليس لها شبيه.
على هذا النحو، في المسرحيات التي يشارك فيها ممثلو الفرقة إلى جانب المغنين، كان فراير يبحث عن طريق تجميع وسائل قوةِ تأثير مسرح الفنان الخاص به مع شعرية المسرح الأوبرالي التقليدي. في الوقت نفسه، فقَدْ تحيَّز فنان التسعينيات — دون استمالة — إلى فرقةٍ من الفِرق، ودون الاستعانة بأيِّ عناصر من مسرح الفنان؛ من هذه الأعمال، كانت أوبرا «سيندريلا» لروسيني (۱۹۹۷م)، «دون جوان» لموتسارت (۱۹۹۸م)، «أورفيوس» لمونتفيردي (۱۹۹۸م). في هذه الأوبرات، كان فراير يعمل في حدود جماليات المسرح الأوبرالي العادي، وقد انعكَسَت الموهبة الفنية للفكر التشكيلي البصري لديه في قوةِ التأثير الرفيعة للميزانسين والمشاهد التمثيلية التي قدَّمها للممثِّلين والمغنِّين.
في مسرحية «دون جوان» لموتسارت (التي عُرضت في مهرجان سالزبورج، والذي عُرض فيه «النايُّ السحري» قبلها بعام). انعكس إثراءُ إبداع المسرح الأوبرالي العادي على يد فراير في تنظيم مرونة حركات المغنين، رسم إيماءاتهم وأوضاعهم، وفي تجميعهم في الفضاء المسرحي وفقًا لقوانين التكوين الفني، الذي حدَّده لهذه الحالة أسلوب الكوميديا ديلارتي؛ تطوَرَ المشهد التمثيلي الذي وضعه فراير داخل حلقةٍ مفرغة على المسرح، حيث يوجد الموضوع المادي الأساسي لأداء الممثلين. ستارة على حبلٍ ممتد عبْر المسرح يقومون بتحريكها وهزِّها في منتصفها، يغيِّر الممثلون الفضاء المسرحي، مختصِرين إيَّاه أو فاتحين إيَّاه تمامًا إلى أقصى نقطةٍ في عمقه. وقد جرى إعدادُ النوتة الموسيقية لتصاحب حركةَ الستارة، وقد عُزفِت هذه الموسيقى في إيقاعٍ متنوع لعلاقاتٍ مختلفة وأغراضٍ متنوعة. من وراء الستارة، تحدث مختلف أعمال الظهور والاختفاء. يلتفُّ الممثلون بالستارة، يزحفون تحتها ويحلقون فوقها، يجعلونها تهتز كما لو أن ريحًا تدفعها. وكما في الكوميديا ديلارتي، كانت الشخصيات كلها ترتدي شبهَ أقنعة. وعلى وجهِ «دون جوان» أيضًا، كان هناك شبه قناع؛ وعندما كان يُنزَع قناع دونا آنا من على وجهها، كان يظهر وراءه القناع نفسه.
«أورفيوس»
(٦-٥) التكوينات المسرحية على موتيفات أوبرا الطليعة
«الفتاة وعلبة الثِّقاب»
يظهر شخص الرَّجُل من عمق المسرح وقد ارتدى بدلةً واعتمر قبعة (مثل الشخوص الذين تظهر ظلالهم حتى الخصور من أسفل خشبة المسرح). يتحرك الشخص بطول سطح الحائط. يتجمَّد في المنتصف على مسافةٍ من الجسد الأبيض للفتاة. وعلى امتداد المسرحية كلِّها تظلُّ المسافة بينمهما كما هي، الأمر الذي يخلق توترًا كبيرًا. وكما يحدث للفتاة، لا يتغير في وضع الرَّجُل سوى أوضاعه التمثالية التي يتَّخذها، ويلتزم بها على مدى مقاطعَ زمنيةٍ طويلة. وهكذا، على سبيل المثال، الوضع المنحني لأسفل، مع القَدَم الموضوعة إلى الأمام واليدَين الثابتتين إلى أسفل، توقَّف اندفاعه نحو الفتاة (في هذه اللحظة، تتجمد الفتاة موليةً ظَهْرها نحوه، معبِّرة بذلك عن رغبتها في التخلُّص من ملاحقته لها). يقف البطلُ مستقيمًا بعد ذلك. ويظلُّ لفترةٍ من الزمن دون حراك. ثم ينحني مرةً أخرى. ثم يقف مستقيمًا بعد ذلك. ويظلُّ لفترةٍ من الزمن دون حراك. ثم ينحني مرةً أخرى. ثم يقف مستقيمًا من جديد. وفي جميع أوضاعه يظلُّ متجهًا بوجهه للفتاة، وحتى عندما ينتهي من أداء الدور البصري يخرج عائدًا ببطء متجهًا نحو عمق المسرح، طولًا مع سطح الحائط. ثم يظهر بعد مرور بعض الوقت. الآن يوجد ماكيت لبيتٍ صغير في مكان رأسه، ويحمل في يده شمعة. ويكرِّر في هذه الهيئة الجديدة الأوضاعَ والحركات نفسها التي أدَّاها متَّجهًا فيها نحو الفتاة البيضاء. وفي مرةٍ أخرى، يظهر مرتديًا ثوبًا نسويًّا طويلًا ويضع قناعًا لطائرٍ خيالي.
في لحظات الذروة، تغطَّى خشبة المسرح (وقد أضيئت معظمَ الوقت بضوءٍ أزرق قاتم) بأدوات إنذار لونها أحمر دموي. كل الشخوص — الفتاة البيضاء بملابسها «العاكسة» كالمرايا، والشخوص الخمسة البارزة من أسفل المسرح بقبَّعاتها — يرفعون أيديهم إلى أعلى في وقتٍ واحد «مستسلمين» متراجِعين. في الخاتمة، تومض الأنبوبة الممتدة في الحافة السفلى لسطح الحائط بضوء النيون، ويظهر الرَّجُل للمرة الأخيرة. الآن يغطِّي وجهه قناعُ الموت. يتجمد. ثم ينحني في اتجاه الفتاة البيضاء. ثم يستقيم واقفًا مرةً أخرى. يغرق الفضاء المرئي والصوتي للمرأة الأمامية الخلفية في ظلامٍ تام.
«موت ماياكوفسكي: رقصة الموت»
يفتح فراير ستارةَ المسرح، بعد أن قدَّم «الافتتاحية» البصرية عن الحياة السابقة لماياكوفسكي، وخلفها (في محيط نفس أنبوبة النيون المشعة بالضوء) تنفتح خمس شرفاتٍ مسرحية مدرجة في قاعة «متحف البوليتكنيك». أربعُ شرفات كانت مليئةً بالجمهور القادم لكي يستمع إلى الشاعر. وفي الشرفة الخامسة يجلس الرئيس. على جانبَي المدرج تتجمَّد الشخوص الساكنة، تؤدي دور حرَّاس يرتدون معاطف خضراء وطواقي حمراء، وفوقهم الحرَّاس أنفسهم ولكن يدلُّون رءوسهم إلى أسفل (حراس من الدُّمَى).
أمام المدرج شخصان (يديران ظهورهم، وبالتالي وجوههم، إلى الجمهور) وقد قام فراير بالجمع بينهما في هذا التكوين كما لو كان كلٌّ منهما يكمل الآخَر ويكوِّنان معًا شخصًا متكاملًا. هذا الشخص هو ماياكوفسكي في أقنومين. شخص منهما يقف بقوةٍ على الأرض في وضعٍ رأسي طبيعي، مباعِدًا بين قدمَيه، يده اليسرى مدسوسة في جيب بنطلونه، واليد اليمنى مرفوعةٌ إلى أعلى وتستند إليها الشخصية الثانية. الشخصية الثانية تحلق في وضع أفقي كأنها في حالة انعدام وزن. وعلى هذا النحو إذا كانت الشخصية الأُولى (التي تقرأ النَّص باللغة الرُّوسية) قد جسَّدت «القشرة» المادية للبطل، فإن الشخصية الثانية (التي تترجم الكلمات الروسية إلى اللغة الألمانية) استطاعت أن تعطي انطباعًا أنها جسد ابتعد عن «روح» الشاعر و«جوهره». إن هذا الميزانسين الخيالي والشاعري في الوقت نفسه، مستلهَم من موتيفة العشَّاق للرسَّام شاجال (وهو ما أعلنه فراير بصراحة، بعد أنْ وضَعَ في كُتيب العرض الأول صورةً مستنسخة من لوحةِ الفنان الكبير)، ظلَّ ثابتًا طوالَ عرْض مسرحية «المعركة الأخيرة» للشاعر في مواجهة القاعة.
لقد تمَّ التعبير عن المواهب تشكيليًّا عن طريق الصراع بين التمثال والحجم في التكوين النحتي لأقنومي ماياكوفسكي من جانب، وبين التجزيء وتغيير الرسم الجرافيكي، الذي رسَمَه فراير لوجوهٍ عبارة عن بُقَع بيضاء وخطوطٍ ليدٍ بيضاء على خلفيةٍ سوداء. يتم تفسير شرفات المدرج الخمس باعتبارها «سطورًا من نوتة موسيقية»، أمَّا الجمهور الجالس فيها (وقد أدَّى هذا الدور فنَّانو الفرقة بالاشتراك مع مغنِّي جوقة أوبرا لايبتسج) باعتبارهم «علاماتِ النوتة الموسيقية»، التي بمساعدتها وضَعَ فراير «الموسيقى» البصرية.
لقد بنى «المؤلف الموسيقي» من عدَّة مشاهد باعتبارها إيماءات وحركات مشتركة (تجري في آنٍ واحد مع استخدام الصيحات كافة وغيرها من ردود الفعل الشفاهية أو الصوتية غير اللفظية) وكذلك الفردية لدى كلِّ شخص، التي تظهر بشكلٍ منفصل وعلى انفراد. تارةً نجِدُ الجميع وقد تجمَّدوا في سكونٍ متوتر. وتارةً نجدهم قد بدءوا في التحرك في هياج، يتمايلون إلى اليمين ثم إلى اليسار. يرفعون أيديهم إلى أعلى مباعِدين بين أصابعهم، ثم يُنزلونها إلى أسفل. يستندون إلى «سطور النوتة الموسيقية»، على حاجز المدرج، يدقُّون عليه في امتعاض. يشبكون أيديهم على هيئةِ دوائرَ فوق رءوسهم في اتجاهٍ واحد ثم في اتجاهٍ آخر. يثبتون أيديهم إلى أعلى، في وضعٍ تكون الكفُّ فيه مفتوحةً إلى الجانبَين، ثم تصفق هذه الأكفُّ بعد ذلك بالتتابُع، واحدة ثم أخرى ثم ثالثة في إيقاعٍ فوضوي مُهلهَل، وكلٌّ يصفِّق بطريقته. يُغلقون آذانهم بأيديهم. يضعون على أفواههم أبواقًا: «يصوتون» في محبة. ويلوِّحون في استياء، كلٌّ بطريقته. يتحدثون من جديدٍ في إيماءةٍ مشتركة، تشير إلى اتجاه تكوينَين لشخصَين؛ كما لو كانوا «ينفُذون» فيه. في لحظةٍ ما، تسقط أجسام الجالسين في شرفات المدرج، حتى إنَّ «سطور النوتة الموسيقية» لا يتبقَّى منها سوى الرُّءُوس. وبعد ذلك تختفي الرُّءُوس أيضًا؛ لتبرز بدلًا منها كثيرٌ من الأيدي التي تصفِّق. ذات كلمات: «إلى اليسار، مُعتدَل مارش.» يشرع الجمهور في دقِّ الطبول في غضبٍ على «سطور النوتة الموسيقية»، ينتفض الناس من أماكنهم، يلوحون بأيديهم وأرجلهم، يثورون، يسيرون وهم يصيحون بأصوات متعدِّدة.
يغلق جانبًا مسطحُ الشاشة السوداء، مُخفية مشهدَ هذه «المعركة الأخيرة». على الشاشة تضيء أرقام ١٩٣٠م وكلمة «الستالينية»؛ تتفاخر بشكلٍ فوضوي بحروفٍ مفردة. يبدأ الفصل الثاني المسمَّى «الفراق»، حيث يكشف فراير موضوعَ العلاقة بين ليليا وأوسيب بريك من خلال التكوينات المبنية هنا على خطَّتَين: على المنصة، الموضوعة أمام حفرة الأوركسترا؛ وفي عمق المسرح، على خلفيةِ شاشةٍ سوداء. وهذه التكوينات وتلك تتطوَّر بشكلٍ مستقل ومتوازٍ في الوقت نفسه، أو بالتتابُع.
على المنصة عند الباب الأيمن، يجلس أوسيب وقد أشاح بوجهه عن المسرح وعن الجمهور. تسير ليليا ببطءٍ على المنصة مبتعِدَةً عنه، رافعةً يدًا إلى أعلى، مادَّةً الأخرى أمامها. هذه الشخصية النسوية نفسها (قرينة ليليا)، تُضاء في عمق المسرح أمام الشاشة السوداء. وإلى جوارها يقف ماياكوفسكي. يؤديان مونولوجات وديالوجات تشكيلية بحركات اليدين. عندها تختفي ليليا على المنصة وراء الباب الأيسر، ويختفي في لمح البصر قرينها في عمق المسرح، تاركةً الشاعر وحده. ثم يُضاء بعد ذلك أمام الشاشة السوداء تكوينُ «مثلث الحُب»: في الأمام وفي الأسفل، ماياكوفسكي؛ وفي اليسار، في أعلى، ليليا؛ وإلى اليسار أوسيب. كلٌّ يؤدي دوره، سواء باعتباره دورًا أدبيًّا صوتيًّا، أو باعتباره دورًا بصريًّا يتمُّ التعبير عنه في رسمٍ جرافيكي لحركاتٍ بطيئة: دوران، صعود، هبوط، أوضاع أخرى لليدين تمثِّل حالات الفزع والشك واليأس. من جديدٍ تظهر ليليا على المنصة، تقترب ببطءٍ من أوسيب الجالس عند الباب الأيمن في وضعٍ لا يتغير. بعد أن تصل إلى منتصف الطريق، تستدير قاطعةً بضعَ خطوات للعودة، ثم تواصل التحرك نحوه. ثم تعود إلى الخلف مرةً أخرى. من جديدٍ تُواصِل السير. هذه الحركات في الذهاب والعودة تخلق فيها حالةً نفسية من الشك والتردد. بعد أن تصل إلى الجالس؛ ترفع يدها فوق رأسه وتربتُ عليها دون أن تمسَّها.
في الوقت نفسه، في عمق تكوين «مثلث الحُب» ماياكوفسكي، ليليا، وأوسيب؛ يحدث انهيار. يبقى الشاعر وحيدًا. يرفع كفَّه إلى فمه، ثم يطلقها كأنما يرسل كلماتٍ أو قبلةً إلى ليليا وأوسيب الواقفَين على المنصة. يردَّان عليه بالإيماءة نفسها. فجأةً ينقطع حوار الإيماءات، وعلى الشاشة السوداء يُضاء من جديدٍ تكوينٌ جرافيكي «لمثلث الحُب». الآن يعكس هذا الثلاثي التشكيلي مرحلةً أكبر من العلاقات الدرامية، بعد أن تبقى شخصية ماياكوفسكي مرةً أخرى ونهائية لتعاني الوحدة.
على المنصة ينتهي موضوع «الفراق» بالمسيرة البطيئة الأخيرة لِليليا من اليمين إلى اليسار. الآن هي تقود أوسيب الذي يبدو وقد كُفَّ بصره؛ تمدُّ إليه يدَيها وبالوضع نفسه يسير خلفها.
يبدأ الفصل الأخير المسمَّى الضعف والموت». تؤديه الشخصيتان أنفُسهما اللتان أدَّتا في «المعركة الأخيرة» دورَ ماياكوفسكي. الآن يتبادلان أماكنهما بجوار سطح الشاشة السوداء على نحوٍ متوازٍ، مكرِّرَتَين كلٌّ منهما للأخرى حركاتٍ تعبيريةً تأثيرية وإيماءات بالأيدي، وقفات ودورانات وأوضاع ولفتات. وفي النهاية فقط، يجمع فراير بينهما في تكوينٍ مشترك. على أنه خلافًا «للمعركة الأخيرة» نجدهما لا يكلمان أحدهما الآخَر، وإنما يقفان في وضع المواجَهة: أحدهما في المقدمة، والآخَر في الخلف باعتباره قرينَه، الذي يؤدي نفس حركات قدمَيه وجسده ويدَيه المطليَّة مثله بنفس اللون الأحمر الناصع والأخضر الزاهي؛ أخيرًا، يخلق تضادًّا عن طريق رفْعِ الأيدي إلى أعلى في اللحظة نفسها التي تكون كلُّ أجزاء جسَدِ ماياكوفسكي الواقف في الأمام (ورأسه المائلة ويدَاه الخائرتان)، على العكس من ذلك، مندفِعةً إلى أسفل، يهدم هذا التكوين صوتُ طلقة رصاص. الشخصية الواقفة في الأسفل، تختفي في لمحِ البصر، كأنَّها طارَت في الظلام. الشخصية الأمامية تقع على الأرض. تضاء أعلى المسرح امرأةٌ راقدة بلا حراك. وهي ترافق البطلَ طَوال المسرحية (وتسمَّى في البرنامج نورا) ولكنَّه لا تدخل معه في أيِّ اتصال ولا مرة واحدة. وإبَّان الجدل الذي يدور في متحف البوليتكنيك، تقف المرأة عند الباب الأيسر مؤديةً دورًا انفراديًّا موازيًا. فيما بعد، في الفصل الثاني، تظهر في الركن الأعلى لسطح الشاشة السوداء ثم تسير ببطء. مرةً أخرى يُضاء فوق التكوين الأخير لعرض الصراع بين ماياكوفسكي وقرينته. طلقة الرصاص القدرية تُدهش الشخصية. الآن، فإنَّ شخصية نورا، التي كانت ترقد بلا حراك، المضاءة في السماء والراقدة على أرض البطل، يقسمها شريطٌ أفقي من ضوء النيون. ما يلبث الشريط المضيء أن يهبط تدريجيًّا. إلى أسفل أكثرَ فأكثر، موسِّعةً حيِّزَ «السماء»، مضيِّقةً حيِّزَ الأرض.
ينطفئ شريط الضوء بعد أن يكون قد وصَلَ إلى جسر البطلة، يغرق المسرح في الظلام.
وهنا دون انقطاع يبدأ الفصل الثاني من مسرحية «رقصة الموت». لقد طوَّر فراير في هذه المسرحية أمام المشاهدين جداريةً تشكيلية ضخمة، قدَّم من خلالها نسخته من الموتيفة الإنجيلية الأسطورية الشاعرية، بعد أن يورد في مستنسخات كُتيب الحفل الأول الصورَ الأيقونية لهذه الموتيفة، المأخوذة من إفريز كنيسة العذراء مريم من عصر النهضة في مدينة ليوبيك إلى اللوحات المعاصرة والإنفايرومنت والصور التسجيلية للجرائم الجماعية؛ يقوم فراير بوضع مسرحية «رقصة الموت» في السياق الكبير للثقافة الفنية العالمية. وفي هذا السياق، يظهر عمله على نحوٍ ملحوظ ليصبح واحدًا من أكثر النماذج الفلسفية تأثيرًا في مصير كلِّ إنسان دون استثناء وفي مصير البشرية كلِّها.
إن التكوين الذي وضعه فراير يُعدُّ مسيرةً طويلة (تمتد إلى ما يزيد على ساعةٍ ونصف وكأنها تمتدُّ إلى ما لا نهاية) تجري في إيقاعٍ بطيء لنماذج بشرية متنوِّعة. تسير هذه النماذج الواحد وراءَ الآخَر، على مسافةٍ واحدة تبلغ عدَّة أمتار بين كلِّ نموذج والآخَر، يتحركون من اليسار إلى اليمين عبْرَ طريق قُطري مائلٍ إلى أعلى وقد أُضِيء في ظلام الفضاء الكوني. يقطعون الطريق الأخير من هذا العالَم إلى عالَم آخَر. أول مَن يعبُر هو ماياكوفسكي، البطل السابق للمسرحية. يتبعه بعده خمسون شخصيةً تظهر أمام الجمهور تباعًا (يقوم بدورهم عشرة ممثلين من الفرقة، يُظهِرون حِرفيةً عالية في إعادة التجسد من ناحية التشكيلية وفي الأزياء) وهو العدد نفسه الذي ظلَّ المدةَ نفسها يعمل على «سطور النوتة الموسيقية» لمدرج متحف البوليتكنيك في المشهد الأول. أُعطيَت لكلِّ شخصية فترةً قصيرة من الزمن، حتى تسير عبْرَ المنصة وفي الخروج لوجودها الأرضي والمسرحي. الاختفاء في هاوية العدم السوداء، وقد بدا المشهد على نطاقٍ كبير. بعبارةٍ أخرى، إذا كان المدرج في قاعة متحف البوليتكنيك قد ملأه جمهورٌ موحَّد، فقد كان هنا بالتحديد مملوءًا بنماذجَ بشريةٍ متنوعة لكلٍّ منها مظهرٌ مميِّز له (الأزياء من تصميم م. ي. آموس)، كما أنَّ له مرونته الخاصة، وحركاته، وإيماءاته، وأوضاعه. هذه النماذج تنتمي إلى درجاتٍ متنوعة من الناحية الاجتماعية، ومن ناحية السِّن، وغيرها من الدرجات؛ فضلًا عن أنها تنتمي إلى فتراتٍ مختلفة في تاريخ القرن العشرين.
لِنرَ مَن يمرُّ أمام الجمهور في هذا الموكب الإنساني الجامع الذي يقوده ماياكوفسكي «لرقصة الموت»، والذي جسَّدَته لغة فراير الخاصة بمسرح الفنان:
عجوزٌ أشيَبُ الذقن يستند إلى عكَّاز، يسير وهو يخفق بحذائه. امرأةٌ ذات شَعرٍ طويل لونه ناري ترتدي ثوبًا قصيرًا أحمرَ رائعًا وحذاءً أخضرَ مرتفعًا، تسير في مِشيةَ عَرْض الأزياء بطريقةٍ تمثيلية. ساقيةٌ تستدير بلُطفٍ في اتجاهاتٍ مختلفة. جنديٌّ في ملابسَ رسميةٍ خضراء يعتمر خوذة، ويعطي انطباعًا بأنه جندي دَرَك، يضع يده على عينَيه. آنسةٌ متأنِّقة ترتدي ثوبًا أبيض له شرائطُ ورديةٌ أنيقة، تحرق أصابعها في الهواء كما لو كانت تكتب على «صفوف حروف» آلةٍ كاتبة، وتدفعها إلى الأمام، الأول، الثاني، الثالث. شابٌّ من ذوي الرُّءُوس الحليقة يحمل مجدافًا ويسير بخطواتٍ طائشة مبعثرة. رَجلٌ محترم ذو شواربَ يضع نظَّارات على عينَيه ويعتمر قبعةً ويرتدي بدلةً مخططة. شابٌّ يمشي محنيًا ثم يستقيم فجأةً، يرفع ساقه المعوجَّة عند الركبة عاليًا، يستدير بوجهه في خوفٍ ناحية الجمهور، ثم ينحني من أخرى بشكلٍ غير طبيعي. يخطو خطوةً كبيرة، أو على كعبه على الشراب. رحَّالةٌ يرتدي قميصًا ورديًّا مربَّعات يحمل حقيبةَ ظَهْر، يمشي بخطواتٍ وئيدة مستندًا إلى عصًا يضعها في كلِّ مرة أمامه بعيدًا. فتاةٌ ترتدي تنورةَ تِنِس قصيرة، وتُمسك بمِضربٍ مبروم، تنقله من يدٍ إلى أخرى ثم تضرب به كَعْبها. ساعٍ من أحد الفنادق يرتدي معطفًا أحمر وقلنسوة، يضع يدًا خلف ظَهْره والأخرى يرفعها إلى أعلى. عروسٌ في ثوبِ زفاف عليه طرحةٌ وباقةُ وردٍ بيضاء. امرأةٌ شابة ممتلئة الجسم ترتدي ثوبًا أزرق ذا أكمامٍ قصيرة، تَربتُ بيديها على ظَهْرها ومؤخرتها. جرَّاح يرتدي بالطو أخضرَ ومريلةً وقناعًا، يخيط بأصابعَ رقيقةٍ جرحَ مريضٍ افتراضي. خبَّاز ليلي، يغطِّي على تثاؤبه بيده، ينفض عن نفسه ويزيل عن يديه بقايا «الدقيق». حارسُ سِجنٍ ومعه مفاتيح، وربَّةُ منزل في رداءٍ وشبشب تقوم بالزينة الصباحية وتجري تدليكًا. قسيس يضع ريشةً سوداء، وقلنسوة أرجوانية اللون، يضع حزامًا وفي يدَيه قفَّاز، يظلِّل طريقه بالصليب. ممرضةٌ تسير في طريقها، لا تخرج يدَيها من جيوب البالطو وتمضع بفمها علكة. فلَّاحة ترقص بزيِّها القومي، سجين في رداءٍ مخطَّط. عدَّاء في بنطلونِ تدريب أزرق، وفي قلنسوة. درَّاجاتٌ صفراء. عامِلُ طُرقٍ في بدلةِ عُمَّال يرفع بنطلونه طَوالَ الوقت، ينظفه من «الأوساخ» ويمسح أقدامه وهو على المنصة. شحَّاذة تضع عليها شالًا وترتدي مِعطفًا مستعمَلًا. يظهر من أسفل تنورتها بنطلون، تمدُّ يدها طالبةً الإحسان. تلميذٌ يجري متقافزًا يحمل حقيبةً مدرسية ويرتدي بنطلونًا قصيرًا لونه أخضر بحمَّالات، ومِضربَ جولف أحمر. امرأةٌ حامِلٌ تحمل طفلًا على يدَيها. بابا نويل يحمل في يده قناعًا ذا لحيةٍ بيضاء يضعه بين الفَينة والفينة على وجهه. متشرد يلتفُّ في عدَّة طبقات من ملابسَ متعددة الألوان، يحاول بلا جدوى أن يحصل على قسطٍ من الدفء بأن يخبط على كتفَيه وينفخ في راحتَيه. فلاح متبختر ساعد نفسه بعمل «حركات … جري» بيدَين مائلتَين. جنديٌّ يحرك قدَمَيه بصعوبةٍ، يرتدي زيًّا عسكريًّا مموَّهًا وخوذةً وقناعًا مضادًّا للغازات. شابٌّ يحمل بحرصٍ أمامه شمعةً مشتعلة. تلميذةٌ ترتدي بلوزةً صفراء وتنورةً حمراء مربَّعات، تؤدِّي بأقدامها وجسمها كلِّه حركاتِ الرُّوك آند رول. امرأةٌ تعاني صداعًا شديدًا، تضغط طَوالَ الوقت بِيَدها على صدغها، ترتدي «رُوب» يبرز من أسفله قميصُ نومٍ. إحدى الفائزات في مسابقة ملكات الجمال، تحيِّي الجماهير بيَدٍ مرفوعة. شابٌّ تافه يرتدي «جينز» ومعطفًا جلديًّا قصيرًا لونه أحمرُ ناصع، يمضغ لبانًا. عاطلٌ يرتدي «بالطو» قذرًا، يلتفت ناحيةَ الجمهور تارةً بوجهه، وتارةً يُدير له ظَهْره، يلفت النظر إليه بملصقٍ معلَّق عليه من الأمام، ومن الخلف مكتوبٌ عليه: «مستعدٌّ للقيام بأيِّ عمل.» جنديٌّ يهرع للهجوم، يحمل في يدَيه رشَّاشًا غير ظاهر. لاعبُ كرةِ قدَمٍ يضرب بقدمه تارةً وبرأسه تارةً أخرى كُرةً غيرَ موجودة. بحَّار يسير مؤرجحًا يدَيه على اتساعهما. راهبةٌ ترتدي ملابسَ عروس المسيح البيضاء. على شفتَيها ابتسامةٌ سعيدة. مهرِّج عجوز، حزين في ملابسَ متعددةِ الألوان، ذو أنفٍ أحمر. عجوز محنيَّة الظَّهر، تمسك بكلتا يدَيها فقراتِها القطنية المتألِّمة وتهزُّ رأسها بشدَّة. عارضةُ أزياء من العشرينيات ترتدي بالطو من الفِراء الأحمر اللامع، وتعتمر قبعةً وأحذية وتحمل حقيبةً تحت إبطها. صبيُّ حانة، يحمل صينيةً يتلاعب بها في مهارة. رجُلُ شرطةِ انضباطٍ يحمل في يده عصًا صفراء. حلوانيٌّ يضع على رأسه قلنسوةً عالية ويلعق يدَيه الغارقتَين في الحلوى. محصِّلة تَذاكِر تضع على رأسها «بيريه» تُجري حساباتٍ على الآلة الحاسبة. امرأةٌ ترتدي ثوبًا أحمر، تسير معصوبةَ العينَين، مادَّةً يدَيها إلى الأمام تتحسَّسُ طريقها. راقصةُ باليه في ثوبِ الباليه الوردي، تؤدي «خطوةً» تتكرَّرُ على امتداد مسيرتها كلِّها. بعد أن ينتهي الممثِّل من أداء «رقصة الموت» العامة والكونية، لاعبًا دورَ السَّيرِ في ملابس السهرة السوداء، وعلى رأسه قبعةٌ سوداء، يظهر هذا الممثل بعد أن يختفي كلُّ المشارِكين الآخَرين في الموكب في الهوَّة السوداء، ويقطع سيرته على المنصة الحادية بقفزاتٍ قصيرة.
على امتداد هذا الموكب الممتد بلا نهاية لمصير البشرية، تُضيء في سماء الكون الأسود بروجُ النجوم للوجوه المقلوبة، التي تجسِّد الأرواحَ التي غادرَت هؤلاء الناس، الذين تركوا عالَم الدنيا، وهؤلاء الذين يغادرونها في اللحظة الحالية من المشهد المسرحي. الفضاء الصوتي ﻟ «رقصة الموت» تدوي فيه (مثل ما حدَثَ في الفصل الأول من المسرحية) آلاتٌ موسيقية من حفرةٍ في باطن الأرض؛ أصوات المغنِّين (باص وسبرانو) والقرَّاء الموجودون في كبائنَ خاصَّةٍ، ومعهم الأجهزة عند أبواب الألواح الجانبية، وخلْفَ المسرح، وخلْفَ التكوين البصري المُقام عليه.
وهكذا، فإن مسرح الفنان، وقد شارف القرن العشرين على الرحيل، باعتباره شكلًا خاصًّا من أشكال الإبداع المسرحي، قد اكتسب عن جدارة وجودًا مؤثرًا، متعدِّد الجوانب، واسع المدى. واكتسب في شخصية أخيم فراير اعترافًا رفيعًا، وقد كرَّمته لجنة التحكيم الدولية بأن منحَت هذا الفنان الألماني الميدالية الذهبية.
(٧) بيتر شومان
وهذا ما حدَثَ تمامًا في تجارب شومان المسرحية الأُولى في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، وهو ما استمر أيضًا على مدار جميع العقود التالية من إبداعه. فقد تمَّ تغيير، وضبط وتجديد فقط، أشكالٍ محدودة من «التماثيل الحيَّة»، كما جُرِّبَت فضاءاتٌ مختلفة، لعرض هذه التماثيل فيها (بدءًا من الغُرَف وانتهاء بالشوارع والأماكن المكشوفة، وفي أحضان الطبيعة على سبيل المثال)، وأخيرًا جرى تنويعُ موضوعات العروض المؤداة. وأما طريقة التعبير الفني فقَدْ ظلَّت واحدةً لم تتغيَّر بفضل التكوينات التي وضَعَها شومان للأقنعة والدُّمى، والتي قام الممثِّلون-المؤدُّون ببعث الحركة فيها وإنطاقها.
باختياره طريقته في «بعث الحياة» في التماثيل بواسطة حركة الرقص، يكون شومان قد اختار لنفسه خيارًا منهجيًّا حاسمًا، يمكن القول إنه ذو مغزًى كبير، يتمثَّل في نموذج الفنِّ الذي يثير اهتمامه. هذا «الفنُّ الفقير» لا يخاطب الذوَّاقة أو العلماء أو الصفوة، ومن ثَم فهو لا يخاطب الأثرياءَ، وإنما يخاطب المُهانِين والمظلومين. حتى المواد التي استخدمها شومان باعتبارها موادَّ أساسيةً في صناعة تماثيله (سواءٌ في التماثيل الثابتة أو التي «عادت إلى الحياة» في عروضه) كانت موادَّ زهيدةَ الثَّمَن وهشَّة، مثل الطين أو الجبس أو في أغلب الأحوال من الورق المقوَّى بالغراء. وفي الفترة من منتصف الستينيات حتى بداية الثمانينيات، كان شومان يصنع الأقنعة من الألياف الصناعية، غير أنه تراجَعَ بعد ذلك عن استخدام هذه المادة (بسبب ارتفاع سعرها نتيجةَ أزمةِ النفط) ليعود إلى استخدام الورق المقوَّى بالغراء. كانت الحركة المشوهة والجروتسكية في رقصات شومان بسيطةً إلى أقصى حدٍّ، استُعيرَت من الحياة اليومية (يمكن هنا أن نلاحظ تأثيرَ خبرات مصمِّمي الرقص الألمان، التعبيريين والداديين، بالإضافة إلى التنبؤ ذي الطابع الخاص الذي قامت به بينا باوش فيما بعد).
إن الأقنعة في عروض شومان متنوِّعة من حيث الشكل والنوع والحجم. أمَّا تلك الأقنعة التي كانت مقاييسها تنطبق ومقاييسَ الممثلين، فهذه قام شومان بنَحْتها ورَسْمها وبنائها طبقًا للوظائف التي كانوا يؤدُّونها في العَرْض. كانت الأقنعة التي يضَعُها الممثِّل على رأسه أو على وجهه تمثِّل جزءًا لا يتجزَّأ من جسده ومظهر ثيابه. وكانت تجسِّد الوجهَ الذي يتغلب على الجسم تمامًا، والذي تعبِّر ملامحه عن طابع هذه الشخصية وحالتها وانفعالاتها السائدة التي تعايشها، سواء الرعب والمعاناة، أو الحزن العميق والاستسلام المحتَّم والغضب الشرِس؛ ورباطة الجأش لدى جامعي القمامة، أو عند عاملات النظافة وربَّات المنازل والفلَّاحات بابتسامتهنَّ الودودة.
وفي واقع الأمر، فقَدْ كانت العرائس تستخدم عند ظهور الحاجة إلى عرضِ صورةٍ مصغَّرة للإنسان؛ القناع، الذي كان يبدو عملاقًا مقارنةً بالعروسة. كان شومان يوظِّف هذه التقنية كذلك بالنسبة إلى الإنسان القناع، وكان يؤكِّد ضآلته من خلال مقارنته بالشخصيات الأكبر حجمًا، والمقدَّمة على هيئة أقنعةٍ ضخمة، والتي يتحكم في إدارتها من الداخل ومن الخارج عددٌ من الممثلين (بواسطة الخيوط).
كان هؤلاء العمالقة، الذين يبلغ حجْمُهم حجْمَ جسمِ الإنسان، متنوِّعين بنفس درجة تنوُّع الأقنعة، وكانوا يجسِّدون كائناتٍ من أصولٍ أسطورية وخيالية ودينية (الإله الأعلى وآلهة مختلفة، أم الأرض، ملك الجحيم، أشكال التنانين والشياطين كافَّة، السيدة العذراء والسيد المسيح)، بالإضافة إلى الشخصيات المبالَغ فيها في الحياة الاجتماعية في الحاضر والماضي (العمُّ فاتسو، وهو نفسه العمُّ سام بالسيجار في فمه، تمثال الحرية، والرئيس نيكسون، وملكة إسبانيا، والأمير العظيم، والدكتاتور صاحب وجه ستالين، ومن ناحيةٍ أخرى نفس ربَّات المنازل، وعاملات النظافة وجامعو القُمامة التي تضخَّمت إلى حدٍّ هائل).
والنوع الآخَر من الأقنعة، هو هذا النوع الذي كان الممثلون يحملونه أمامهم (وفي هذه الحالة، لم تكن الأقنعة تغطِّي الوجوه فحسب؛ وإنما تغطِّي الجسمَ بكامله) ثم يحملونها فوقهم (عندما كان يتمُّ تثبيت الأقنعة المنحوتة والمرسومة على الظَّهر والأكتاف والرأس لتفوق قامة الإنسان بصورةٍ ملحوظة).
كانت هذه الأقنعة تؤدي دورها بوصفها شخصياتٍ تشكيلية مستقلة تمامًا (بمعنى أنها كانت مستقلةً كلية عن الإنسان)، وتكثف طاقةً قوية في قوة التعبير. كانت هذه التشكيلات تتكوَّن أحيانًا من عددٍ من الوجوه (على سبيل المثال، أقنعة ثلاثية الرءوس لجنود تافهين من زمن الحرب العالمية الأولى، وصور مثل صورة جيلي جي لبريخت، أو الملوك الثلاثة من قصص الإنجيل)، أو في شكل صورِ حشدٍ كامل يواجه البطل ويهدِّده ويراقبه بنوعٍ من اللامبالاة، ويجسد ضحايا بائسة تصيح من الرعب رافعةً أيديها إلى أعلى.
كان بإمكان الممثلين أن يحملوا أمامهم لافتاتٍ منوعة رُسمَت عليها تشكيلةٌ من الموضوعات: حيوانات، وسحب، وزهور، وجبال؛ وما إلى ذلك من موضوعاتٍ، باعتبارها شخصياتٍ مرئيةً صامتة في العرض. كما استخدم شومان تقنيةً فنية أخرى (اقتبسها عن المسرح الشعبي والقديم)، وهي عبارة عن سلسلةٍ من اللوحات الفنية المتتالية من التاريخ يحكيه مقدِّم العرض (شومان نفسه) تظهر أمام المُشاهِد في شكل لقطاتٍ مكبرة ﻟ «شرائحَ لونيةٍ» ما.
وأخيرًا، أصبحَت شخصياتِ عروض مسرح الفنان الخاص بشومان («مهرجانات سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» بالدرجة الأُولى مأخوذةٌ من المَشاهد المسرحية للطبيعة وعالَم الحيوان: قطعان من الأيائل والبقر والماعز والخيل والطيور الخيالية والصقور السوداء والرسل ذوي الأجنحة البيضاء الذين يأتون بالخلاص).
لم يكن للعنصر الذاتي في البناء الفني المسرحي عند شومان وجود. وقد انعكس ذلك في علاقة مبدِع العرض الفعَّالة والانفعالية بل الحادَّة، بما تحكيه تماثيلُه الحيَّة والأقنعة والرسوم والعرائس للمشاهدين. وهذه كانت تُحكى كقاعدةٍ عامة عن أحداث الحاضر أو الماضي المأساوية، عندما تمارِس قوى الشرِّ المختلفة أعمالَ العنف وقتْل الضعفاء الذين لا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفُسِهم، ولا على مقاومة البشر أو الحيوانات. وكان من خصائص القصص التي كان يرويها شومان أنَّ موضوعاتها مستعارة من الصحف أو من المواد التي تنشرها وسائل الإعلام الأخرى (مما يعني أنَّ لها أساسًا وثائقيًّا محدَّدًا). بعبارةٍ أخرى، فإن شومان كان يتناول الحوادث اليومية بوصفها مظهرًا معاصِرًا للمواجهة الأبدية بين قوى الخير والشر. أمَّا الشيء الأزلي فهو التصادم المأساوي الخالد والمتكرِّر على مدى تاريخ البشرية، الذي يظهر مرةً تلوَ الأخرى من جديد في الحياة المعاصرة؛ ولذلك كانت عروض بيب تجمع بين الشخصيات الخيالية الأسطورية الخارقة ونماذج من بشرٍ عاديين مستمدَّة من أشكالهم النمطية.
(٧-١) التجارب الأُولى، «رقص الموت»
تعدُّ هذه الانتقادات من الأمور التبريرية. وهي تدلُّ على أنه حتى أكثر الباحثين في إبداع شومان عمقًا واهتمامًا، والذي وضَعَ العمل الرئيسي حول هذا الإبداع، اعتبر أنَّ رفض سيادة الممثل (الراقص في حالتنا هذه) وهيمنةَ القناع بوصفه من أعمال فنِّ النحت، هو أمرٌ مخالِف لقوانين الجمال، على أنه من وجهة نظر تكوين مسرح الفنان، والذي يعدُّ شكلًا خاصًّا من الفن المسرحي (أي إنه يختلف تمامًا عن هذا الشكل عند شومان، والذي كتب بريخت أنه مخالِف لقوانين الجمال)، فقد أصبحَت هيمنة القناع أمرًا مقبولًا؛ فضلًا عن كونه قانونًا وتأكيدًا سائدًا في جميع عروض شومان التالية.
وهكذا وجد شومان نفْسَه في قلب أحدث الاتجاهات الفنية في بداية الستينيات، فانضمَّ إلى كشوفات حركة التجريد الأمريكية، سواءٌ على مستوى الرقص (حيث الْتحق لفترةٍ من الوقت باستوديو ميرس كانينغيم)، أو على المستوى التشكيلي؛ إذ شَهدَت تلك السنوات — وعلى نحوٍ فعَّال — تجارب تنظيم أنواعٍ مختلفة من عروض الإنفايرومنت والهابيننج والبرفورمانس، ومختلف أشكال نشاط الأكشن الأخرى. على أنَّ شومان لم يتخلَّ عن شخصيته، بل إنه لفَتَ إليه أنظارَ النقاد والمشاهدين. حدَثَ ذلك في البداية من خلال معرض المجموعات النحتية المصنوعة من الورق المقوَّى بالغراء، التي أثارَت الإعجاب بفضل ما بها من تعبيريةٍ درامية، الأمر الذي دفع بأحد النقاد أن يتصورها بوصفها صورةً للعالَم بعد الحرب النووية، ثم من خلال عرض «رقص الموت»، الذي استغرق ساعةً ونصف الساعة.
تصدح نداءاتُ عازف البوق، وتظهر مجموعةٌ من الشخصيات ذواتِ الأقنعة. تختفي، تظهر من جديد، ثم تختفي لتظهر مرةً أخرى مفسِحةً مكانها للرقصة الثانية ليانوس. ثم يقع أكشن الميلاد. فمِنْ كيسٍ ضخم (كائن حي ما ينبض ويتحرك ويتأرجح ويقفز، يغيِّر شكله باستمرار، ثم يتضاءل شيئًا فشيئًا إلى أن يختفي تمامًا)، وعلى نغمات دقَّاتِ طبولٍ متصاعدة، وكما لو أنَّ هناك كائنًا يخرج للدنيا، تخرُج الأجسامُ أحدها وراءَ الآخَر، يرتدي كلٌّ منهم قناعًا يمثلون أعمالًا نحتية من إبداع شومان لتتجسد مسرحيًّا. راحَت الأجسام تطرد يانوس ليبدأ بعدها الأكشن التالي؛ أكشن الكراسي، التي يحضرونها إلى خشبة المسرح، ثم يجلسون عليها، وبعدها يرفعونها إلى أعلى، ثم يضعونها على الأرض، ويقفون فوقها في وضعٍ متزن. وفي لحظةٍ ما، يكفُّون فجأةً عن الحركة تمامًا. ثم يقتربون بعضهم من بعض في جماعةٍ متراصَّة، وهنا ينهار هذا التكوين؛ فالكراسي تسقط على الأرض وتُسحب إلى ما وراء الكواليس. يُحمل الموت إلى فراغ الخشبة جالسًا على كرسي وهو يدقُّ الطبل. بعد أن وضعت الشخصيات المقنَّعة الموتَ وسط خشبة المسرح؛ راحوا يتحلقون حوله راقصين، مغنِّين، متقافزين، ثم يتوقفون ويديرون الكرسيَّ الجالس عليه الموتُ. يؤدي الموت رقصته الأساسية الأخيرة والمنفردة. كما يؤدي قفزاتٍ طقسية ليست فقط على خشبة المسرح، وإنما بين جمهور المشاهدين أيضًا (كان شومان قد خطَّط أن يرتدي المشاهدون أقنعة أيضًا، لكنَّ ذلك لم يتحقق). يسقط الموت على الأرض، يزحف، يتخبط، يرفع يدَيه إلى أعلى. يرسل إشاراتٍ سحرية، ويدقُّ الطبل. في حين، راحت الشخصيات المقنَّعة تسقط ثلاثَ مرَّاتٍ على صوت الطبول.
(٧-٢) عروض Bread and Puppet المناهضة للحرب في الستينيات وبداية السبعينيات
وإذا كانت الملامح الصوفية تتجلى في عرض «تاريخ العالَم»، وفي مختلف نُسخ العروض التي تقوم على موضوعاتٍ من الكتاب المقدَّس («قصص مسيحية»، «الصَّلب»، «وقفات الصليب») على نحوٍ معاصر غير مباشر، فقَدْ قدَّم شومان سلسلةَ عروضه الأساسية في الستينيات والعقود التالية التي اشتملت على الحياة اليومية الأبدية بصورةٍ مباشرة. كانت عروض هذه السلسلة بمثابة احتجاجٍ شديد اللهجة من الفنان على الشر المعاصر. وقد خرجَت شخصيات هذه العروض تحديدًا إلى الشوارع في مظاهراتٍ تندِّد بالحرب وقَتْل الضعفاء وغير المحصنين، وضدَّ الظلم والعنف.
يحكي شومان عن ملكٍ عاش في أحد البلاد، وفي هذه اللحظة كان المشاهدون يرون فوق الستارة الحمراء كائنًا غريبًا ذا ملامح شرقية، يرتدي لباسًا من اللون البرتقالي الضارب إلى الحمرة، وقناعًا له سمات وجهٍ طيِّب فوقه تاج. كانت يدَا الملك مقيَّدةً ومنبسطة على نحوٍ غير مريح. راح الملك يدعو المحارب الأعظم إلى مساعدته خوفًا من خبرٍ بلَغَه حول هجوم التنين المرعب، متجاهِلًا بذلك تحذيرات باقي شخصيات القصة التي يحكيها شومان ونداءاتهم، والذين توجَّهوا إليه بالرقص والانحناء بألَّا يفعل ذلك، وهُمْ: رجُلٌ أحمر وجهه ممتد مملوء بالقلق، أقنعة إنسان أزرق مزدوجة وابنه، قسيس شرقي أصفر اللون، ومجموعة الأقنعة البيضاء التابعة لشعبه.
كان قناع جسم ياما الضخم، ملك جهنم، يقف على خلفية الستار، ويتحكم في هذا القناع ثلاثةٌ من الممثلين بداخل بطنه السمين. كان ياما كائنًا وحشيًّا، ذا رأس مشوَّه، وعلى وجهه زوائد، لا عيون له، ويمتلك فمًا كبيرًا فاغرًا. كانت له أصابع سميكة في كفَّيه تثير الخوف. كان له خدَم من العفاريت ذوي رءوس ثلاثية مقنَّعة على أبدانهم (كانت تُرسم على قطعةٍ من القماش الذي يخفي الممثل). كانت العفاريت تتعلَّق بالقرب من ياما، محدِثة جلَبةً سخيفة، مستخدِمين «خشخيشة» من الصفيح وقد ربطت بها مسامير وصواميل، وكانت ألسنتهم تخرج من أفواههم. اقتادت العفاريت صيادَ الطيور، الشخصية الوحيدة التي لها قناعُ وجهِ إنسان عليه سمةُ الحماقة والغِلظة، إلى جهنم، وقد قام شومان بأداء هذا الدور بنفسه. مستعرِضة أمام ياما، قامت الشخصية برقصةِ صَيدِ الطيور وطَبْخها، بعدها قدَّمَت الطعام إلى ملك الجحيم، الذي أُعجب بطعم الطيور، إلى حدِّ أنها أعادَت الصيادَ إلى الأرض ليواصل حرفته.
عالَجَ شومان المسرحية بحيث قدَّمَها مستخدمًا لونًا وحيدًا هو لون زرقة السماء. فكان لون الحذاء والقماش المُستخدَم في الشخصيات: التماثيل وأقنعتها كافة (بدءًا من ياما والعفاريت، إلى صياد الطيور والعازفين الذين يرافقون الأحداث على آلاتٍ موسيقية معدنية صُمِّمتْ خصوصًا لهذا الغرض).
عُرضت النسخة الثانية من «صياد الطيور في جهنم» بعد مرور سبع سنوات باعتبارها عرضا كاملًا، وجاء هذا العرض بمثابة رد شومان على قرارٍ سياسي اتخذه الرئيس نيكسون بخصوص العفو، وإخلاء مسئُولية الضابط كولي، الذي أحرق قريةَ سونجي الفيتنامية.
وفي هذه المرة، تذهب إلى جهنم العفاريت ذوات الأنياب والقرون، بالإضافة إلى زوجاتهم، وكذلك أبناؤهم العفاريت الصغار. يرتفع رأس ملك جهنم الأشعث بارزًا، مرنًا، متناميًا، مستديرًا، وبيضاويًّا، إلى فوق الستارة بلونها الأحمر الفاتح. تعطي الستارة دلالةً على «الجسم». أكفُّ الأيدي الضخمة المرفوعة إلى أعلى تبرز على الأطراف. قطعة قماش حمراء تهتزُّ عندما يصيح ياما، وفي سطحها فتحة تشبه «الجوف»، يلقي صائد الطيور فيها بأجسام الدُّمى الصغيرة ذات الملامح البشرية (كانت هذه الأجسام تُلقى نيابةً عن الطيور باعتبارها أهدافًا للتنشين، وذلك من وراء الجانب الأعلى للستارة الحمراء). يظهر بعد ذلك عددٌ من الرجال المحترمين، يضعون أقنعةً على وجوههم الطويلة، معتمرين قبَّعاتٍ سوداء أسطوانية، هؤلاء الرجال هم شخصيات تمثِّل عالَم أمريكا المعاصرة. وكانوا يقدِّمون «الطيور» التي اصطادها صيادُ الطيور كغذاءٍ للصقور. وعندما أعطى ملِك جهنمَ صلاحيةً كاملة لصائد الطيور، وأطلق يده في الأرض لمواصلة الصيد، كان هؤلاء الرجال تحديدًا يضعون على تمثال الإنسان الصغير («جيلي جي») معطفًا عسكريًّا وقبعة تناسب حرفته.
إذا كان الحدث البصري في النسخة الثانية من «صياد الطيور» (كما هي الحال في العروض الأخرى لمسرح بيب) مصحوبًا بصوت الراوي وتعليقات الشخصيات، فإن مسرحية «النار»، التي عُرضت عام ١٩٦٥م، كانت عرضًا صامتًا، وهي تمثِّل وجهةَ نظرِ شومان الفنية حول مأساة فيتنام.
وبعد سنةٍ، أي في عام ١٩٦٧م، واصَلَ شومان معالجة هذا الموضوع في شكلِ أكشن قصير مدَّته خمس عشرة دقيقة، تحت عنوان «جروح فيتنام»، وضَعَها في قالب «المحاضرة» الدراسية.
وفي عرض «الإنسان يقول لأمِّه إلى اللقاء» (عام ١٩٦٧م) تظهر السيدة الشيباء في شكلَين مختلفَين (وقد جرى توظيف الموضوع والشخصيات قبلها بعامٍ في المظاهرات التي سارَت في الشوارع مندِّدة بالحرب).
في البداية تؤدي السيدة الشيباء دورَ أمٍّ لشابٍّ أمريكي تودعه إلى الحرب (فتقوم على مساعدته بترتيب الحاجيات التي أعطاها له الراوي ووضعها في مخلاته، وهي: بندقية، وقناع واقٍ من الغاز، وطائرة صغيرة جدًّا)، ثم تلفُّ يده المجروحة برباط. وعندما كان هذا الشاب يُخرِج من مخلاته الطائرةَ ويهاجم القرية المرسومة على الستارة الخلفية البيضاء؛ كان ينقل قناع السيدة الشيباء إلى فلَّاحة فيتنامية تطبخ الحساء في أمانٍ لعائلتها. كان الجندي يدمِّر المحصول في الحقول (وهو يرمي بقطعة من القماش الرمادي على الفرع الأخضر الذي أخذته المرأة من الراوي). وكان يدمر البيوت الورقية ويقطِّعها. وكانت الطائرة تنقضُّ على رأسِ دُمية الرضيع، الذي كانت الفلَّاحة تهدهده على صدرها، وتضع جسم الرضيع الميت على الأرض، وتغرز السكين في ظَهر الجندي. كانت السيدة الشيباء الأمريكية تُنهي القصة، وترفع فوق رأسها ورقةً تنص رسميًّا على مصرع ابنها، ثم تقترب من جسم الابن الراقد على الأرض وتغطِّيه بالملاءة. وكانت ترتدي الآن قناعَ الموت الذي يشبه جمجمةً، مثل القناع الذي ارتداه الراوي عندما كان يوزع أدوات القتل على الشخصيات.
وفي كانتاتات السبعينيات اتخذَت الآنسة الشيباء نهائيًّا شكلَ الأمِّ الأمريكية المتَّجهة إلى البحث عن ابنها الذي فُقد في أثناء الحرب، وفيما يلي — على سبيل المثال — وصف «كانتاتا رقم ٢».
يظهر أمام الجمهور مشهدُ تناوُل الطعام بمنزل السيدة الشيباء (وهو عبارة عن قِطَع أثاثٍ بسيطة جدًّا مرسومة على قماش ممتدٍّ في عمق المسرح، وقد اقتُطع فيه نافذة). أربعة ممثلين، يلعبون دورَ أصدقاء السيدة، يرتدون أزياءً فاخرةً وأقنعةً شبيهةً بوجوه حيَّة جاءُوا ليودِّعوا ابنها. للابن ملامحُ طبيعية؛ يظهر جالسًا في الركن وهو يربط حذاءه العسكري. ينتصب جسم السيدة الشيباء الضخم في وسط المائدة، وإلى جانبها يقف رجُلٌ سمين يرتدي بدلةً سوداء، يضع في فمه سيجارًا ضخمًا بحركةٍ بطيئة. كان يبدو في البداية أنه والد الجندي، إلا أنه عند وقوفه تصبح له أجنحةُ مَلَاك الموت السوداء … كانت هناك أشياء غريبة تحدث في أثناء تناول الطعام، فعندما كان أحدهم يتناول فنجانًا أو علبةَ عصير أو قطعة كتليته، كانت تطير، وهو ما حدث أيضًا مع الطبق الموضوع على المائدة والكرسي فور قيام الضيف الجالس عليه وخروجه من الباب بعد أن ودَّع السيدتَين المتبقيتَين المرتديتَين الأقنعة، واللَّتَين كانتا تحتضنان إحداهما الأخرى وتهمَّان بمغادرة الغرفة. يرتدي الابن سترةً عسكرية سوداء، ينحني على كتف أمِّه على عجل، ثم يخرج ذاهبًا إلى الحرب. يدوي صوت طلقة. يسقط كرسي الابن الشاغر مع صوت الرعد. يخرج الدمع الزجاجي من العين اليمنى للسيدة الشيباء ويظلُّ معلقًا في خيط.
طائرٌ أبيض ظَهَر أمام النافذة كان يقتاد السيدة الشيباء في بحثها عن ابنها في بلدٍ بعيد. السيدة الشيباء تجد نفسها في حقل (مرسوم على الخلفية). مجموعة من السيدات يرتدِينَ أقنعةً حزينة لفلَّاحات فيتناميات يملَأْنَ خشبة المسرح تدريجيًّا، قادمات من الناحية اليسرى للكواليس. صوت القصف الجوي يدوي. الفلَّاحات وقد ملأهنَّ الرعب يجثُونَ على رُكبهنَّ ويتلُونَ الصلوات. وهج الانفجار يحوِّلهنَّ إلى كومةٍ من الجثث. تزحف السيدة الشيباء بصعوبةٍ من تحت أجساد القتلى.
تشرق الشمس فوق سهلِ الموت (من الكالوس الأيسر)، فتبدو مثل كائنٍ ضخم ذي رأسِ حيوانٍ غير معروف (يتحكَّم في حركتها مؤديان، يختبئان تحت قماشٍ ذهبي يمتدُّ بعرض المسرح، تخرج من تحته أقدامهما البشرية). تواصل السيدة الشيباء زحفها عبْرَ الغابات والحقول في بلدٍ دمَّرته الحرب (كان المنظر الطبيعي يتغيَّر مثل لفافة، من جانبٍ إلى جانب آخَر). كانت السيدة تهرب عدْوًا وزحفًا من الثعابين القبيحة المتلوية (استخدمَت قطعًا من السلك الزنبرك لتصويرها) وقد راحت تلتهم طائر الأمل الأبيض. وفي هروبها كانت تلتقي ضحايا القصف الجوي والسيدات الفيتناميات اللائي كنَّ يهدهدْنَ أجسامًا لأطفال صغار من الدُّمى. تأخذ اليد الإلهية أجسامَ الأطفال وترفعها إلى السماء. تصل السيدة الشيباء إلى البيت زحفًا وتسقط على الأرض وقد خارت قُواها. يميل فوقها جسمُ أختها وترفعها، ثم تضعها في الفِراش. يهبط غطاءٌ أسود فوق السيدة الشيباء. وعند رأسها يقف مَلاك الموت. يطير الغطاء الأسود عنها بإشارةٍ منه. تنهض السيدة الشيباء، وعلى غناء جوقةٍ من العالَم الآخَر ترقص رقصتها البطيئة الأخيرة بصحبة المَلاك.
تجمَّعَت الاتجاهات والموضوعات الأساسية، التي أعدَّها شومان في الستينيات، سواءٌ ذات الطابع المسيحي الأسطوري، أو الحديثة المناهِضة للحرب في العرض المتكامل الذي استغرق ساعتَين، والمسمَّى «صُراخ الناس من أجل اللحم» (١٩٦٩م). وهذا العرض هو العرض الأكبر من نوعه في هذه الفترة. وقد قدِّم في فضاءات مختلفة، منها المغلق (مثل القاعات الرياضية)، ومنها المكشوف.
يبدأ الجزء الأول بعنوان «العهد القديم والميلاد». يزحف قطيعٌ من كائناتٍ شبه بشريةٍ مشوَّهة، لها رءوس تشبه رءوس الخنازير ذاتِ الخطم. وعند تفرُّقهم (بواسطة الممثلين غير المرئيين الذين يقودونهم) ينكشف أمام المشاهدين جسمَا آدم وحوَّاء الراقدَين تحت غطاءٍ من مادةٍ شفَّافة. كان شومان ينفخ بالحياة من خلال أنفِ آدم، ويجعله يقف على قدمَيه، ثم يلطمه على ظَهْره، وبعدها يضع حوَّاء أمامه. تقوم حوَّاء في حذرٍ ورقَّة وحُب بتقطيع شريط الشرنقة الملتفَّة حول آدم بأسنانها «وتلعقها» بأسنانها، نازعةً إيَّاها قطعة تلوَ الأخرى عنه، وتُغريه في الوقت نفسه. وخلافًا لباقي الشخصيات، كان آدم وحواء بشَرَين حقيقيَّين؛ إذْ لم يتمَّ إخفاء وجهَيهما وراء أقنعة، ولا جسمَيهما بالملابس.
بعد أنْ طرَدَهم المحاربُ العظيم كرونوس (وهو في هيئةِ مَلاكٍ ذي قرنَين) يعرض شومان ميلاد قابيل الأليم باعتباره أكشنَ للانتزاع العنيف لأقنعةِ الحيوانات عن وجهه، الواحد تلوَ الآخَر، إلى أن يظهر وجهه الإنساني. كان قابيل يتلقَّى من الله الأمر: «أيُّ كائن حي يتحرك، هو لحمٌ حي من أجلك.» كانت هذه العبارة مكتوبةً على اللافتة الكرتونية التي وضعها شومان أمام وجه قابيل مغطيًا وجهه، محولًا إياه بذلك إلى نوح الأعمى. وهنا بدأ نوح في تنفيذ الأمر الرئيسي تحت رقابة الملاك ذي القرنَين. ثم يبدأ أولًا بتأليف كائنٍ في قناعِ وحشٍ يرفعه عن الأرض ثم يلقي به، ثم يرفعه ويلقي به مرةً أخرى، حتى راح الحيوان نفسه يميل إليه وكأنه صاحبه، ومنذ تلك اللحظة عاد إلى نوح بصَرُه. أمَّا الكائن فقَدْ ظهَرَ له وجهٌ أبيض لإنسانٍ ميت، وذلك بعد أن خلَعَ عنه قناعَ الحيوان. ثم إذا به يسقط فاقدًا الحياة. وهكذا تناوَلَ شومان قتْلَ الحيوان باعتباره قتْلَ هابيل على يدِ قابيل؛ وأمَّا ميلاد البشر فقَدْ تمثَّل في خلع الممثلين للأقنعة التي كانت تختفي وراءها الأوجهُ البشرية البيضاء والسوداء، أوجه الرجال والنساء.
وبعد أن يتَّخذ هؤلاء هيئةَ البشر، يبدَءُون عمليةَ «التشكيل» التدريجي للحركات الأُولى: الأقدام، والأيدي، والأجسام. إنها فعْلُ «الخطوات الأُولى» للإنسان على الأرض. وبعد ذلك الاقتراب واللمسات العاطفية الأُولى، كانت الأجسام البيضاء راقدةً على الأرض في مشهدِ الفيضان لتمثِّل «الأمواج» التي واصَلَ نوح عبْرَها طريقَه إلى «ضفَّة» الإنقاذ (أي اللافتة المكتوب عليها كلمة «الأرض» وصورة القمح المائل). وقد قاد إلى هنا أيضًا قطيعَ الحيوانات، حيث قام الممثِّلون بأداء أدوارهم مُرتدِين أقنعةَ الحيوانات.
كانت الدُّمى اليدوية الكوميدية الجروتسكية الصغيرة تُرفع إلى ما فوق الستار الأحمر، ثم يقوم الممثلون بإخراجها مرتدين أقنعةً بيضاء، وهم يمثِّلون سلسلةَ نَسَب يوسف وداود وسليمان وإبراهيم وإسحاق … أمَّا مريم (ويقوم بدورها ممثِّل يرتدي قناعًا نسويًّا)، فكانت تتولى تقليد يوسف بأقمشةٍ ملوَّنة، وألبسَته قناعَ مهرِّجٍ خائف وكأنه الزوجُ الأخرق حامِلُ القرنَين، ويرتدي قبعةً عالية سوداء. ثم تضعه على الحشيَّة. وعندما نام يوسف، كان جسم مادونا الضخم يُحضر إلى خشبة المسرح (وهي ترتدي زيًّا أزرق اللون وتثني يدَيها على هيئة امرأةٍ تصلي) لتصبح العذراءَ المباركة.
يبدأ بعد ذلك موضوع «الميلاد». يهبط من «السماء» قناعُ التنين البشِع. جسم دميةِ رضيع يمتزج فيه الأحمر بلون الدم. أخَذَ يوسفَ الرضيع بحرصٍ وأعطاه لمريم. يشتعل ضوءٌ مبهِر. ويظهر ثلاثةُ ملوك (المؤدي الذي يرتدي قناعًا ذا رءوس ثلاثة على جسمِ وحش). الرعاة وقطيع من الحيوانات ذاتِ الأجراس المُجلجِلة التي كانت تصفر وهي ترافق مريمَ ويوسف فوق الحمار، الذي سار في «الطريق» الأخضر الذي صنَعَه شومان وسط «التربة» الورقية المملوءة بالتكسُّرات.
كان المؤدُّون يحملون ملك إيرود الغاضب، الجالس على الكرسي (يرتدي تاجًا ورقيًّا مذهبًا مرسومًا على قناع). كان يدقُّ الطبل الذي يمسكه بين ساقَيه ويدعو الجندي (أي كرونوس أو المحارب العظيم الذي يرتدي الخوذة). كان الجندي يطارد يوسف الهارب مع الرضيع إلى مصر برفقةِ صراخٍ شرِس، يتزايد مع صوتِ الطبل.
على خشبة المسرح الفارغة، سار الجندي ببلادةٍ نحو الباب الأبيض الذي كُتب عليه «بيت لحم» (كان هناك ممثُّل يمسك بالباب يرتدي يونيفورم أبيض)، من وراء الباب ظهَرَت مجموعةٌ من السيدات، تبلغ قامتهنَّ مترَين ونصف المتر، كنَّ يرتدينَ أقنعةَ فلَّاحات ألمانيات على وجوههنَّ سِمات الغباء، يرتفع من بينهنَّ جسَدٌ لأمٍّ فيتنامية شابة تحمل رضيعها ويقودها مؤدُّون غير ظاهرين). تُسمع قصة قتل زوجها (مقاطع من تقريرٍ منشور بصحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ ١٦ يناير ١٩٦٧م). كان الجندي يضرب الباب ببندقيته في غضب. يسقط الباب. تحلق الطائرة-القرش فوقَ الأمِّ ورضيعها. كانت الفلَّاحات المرعوبات يرقدْنَ على الأرض ويمددنَ أيديهنَّ إلى السماء يسألْنَ في النجاة.
جسم المسيح على الأرض بعد إنزاله من الصليب يحيط به الممثلون. يبدأ أكشن بعث المسيح في دم التنين. ينهض الممثلون من الأرض. ينزعون الأقنعة البيضاء. يخرجون إلى الجمهور لكي يوزعوا عليهم كِسرًا من الخبز أعدَّها شومان بنفسه. تدوي الكلمات الأخيرة في المسرحية حول الأُسس الحقيقية للحياة الإنسانية، عن الإيمان والأمل والرحمة.
(٧-٣) عن الإنسان في العالَم المحيط
امتزج موضوع مُناهَضة الحرب عند شومان، بوصفه الموضوعَ الرئيسي في فنِّ البيب في الستينيات وبداية السبعينيات، مع العروض المسرحية الخالية من المضمون السياسي، والتي تحكي عن المشاعر الإنسانية الطبيعية وعلى رأسها الحُب. وقد تجسَّد ذلك — على سبيل المثال — في مسرحيات «ورقة الشجر التي تستشعر ضوءَ القمر» (١٩٦٥م) و«الميت ينهض» (١٩٦٧م)، والتي قدَّم فيها شومان التماثيل «التي عادت إلى الحياة»؛ موضوعات ذات طبيعةٍ عاطفية تقوم على كشف العلاقات بين الشخصيات.
تقدِّم مسرحية «ورقة الشجر» علاقةً تربط بين رجُلَين، أحدهما شابٌّ والآخَر عجوز، بامرأةٍ رائعة، الليدي البيضاء، والتي راح الاثنانِ يخطبان ودَّها. وهنا تقوم الأقنعة بشتَّى أشكالها وأنماطها بأداء دور المتنافسَين؛ فيضع الشابُّ قناعًا على رأس المؤدي (الذي قام به شومان)، ويضع الممثل الذي يؤدي دور العجوز قناعًا فوق عصًا قصيرة. تقف شخصية الليدي البيضاء بين الرجُلَين مختفيةً داخل المؤدي، ملتفَّة في قماشٍ أبيض خفيف ترفرف ثنياته إلى أسفل على نحوٍ مبتكر بالقرب من وجهٍ نحتي لهذه المرأة الرائعة. ومن خلف أركان الستارة السوداء، تظهر أيادٍ بيضاء نحية تمسك بلوحةٍ كُتب عليها اسم المسرحية، لتعرضها بشكلٍ تبادُلي في الوقت نفسه الذي ينطق فيه عنوان المسرحية، كما لو كان على لسان شخوصها. تنتهي المسرحية برقصةٍ غرامية بين الشاب والسيدة البيضاء على ضوءِ القمر. ويحدث كلُّ هذا في فضاءٍ مسرحي محدود، لا يتعدى عرضه مترَين، ويصل عمقه إلى مترٍ ونصف المتر.
يدور موضوع المسرحية الثانية في فضاءٍ مسرحي محدود أيضًا أمام ثلاث قطع من القماش، عليها صورٌ للطبيعة الريفية، وعلى خلفيةِ فروع شجرٍ خضراءَ على الأرض. وهناك دورانِ أساسيان يلعبهما ممثلان يرتديان قناعَين، يزيد حجمهما قليلًا عن الحجم الطبيعي للإنسان، وهما: امرأة ترتدي زيًّا أبيض، ورجُلٌ ميت يرتدي الأسود. وهناك شخصيةٌ أخرى يبلغ طولها مترَين ونصف المتر، ترتدي أيضًا قناعًا ورداءً أسود وتمثِّل النهر. وهناك أقنعةٌ أخرى تمثِّل الليل والنهار. تتحرك كلُّ هذه «التماثيل المتحركة» بشكلٍ خفي داخل الممثلين. (كان شومان هو الذي يحرِّك الرجُل الميت.) ممثِّل واحد فقط هو الذي كان ظاهرًا للعيان، وهو خادم الخشبة (كوكين، كما كانوا يسمونه في مسرح النو الياباني)، الذي يقوم بمناولة الشخصيات الإكسسوارات والأدوات اللازمة.
وخلافًا للقصيدة الشعرية الراقصة الصامتة «ورقة الشجر»، بدأت هذه المسرحية بحوارٍ بين المائدة والصوت المدوي من أعلى، الذي سألها: «إلى أين ذاهبة؟
– إني ذاهبة إلى النهر.
– ولماذا تذهبين إليه، إنَّ النهر بارد. وأين يقع هذا النهر؟
– إنه بعيد.»
وردًّا على عبارةٍ من نوع «هذا جسر»، أو «أريد أن آخذ حذائي وأغسله في النهر»، قام الكوكين (موظف المسرح) بحمل الحذاء ووضعه أمام قدَمَي المرأة على المسرح. وعندما دوَّى الصوت «هذا نهر»؛ خرج شخصٌ، ليؤدي هذا الدور، إلى منتصف خشبة المسرح، وخلفه وضعَت المرأةُ الرجُلَ الميت، الذي أخرجوه لتوِّه من الماء، تبدو عيناه معصوبتَين برباطٍ أسود، وقد جمع الخادم بين النهر والرجُلِ والمرأة، التي قلبَت الرجل على ظَهْره، ثم حملتْه إلى المنزل قائلةً: «سأنقلك إلى سريري.» وبحلول الليل نجِدُ ملاءةً سوداء ملقاة على الرجُل المتوفَّى والمرأة التي تضمُّ نفسها إلى جسده. وهنا تغرق خشبة المسرح في الظلام، وعند عودة الإضاءة نجِدُ الصباح قد انبلج، وتقول المرأة: «أيها الرَّجُل الميت سأفتح عينيك.» فيرفع الخادم الرباط عن عينَي الرجُل، الذي ينهض ويمدُّ يدَيه إلى المرأة، وتحتضن الأقنعة بعضها بعضًا وتدور في رقصةٍ بطيئة. بينما تتساقط من أعلى أوراق الشجر الفضية، يغادران بعدها خشبة المسرح، والتي لا يتبقى فوقها سوى الأحذية، التي اعتزمَت المرأة أن تغسلها بالماء البارد. ينضمُّ إليها النهر جاثيًا على ركبتَيه، يقوم الخادم بربط الحذاء إلى ظَهره، ثم يغادر المسرح.
وفي المسرحية الأُولى نجد أنَّ الحدث قد بُني على التناقض بين الشخصية-القناع؛ العم فاوستو بحجمه الإنساني الطبيعي، من ناحيةٍ (حيث نراه جالسًا في مقدمة المسرح إلى المائدة، يقرأ في صحيفة ويتناول الجعة وقد أحاط به أصدقاؤه؛ تماثيل العرض الصغيرة، الذين يلعبون الورق)، وبين المَشاهد المعروضة في عمق المسرح، والتي تؤديها شخصياتٌ بالغة الصِّغر (يتراوح طولها من ١٠ إلى ٢٥ سم تدور على عِصيٍّ)، وعمالقة تمثِّل كائناتٍ خياليةً، من جانبٍ آخر. المنظر الأول يصوِّر حياةَ المدينة؛ بيوتًا يمكن للجمهور أن يرى بداخلها لقطاتٍ من حياتهم العادية (أحدهم يحتسي الشاي والآخَر يؤرجح طفلًا)، وشوارع وسيارة تمرُّ بعابرِ طريق فتأخذه إلى السماء، وفي النهاية نشاهد متظاهِرين يحملون لافتاتٍ شفافةً كُتب عليها: «الجوع»، «الهواء»، «القذارة»؛ ثم إذا بقِناعٍ أسْوَد هائل يبتلعهم جميعًا. يظهر بعد ذلك منظرٌ طبيعي، حيث نرى على الخلفية المرسومِ عليها، باللونَين الأبيض والأزرق، شجرةُ الحياة؛ فتاةً تأخذ كلبها للنزهة. وعبْر خشبة المسرح تمرُّ خيول يمتطيها فرسان عراة. بعد ذلك، منظر طبيعي من مدينة فيرمونت بتلالها المتحركة، فوقها أزواجٌ من العشاق، بعضهم راقدٌ وبعضهم جالسٌ، وهم عراة أيضًا. وفي أعلى التلال فتاةٌ تمتطى تنينًا وقد ارتدَت فستانًا جميلًا، وتُمسك في يديها بكُرةٍ من الخيط. وتلفُّ جسدها بمئزر عليه منظرٌ طبيعي من مناظر فيرمونت، وتنتهي المسرحية بسقوط الشخصيات-الدمى في فم التنين. يلقي العم فاستو بالصحيفة وينهض عن مقعده ليحطم عالَم الطبيعة.
وقد تحدَّث س. بريخت في كتابه عن هذه المسرحية (وغيرها من المسرحيات) بوصفها قد أُخرجت على نحوٍ كامل الوضوح، إلى درجة أن مَن لم يرَها، يمكنه أن يتصور تكويناتها البصرية الأساسية، التي مثَّلَت «التماثيل الحية» لشومان جوهرَها.
أول هذه التكوينات هو مشهدٌ يُنْحتُ تدريجيًّا في الظلام، أرض مستنقعٍ قفر كئيب، غارقة تمامًا في مادة اللافا البركانية السوداء المكوَّنة من لدائن متلألئة. تبدأ الأرض في الاهتزاز، ثم تفيض بفقاعاتٍ متنامية، تكبر حتى تصل إلى حجم الإنسان. يتحول المنظر الطبيعي إلى كومةٍ من الأجسام خالية من الملامح، تلِدُ قناعًا ضخمًا دائريًّا له عدَّة وجوه، هذا النموذج-القناع يمثِّل الجماهير. أحد العارضين يتولى حمْلَ هذا القناع، الذي يجمع حوله وأسفله باقي الأقنعة السوداء الخالية من الملامح، محوِّلًا إياها إلى كتلةٍ واحدة تُصدر أنينًا وصراخًا يعبِّر عن اليأس، وعندما يظهر قناع الفرد الأول، الرجُل الوحيد (له وجهٌ يبلغ ضِعف الوجه البشري)، تبدأ الأقنعة الخالية من الملامح في إلقائه بالأحجار وبقبضاتٍ من ورقِ صحيفة في كُرات مكرمَشة. يسقط القناع عن الرجُل الوحيد. شخصٌ ما يرتدي ملابسَ سوداء يغرز سكينًا أمام الراقدين. تقترب الأقنعة الخالية من الملامح من السكين المهدِّدة (وظَهْرها إلى الجمهور) ويلتفُّون حول السكين. ينهض الرجُل الوحيد ويمسك بالسكين ويتعامل به مؤديًا رقصة المحارب الياباني، يدخل في عراكٍ مع سيف يهتز، يحمله الجمهور بيده الضخمة (ممثِّل يرتدي مِئزرًا أسْوَد، يُدير القناع واليدَ دون أن تتبيَّن ملامحه).
التكوينات التالية مبنيةٌ بوصفها تنويعاتٍ لوجودٍ خاص في عالَم العاديين من الناس، الذين تمثِّلهم مجموعةُ شخصيات جون العرائسية الصغيرة (يبلغ ارتفاع الواحدة منها ٣٠ سنتيمترًا) (ظهرَت هذه الشخصيات في مسرحيات شومان المناهِضة للحرب في الستينيات). يحمل قناع الجماهير الأسود على يدَيه جون الأول مثلَ طفلٍ، ويضعه على الأرض بالقرب من السكين المغروز على المسرح. يتشكل في الحلقة (المكونة من الأقنعة السوداء الخالية من الملامح الجالسة على الأرض) بناءٌ حيٌّ على نحوٍ أكبر يؤكِّد الشخصيات — الدمى — الأقزام للرجُل الوحيد. في لحظةٍ ما، يتمُّ إخلاء المكان من البناء الحي، ومن عمق المسرح شخصياتٌ سوداء تصيح دافعةً أمامها صفًّا لشخصيات جون الأقزام. قناع الساحرة الشيباء الشعثاء يمسك قِدرًا تقلِّب فيه الشخصيات ملاعقها وهي تعدُّ الحساء، تحضر الشخوص السوداء عددًا آخَر من شخصيات جون. يظهر العمُّ فاتسو مُمسكًا سيجارًا بين أصابع يدَيه السمينة، يبدأ في تسلية الأقزام، وفي هذه اللحظة تأخذ سكرتيرته، الجالسة، وقد أولَت ظَهْرها ناحيةَ المشاهِدين، تأخذ في إجراء مكالماتٍ تليفونية دون انقطاع. الشخصية-القناع الضخمة للمدير المجنون تدور في رقصةٍ محمومة، تجمع الشخصيات-العرائس في رقصةٍ يتنافس فيها اثنان من الشخصيات-الأقنعة بوجوهٍ لها سماتٌ حزينة (يُديرها عددٌ من الممثلين). وفي لحظةٍ ما، تنفصل يدا الممثِّل الموجودة بداخلها، والتي كانت مُمسِكةً بالوجوه الشاحبة لهذَين الكائنَين. يمتدُّ الوجهان ببطء، كلٌّ تجاهَ الآخَر، يتقاربان، يسعيان إلى التلامُس، ولكنهما يبتعدان أحدهما عن الآخَر في اللحظة نفسها ليعودا إلى وضعهما السابق، تستمر رقصة الصراع إلى أن يفصل بينهما القناع الأسود الضخم الذي يرتدي قناعَ نبي.
يخرج شخص من خشبة المسرح الغارقة في الظلام، يرتدي غطاءً أبيض من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. الشخصية الرئيسية لهذا العرض؛ هو الضوء البسيط. يجلس في مقدمة المسرح موليًا ظَهْره للمشاهدين، متخذًا وضع المصلي. تقوم جوقة من الندَّابين متعدِّدي الرُّءُوس بترديد الصلاة وراءها. الصفُّ الأول من الجوقة أقنعةٌ ضخمة كئيبة، يجلسون مباشرة على الأرض (أي بدون «أجساد»). الصف الثاني أقنعة بالحجم نفسه، ولكنْ على مستوى الحجم الإنساني (قليلًا في إحدى الشخصيات المختفية أسفل رداءٍ أبيضَ لممثِّل). الصف الأخير أقنعةٌ مرفوعة إلى أعلى نقطةٍ، والمتجمعة أيضًا معًا (الموجَّهة، لا بشكلٍ فردي، وإنما بواسطة بعض الممثِّلين الموجودين داخل كلِّ عملاق). الجوقة متعددة الوجوه، تهتز في إيقاع الصلاة، مقتربةً ببطء نحو الضوء البسيط. عندما يصِل البكاء إلى ذروته، يتحوَّل إلى عويل، في حين ترتفع الأيدي إلى أعلى في إيماءةٍ تعبيرية، وتتوقف المجموعة وتبدأ في الميل ببطء إلى الخلف، الأمر الذي ينتج منه أن الأقنعة تبدو كما لو كانت قد اختفت، ولا تبقى سوى أجسادٍ سوداء لا رءوس لها، تروح تزحف نحو العمق المُظلِم على صوتِ حفيف الملابس المصنوعة من البلاستيك الممتدة على الأرض وأصوات الأبواق المتوجِّعة.
أرخى الليل أستاره. وعلى خلفيةِ رايةٍ عليها هلال، معلَّقة فوق شجرةٍ مرسومة، تدور معركةٌ بين شخصَين أسودَين. يحلُّ محلَّهما أزواجٌ من العشَّاق، قام بنحتهم شومان على هيئة وجهَين-قناعَين لرجُلٍ وامرأة يضمَّان أحدهما الآخَر، وهناك عارضان مختفيان أسفل رداءٍ واحد يحركان كل قناعٍ مزدوج الوجه. تتساقط ندفٌ من الثلج الأبيض. قناع كبير للقمر يأخذ في النمو فوق راية بعضًا، يقعون على رُكَبهم حتى اللحظة التي ينزع الضوء البسيط عنهم أقنعتهم. يغادر العارضون، الذين لا ملامحَ لهم، خشبةَ المسرح.
ينتهي الفصل الأول بدقات الطبول وظهور الشيطان الياباني بقناعه الضخم (بأعيُنٍ محملقة، فم ذي أنياب، لبدة) يحرِّكه عددٌ من الممثلين بأيديهم. يؤدي الشيطان رقصةً مخيفة ممسكًا بالشخوص التي لا ملامحَ لها وقد راح يهزُّها. يسلِّم الضوء البسيط رسالةً إلى الشيطان. يدٌ تنسلُّ من فم الشيطان وتُمسك باللفافة وتمزِّقها إلى قِطَع صغيرة. الضوء البسيط يضرب الشيطان على رأسه فيعاني سكرات الموت حتى تفيض رُوحه.
يبدأ الفصل الثاني بخروج الضوء البسيط، وتقوم الشخوص السوداء بحمل أعمدة مفرود عليها قِطَع من النسيج، مرسوم عليها مناظرُ طبيعية من مدينة فيرومونت. بعد اختفاء المناظر الطبيعية يرفع الممثلون السُّحب البيضاء، التي تختفي أيضًا وراء الباب، وعبْر هذا الباب يدخل الضوء البسيط مغادِرًا المكان. تجلس القبطان أمام الباب على كرسي (تؤدي هذا الدور الممثلة سارا بيتيه)، ترتدي ملابسَ أنيقة محلَّاة بشريطٍ أحمر يمتدُّ من القبعة الأسطوانية إلى الخصر مرورًا بالصدر. تطلق القبطان السحب، التي تجلس وتتأهَّب لشرب الشاي، وعندما تعود يظهر الضوء البسيط، الذي يجلس قبالةَ القبطان. ينتهي هذا الميزانسين بأنْ تطلب القبطان من الضوء البسيط، على نحوٍ مهذَّب، خطبتها، ثم تأخذه إلى السفينة ويتوجهان للإبحار في «البحر» العاصف. يؤدي شخصية «البحر» قناعٌ ضخم له أشرطة-أجنحة ترفرف في الاتجاهات كافَّة، وكذلك شخصية سوداء عملاقة تلوِّح بيدَيها الممتدتَين، في حين تتدحرج أجسام العارضين على الأرض مثل «الأمواج». تقود القبطان «سفينتها» إلى العالَم الجديد، حيث يظهر أمام المشاهدين (بعد أن تصل إلى «البر») تكوينٌ مسرحي لموتيفةٍ مأخوذة من الكتاب المقدَّس، وتتمثَّل في شخصيةٍ ذاتِ وجه أبيض للراعي يوسف وحماره (ممثِّل يحمل عصًا، عليها قناعُ حمار، مؤديًا دور حمار يوسف). هنا يقوم الضوء البسيط بأداء شخصية مريم العذراء حاملةً رضيعها على يدَيها، في حين جلسَت العذراء بالقرب من أحد البيوت الورقية الثلاث (التي قامت القبطان بإخراجها من مخلاةٍ، وتوزيعها على الأرض) وراحَت تهدهد وليدَها.
في النهاية يندفع من الباب (الذي يبدو في منتصف مؤخرة المسرح) بهاليل يرقصون مع الشخصيات في مرحٍ، ويقدِّمون حيلهم. يقوم الممثلون، بعد أن ينزعوا عنهم أقنعتهم، بتوزيع أرغفة الخبز التي خبَزَها شومان بنفسه على المشاهِدين.
بدَت هذه الخاتمة، بألعابِ السِّيرك، غيرَ مرتبطةٍ على نحوٍ مباشر مع الحكاية التي قدَّمها مسرح البيب تحت اسم «الضوء البسيط»؛ على أنها كانت تعبيرًا عن شكلٍ جديد للعرض المسرحي، الذي بدأ شومان في هذه الفترة في إعداده على نحوٍ نشيط. وقد أطلَقَ على الشكل الجديد للعروض اسمَ «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا». وقد شملَت هذه العروض عددًا من العروض، سواءٌ المسرحية منها أو الاستعراضية، التي عرَضَها وأسهَمَ في التمثيل فيها شومان ومساعدوه الدائمون والمتطوعون الذين دعاهم إلى المشاركة (كبارًا وصغارًا) على التوالي أمام المشاهدين، الذين جاءوا من كلِّ مكانٍ لمشاهدة مهرجانات بيب، التي كانت تقام يوميًّا في شهر أغسطس في ضاحية جلوفر التابعة لولاية فيرمونت. وقد انتقل شومان في السبعينيات إلى مزرعة زوجته في جلوفر للإقامة فيها بصفةٍ دائمة.
(٧-٤) «سِيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» في السبعينيات
تعود التجارب الأُولى لإنشاء «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» إلى عامي ۱۹۷۰م و١٩٧١م. وفي الحقيقة، فإنَّ مثلَ هذا النوع من أنواع «السيرك»؛ كانَ قليل العدد بوجهٍ خاص آنذاك. بالإضافة إلى أنَّ شومان كان يقصُّ حكاياته من خلال أقنعته، ويقدِّم عروضه في حضن الطبيعة أمام عددٍ كبير من الجمهور، من خلال موضوعاتِ مسرحه الرئيسية والمتمثلة في التاريخ المسيحي للعالَم، والفترة الانتقالية في تاريخ أمريكا وحتى الحضارة الحديثة المُعادية للإنسانية، في رأي شومان، ولكلِّ ما هو حي. افتُتح السِّيرك في عام ١٩٧١م برقصةٍ شاركَت فيها شخوصٌ ضخمة ترتدي أقنعةَ الملك ريتشارد (هو نفسه العمُّ فاتسو، وهو نفسه الرئيس نيكسون) وملكة جمال أمريكا، تظهر بعدهم شخصياتٌ أخرى (من المَلاك الجنتلمان والدجاجة المنزلية، إلى الشيطان والسيدة الأُولى وكولمبوس والعبيد). هؤلاء يقدِّمون رقصاتهم أمام الملك ريتشارد، وبعدها تبدو في فمه السيدة البيضاء الفيتنامية. يقوم المحارب العظيم ومعه جنوده والطائرة-القرش بتدمير الفلَّاحين المُسالِمين. تدور السيدة الأولى في حالةٍ من اليأس. ثم تأتي الخاتمة ممثَّلةً في العاصفة وسفينة الأمل الأخير.
(٧-٥) «هَلِلُويا» Hallelujah١٠٢⋆
وفي الفصل الثاني، الذي يبدأ عندما ينطق القائد كلمة «ولكن»، ثم يعرض الرسم المناسب، هنا يجسِّد قُوى الدمار قناعُ العمِّ فاتسو الذي يعتمر قبعةً مخططة بالنجوم، ومعه سيجار ثابت. قبضته العملاقة (يحملها ممثِّل منفصلةً عن القناع) تصيب الشخصية النسوية البيضاء. وبصرخةٍ مكتومة ترفع المرأة يدَيها، ثم تغلق عينَيها في حزن، ثم تُقعي على رُكبتَيها بوجهها إلى الأرض.
تلا «هَلِلُويا» موكبٌ استهلالي عُرض في عام ١٩٧٥م. من وراء التلال المُضاءة بضوء الشمس الغاربة «يحلِّق» سربٌ من «الطيور» الرائعة، يبلغ ارتفاع هيئةِ كلٍّ منها مترَين ونصف المتر، ويحرِّكها الممثلون على طاولاتٍ وهُمْ يرتدون ملابسَ حمراء فاتحةً تهفهف في الريح، وبرءوس-أقنعة وردية ممدودة، وعلى أثرهم يهرب المتطوعون حاملين زاناتٍ عالية، أطرافها متوَّجة بزهورٍ بيضاء وحمراء وصفراء ورايات، وأطفال يحملون أعلامًا صغيرة. تأتي بعد ذلك مجموعةٌ أخرى تدفع أمامها دميةً ضخمة على أربع زانات، يبلغ ارتفاعها ما يزيد على ستة أمتار، على وجهها ابتسامة، لها شَعر أخضر، ترتدي «رداءً» أبيض مزيَّنًا بالزهور، يداها منحوتتان من مادة «الصفيح». يقوم المشاركون في هذا الموكب بالقفز بالرايات التي يحملونها حول هذا النموذج الذي يجسِّد الطبيعة، بعدها يبدأ العرض فوق مرجٍ أمام مدرَّج طبيعي، مملوء بعدَّة آلاف من المشاهدين. والعرض مكوَّن من ثلاثة فصول؛ الأول: «عرض المائتي عام». الثاني: «الحيوانات والأكروبات». الثالث: «رقص الموت»، الذي حمَلَ هنا اسمَ «قاتل الحصان الأبيض».
(٧-٦) «عرض المائتي عام»
يقدِّم «عرض المائتي عام» نسخةً أخرى من إبداعات شومان لتاريخ أمريكا، يقوم بالأداء هنا شخصياتٌ يطلق عليها اسم الكنَّاسين، وهم أناس يرتدون أزياءً عمَّالية حديثة (جينز، أوفارول، سويتر، معاطف، وما إلى ذلك)، جميعهم يعتمرون طاقياتٍ خضراء فوق رءوسٍ-أقنعة، لها ملامح تعبِّر عن الغباء وطِيبة النفس. يقودهم مهرِّج متعدِّد الألوان له أنفٌ كبير من الورق المقوَّى بالغراء. يصرخ المهرِّج قائلًا: «في البدء خلق الإله الملكَ جورج الثالث.» وفي وسط حرسِ الشرف المكوَّن من الكنَّاسين، تظهر شخصيةٌ ترتدي رداءً أرجوانيًّا وتاجًا-لعبة موضوعًا على رأسٍ عبارة عن ثمرةِ قرع العسل، يتدلى من فمه الصغير لسانٌ أحمر. وهذه الشخصية تجسِّد العالَم القديم يجرُّ خلفه ثعبانًا أسْوَد بواسطة حبل. وعلى أثر ذلك، يخرج أحد العارضين مرتديًا قناع الملكة أنطوانيت بصُحبة حاشيةٍ من الفتيات الصغيرات. بعد أن يقوم بحركةٍ منفصلة تذكِّرنا برقصات البلاط، تجلس أنطوانيت على «العرش». يعلن المهرِّج عن خروج أشخاص من البلاط، يظهر قناع الكاردنيال ريشيليه مع الشخوص الصغيرة لشيطان ومَلاك؛ قناع الجنرال مارشاك، مع أوركسترا الأطفال، الجنود يعتمرون قبَّعاتٍ مثلَّثة على رءوسهم.
طوالَ فترة هذه الإجراءات، تظهر سيدةٌ بالقرب منها، على حافة المسرح ترتدي ملابسَ سوداء، تقود حمارًا ببطء على نحوٍ دائري (يقوم بالأداء هنا ممثل يختفي تحت ملاءةٍ رمادية يمدُّ أمامه عصًا على هيئة رأس حيوان).
بعد انتهاء حفل البلاط، الذي يؤديه — على نحوٍ ساخر وجروتيسكي — أربعةُ موسيقيين (يرتدون أقنعة وردية مثل التي يرتديها الكنَّاسون، والمُبالَغ في حجمها مقارنةً بأحجامهم البشرية)، ويعزفون بقيادة مايسترو. يعلن المهرج عن «معركة القرن»، حيث يخرج جامعو القمامة المحاربون المسحوقون وقد ارتدوا أقنعةً-رءوسًا سميكة، يمثِّلون «معركة»، ملوِّحين دون أن تتلامس أيديهم. بعد الضربة الأُولى، يسقطون على نقَّالات. يؤدِّي الكناسون دورَ طاقم سفينة كريستوفر كولومبس. يعلن المهرِّج عن اكتشاف أمريكا بعبارة: «الأرض. إنه تمثال الحرية!». عددٌ من الممثِّلين يحملون شخصيةً ضخمة للعمِّ فاتسو، الذي يمثِّل العالَم الجديد. يجثو كولومبس أمامهم على رُكبتَيه، وفي خضوعٍ يتناول لعبةً من النجوم وشريطًا. يرتفع عَلَم الولايات المتحدة الأمريكية بنجومه وخطوطه على نحوٍ احتفالي على قمة الصاري. العم فاتسو ومساعده يحتلان مكان الملك والملكة. يقوم العازفون بإنزال الأقنعة-الرءوس على الأرض. ومن خلف ظهور المشاهدين، يظهر على التل راعي بقرٍ متهورٌ يمتطي عصا لعبةٍ لها رأس حصان. يقفز إلى خشبة المسرح صائحًا: «البريطانيون قادمون!»، يظهر مروِّض الوحوش بصحبة ثلاثة دِببة (يقوم بدورهم ممثِّلون يرتدون أقنعة)، لدى اثنَين منهما آلتان موسيقيتان، ويمسك الثالث بعَلَم مسرح بيب. تخرج الدببة عن سيطرة صاحبها وتأخذ في مطاردته.
يعلن المهرج عن موضوع الحكاية التالية من تاريخ أمريكا: «طلقات نارية تدوي فوق العالَم». شخصية ضخمة في زيٍّ مُموَّه يحركها اثنان من الكناسين. وعلى صوتِ أنينِ جوقةٍ مرتفع، تُطلِق الرصاصَ من بندقيةٍ قديمة على المَلَاك الفيتنامي؛ هو نسخةٌ أخرى من شخصيةِ الليدي البيضاء، لها قناعُ وجهٍ ميت ويدانِ بيضاوان ضعيفتان. تهبط، تنحني، تنزل على الأرض ببطء حتى تتوقف عن الحركة. امرأة في ملابسَ سوداء (تواصِل طَوالَ هذا الوقت الدورانَ ببطءٍ حول محيط خشبة المسرح)، ترفع بحذرٍ المَلَاكَ المقتول، الذي يخرج مغادِرًا حدودَ هذا العالَم.
الموضوع الأخير في مسرحية «عرض المائتَي عام» يدور حول قاعِ حياةِ أمريكيٍّ معاصر من الطبقة الوسطى. يعلن المهرج قائلًا: «شروق الشمس.» ويعرض لوحةً من الكارتون، عليها رسمٌ مطابق لمَا أعلنه. ثم يقول: «قهوة.» مع ظهور رسمٍ يعبِّر عن شرب القهوة في الصباح، مطابِق للمشهد الذي يؤديه ممثِّلون يرتدون الأقنعة — «عَمَله». تخرج شخصيةٌ في قناعٍ تحمل لوحةً مكتوبًا عليها: «الرئيس» يُعطي أوامر. وهنا يأخذ كنَّاس مفتاحَ صماويل من الصندوق. في مشهدِ «الساعة الخامسة مساءً» يضع الكنَّاس على رقبته رخصةَ قيادةِ سيارة، بعد ذلك يقوم بأداء أكشن «إنه ذاهبٌ إلى المنزل …» و«في المنزل» يستقبله كائنٌ «على هيئة وحش» له رأس ضخم وفم ذو أنياب، هذا الكائن لِزوجةٍ، تحتضنه في حنانٍ وتدور معه في رقصة. في المشهد الأخير، مجموعةُ أطفال (ترتدي أقنعةَ رجال شرطة ولصوص، هُنود ورعاة بقر) تطلق الرصاص على العمِّ فاتسو، الذي يهرب تاركًا مكانه للمهرجين.
في الفصل الثاني — «حيوانات وأكروبات» — تمرُّ أمام المشاهدين سلسلةٌ من العروض تؤديها شخصيات ترتدي أقنعةً متنوعة تشارك في «السيرك المنزلي». بالإضافة إلى المهرجين، كان هناك القفَّازون والتنانين (يؤديها عددٌ من الممثلين)، زرافات (على عصيٍّ طويلة)، صقر أسْوَد جالس القرفصاء، راح يفقس ذريته التي بدَت على هيئة طيور صفراءَ فاتحة جارحة، دببة، خيول بيضاء. يقوم شومان بمصاحبة الجميع في أداء رقصته الختامية واقفًا على عصًا طويلة مرتديًا (أوفارول) أحمر مخططًا وقد قاد وراءه الممثلين والكنَّاسين وهم يلوِّحون بأعلامِ مسرح بيب.
(٧-٧) «قاتل الحصان الأبيض»
الحمار الذي تقوده امرأةٌ منتقلة من «عرض المائتَي عام»، ترتدي ملابسَ سوداء وخمارًا، يحمل دميةَ شخصيةٍ بيضاء (مرفوعة على الحمار بواسطة عصًا طويلة) في قناعٍ أبيضَ ذي ابتسامةٍ حزينة. تعبُر الشخصية البابَ، وتجلس إلى المائدة. تبدأ في الكتابة على ورقةٍ كبيرة. يُطرق الباب؛ فتنهض وتسمح بالدخول لرجُلٍ يرتدي قناعًا على هيئة جمجمةٍ، ويضع أمامها حجرًا ثقيلًا. تجثو على رُكبتَيها ببطء وتميل نحو الأرض، وتتوقف تمامًا عن الحركة. تقترب منها المرأة ذات الملابس السوداء؛ لكي تنثر عليها حفنةً من تراب الأرض على نحوٍ طقسي. وعلى نحوٍ موازٍ لهذا الأكشن، يظهر في عمق المسرح على قمة التل قطيعٌ من الأيائل الجميلة البيضاء بلون الثلج (مجموعة من العارضين جمَعَها شومان بمساعدةِ قطعةِ قماش تغطِّيهم وقد ارتدوا أقنعةً ذات قرونٍ متشعِّبة). ترقد الأيائل على الأرض بعد أن تقوم بعددٍ من الدورات، تتقارب بعضها من بعض، ثم تستسلم للموت في الوقت نفسه الذي تموت فيه الشخصية النسوية البيضاء. بعد ذلك، تُبعث هذه المرأة من الموت، فتنهض وتؤدي رقصةً رشيقة على العصا ثم تختفي.
يظهر الحصان الأبيض الذي يمثِّل الشخصيةَ الرئيسية. يقوده عارضان متخفِّيان تحت «مؤخرته». يرقص الحصان بأقدامٍ بشرية، هي أقدام العارضين، مقتربًا من شخصيةِ طفلٍ له وجهُ رجُلٍ في منتصَف العمر، أحضره إليه المالك، الذي هو السيد ذو القناع الجمجمة. «يغطِّي» الرجُل عيون الحصان بضمادةٍ حمراء ويُجبره على الجثوِّ على رُكبتَيه، وعندما ينهض الحصان محاوِلًا الهروبَ يقوم الخَدَم بقمعه، ثم يقتلونه.
يصل المَلَاك الأبيض على عربةٍ تجرُّها الثيران؛ شخصيةٌ نسوية لها وجهُ امرأةٍ فيتنامية (تشبه تلك المرأة التي جاءت على حمار، والتي قتلها الرجُل ذو القناع على هيئةِ جمجمة الموت). وبينما راحَت العربة تدور دورةً بطيئة على الأرض، حيث يرقد الحصان الأبيض في منتصفها، كانت طيورٌ ضخمة بأعيُنٍ مغلقة حزينة «تحلِّق» فوق التلال على عصًا. يقترب المَلَاك سائرًا على عصًا من الحصان المقتول. يقف فوقه (بحيث تحيط العصا «بمؤخرته»). وهنا تحدُث معجزةُ البحث، فينهض الحصان ويتحوَّل المَلَاك الواقف فوقه إلى «فارس». يقوم الحصان والفارس اللذان تحوَّلا إلى كيانٍ واحد بأداءِ رقصةٍ سعيدة مبتهجة.
وقد عُرض موضوع «قاتل الحصان الأبيض» عدَّة مرَّات، مع إدخالِ عددٍ من التغييرات، وكذلك عُرض ضمْنَ عروض «سِيرك النهضة المنزلي» في العامَين التاليَين، كما جرى تقديمه كعرضٍ مستقل، وعلى خشباتٍ مسرحية عادية. وقد شاهَدَ جمهورُ موسكو إحدى نُسخ هذا العرض، عندما جاء مسرح البيب إلى روسيا عام ١٩٨٨م للمرة الأُولى في جولةٍ فنية.
وفي هذه النسخة التي عُرضَت على خشبةِ مسرح تاجانكا القديمة، يقوم السيد (الذي يرتدي بدلةً زرقاءَ وقناعَ الموت الأبيض) بتحريضِ قطيعٍ من الكلاب السوداء على الحصان الأبيض (هذا الكائن الخلَّاب الذي يرقص بسعادةٍ على أربع أرجُلٍ بشرية حافية). وقد ربَطَ السيد رقبةَ الحصان بحبل، وعصب عينَيه برابطةٍ حمراء، وأخَذَ الجميع في ضربه. جلَسَ السيد ذو البدلة الزرقاء إلى جانب الحصان المقتول وقَدْ خَمدَ «جسَدُه» عن الحركة. ووضَعَ فوطةَ مائدة، ثم تناوَلَ سكينًا وشوكة وشرع في الأكل. استمرَّ الأكل إلى أن وصلَت ثلاث عاملاتِ نظافة (يضعْنَ على رءوسهنَّ إيشاربات؛ أقنعة تعبِّر عن تعاطُفهنَّ الحزين). تقوم العاملات بكَنْس القاتل الأزرق من على المسرح بالمكانس، ثم يُجرينَ مراسمَ وداعِ الحصان الأبيض.
وللقيام بعَرْض أكشن البعث؛ يظهر هنا المَلَاك الأبيض واقفًا على عصًا طويلة. وبعد أن يؤدي رقصةً ملهمة، يقف فوق جسَدِ الحصان المسجَّى، ويصفق بكفَّيه، فتدبُّ الحياة بشكلٍ فانتازي فيه، ويهبُّ واقفًا على قدمَيه حاملًا فوقه الفارس المجنَّح.
(٧-٨) «جان دارك»
إبَّان جولته الفنية التي قام بها شومان في موسكو، قدَّم عرْضَ «قاتل الحصان الأبيض» في الليلة نفسها التي عرضَ فيها «جان دارك»، وهي المسرحية التي كان قد أعدَّها لمسرح «السِّيرك» عام ١٩٧٧م. وكانت «جان دارك» تُعرض في نهاية برنامج «السيرك». وقد شاهَدَ الجمهور قبلها «هَلِلُويا»، وكذلك بعض عروض الفواصل المسرحية (كان من بينها مسرحية «الرجُل الذي يقول لأمِّه إلى اللقاء»)، ثم شاهَدَ موكبًا كرنفاليًّا، موضوعه الرئيسي تراجيديًّا «مازانيللو»، وكذلك عرض «كارمينا بورانا»، في حين يمثِّل الكنَّاسون وقد ارتدوا أقنعةً من تصميم شومان. كانت كلُّ هذه العروض تبدأ منذ الثانية ظُهرًا حتى يحل الظلام، وتُقدَّم بصورةٍ أساسية في حديقةٍ أمام مدرَّج. كانت مسرحية «جان دارك» تبدأ في التاسعة مساءً وتُعرض على خشبةِ مسرح مبنيَّةٍ في غابةٍ من أشجار الصنوبر.
على هذا النحو، بدَت المسرحية عندما جاء بها شومان إلى موسكو بعد مرور أحَدَ عشر عامًا ليعرضها على خشبةِ مسرح تاجانكا التي تشبه الصندوق. وكان أول ما رآه الجمهور هو الأوركسترا الواقفة عند الجانب الأيسر على هيئة ملائكةٍ ذات أجنحةٍ بيضاء يقودها شومان نفسه. كان شومان يعزف على الكمان ويُعلن عناوين المَشاهد. عدا ذلك، لم يكُن هناك نَص لهذه المسرحية؛ فقَدْ جُسِّد العمل من خلال الحركة والفعل البصري.
«في المشهد الأول تشاهدون كيف يُطرد الناس من بلادهم.» هكذا يُعلن شومان. تُفتح ستارةٌ بيضاء من التيل، على الخلفية منظرٌ ريفي (تلال مدينة فيرمونت، بيوت)، ثلاثة شخوص لا ملامحَ لهم، يبدُون ضخامًا جدًّا مقارنةً بدُمى الفلَّاحين الراقدين على الأرض والحيوانات المنزلية. تقوم هذه الشخوص وهي تهزُّ مقشاتها بكنس هذه الدُّمى من خشبة المسرح وكأنها مجرَّد قمامة.
ثم يعلن شومان عن المشهد التالي بقوله: «حلَّ الحزن في بيوت الناس.» وهنا يشاهد الجمهور شخصيتَين بارتفاعٍ إنساني؛ إحداهما لها وجه الشمس تدور في رقصةٍ بطيئة، والأخرى جاثية على رُكبتَيها، لا ملامح لها، تضع على كتفيها قناعًا على الرأس يشبه بيتًا ريفيًّا. يدوي الرعد. تنهض الدمية ذات الرأس على شكل البيت الريفي رافعةً يدَيها في يأس. يخرج زوجُ الأحذية السوداء، الموضوع عند مقدمة المسرح، متَّجهًا إلى اليسار، الفردة الأولى أولًا، ثم الثانية بعدها. «تنثُر» الشمس عليهما مطرًا من أوراقٍ بيضاء.
يعود شومان ليعلن عن المشهد التالي بقوله: «صوتٌ من السماء يتحدث مع المطبخ.» على خشبة المسرح تظهر جان دارك وقد تغطَّت تمامًا من قمَّة رأسها إلى أخمص قدمها بقماشٍ من التيل الأبيض وقد جثَت على ركبتَيها وراحت تمسح الأرض. صوتٌ يدوي من السماء (صوت بوقٍ ينفخ فيه شومان). لكنَّ جان لا تسمع رنينَ صوتِ أدوات المطبخ، ولا صوت شومان نفسه. فقط عندما يظهر من الكواليس الأيمن قناعُ أوخا الكبير، تتوقَّف عن الحركة. الآن يصل إلى سمعها الصوت السماوي؛ فتشعر أنها مستعدَّةٌ للعمل.
يبدأ بعد ذلك مشهد التتويج. يُوضع فوق رأس الرجُل الطامع للعرش تاجٌ ورقي صغير (هذا الرجل يلعب بكُرة أطفال حمراء، وهو يمثل حيوانًا بحريًّا ذا ملامح غبية، يرتدي قميصًا طويلًا، وله أنفٌ وشارب زائفان).
شومان يُعلن: «جان … السجن … ١٤٣٠.» في فضاءٍ تحيطه حيَّات تتلوَّى (مرسومة على الجدران)، نرى دميةَ البطلة وقد ربطها بالحبال ثلاثة مراقِبين (وهُمْ دُمًى رمادية اللون ترتدي قلنسوات تغطي الرأس والوجه)، بعد ذلك يقوم المراقب الرابع بتعذيبها بالعطش جالسًا على كرسي بلا مَسْند، وعندما تحاول جان أن تمدَّ يدها لتشرب من القصعة الموجودة على الأرض؛ تُبعد عنها بصفارة من المراقب.
في «محكمة التفتيش المقدَّسة» تتجمع حول البطلة شخصياتٌ ذات أقنعة كبيرة، أربع آذان، وأنفَين. يتنصتون، ويتشممون. ينبطحون على الأرض. من مختلف الجوانب، من الفتحات والشقوق بين الجدران، تخرج رءوسٌ سوداءُ مسطحة ترتدي نظَّارات، وهؤلاء هم القضاة. تمتلئ الخشبة بموكب من الشخصيات السوداء لها وجوهٌ مرسومة على نحوٍ رديء على رزمٍ ورقية موضوعة فوق رءوس العارضين. وتزحف «الخنازير» البرية والوحشية. وعلى الجدران تتراقص الهياكل المرسومة، يقودها زعيمٌ يرتدي بدلةً مدنية وربطةَ عنق، وعلى جمجمته تاجٌ. يتمُّ عرض أكشن إعدام البطلة. يقوم معذِّبوها بنزع الرزم الورقية من رأس الوجوه الرديئة وينشرونها. لا يتبقَّى على المسرح الخاوي سوى دميةِ جان ملقاة على الأرض بلا حراك. لقد صعدَت الآن إلى الفردوس، تحيطها عدَّة وجوه-أقنعة بيضاء مرسومة على الكارتون (يحمل العارضون أمامهم هذه الوجوه على عصيٍّ). هذه الوجوه التي انعزلَت عن كل ما في العالم؛ تجسِّد نماذجَ الرُّوح الطاهرة والمقدَّسة. هذا القناع نفسه الموضوع على عصًا، يمنحه شومان لجان. تنهض جان وتنضمُّ إلى المجموعة، تصدر المجموعة ألحانًا فرِحة من العالَم الآخَر، وتبدأ في الصعود إلى أعلى تدريجيًّا ببطء، إلى أن تتوقف مكوِّنة الميزانسين الختامي.
(٧-٩) «مازانيللو»
يرافق المَلَاك الحارسَ مازانيللو في كلِّ لحظة من لحظات حياته (وهو في الوقت نفسه مَلَاك الموت)، ويبلغ طوله أربعة أمتار، يرتدي بدلة رجُل أعمال سوداء.
يصل ملَك الموت في الافتتاحية إلى الأم قبل أن تلد مازانيللو في لحظة ركوعها في الصلاة، ثم يُسقط على رأسها حمامةً بيضاء من الورق. تنهض الأم وتسحب حبلًا من أسفل تنورتها ينتهي بدُمية ترتدي بنطلونًا لونه أحمر، وتضع قناعًا رثًّا لمهرِّج. وعلى ألحان أوركسترا شومان وأشعار أغنيةٍ إيطالية شعبية قديمة عن مازانيللو يؤدي المولود رقصة. بعد ذلك، تقدم أربعة عشر يومًا من حياته، يعلن قائد الفرقة عن كلِّ يوم منها بصوتٍ مرتفع، ويسبق ذلك عرضٌ للصور.
«في اليوم الأول، يقوم مازانيللو بصيد السَّمَك.» وبعد عدة محاولاتٍ فاشلة يصرخ «الصياد» فرحًا وهو يسحب بالحبل قدرًا (وقد اشتبكَت أمُّه) «بصنَّارته» (دون أن يلاحظ ذلك). «في اليوم التالي، يبيع مازانيللو السَّمَك.» تظهر دميةٌ كبيرة للحاكم المدعوِّ هيرتسوج؛ فيأخذ كلَّ السمك الذي صِيد. يذهب الحاكم إلى بيت الصياد، وفي اليوم الثالث يطلب ضرائبَ على كلِّ السمك الذي صِيد، لكنَّ مازانيللو يثور على الحاكم ويرشقه بالملاعق. وفي اليوم الرابع، يسير مرتديًا قناعًا يعبِّر عن المعاناة (يبلغ حجم القناع في هذه المرة ضعف القناع السابق الذي كان يرتديه عندما كان صيادًا). ثم يسير منحنيًا عابرًا طريق الصَّلب، ساحبًا عجلة العذاب. لكنَّ الملاك الأسود ينزع عنه العجلة، يسقط مازانيللو ثم يعود من جديد في هيئة الصيَّاد-المهرِّج. يحيط به الشعب من كلِّ جانب (العارضون يمسكون عصيًّا، كلٌّ منها عليه قناعان-وجهان). في اليوم الخامس، يلقي مازانيللو خطابًا غاضبًا للشعب. وفي اليوم السادس، يتحول إلى أسد (أو إلى تنين من أوبرا بكين)، وقد استدار بقناعه المربع ذي الأنياب مهدِّدًا، صارخا مثيرًا ضجة في الجمهور. في اليوم السابع، يعود مازانيللو مرةً أخرى إلى هيئته البشرية، وفي هذه المرة يظهر بوصفه قائدًا للشعب، رافعًا فوق رأسه علَمًا أحمر وهو يقود خلفه الشعب الثائر.
يعلن القائد: «لقد تلقَّى مازانيللو في اليوم الثامن دعوةً لزيارة قصر نائب مَلِك مدينة نابولي العظيمة.» نقَلَ هذه الدعوة المَلَاك الأسْوَد. تقوم الأم بإلباس زعيم الشعب الملابس الاحتفالية، وتعطيه آلة الماندولين، يتوجه بعد ذلك إلى القصر ليشارك في موكب يرتدي فيه أرستقراطيُّو البلاط أقنعةً جروتسكية دميمة. وفي اليوم التاسع، يتحول مازانيللو إلى عملاق (يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف المتر) دكتاتور بوجه ستالين وشاربه، تقوم جماهير الشعب برفعه على زانات، في حين يروح يهدِّد الناس ملوحًا بسيفٍ زائف. وفي اليوم العاشر، يقوم بإعدام النبلاء المهزومين.
(٧-١٠) «فولكنشتاين»
تظهر أمام المشاهدين مَشاهد تمثِّل مراحلَ مختلفة من حياة فولكنشتاين: الميلاد. الطفولة، عندما فقَدَ عينَيه وحصَلَ من الملاك على يدَين صغيرتَين (عوضًا عن اليدَين الكبيرتين بشكلٍ مفرط واللتان وُلد بهما). الترحال، يتولى «قيادته» قناع المصير، الذي غزَلَ خيوطَ حياة فولكنشتاين من خلال اللقاء الذي تمَّ بينه وبين تشوما (الطاعون) (يظهر هنا على شكلِ شخصٍ يرتدي هيكلًا عظميًّا يُمسك في يدَيه بطائرةٍ خشبية)، وأيضًا اللقاء مع دُمًى لفلَّاحين يحدِّثون «أرض الموت»، وقد ارتدوا أقنعة-جماجم وملابس مغزولة في البيوت. تُنقذ الزوجة الشاعر الذي لا مأوى له، وهي امرأةٌ شعبية بسيطة تعمل غسَّالة، وقد اعتنَت به وأجلسته إلى مائدةٍ كبيرة وأطعمته وسقته، وعندما حانت لحظةُ موته ألبسته ثوبًا أبيضَ وقادَته إلى السماء، وفي الوقت نفسه اختطفَت الشياطين أقنومَه الآخَر الطائش والمنهمك في الملذات، وألبسته ثوبًا أحمر، واقتادته إلى الجحيم. وفي الخاتمة، تظهر شخصية الآلهة العملاقة، التي تمثِّل الأم الأرض (يديرها عددٌ من الممثلين). تقوم برقصةِ البِركة وهي مُحاطة بالنجوم، بعدها يتجمع الشياطين والغسَّالات ويسيرون معًا في موكبٍ خلف حدود خشبة المسرح. يختتم العرض بحركةٍ بطيئة لسفينةٍ كونية شراعية، تحلِّق فوقها طيورٌ بيضاء، تتحرك على زاناتٍ يحملها ثلاثةُ مؤدِّين يهرولون.
يُعلن شومان للمرة الأُولى عن شخصية الغسَّالة، وهي المرأة البسيطة الكادحة، والتي تحافظ على أساس البيت، والتي تميزَت بقناعٍ له ملامحُ طيبةٌ قنوعة بوصفها واحدةً من أهم الشخصيات الرئيسية في «فولكنشتاين» (والنظير النسوي للكناسين)، وقد خرجَت هذه الشخصية إلى المقدمة في عرض «السيرك» عام ١٩٧٩م، وبعد ذلك في عددٍ من المسرحيات التي عُرضت في الأعوام التالية.
(٧-١١) «الغسالة – عيد الميلاد»
يعدُّ عرض «الغسالة – عيد الميلاد»، ومدته ساعة ونصف الساعة، هو المسرحية الرئيسية من عروض «سيرك ٧٩». فيما بعد قدَّم مسرح بيب العملَ على نحوٍ منفصل (ومثل الموضوعات الأخرى التي عُرضَت على الجمهور بصورةٍ إضافية، جرى عرض مسرحيات الفواصل الليلية في الغابة)، على سبيل المثال: عرض «الغسالة – أخ!». وفي هذه المرة، قصَّ شومان حكاية عيد ميلاد المسيح بوصفها حكايةً عن غسالة تجسِّد كلَّ نساء العالَم.
كيف بدَت هذه المسرحية (في إحدى نُسَخها التالية التي عُرضت لا في الهواء الطلق، وإنما في مبنى الكنيسة التذكارية المغلق، والتي وصفها س. بريخت بالتفصيل).
يفتتح العرض المسرحي مجموعةٌ من النساء الكادحات يَضعْنَ أقنعةً نحتية كبيرة الحجم لا تتناسب والشخوص التي يحملها عارضون حقيقيون يرتدون تنوراتٍ واسعةً فوقها مرايل مطبخ. تقوم النسوة بعملهنَّ اليومي المعتاد: إحداهن تغسل، والأخرى تقوم بعصره، وثالثة تعلِّق الغسيل على الحبل. تظهر عذراء ضخمة (مادونا) بوجهٍ ذهبي تحمل على يديها وليدها الذهبي. تقودها بعض الممثلات المختبئات تحت تنورةٍ؛ بحيث لا يظهر منهنَّ سوى أقدامِهنَّ. تدور المادونا في حركةِ رقصة الفالس البطيئة. تهرع إليها الغسَّالات. يرفعن طرَف التنورة. فتظهر عندئذٍ غسالةٌ أخرى لها نفس ملامح الوجه التي لدى الأخريات، إلا أنَّ وجهها يكتسب لونًا أزرق شاحبًا مع حركةٍ أكثر رشاقة. هذه ماريا-مادونا ريفية حقيقية، التي ولدَتها، في حكاية شومان، المادونا الضخمة، والتي تحلِّق في هذه اللحظة مغادِرةً حدود فضاء المسرح.
خبرٌ سار يحمله ملاكٌ صغير بوجهٍ جانبي مستدير وشَعرٍ أزرق. وبعد أن يختفي، يظهر ملاكٌ آخَر كبير الحجم. يصعد مؤدٍّ إلى وجهه بواسطة سلَّمٍ متحرِّك ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف المتر، ويجذب من الوجه خيطًا مربوطًا بقلب الغسَّالة ماريا، التي تحلِّق فوق رأسها حمامةٌ بيضاء محيطيةُ الشكل تمثِّل الرُّوح القدُس (تديرها على حبلِ فتاةٍ صغيرة). التكوين البصري الأخير في هذا الفصل من المسرحية، يتمثَّل في غسَّالةٍ ضخمة ترفع بِيدٍ كبيرة طرَفَ مريلتها (بمساعدة زاناتٍ يحملها اثنانِ من المؤدين) ثم تُدخلها أسفل تنورة ماريا، في حين يحمل ثلاثة مؤدين خواص حياةِ البطلة: منزلها، وقلبها، وكتابها.
يبدأ الفصل الثاني من مسرحية «زمن الملك الطاغية» بظهور شخصيةٍ ترتدي قناعًا فضيًّا، وتُمسك سيفًا في يدها. يصبح الشعب هدفًا للقهر والعدوان. يصوَّر الشعب في المسرحية على هيئة أقنعةٍ كبيرة مذعورة، وجوهها التي جاءت على شكل نصف بشَرٍ ونصف حيواناتٍ تبدو مشوَّهةً من الرعب. يمسك المؤدون بالأقنعة، تارةً يرفعونها، وتارةً أخرى يخفضونها. يتجمع الشعب في جماعةٍ سرعان ما تتفرَّق عندما يسلِّط المعتدي سيفَه عليها. يسقط الشعب على الأرض، ثم ينهض، ثم ما يلبث أن يتجمَّع مرةً أخرى في جماعة، ويقود قناعًا كبيرًا للملك الطاغية. يقوم شيطانٌ صغير أسْوَد بربطِ منزلٍ صغير نُزع من الغسَّالة ماريا إلى قناعِ الملك، التي ترفع يديها إلى السماء في إشارة إلى اليأس، ثم تهبط راكعةً على الأرض.
في الفصل الثالث من مسرحية «ثلاثة ملوك من الشرق»، يقدِّم شومان مشهدًا رائعًا ذا طابعٍ شرقي؛ قناعًا ثلاثيَّ الرأس للملوك يقوم بتتويج شخصيةٍ عملاقة، وجهًا أحمر مبتسمًا لنجمٍ راقص يرتفع على زانات، نجومًا ومذنبات أخرى مختلفة (صفراء، أرجوانية، فضية)؛ وكلٌّ يرقص على طريقته في رسمٍ وإيقاع تشكيليَّين.
في الفصل الرابع من مسرحية «الميلاد»، تخرج الغسَّالة ماريا حاملةً حقيبة يصحبها ثمانية مؤدين، سبعةٌ منهم يحملون لوحات عليها مناظر للتلال، ويحمل الثامن بابًا. تقترب ماريا من الباب عبْرَ «المناظر» المجمَّعة على الأرض. تقرع الباب عدَّة مرات. لا أحد يُجيب. يختفي الباب والمناظر الطبيعية. تجلس ماريا على الأرض، تتوقف عن الحركة. وإلى جوارها ترقد شخصيةٌ ضخمة للغسالة بعد أن تستيقظ ماريا؛ ترتدي فستانَ الغسَّالة، ومنه تظهر بعد فترة من الوقت مُمسكةً برزمةٍ بيضاء في يديها.
يغطي ساحة العرض مشمَّعٌ أسْوَد. ثم يبدأ الفصل الخامس والأخير من مسرحية «مقتل الأبرياء». يتحوَّل المشمَّع الأسْوَد إلى بحرٍ مضطرب الأمواج يتحرك، وبداخله «تغرق» شخصياتُ الشعب وقد علا الأسى وجوهها. يحلُّ مشهد الهروب إلى مصر محلَّ مشهد الكارثة الكونية: ماريا ووليدها على يديها، والظِّل الدائري لحمارها (يحركه مؤدٍّ يتخفَّى في «جِلد حيوان»). بعد ذلك، يظهر أمام المشاهدين ثماني غسالات جميعهنَّ صِغار الحجم، ولكنَّهنَّ يضعْنَ أقنعة. رءوسٌ كبيرة الحجم لا تناسب أحجامهنَّ. كلٌّ منهنَّ تهدهد طفلًا. تنهار الحياة الآمنة بظهور الشياطين ذوي اللونَين الأبيض والأسود وقناع رُوح العدوان بلونه الفضي ووجهه الصارخ وقد رُفع على عصًا طويلة. وبعد أن ينتزعوا الأطفال من أيدي النساء يلفُّونهم في لفافةٍ ثم يأخذونهم.
يحتشد فضاءُ المسرح بموكب الهياكل الشريرة وعلى رأسها قناع الموت العملاق موضوعًا أعلى هيكلٍ عظمي لجواد. تنتهي المسرحية بظهور مَلَاك السلام (الذي ظَهَر في الفصل الأول بوصفه مَلاكًا للخير). على صليل الأجراس، ترتفع هيئته البيضاء فوق المكان أعلى فأعلى، مدافِعًا عن الشخوص البيضاء للشعب، مبارِكًا إياهم.
في عام ١٩٨٠م، لم يعرض «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا»؛ ومن ثَم فقد جرى تقديم عددٍ من العروض الجديدة، التي قُدمَت بوصفها مسرحياتٍ منفصلة. من بين هذه العروض، كان هناك مسرحيتا «كمبوديا»، و«أزمة الصواريخ الكوبية»، والتي استمرَّ تقديمها في مادةٍ جديدة حيَّة موضوعها الرئيسي هو مسرح الفنان الخاص بشومان، وفحواه النضال ضدَّ الحرب وضدَّ كلِّ أشكال العنف والقتل. وفي الوقت نفسه، عُرضت إحدى المسرحيات المنبثقة من هذا العدد من الأعمال، والتي طرَحَت تأملاتِ شومان بشأن الحياة على مستوى موضوع الإبداع الأسطوري.
(٧-١٢) «هينوس تُولد من الماء»
ترتدي الشخصية التي تقود العرض قناعًا أزرق العينَين وبدلةَ قبطان بحري. المضمون البصري للمشهد يعبِّر عن ميلاد كائنٍ ضوئي (يأخذ شكلًا مستديرًا مخروطيًّا مصنوعًا من أسلاكٍ مجدولة يبلغ طوله مترًا ونصف المتر، وبداخله لمبة) يخرج من تحت رداءٍ أبيض «إكليلي» يرتديه تمثالٌ له قناعُ شابٍّ ذي ملامحَ ساكنةٍ خالية من الحياة. هذا المولود الضوئي تقوم على هدهدته ساحرات-قابلات سُود، يضعْنَه في علبةٍ من الصفيح. ثم تولد فينوس التي تظهر من قماط ستائرَ بلاستيكية. ترتفع إلى أعلى الواحدة بعد الأخرى أقمشةٌ بيضاء، ثم تسقط على هيئةِ رغوةٍ دائرية. تظهر أمام المشاهدين فتاةٌ بدينة لا تتمتع بقوامٍ مثالي (على شاكلة رسوم عصر النهضة)، قصيرة القامة من طراز غسَّالات شومان، تضع في يديها قفَّازاتِ عملٍ وقناعَ مبارزة على رأسها. تأخذ الشخصية في «السباحة» (محرِّكة يدَيها بأسلوبِ سباحة الصور) في خِضمٍّ من أمواجٍ من قماشِ التل الأزرق، الذي يعلو ويعلو حتى يصل إلى مستوى قرصِ شمسٍ مرسوم.
في الختام، تظهر فينوس كلُعبةٍ وردية تتغطَّى بملاءةٍ بيضاء، تعود لتغطس مرةً أخرى في «أعماق المياه»، تمتطي تنينًا ذا رأسٍ أحمر ثم تختفي في الظلام.
وفي سهرةٍ واحدة عرَضَ شومان «فينوس» مع التكوين المسرحي المسمَّى «جويا»، والذي أُدرج بعد ذلك في البرنامج التالي ﻟ «سيرك ٨١». وقد قدَّمت «التماثيل التي عادت إلى الحياة» بمصاحبة الأقنعة عرضًا على موضوعات «كابريتشيوس» بالألوان المائية. فعلى خلفيةِ منظرٍ طبيعي ريفي، يغتصب شياطينُ حربٍ لا ملامح لهم، يغتصبون ويقتلون، الآمِنين من الفلَّاحين والعجائز والنساء والأطفال والحيوانات. وقد راح فنانٌ عجوز (دُمية صغيرة ذات شَعر أشيب) يجلس على كرسي هزاز معلَّق فوق خشبة المسرح في مراقبة هذه المأساة. وفي ختام العرض، يهبط الفنان إلى مقدمة المسرح، حيث تتحوَّل تهيؤاته (كما يفسِّرها شومان) — شخصياتِ حُلم العقل — إلى وحوش وشياطينِ الحرب لتؤدي رقصتها.
(٧-١٣) «فويتسيك» و«الرجل المائل»
قام شومان، بعد مرور شهرٍ من تقديم «جويا»، أي في مارس ۱۹۸۱م، بتقديم مسرحيةٍ من نوعٍ جديد تمامًا بالنسبة إليه، تسمَّى «فويتسك»؛ أثبَتَ فيها أن مسرح الفنان عنده قادرٌ على أن يحكى موضوعات حتى من ريبيرتوار المسرح الواقعي النفسي.
وقد دُعي ممثِّل الدراما ج. بارتينيف ليؤدي الدور الرئيسي. وقد احتاج شومان في هذه المرة إلى وجهٍ طبيعي حي، بوصفه نقيضًا معبِّرًا يقف في مواجَهة وجوه أقنعة «التماثيل التي عادت إلى الحياة»، وذلك من أجل بناء التكوينات البصرية لهذه المسرحية.
وقد ظهَرَ وجه بارتينيف الطبيعي الحي فجأةً أمام المشاهدين (الذين اعتادوا أن يشاهدوا في عروض بيب فقط الوجوهَ التي نحتها الفنانون) في المنظر الأول عندما قام الممثل الواقف خلْفَ ظَهْر فويتسك الجالس على كرسي وقد أمسَكَ أمامه بقناعِ الوجه ثم نزَعَه عنه بغتةً. ومنذ هذه اللحظة، أصبح وجه الممثل هو الذي يؤدي وظيفةَ القناع الأكثر تعبيرًا، أصبح هذا الوجه الطبيعي الذي يبدو منحوتًا، شاحبًا، قاسيًا، بشفاهٍ مزمومة وعيونٍ شديدة الانتباه، ولكنْ هذه المرةَ ليس بفضل شومان، وإنما بفضل طبيعة الوجه نفسه، وفنِّ الممثل، وكذلك يداه اللَّتان تؤديان، على الرغم مما يبدو من بساطة، وإن كانت تبدو تمامًا، وكأنها موصولةٌ بالخيوط، أو منحوتة، وهي تؤدي حركاتٍ وإيحاءات طقسية ذات مغزًى، بغضَّ النظر عمَّا تفعله الشخصية: تخيط معطفًا عسكريًّا، أو تنظِّف حذاءً (والتي تغادر المسرح بعد ذلك تلقائيًّا)، أو تأكل حمصًا من طبقٍ ورقي، أو تشرب من كوبٍ ورقي كبير. وفي لحظةٍ ما، تظهر من وراء ظَهْره أقنعةٌ ضخمة بنِسَب متفاوتة (أكبر من رأس الممثِّل ثلاث مرَّات) يحملها ممثلون يختفون وراءها. هؤلاء هُم قرناء فويتسك وظِلاله والتجسيد البصري لحالته النفسية، يحيطون به ويتتبعونه، ويتقافزون ببطءٍ، يدورون حوله، ويراقبون كيف يُصدر أوامرَ التدريب القاسي للجنود وقد أخَذَ به التعب. وعندما يرتكب فويتسك جريمةَ قتل ماريا يُسحب خارج خشبة المسرح. وهنا تظهر شخصياتُ المسرحية الأخرى أيضًا في هيئةِ أقنعة كبيرة (يبلغ طولها نصفَ طول أو حتى ثُلثي طولِ الوجه البشري العادي) يحملها ممثلون يمثلون الجزءَ الأكبر من الشخوص المختفية في بِدلٍ كالأغلفة. قام شومان بنقل جوهرِ صورةِ كل شخصية عبْرَ وسائل التشكيل النحتي التعبيري؛ تمبورماجور صاحب الشارب والوجه القميء يتلاعب بالصولجان، جالسًا على كرسي وراء نافذة ماريا، والتي اتخذ وجهها هيئةً بيضاوية ممطوطة، يستدعي المدير (ذو القناع الأزرق المستدير السميك، المرتدي ملابسَ بهلوان سخيفةً)، وهو من النوع الصامت الكئيب، يجلجل صوته المرِح من وراء الكواليس، نراه — على سبيل المثال — في مشهد المحاضرة أمام رسمٍ تشريحي لعملية تخمة الحصان. الظهور الحقيقي للحصان (كائنٌ ذو عُرفٍ أبيضَ وذيلٍ من القشِّ، يسير على أقدام الممثلين البارزة من أسفل مؤخرته، يتبول مباشرةً على حذاء المحاضِر) يتحول ليمثل مشهدَ الذروة الفكاهي.
لا تُعدُّ «هويتسيك» هي المسرحية الوحيدة التي تعتمد على انتشار الأقنعة حول ممثِّل لا يضع قناعًا على وجهه؛ فقَدْ قدَّم شومان خبرةَ هذا النوع من المسرحيات في عام ١٩٧٨م في «عُطيل»، وبعدها في «جورفين» (١٩٨٤م)، حيث تتحرك المغنية الشابة، بطلة المسرحية، على كرسي للمعوقين، في حين يستمع إلى غنائها شخصيات ودُمى ترتدي أقنعةً كبيرة ويحلِّق فوقها مَلاكٌ أبيض وتقدِّم رُوح الموسيقى رقصةً ملهمة. وقد شارك بارتينيف مرةً أخرى في مسرحيةٍ من مسرحيات بيب عام ١٩٨٢م تحت اسمِ «الشخص المائل»، وتدور حول مصير رجُلٍ بسيط الحال يعيش في عالمنا المعاصر.
مثَّلَ ظهور الممثل في دور البطل الرئيسي مدخلًا خالصًا للأقنعة والدُّمى مع المانيكانات والشخوص المرسومة لنساء لهنَّ صدورٌ كبيرة، وأطفال تحيط بهنَّ نساء. اثنتانِ منهنَّ يلتصقْنَ بعضهنَّ ببعض لتتحوَّلا إلى أمٍّ ذاتِ رأسَين هبطَت من أعلى لتلِدَ كائنًا متوحشًا ليضع قناعًا بأنيابٍ ضخمة. ينتقل هذا الكائن على أربعِ أرجُل نحو مقدمة المسرح وقد راح يتنفس بصعوبة، حيث يقف في وضعٍ رأسي. يختفي قناعُ الوحش ويُستبدل به قناعٌ رمادي ضارب إلى البني، نصفه وحشٌ ونصفه إنسان، يقف تحت رقابةِ عينٍ كبيرة، بدأ الرضيع بزراعةِ بذرةٍ في أرضٍ صحراوية ليلية. تأتي الشمس بدلًا من القمر. يظهر أمام الجمهور مشهدٌ رعوي لثمارِ جهده الإبداعي (بيت صغير، حديقة تفاح مزهِرة، زوجة فلَّاحة، بقرة مُبرقَشة لها ضرعٌ وردي). على أن المشهد الرعوي يتمزق هنا؛ من أعلى، من السماء، يسقط حجرٌ ليدمِّر كلَّ شيء أبدعه هذا الإنسان، بل إنه يدمِّر الإنسانَ نفسه مساويًا إيَّاه بالأرض. والآن ترقد شخصية البطل بلا حراك عند أساس شجرةِ الجحيم التي اشتعلَت فيها النار، في حين راحَت ترقص حوله أقنعةٌ ضاحكة مشوَّهة لشياطين عملاقة، وفوقه «العين». «يُبعث» الإنسان بمساعدة اثنَين من المؤدين يمسكان رسمًا لعيونٍ حمراء، يهبُّ البطل واقفًا على قدمَيه. ومنذ هذه اللحظة، يظهر الشخص المائل بوجه الممثل بارتينيف.
«يُلقى» بالشخص المائل من مملكة الجحيم إلى المدينة الكبيرة، التي تعدِّ — وفقًا لمفهوم شومان — تجسيدًا أرضيًّا معاصرًا لنموذج الجحيم. تصعد ناطحاتُ سحابٍ حجريةٌ رأسية. وعند مقدمة المسرح، يقف رسمٌ محيطي للبيوت التي ينظِّمها البطل على طريقته. تبدأ الحكاية عن حياة الشخص الصغير في المدينة الكبيرة. قبل كلِّ مشهدٍ، يُعلِن الممثِّل عن اسمه، ويعرض لوحةً مكتوبًا عليها هذا الاسم (أسلوب خاص من أساليب الحروفية من مسرح بريشت الملحمي، وفقًا لتأويل شومان).
(٧-١٤) «سِيركُ النهضة المنزليُّ الخاصُّ بنا» في الثمانينيات والتسعينيات
تركَّزَت موضوعاتُ «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» في عام ١٩٨١م، حول موضوعِ الحرب النووية والتهديد بتدمير البشرية. وقد انعكس هذا الموضوع في عددٍ متنوِّع من المسرحيات وعروضِ البرفورمانس والإنستاليشن، ومن تلك المسرحيات نذكُر «جويا»، و«تاريخ باخاد»، و«تاريخ رجُلٍ لا يعرف الرعب»، و«أزمة الصواريخ الكوبية»، و«سبع علامات على نهاية العالَم»، وهي مسرحيةٌ في تمجيد هيروشيما، وأخيرًا قراءة في ضوء الشموع في مسرحية «مصلَّى المحكوم عليهم» (من نصوصٍ من «كتاب التجليات»). ويسمَّى العرض الرئيسي «حكاية شخصٍ ما». تبدأ العروض دائمًا بمسرحية «هَلِلُويا» وهي تحكي عن آدم (الذي يبدو في هيئة وقناعِ فلَّاح) وحوَّاء (في هيئة غسَّالة) اللَّذين كانا يشتغلان بالزراعة الآمنة؛ يرعيانِ قطيعًا ويهبطانِ من أعالي التِّلال على زاناتٍ بيضاء، دائرَين حول مجسَّمٍ كبيرٍ للأرض. إلا أنَّ جماعتَين من الرأسماليين يرتدون بدلاتٍ سوداء، وقمصانًا بيضاء، وقبَّعات سوداء فوق وجوهٍ مغطاة بالأقنعة، يحملون شخصًا يمثِّل زعيمَهم وقد ارتدى ملابسَ سوداء من البلاستيك، وقد انتزعوا من آدمَ وحواء حمارهما وأجلسوهما مع سلالتهما أمام تليفزيونٍ، وأوثقوهم بالحبال. وبعد أن استعرض الرأسماليون قوَّتهم العسكرية على صوت الأجراس، يُدمَّر الأحياء بأَسْرهم بقنبلة. يطوف تنينٌ ضخم، وحول أجساد الراقدين على الأرض يشاركه الطوافَ وحوشٌ حمراء تُشبه الهياكل العظمية تسير على زانات، هنا تظهر بِنيةُ السيرك الحتمية على طريقة شومان في «رقصة الموت». تنتهي «قصة حياةِ شخصٍ ما» بظهورِ فرسان (تبلغ أطوالهم من سبعةِ أمتار إلى عشرة)، وعودةِ الناس والأبقار التي ماتت إلى الحياة من جديد، وطردِ التنين، وظهورِ تِيران متأجِّجة، يحترق فيها الفرسان؛ وفوق لهيب الشعلة، تدور في حزنٍ طيورٌ ضخمة بيضاء محمولة على أعمدة.
تبدو خصائص عروض «سيرك النهضة» في أنها تتكوَّن ليس فقط من كلِّ نوع من أنواع المسرحيات، من عروض، تُجرى على ساحةٍ خاصة خضراء أمام آلاف المشاهدين الجالسين في المدرجات، وصولًا إلى العروض القصيرة نسبيًّا بين الفصول القائمة على الموضوع الرئيسي، التي عُرضت بصورةٍ إضافية في أماكنَ أخرى مختلفة، أي على نحوٍ منفرد ومستقل. يظهر الموضوع الذي تناوَلَه شومان أيضًا بكلِّ الأشكال الممكنة للطليعة التشكيلية «المرئية»: الموضوعات، الإنستاليشن والإنفايرنرمنت. وهكذا، فإنَّ «السيرك» بوصفه واحدًا من أعمال مسرح الفنان الفريدة، يمثِّل مُركَّبًا لجميع الأشكال المسرحية والبصرية والموسيقية، التي ظهَرَت في حفلاتٍ متنوِّعة أو أغاني (أوراتوريا) تؤديها الجوقة بمصاحبة مشهد «التماثيل التي عادت إلى الحياة» على طريقة شومان.
«تاريخ النضال والإيمان في أمريكا اللاتينية، أو مقتل روميرو كبيرِ الأساقفة وبعثه.»
وفي الطريق الذي يقطعه المشاهدون نحو المكان الأساسي للعرض، يقابلهم مَقطعَين معرضيَّين آخَرَين، ثم وُضِعا وسط الشجيرات والأشجار. وعند مُنعطفِ التل، نقابل كلَّ مترَين رسومًا مسطحة لرءوسٍ مزخرَفة بألوانٍ متعدِّدة ﻟ «الشهود المُذنِبين»، وعلى حواملهم (وهي «جذوع أشجار») توضع الصور على نحوٍ متقاطع، تحكي عن الفظائع التي جرَت للتنكيل. بعدها بقليلٍ، نجد إنستاليشن يسمَّى «مدينة روميرو»؛ جناح مشوَّه لعشَّة منبوشة، مانيكان لفلَّاحة عند سِياجٍ مكسور، قشٌّ مُبعثَر على الأرض، دلوٌ مهشَّم، آنية، وغيرها من الأشياء الفقيرة.
بعد تقديم مقاطع من العروض، يستطيع المشاهدون رؤيةَ سلسلةٍ كاملة من العروض الفاصلة بين المَشاهِد، تؤدَّى، في الوقت نفسه، في أماكنَ متعددةٍ من الحقل وحديقة أشجار الصنوبر المُتاخِمة لها. عند مشاهدتها، كان من الممكن الانتقال من عرضِ فاصلٍ إلى عرض فاصلٍ آخَر حسب الاختيار. كانت بعض العروض الفاصلة، تتضمَّن أيضًا مقاطعَ من العروض. فهذا المقطع، الذي يُحمل اسم «الأيدي»، نرى فيه أربعةَ شخوصٍ من العرائس (بالحجم الطبيعي) من التلاميذ النيكاراجوايين وعَلَم ثوَّار الساندنيستا الشيلي، يجلسون وسطَ جذوع أشجارِ الصنوبر المُحاطة بسياجٍ من الشوك. هنا يبني شومان مقطعًا تراجيديًّا حقيقيًّا، عندما تقتحم القريةَ فرقةٌ من الحرَس الوطني، ونجد أطفالًا في وقتِ الدراسة ويُصدر الضابط أمرًا بقطع أيدي جميع التلاميذ. إنَ النموذج البصري لهذه الوحشية المصنوعة من الورق المقوَّى بالغراء هو تصويرٌ مكبَّر جدًّا لأكفٍّ مبتورة عن الأيدي. وإلى جانبها ممثِّلتان تضعان قناعَين لامرأتَين فلَّاحتين من بين هؤلاء النساء اللائي قطعَت أيديهنَّ في طفولتهنَّ حتى مَعاصمهنَّ، وهُنَّ الآن يؤدينَ أعمالهنَّ المنزلية بصعوبة (إعداد الطعام، الكنس، جمع البذور). وفي العرض الفاصل الآخَر المسمَّى «عمَّن تبحث؟»، نجد ثلاث سيدات (دون أقنعة) يغنينَ أغنيةً حزينة وهنَّ يبنينَ على العُشب مقبرةً من صلبان بيضاء منمنمة اصطفَّت في وسطها شخوصٌ جنائزية حزينة تمثِّل الندَّابات، وذلك في معرض حديثه خلال العروض الفاصلة عن الحقائق المأساوية للصراع الحالي لشعوب أمريكا الوسطى من أجل الحرية.
ابتكر شومان شكلًا بسيطًا ودقيقًا لكلٍّ من هذه العروض الفاصلة، فعند الحائط الكارتوني ذي الباب الفليني الذي يفتح على الحقل، راحَت فتاتان ترقصان رقصةً تعبيرية حزينة وقد وضعَتا قناعَين لهما ملامحُ جامدة، وعلى مقربةٍ منهما جلسَت إحدى الفلَّاحات على مقعد لا ظَهر له تنتقي حبَّات الفول وتطرد بعيدًا عنها كلبًا متخيلًا، وتقصُّ حكايتها. وفي مكانٍ آخر تعرض الراهبة الأمريكية ماري خارتمان موضوعًا من خلال نافذةٍ صغيرة مربَّعة «دياراما»، بابًا مصنوعًا من قماشٍ أزرق فاتح، مستخدِمةً عرائسَ في يدَيها ولوحاتٍ مرسومة. وفي العرض الفاصل المسمَّى «الشجرة السامَّة»، يعزف شخصٌ يرتدي قميصًا أبيض (شومان)؛ يعزف السوناتا رقم ٢ للكمان من أعمالِ باخ واقفًا عند شجرة الحياة الزرقاء، وقد وضعَت على فروعها العارية الزرقاء «أرغفةٌ من الخبز». ومن فتحةٍ تطلُّ على قماشٍ أزرق مرسوم عليه منظرٌ طبيعي من سلفادور، امتدَّت أذرعُ أناسٍ غير مرئيين. وعندما يُسحب الحبل المعلَّقة به على الفروع الزرقاء قِطعٌ من موادَّ (يزيِّن الفلَّاحون الشجرة بها بشكلٍ شعائري من أجل المحصول القادم)؛ إذا بهذه الموادُّ «تزدهر». يحكي مدير العرض أنه عندما حضَرَ جنودُ الحرَس الوطني؛ شنقوا الناس على هذه الفروع، وعندئذٍ أصبحت الشجرة إلى الأبد شجرةً سامة (وفي هذه اللحظة، تغني الجوقة أبياتًا من أشعار بوشكين).
يقوم المشاهدون بعد ذلك بمشاهدة مجموعةٍ كاملة من المَشاهد. في المنظر المسمَّى «الاستجواب» يقوم المحقِّقون الكارتونيون ذوو الألسنة الحمراء الدموية المهدِّدة بالدوران فوق الشخوص-الدمي، في حين تقوم الجوقة المكوَّنة من أربع نساء (دون أقنعة؛ وإنما بوجوهٍ لها تعبيراتٌ جامدة) بسرد أنواع العذاب المختلفة بأصواتٍ كئيبة ورتيبة. في مشهد «التنكيل»، يظهر الجنرال مارتينيز في بالطو مطرٍ أحمرَ وقناعٍ صارخ بضربِ الشجرة؛ فتسقط الشخوص الكارتونية للفلَّاحين على الأرض. يعرض جهاز «التليفزيون» الضخم الموضوعَ في وسَطِ الغابة (يتحوَّل المنظر الطبيعي الأخضر إلى خلفيةٍ عادية لمناظرَ «من الشاشة»). يعرض «آخِر الأنباء» بواسطة الدُّمى والأقنعة والرسوم. قارئان يقرآن خطابًا من نيكاراجوا مؤرَّخًا ١٨٨٩م، و١٩٨٤م؛ وفي الوقت نفسه، تدور موضوعات هذه الخطابات على شاشةٍ في مشهدٍ صغير وسط الماكيتات لبيوت الفلَّاحين، التي يعرضها مؤدُّون ودُمًى كارتونيةٌ مسطحة. يأتي عرضُ «تاريخ نيكاراجوا» ليمثِّل مواصلةً لهذه العروض الفاصلة، وفيها يقوم النذير بتعريف الجمهور به، يساعده مَلَاك وشيطان يديران قرصًا مرسومًا عليه بيوتٌ وحقول وأنهار، مع شخوصٍ للمعذَّبين والأشرار، القديسين والوحوش. في نهاية العرض الفاصل، ينطلق من القرص قُوًى شريرة، وفي منتصفه يرتفع رمزٌ مجنح لانتصار الشعب.
يجتمع المشاهدون فوق مدرجٍ مرتفع بعد مشاهدتهم لهذا المشهد وغيره من مَشاهد العروض الفاصلة، ومقاطع من العروض. وعلى الساحة الرئيسية يبدأ العرض الرئيسي، وهو عرضُ «مَصرع روميرو كبير الأساقفة وبعثه». يُفتتح العرض بمشهدٍ استعراضي، يشارك فيه كلُّ الممثلين وقد ارتدوا — كما هي العادة عند شومان — زيًّا أبيضَ موحَّدًا، يحملون أعلامًا بيضاءَ عليها شاراتٌ مرسومة. يظهر قناعٌ ضخم للإله، مستدير يشبه رغيفًا ضاربًا إلى الحُمرة، ويحمله عددٌ من المؤدين على زانات، في حين تؤدي مجموعةٌ أخرى حركةً بأكفٍّ ليِّنة تنفتح على اتساعها باتجاه الأيدي. ويروح مائةٌ وخمسون متطوعًا في الدوران حول الإله وهم يغنُّون أغانيَ شعائريةً. وفي الجانب الآخر من الساحة، يظهر وراء الإله مَلَاكٌ أبيضُ، يظهر كما لو كان بُخارًا فوق الأرض، يعزف على الكمان، يبلغ طوله ثلاثةَ أمتار (يسير على زاناتٍ طويلة)، له قناعٌ مبتسم بخدودٍ حمراء وشَعرٍ ذهبي طويل يكاد يقترب من الأرض.
على التلِّ المنحدر، يهبط راهبٌ في ملابسَ سوداءَ وقناع زنجيٍّ عليه خطوطٌ بيضاء، له رأس أشْيَب وسوالفُ وشواربُ ولِحْية. هذا هو يوسف، يقود حمارَ إجانتي ملجومًا (يؤدي دوره أحدُ الحيوانات من مزرعة شومان). على الحمار تجلس ماريا ترتدي أيضًا قناعًا زنجيًّا وملابسَ أنيقة لفتاة مخطوبة. يدقون على الأبواب التي يقابلونها في طريقهم بلا جدوى، ولكنَّ بيتًا واحدًا من هذه البيوت لا يُفتح لهم. يجدان أنفُسَهما في المعلف، حيث تلد ماريا الطفلَ روميرو. يظهر القناع ذو الرُّءُوس الثلاثة للملوك الثلاثة، والمعروف في كلِّ مسرحيات شومان الأخرى.
تسير فرقة الموت على قرع الطبول على قمَّة التل. رسومٌ كبيرة مسطحة لأقنعة (جماجم بيضاء، وخوذات سوداء)، مَلضُومة في هياكلَ عظمية. تمتلئ الفرقة «مذبحة للأطفال»، وبعد أن ينتهوا من هذا «الأكشن» المرعب تبتعد. تمتلئ الساحة بجمهور من الشعب يرتدي ألوانًا مختلفة. يدفع السلفادوريون عربة عليها الطفل روميرو الممتلئ بالحياة. يكبر روميرو في لحظةٍ (يصعد السُّلَّم) ويتحوَّل إلى كبيرٍ للأساقفة؛ إلى قناعٍ ضخم يرتدي نظَّارة، يرتفع فوق الجماهير، تخرج من أكمامه كفَّا يدَيه الكبيرتَين، في محاولةِ أنْ تحتوي الشعبَ كلَّه بالبركة والعناية. يتَّجه نحوَ فرقة الموت داعيًا إياها إلى وقف القتل، فتردُّ عليه الفرقة بإطلاق الرصاص. يسقط روميرو على الأرض، ويستسلم السلفادوريُّون الذين لا حوْلَ لهم ولا قوة أمام الجنود، ويخضعون لهم تمامًا (عرائس مُزدوجة).
وفي المشهد الختامي لانتصار قُوى الشرِّ، يندفع إلى الساحة وحشٌ ضخم يسير على أربع، وعليه رسومٌ لجماجم، وبصُحبته جنودُ الموت. وعندما يبدو أنَّ الشر قد انتصر نهائيًّا إلى الأبد، ويروح الشعب يغنِّي أغنية نهاية العالَم، إذْ بفُرسان الموت ينفجرون فجأةً ويلفحهم اللهب ثم يحترقون، وتحلُّ معجزة البعث التقليدية في كلِّ عروض «سيرك» شومان. وعلى منحدَر التلِّ يهبط قاربٌ أزرق، هو سفينة نوح، «تَسْبح»، يعلوها شراعٌ مرسوم عليه شجرةُ الحياة. وفي السماء ترفرف طيورٌ بيضاء (تدور على زانات). ينهض رئيس الأساقفة روميرو، الذي عاد إلى الحياة، بطوله العملاق، ومن حوله يتجمَّع الشعب في سرورٍ وبهجة.
تناوَلَ شومان في عرضِ «سيرك ٨٦» موضوعَ الجوع بوصفه نتاجًا للسياسة العنصرية التي تنتهجها السلطات تجاه المُزارِعين الأمريكيين، ملتزمًا بمبدأ كشف إشكاليات الحياة اليومية للواقع المعاصر بواسطة الصور والموضوعات ذات المضمون الأسطوري. أمَّا في عرض «سيرك ٨٧»، فقَدِ احتفَلَ شومان على طريقته بمرور مائتَي عامٍ على صدور دستور الولايات المتحدة الأمريكية. وقد لعبَت الأقنعة دورًا كبيرًا في التعبير عن موضوع الدين التاريخي لهذا الدستور تجاه الدستور الآخَر، الذي سبَقَ أن كان موجودًا عند القبائل الهندية التي دمَّرها المحتلون في القرن الخامس عشر، والذي دعا إلى إعلاء مبادئ المساواة والأخوة.
إنَّ موضوع حماية الطبيعة (والذي يعادل عند شومان موضوعَ حماية الإنسان من القُوى العدوانية المُمكنة كافَّة) هو الموضوعُ الرئيسي في عرضَي «السِّيرك» عامَي ۱۹۸۸م، و۱۹۹۰م. وبالنسبة إلى عرض «سِيرك ٨٨» فقَدْ ألَّف شومان «أشواق إلى الشجرة الشابة»، وهو تفسيرٌ لطقوس الربيع الفولكلورية التي قدَّمها مسرح بيب في تأويلٍ درامي: شجرة مقطوعة تتحوَّل إلى موضوعٍ يفتقد إلى جوِّ العيد؛ وإنما يتَّسم بالعنف الفظِّ. لقد أخذوا منها الحياة ووضعوها على الصليب، لتأتي الغسَّالات بعد ذلك (وقد وضعْنَ أقنعةً كبيرة) ليُنزلنها من على الصليب، وتستبدل باحتفال قوى الشرِّ، التي تدور مثل هيكلٍ عظمي لفارس الموت، بالبعث الذي يتمثَّل هنا في هيئةِ طائرٍ أبيض كبير.
(٧-١٥) ثورة الوحش
عُرضت مسرحية «ثورة الوحش» في «سيرك ٩٠» وقد طافَت بجولةٍ فنية استطاع جمهور موسكو خلالها من مشاهدتها.
تبدأ المسرحية أمام مَدخَل جناح معرض حديقة «ساكولنيكي». أول ما قدِّم للجمهور في هذه المسرحية من مَشاهِد؛ كان النسخةَ الساخرة، وفي الوقت نفسه النسخة الغنائية لخلق العالَم والإنسان (عُرضت هذه المَشاهد في شكلِ عرضِ ستَّ عَشْرة لوحةً متتابِعة من رسوم شومان صاحَبَتها تعليقاتٌ شفاهية من الراوي). يبدأ بعد ذلك موكبٌ عام: في الأمام «سفينة نوح» يتبَعُها العارضون والمتطوعون (الذين اختِيرُوا من طلبة المعاهد المسرحية في موسكو، تقودهم فرقةُ ديمتري بوكروفسكي)، وخلفهم يأتي المشاهدون. يقود المركب حيوانان رائعان بقدمَين؛ معزة وبقرة (يؤدي الدورَين ممثِّلان يرتديان أقنعةً ذات قرونٍ ترتفع عاليًا فوق رأسَيْهما). يدخل الموكب إلى الجناح، حيث تُرى أحداث المشهد الرئيسي في المسرحية. حمَلَة أعلام مسرح بيب يجلسون على الأرض في وضعٍ يدلُّ على أنهم يمثِّلون خطًّا فاصلًا بين الجمهور والممثلين.
تظهر أسلاف الماعز، من البيوت، التي تنتصب في الجزء الأيسر من المكان. كل جنس الماعز يرقص، يغنِّي، يقوم بطقوسِ الجوقة، يسير بعدها، آخذًا الجمهور وراءه، باتجاه الجزء المواجِه من الجناح، حيث ينتعش عالَم من الوحوش المتنوِّعة؛ البطريق الأحمر، القرود السوداء، الضفادع، النمور المخططة، كلهم معًا. في حين تروح التنانين-الديناصورات تحمل بأسنانها بحرصٍ الماعز الصغيرة، ويضعونها عند أقدام الماعز الأكبر.
يدمر الجنود بالسيوف والرماح الحياة الطبيعية المسالِمة. يقتلون الوحوش (يتم التعبير عن هذا بأنْ يقوم العارضون بنزعِ أقنعة الوحوش عن وجوههم، ويضعون ملابسهم في كومةٍ واحدة مكوِّنين تلًّا يمثِّل «قبرًا أخويًّا» لضحايا العنف الوحشي على الطبيعة). الناس والمرايل الغارقة في الدم يتم نزعها عن صغار الماعز الباكية، ويلقون بهم إلى المائدة، ثم يلتهمونها بعد أن يربطوا عيونهم بعصابات. خدَمُ الموت (شخوص سوداء عليها رسومٌ محيطية لهيكلٍ عظمي أبيض وأقنعة على هيئة جماجم) يتأرجحون على نحوٍ مائل، ويُفسحون وسط الجمهور مكانًا لفارس الموت.
صورة البعث الختامية، يمثلها قناعٌ كبير لإلهٍ يجسِّد الصعودَ إلى أعلى مكانٍ في الجناح، على وجهه ابتسامةٌ تتسم بالحكمة والتسامح، ينظر إلى البشرية التي تعجُّ بالحركة، يحلق فوقها، يُدينها بقسوةٍ بعيدًا عنه، ولكنَّه مع ذلك يأسف عليها، وينقذها ويخبِّئها، وهؤلاء هنا هم العارضون والمشاهدون جميعهم معًا، وقد وقفوا في حلقةٍ طويلة من عدَّة أمتار متشابكي الأيدي.
(٧-١٦) «كريستوفر كولومبس»
احتفل شومان بمرور ٥٠٠ عامٍ على اكتشاف أمريكا على يد كريستوفر كولومبس على طريقته، وهي طريقةٌ مختلفة تمامًا عن أشكال الاحتفالات الرسمية الأخرى؛ حيث خصَّص لهذا الموضوع عروضَ «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» في عام ١٩٩٣م. عرضان من هذه العروض التي كتبها عن كولومبس (خصَّص الأول للعرض على الساحة الرئيسية، والثاني للعرض على خشبة المسرح). جرى بعد ذلك عرضهما بوصفهما مسرحيتَين مستقلَّتَين إبَّان الجولات الفنية الدورية لمسرح بيب.
تكوَّنَت العروض في الهواء الطلق، كالعادة، من أشكالٍ من المواكب والأكشن ذات طابعٍ عام.
بدأ الموكب في شارع جلوفر، وشارك فيه شخصياتٌ ذات أقنعة، ومعهم جميع المشاركين في المسرحية من المتطوِّعين الذين كانوا يرتدون الزيَّ الموحَّد لشومان، وهو السراويل والقمصان البيضاء. يقوم كولومبس بقيادة الموكب برأسٍ كبير له وجهٌ يعبِّر عن الغطرسة والكبرياء، مثبت فوق جسدِ ممثِّل نحيف. عندما يظهر كولومبس على خشبة الساحة، يتحول إلى العم فاتسو الذي يُسحب على الأرض بحبل الإله ذي الرُّءُوس الثلاثة إلى جانب الشخوص التي صنَعَها، وترتدي أقنعةَ وحوش. يُعرض بعد ذلك أكشن لتدميرٍ دون رحمة للأيائل ذاتِ العيون الكبيرة الحزينة التي تنمو من قرونها فروعٌ خضراء دون رحمة، وذلك بأن تُربط كلُّ واحدة منها بحبلٍ حول رقبتها يمرُّ عبْرَ بكرةٍ معلَّقة على دعامة. يقوم القتلة بنزع رءوس الأيائل بقرونها وجلودها بدفعةٍ واحدة (يعدون في الوقت نفسه شخوص العارضين البيضاء)، ثم يشدُّونها إلى أعلى، ومن هناك يقذفونها إلى الأرض. يتمثَّل الشكل الثاني للعنف في المانيكانات المشدودة بقوة بعضها إلى بعض والناس الذين تملَّكهم الرعب وقد اندفعوا وركعوا على أقدامهم، لينهضوا من جديد، يرتعشون من الخوف، ثم يسقطون وقد هدَّهم الإعياء، وفوقهم راح فارس الموت يرقص.
مدير العرض يحكي أمثولة «النار» وهو يقلِّب صفحات من القماش عليها رسومٌ (تشبه تلك التي صنَعَها شومان لكتيبات برنامجه، وهي على هيئة قصصٍ مصوَّرة يفهمها الجميع، الكبار والصغار). يظهر من «صفحات» القماش موكبٌ لشخوصٍ ملفوفة في الأسْوَد، لها وجوه تراجيدية لنساءٍ شرقيات، يسِرْنَ وراء عربة يوسف العجوز التي يجرُّها حمارٌ له رجلان اثنان (يقوم بدوره عارض وقد تقوَّس بشكلٍ حادٍّ أسفلَ جلد الحمار). ترفع النسوة من الأرض جسَدَ مانيكان مقتولٍ يضعْنَه على العربة ويغطِّينَه بملاءةٍ بيضاء ويودِّعنه إلى مثواه الأخير. تنتهي المسرحية بفكرةٍ من أفكار شومان الرئيسية، وهي صورة الأمل في النجاة؛ المتطوعون في زيهم الأبيض يُهرعون نحوَ شخصِ الإله ذي الوجه المُضيء المرفوع نحوَ المرج، ينحني الإله، فوقهم ويضمُّهم بين ذراعَيه العملاقتَين.
يُجرى العرض الثاني لموضوع اكتشاف أمريكا على خشبات المسرح. تنقسم هذه الخشبات إلى ثلاثة أجزاء؛ على اليمين رسمٌ لجهنَّم وشياطينها (يجلسون على مقاعد، كلٌّ على خليةٍ منفصلة)، طبلة ضخمة تقرع عليها شخصية مانيكان الموت، مؤكِّدًا بذلك القرع بدايةَ كلِّ مشهد. على اليسار، الصَّلْب. بالقرب منه يدور المشهد الأول للمسرحية، وهو عبارةٌ عن أكشن ﻟ «التقريب» الشعائري لكولومبس الراكع. تقترب من شفاه قِناعه شخصية لها وجه الشمس تقدِّم كأسًا بها سائلٌ أحمرُ مأخوذٌ من ذراع المسيح المصلوب. بعد ذلك، يقوم كولومبس بحَمْل الجسد الذي أُنزل من على الصليب على ظَهره ويذهب به ليضعه عند شجرة الحياة في منتصف المسرح. تنمو الشجرة فوق رأس الإله الأعلى مجسِّدةً الفردوس الأرضي (أو «أرض الميعاد»)، إلى حيث أبحَرَ كولومبس هو وطاقمه. يرتدي جميع المجرمين الهاربين ملابسَ مخطَّطة، ويضعون أقنعةً موحَّدة على هيئة رءوس (في لحظةٍ ما يتبادلون الرُّءُوس، حيث تطير من جسمٍ إلى آخَر). تلتصق السيدات ذوات الشَّعر الأشْيَب والملابس السوداء بالشجرة المرتعِشة المدوية. إحدى السيدات تقطف تفاحةً من الشجرة وتُناوِلها لكولومبس الذي يُصدر أمرًا بتنفيذ العقاب. يُختطَف الأطفال الرُّضَّع من أيدي الأمهات (رسم شومان على الكارتون وجوههن المأساوية المنضمة في تكوينٍ واحد). تلتصق النساء بالشجرة، ويمِلْنَ الواحدة تلوَ الأخرى في حزنٍ لا يهدأ فوق جسد المسيح المسجَّى على الأرض. رجال العصابات المخططون يمسكون به وينقلوه إلى الجانب الأيسر من المسرح حيث الصليب، تمهيدًا لصَلْبه مرةً أخرى، يدقُّونه بالمطارق التي أعطاها لهم شخصٌ اسمه «أمريكا» (هذا الشخص هو عبارةٌ عن تكوين جماعي من دُمًى صغيرة تحمل علمًا به نجومٌ ترتفع فوقهم «مريلة» حمراء مستديرة تتحرك بواسطة ممثِّلين مختبئين). يحمل هذا المشهد اسم «النظام العالمي الجديد»، ويجسِّد استياءَ شومان من أشكال الحياة، ومن النظام الاجتماعي الذي ترسَّخ في هذه القارَّة التي اكتشفها كولومبس منذ ٥٠٠ عام مضَت.
(٧-١٧) «الخطاب الممزَّق»
مثلما فعَلَ في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تفاعَلَ شومان في التسعينيات مع مظاهر العنف اليومي السائد في العالَم المعاصِر والموجَّه إلى الإنسان على أيِّ بقعة كانت من بِقاع الأرض. وهكذا، ففي مسرحيته عن كولومبس صوَّرَت النساء العراقيات نموذجًا للنساء اللائي تجمدَت على وجوههنَّ وشخوصهنَّ الباكية ملامحُ الحزن. وفي عَرْض «الخطاب الممزَّق» (المصحوب بغناءِ فرقة كورال المؤلف الموسيقي من فيرمونت إ. نيلسون)، وعلى خشبة المسرح التي بُنيت وسط دغل من أشجار الصنوبر إبَّان عَرْض «سيرك النهضة المنزلي الخاص بنا» عام ١٩٩٤م، كان الموضوع هو مقتلَ فتاةٍ كرواتية على أيدي الجنود الصِّرب الذين اقتحموا بيتها.
أول ما يظهر أمام الجمهور هو ثلاثةُ مناظر لمانيكانات رجالٍ مرسومة بلا رأس ولا أقدام، وعُراة. وبعد أن يؤدوا «رقصةً» مرعبة، ينزعون الملاءة البيضاء من الواقف وسط الشعلة (المسحوبة من الرسوم الكارتونية بأيدي العارضين، وتمثِّلها كتلةٌ من الجوقة السوداء) للشخصية الكبيرة للمرأة الشيباء الباكية. وأمامها تجلس على الكرسي فتاة. لا يوجد على وجهها أيُّ أقنعة، ولكنْ بسبب مجهودها التراجيدي يمكن اعتبارها قناعًا؛ العيون المغلقة، الشفاه المزمومة السمينة. على أيِّ حال، لم يكن هذا الوجه أقلَّ من ناحيةِ قوة تعبيره عن الأقنعة المنحوتة.
بعد أن تؤدي المجموعة التي ترتدي زيًّا أبيض موحدًا رقصةً فولكلورية كرواتية وهُمْ يغنون حول الفتاة، يقومون ببطء متعمَّد بإلباسها، تروح الفتيات بدسِّ أيديهنَّ المتهدِّلة في ضَعفٍ بالِغ في أكمام البالطو. يغلقْنَ كلَّ الأزرار. يلفُّون المناديل. يعلِّقْنَ على الرقبة قطعًا من المرايا وصورًا فوتوغرافية. يضعْنَ على رءوسهنَّ غطاءَ رأس أحمر محبوكًا، ويرتدِينَ قفَّازاتٍ بلا أصابع ويُمسِكْنَ في أيديهنَّ حقيبة. تتَّجه إحدى الفتيات وقد اتخذَتْ هيئةَ اللاجئين نحْوَ المَلَاك الحارس الذي يطير نحْوَها وتنظر إليه طويلًا، متطلِّعة برأسها إلى أعلى. تستدير. تخرج ببطء إلى الجانب المقابل، إلى الغابة، وتختفي وراء الأشجار.
لم يتوقف عرْضُ المسرحية على المهرجان المحلي لفيرمونت؛ وإنما عُرضَت أيضًا في مكانِ الأحداث التراجيدية في مدينة ساراييفو التي حاربَت من أجل الذين عاشوا في خضمِّ الأحداث التي وقَعَت فيها.
•••
وهكذا نجِدُ أنَّ «التماثيل التي عادت إلى الحياة» لشومان إنما هي أعمالٌ تنتمي إلى الفنون البصرية التي تُقدَّم في سياقٍ زماني مكاني (كرونوتوبي)، وتعرض حكايةً ما. من هنا جاء المصير الخاص لشخصيات مسرح الفنان، فبعد أن توقفوا عن مجرد التمثيل في المسرحية، أصبحوا موضوعاتٍ للعرض الفني. بمعنى أنهم واصلوا حياتهم بوصفهم أعمالًا إبداعية تشكيلية نحتية تعبيرية، ليس فقط في قاعات المعارض التي كان شومان يقيمها من حينٍ إلى آخَر؛ وإنما في العروض الدائمة التي يقدِّمها لمشاهدي مسرح بيب باعتبار أن هذا المسرح هو متحفه الخاص. وقد أسَّس شومان متحفه للمرة الأُولى في مطلع عام ١٩٦٠م في علِّيَّةِ أحد بيوت نيويورك التي كان يقطن بها آنذاك. وبعد انتقاله إلى فيرمونت، حيث أسس ورشته لإنتاج الأقنعة، حوَّلها إلى إنفايرونمنت، وأسْمَاها «كاتدرائية فيرمونت الأُولى المصنوعة من الورق المقوَّى». وأخيرًا حوَّل عنبرًا قديمًا شِبه مهدَّم في مزرعة في جلوفر إلى متحف، جمع فيه شومان شخصيات مسرحياته (مصنوعات نحتية، أقنعة وشخوصًا متعدِّدة الأشكال والمقاييس التعبيرية، بارزة وغائرة ومرسومة) مقدَّمة، على هذا النحو أو غيره من التكوينات، للموضوعات التي تعبِّر عن جوهر الصور والمواقف المسرحية. بعبارةٍ أخرى، تركَت هذه الشخصيات، سواءٌ في صورتها التعبيرية أو باعتبارها إنستاليشن، قوةً مضاعَفة، لا تقلُّ عن قوتها في الأعمال المسرحية.
•••
هوامش المترجم
-
فاسيلي فاسيليفيتش كاندينسكي (١٨٦٦–١٩٤٤م): رسَّام روسي، منظِّر للفنون الجميلة، أحد مؤسِّسي الفنِّ التجريدي Abstractionism، وُلد في ١٦ ديسمبر (٤ ديسمبر بالتقويم القديم) عام ١٨٦٦م في موسكو. عاش طفولته في أوديسا. درَسَ الاقتصاد والقانون في جامعة موسكو. انقطع عن الدراسة عام ۱۸۸۹م بسبب سوء حالته الصحية. شارك في بعثة إثنوجرافية في محافظة فولوجدا. أنهى كلية الحقوق في عام ١٨٩٣م. عمل مديرًا فنيًّا في مطبعة كوشنيريوفسكايا في موسكو (١٨٩٥م). اختار كاندينسكي مستقبله كفنانٍ مؤخرًا نسبيًّا عندما بلغ من العمر ثلاثين عامًا. في عام ١٨٩٦م، استقرَّ في ميونيخ وبقي في ألمانيا حتى عام ١٩١٤م. درس الفن في استوديو أشبي الخاص منذ عام ١٨٩٧م، ثم الْتحق بأكاديمية ميونيخ للفنون عام ١٩٠٠م، حيث درَسَ على يد فرانتس فون شتوك. في عام ١٩٠١م، أسَّس كاندينسكي جمعية «فالانجا» للفنون، وألحق بها مدرسةً قام بنفسه بالتدريس فيها. شارك منذ عام ١٩٠٠م في المعارض التي نظَّمتها جمعية فنَّاني موسكو. شارك في عامَي ۱۹۱۰م، و۱۹۱۲م أيضًا في معارض جمعية «بوبنوفي فاليت» (الولد البستوني في أوراق اللعب) الفنية. وفي هذه السنوات راح يطوِّر المفهومَ الجديد للاستخدام «الإيقاعي» للَّون في التصوير. في عام ١٩١٠م، أسَّس كاندينسكي «جمعية ميونيخ الفنية الجديدة»، وفي عام ١٩١١م، أسَّس التقويم Almanac المسمَّى ﺑ «الفارس الأزرق»، وكذلك الجماعة التي حملَت الاسم نفسه. وفي هذه الفترة، نظَّم أول معرضٍ شخصي له. في عام ١٩٢٤م، يعود الفنان إلى موسكو. وراح في الأعوام التالية يعمل في رسم أعمالٍ واقعية وأخرى ذات صبغةٍ شِبه تجريدية، وغالبها مناظر طبيعية. بعد ثورة عام ۱۹۱۷م، شارك كاندينسكي بنشاطٍ في العمل العام، وشارك في عام ١٩١٨م في تأسيس جمعيةِ حماية الآثار وفي إنشاء متحف الثقافة الفنية والأكاديمية الروسية للعلوم الفنية، وقام بالتدريس بالوِرَش الدراسية الفنية العليا في موسكو وأصدَرَ كتابًا عن سيرته الذاتية تحت اسم «المراحل» (موسكو، ۱۹۱۸م)، اختِيرَ في عام ١٩١٨م، ۱۹۱۹م عضوًا في الجمعية الفنية، اللجنة الشعبية التنويرية للفنون الجميلة، ثم أصبح رئيسًا لِلَجنة المقتنيات لجميع روسيا، والعالَم الاستشاري، ورئيس ورشةِ المستنسخات، والأستاذ الفخري بجامعة موسكو. كما اختير كاندينسكي أيضًا نائبًا لرئيس الأكاديمية الروسية للعلوم الفنية. واصَلَ كاندينسكي الرسمَ فأبدع في هذه الفترة تكويناتِه الديكورية على الزجاج «الأمازونية» (۱۹۱۸م) و«الأمازونية في الجبال» (۱۹۱۹م). في ديسمبر عام ١٩٢١م، يسافر كاندينسكي إلى برلين لتأسيس فرعٍ تابع للأكاديمية الروسية للعلوم الفنية هناك، ويشارك في المعرض الأول للفنون الروسية في ألمانيا. يقرِّر كاندينسكي عدمَ العودة إلى روسيا، ويبدأ في تدريس الرسم في برلين ليصبح واحدًا من أبرز المنظِّرين لمدرسة «الباوهاوس»، وسرعان ما يحظى بالاعتراف العالمي باعتباره أحدَ رواد فنِّ التجريد. وفي عام ١٩٢٨م، يحصل الفنان على الجنسية الألمانية، ولكنه بصعود النازية إلى السلطة عام ١٩٣٣م يغادرها مهاجِرًا إلى فرنسا. يعيش كاندينسكي في باريس في الفترة من ١٩٣٣م إلى ١٩٤٤م، مشارِكًا بنشاطٍ في الحركة الفنية العالمية. وفي عام ١٩٣٩م، يحصل على الجنسية الفرنسية، ثم توافيه المنية في ١٣ ديسمبر ١٩٤٤م في ضاحية نويي سور سين بالقرب من باريس.
-
كازيمير ماليفيتش (۱۸۷۸–١٩٣٥م): مؤسِّس السوبرماتيزم، واحدة من أبسط أنواع الفن التجريدي الهندسي في بداية القرن العشرين، وقد استحدثها ماليفيتش في عام ١٩١٣م واستمرت في روسيا حتى عام ۱۹۲١م، عندما تحوَّلَت السياسة الرسمية للحكومة لتقف ضدَّ هذا النوع من الفن. على أي حال، فإنَّ الأفكار السوبرماتيزمية كانت مهمةً لتطور الفن التجريدي في ألمانيا وهولندا، وقد أصبحت أعمال ماليفيتش مؤثرةً بشكلٍ خاص في الغرب بعد ظهور الترجمة الألمانية لكتابه «العالَم غير المحسوس» (Non Objective World)، والذي نشرَته في عام ١٩٢٧م الباوهاوس، وهي المدرسة التي تُرجع الأساس في الفنون إلى العمارة، والتي تبنَّت المدارس الفنية الجديدة، ومن بينها الفن التجريدي. ويعدُّ كتاب ماليفيتش من أهم الكتب في الفن التجريدي، ويضم مقالاتٍ لكلٍّ من: فاسيلي كاندينسكي وبايت موندريان، وكان هدف ماليفيتش هو الوصول إلى إحساسٍ خالص لا مكان فيه لواقعية الأشياء الموجودة في العالَم المنظور.
-
الباوهاوس The Bauhaus (۱۹۲۲–۱۹۳۳م): كانت الباوهاوس مدرسةً مجدِّدة في مجال الفن والعمارة أسَّسها فالتر جروبيوس Walter Gropius وكانت تهدف إلى المزج بين الفنَّين التشكيلي والتطبيقي. وهو ما انعكس في مناهجها التي كانت تقوم على التطبيق النظري والعملي لمُركَّب الفنون التشكيلية. وقَدْ قام كاندينسكي بتدريس تصميماتها للمبتدئين وكذلك نظريتها، وأقام وِرشَ عملٍ أتمَّ فيها نظريته في اللون، والتي أضاف إليها عناصرَ جديدة من علم النفس. وقد أدَّى التطور الذي أدخله على النقطة ومختلف أشكال الخطوط إلى نشْرِ كتابه النظري الثاني «النقطة والخط» في عام ١٩٢٦م. وقد كان للعناصر الهندسية دورٌ في زيادة تميُّز هذه المدرسة، وخاصة استخدام الدائرة ونصف الدائرة والمثلث والخطوط المستقيمة والمنحنيات.
-
إيروين بيسكاتور (۱۸۹۳–١٩٦٦م): مخرِج ألماني، الْتحق بمعهد السينما في ألمانيا عام ١٩١٩م. مؤسِّس ومدير مسرح بيسكاتور في برلين (۱۹۲۷–۱۹۳۲م). عاش في الاتحاد السوفيتي وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية منذ عام ١٩٣٣م. عمل في ماينهايم وميونيخ منذ عام ١٩٤٧م. أخرج أعمالًا مسرحية مُعادِية للفاشية. طوَّر فكرة المسرح السياسي باعتباره سلاحًا في نضال العمَّال. تولَّى منذ عام ١٩٦٢م إدارةَ مسرح «فراي فولكسبيون» في برلين الغربية.
-
لازار ماركوفيتش ليسيتسكي، اسم الشهرة إل. ليسيتسكي (۱۸۹۰–١٩٤٩م): معماري سوفيتي، فنَّان-إنشائي، رسَّام، عاش في الفترة من ١٩٢١م إلى ١٩٢٥م في ألمانيا وسويسرا. عضوُ جماعة أنصار الفن الجديد (أونوفيس). قام على إعداد مشروعات ناطحاتِ سَحَاب، ووضَعَ تصميمات قِطَع أثاث وكتب.
-
فلاديمير يفجرافوفيتش تاتلين (١٨٨٥–١٩٥٣م): رسام وجرافيكي سوفيتي، إنشائي، فنان مسرحي. أحد مؤسِّسي الفن الإنشائي السوفيتي، صمَّم عددًا من المشروعات العامة الضخمة.
-
فيلمير خليبنيكوف (١٨٨٥–۱۹۲۲م): شاعرٌ روسي سوفيتي، كتب الشِّعر التجريبي برُوح النزعة المستقبلية. تتميز أعماله الناضجة بالسعي إلى تأسيس «الأسطورة الجديدة».
Konfiguration. Einblicke in das Theatergeschehen der Bundesrepublik Deutschland 1976–79. Hamburg, 1979. S. 51.
الاستشهاد من الكتاب: Peter Simhandl: Achim Freyer ì S. 15.
Ein Gespräch mit Achim Freyer. Hinter den Spiegel der Erscheinungen Blacken. Das Gespräch führte Bettina Masuch in Berlin am 23. Juni 1992. Theaterschafqt 1992, No. 2. S. 127.
الاستشهاد من كتاب: Peter Simhandl: Achim Freyer ì S. 370.
الاستشهاد من كتاب: مشكلات المسرح المعاصر. عرض للمطبوعات (ببليوجرافيا، ملخصات)، موسكو، ديسمبر ۱۹۸۹م، ص۳۹.
الاستشهاد من كتاب: Peter Simhandl: Achim Freyer ì S. 37.
الاستشهاد من كتاب: مشكلات المسرح المعاصر. عرض للمطبوعات (ببليوجرافيا، ملخصات)، موسكو، ديسمبر ۱۹۸۹م، ص۳۸.
“So wie eine Art Fisch, dessen Kopf herzzerreißend dem einer Heuschrecke gleicht”.
الاستشهاد من كتاب:
Rundschau 1987.10.10. Sven: Achim Freyer. Bühnenbild heute, Bühnenbild der Zukunft. Achim Freyer, Dieter Hacker, Johannes Schütz, Erich Wonder Ausstellung des Zentrums für Kunst und Medientechnologie, Karlsruhe, 1993. S. 15.
M. Merschmeier: Wien nach der Wende. Theater heute 1987. No. 7.
Neumann, Sven: Achim Freyer ì S. 15.
Burgtheater 1988/89. Georg Büchner. Woyzeck Wien, 1989. 25 April.
«لقد شاهدْنَا مسرحيةً لم نشاهد مِثلها من قبل، ولن نشاهد مِثلَها فيما بعد.»
Benjamin Henrichs, Die Zeit.
«لقد ارتفع بالمسرحية بعيدًا، فوق الدراما الاجتماعية التراجيدية … ويؤكِّد على المسرح باعتباره تعبيرًا فنيًّا رفيعًا؛ العناصر المؤثرة فيه علينا، هي النماذج الأصلية والأساطير والرموز.»
Karin Kathrein, Die Welt.
… «لعبة الوعي التي تم اكتشافها هي ملحمة بهلوانية ميتافيزيقية.»
Ingrid Seidenfaden, AZ, München.
«مسرحية رائعة ومُدهِشة مبنيَّة على التناقض الحادِّ لمَشاهِدَ تعبيريةٍ وحياةِ الكلمة على نحوٍ استثنائي.»
Martin Schweighofer, Wochenpresse.
… «عملٌ فني متكامل يتميز بالنقاء والجمال في أقصى صورهما.»
Heinz Sichrovsky, Neue Kronen Zeitung.
وقد أشار النقَّاد إلى القيمة الخاصة لهذا العمل مقارنةً بالعروض الأُولى للأعمال التي عُرضت في هذا الموسم، والتي قدَّمها مخرِجون، مثل ب. تساديك («تاجر البندقية») وك. بايمان («وليم تل»)، وكتبَت.
Ulrich Weinzierl, Die Neue Ärztliche, Frankfurt.
تقول: «فراير وحده هو الذي استطاع في مسرحية «فويتسيك» الجريئة أن يحقِّق هدفه: أن يؤكِّد على مسرح بورجتياتر باعتباره المسرحَ الأول في الفضاء الناطق بالألمانية.»
Die wahre Hölle ist doch die Liebe. Ein Gespräch mit Achim Freyer. Das Gespräch führte Annette Halach. Alceste. Wiener Festwochen 1993. Wien, 1993. S. 6.
المرجع السابق، ص۷.
الاستشهاد من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 2. London/New York, 1988. P. 662.
الاستشهاد من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 1. P. 113.
الاستشهاد من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 1. P. 669.
نقرأ هنا عبارةً ذات مغزًى محدَّد بالنسبة إلى توصيف البناء الإبداعي لمسرح الفنان عند شومان ككل: «الممثلون والدُّمى ينصهرون في تمثالٍ واحد.»
الاستشهاد من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 1. P. 669.
فيما بعدُ يورد الناقد عبارةً من ملحوظاتِ باخ كما لو كانت تحقِّق في سياقها فكرةَ شومان: «النائمون يستيقظون، الأصوات تنادينا …»
الاستشهاد من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 1. P. 689.
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume 1. P. 209.
الاقتباس من كتاب:
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume II. P. 147.
Stefan Brecht: The Original Theatre of the City of New York from the Mid-Sixties to the Mid-Seventies. Book 4. The Bread and Puppet Theatre. Volume II. P. 597.
Bread and Puppet. Stories of Struggle and Faith from Central America. Burlington, Vermont, 1985.