في روسيا
إن ما يعنينا في البحوث السينوجرافية هنا هو التعبير عن الاتجاه العام، الذي يتلخَّص في تغيير طابعِ العمل في مسرح الفنان؛ فقد حلَّت السينوجرافيا المؤثِّرة محلَّ فنِّ الديكور (الذي كان سائدًا في مسرح العصر الحديث، والذي تناوَلَ مهمَّة رسمِ مكان الحدَث، بوسائلَ مختلفة، عن طريق تصميم الفضاء المسرحي بأساليبَ وطرائق متنوعة). وقد تناولَت هذه البحوث السينوجرافية مهمةَ صياغةِ الحدَثِ نفسه عن طريق تصميم الفضاء الخاص به، بما فيه من مكوناتٍ مادية وجمالية وغيرها، ومن بين هذه المكونات تشغل النماذج السينوجرافية مكانةً مهمة، وهي النماذج التي تعمل باعتبارها شخصياتٍ بصرية لها دورها المهمُّ في العمل المسرحي. في هذا السياق، فإن السينوجرافيا المؤثرة تستوعب بشكلٍ تام الوظائفَ والنُّظم السابقة لفنِّ الديكور وللسينوجرافيا التمثيلية لمختلف أشكال المسرح، وكذلك سينوجرافيا العروض الفولكلورية الطقسية-الشعائرية. وبالنسبة إلى الحدث الذي يقوم المخرِج ببنائه، فإنَّ تخطيط ديكور المكان، وكذلك السينوجرافيا التمثيلية أو الشخصيات البصرية المستقلة تمثِّل جميعها أمورًا مهمة جدًّا في تركيباتها وتكويناتها الممكنة كافة. في هذا المجال، فإن السينوجرافيا المؤثِّرة، كانت تتفق ومبدأ بريشت بشأن «تفكيك العناصر»، مع أنَّ الفنانين الرُّوس استندوا بالدرجة الأُولى إلى خبرتهم المحلية، أي إلى فكرة التوظيف الملائم، التي قدَّمها للمسرح مايرخولد والإنشائيون من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، إلى الاكتشافات السينوجرافية الغنية بتنوُّعها، والتي أنجزها فنانو المسرحيات لمخرِجي المسرح الروس الكبار في بداية القرن العشرين، بدءًا من ق. ستانيسلافسكي، وف. نيميروفيتش-دانتشينكو وصولًا إلى أ. تايروف، وي. فاختناجوف.
لنتذكرْ هنا فقط بعضًا من النماذج السينوجرافية التي وُضعت باعتبارها شخصياتٍ بصرية مستقلة في العرض المسرحي، والتي حددت إلى حدٍّ كبير طابعَ هذا العرض وإيقاعه وتشكيله وشكله ومضمونه. وكان من أكثر الذين عملوا في هذا الاتجاه على نحوٍ مثابر ومثمر د. بورفوسكي، ود. ليدير، وأ. شاينتسيس.
(١) دافيد بوروفسكي
منذ أعماله الأُولى في المسرح راح بوروفسكي (بدأ هذا الفنان في تصميم الأعمال المسرحية في النصف الثاني من الخمسينيات) يعالج المهمة التي اعتبرها المهمةَ الرئيسية بالنسبة إليه، وهي أن يعبِّر بصورةٍ مرئية باستخدام أدوات السينوجرافيا، عن الجوهر الأساسي وإشكالية المسرحية والظروف الجذرية للصراع الدرامي الكامن بداخلها. والمثال الدالُّ على ذلك هو مسرحية «دكتور شتوكمان» لإبسن، والتي أخرجها في عام ١٩٦٨م على خشبة مسرح موسكو للدراما (مسرح ستانيسلافسكي) قبل انتقالها إلى مسرح تاجانكا. يظهر أمام المشاهدين تكوينٌ من قبَّعاتٍ سوداء وصفحات صحفٍ مفتوحة، بصفتها شخصية صامتة، وإن كانت شخصيةً سينوجرافية جوهرية تمامًا. يشغل هذا التكوين سطح الجدار الخلفي، ثم ينتقل نحو الأبواب ليصبح نموذجًا «لقراء الصُّحف»، «ملتهمي الفراغ» الذي يمثلون «الرأي العام»، المعادي للبطل. في النهاية، وبعدما يقوم البلل باختياره الأخلاقي الصعب، يميل جدار القبَّعات والصحف بشكلٍ منذر بالخطر نحوه، ويدفعه نحو المنطقة الضيقة في مقدمة المسرح.
إن فهْمَ النموذج السينوجرافي، بوصفه شخصية بصرية مستقلة للعرض المسرحي الذي يجسد جزئيًّا أهمَّ الموتيفات الجذرية والغنية بالمضمون في هذا العرض، أصبح هو الأساس الذي قام عليه التعاون بين بوروفسكي ويوري لوبيموف في المسرحيات التي قدَّمها مسرح تاجانكا، وكذلك في العروض التي أنجزاها في الخارج.
افتتح البندول القوطي في مسرحية «ساعة الذروة» لستانيسلافسكي (١٩٦٩م) سلسلةَ هذا النوع من النماذج التي عُرضت على خشبة مسرح تاجانكا. وقد جسَّد هذا البندول موتيفة الزمن. عند حلول ساعة الذروة، كان هذا البطل أو ذاك، من أبطال المسرحية يقف عند البندول، يتأرجح معه، في إيقاعه الفردي وفي اتجاهه؛ مندفعًا معه أو متحركًا ببطء، وهو يشقُّ الفضاء بالعرض، من اليسار إلى اليمين، أو مفتوحًا إلى الخلف، كما لو كان يعود إلى الماضي، ثم يندفع مرةً أخرى بشكلٍ أقوى نحو الحافة الأمامية لخشبة المسرح، بل أبعد منها، إلى الأمام، أعلى الصفوف الأُولى للمشاهدين.
وفي مسرحية «والفجر هنا هادئ» من إخراج ب. فاسيليف، جرى بناءُ مجموعة نُوَت العرض المسرحي (البارتيتورا) بإعادةِ صياغةِ شكلِ شنطةِ سيارةٍ عسكرية. يهبط من «السماء» جنودُ الإنزال الفاشيست فيحطمونها إلى أجزاء، وترتفع جوانبها الخشبية في وضع رأسي، وتتحول إلى غابة، وفي الخاتمة تتخذ هذه الألواح شكل اللوحات التذكارية. تدور الألواح وقد الْتصقت بها شخوص بطلاتٍ ميتة، وعندما تختفي الفتيات تستكمل الألواح الخشبية الرقصة الحزينة.
وفي عرض «هاملت» لشكسبير الذي قدِّم على مسرح تاجانكا (۱۹۷۱م)، أصبحت الستارة المحبوكة المصنوعة من الصوف الشخصية السينوجرافية، وهي تعدُّ نموذجًا للانحلال والسقوط والهباء؛ الأمر الذي يعبِّر عن جوهر الظروف الأساسية للتراجيديا، ألَا وهو: «شيء ما فاسد في مملكة الدانمارك.» وفي الوقت نفسه، تكتسب الستارة، في سياق العرض المسرحي، معنًى مجازيًّا مجسِّدًا للخلود وللزمن والكونية. عندما راح اللون الأرضي لهذا البنيان يتحرك للمرة الأولى ببطء في اتجاه منتصف الخشبة مجتاحًا أمامه أيَّ شخص يعترض سبيله؛ كان هذا الأمر أحد أقوى الصدمات في هذه المسرحية، في حين راحت الستارة بعد ذلك تتحرك بشكلٍ فعَّال في إيقاعاتٍ واتجاهات مختلفة مشاركة في العرض، فتارةً تواجه الشخصيات، وتارةً تتابعهم دون رحمة وتعرقلهم من أقدامهم، وفي النهاية تضع خاتمةً لهذه القصة التراجيدية، فتخلي خشبة المسرح من الشخصيات التي تنهي المأساة، بعد ذلك تتحرك ببطء قاطعةً الفضاء الخالي، كأنها تقلب صفحةً من صفحات الوجود البشري.
وفي المسرحية التالية التي قدَّمها بوروفسكي على خشبة مسرح تاجانكا، بعنوان «تحت قشرة تمثال الحرية» للشاعر يفجيني يفتوشنكو (۱۹۷۲م)، يستخدم المخرِج جدارًا من الصُّلب بوصفه موضوعًا لأداء الممثلين، وفي الوقت نفسه يؤدي هذا الجدار دورَ شخصية سينوجرافية ذات مغزًى مجازي مستقل. يدفع هذا الجدار نحو مقدمة المسرح ليحاصر الممثلين في مساحة ضيقة في هذا المكان، مجسِّدًا نموذجًا لقوة لا تُقهر، مواجِهًا أبطال العرض من الطلبة الأمريكيين المتظاهرين والمتمردين. الشعارات التي كتبها المعادون للحرب وغيرهم من المتظاهرين غارقةٌ بالحبر واللون الأحمر وملطَّخة بالدم. الجدار يَصْفر ويُصلصِل كردِّ فعلٍ عندما يدقُّ الأبطال فوقه بأيديهم وأقدامهم ورءوسهم وكلِّ أجسادهم من اليأس والغضب. وعندما يصطدمون به يبدو العرض المسرحي وكأنه انفجر في احتجاجٍ هادر. وهنا تلتصق بالجدار (باستخدام مغناطيس) الأدوات المسرحية واللافتات وصورٌ من المجلات وقصاصات من الصُّحُف، ويزحف فوقه في إعياءٍ بالِغ المتظاهرون الذين قفزوا فوقه، ولا تثبت فوق سطحه الرأسي سوى شخصيةِ المسيح، وعلى نحوٍ بديع.
وفي مسرحيته عن بوشكين المسمَّاة «أيها الرفيق، آمِن!» (۱۹۷۳م)، كانت عربة القيصر الذهبية تقف على الخشبة بقوةٍ وثبات، وفي مواجَهتها خيمةٌ سوداء متنقِّلة يعيش الشاعر فيها حياته الحرة، وقد ثبتَت بسيور إلى سرج الحصان، في حين راحت تتأرجح بحُريَّة في الفضاء، وكلتاهما تمثلان شخوصًا سينوجرافية متعددة المعاني. وفي مسرحية «الجياد الخشبية» (١٩٧٤م) عبَّرَت الشخصيات السينوجرافية فيها عن جوهر إشكالية النثر الذي كتبه ف. أبراموف. أدوات مسحاة (شوكة تسوية الأرض) أُحضرَت من الحقول، وضعها بوروفسكي في وضعٍ رأسي مخالِف لوضعها الطبيعي وقد رُفعَت «على أطرافها»، مجسِّدة انتزاع الكادحين من الفلاحين عن أرضهم، مهدِّدة بأسنانها الحديدية مَن يقف في مواجهتها.
جدارٌ آخَر زجاجي مغطًّى بترابٍ عتيق وسِناج، متَّسخ ومكسور، أحضره بوروفسكي لاستخدامه في مسرحية «منزل على الكورنيش» (١٩٨٠م)، وقد جرى استيعاب هذا الجدار بوصفه مجازًا ملموسًا لحياة الناس أيام القهر الستاليني. حياة غامضة، تحركها قوًى غامضة ومواقفُ مبنيَّة من عمليات اختفاءٍ وظهور، ومن سقوطٍ وارتفاع لا تفسيرَ لها.
وحتى عندما وضَعَ بوروفسكي — كما يبدو — مكانًا محدَّدًا للعرض، كان هذا المكان نموذجًا لأهمية الشخصية، وتجسيدًا لجوهر الظروف الدرامية التي كان على الأبطال أن يتخذوا بشأنها قرارًا حاسمًا؛ وهكذا فإن العرض المكوَّن من صفَّين من مقاعدِ طائرة ترتفع وتهبط بالتناوب بالنسبة إلى محور المدخل، قد أصبح مجازًا مرئيًّا وفاعلًا بالنسبة إلى «مؤرجحي» المصائر الإنسانية في عمل ج. باكلانوف، ويو. لوبيموف «اربطوا الأحزمة» (١٩٧٥م). وفي مسرحية «مُفترَق الطُّرق» لفاسيلي بيكوف (۱۹۷۷م)، طبقات خشبية لطُرق الفدائيين، صليب فوق صليب، الواحد فوق الآخَر فوق حفرةٍ ضخمة سوداء لا قرارَ لها لقبرِ أحد الإخوة، نموذج بدائي لطريق، مُفترَق طُرق يمثِّل تجسيدًا للظروف الدرامية التي عاش فيها أبطال القصص الحربية لبيكوف. وفي مسرحية «التبادُل»، المأخوذة عن أحد أعمال يوري تريفونوف (١٩٧٦م)، يعبِّر البناء الفني عن الوضع الدرامي للانتقال الاضطراري للبطلة التي تحتضر، وذلك من خلال أشياءَ عميقةِ الخصوصية، ومن الحياة الحميمية لامرأةٍ عجوز، نجِدُ هذه الأشياء تُعرض ليشاهدها الجميع وهي ملتصِقةٌ بإعلاناتٍ لا نهايةَ لها، كُتِب عليها «للبدل» أو «للبيع». وفي مسرحية «الجريمة والعقاب» المأخوذة عن رواية فيودور دستويفسكي (۱۹۷۹م)، نجِدُ تجسيدًا مرئيًّا للجريمة التي ارتُكبت بواسطة إنستاليشن (إنشاء) لجزءٍ من غرفة العجوز المُرابية، نفِّذ بشكلٍ يتجاوز الواقع؛ ولجُثَّتَين غطِّيَتا على عجلٍ بأوراق الصحف؛ هذا الإنستاليشن يظلُّ موجودًا على امتداد المسرحية كلها عند الباب الأيمن، ويراه بشكلٍ دائم كلٌّ من الجمهور وراسكولنيكوف. وهو بمثابة «الحجة» الواضحة والدامغة التي تحدِّد وجهةَ نظر المسرح.
(٢) ونييل ليدير
إذا كان بفوروفسكي قد وضَعَ نماذجَ لكلٍّ منها شخصيةٌ ذات معنًى، وذلك لحساب العمل الإخراجي الذي يقوم به لوبيموف (الذي ضمَّن هذه الشخصيات في بناء المسرحية بشكلٍ عضوي)؛ فقَدْ كان على ليدير أن يعِدَّ نوتات (بارتيتورا) للعرض البصري، غير معتمدٍ فيها — في الأغلب — على تحقيق أيِّ تشابه مع المخرِجين الذين كانوا يعملون على مستوًى مغاير تمامًا من الفكر المسرحي. وكانت النتيجة أنَّ ليدير وضَعَ داخل المسرح العادي (والمسرح المبتذل في أحيانٍ كثيرة) الشكلَ الخاص لرؤيته لمسرح الفنان، دون أن يطمح — بأيِّ شكل من الأشكال — في هذا السياق، للخروج عن إطار حِرفته كسينوجرافي، وإنما ليفتح مساحاتٍ وآفاقًا جديدة لإمكانات هذه الحرفة، مفترِضًا في كلِّ مرة مفهومًا إخراجيًّا عامًّا للمسرحية ككلٍّ من ناحية الجانب التشكيلي والإيقاعي والشكلي لها.
أمَّا الفكرة البصرية الأساسية في مسرحية «النفَس الثاني» (۱۹۷۲م)، فقَدْ صنَعَها ليدير بواسطة خطوطٍ رأسية قائمة بارتفاع خشبة المسرح، ومغطاة بقِطَع من القماش الأبيض لتمثِّل «الشخوصَ» لنُصبٍ تذكاري للأبطال الذين استُشهدوا في المقاومة ضدَّ الفاشيست، وعندما تسقط هذه الأقمشة في الخاتمة، تظهر بالقرب منها قضبان السكك الحديدية المنزوعة، وبنادق آلية على هيئة صلبان.
وفي مسرحية «ليلة غاب فيها القمر»، من تأليف م. كريم (۱۹۷۲م)، يعاني البطل السينوجرافي الرئيسي حياة درامية صعبة، ويتمثل هذا البطل السينوجرافي في قطعة من الجِلد مصلوبة على أعمدةٍ خشبية تبدو ممزَّقة ومهترئة عند موضع الغَرْز. وتجسِّد هيئتها التشكيلية شدةَ التوتر، وعندما تتغير هذه الهيئة على نحوٍ درامي تصل إلى أعلى حدَّة التوتر. وفي مشهدِ عتمة القمر، يسقط الجِلد فوق الناس الذين أصابهم الذُّعر؛ وهذا الأكشن السينوجرافي، يُدرك بوصفه طوفانًا يجتاح العالَم بأَسْره.
أصبحت الشخصية السينوجرافية الرئيسية والموضوع، الذي يكشف على نحوٍ بصري الموتيفات العاطفية لمسرحية «ضوء المساء» من تأليف أ. أربوزوف (١٩٧٥م) عند ليدير؛ هي طَوْفًا خشبيًّا ثقيلًا معلَّقًا فوق خشبة المسرح. كان هذا الطَّوْف يمثِّل نموذجًا لمربط سُفُن، مأوًى، استقرار، للوجود النثري الثابت والراسخ، وفي الوقت نفسه كان يحلِّق في حرية، متجاوِزًا الجاذبية الأرضية، مدعومًا بخيوطٍ دقيقة لبالونات خفيفة تجسِّد البداية الشِّعرية للحياة الإنسانية.
وفي السبعينيات توصَّل ليدير إلى عددٍ من الحلول التي عالَجَ بها البناء الفني لحركة ووقفات وإيماءات شخوص الممثلين، أي توصَّل إلى «السينوجرافيا الحيَّة» كما أطلق عليها هو نفسه هذا الاسم.
(٣) أوليج شاينتسيس
شاينتسيس هو الوحيد من بين أساتذة السينوجرافيا الذي اعترف المخرِج م. زخاروف بصراحة وبصورةٍ تظاهُرية بدوره المهم في تصميم الرسوم البصرية لمسرح لينكوم وإعدادها. وبناءً على مبادرة زخاروف، وُضعَت كلمة «مخرِج السينوجرافيا» على الإعلانات قبل اسم الفنان بدلًا من الاكتفاء بكلمة «سينوجرافيا». وهو أمرٌ لم يكن شاينتسيس نفْسُه يطمح إليه بأيِّ حالٍ من الأحوال. كان شاينتسيس يعمل قدْرَ استطاعته، ويقدِّم ما يرى أنه ضروري، ولم يفكر قَط أنَّ منهجه في تصميم الموضوع البصري لحياة الفضاء والعرض المسرحيَّين هو في واقع الأمر عملٌ، في جوهره، من أعمال الإخراج. وقد أعدَّ شاينتسيس كثيرًا من الرسوم التخطيطية والمَشاهد، مقترِحًا أن يقدِّم من خلالها ليس فقط أكشن سينوجرافيا؛ وإنما تكوينات تمثيلية إخراجية رمزية أكثر مغزًى وقدرةً تعبيرية. حدَّد شاينتسيس هذه الرسوم التخطيطية المتعددة للمَشاهد (لعلَّ من الدقة أن نسميها تخييلاتٍ حرةً على موضوع المسرحية) لزخاروف، ووضعها تحت تصرُّفه بوصفها تنويعاتٍ ما ممكنة لبناء هذا المشهد أو ذاك في هذا الفضاء الذي صمَّمه.
ظهَرَ تعبيرُ «مخرِج السينوجرافيا» الموضوع على إعلانات مسرح لينكوم في عام ۱۹۹۳م. سبق ذلك عَقد ونصف من التعاون الإبداعي الذي أظهَرَ فيه شاينتسيس عدَّةَ مرَّات أنه كان يستحقُّ أن يحمل هذا الاسم.
منذ العمل الأول مع زخاروف في مسرحية «ألعاب عنيفة»، من تأليف أ. أربوزوف (۱۹۷۹م)، اقترح شاينتسيس، إلى جانب ما اقترحه من المواصفات المكانية المسرحية لشقة في موسكو، بناءَ عجلةٍ ضخمة في النصف الأيسر لخشبة المسرح لونها أحمرُ فاتِح تمثِّل نموذجًا للمضمون القديم لا علاقة لها — كما يبدو — بهذا المكان. هذا الاتجاه الحاد في رسْمِ الخطوط والنزعة الميكانيكية الصريحة في دوران العرض المسرحي بمصاحبة أصواتِ موسيقى إلكترونية هيستيرية؛ أدخل الإحساس بالفزع والضغط على الأعصاب منذ الثانية الأُولى للعرض. في لحظة الذروة، تنتفض العجلة لتحمل أحد أبطال المسرحية إلى خارج العرض. وفي الخاتمة، يحدث تداعٍ للأفكار مع ألعاب حدائق الأبطال، حيث تدور العجلة بمرح، وتُضاء اللمبات بمختلف الألوان. وفي السياق العام للمسرحية، يرمز دوران العجلة إلى التلاعب المستمر والقاسي بالمصائر الإنسانية وبالحياة.
حملَت السينوجرافيا التي ابتكرها شاينتسيس في عروض «يونوتا وافوس» (۱۹۸۱م)، و«التراجيديا المتفائلة» من تأليف ف. فيشينيفسكي (۱۹۸۳م)، معنًى دالًا بالنسبة إلى تشكيل العرض المسرحي الذي بناه زخاروف، وكذلك بالنسبة إلى إيقاعه وشكله. وفي المسرحية الأخيرة، ترتفع وسط الطبقات المطمورة من «الرماد» (المكوَّن من نثار الخشب الأسْوَد) سلَّماتٌ ضخمة من صخورٍ ضخمة من الحجر الجيري، تحمل هذه الصخور آثارًا درامية من البيئة والطوفان، سواء طبيعية أو جاءت نتيجةً لتقلبات التاريخ البشري، تعرضَت السطوح خلالها لعددٍ لا يُحصى من الدمار والتشقُّقات والتفتيت، التي تجمَّدَت فوقها مكوِّنةً نتوءات غير مستوية من بُقَع وطبقات. يتطور موضوع المسرحية في هذا المنظر الميت باعتباره ذكرياتٍ لمأساة وقعَت في زمنٍ سحيق جدًّا. وبالنسبة إلى الفنان، كان من المهم أن تدخُل المفوضة (القوميسيرة) إلى المكان لا في فستانٍ من الجِلد؛ وإنما مرتديةً بلوزةً بيضاء خفيفة وقد اعتمرَت قبعة، وحملَت مِظلَّة من الدانتيل، وحذاءً له كعبٌ عالٍ وفي يدها حقيبة. كانت الشخصيات تظهر من أسفل، من الرماد الأسْوَد، كما لو كانت صاعدةً من الجحيم، أو تتسرب من خلال تشققات الصخور. تميل الصخور تدريجيًّا في اتجاه الشخصيات والمشاهدين، الذين لم يلاحظوا بدءَ حركتها؛ وإنما شعروا فقط في اللاوعي، أن تغييراتٍ ما تحدُث في الفضاء المسرحي. وفي الوقت نفسه، تشتدُّ إضاءة الأسطح البيضاء، وبحلول خاتمة المسرحية تسبح هذه الأسطح في لونٍ لامع، ويشتدُّ بياضها إلى أقصى حدٍّ ممكن، مقتربةً جدًّا من قاعة الجمهور، تبدو وكأنها «أغلقَت» البابَ بالأحجار وهنا تتحوَّل ليس فقط إلى أداةٍ لمنظرٍ كوني؛ وإنما إلى نجومٍ هائلة، وتكتسي شخوص أبطال المسرحية الذين لقوا حتفهم باللون الأبيض (كأنها خاليةٌ من الدم)، وبوجوهٍ غشاها الموت تتجمَّد مثلَ نقوشٍ بارزة منحوتة. يستمر موضوع الذاكرة على يد الفنان خارج حدود الفضاء المسرحي، حيث تتجسَّد في صورٍ فوتوغرافية تسجيلية للبشر الذين عاشوا في ذاك الزمن: بحَّارة وضبَّاط من الحُمر والبيض [الشيوعيين وأنصار الحكم القيصري. (المترجم)] جميعهم معًا، الواحد وراءَ الآخَر في صفٍّ واحد يبدأ من عمق المسرح مارًّا عبْر المسرح كلِّه، خارجًا من باب قاعة الجمهور، ممتدًّا عبْرَ البهو العلوي (تبعًا لفكرة العمل، فإن هذا الصفَّ من الصور ينبغي أن يقابل الجمهورَ أمام مدخل المسرح، وأن يرافقهم حتى الخشبة نفسها ليختفي في جوف الفضاء المسرحي).
وإذا كان الأكشن السينوجرافي في مسرحية «ثلاث فتيات يرتدينَ ملابسَ زرقاء» هو الذي انتهَت به المسرحية؛ فإنَّ عرضَ «لكلِّ جوادٍ كَبْوة» لأستروفسكي (۱۹۸۹م) — على عكس ذلك — يبدأ من الأكشن السينوجرافي؛ فقد كان أولُ ما شاهَدَ الجمهور ستارةً مرسومًا عليها موتيفاتٌ لموسكو القديمة. أمَّا عملية رفْعِ الستارة، فقَدْ أعدَّها الفنان بوصفها مشهدًا مستقلًّا تمامًا يمثِّل النفاذ إلى عالَم المسرحية. وبصعوبةٍ بالغة، متخطية مقاوَمة القوى المجهولة، تنفصل الستارة عن الأرض، وترتفع ببطءٍ كما لو كانت تصعد بلا رغبة، وعندما تصل إلى أعلى نقطة يتمزَّق طرَفُها وينشقُّ وينفتح فضاءُ ضياءٍ على جلوموف مغلَقٍ تمامًا بجدارٍ حديدي أسْوَد مرتفع. وفي الوسط، يُسمع صوت فحيح فرن، وكلما نظَرَ جلوموف أكثر إلى النار الشيطانية المغوية، ازداد خياله قوةً ليظهر ويمتدُّ نحوَه العالَم الطمَّاع الموجود وراء الجدار الحديدي. يدقُّ جلوموف في يأسٍ بالِغ هذا الجدار بيدَيه وقدمَيه، جاثمًا عليه بجسده؛ يستسلم الجدار ويستدير محدثًا صريرًا، ويرجع إلى الوراء ببطءٍ إلى اليسار، ليشقَّ عمق الفضاء المسرحي كلَّه، والمكوَّن من مسطحات من المرايا. يتَّجه جلوموف إلى حيث يجلس سادة العالَم خلف مائدةٍ بيضاوية يتناولون عليها الطعام. وكعلامةٍ بصرية على الثراء الفاحش لهذا العالَم، يمتلئ فضاءُ المسرح بثريَّات ذاتِ شموعٍ كثيرة فاخرة، تهبط من أعلى، تتلألأ هذه الثريات بشلَّالات من الدلَّايات البِلَّوْرية لتشكل شخصياتٍ سينوجرافية مستقلَّة، تعمل على امتداد العرض التالي كلِّه. وهذه الثريَّات تؤدي أدوارًا مختلفة، فتنتقل من مكانٍ إلى آخَر، أو تتجمع أو يقدِّم كل منها دورًا منفصلًا، فتارةً تمثل دور نجوم السماء البِلَّوْرية في (الليل)، وتارةً تتجمع على هيئة تنورةٍ ضخمة على هيئة جرسٍ يغلِّف الثريات بداخله نحو مامايف. وفي الخاتمة، وإبَّان الاجتماع الأخير على المائدة، يخلع جلوموف، الذي بلَغَ به الإعياء الحدَّ الأقصى بعد «الضيافة»، يخلع ملابسه بعد أنْ لم يعُد بمقدوره تحمُّل محنة هذا العالَم؛ فيروح وهو عارٍ وفي حالة ضعفٍ شديد يضرب في الجدار الحديدي، وفي هذه اللحظة تبدأ الثريات المعلَّقة فوق المائدة نحوَ خشبة المسرح، تلتوي وتدور، ثم تنتشر دلاياتها البِلَّوْرية على الأرض. تنتهي قصة «الحكيم»، وبوصفها النقطة البصرية الأخيرة، تسقط الستارة المرسوم عليها موسكو القديمة، ويبدو هذا الرسم الآن غارقًا في تياراتٍ قذرة.
هذا الأكشن السينوجرافي المؤثِّر وضَعَ تصميمه وبناه شاينتسيس في مسرحية «مدرسة المهاجرين» من تأليف د. ليبيكيروفا (١٩٩٠م). وعندما يأخذ بطل المسرحية، مدرِّس الألعاب الرياضية، الذي يعيش على سريرٍ في قاعةٍ للألعاب الرياضية خاليةٍ تُرمَّم، يأخذ في الاندفاع في حياةٍ أخرى من بنات أفكاره، متسلِّقًا حبلًا وقد ارتدى الثوب الرسمي للأمير تروبتسكوي، يبدأ السقف في الهبوط في مواجهته كاشفًا المكان خلفه، جاذبًا إلى الوراء هدفًا جميلًا خياليًّا مضفرًا من أقمشةٍ غالية الثَّمَن من الديباج وخيوط الذهب والفضة والتِّرتر ووسائل البهرجة الأخرى. يدرك هذا الموضوع بوصفه جزءًا من ديكورٍ قديم جميل، يمكن أن يكون قد صُنع في زمن الرسَّام أ. جولوفين أو من أحد فناني العصر الفضي البارزين. وبعد أن يظهر بطل المسرحية في وسط قاعة الألعاب الرياضية للمدرسة الحديثة؛ يقدِّم نموذجًا لحفلٍ مسرحي في شكل «اجتماعٍ للنبلاء»، مجسِّدًا تصوُّر البطل للحياة الجميلة في الماضي، تتحطَّم بعدها هذه الرؤية الخيالية؛ فتنكمش وتتقلَّص ثم «تزول». وفي مشهدٍ آخَر من هذه المسرحية، تنشط شخصيةٌ سينوجرافية صمَّمها وبناها شاينتسيس، وهي عبارةٌ عن ثورٍ اصطناعي ركِّب من أُطرٍ لدرَّاجاتٍ وتروسٍ وعجلاتٍ صغيرة وبدَّالاتٍ ومقود. يظهر الثور في وقتِ «مصارعة الثيران»، حيث تتلألأ لمبات «عيون»، رافعًا «ذيله»، مندفِعًا نحو القماشة الحمراء التي يحملها مُصارع الثيران ليسقط مهزومًا على الأرض، و«يموت» على نحوٍ مؤثِّر.
وفي مسرحية «الخدعة» المأخوذة عن أحد الأعمال الأدبية لنيكولاي جوجول (١٩٩٩م)، يقترح الفنان أن يبدأ العرض المسرحي (قبل ظهور الممثلين بفترةٍ طويلة) بتقديم كائناتٍ ما سينوجرافية يسميها «الحبَّار»، وتؤدي هذه الكائنات «عرضها» بعد أن ينتهي الأكشن السينوجرافي الأول. ويتلخص هذا الأكشن الذي يُعرض في فضاءٍ مكشوف تمامًا في هبوط مونوريل أحمر في سلاسة، يتحرك بواسطته تلفريك يتدلَّى منه خطاف، يمتدُّ متحركًا فوق خشبة المسرح كما لو كان يرسم فوقها خطًّا لطريقٍ ما دون أن يترك — مع ذلك — أيَّ أثرٍ فيها. وبعد أن يقوم بهذا العمل الغريب الذي لا تفسيرَ منطقيًّا له، يصعد الخطَّاف، ولكنْ بطريقةٍ غامضة مع التلفريك والمونوريل ليثبت فوق الخشبة. يهبط من العَجَل جسرانِ معدنيان، يجلس على أحدهما الموسيقيون وقد أمسكوا بآلاتٍ موسيقية تصدر ضجيجًا وأصواتًا من تأليف شاينتسيس، وعلى الجسر الآخَر الموضوع إلى أسفل تزحف ببطءٍ الكائنات المعدنية «الحبَّار» («عناكب»، «سلاحف»، «تنانين»؛ كما يسميها ب. كازيمين في ملاحظته). وبعد أن يصل أولُ هذه الكائنات إلى نقطةٍ محدَّدة، تسقط الكائنات الأخرى بعده من الجسر إلى أسفل. وعلى أثرِ ضربةٍ على خشبة المسرح يدوي صوتُ انفجار وتتدفَّق بُقعةٌ رطبة على الأرض وتخيِّم على المكان أعمدةٌ من الدخان الأبيض، وعندما ينقشع الدخان يندفع «الحبار» على الخشبة في شتَّى الاتجاهات؛ فتنقلب رأسًا على عقب، وتسيل على أجنابها، ثم تثِب وتقفز، وبعدها «تلفظ أنفاسها الأخيرة»، وفي عجزٍ بالغ ترفرف على طرَف الخشبة بين الحياة والموت.
فقط بعد أن ينتهي هذا «العرض» يدخل الممثلون لأداء عرضهم. يبدو كلُّ موقفٍ مسرحي هنا مرسومًا سلفًا مع تخطيطٍ توضيحي جرافيكي في «براويز» صنَعَها الفنان للمخرِج الذي أخَذَ في حسبانه، كما فعل من قبل في الأعمال الأخرى مع شاينيتس، هذه المواقف عند بنائه للتكوينات الإخراجية (الميزانسين).
على هذا النحو، كانت المحصِّلة الدلالية التي اقترحها الفنان للموضوع الدرامي للعرض السينوجرافي، وتتلخَّص في أنه مهْمَا بنَت روسيا من «سفنٍ» رومانسية، ومهْمَا سعَت بها نحو «أمريكا» المرتقبة، فإن كلَّ شيء سينتهي بعجلة التعذيب والمعاناة النفسية والجسدية، وبفوضى جديدة واضطراب، باعتباره الوسيلة الرئيسية لوجود هذا البلد الذي تبلغ مساحته سُدس مساحة العالَم.
(٤) سيرجي بارخين
وفي رسم تخطيطي آخَر بعنوان «البطيخ البالادياني»، تتوزَّع مجموعةٌ من الشباب فوق بطيخ مقطَّع وسْطَ أدواتِ تمثيل، على هيئة فواكه نشَرَها الفنان بكرمٍ بالغ على خشبة المسرح. وعلى يمين الخشبة، تنتصب أعمدةٌ ضخمة، وعلى اليسار منظورٌ لقصرٍ من طرازِ عصر النهضة يسير على نحوٍ مائل وقد اكتسى بألوانٍ (مثل ألوان الأعمدة) وهي الألوان نفسها التي يرتديها الممثِّلون، مرِحة ومرعبة في الوقت نفسه، تنتشر سائلةً مثل ألوان الطيف (عبَّر الفنان باستخدامه هذه الألوان الغريبة عن أزمة البترول التي انفجرَت في تلك الفترة).
الرسم التخطيطي الثالث (وقد نُفِّذ في المسرحية)، ويسمَّى «نشارة كورينثية»، هنا تشكِّل تيجان الأعمدة العملاقة عالَم التراجيديا الشكسبيرية. تمتدُّ هذه الأعمدة في نفس التكوين الفني الموجود في الرسم التخطيطي الأول لرأس بييرو ديلا فرانشيسكو وهو على هيئة صفَّين من الأعمدة التي تمتدُّ إلى عمق خشبة المسرح صاعدةً نحو السماء مع قمرٍ رومانسي. على جانبٍ تيجان الأعمدة الأيونية («كابوليتي»)، وفي الجانب الآخَر الكورينثي («مونتيكي»). وهنا نرى «العمارة» المستخدَمة كديكور، وكان الطلاب قد كسوها بالجصِّ بألوانٍ حمراء فاتحة وخضراء وزرقاء. كان بارخين يودُّ لو أنَّ طلاب الاستوديو أنْهَوا تجصيصَ الديكور في حضور الجمهور، ثم بعد ذلك، عندما تدور رَحَى المعركة، يستخدمون فرشات الرسم بوصفها أسلحةَ المعركة.
تظهر تيجان الأعمدة وقد رُسمت على هيئة كوليسات-«رءوس» أعمدة، في حين يغرق الجزء الأكبر من العمود فيما يسمَّى ﺑ «الطبقة الثقافية» للتاريخ. يشكِّل النشارة الطبيعية التي تغطِّي خشبة المسرح «الطبقة الثقافية». وفقًا لخطة بارخين، فإنَّ هذه النشارة تتساقط من جذوع الأشجار، التي من المفترض أن تكون قد نتجَت من قيام شابين بنشرها في عمق المسرح في أثناء العرض. ثم وُضع بعض الأدوات المسرحية المستخدمة في تمثيل العرض فوق هذه النشارة: برتقال أصفر، تفاح أخضر، ليمون أصفر. وتشكِّل الآلات الموسيقية المكوَّنة من ماندولين، وطبلة، وبرميل معدني مكرمَش، وعُلَب طلاء، وأخيرًا كومة من بيض الفراخ، الكماليات الأساسية لأداء الممثلين في أهمِّ أوقات المسرحية. وكنوعٍ من اللهو يأخذ بعض الشباب من جماعةِ ميركوتسيو في إلقاء البيض على الجدار الخلفي المغطَّى بالألباستر؛ فيسيل على سطحه «صفار البيض» مكوِّنًا بقنًا فوضوية.
نتيجة للسينوجرافيا التمثيلية الصريحة التي وضعها بارخين؛ يتحقق أمامنا نموذجٌ درامي مبني على الصراع الحادِّ المتمثِّل في المقابلة بين البقايا الأخيرة لعمارة عصر النهضة من ناحية، ومع أنها مرسومة، ومع أنَّها موشَّاة بالزخارف، ولهذا السبب لا تقل جمالًا وانسجامًا عنها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، بين الكميات الكبيرة من النشارة اللَّزجة المنتشِرة في كلِّ مكان والشاحبة، التي تجسِّد قُوى الشر الوحشية، والتي لا ملامحَ لها، ولا اختلاف فيما بينها، ولا تتسم بالروحانية، والتي تبتلع الجمال والفن والحُب وتدمرها.
أصبح العرض الموسيقي المعروف باسم «تيفي من أناتيفكا» من تأليف ج. بوك وج. ستاين (۱۹۸۳م)، هو العرض الذي وضَعَ بارخين تحديدًا فيه المَشاهد البصرية الرئيسية. وقد اقترح الفنان، بعد أن وضَعَ نموذجًا لخيمةٍ يهودية تمَّ عملها من أقمشةٍ عليها كتاباتٌ قديمة وعلامات طقسية، اقترح أن يقوم المؤدُّون أنفُسُهم بتغيير شكلها. وفي لحظةِ ذروة العرض، نرى هؤلاء المؤدِّين وقد سار كلٌّ منهم خلف قماشته وقد حشَرَ رأسه في فتحةٍ فيها، وقد رفعوا جميعًا أيديهم جانبًا، وأخذوا خطوةً إلى الأمام معًا في وقتٍ واحد. وفي آنٍ واحد أيضًا يُنزع القماش من أماكن تثبيته ليُوضع على شخوص الممثلين باعتباره ملبسًا لهم، في حين يصطبغ الفضاء المسرحي الأرجواني الموحي بجوِّ الأعياد في لحظةٍ خاطفة بلونٍ أحمر قاتم. وفي نهاية الفصل الثاني، يتغير المكان بالطريقة نفسها إلى اللون الأزرق، في حين تبدو الشخصيات، بالتالي، وقد ارتدَت الآن ملابسَ حمراء قاتمة يؤدُّون بها رقصةَ البكاء الطقسية. وعندما يطردون في ختام المسرحية من أناتيفكا؛ فإنهم ينزعون عنهم هذه الطبقة الزرقاء من القماش التي يتضح أنها الطبقة الأخيرة. يظهر على الجمهور ما تبقَّى من حُطام هذه الخيمة ومن الموقع اليهودي الذي دمِّر، ولا يبقى من الخيمة سوى هيكل عارٍ لا لونَ له. يسير المطرودون وقد ارتدوا ملابسَ زرقاء في تيار عبْر السُّلَّم المؤدي إلى أعلى، إلى السماء، إلى العالَم الآخَر.
في النهاية، فإن المسرحية التي قام التناول السينوجرافي فيها بتحديد طابعِ الحدث المسرحي وشكله ومضمونه، كانت هي أوبرا «نابوكو» لفيردي (۲۰۰۱م)، والتي عُرضت من بين أعمال بارخين على مسرح البولشوي. لقد عبَّر الفنان عن المواجَهة الحتمية بين قوتَين، حضارتَين، عالَمَين من خلال الصراع البصري ﻟ «الموسيقى» الجرافيكية لنصوصٍ مقدَّسة قديمة من التوراة غطَّت تمامًا الأسطح البيضاء لجدرانِ أطلال هيكل الملك اليهودي سليمان الذي دمِّر، وقد ظهرَت خطوط الكتابة الآشورية المسمارية عند إدارة الجدران نحوَ الجانب المُظلِم. لقد تمَّ التعبير عن المصير الحتمي لهذه الحضارة وتلك من خلال الكتابة الكهنوتية «المحفورة» على الجدران، وقد قُرِئَت على بصيصٍ من الضوء؛ مما جعَلَ الجدران الضخمة السميكة تبدو كما لو كانت جدرانًا رقيقة. وفي خلفية المسرح، وفي وسط من الغابات الإنشائية المعدنية، يظهر برج بابل، وتأتي ذروة المسرحية لحظةَ جنون «نبوخد نصر» الذي يمثِّل رمزًا للتحدي العدواني الشرِس لله؛ إذ يحترق في لهيب النيران. وقد أدى تبديل أماكن الجدران المغطاة بالكتابة والتحويل المتعدد في زواياه إلى خلْقِ تكويناتٍ متغيرة للفضاء المسرحي ووضعِ ظروفٍ لبناءٍ تعبيري — من الناحية التشكيلية — للتكوينات الفنية لميزانسين توزيع الجوقات والمغنين الانفراديين.
(٥) مسرح الفنان الورقي
نشأ التشابه بين «المسرح الورقي» عند بارخين وما عرف ﺑ «العمارة الورقية»، وهي الظاهرة التي نشأت في السبعينيات والثمانينيات كبديلٍ للواقع القائم في البناء وفنِّ العمارة السائدَين في تلك الفترة. ومثلها مثلُ مشروعات «العمارة الورقية» التي من بينها أهمُّ مشروعات بارخين نفسه (نذكِّر أنَّ بارخين تلقَّى تعليمًا معماريًّا، وكانت العمارة هي حرفته الأُولى)، فقَدْ عُدَّت مسرحياته تثبيتًا أدبيًّا للأفكار المسرحية البصرية التي وُلدت في مُخيِّلة الفنان، ولكنها لم تتجسَّد على خشبة المسرح. وحتى هذا الأمر كان يمثِّل قصةً قصيرة تتضمن رؤيته للعمل المسرحي بوصفه أكشن تشكيليًّا متحررًا (مقارنةً بالتقاليد الأوروبية) من هيمنة النص الأدبي وما به من إسهابٍ وحوارات طويلة ومونولوجات وما إلى ذلك.
(٥-١) الصيف الأسود
يجب تنفيذ تعليمات المؤلف كافَّة، وإلا سيضطر الكاتب أو ورثته إلى اللجوء إلى محكمة زيوريخ الدولية في أمستردام المختصة بالنظر في حقوق المؤلف.
الشخصيات
أركادي (أركادي سيرجيفيتش ستوب)، شاب يبلغ من العمر ٣٤ عامًا، يرتدي بدلةً سوداء من القطيفة، وقميصًا أسود من القطيفة الحريرية.
ماريا نيكولاييفتا أوفتشينيكوفا، أرملة شابة تبلغ من العمر ٥٠ عامًا، مالكة ضَيْعة المستقبل، ترتدي ثوبَ سهرة من القطيفة السوداء، وتزيِّن رقبتها بعِقدٍ من الأحجار الكريمة ذاتِ لونٍ أرجواني من تشيكوسلوفاكيا.
ناتاشا، بائعة لبنٍ تبلغ من العمر ١٨ عامًا، تأتي من مسافةٍ بعيدة لتشاهد جهاز الفيديو، تحبُّ أفلام برجمان، تسير على المسرح بخطواتٍ راقصة، ترتدي ثوبًا أسود من القطيفة بسيطًا وقصيرًا جدًّا، مبتذلًا عند الصدر والبطن والفخذَين والأرداف وعِظام اللَّوح والكتفَين.
غرفة تشبه شرفةً كبيرة تخصُّ ماريا نيكولايفنا (ذات جدران مكسوَّة، كما شاهدنا من قبل، بقطيفةٍ سوداء) ولها نافذتان كبيرتان وبابٌ زجاجي في وسط الجدار الخلفي المواجِه للجمهور. الستائر من القطيفة السوداء لها شراشيب. على اليسار بوفيه كبير وباب للدخول. في الأمام سُلَّم ذو (درابزين) له أعمدة يقود إلى الطابق الثاني. مائدة على اليمين، وفي الخلف جهازُ تليفزيون، وفي الركن الأيمن الأمامي مِدفأةٌ مملوءة بأخشابٍ سوداء غضَّة. ومن خلف النافذة، يتراءى الربيع. جذوع أشجارٍ سوداء، شُجيرات سوداء، وسماء سوداء، صوتُ ضجيج منخفض لمحوِّلاتٍ كهربائية وبروجيكتورات تعمل. صوتٌ مرتفع لخطواتٍ خفيفة، تدخل ناتاشا وهي تتراقص (ميكروفونات كثيرةٌ موضوعة أسفل الخشبة؛ ولهذا يمكن الاستماع إلى كلِّ خطواتها) تحاول فتْحَ الترابيس (بالتتابع)؛ ترباس النافذة اليسرى، ثم الباب، ثم النافذة اليمنى. المزاليج والمقابض مرتفعة، في حين تروح ناتاشا لفترةٍ طويلة تعرض علينا ساقَيها الجميلتَين التي لوَّحتْهما الشمس، وكذلك أردافها البيضاء، ولعلَّه كان من الأفضل لو لم ترتدِ الممثلة سروالًا. تنصاع النافذة اليسرى وتنفتح على مصراعَيها؛ فيغمر الضوء أكثرَ فضاءِ المسرح.
(تقترب الفتاة من النافذة.)
أصوات أوركسترا كامل: صفير قصير لسيارة: بيب بيب، صافرةُ حَكَم كرة قدم فييي … صراخ أطفالٍ طويل وهادئ: أي، إي، بيتكا، آآآ. إخ ناولني … أف … تحكُّ الفتاة فخذها بصوتٍ عالٍ دون أن تستدير: شي، شي، شي… (يضيع الصوت في ضجيج طائرة تحلِّق): ش… ش… ش… ج… ج… ج… أَ… أَ… أَ… ش… ش… ش.
تفتح الفتاة النافذة اليمنى فينساب إلى المسرح غناءٌ هادئ على صوتِ جيتار (مع صوتِ مقصٍّ يقلِّم الفروع): «هل افتتنت بجمالٍ آخَر؟»
تمتد يدٌ في النافذة لتقدِّم باقةً من زهور التيوليب السوداء، تلتقط ناتاشا الباقة ثم تلتفت؛ فنرى عندئذٍ أنها ترتدي نظَّارة سوداء، ومنذ هذه اللحظة تأخذ في التحرك وكأنها عمياء. تتلمس الأشياء حتى تجِدَ آنيةَ زهورٍ سوداء من الزجاج، تضع فيها زهورًا، ولكنها في هذه اللحظة تُسقِط الإناء، يُدوي صوتُ تحطُّم الزجاج: دزين – دزين – دزين – طراخ.
تستند ناتاشا على رُكبتَيها على الأرض اللينة بالقرب من الميكرفون، تجمع شظايا زجاجِ آنيةِ الزهور الذي يُصدر صوتًا مميزًا. يحملق الجمهور باهتمامٍ؛ ينظر إلى فخذَيها وأردافها.
(تخلع نظَّارتها وتنظر.)
تدخل ماريا نيكولايفنا من الجانب الأيسر، دون أن تلاحظ وجود ناتاشا أسفل المائدة. تفتح البوفيه وتأخذ في وضعِ مفرشٍ أسْوَد على المائدة، ثم ترصُّ أواني سوداء لا تكاد تُرى. تطرق الأواني بالشوك والخزف. صوت صلصلة الكُئُوس الزجاجية السوداء في البوفيه. تغنِّي أغنيةً يختارها المخرِج. يندفع جاشنكا نحو الباب الخلفي قادمًا من الحديقة وقد فتَحَ عينَيه على اتساعهما، وقد أخَذَ يدبُّ بأقدامه الحافية فوق القرص الدوَّار لخشبة المسرح صائحًا: الحرب، الحرب. يبدو الممثلون والجمهور في حالةِ ذهول.
لقد أحسَّ الممثلون والجمهور بالحيرة والذهول، فضلًا عن كلِّ الذين قرأ عليهم بارخين هذه المسرحية، والذين أُعجبوا بخبراته الأدبية السابقة، وبحلول هذه الفترة كان بارخين قد كتَبَ عددًا من القصص القصيرة وذكرياته عن طفولته وشبابه، كما كتَبَ عن رفاقه ومعلِّميه. هناك تفسيرٌ لهذه الحيرة؛ فالجزء الأكبر من النصِّ «ملاحظاتٌ» مسرحية تصفُّ — وعلى نحوٍ تفصيلي — المكونات البصرية (الملابس، الديكور) والصوتية للمسرحية، والتي تشير إلى فصولٍ متفرقة للشخصيات؛ وعند اقتراب النهاية فقط، يقوم اثنان من هذه الشخصيات بإلقاء تعليقَين لا قيمةَ لهما. مَن الذي يكتب مسرحيات على هذا النحو؟ إنه الفنان وبالنسبة إلى هذا الفنان تحديدًا، فإنَّ أهمَّ شيء لديه في هذا العرض الذي يقدِّمه هو فكرة السواد. يتكوَّن مظهر الممثلين على النحو التالي: بدلة سوداء وقميص أسْوَد لدى أحدهم، فستان أسْوَد لدى ممثلة، بنطلون قصير أسْوَد مع ربطة عنقٍ سوداء لدى ثالث. بالنسبة إلى الديكور، مع الأخذ في الحسبان أن خشبة المسرح مُضاءة بأشعةِ شمسٍ ساطعة وحارَّة، نجِدُ الجدران والسقف والأرضية والستائر والموائد والمفارش والأواني والكُئُوس كلَّها باللون الأسْوَد، حتى الخشب عند المِدفأة باللون الأسود، في حين تبدو الأشجار والسماء من خلف النافذة وقد اكتسبا لونًا أسْوَد، ونجِدُ الكماليات عبارةً عن باقةٍ من زهور التيوليب الأسْوَد وآنية زهور سوداء.
وفي مسرحية «بلياردو في أول» نجِدُ إلى جانب العناصر السينوجرافية ذات المضمون والدلالة المؤثرة (الفضاء الأخضر المغلق مع رقعة البلياردو، تنتشر فوقها أوتادٌ وأسطوانات وقِدرٌ تتصاعد إلى أعلى في البداية متراقصةً، ثم تهبط في ختام المسرحية)، ويقدِّم بارخين هنا فكرةً تشكيلية «كوريوجرافية» تحديدًا. وبالطريقة نفسها، يبدو وكأنه يتَّخذ الخطوة التالية منتقلًا من مسرح الفنان السينوجرافي إلى مسرح الفنان المتَّجه نحوَ بناءِ تكويناتٍ من شخوصِ الممثلين، وذلك بواسطة «رسم» حركتهم، تشكيلهم، وضعياتهم، وإيماءاتهم. نذكُر أنه في هذا الاتجاه يعدُّ الأمريكي د. ويلسون أكثرَ مَن حقَّق تقدمًا في هذا المجال. وقد سعى إلى العمل في هذا المسار كلٌّ من ل. موندزيك في بولندا، وأ. فراير في ألمانيا.
لقد صمَّم الفنان فكرته التشكيلية على نحوٍ دقيق وواضح: «شخصيتان ترتديان ملابسَ الباليه، في حين تجلس الشخصية الأخرى على الأرضية الخضراء محاطةً بجدران يجب أن تذكِّر المشاهِدين بلعبة البلياردو المعروفة بدون جيوب أو كرةٍ حمراء.» وفي هذا السياق، استهدف المخرِج شيئًا آخَر يخلق تداعيًا جوهريًّا للأفكار التي يجب أن تظهر مع ظهور لوحةِ «مقهى السماء» لفان جوخ. «تبدأ بعض الشخوص في التحرك بمصاحبة الموسيقى مقلِّدةً لعبة البلياردو، عندما تصطدم الكرة الحمراء بعد أن تتلقَّى ضربةً فترتدُّ مصطدمةً بالكرة البيضاء التي تصطدم بدورها بالكرة الثالثة، وهي أيضًا كرةٌ بيضاء … أندريه … يلحق بنينا، يقدِّم لها حركةَ باليه آخذةً في التلاشي جانبًا، ثم يرتدُّ هو نفسه عنها متَّجهًا نحوَ بيلا التي تنتظره بحفاوةٍ وترحاب بعد أن ترفع ساقها اليسرى.» تصاحب «الكوريوجرافيا» عباراتٌ يكرِّرها المؤدُّون عدَّة مرَّات وبالطريقة نفسها المتنوعة: ببطءٍ متعمَّد، وبصوتٍ عالٍ، ثم بهدوء، … وتأمُّل، وعلى طريقة السائرين نيامًا، بتعبيرات، بحيوية، بعدم اكتراث، بشكل أوبرالي بشكل معيشي يومي، بصورةٍ عادية، بتفاخُر، بطريقةٍ مسرحية، في حالةِ تأمُّل، بلهجة، بحزن، بمدح، بشكلٍ حماسي مفرط، بأصواتٍ مبحوحة، بخشونة، بغير أصواتهم الحقيقية، على نحوٍ وعظي، على نحوٍ حالِم، بتهيُّج، بغضب، بتساؤل، على نحوٍ احتفالي، على نحوٍ اعتيادي، باستخدام مقاطع صوتية، بالتحدث بسرعة، بمُشاكَسة، بفاحشِ القول، على نحوٍ مسالِم، بشكلٍ مدمر، وهَلُمَّ جَرًّا. يعبِّر طول هذه التناقضات عن لانهائية التنوُّع، واتحادها بعضها ببعض، واندماج الأصوات المتباينة والتناقضات المتصارعة. زدْ على ذلك أنَّ حركة «الكُرات» أيضًا، وفقًا لفكرة بارخين، ينبغي أن تكون متنوِّعة، وأن تتمَّ في أيِّ نسقٍ كان، يصاحبها التعثر والسقوط، تتخلَّف عن الموسيقى أو تسبقها.
يستهل بارخين مسرحية «الزئبق الأحمر» بالإشارة إلى أنَّ «الديكور والأزياء والنص بالأحرى لا أهميةَ لها، المهم هو ممارسة لعبة الكروكيه». أربع فتياتٍ يلعبْنَ الكروكيه وهنَّ يرتدينَ ملابسَ بيضاء، يتعرَّض لهنَّ شابٌّ بالغزل والمُلاحَقة. وهكذا تحوَّلَت هذه المسرحية التي ألَّفها الفنان نوعًا من التفسير لمسرحية «البلياردو». وفقط هنا، جرى اللعب في فضاءٍ صُمِّم على هيئة معبد. هذا الديكور «غير الضروري» في وصف بارخين يقدَّم باعتباره شيئًا ما جميلًا على نحوٍ خيالي؛ أعمدة أيونية مطعَّمة بالفيروز والمرجان، مزيَّنة بالمطاط الأصفر. الجدار الذي يعلو الأعمدةَ مصنوعٌ من الحجر الأحمر المضيء من أستراخان. جزء من كورنيش الجدار مصنوعٌ من الرخام الأزرق من جنوة، وهناك الرخام البوهيمي المُبرقَش والمُقرنَصات المصنوعة من الياقوت الأحمر والأصفر والزمرد والجمشت والزبرجد والعقيق اليماني، في حين صُنعت الجدران من الحجر اللؤلؤي، وصُنعت التماثيل من أشجار الخوخ المصري مرسومةً بلونِ الزئبق الأحمر الزاهي. وأخيرًا، تكتسي الأرضية باللون الوردي وقد وُضع فوقها مَرمَى لعبة الكروكيه؛ وهو عبارة عن كلبٍ ألماني من النوع ذي القوائم القصيرة يُدعى جورينيتش (يؤدي اللعبة طفلان) يطلق عليه النار من رشَّاش عدو الحيوانات (إلى جانب الكلب الألماني). هناك في المسرحية فرسٌ كستنائي اللون يُدعى المزمار (الفلوت) هو الملك ليونتي بوجاتي (ليونتي الغني)، هو أيضًا ينفجر مُصدِرًا رزازًا؛ فيقتل كلَّ الشخصيات برغوةٍ بيضاء رشاشة تغمر خشبةَ المسرح التي تبرز على سطحها أيادي القتلى وأقدامهم.
الخطاب الذي تسلَّمه بارخين من زميله الصيني في المهنة، رئيس كلية السينوجرافيا بمعهد بكين للمسرح أصبح هو الأساس الرسمي لمسرحية «دعوة إلى الصين»، المشاهد السينوجرافية فيها مصحوبة بعبارات روسية رديئة: البحوث عديمة الجدوى لهذا الخطاب نفسه ثم لعبة المانجونج الصينية وسط فضاء المسرح المشتعل بسبب الحريق.
وفي مسرحية «دعوة إلى الصين»، مثلها مثل المسرحيات الثلاث التي أخرَجَها بارخين، شكَّلَت العناصر السينوجرافية هذه المسرحيةَ لتصبح عملًا من أعمال مسرح الفنان. من هذه العناصر، على سبيل المثال، بدلةُ الممثِّل (المصنوعة من ورق البردي والمغطَّاة بكتاباتٍ هيروغليفية)؛ وتصوِّر البدلة خطابَ تيان-فين. أو اللمبات الخمس ذات الفولت القوي، والتي تُضيء بأشكالٍ وتكوينات متنوِّعة مشكِّلةً نوتةً ضوئية متحرِّكة، كان من المفترض أنْ تتماشى، وفقًا لفكرة المخرِج، مع النوتة الموسيقية التي كُتبت خصوصًا لهذا العمل تحت اسم «مؤلف موسيقي لخمس لمبات». على أنَّ المضمون البصري الرئيسي للمسرحية، انحصر في أكشن موسَّع للبحث الذي جرى عن الخطاب مع عرض الخزائن-الدواليب، وقد قُلبَت وطُرحَت الإدراج خارجها وبُعثرت وتطايرت الأوراق على المسرح، وفي الوقت نفسه تساقطَت ألسنةُ اللهب هنا أو هناك مندفِعةً من الشقوق الموجودة في الجدران والسقف والأرضية لتغطي الفضاء المسرحي بكامله، تصاحبها أصواتُ انفجار اللمبات، وصرير المفصلات ومزاليج السجن، وصليل أجراس الكنيسة المتتابِع، وهدير الشلال، والانهيار الجبلي، وعاصفةٌ من صرخات لاعبي المارجونج الصينية.
وكان مؤلف الكتاب قد نشَرَ عملية «دعوة إلى الصين» و«بلياردو في أرل» للمرة الأُولى في مجلة «تياترلنايا جيزن» (الحياة المسرحية) عام ١٩٩٤م، العدد العاشر. وانتهى الكتاب بخاتمةٍ عبارة عن نِقاش دار بينه وبين بارخين عن الدوافع التي حفزَته لكتابة هاتَين المسرحيتَين. وفيما يلي تفسيرٌ لهذه الدوافع كما رآها الفنان آنذاك.
– في البداية برزَت لديَّ الرغبة لا في كتابة مسرحية، وإنما في كتابة قِصصٍ قصيرة جدًّا. لقد تذكرتُ ثلاثة مواقف قمتُ بكتابتها، وقد كنت مفعمًا بالشعور بالرضا عنها. حدث ذلك، على ما أظنُّ، في عام ١٩٨٨م بعد انتهاء المعرض. وعندما رُحتُ أقرَؤها؛ رأيت أنها نالت استحسانَ الناس.
فيما بعد، وبسبب كوني أصبحتُ أنشر أعمالي، راحَت قِصصي القصيرة تجد طريقًا ما لها. وعندئذٍ انهالَت عليَّ الدعوات للتدريس؛ حدث ذلك في مكانٍ ما من صيف عام ١٩٩٢م. وهكذا قررتُ فجأةً أن أكتب شيئًا ما في شكلِ مسرحية، وحتى تلك الفترة كان يداهمني الشعور بالضجر أكثرَ فأكثر من جرَّاء تعسُّف المخرِجين الذين لا يتشاورون في اختيار المسرحية، ويقومون بحرِّيةٍ تامة بالتغيير في المسرحية التي لم يكتبوها. نعَمْ، التعسف المطلق للعاملين بالمسرح الذي شاهدتُه في بينا باوش وكارين ساراتش (وهي عمومًا رائعة)، وهنا أدركتُ أنَّ الكلمات تعجز عن التعبير عن أنَّ المسرح والكلمات التي قالها الدراماتورجي هما أمرانِ مختلفان. وعندما بدأتُ في الكتابة شعرتُ أنه يوجد هنا حرِّية أكثر بكثير في الواقع من تأليف مسرحية. أن أصفُ مسرحيةً متخيَّلة، هذا ليس سيناريو وليست معالَجة إخراجية.
ففي الوقت الذي أرى فيه أنَّ كلمة «حَل المساء» أكثر اتساعًا من رسمٍ تحضيري لليفيتان، بل أقوى، وذلك لأنني لو قلتُ «حَل المساء» «هو يسيرُ في الطريق» أو «الطريق يُفضي إلى البِركة»، تنتصب أمامي اللوحات التي أستطيع أنْ أدقِّقها، فإذا ما سألتَ: ما حجم البِركة؟ وما نوع الحشائش أو الزهور هناك؟ فسوف أجيبك على الفور. أستطيع أن أتعمَّق في الخيال مسترشدًا بالكلمة، أيْ إنَّ الكلمة تستدعي الصورة.
وقد رأيتُ أنَّ الحرية هنا هائلة، وأنَّ الفنان وإنْ كان مخلوقًا ذا طبيعة فريدة، وهو الذي يبدع عالمًا جديدًا على خشبة المسرح؛ فهو مقيَّد بشيءٍ ما. أمَّا أنا، فأستطيع أن أُبدع كلَّ شيء هنا؛ سواء العالَم أو التاريخ، وكل شيء بمُنتهى الحرِّية. ربما إذا ما دخلنا إلى خشبة المسرح فعلينا أن نأخذ في حسباننا بعض القوانين المعمول بها. أستطيع وأنا أؤلِّف المسرحيات أنْ أتجاهلها كأنها لم توجد قَط. وهكذا فكَّرتُ أنه ربما من الممكن أن أؤسِّس مسرحًا؛ وقد حاولتُ. وللأسف ستواجهُكَ كثيرٌ من التعليقات. ولكن دون تعليقاتٍ؛ لا يوجد مسرح. ومن حيث المبدأ، فأنا مهتمٌّ أكثرَ بالعرض، ولكنْ ليس عرض الديكورات.
– وماذا عن إخراج مسرحياتك على خشبة المسرح؟ ألَمْ تكُن لديك هذه الرغبة؟
– آنذاك كان الناس يرون أنَّ أهمَّ شيء بالنسبة إليهم هو اختراعُ شيءٍ ما جديد. كان كل شخص في تلك الفترة يبحث عن البيئة الملائمة له، عن فكرته الخاصة. ولا يزال هذا الأمر موجودًا حتى الآن. كان ديبور يتَّجه إلى المسرح، في حين كنت أتَّجه إلى الفن المسرحي. كان ديبور يريد أن يبدع مسرحًا جديدًا، مختلفًا عن المسرح الذي كان موجودًا آنذاك، في حين انحصرَت رغبتي في أن أدير مسرحي بدون أموال. يخيَّل لي أننا الآن في مرحلةٍ مختلفة. الأحرى أنني أنصرف إلى قوقعة، أمَّا هو فقَدْ كان يسعى إلى كشف إمكاناتٍ جديدة للمسرح.
(٦) في كلية السينوغرافيا التابعة للأكاديمية الروسية لفنِّ المسرح
ومن بين الموضوعات الأربعة التي طُرحت، موضوعان بالفرنسية هما «سندريلا» و«القط ذو الحذاء العالي»، وموضوعان آخران بالروسية، «حكاية الملك سالطان» و«حكاية الديك الذهبي». وقد تم اختيار «الديك الذهبي» وقدَّمت أ. يكالوفا الرسومَ التخطيطية في معرض الربيع الذي أُقيم في عام ١٩٩٤م.
عند إخراج مسرحية «الديك الذهبي»، قام ك. جينكاس بمساعدة الطلبة، وكان جينكاس قد تلقَّى دعوةً من بارخين لتقديم دروسٍ تحت عنوان «عمل الفنان مع المخرِج». وبعد مرور عام، عندما قرَّر جينكاس وطلبته أن يعيدوا هذه التجربة على نحوٍ مستقل تمامًا؛ أخبروا بارخين بالأمر، وذلك بعد أن انتهوا من إعداد كلِّ شيء، وكانوا يقومون بالبروفات ويعدُّون كلَّ شيءٍ ليلًا، وقد شاهَدَ بارخين المسرحيةَ في صورتها النهائية، مثله مثل باقي المدرِّسين.
اكتسبت المَشاهد التشكيلية التالية مغزًى شعائريًّا مجازيًّا وشاعريًّا، يرتبط بتداعي المعاني، وهذه المَشاهد تؤدَّى دون نصٍّ مصاحِب، أو بمصاحبة أبيات من الشِّعر يلقيها الممثلون وسط صمتٍ مُطبِق أو على صوت دقَّاتِ إيقاعاتٍ حادَّة، ضربات، صريف، ثغاء؛ توثر جميعها في اللاوعي، ناقلةً بصعوبة الكلمات المشروحة، مزاح هذه الموتيفية أو تلك. وفي سياق ذلك، فهي تبدو في بعض الأحيان أكثرَ اعتياديةً ومحدودية. على سبيل المثال، ما الذي يمكن أن يكون أكثر عادية ومحدودية من مشاهد ممتلئة بخمس فتيات متشابهات (يرتدينَ ثيابًا سوداء، ويلففنَ وجوههنَّ بضماداتٍ من الشاش الأبيض ويسِرنَ حفاة) إحداهن تنظر في المرآة، والأخرى تقضم رغيفًا من الخبز، والثالثة تتسكع ممسِكةً بسيجارة، والرابعة تجلس على الأرض في تركيز ولمدَّةٍ طويلة، آخذةً في كرمشة وطيِّ ورقةٍ تُصدِر حفيفًا، في حين راحت الخامسة تلفُّ رأس شابٍّ بشريط، محوِّلة إياه إلى كتلةٍ بيضاء تمامًا، يصيح الشابُّ، هدفًا لهجوم «مَلَاك الموت» ذي الجناحَين المعدنيَّين الأبيضَين خلف ظَهْره، وله قناع يشبه التنين. شكلٌ آخَر للقناع-غطاء الرأس؛ مصنوع من الورق ومزخرَف بأشكالٍ منوَّعة وملوَّن يقدَّم على خشبة المسرح زينةٍ نسوية، ومرةً أخرى على نحوٍ شعائري تقوم الفتيات بتغطية شخصيةٍ ثالثة بنسيج أوراق شفَّاف من التُّل.
أهمُّ عنصر من عناصر العرض، هو تلك التكوينات الفنية الجميلة، التي تؤدى في مشهد، فتحوَّل دورَ ألوانٍ ملوِّنة «جرافيكية». وقد ظهرَت هذه التكوينات (متجهة إلى المسرح) في لحظاتٍ محدَّدة من المسرحية (بوصفها — على سبيل المثال — تكوينًا لموتيفية المنظر الطبيعي أو تصويرًا لشخصَين رجلَين يجلسان على المائدة) لتمثِّل تجسيدًا بصريًّا للأبيات الشِّعرية التي يلقيها ممثِّلون يختفون وراء ستارٍ من القماش. يجري تقريب الرسم من المشاهدين ليهبط بعد ذلك على الأرض، وعلى هذا الرسم يجري عرضُ أكثرِ مَشاهد المسرحية دراميةً. الفتاة التي ترتدي ثوبًا من ورق السليلوز تمزِّق ثوبها في يأسٍ بمصاحبة ضرباتٍ حادة، وتقطِّعه إلى مِزقٍ صغيرة تنثرها. بقية الفتيات ينكمشْنَ على أنفُسهنَّ جالساتٍ على الأرض على هيئة كومةٍ من شرانقِ دودة القزِّ، ينغلقْنَ على أنفسهنَّ متدثرات بالملاءات البيضاء التي انتزعْنَها من فوق الجبال ليزحفْنَ طويلًا نحوَ الباب.
لم تستوعب المسرحيات التي أخرجها فيما بعد المعلِّمون-المخرِجون بوصفها من أعمال مسرح الفنان. كان المخرِج ن. يايكو أولَ هؤلاء المخرِجين، ثم جاء بعده أ. ليدوخوفسكي، وقد تميزَت عروضهما بشكلهما الواضح والإخراج المبتكَر والسمات المتنوعة والتراجيكوميدية والجروتسكية للشخصيات، التي قام الطلاب بتصويرها بحماسةٍ شديدة، حتى إننا أحيانًا ما ننسى أنَّ هذه المسرحية هي لفنانين واعِدين، وأنه قد تمَّت إدارتهم على يدِ أستاذٍ واثق، وقد عملوا بوصفهم ممثلين. لقد ظهَرَ هذا الإحساس أيضًا في المسرحيات الأُولى التي أخرجها ي. كوزيلكوفا (شجرة عيد الميلاد عند ك. أيفانوف)، و(حلقة الرقص والغناء) في يونيو فقط من عام ٢٠٠٤م، حيث ظهرت مسرحية شارك فيها الطلاب لا بوصفهم ممثلين؛ وإنما بوصفهم منفِّذين قاموا بتأليف التكوين الفني المسرحي من خلال ستِّ دراسات على موضوع «بوراتينون». بعبارةٍ أخرى، أدَّى الطلاب أدوارَهم في هذه المرة بوصفهم شخصياتٍ لا تتميَّز بصفةٍ خاصة، واضعين أقنعةً نصية سواء، مرتدين زيًّا أسود موحدًا، محرِّكين لنماذجَ بصريةٍ صنعوها بأنفُسِهم.
الدراسة الأُولى، ظهور البطل وتشكيله بوصفه شخصية. يصطفُّ الناشطون ويشيِّدون من اليسار إلى اليمين في مستوى الصور قطعةً من النسيج الأبيض الورقي، يتناولون طرَفها من يدٍ إلى يد. ضوء بالروجيكتور يزحف ببطءٍ ليتوقف في المنتصف، حيث يخترق النسيجَ من الخلف أنفُ خشبةٍ طويلة، ويسقط النسيج على الأرض، ونشاهد قناعًا ذا أنفٍ طويل وعيونٍ متَّسعة مثبتة بمشبكِ غسيل في حزام الشخصية المركزية، وتبدأ الشخوص الأخرى في تغطيتها لتتحول إلى شخصية بوراتيو. الشخص يُسوَّى ثوبه وقميصه وتُشبك أزراره وتُقلب أكمامه ويُنظَّف حذاؤه وجوربه المخطَّط، يثبتون ساقَيه المصنوعتَين من القماش فوق النسيج، ويثبتون غطاء الرأس الورقي، ويلوِّنه بخطوط عَرْضية، يُلبسونه ياقته مطرزة، بعدها يُطعمونه بملعقة من الطبق يملَئُونه بسائلٍ من زجاجة، ويمسحون فمه بمناديل ورقية.
عندما يخرج قناع «بوراتيو» «إلى العالَم»؛ فإنَّ كل شيء حي ومتحرك، يثير لديه الرغبة في التحطيم. ويتابع بوراتينو الفأر الزاحف نحوَ الطبق بخطواتٍ متردِّدة ليقذفه بشاكوش، وعندما يجد نفسه محاطًا بفراشات بيضاء مرفوعة يقذفها بالنبلة. يدوس ويمزق الكائنات الزاحفة على الخشبة المصنوعة من الخراطيم المطاطية إلى قِطَع، يقفز بسرورٍ ويخوض في «البِرَك» من أثرِ أول مطرٍ سيراه في حياته، والذي يسقط فوقه عنقودٌ من كُراتٍ مملوءة بالهواء و«السُّحب» البنفسجية الناتجة من تيار مياه حقيقيةٍ مندفِعة من رشَّاشة الحديقة، يختبئ منها بالمِظلة السوداء التي يحملها في يده.
تضع مالفيتا، بطلة الدراسة الختامية، على رأسها شَعرًا مستعارًا أجعد ورثًّا يؤطِّر وجه الممثلة، التي تتحرك على رُكبتَيها ناقلةً على الأرض ساقَيها الملفوفتَين بقماشٍ مهترئ، البارزتَين من تحت ثوبها. تمسك مالفيتا في إحدى يديها بقطعةٍ مخطَّطة من رقبتها الطويلة، وفي يدها الأخرى تحمل دلوًا وجاروفًا من لُعب الأطفال. شخصٌ ذو ملابس سوداء يضع أمامها سلَّة بها رمل. تبدأ مالفينا، بعد أن ربطَت القطة في يدها، في صُنع كعكِ عيد الفصح من الرمل؛ في حين، راح بوراتينو يراقبها في فضول. تسحب مالفينا من السلة كيسًا من البلاستيك به علبة سجائر ماركة «بيلوموركانال»، تتناول سيجارة لنفسها، وتدسُّ أخرى في فم بوراتينو. تقدح الولَّاعة وتقرب النار من أنفه، بعدها تجمع كعكاتها وتغادر المكان. الشخص ذو الملابس السوداء يضمد طرَف أنفِ بوراتينو المحترق، وفي يده الممدودة يلبسونه مفتاحًا ذهبيًّا ثمينًا، وهنا يبدأ بوراتينو في مغادرة المسرح، مقدمًا طقوس الوداع لكل شخص من الشخوص السوداء، التي عادت لتصطفَّ من جديد، والتي بدأت الآن ترفع أقنعتها النصفية واحدًا تلوَ الآخر لتكشف عن وجوهها.
إن الطابع الفني لهذه المسرحية التي أعدَّها الطلاب، قد أكَّدت عليها بصورةٍ خاصة أستاذتهم المخرِجة ي. كوزيلوفا، عندما قدَّمت هذا العرض للمشاهِدين الذين تمَّت دعوتهم قائلة: «هم الذين قاموا بالتأليف، هم الذين عملوا وفكَّروا بصدق.» وقد ظهرَت الرغبة في الاستمرار في العمل مع الطلاب أيضًا لدى مُشرِفهم د. كريموف، لا باعتبار الأمر تكليفًا دراسيًّا من دروس الإخراج، وإنما على نحوٍ غير مدرسي، أي باعتباره برنامجًا يتجاوز البرنامج الأكاديمي في وقت الفراغ من الدراسة. وقد استجاب الطلَّاب بحماسةٍ شديدة لاقتراح المشرف وعاونوه بأن قاموا بتأليف عرضٍ برُوح مسرح الفنان، وفي هذه المرة، بكل ما تعنيه الكلمة؛ ذلك لأنَّ البناء الفني المقدَّم للجمهور، الذي وضعه مؤلِّف واحد لمسرحية «الأخطاء»، أصبح تحديدًا هو الفنان، وهو ما يعدُّ أولَ علامة من علامات هذا المسرح.
(٧) ديمتري كريموف
وصَلَ كريموف إلى مسرح الفنان الخاص به، وذلك بعد أن تجاوز، من ناحيةِ النمط، الطريقَ التقليدي: من السينوجرافيا والإبداع البصري. وخلافًا فقط عن الأساتذة الأجانب لهذا النوع من المسرح (كانتور، شاين، فراير، ويلسون) الذين اشتغلوا بالسينوجرافيا والإبداع البصري في آنٍ، كانت هذه مراحل مختلفة بالنسبة إلى كريموف في سيرة حياته.
في البداية عمل كريموف مصمِّمًا للسينوجرافيا من عام ١٩٧٦م حتى عام ١٩٩٠م، بعد أن أنهى كليَّة الإخراج التابعة لمدرسة استوديو مسرح موسكو الفني. وخلال هذه الفترة وضَعَ التصميمات لنحو مائة مسرحية، على رأسها مسرحيات الأب أ. ف. إيفروس: «عُطيل»، «شهر في الريف»، «الصيف والدخان»، «استمرار دون جوان»، «طرطُوف»، «عدو البشر»، «الحضيض». وقد تعاوَنَ كريموف مع مخرِجين آخرين من أمثال ي. آري، ومع البلغاري ف. كيسيليف (نذكر هنا المعالجة الإخراجية لمسرحية «محاولة الطيران» التي عُرضت في صوفيا وعلى مسرح موسكو الفني)، ومع المخرِج أ. جينجاشيرشيفيلي في فولجوجراد، حيث عمل كبيرًا للفنانين خلال المواسم الثلاثة الأخيرة في الفترة الأُولى من نشاطها المسرحي.
كانت مسرحيته الأُولى تسمَّى مسرحية «الأحكام المكبوتة»، وهي تقوم في الأساس على موتيفات الفولكلور الروسي، ويظهر المكوِّن الشفاهي هنا، وهو المكوِّن المميِّز لمسرح الدراما في صوتِ عجوزٍ قروية، تروح في بداية العرض فقط في قراءةِ مقطعٍ من حكايةٍ شعبية، ويحدث ذلك في البداية في وقتٍ يجلس فيه المشاركون العشرة في المسرحية ذوو الملابس السوداء الموحَّدة دون حراكٍ بامتداد الجدار الخلفي، على أنه ما إنْ ينهض هؤلاء المشارِكين ليبدَءُوا في السَّير صفًّا واحدًا نحوَ الجمهور حتى يصمُت الصوت، وبعد ذلك لا يسمع الجمهور على امتداد المسرحية كلِّها كلمةً واحدة، في حين يجري أمامهم تمثيل موضوعاتٍ تشكيلية تعبيرية بَحْتة بمصاحبة الموسيقى (تتنوع ما بين ألحانٍ متكرِّرة من ألحانٍ شعبية شائعة في توزيعٍ معاصِر، إلى مقاطع من باخ وموتسارت وشوستاكوفيتش) أو لأصواتٍ خاصة مبتكَرة (على سبيل المثال: صرير معدني مزعِج لمَفْرَمة لحمٍ، عواء كلاب، وما إلى ذلك). يتجسد كل موضوع من موضوعات الحكاية السبعة في نوعَين من الأكشن: في البداية، في تحوُّل شخوصِ الممثلين في النماذج المرئية للشخصيات؛ وفي نوعية هذه الشخصيات، وذلك من خلال أداء إيماءاتٍ وحركات وأفعال تتمُّ مع أدوات.
وفي المشهد الأول من حكاية «كان ياما كان»، وبعد أن يقوم المشاركون كافة بأداء إيماءةٍ شعائرية تتمثل في «غسل» شخصياتٍ مجفَّفة مملوءة بالدقيق؛ يتحرك من الصفِّ فتاةٌ وشاب، فتقف الفتاة في الجزء الأيسر من المسرح، في حين يقف هو في الجزء الأيمن. يخلعان قميصَيهما الأسْوَدين، وهنا يبدأ رفاقهما في الرسم بفرشاةٍ على صدرها، وعلى ظَهْره يرسم وجوهًا للشخصيات التي من المفترض أن يقدِّماها: خطيب، وخطيبته. بعد أن ينتهي رسْمُ العيون (يقوم المشاركون برسمها على كل جانبٍ من جوانب حمَّالة صدرها البيضاء) يرسمون أنفًا وفمًا، يشبكون ضفيرةً طويلة للخطيبة، ثم يلبسونها ثيابَ الزفاف البيضاء، ويلبسون الخطيب «بالطو» قديمًا من الخلف إلى الأمام، ويربطون له ذقنًا من نسالة الكتان، ويضعون على رأسه شنطةً منزلية قديمة مرسومًا عليها نجمة حمراء، يضعون في يديه آلة الهارمونيكا الموسيقية ويحوِّلونه إلى الفتى الأول في القرية. عندما ينتهي أكشن تحويل شخوص الممثِّلين إلى شخصياتٍ مسرحية، يبدأ الخطيب وهو يتحرك بجانبه خطوةً وراء الأخرى، مقترِبًا أكثر فأكثر من خطيبته، وكلما اقترب منها، أخذَت فقاعةٌ بيضاء في وسطه في الكبر، تنتفخ هذه الفقاعة ثم تنفجر. يهرول الخطيب فزعًا ويغمره الثلج فيزحف ببطء على الزحافات على نحوٍ قطري عبْر ممرٍّ مُضيء باتجاه عمق المسرح. تتحرك الخطيبة نحو المقعد الموضوع في منتصف خشبة المسرح. ترفع ساقها اليسرى فوق مسند المقعد. يتضح أن هذه الساق عبارةٌ عن عصًا خشبية كانت الخطيبة تَبْردها بالسكين لمدَّةٍ طويلة. وعندما ترتفع قطعةٌ من القدَم مع حذاء العُرْس الأبيض؛ تأخذه الخطيبة وتغطِّي به طرحة الزفاف، لتجلس وقد غمرها الحزن لتهدهِدها كما لو كان ابنها الذي لم تلِدْه.
يتغير الموضوع الدراسي الأول بفضل دراسةٍ أخرى جروتسكية على موضوع حكاية السمكة الذهبية، وتقوم ممثلةٌ واحدة بأداء دورِ شخصيتَين فيه. في البداية، يرى الجمهور امرأةً عجوزًا ترتدي تنورةً طويلة، ولها وجهٌ ضخم وخدَّان أحمران؛ ونجِدُ رسمًا رديئًا على كارتونةٍ ملفوفة بشالٍ. عندما تستدير العجوز، نرى في ظَهْرها شخصيةَ ممثِّل عجوز، موانئ متهاوية متَّسخة، قميصَ بحَّارة مخطَّطًا وفوقه مباشرةً قناعٌ لوجهٍ عليه تعبيرُ الذهول والاضطراب والإحساس بالضَّيم والنكد. يضع المساعِدون سنَّارة في يدِ العجوز الذي يؤدِّي مشهدًا تهريجيًّا محاوِلًا التوازنَ فوق «قطعة جليد طافية»، يصطاد السمكة الذهبية من خلال ثغرة فيها. وبانعطافةٍ في الأحداث، إذا بالسمكة الذهبية تسقط في يدَي المرأة العجوز. تسعى العجوز لتدسَّ هذه الثروة وتُدخِلها في فتحةِ فمٍ مرسوم على الكارتون، تمَّ تخريمها بسكين. من جرَّاء التوتر الشديد تخرُج الحدقات من ثقوبِ عينَيها؛ تنتفخ وتكبر تارةً وتصغر تارةً أخرى إلى أن تنفجر إحدى العينَين، في حين تزحف الأخرى عائدةً إلى شقِّ العين.
ومن جديد، يتمُّ تقديم موضوع ذي مضمونٍ درامي. مكان الحدث هو حقلٌ مزروع بالتوت البري مغطًّى بمربَّعاتٍ حمراءَ لامعةٍ من «الثمار». البطلة هي كراسنايا شابوتشكا (القبعة الحمراء)، وهي كائنٌ رائع وساذج. وجهها هو النصف الأعلى لشخصيةِ الممثلة: العينان مرسومتان على مقدَّم الكتفَين، الأنف على صفحةٍ من الورق، ينزلق من أسفل القبعة الحمراء، الفم ملوَّن بلونِ اليدَين الحمراء المضمومتَين على الصدر، إحداهما فوق الأخرى. يدا كراسنايا شابوتشكا عبارةٌ عن أكمامِ ثوبٍ طويلة، تهتزان بارزة منها قفَّازات بيضاء. أحد القفَّازَين يمسك بسلَّة، والآخَر يضع فيه المساعد «الثمار» ويقذف بها إلى «فمه». في هذه الأثناء، يمتلئ حقلُ التوت البري بعشر فتيات. هذه الشخوص الصغيرة، التي تضع رءوس أقنعة، مربوطة بمناديل بيضاء. أما الشخوص فمربوطون بأقدامِ خمس ممثلات يقُمْنَ بقيادتهم. لاعبات بعصيٍّ طويلة، تنتهي بفرشاتٍ يجمعْنَ «الثمار» المربَّعات في سلةٍ مشتركة. البطلة التي اقتِيدَت إلى منتصف الحقل، تدفعها اليدان من جانبٍ إلى آخَر، ترشُّ ثوبها الأبيض بألوانٍ حمراء من بالوناتٍ حمراء. نتيجةً لهذا الإجراء، تدقُّ المطرقة في كسارولة على إيقاعِ مارش الغزو من السيمفونية الليننجرادية لشوستاكوفيتش. البطلة «الغارقة في الدماء» ترقد على الأرض دون حراك، وعلى طرَف السرير من ناحيةِ الرأس صليبٌ خشبي مغروز، مع وجود قطاع عرَضي في المشهد الأول للساق ذات الحذاء للخطيبة.
وفي المشهد الثاني، ترتدي الساق الخشبية حذاءً، وتُستخدم بوصفها «سهمًا» يطلقه إيفان دوراك (إيفان الأحمق) من قوسٍ، ليندفع في أثره (يقوم أحد المساعِدين بحمْلِ السهم عبْرَ فضاء المسرح). تقوم إحدى الفتيات بتمثيل دورِ إيفان وقد ارتدَت قميصًا أبيضَ اللون وحمَّالة بنطلون ذات فتحاتٍ، في حين تدسُّ ساقها اليسرى في البنطلون، تتحرك ساقها الأخرى بحرِّية، وهي الساق التي يضع المساعد فيها حذاءً. ويتأكَّد عدمُ تناسق البدلة مع الشخصية من خلال انزياح ربطةِ العنق التي أزاحَتْها الممثلة إلى اليسار في ترافُقٍ مع ملامح الشخصية المرسومة بشكلٍ غير متناسِق أيضًا: عين مرسومة على الخدِّ الأيسر للممثلة، والأخرى على كرةٍ من ورق التواليت مرسومة في الفم. أما الأنف، فقد رُسم على الجانب الأيسر للرقبة، وإلى أسفل قليلًا توجد الشفاه.
في الموضوع الذي يدور حول رغيف الخبز، يتمُّ التحول في الشخصيات بطريقةٍ أخرى. يلفُّ المساعدون رأسَي شخصَين كانا يجلسان إلى مائدةِ الممثلين الطويلة بأوراقٍ سليلوزية، تتحوَّل «الخطوط البارزة» لهما إلى وجهَي رجُلٍ عجوز وامرأةٍ عجوز، يدقُّ الرجُل العجوز في توتر على المائدة بملعقةٍ طويلة. أما المرأة العجوز، فتدير يدَ مَفْرمةِ اللحم بلا توقُّف، واضعةً فيها كلَّ ما يصل إلى يدها (ذبابة اصطادتها، فأرة رمادية كانت تزحف على المائدة، وأخيرًا إصبعها التي بُترَت)! من هذا «المزيج المفروم»، عجنَت المرأة العجوز كرةً حوَّلتها إلى قطعةٍ من ورق السليلوز. رسمَت المساعِدة بالفرشاة على السطحِ الورقي المكرمَش عينَين وفمًا، وذلك يبعث الحياة في الرغيف ليبدأ في الزحف ببطء فوق المائدة حتى يصل إلى حافتها ليسقط منها على الأرض. تتلخص الخاتمة الدرامية للموضوع في أن الممثِّلَين، الرجُل العجوز والمرأة العجوز، يأخذان في الدقِّ بحدَّة على المفرش الورقي، يكرمشانه ويقلبان سطح المائدة العاري، وبعد ذلك يروحان في تقطيع وتمزيق الأغلفة الورقية التي كانت تغطِّي رأسَيهما إلى مِزقٍ صغيرة. يحاولان الخروج من تحت قناعَيهما. ولكنَّ المساعِدِين يجذبونهما في اللحظة الأخيرة خارجَ خشبة المسرح.
لا يتبقَّى من «الرغيف» سوى «مشهد ما بعد المعركة»، وفي المشهد التالي تدخل «ريبكا»، فنوتشكا (الحفيدة). يتمثل هذا النموذج في وجهٍ ملوَّن باللونَين الأبيض والأحمر، ولكنَّ الألوان في هذه المرة ليست رسمًا؛ وإنما هي وجهُ ممثلة تخرج زاحفةً على رُكبتَيها (هي مالفيتا في «بوراتينو»، وهو ما فُهِم هنا بوصفه «استشهادًا» ملائمًا تمامًا، يعبِّر عن التتابع الأسلوبي للمسرحيتَين) وهي ترتدي ثوبًا أبيض، أمَّا ساقاها ففي نسيجٍ رقيق منقَّط، ترتدي حذاءً أحمر اللون منتقلةً به (مقرِّبةً إحداهما من الأخرى) إبَّان حركة قدمَيها. تمسك فنوتشكا في يديها بدلوٍ ورشَّاشة. تلقي بالدلو على الأرض «وتسكب» الماء من الرشَّاشة، وبعد أن تُخرِج من حقيبتها الحمراء أحمر الشفاه لتكتب به على الدلو كلمةَ «ريبكا» تضع بالقرب منها على الأرض «ساعةَ منبِّه»، وتسير بجانبها نحو أريكةٍ طويلة، وهي عبارة عن لوحٍ وضعه المساعِدون على ثلاثة مقاعد من «الأرغفة». تأخذ الممثلة مكانها على أحد المقاعد، وتأخذ عبْرَ اللوح في إيقاد السيقان النسجية التي تحملها نحوَ حفيدتها فنوتشكا. على الطرَف الآخَر للأريكة يجلس المساعِد، وعلى رُكبتَيه تجلس الممثلة بابكا موليةً ظَهْرها للجمهور، وبعد أن يرفع قميصها ويعريها ينكشف أمامنا رسمٌ رديء لوجه البطلة الضخم مغطًّى بشال. وإذا كانت الأقنعة في المَشاهِد السابقة المرسومة للوجوه أو «المنحوتة» للشخصيات بصورةٍ أو أخرى غيرَ متحركة بشكلٍ أساسي (في «ريبكا» كان وجه ديدكا على هذا النحو عليه نظَّارات سوداء قرنية)، فإن الوجه المرسوم على ظَهْر بابكا تكاد تدبُّ فيه الحياة. تقوم الممثلة رافعةً خافضةً، تارةً إحدى كتفَيها وتارةً كتفها الأخرى، محرِّكة ظَهْرها بالتعبير عن مختلف تصغيرات بابكا، عدم الفهم، الخوف، الاستياء، وهَلُمَّ جَرًّا. بعد ذلك تنحشر يدَي الشريك وتتلطخ بالألوان التي رُسمَت بها «صورة» المرأة على نحوٍ رديء. عندما يدقُّ المنبه يخرجون من الدلو لا السمكة (كما ورَدَ في الحكاية) وإنما ضفدعة، وهنا يبدأ التفكُّك والتدمير الذاتيان للشخصيات الأخرى أيضًا. عند ديدكا، تنزلق من تحت النظَّارات على الجبهة الحدقاتُ الخضراء لتنتفخ إلى درجةٍ لا تُصدَّق ثم لتنفجر، وفي الوقت نفسه تسقط من قدَميها القصيرتَين المتأرجحتَين في الهواء الأحذيةُ المطاطية (يتمُّ تصوير يدي ديدكا وقد دسَّتا في جيبِ بنطلونها وقد اختفى وجهها خلف قناعِ الممثل). على الأريكة يتمُّ تمثيل أكشن قتلِ الفأرة. يُصَوصو كائنٌ أبيض ذو أنفٍ أحمر وعينَين عبارة عن أزرارٍ سوداء، يؤدي دورَ الفأرة شبشبُ منزلٍ موضوعٌ على ساقِ ممثلةٍ مرفوعة على الأريكة، يتمُّ القتل بواسطة مِصيدةِ فئران بدائيةٍ، يتم الحصول عليها من شنطة الممثلة نفسها. بعد أن تتسلَّق فنوتشكا الأريكة، تقصُّ ضفيرتها الطويلة بالمقص وتسقط معها على الأرض قدماها المصنوعتان من القماش. الممثل الذي يؤدي دور جوتشكا (الجعران) يقوم بجرحِ نفسه عمدًا، بعد أن يقرِّب من قدمه بندقيةً خشبية، بعدها يسير وهو يعرج ساحبًا خفًّا يرتديه «ملطخًا بالدماء» مغادرًا خشبة المسرح.
في المشهد الأخير، المسمَّى «موت الثعبان جورينيتش» يصل الموقف الدرامي إلى ذروته. وفي الوقت نفسه، يسود المسرحية جوٌّ جروتسكي تمثيلي، ساخِر ومُضحِك، بل عاطفي أيضًا.
من عمق المسرح «يحلِّق» «سهم» يحمله أحد المساعِدين، وهو السهم نفسه الذي أطلقه، كما نذكُر، إيفان دوراك من قوسه في المشهد الرابع ليصيب الضفدعة فتسقط في الدلو. يدانِ مدسوستان في جيب، قدَمٌ من الخرق تجرجر بشكلٍ أخرق. إيفان دوراك يحمل كلَّ شيء يحتاج إليه؛ لكي يقدِّم الأكشن التالي له، وهو المشهد ذو المغزى الشعائري والمتميز بالأداء المضحك والأحمق: مصباح غاز، مقلاة، سلَّة شبك بها ثلاث بيضات؛ يقترب إيفان دوراك أولًا من الدلو الذي بقي بعد ذهاب «ريبكا»، يُخرج منه ضفدعةً مطاطية منبطحة يقربها من شفتَيه، ثم يقبِّلها بصوتٍ مرتفع، بعد أن يسحب كرةً من الورق من عينه اليمنى المرسومة. وبعد أن يكرِّر هذه العملية ثلاثَ مرات (بمصاحبة أصواتٍ طائشة لِلَحن «موركا») يتوجَّه نحو مائدةٍ وُضعَت على يسار خشبة المسرح مُمسكًا بالدلو، يضع المصباح في قاعِ الدلو المقلوب، يشعله ويضع الضفدعة على الكَسَرُولة بعد أن يضع فيها جثة الضفدعة، يضع فوقها الفلفل والملح.
تحلُّ جوقة باخ محلَّ «موركا»، وعلى أنغام هذه الجوقة يظهر ثلاثةُ شخوصٍ يتحركون ببطء قادمين من عمق المسرح، مُولِينَ ظُهورَهم نحْوَ الجمهور، ثم يلتفتون تجاهه بوجههم. يعتمرون قبَّعاتٍ سوداء ويضعون خمارًا على وجوههم وقد ارتدوا معاطفَ طويلةً مطرزة باللون الأبيض، تطريزًا يشبه «الأجنحة»، في يديهم قفازات بيضاء ملطَّخة بالدماء تمسك بعصًا. شفاههم ملوَّنة بشكلٍ ناصع، عندما تنفتح تكشف عن أسنانٍ مضيئة لكائنٍ مخيف. هذا الكائن هو رءوس الثعبان جورينيتشا، التي تشير بالعصا نحو إيفان، الذي يأخذ في تكسير البيض في المقلاة على صوت «موركا» مرةً أخرى دون أن يلتفت نحوها. يكسر إيفان البيضة الأُولى، ثم الثانية، ثم الثالثة. واحدةً بعد الأخرى، تسقط رءوس الثعبان جورينيتشا، تخلع الممثلات القبَّعات والقفازات الحمراء، يخلعْنَ الأسنان المضيئة ويغادرْنَ المسرح واحدة وراء الأخرى. ظهور الخطيبة يكمِّل البناء الفني الدائري للمسرحية. تتحرك الخطيبة مُستنِدةً إلى عكَّازات، وهي تدفع أمامها عربةَ أطفال. يقترب إيفان دوراك، بعد أن انتهى من الطبيخ، من العربة، ويضع بداخلها السهم الذي كان يقلِّب به البيض قبل ذلك، ولكنَّ شيئًا ما بداخلها يعوقه؛ فيُخرج من العربة خرطومَ مروحة سميكًا وطويلًا؛ «جذع» هذا «المولود» يأخذ في الامتداد عبْرَ خشبة المسرح، فيمسك به كلُّ الممثلين، يهدهِدونه ثم يُلقون به نحو الصفِّ الأول من مقاعد الجمهور، ومن جديد يقوم «الوحش» المولود «يتشمَّمهم»، ثم «يزحف» إلى خارج حدود الفضاء المسرحي. تجِدُ الخطيبة نفسها وحيدةً فتروح تغترف من عربة الأطفال حفنًا من «الثلج» وتلقي بها وتردم بها خشبة المسرح. يصبح سقوط الثلج هو «اللَّحن» البصري الختامي للمسرحية.
قدم أ. فاسيليف خشبةَ المسرح المعدَّة للعروض الأُولى من مسرحية «الأحكام المكبوحة» في إحدى قاعات بوفارسكايا، وبعد ذلك، وبعد أن رأي ما فعله كريموف وتلاميذه اقترح أن يُدخِل مسرحية «الأحكام المكبوحة» ضمن أفيش ريبيرتوار «مدرسة فن الدراما». وفي الوقت نفسه، وبالاتفاق مع فاسيليف، راح كريموف يُجري بروفاتها بوصفها عرضًا. خطَّط له مقدَّمًا لمسرحية من مسرحيات «مدرسة فن الدراما»، وهي النسخة المسرحية لتراجيديا شكسبير «الملك لير»، التي أسماها «الشقيقات الثلاث». وقد أجرى كريموف بروفاته في هذه المرة على مسرح قسطنطين ستانيسلافسكي، مثلما فعَلَ في مسرحية هاملت، بمشاركة خمسةِ ممثِّلين محترِفين قاموا بأداء أدوار بناتِ الملك: الشقيقات الثلاث، والملك نفسه، ومهرِّجه الخاص. ومع أنَّ المسرحية قد عُرضت بوصفها مسرحيةً درامية؛ فقد احتوَت أيضًا على جوانبَ يمكن إدراجها ضمن جماليات مسرح الفنان، عندما أخرج إلى مقدمة المسرح الوسائل التعبيرية غير الشفاهية. وهنا نجد أنَّ الخلاف الجوهري، بين أسلوب «الشقيقات الثلاث» وأسلوب «هاملت». ومن الجدير بالاعتبار بداية المسرحية، عندما يتحول العرض، على امتداد الزمن المسرحي الطويل، والذي يؤدي فيه الممثلون أدوارهم في صمت، ونرى التكوينات الإخراجية المجسَّدة بشكلٍ تشكيلي، وكذلك التمثيل بالأدوات والأكشن الجسدي بمختلف أشكاله.
أول مَن تَقدَّم للجمهور هي كورديليا راقدةً على الأرض مُمسِكةً بكتابٍ لشكسبير. بعد أن تتوقف عن القراءة، تتابع سلحفاةٌ حيَّةً وتجرُّها إليها، وفي لحظةٍ ما يحلِّق فوقها طائرٌ ورقي. وطوال هذا الوقت، تقوم جونيريليا، تؤدي أكشن خاصًّا بها، فتحمل ماءً ساخنًا تارةً في دلو، وتارةً في برَّاد شايٍ لتصبَّه في حوضٍ كبير موضوع في مقدمة المسرح، ثم تهرع تجاه المهرِّج الضخم الجالس على الأرض في وسط القاعة، فتتسلَّق فوق ظَهْره وتضع يدَيه إلى الخلف، ودون تكلُّف تقصُّ أظافره، بعدها يقوم المهرِّج زاحفًا على أربع يجرُّها إلى عمق المسرح، ويضع منضدةً للعبةِ كُرة المضرب (بنج بُونج). يتبادل لير والمهرِّج «ضرْبَ» الكرة بواسطة مضاربَ حمراء، في إيقاعٍ بطيء كأنه إيقاع حالم بمُصاحَبة موسيقى شوبان، مستخدمين «كرةً» حيَّة، قامة مرنة لفتاةٍ «تحلِّق» عبْرَ الشبكة بجَمالٍ ورشاقة. يتمثَّل أمامنا نموذجٌ مرئي لحياةٍ لاهية لثلاثِ بناتٍ شابات ما زلْنَ في مُقتبَل العمر، يعشْنَ في بيت لير، وهو بيتٌ لا يشبه المملكة، وإنما هو أقرب إلى ضيعةٍ في الريف، ينتشر على أرضه تفاحٌ أخضر. «اللقطة» الأخيرة من حياة عائلةٍ متحابَّة، ثلاث بنات وأب مُحِب، تتجمد اللقطة في ميزانسين جماعي؛ فيبدون وكأنهم يقفون أمام آلة تصوير. والآن فقط تبدأ الشخصيات في إلقاء النَّص الشكسبيري.
في سياقِ عملية التحول التالي للموضوع، يؤدِّي الممثلون عددًا آخَر من عروض الأكشن التعبيرية ذات طابعٍ تشكيلي. على سبيل المثال، عندما تقوم الشقيقات بلفِّ المهرِّج وربطه طولًا وعرضًا بشريطٍ لاصق، اليدَين والقدمَين والرأس والفم والجسد بكامله محوِّلين إياه إلى عبوة (على هذا النحو سمَّى ت. كانتور عروضَ الأكشن المشابِهة)، أو عندما قام لير بتقسيم المملكة عن طريق تقطيع لوحٍ كبير بمنشارٍ معدني وتوزيع أجزائه على البنات؛ أو عندما يخرُج ممسكًا عنوةً بقطةٍ محنَّطة يقطعها ويدسُّها داخل يدَيه، ويسحب كرةً تنزف دمًا ويقذف بها إلى الأرض ومعها القطة المحنَّطة. يتمثل التكوين الفني البصري الختامي للمسرحية في لير ميتًا بالقرب من حوض استحمام أطفال مطاطي منفوخ، وعلى الأجناب حيث تناثرت ثياب البنات الطفولية، في حين وضع المهرِّج على الأرض خمسَ شمعاتٍ مشتعلة بوصفها شعلةً تذكارية.
عرضت المسرحية التالية كنتاجٍ لتطور الخبرة المسرحية «الأحكام المكبوحة» كاملة بوصفها عرضًا من عروض مسرح الفنان، الذي ألَّفه كريموف من جديد مع طلبته. وقد عمل الجميع على نحوٍ غير أكاديمي في أوقات الفراغ المسائية والليلية بعد انتهاء فصول البرنامج الدراسي. بل إنهم رفضوا قضاءَ إجازة الصيف. وقد كان هذا الإبداع الجماعي جذَّابًا، عندما كان الجميع يبدعون معًا ويقومون بتنفيذ كلِّ شيء بأيديهم وتحت إشراف أستاذهم، كانوا يضعون مكونات مضمون المسرحية في البناء الفني المسرحي. وقد كان من خصائص هذا العمل أنَّ كريموف في هذه المرة قد جذَبَ أربعةً من تلاميذ ف. جاركالين في الأكاديمية الروسية لفنِّ المسرح للاشتراك معه أيضًا.
شاب يرتدي معطفًا أسود طويلًا يخرُج من كوةٍ بعيدة في الجدار الأيسر للمسرح، يخرج إلى فضاء القاعة الخاوي الموجود في بوفارسكايا، يتوقف في المنتصف. وبعد توقُّفٍ طويل، يبدأ في خلع حذائه ببطء، يتضح أن هذا الحذاء مملوءٌ بنشارة الخشب، يأخذ الشاب في نثره على الأرض، ثم يقوم بالعملية نفسها مع الحذاء الآخَر. شخصية أخرى، ترتدي المعطف الأسود نفسه، تظهر أمامنا. هي لفتاة تتخذ لنفسها مكانًا إلى جوار الشاب، تخرج نشارة الخشب من أكمامها الطويلة. تمتلئ خشبة المسرح بمشارِكين آخَرين في المسرحية من الطلَّاب، كلٌّ منهم يُلقي بنشارة الخشب من أماكن مختلفة، من جيوب المعاطف ومن قلابات الأحذية الفرائية، من رءوسهم، حيث صُنع تاجٌ من نشارة الخشب، ومن شمسيةٍ مفتوحة ومن أسفل ذيل التنورة. يحمل الشاب حقيبةً ضخمة ويسحب جِوالَين من البلاستيك مملُوءَين بنشارة الخشب يفضها مكونًا كومةً من النثارة. خاتمة هذا الأكشن الجماعي تصنعه الفتاة التي ظلَّت طوالَ هذه الفترة تداعب برقةٍ جسدَ كلبٍ بُني محنَّط، وقد راحت تضغط عليه بصدرها، بعدها يأخذ رفاقها بحركةٍ بطيئة من أيديهم، في «تقطيع» مَعِدة الجثة المحنَّطة المحشوَّة بالنشارة ونثرها على الأرض على أصوات نباحِ كلبٍ يائس. تتحول السحابة الهابطة إلى قطعةٍ من النسيج، عبارة عن شالٍ تلفُّ به الفتاة رأسها. من هنا يبدأ الممثلون في تغيير ملابس التمثيل ليتحولوا إلى «إسبان»، وهذه الملابس لها ياقاتٌ عالية من عصر النهضة، ثم يفتحون مراوح هي جواريفُ معدنية ينثرون بها بعد ذلك على الأرض نشارةَ الخشب بحيث يكوِّنون مجالًا مستديرًا. يتحوَّل الممثلون بعد أن يجلسون على رُكَبهم، إلى «أقزام». يفتحون جوانب البلاطي ويُخرجون تفاصيل الثياب، ويتحولون بمساندتها (وكذلك باستخدام أدوات المكياج يرسمون لأنفسهم شواربَ ولحًى بالفحم الأسود) إلى شخصياتٍ مأخوذة من لوحات الرسَّام الإسباني فيلاسكيس. يُعرض هذا الأكشن على أنغام «بوليرو» للموسيقار الفرنسي موريس رافيل. وها هم «الأقزام» يقفون في صفٍّ خلف أسطح بيضاء يرسمون عليها بسرعةٍ بالحبر الأسود منظرًا طبيعيًّا لتلٍّ عليه طواحين هواء، ويضربون (على أزرار عدَّادات الحسابات) إيقاعات الكستانيت الراقصة.
ينهض الأقزام بعد أن كانوا جالسين على رُكَبهم ليقفوا على محورٍ مستقيم، ثم يخرجون. تظلُّ امرأة «قزمة» فقط تُدعى دوليسينيا واقفةً عند جسد الميت (هذا الدور تؤدِّيه إحدى الممثلات). تغنِّي المرأة أغنيةً حزينة حنونة إلى أن يظهر ممرضٌ يرتدي بالطو أبيض يُخرِجها من على خشبة المسرح بالقوة، ليضع — بمساعدةِ ممرضٍ آخَر — الجسدَ الطويل على نقَّالة، ثم يذهبا به.
تتحرك الستارة في عمق المسرح، الذي يتحول في الخلف إلى غرفةِ تشريحٍ، بها طاولةٌ تشغل عرض فضاءِ القاعة، وعليها هيكلُ دونكي خوت. على الجدارَين الأيسر والأيمن، أمام الستارة، يضع التلاميذ-الفنانون أفرُخًا من الورق المقوى رسموا عليها. وإلى اليسار بابٌ، وإلى اليمين مرحاضٌ له صندوقُ طردٍ يُخرِج، من خلال فتحةٍ به، حبلًا طبيعيًّا. يغادر الطلَّاب المسرحَ بعد أن يضعوا هذه العناصر الديكورية التي يجري استخدامها في المشهد التالي. خلف الستارة، وباستخدام طرائق مسرح الظِّل، يتمُّ تمثيل مشهد إجراءات التشريح، وهو مشهدٌ كوميدي جروتوسكي من ناحية الشكل، ومرعِب من ناحية المغزى (يجري أداء هذا المشهد على أنغامِ كليب صوتي يحتوي على أغانٍ ونصوص، وغيرها من المقطوعات المتنوعة المأخوذة من الإذاعة والتليفزيون).
شخص يرتدي بالطو أبيضَ، يشحذ شفرة المقصِّ، ثم يشرع في التعامل مع الهيكل، بعد أن ينتهي من غسْلِ يدَيه على الحوض بدقةٍ شديدة، وبعد أن يعبِّر بأصابعه بطريقةٍ عرضية لتعكس وجهَ كلبٍ ينبح على رفيقه، الذي يصبُّ له من الإبريق؛ يقص الشخص أظافر الهيكل الطويلة أولًا بطريقةٍ مبالَغ فيها، ثم يأخذ في قطعِ عُقَل الأصابع. مشرِّح آخَر ينزع الشعيراتِ القليلةَ النابتة في الجمجمة، بعدها يقطع قفاه مع القبعة بمنشارٍ معدني. يقيس المشرِّح القبعة على رأسه ثم يلقي بها جانبًا. يشمر عن ساعدَيه ثم يدلف بهما داخل «الرأس». يُخرِج منها كتابًا وراء الآخر. ثم يستلُّ بملقاط من داخل «الرأس» طاحونةَ هواء ورقية وبعدها يأخذ ورقة كوتشينة، «البنت-القلب»، فيقصُّ بالمقص يدَيها الورقيَّتَين وقدمَيها ورأسها. وبواسطة الرأس يكتشف السرَّ الأعظم، وهو الكرة المضيئة. يلقي بهذه الكتلة المكثفة من الوعي الشاعر للبطل باحتقار على الأرض ويركلها بقدمه مثلَ كرةِ القدَم. يقيس المشرِّحون طولَ الهيكل، ثم يقومون بتقصيره بصورةٍ وحشية؛ فيقطِّعونه بالمنشار المعدني إلى قِطَع يدقُّونها بالمرزبة.
يختفي مشهد التشريح. والآن يغمر الضوءُ الفضاءَ القائم أمام الستارة. تخرُج عاملةُ النظافة في المشرحة بعد أن تضرب بكتفها البابَ الأيسر المرسوم على الورق المقوَّى. تجمع الكتبَ المبعثَرة فوق نشارة الخشب وتلقي بها في المرحاض المرسوم. تشدُّ الحبل لترسل بها إلى المجاري. بعد أن ترى أن هناك قصاصاتٍ في المرحاض لم تُجرَف؛ تنتشلها وترصُّها على الأرض، وتبدأ في تنظيمها وترتيبها وفقًا للعبارات المكتوبة، ليتَّضح أنها مونولوج من قصةِ المجنون لجوجول. تلاحظ العاملة، بعد أن استدارت نحوَ الستارة، أن هناك أحذيةً سوداء قد دسَّت وراءها. تقترب منها، وتتلمَّس هيئة الشخصية الموجودة خلفَ الستارة. بعدها تجِدُ على بُعدِ مسافةٍ قصيرة إلى اليمين شخصيةً ثانية. بعد أن تُبعِد الستارةَ عنها، تكتشف وجودَ اثنَين من مرضى مستشفى الأمراض النفسية؛ أحدهما يرتدي سروالًا يصل إلى رقبته، والآخَر يرتدي فانلةً داخلية طويلة. كلٌّ منهما يثِبُ على الآخَر، وعندما تحضر العاملة مِعطف دونكي خوت الأسْوَد يندسَّان بداخله مشكِّلان معًا مرةً أخرى شخصيةَ بطل المسرحية بالِغ الارتفاع.
أول شيء أراده هذان المريضان النفسيان اللذين عادا إلى الحياة في هيئةِ دونكي خوت هو تدخين سيجارة. بعد أن أسندت الشخصية ظهرها إلى الجدار، راحت تفتِّش في جيوبها بيدَين طويلتَين يصل طولهما إلى مترَين، تتدليان حتى الركبتَين، تفتش عن ولاعةِ سجائر. وبعد أن تجِدَ الولاعةَ إذا بيدٍ ثالثة تنسحب فجأةً لتقرِّب الولاعة من السيجارة، وبمساعدتها استطاع دونكي خوت أن يدخِّن في الوقت الذي أمسكَت فيه اليدان الأخريان بورقةٍ، راح يقرأ منها نصًّا من قصةِ «محضر الفحص النفسي لدانيل خارمس». ثلاث أيادٍ تكرمِش الورقة، التي تحتوي على تشخيص المرض، ثم تلقي بها. يسقط البطل من الإعياء فوق نشارة الخشب.
ومرةً أخرى تنهض «القزمة» دولسينيا لتمدَّ إليه يدَ المساعدة. وهنا يبدأ مشهدُ الحُب العاطفي، وهو مشهدُ الصغيرة جدًّا مع الكبير جدًّا. تنفض دولسينيا نشارةَ الخشب عن مِعطف البطل، تعالجه، تضع القطن على التسلُّخات الموجودة على يدَيه ووجهه، الذي مال ناحيتها. وبعد أن حاولَت دولسينيا «القزمة» عدَّة مرات، أن تقفز إليه مستندة إلى ركبتَيها، لم تجد وسيلةً سوى أن تمدَّ إليه كفَّيها في إيماءةٍ تعبِّر عن الرقة والاهتمام. بعد أن تغلَّب دونكي خوت على ارتباكه، مال نحوَها ثم الْتقَت أيديهما. الْتصقَت دولسينيا به، ثم أخذا يدوران في البداية معًا، لكنه بعد ذلك لم يكن يصل، بسبب طوله، إلى خصرها، مع أنها في هذه اللحظة بدأت في النهوض على ركبتَيها لتقف على قدمَيها، لتنمو وتتحول من «قزمة» إلى فتاةٍ عادية. لقد استطاعَت أن تجذبه إلى لعبة الحُب. هزَّت أمامه تنورتها، ابتعدَت مهروِلة عنه ثم اقتربَت منه، ثم اندمجا في عناقٍ دوَّار، ثم تقفز إلى يدَيه.
شخصيان تظهران في زِيٍّ أسْوَد. دولسينيا تختفي داخل معطف البطل. تقوم الشخصيتان بجرف نشارة الخشب إلى عمق المسرح بواسطة جواريف من الخشب الرقيق. تسقط دولسينيا من داخل مِعطف دونكي خوت في أثناء تنظيفها خشبةَ المسرح باتجاه الجدار الخلفي، لتبقى هناك وحيدةً وسط الناس، الذين قاموا بتغطيتها بقماشةٍ كبيرة تبلغ مساحتها مساحةَ القاعة نفسها، وقَدْ تمَّ خياطتها من عددٍ من التنورات النسوية المتعددة الألوان تشبه ملاءةً من القصاصات. كانت دولسينيا تجاهد متحركةً أسفل القماش محاوِلةً التخلص منه حتى وجدَت لنفسها فتحةً للنجاة نفذَت من خلالها، في حين الْتصق القماش بخصرها ليتحول إلى «تنورةٍ» هائلة. بدأت البطلة في أداء رقصةٍ انفرادية على إيقاع «الفلامنكو»، ومعها، بدرجةٍ متساوية، «تنورتها» التي أخَذَ في تحريكها شخوصٌ يرتدون ملابسَ سوداء، راحَت تهزُّ التنورة وترفعها بحيث تخلق إحساسًا أن دولسينيا وهي في منتصف خشبة المسرح وكأنها في مركز «بحرٍ» مضطرِب الأمواج. وفي لحظةٍ ما، إذا بالشخوص ترفع التنورةَ إلى أعلى بحيث تُظهر قدمَي الراقصة وحولها تزحف فئران بيضاء أُطلقَت من ظلام تحت الأرض بواسطة أشعَّةٍ منطلقة من فانوسٍ سحري. كانت دولسينيا تحاول أن تتفادى هذه الكائنات البشِعة، صارخةً كلما لمَسَها أحدهم. هنا يزحف دونكي خوت أسفلَ «التنورة» قادمًا لنجدة محبوبته، يطرد الفئران، ويضع لدولسينيا كرسيًّا لتقف فوقه في أمان. فجأةً تدوي موسيقى «الفلامنجو» ثم تتحول إلى مارش عسكري من الفصل الأخير من مسرحية «الشقيقات الثلاث»، التي كان مسرح موسكو الفني الكلاسيكي يعرضها، وعندما هدأت الأصواتُ التي تمسُّ الرُّوح بصورةٍ تبعث الحنين إلى الماضي، يشاهد الجمهور على الخشبة جسَدَ دونكي خوت الطويل راقدًا على الخشبة الساقطة، وقد مات مرةً ثانية على يد الجمهور. ولكنه في هذه المرة، يبدو على هيئة أحد الأقانيم، التي وضَعَها على نحو فانتازي اثنانِ من مرضى مستشفى الأمراض النفسية وعاملة النظافة، التي أدَّت على نحوٍ مدهِش دورَ محبوبةِ دونكي خوت.
شخصيتان في ثيابٍ سوداء تضعان على جسد البطل قِطعًا من الورق المقوَّى، رسَمَ عليه رفاقهما بالحِبر الأسْوَد هيئةَ رأسٍ ويدَين وقدمَين. وبعد أن أتمَّا الرسم قاما بقصِّ كلِّ جزء من أجزاء الجسم على حِدَة، ثم قاما بترتيبها واضعين إيَّاها على أعمدة، ثم رفعاها في اللحظة نفسها. كان هذا يعني أنَّ الروح قد حلَّقَت مغادِرةً الميت، بعد أن اتَّخذَت هيئة جسده. طارت «الرُّوح» عبْرَ فضاءِ القاعة محمولةً على أعمدةٍ بواسطة ثمانيةِ ممثِّلين (حملوها مثلما يحملون التنين في العروض الشعائرية الصينية). حلَّقت الروح فوق المشاهدين، ثم راحت تصطدم تارةً بالسقف، وتارةً بالنوافذ والجدران. ولمَّا لم تجِدْ لها مَخرَجًا، تناثرَت إلى أجزاء: الأقدام، والأيدي، والبدن، والرأس المصنوع من الورق المقوَّى؛ كلها حُملَت بوصفها أدواتِ ديكور مستخدَمة.
شخصٌ في ملابس سوداء يحمل إلى جسد دونكي خوت المسجَّى صندوقَ مذياعٍ قديم معلَّقٍ به ذيلُ حصان، ويضعه على الأرض. حبلٌ يمتد من الصندوق حتى فتحة الباب الأمامية، يخرُج طرَفه من الفتحة البعيدة، يمتدُّ الحبل عبْر فضاء القاعة إلى أن يصل إلى الجدار المواجِه، حيث يُمسك به «الأقزام» ويضعونه في مصدر التيار الكهربي، وعندئذٍ تصدر أصواتُ صهيلِ خيل. تدبُّ الحياة في أوصالِ دونكي خوت، ويستيقظ من سُباته ويهبُّ واقفًا وقد أمسَكَ في يديه وضمَّ إلى صدره صندوقَ المِذياع. يقوم هذا الشخص بفتح شِباك الطبلة، ومنه يرى العينَ الزرقاء لروسينانتا. يربتُ البطل على حيوانه المفضَّل ويأخذ في الدوران معه على أصواتِ فالس «أمواج الحُب». هنا تتحطم الحياة الرغدة. «الأقزام» يجذبون طرَف الحبل وينزعون من يدي دونكي خوت «حصانه»، الذي يحاول التماسك، ولكنهم يشدُّونه، وبدلًا منه يحضرون بيانو، تتحول القاعة إلى صالة عرضٍ سينمائي قديمة، حيث تُعرض، بمصاحبة دونكي خوت، لقطاتٌ «تسجيلية» من حياة هذه الشخصية على الستارة-الشاشة من خلال شرائحَ ملوَّنة، بوصفها شخصيةً معاصرة. وها هي تبدو نحيفةً — عملاقًا سخيفًا في مِعطفٍ أسْود — تارةً نراها فوق برج إيفل، وتارةً تسير ممتطيةً جَملًا، تارةً عند حائط المَبكَى في القُدس، أو في مقابلةٍ رسمية مع البابا، إلى جانب السياسيَّين «ريجان، وجورباتشوف». في اجتماعٍ أمريكي جماهيري، حيث يلقي مارتن لوثر كنج خطابًا، على خلفية ناطحاتِ سحاب، يبدو مساويًا لها تقريبًا في الارتفاع، في قريةٍ يراقب فلَّاحةً عجوزًا تعمل، طائرًا في قفزةِ باليه في ثنائي مع م. باريشنيكوف، يُدير «حوارًا» مع ليف تولستوي، هو الشخص الخامس الذي يظهر في الصورة الشهيرة للرباعي الشهير من ليفربول المعروف بالبيتلز، يقف مع أطفال من الزنوج، ثم يظهر بصحبة عظماء الفن السوفيتي: شوستاكوفيتش في شبابه وهو يعزف على البيانو، وقد راح كلٌّ من ميرخولد وماياكوفسكي يستمعان إليه، وهَلُمَّ جَرًّا.
بعد عرضِ الشرائح الملوَّنة يغنِّي دونكي خوت هو وصديقته دولسينيا أغنيةً يقاطعها الجمهور بالصفير، ويروحون يلقونهما بالبرتقال وقِشر الموز. يخلع دونكي خوت المِعطف، في حين يغادر المسرح المرضى النفسيون عرايا وهم مستاءُون. بعد ذلك، لا يظهر البطل في مظهرٍ إنساني، على الرغم من ظهوره بعيدًا عن المعيار الطبيعي. تظهر صورته الآن في البداية على هيئة تمثال صغير (بطل مرسوم في حجم دمية)، في حين تمدُّ دولسينيا حبلًا ترفعه من العمق إلى مقدمة المسرح، أمَّا دونكي خوت الدمية فيقف، مثله مثل بهلوان، متوازنًا على الحبل. وعندما يفقد توازُنه يسقط، ويتدلَّى رأسه إلى أسفل، في الختام يمر الموكب الجنائزي للممثلين مخترِقًا فضاءَ القاعة، حاملًا جثةً محنَّطة مصنوعة من الخرق ضخمة الحجم. يضعون الجثة في مقدمة المسرح. وعلى نحوٍ شعائري يغطُّون البالطو بملابس أخرى، يضعون قبعةً على رأسها، يجلسون صفًّا واحدًا، يخرجون من جيوب البالطو أوراقًا كُتبت عليها. يقف «الأقزام»، يغادرون المسرح واحدًا وراءَ الآخَر. في اللحظة الأخيرة، يستديرون فإذا بهم يضعون على وجوههم جميعًا نظَّارات. ثم لا يتبقَّى على خشبة المسرح الخاوي سوى جثَّةِ البطل المحنَّطة.
(٨) «شكولاروسكفا ساموزفنستفا»٤٨⋆
هذه اللوحة المعروضة، أمام المشاهدين، «تعبِّر» عن «لحنٍ» بصري يدوي في صمتٍ مطبق، طويل، ممتد في الزمن، جميل ومرعِب يسبق الموقف الدرامي لموضوع المسرحية، والذي يعبِّر عنه أربعة ضباط برُتبة ملازِم يمرُّون، الواحد وراءَ الآخَر، عبْر تشكيل «الأهرام» التذكارية، بعد أن ينتظمون في فضاءِ «المخبأ» الضيِّق ليعيشوا ساعاتهم الأخيرة قبل الموت.
هذا النوع من البناء، الذي يتمُّ باستخدام شخوص الممثلين وحركتهم وانتقالهم من مكان إلى آخر وتصرفاتهم تجاه الأشياء، التي يتم إبطاؤها بشكل ذي مغزًى شعائري، قد أدى إلى تحويل بناء المسرحية في الزمن المسرحي بوصفها عملًا من أعمال مسرح الفنان.
يبدو أبطال المسرحية مثل لوحاتٍ مرسومة داخل «إطار» هو حافة الفتحة يقرَءُون بداخلها الصُّحف، ويتناولون طعامهم المكوَّن من عصيدة الشوفان من قصعة موضوعة على الأرض بين أقدامهم الحافية مستخدِمين ملاعقَ خشبية. أخلدوا بعدها إلى النوم، بعد أن خلعوا قمصانهم وبنطلوناتهم وبقوا بملابسهم الداخلية، المكونة من كلسونات عسكرية وفانلات، بالإضافة إلى أحذية بيضاء عسكرية وقبَّعات «على طراز القبَّعات التي يرسمها الفنان برايجل»، ملتصقة بالرأس، بشكلٍ بارز منفوش أضفَت عليهم مَظهرَ فلاحين في لوحة من لوحات الرسام الهولندي المذكور. على هذا النحو، قام جاكيفيتش بوضع ميزانسين شخوص خارج حدود فضاء «المخبأ»، على خشبة التمثيل التي، بحلول هذا الوقت، تعرضَت لتحولاتٍ بصرية جوهرية.
تظهر شخصيةُ امرأة تضع على وجهها قناعًا إفريقيًّا وقد ارتدَت ثيابًا غريبة. النموذج الصامت المتكرِّر غير واضح المضمون بشكلٍ تام، الذي أدخل في المسرحية بصريًّا، يقف على النقيض من الأبطال الواقعيين الذين يرتدون فانلات عسكرية، وكذلك من مظهر «الصيادين في لوحات برايجل»، ومن الاعتدالية الفضاء الذي يوجدون فيه. تمرُّ المرأة صامتةً بالقرب من الشخصيات الأخرى لتخرُجَ بعد بُرهةٍ من جديد حاملةً صينيةً عليها برَّاد شاي. ثم إذا بها تظهر مرةً أخرى في مكان آخر، متخذة مظهرًا، وواضعة قناعًا على الدرجة نفسها من الغرابة، تقدِّم للشخصية الجالسة على المقعد المحني في منتصف خشبة المسرح نظَّارةً سوداء وقبعة سوداء ورزمةَ ورق، تلقي بها على الأرض بعد أن تتصفحها. يحيطها ببطءٍ ثلاثةُ «صيَّادين من لوحاتِ برايجل» معهم جلود حيوانٍ طويلة وملفوفة وأعمدة. يتجمعون في لحظةٍ حول الشخصية الجالسة ويحاصرونها بالأعمدة، يبدَءُون بعدها في عملِ عرض أكشن صبِّ «غطاء من الثلج»، وتغطيته بصفحاتِ الورق المرسوم عليه الظِّل الأسود للدبِّ، ثم في هذه المرة يضعون شريطًا شفَّافًا فوق غطاء الثلج.
اثنان من «الصيادين» يرتديان ملابسَ بيضاء، يركعان على رُكَبهم أمام المرأة التي ترتدي الآن ملابسَ سوداء. يمدُّون أيديهم نحو ثوبها، يهزون طرفه ببطء، وهناك، داخل الثوب، تنفتح وجوهٌ وأقنعة. يقتربان من المقعد، الذي وُضعَت عليه لفافةٌ ملفوفة في أغطية بيضاء. يرفعان بحرصٍ بالِغ أحد الأغطية، ثم غطاء آخر، فثالثًا، ليكتشفوا شكلًا مقوسًا، وأن هذا الشكل يصبح في الخاتمة شكلًا مركزًا للإنستاليشن الختامي.
يأتي بعد ذلك أكشن آخَر يؤديه ثلاثةُ «صيادين» مقدِّمين مشهدًا شعائريًّا يحركون فيه أيديهم ببطء، كما لو كانوا يقومون بعملٍ استعراضي، وهم يعدون الكتلة لوضعها على مسند المقعد المحني. الشخص الواقف في الخلف يلوي «رأسه»، الثاني يلوي «رقبته» من المسند، الثالث يقلبها وينثر عليها دقيقًا. ثم وضع عليه كومةً من العجين. تستخدم «الرقبة» بوصفها نشابة تُستخدم لفرد العجين تمهيدًا لعمل الفطير، الذي اقتطعوا منه أجزاء حملوها إلى أفواههم، ومرةً أخرى راحوا، بشكلٍ شعائري، يأكلونها وقد أغمضوا أعيُنهم. بعد ذلك، تؤدي الشخوص البيضاء ذات الأوجه المغطاة بالأقنعة رقصةَ التانجو في الفضاء الأبيض للمسرح. ثلاثة شخوص يتبادلون الرقص: اثنان يرقصان معًا، في حين يتجمد الثالث في وضعيةِ تمثال بانتظار دوره. هذه اللوحة البصرية الفاتنة، المفعمة بالنزعة العاطفية الحادة خلقَت هنا أيضًا، كما في بعض اللحظات الأخرى في المسرحية، تناقضًا حادًّا مع النص الفظ، الفاحش، ذي النزعة الأرضية الطبيعية، الذي تؤديه الشخصية الرابعة في هذا الوقت من مكانها في فتحة «المخبأ».
بعد أن أنهى الأبطال الرقصة الأخيرة في حياتهم، خلعوا عن رءوسهم قبَّعات الجولف «على طريقة برايجل» التي تعدُّ العلامة البصرية الرئيسية لغريزتهم الفتيَّة الحيَّة ووضعوها على الصينية، التي حملتها المرأة «الإفريقية» وخرجَت. يقوم الأبطال بعد ذلك بنقْلِ «المخبأ» من فضاء المسرح، كلٌّ يحمل كُتْلتَه. يضعونها في أماكن متفرِّقة على الخشبة. يأخذون من المرأة (التي أصبحت ترتدي الآن ثوبًا أبيض وقناعَ الموت الأبيض) الملابسَ التي وضعوها في الصينية ليغلقوا بها الكتل، وبعد أن انتزعوا أغطيةَ الرأس «البرايجلية» يغادرون خشبة المسرح، الذي لا يتبقى عليه سوى الإنستاليشن، الذي سبَقَ وصفه، والذي أنهى صفَّ المَشاهد البصرية للمسرحية.
بعد أن أصبحَت الدائرة الخاوية للساحة المغطاة بالثلج في خلال عدَّة دقائق (والتي بدا في المسرح أنه لا نهايةَ لها)؛ هي الشيءَ الوحيد الذي يراه المشاهِدون وراحَت هذه اللوحة تؤثِّر في المشاهدين على طريقةِ التنويم المغناطيسي، مُضفية أسلوبها ببطءِ إيقاع شعائري ومستوًى غير مشخِّص للحدث المقدَّم، أُضيء الحدُّ الأمامي، وبدَت الشخصية الجالسة على رُكبتَيها في عفريتة بيضاء، لفَّتْها من قدمَيها حتى رأسها. يد مسَّت بحرصٍ سطحَ الساحة، كأنما تحاوِلُ أن تحسَّ بأنفاسها من خلال «اللمس». ويبطء تغوص في الغطاء الثلجي وتُخرِج من عمقه بيضةً كبيرة، وهي الشكل المثالي، الذي يضمُّ في ذاته دلالةَ الحياة الكونية. تضع البيضة في كِيسٍ، وبعد أن تقف منتصبةً، ترفع يدها حاملةً جهاز تحكُّم تليفزيوني عن بُعد، وبعد أن تضغط على الزرِّ، تسقط على الساحة بيضةٌ أخرى ضخمة كأنها «شِهاب». وفي وسط «الكتلة» الثلجية، يُضيء قرصٌ سحري.
بعد ذلك تعزف الساحة المغطاة بالثلج أولَ لحنٍ «منفرد»، مؤثِّر في الحقيقة، بمصاحبة لحنٍ سيمفوني لمقطوعةٍ من مقطوعات فرقة الروك ليد زابيلين. قبل هذه اللحظة، يبدأ السطح المستوي في الازدياد تدريجيًّا بدوائر من «التشقُّقات». تظهر هذه الشقوق بشكل أكثر بروزًا. تزداد سُمكًا حتى تشمل و«تمزَّق» الساحة تمامًا من المحيط إلى المركز. بعد ذلك تقلُّ تدريجيًّا في السكون المطبق، ثم تتقلَّص وتتساوى، تكتسب الساحة وضعَ الانطلاق؛ لقد فتن هذا الأكشن البصري (مثله مثل كل المَشاهد التالية السينوجرافية أو التمثيلية؛ أي المشاهد المجازية) لبَّ الجمهور بإيقاعه الممتدِّ والخيالي، كأنه تشكيلٌ تلقائي ما لطوفان كوني، وذلك بفضل الاهتمام المكثَّف المطلق لهذا الجمهور.
الآن فقط يدخل الممثل إلى الساحة التي طُليَت باللون الأصفر، متحركًا بصعوبة، يغوص في كلِّ خطوة في السطح الرملي الهشِّ حتى يصل إلى المركز، يغرز الجاروف في «الثلج» «الرمل». ينحني على رُكبتَيه أمام البيضة، يلفُّها في قماشٍ أبيض، يخرج بها من الدائرة. وهناك، واقفًا عند الصفِّ الأول للمشاهدين، يلقي بالكلمات الأُولى من النَّص: في البداية على لسانه: «أنا هنا بدلًا من أكاكي أكاكيفتش [بطل قصة «المعطف». (المترجم)].» ثم يقرأ كلماتِ جوجول: «اليوم عيد كبير.» تكرِّر وراءه الشخصية الثانية، شريكه وقرينه (الذي يرتدي الثياب نفسها): «أنا هنا بدلًا من أكاكي أكاكيفيتش.»، «اليوم عيدٌ كبير …»
على أثر الانتهاء من شعائر الدفن، تُعرَض لوحةٌ، موضوعها «اليوم عيدٌ كبير». وعلى الساحة، التي أصبحَت خاوية إلا من التلُّ الوحيد، تدوِّي «ألحان» أصوات مميزة للإرسال الإذاعي الجماهيري لمظاهرةٍ من مظاهرات منتصف القرن العشرين الفاشية بخطاب نباحي حنجري للفوهرر، ثم ينتقل الأمر إلى خطاب ستاليني مع الهتاف الشعبي العام «مرحى!»، مع صرخاتٍ تشبه الشعارات، مأخوذة من نصِّ جوجول («لا تشعلوا الشموع في المساء!»، «امشِ بقدر الإمكان بخطواتٍ خفيفة وبحذرٍ أكبر!»، «اذهبْ إلى غرفة ربَّة البيت، واشرع في العمل!»، «إليك عني … لماذا تُسيء إليَّ»).
يبدو بعد ذلك أنهما كان يسيران في الشوارع والميادين في ليلٍ بطرسبورج الذي وصفه جوجول، وقد تحوَّلت المدينة إلى «كوكب» رحلتهما المسرحية، الذي تحوَّل سطحه المغطى بإسقاطٍ ضوئي من الفانوس السحري ليُظهر خارطةً لعاصمة الإمبراطورية الروسية، في حين امتلأ فضاء الوسط بأصوات ذلك الزمان وأنغامه تتحول بطرسبورج «الافتراضية» إلى «بحر» افتراضي من خلال الفانوس السحري، وبعد أن يُخرِج البطلان من الحقيبة سترةَ الضباط الرسمية و«الكابات»، يغرقا في دوامة من الأمواج الملوَّنة الدوارة، وبعد أن تغنَّيا في البداية بأبيات من أغنية فيرتينسكي العاطفية («يبدو لي أنك أحببت بعد ذلك رجلًا برتغاليًّا …») ثم أغنية «مصرع فادياج»، يندمجان في رقصةٍ عاطفية مع سيدتَين ترتديان ثيابًا سوداء ليغادرا الساحة بعدها معهنَّ في خطواتٍ متمهِّلة. وعلى هذه الساحة، راحت صورة عنصري البحر والموسيقى تؤدي «دورها» الافتراضي الخلَّاب.
تغيب في الظلام لوحةٌ لمنظر طبيعي لقمر، ويصبح آخِر ما يراه المشاهدون؛ هو اثنين يكنسان الأرض، وهما الشخصان اللذان كانا يؤديان دورًا «بدلًا من أكاكي أكاكيفيتش».
لقد تم التفكير في مسرحية «المعطف رقم ٢٧٣٧ ونصف» وإخراجها بوصفها الجزء الأول من مشروعٍ كبير. وقد كان من المفترض أن يكون «هاملت» موجودًا في الجزء الثاني تحت اسم «رحلة إنسان»، وأن يكون دانتي موجودًا في الجزء الثالث تحت اسم «رحلة رُوح».
(٩) من الطليعية التشكيلية إلى مسرح الفنان: الإنستاليشن، الإنفايرومنت، الأكشن، البرفورمانس
في الفترة من ١٩٦٠م حتى ۱۹۹۰م، ساد في روسيا، كما حدث في ألمانيا من قبل، طِرازان من الطليعية التشكيلية، كلاهما كان يتناسب تمامًا ومسرح الفنان، الإنستاليشن والإنفايرومنت من جانب، ثم مختلف أنواع الأكشن والبرفورمانس من جانب آخَر.
يحمل الإنستاليشن المسمَّى ﺑ «الإنسان الذي طار من غرفته إلى الفضاء» (١٩٨٦م) طابعًا أكثر شخصانيةً ليبدو كما لو كان حميميًّا، وكذلك عَرْض «فقَدَ عقله فخلع ملابسه وهروَلَ عاريًا» (۱۹۹۰م). كِلا العرضَين يقدمان للمُشاهد ليس مجرد رؤية ﻟ «نفاية الحياة» معروضةٍ على الحِبال، ويسمحان له بأن يغوص في البيئة الفوضوية للفنان الغائب بحرفية، والذي «يطير إلى الفضاء» أو «يهرول عاريًا» بعد أن يترك آثارًا تدلُّ على وجوده (سريرًا قابلًا للطي مع ملاءةٍ مطوية، حذاءً ملطخًا بالطلاء، قصاصاتِ ورق، دلوًا مقلوبًا وشرائطَ مكرمشة من المطاط، مساميرَ صدِئَة، «جهازًا» للإقلاع، وكذلك ملابس معلَّقة في أماكن متعددة على الجدران ولوحات مبعثرة في طرَف الغرفة). «طار في الفضاء»، أو «هرول عاريًا».
انظر على أيِّ نحو ظَهَر واحد من الأنواع الأُولى لعروض الإنفايرومنت كما وصفها الفنان في عرض «الردهة – ألبوم أمي»، والذي قدَّمه في عام ١٩٩٠م.
في التسعينيات قام كاباكوف أيضًا بتنويع موضوع التشوُّه والفقر الذي أصاب الحياة المشتركة في عروض الإنفايرومنت الأخرى.
«دورة المياه» تقدِّم حالةً واقعية من حياة أم الفنان التي تعيشها في مسكنٍ له مرحاضٌ عمومي. في عرضَي «حادثة في المتحف» و«الجناح الأحمر»، يتم التعبير عن حالة انهيار من خلال وصف الإهمال التام؛ في الحالة الأولى: مبنى متحفٍ روسي في الريف، حيث يجري في ظروف ترميم المبنى (مواسير مثقوبة تنهمر منها المياه، جدران عطِنة مُدَّت فوقها شرائط) افتتاح معرضٍ لأعمال فنان عبقري ما مجهول في العشرينيات. وفي الحالة الثانية: دلاء مملوءة بالطلاء، في مبنى جناحِ روسيا في بينالي فينيسيا ٧٣، مبنًى رديء مملوء بالقمامة، به ساحة للعروض الفنية، حيث يعلو فيها صوت موسيقى خفيفة، يرى المُشاهِد وهو خارج إلى «البلكون» لوحةً مُقلدة لمنتجع سوفيتي يصوِّر حياةً رغدة، في حين تسبح السفن في البحر. وفي عرضَي «عربة قطار حمراء» وفي «نحن نعيش هنا» على وجه الخصوص وضع كاباكوف إنفايرومنت ضخمًا مكوَّنًا من شرفتَين مسرحيتَين، قام بتطويره في عام ١٩٩٥م في مركز بومبيدو في باريس، حيث وسَّع حدود «الشقة المشتركة»، التي اكتسبت الآن شكل مبنى «المستقبل المشرق» الشامل اللانهائي، والذي يعيش الناس حياتهم في وسطه، في عربات قطارات ركَّاب، تشبه مقلبًا للقمامة، يولدون فيها ويترعرعون، يتزوجون وينجبون أطفالًا، ثم يموتون. في هذا المكان، يتحرك المشاهدون عبْرَ هذا البناء الضخم لمقلب قُمامة من عربةٍ إلى أخرى، مارِّين عبْر هذا الوضع الحقيقي والمفصَّل والمعروض على نحوٍ طبيعي، والذي يعيشه هؤلاء الناس في كلِّ عربة من هذه العربات، ليهبطوا إلى الشرفة السفلية «تحت الأرض» المخصَّصة للاستجمام الثقافي والاحتفالات الجماعية، هناك ثلاث «عربات للدعاية»، حيث كان من الممكن أن يشغل المشاهدون أماكنهم هنا أمام خشبة المسرح، ومشاهدة لوحات فنية من المدرسة الواقعية الاشتراكية معلَّقة على المسرح، وأن يستمعوا من الإذاعة إلى أغاني الثلاثينيات وحتى الخمسينيات البهيجة.
لم يكن «المسرح الساكن» لكاباكوف بحاجة إلى مشاركة من الممثلين؛ لأن مغزى عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت تتلخص في اندماج المَشاهد في البيئة، حيث لا يبقى في وقت ما من الناس، الذين وُجدوا فيها، سوى آثارٍ مادية، وتصبح هذه البيئة نفسها، جوها ومزاجها، هي موضوعَ الإدراك والمعاناة. إن عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت عند كاباكوف؛ هي مسرح الفنان السينوجرافي المكتفي بذاته تمامًا في أكثر «صوره نقاءً». ويأخذ هذا المسرح في التطور والاتساع لا على خشبة المسرح، وإنما في فضاء العرض كلِّه لينتمي بذلك إلى ظواهر الإبداع البصري.
وقَدْ بُني هذا الإنستاليشن بشكلٍ رأسي. وقد رُفعَت كلُّ الأشياء التي أُحضرَت من الورشة فوق أرضية المسرح على أوتادٍ طويلة. رفرفَت فوقها مِظلَّاتٌ سوداء مفتوحة، راحت تسقط فوقها تياراتٌ منهمرة من خيوطٍ فضية تمثِّل أمطارَ شجرة عيد الميلاد، تسقط من «سُحُب» معلَّقة على ارتفاع ثمانية أمتار، وقد صُنعَت هذه السُّحب من كُراتٍ ملوَّنة منفوخة، ﻟ «تنهمر» من المظلات ساقطةً على الأشياء.
إنَّ «حكاية عن المطر» بوصفها نموذجًا لبيئة الحياة والإبداع تعَدُّ، في الوقت نفسه، نسخةً بصرية من موتيفاتِ قصيدة تحمل العنوانَ نفسه للشاعرة بيلا أخمدولينا حول ربَّات الإبداع المعمِّرات ونموذج الفنان.
في عام ٢٠٠٠م، وبعد مرور ستِّ سنوات، وفي المعرض الذي أُقيم في متحف بوشكين للفنون الجميلة، عرض ميسيرير الإنستاليشن المسمَّى «قدَّاس لرُوح فينيدكت يروفييف».
تم عرض «قُدَّاس لرُوح فينيدكت يروفييف» في كوادرينالي، باريس، عام ٢٠٠٣م؛ حيث أُضيف عنصرٌ آخر تَمثَّل في طاحونةٍ ضخمة ذات أجنحةٍ مصنوعة من عدادات مكتبية تصدر، عند دوران نقْرِ الأزرار، صوتَ القدَّاس على نحوٍ «موسيقي».
إذا كانت عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت تمثِّل «المسرح الساكن» لفنان السينوجرافيا في تناسُقٍ مع النماذج السينوجرافية، فإن عروض الأكشن والبرفورمانس هي عروض للمسرح الفعَّال، يقوم الفنانون السينوجرافيون أنفسهم بالتمثيل فيه، وهو مسرح موجود في صورتَين: المونو أكشن، والكولكتيف أكشن (الأكشن الفردي والأكشن الجماعي).
هذا العمل من أعمال بيرتشيخينا، يمكن أن يُدرج ضمن أعمال النمط القاسي لفنِّ الجسد. فضلًا عن إدراجه ضمن مجموعةِ عروض المونو أكشن، الذي يصبح فيه جسد الفنان هدفًا للتنكر بواسطة المكياج أو الأزياء (أي إعادة تشكيل الطابع الجمالي تمامًا).
تميزَت هذه العروض من عروض الأكشن بمدًى نوعي عريض؛ من الشعائري الدرامي إلى التمثيلي المثير.
ومن بين عروض الأكشن الجماعية التي بُنيَت على التفاعل بين اثنَين أو أكثر من المشاركين مثَّلت مجموعة كبيرة تلك العروض التي يؤديها اثنان من عارضي البرفورمانس.
كان باستطاعة الجمهور الذي حضر في هذا اليوم أو ذاك، خلال تلك الشهور الكثيرة (من أبريل إلى أغسطس ۱۹۹۲م) لمشاهدة عروض البرفورمانس التي أقيمت في بيرتشيخين مثل: «قراءة الحائط الأبيض الأول» و«الكتاب الأسْوَد للحائط الأبيض»، أن يشاهد في أفضل الأحوال جزءًا ما من أجزاء البرفورمانس، ولكن هذا الجمهور نفسه لم يكن باستطاعته أن يشاهد العملية ككل؛ إذْ كان العرض بكامله غيرَ متاحٍ إلا على شريطِ فيديو.
من جانبٍ آخَر، فقد استمرَّت تجاربُ استخدام مختلف وسائل الجذب الفعال للمشاهدين في عروض الهابيننج، التي كانت قد بدأت على تُخوم الخمسينيات والستينيات بوصفه هؤلاء المشاهدين مشاركين في عروض الأكشن. كان الأمر بالنسبة إلى أولئك «الهلاميين» مثله في عرض «الحفريات»، حيث راح المشاهدون يحفرون على مدى ساعةٍ حفرةً في الأرض إلى أن اكتشفوا في عمقها عارضَ برفورمانس يختنق. وفي عرض «الإعدام رميًا بالرصاص» تم صفُّ المشاهدين وقيادتهم إلى مكان «الإعدام»، حيث جرى بعد «عقاب» المقطوع، قراءةُ أمرِ العفو. وفي عرض الأكشن المسمَّى «انسكاب المياه» يقوم العارضون، الذين تمَّت دعوتهم إلى فضاءٍ ضيق في شقة من غرفةٍ واحدة، بسكبِ قصاصات من ورق الرسم عليه إسقاطات ضوئية لصورة البحر، وقد اختفوا خلف سطحٍ من ورق الرسم، بعدها تتمُّ دعوة المشاهدين للحضور عند انسكاب المياه من الحوض (الذي استمر في الامتلاء طوال جريان الأحداث في الغرفة)؛ وفي النهاية، تسقط زجاجاتُ عطرٍ صغيرةٌ تذكارية من هذه المياه نفسها.
حدَّدَت هذه المبادئ طابعَ عروض الأكشن، التي نفِّذت بوصفها عرضًا واحدًا للبرفورمانس (ضربنا أمثلةً بذلك آنفًا) أو عرضَين أو أكثر.
يتلخَّص حدثُ «الكوميديا» (۱۹۷۷م) في ظهور شخصيتَين من جانبَين متقابلَين «الشخصية الصغرى» تتسلل داخل ثوب فضفاض. في هذا «الميزانسين»، يتحركان باتجاه المشاهِدين، وفي الطريق تختفي الشخصية التي كانت تتسلل في الثوب الفضفاض. تم تمثيل موتيفة التبديل والاختفاء في عرض «النسخة الثالثة» (۱۹۷۸م)، فبعد غرَقِ العارض في الحفرة، إذا بقرينه يظهر من حفرةٍ أخرى تبعد ٣٠ مترًا عن الأُولى، ولكنَّه يظهر ببالونةٍ حمراء محلَّ رأسه. تنفجر هذه البالونة وتسقط الشخصية دون رأسٍ مرةً أخرى في الحفرة. وهنا يصعد شخص في ملابسَ عادية من الحفرة الثانية؛ فيهيل عليه التراب ثم يخرج إلى الغابة.
وفي عروض الأكشن التي قُدِّمَت في نهاية ١٩٧٠م والنصف الأول من الثمانينيات اقتُرح على المشاهدين، بالإضافة إلى معاناتهم «حالة الانتظار»، القيام بأفعالٍ أكثرَ فعاليةً، ولكنها تحمل كذلك صنعةَ القدر الأقل أيضًا.
إن طابع المشاركة المستقلَّة للمشاهدين في عروض الأكشن التي أعدَّها فنانو السينوجرافيا؛ استطاع أن يحظى بالتنوُّع الكبير.
(١٠) «المسرح الشامل»
قامت الفنانة بالاشتراك مع ف. كايتشوك وإ. أنيشينكو بوضع منظرٍ خيالي لتصميمات نصبَتها فوق رأس المؤدية أو فوق تمثالٍ لها، مُستخدِمةً مبدأ الإنشاءات الذاتية الشَّد (التي ابتكرها الأبُ ونقَدَها في سلسلةٍ من الموضوعات)، وهذه التصميمات تحاكي نجمًا أو طائرة ورقية أو مظلَّة مفتوحة؛ نسيج فاتِح اللون منبسِط بواسطة سنانير التريكو، مقدَّسة بشكلٍ دينامي ذاتي الشَّد. كانت هذه التصميمات ثمينةً في ذاتها؛ فهي تمثِّل «الشخصيات» البصرية الرئيسية للأكشن المعروض بواسطة الممثلين، الذين يدخلونها إلى الحركة. فالموضوع التشكيلي — على سبيل المثال — للبرفورمانس الذي جرى عرضه عام ١٩٩٦م (بأداء ممثلي التشكيل النفسي عند ف. مارتينوف)، والمسمَّى «الثوب الإنشائي»، هو تفاعلٌ درامي لشابٍّ يحمل هذا «النجم» فوق رأسه، مع فتاتَين، إحداهما وضعَت كليةً بين ثلاثة أشياء من هذا النوع (بحيث تصبح هي «المحور للتصميم بكامله»، تديره، تميله، تنقله) وترسم «نجمًا» كبيرًا، يطير باتجاه الأرض قادمًا من كوكبٍ غامض، أمَّا الفتاة الأخرى التي تلبس ثوبًا من التريكو، يغلِّف جسدها فتبدو وكأنها «عارية»، فهي نموذجٌ أرضي، وهي التي يفضِّلها الشابُّ-«النجم».
قامت أنَّا كاليتشوك بإعداد أزياء تقع عليها إسقاطاتٌ ضوئية، وقد خصَّصت للعمل معها مجموعات من المؤدِّين، أربعة، على سبيل المثال، يظهرون وقد الْتفوا في نسيجٍ أبيض يوحي شكله بوجود كائنٍ ما خيالي (وهذا لأنهم منذ البداية غير مرئيين). هنا، وبحركاتٍ بطيئة، يأخذ المؤدون في الكشف عن هذا الشكل للنسيج الذي يلتف به، وقد راحوا يتحركون ببطء كأنهم في حالة تأمُّل، يلتفتون فُرادى أو معًا، ويبدَءُون في أداء هذه أو تلك من العمليات: قيام وهبوط، أرجحة ودوران حول محور مشترك (مثل دوران أجنحة طاحونة أو صفحات كتاب)، الْتفاف وابتعاد. وفي النهاية، يجمعون النسيج في كومة لينتهي البرفورمانس بأكشن لبدلةٍ حركية سينوجرافية تدور على حبالِ ألسنةِ «شُعلةٍ» داخلها شخصية. من هذه «الشعلة» المتأججة باندفاع، لم يكن من الممكن رؤية شيء سوى قدمَي الشخصية.
وقد جرى أيضًا عرض مشروع ملابس، عليها إسقاطات ضوئية على عشرين شخصًا، لها شكل خطٍّ أفقي طويل، مثل «ساق» نبات متعرِّج، تخرج منه على التوالي عشرون «ورقةً» من القماش؛ أقمشة مخصَّصة لعملٍ متنوع يقوم به الممثلون.
كانت الرسوم البصرية التي غطَّت الكائنات الخيالية في أثناء وجودها على المسرح؛ هي المكون الثاني المهمِّ للنموذج البصري للإسقاط الضوئي على الملابس سواء في «الأشكال المتغيرة» أو في المشروعات الأخرى. تمثلت هذه الرسوم البصرية في التكوينات الجرافيكية للكمبيوتر على موضوع الاستنساخ اللانهائي، المتكرر، المتعدد الأشكال ﻟ «المربع الأسود» الذي ابتكره كازيمير ماليفيتشي. لقد دخلَت هذه الرسوم، مثلها مثل عروض برفورمانس الملابس، في المشروع الرئيسي ﻟ «المسرح الشامل» الذي كتَبَ مفهومَه كلٌّ من ف. وأ. كاليتشوك في عام ۱۹۹۸م تحت اسم «الكولاج المكاني».
يفتتح «المحيط المعلوماتي» التكوين المسرحي. فيسقط على الشاشة ضجيجٌ صوتي صادر عن شريط خالٍ من أيِّ تسجيل، ومن «صفر الأشكال» هذا، على طريقة ماليفيتش كما لو كان يشقُّ فضاءَ «المحيط المعلوماتي»، يظهر الثلث على شكلِ زيٍّ مُعَد للإسقاطات الضوئية (كالذي قدِّم في عرض الأكشن الذي تمَّ تناوله من قبلُ تحت اسم «الأشكال المتغيرة») ليتجه نحو مقدمة المسرح مثل شراعٍ ضخم. وبعد أن يمرَّ بفترة تطوُّره المسرحي، ينفتح مكتسبًا شكل المربع، ومنه تخرج شخصيةٌ تجسد «جلطة» الجوهر الإنساني وطاقة تنتقل إلى البرفورمانس التالي.
في الفصل السابع من العرض المسمَّى «بابليون»، يظهر المكعب مقاس ۳ × ۳ أمتار في هذه المرة وقد ثَبتَ في وضعٍ إستاتيكي للمرة الأخيرة. وقد تم تحويله هنا إلى «متاهة» باستخدام شبكاتٍ من الخطوط رُسمَت بشكلٍ لولبي، يتولَّد بفضلها إحساسٌ بعمق الفضاء المسرحي، إلى حيث يخرج في الخاتمة شاب وفتاة بعد أن أنهيا تمثيلَ برفورمانس انعكاس الظِّل والضوء، الذي بُني اعتمادًا على تأثير الصدى البصري.
يُعدُّ مشروع «الكولاج الفضائي» هو العمل الرئيسي والأكثر تمثيلًا لهذا الشكل من أشكال مسرح الفنان، الذي قامت على إعداده أنَّا كاليتشوك، وقد دخلَت عناصره المتعددة أيضًا في مسرحيات مخرِجين آخَرين قامت أنَّا بوضع تصميماتها السينوجرافية، وعلى رأس هذه التصميمات الملابس المجسمة. وقد شاهَدَ الجمهور التعديلات التي أدخلتها أنَّا على الملابس التي يتم عمل إسقاطاتِ الضوء عليها في مسرحيات المخرِج أ. بونوماريف «الانتصار على الشمس»، من تأليف أ. كروتشيني، التي عُرضَت على خشبة مسرح الشباب (۱۹۹۸م). وعلى هذا المسرح ظهرَت أربعة أزياء مجسمة مفضضة الواحد بعد الآخَر ممتدة إلى أعلى مرتفِعة، وقد اتخذَت شكلَ المثلث. هذه الكائنات الخيالية، التي يديرها ممثلون مختفون، تسير ببطءٍ في موكب حول البناء السينوجرافي، الذي وضعه أ. تيوبيكوف، تصدُر عنها أصواتٌ غيبية، تتأرجح وقد مدَّت رقابها الطويلة مطَأطِئةً «رءوسها»، «مناقيرها»، منخفضةً إلى الأرض، ناهضةً، مستقيمةً، منكشفة، مضيئة، وقد كشفت عن خيالات لظلال شخوص الممثلين بداخلها.
وقدْ ظهَرَ برفورمانس الأزياء أيضًا في مسرحية «رجلانِ اسمهما كاندينسكي»، من تأليف أ. ستروجانوف (٢٠٠٥م)، وهي مشروعٌ قام بإعداده وإخراجه فنان السينوجرافيا ف. تاليروف، زوج أنَّا كاليتشوك، في الفضاء المسرحي المُعتِم وعلى أنغام عزفٍ منفرد لآلة الكمان يظهر شكلُ زيٍّ، محشو من جانبَيه بلمباتٍ مضيئة. يقدِّم هذا الزيُّ موضوعَه التشكيلي؛ يدور ببطء، تعلو بعض أجزائه وتهبط، ثم يحدث ذلك لأجزاء أخرى، ينفتح الزي، يضيء، كاشفًا بداخله خيالات ظلِّ الشخصية المؤدية، يجسد نموذجًا لآلهة الشِّعر والأدب، ثم تنفتح قطعةٌ من القماش تمثل «لوحةً» تنفصل ثم تثبت على حامل اللوحة.
وفي أحد الأعمال المسرحية الأُولى التي قدَّمتها أنَّا كاليتشوك بوصفها مصمِّمةً للسينوجرافيا، وهو عرضُ «شهر في الريف» من تأليف إيفان تورجينيف (۱۹۹۷م)، الذي أخرجه ف. أجايف، وعرض في قاعة الاستقبال الزرقاء في دار الممثل، حيث عرضَت من قبل هذه المسرحية، يحلِّق فوق الممثلين «تصميمٌ ذاتي الشَّد» على هيئة الحيَّة المُغوية. كان من الممكن تمثُّل هذه الحية ليس فقط باعتبارها موضوعًا سينوجرافيًّا، وإنما أيضًا بوصفها «زيًّا» عامًّا؛ غطاء لكلِّ الشخصيات، وقد ارتفع فوقهم في طيَران حُر ليصبح موتيفةً بصرية مستقلة. وبالقَدْر نفسه احتلَّت التكوينات التعبيرية الإسقاطية التي شكَّلتها أنَّا كاليتشوك، التي ظهرَت على الشاشات الخلفية، والتي كانت تغطِّي أحيانًا عناصر الأزياء مكانها في العروض المسرحية. ففي أوبرا «الرجُل الذي اعتقد أن زوجته هي القبعة»، من تأليف م. نايمان (المخرِجة ن. أنستاسيفا)، تقوم هذه التكوينات تحديدًا بإضفاء رؤيةٍ بصرية على البطل الذي فقَدَ القدرة على رؤية الواقع والذي راح يدرك العالم بوصفه شيئًا مجردًا. فتياتٌ على الشاطئ في ملابس الاستحمام، خطوطٌ متماوِجة لكثبان قديمة تتعرَّج، وتلتفُّ وتستحوذ على الفضاء المسرحي بأَسره في حركةٍ مندفعة، مَشاهد من أفلامٍ قديمة يستبدل بها سماء مرصَّعة بالنجوم، ثم مَشاهد من برامج تلفزيونية (سطح القمر وقد امتلأ بفوَّهات بركانية وسار فوقه رائدُ فضاء، وجه مذيع)، مربعات كبيرة وأخرى صغيرة مستنسَخة بلا نهاية «ممسوحة»، مرشوشة بلونٍ وردي، وأخيرًا تظهر عليها صورة الموناليزا، التي تحقق هنا التحول الدرامي: تشتيت، تجريف لهذا العمل الفني العظيم إلى أن تتحول الصورة إلى مربعات صغيرة تمثِّل ختامَ الأكشن البصري.
وإذا كانت هذه الشخصيات التي قدَّمَت الأغنيات الشعائرية التي لا تنتهي، وأغاني المهد، والتي كوَّنت جوقاتٍ طقوسيةً قد تمَّ استيعابها من ناحية الأسلوب بوصفها أشياءَ مختلفةً تمامًا إذا ما قورنت بالإبداع الموجود في عملٍ من أعمال مسرح الفنان الذي وضعته أنَّا كاليتشوك؛ فإن شخصياتٍ من نوعٍ آخَر، شخصيات ليست من الواقع، تمَّ التعبير عنها بواسطة الأزياء، التي استطاع الممثلون التشكيليون من خلالها أن يقدِّموا مَشاهد أخرى كشفَت موضوعَ العمل على نحوٍ أكثرَ عضويةً. لقد كانت هناك ثماني لوحاتٍ في هذه المسرحية تخلَّلَت العرضَ الذي قدَّمته فرقة الفنون الشعبية لتخلق نسقًا بصريًّا مستقلًّا.
بدأ النسق بشخصيةٍ ترتدي ثوبًا أسْوَد كأنما وُلدَت من دورانٍ افتراضي لأشكالٍ هندسية، تم إسقاطها على شاشة وعلى الشخصية. وعندما بلغَت الذروة، وهي تدور، راحَت تنُّورتها تأخذ في الدوران باتجاه القرص الأفقي ﻟ «شمسٍ سوداء».
يتمثل الجانب الثالث في تطوُّر موضوع الأزياء في شخصيتَين ترتديان ملابسَ بيضاء؛ تظهر إحداهما في فضاء «أمطار» الربيع، التي تدلُّ عليها خيوطٌ منسدلة عند الشاشة الأمامية، والتي تستخدمها في التمثيل، في حين تقدِّم الشخصية الثانية موضوعًا تشكيليًّا وقد استندَت إلى قوسَين مجنحَين كبيرَين عليهما منديل شفَّاف دقيق وخيوط حمراء.
في منتصف المسرحية تقريبًا، وبالتوافق مع حلول الانقلاب الشمسي في التقويم الطبيعي، تتَّحد الشخصية التشكيلية المقدَّمة في هيئة زيٍّ لمرَّةٍ واحدة مع الشخصيات الواقعية من أعضاء الفرقة في ارتداء الملابس الشعبية، التي قادت جوقةً موجودة داخل دائرة صفراء مخطَّطة في منتصف الخشبة على خلفية قرصٍ شمسي خشبي دوار. تدخل راقصةٌ إلى الجوقة في ثوبٍ أحمر ناصع وقد أدَّى دورانها المتسارع إلى جعْلِ تنورتها المتسعة المصنوعة من الخيوط الحمراء والمذهبة عند الطرَف؛ تبدو مثل قرصِ الشمس الدوَّار.
تظهر بعد ذلك راقصتان تصوِّران شمسًا خريفية غاربة. تقومانِ بأداء دورَيهما، على خلفيةِ إسقاطٍ لعلاماتٍ شمسية دوَّارة، مستخدمتَين قماشةً حمراء أرجوانية، راحَت في البداية تلفُّ كلتا الشخصيتَين لتصبح تارةً زهرة شرقية خيالية، وتارةً تنورة، وبعد أن تتحوَّل من هذا الصراع إلى شريطٍ طويل يرفرف، يخفق في يدَيها، ليسقط في النهاية، منقسمًا إلى نصفَين على الطريق، حيث يفترقان ويتجمَّدان وراء الخيوط البيضاء المنسدلة مثل لوحاتٍ حية، مؤطِّرَين إسقاطًا بصريًّا، عابرَين حقولًا ذات زهورٍ حمراء وزرقاء وغيرها من الألوان، تتحول إلى منظرٍ طبيعي لحقلٍ أصغر من سنابل القمح.
ومرةً أخرى، يزحف هذا الثنائي المكوَّن من شخصيتَين ترتديان ثيابًا بيضاء، وقد حملتَا «نجومًا» رباعية على هيئة معيَّن، وقد وضعتَا كيمونو أبيض قصيرًا وحملتَا قوسًا وُضع عليه الآن قماشةٌ بيضاء كبيرة، تارةً نحو طرَف المسرح، وتارةً نحو الطرَف الآخَر لتكوِّن نماذج مزخرَفة ترفرف في هواءِ سماءِ شمسٍ خريفية مثل «طائرةٍ هوائية» أو ستارةٍ شفَّافة رقيقة.
تتحول الخيوط البيضاء الموجودة على جانبَي فضاء المسرح إلى نهرٍ متحرِّك من الإسقاطات الضوئية، وينتقل الخريف إلى الشتاء في الموضوع البصري للمسرحية. تأخذ شخصية «الرُّوح»، التي ترتدي كيمونو أبيضَ قصيرًا في السَّير على طُرقاتٍ بيضاءَ من القماش، تغوص في تياراتِ المياه الساقطة أو تيارات الذاكرة الفضائية، تؤدي رقصةً تشكيلية. تتحوَّل أصوات آلة الكمان إلى لحنٍ متعدِّد الأصوات، تتَّحد هذه الأصوات مع نداءِ أسماءِ فرقة الفنون الشعبية؛ تتلاشَى «الرُّوح» في الإسقاط البصري.
ينتهي موضوع الشتاء بنموذج زيٍّ لطائرِ سيرين تؤدِّيه راقصةٌ تمدُّ أطراف تنورةٍ بيضاء تتحول إلى أجنحة. تدور الراقصة في فضاء إسقاطي افتراضي لمجاديف دوَّارة لآلةٍ خيالية عبارة عن طيورٍ مصنوعة من أقواس من سيقان البامبو (الفكرة الرئيسية للعنصر السينوجرافي الدائم، الذي طار فوق خشبة المسرح)، وعندما يشتعل قرص الشمس الضخم على الشاشة، يتوقف ويتجمد.
تم تأليف وإخراج «طيور الحلم …» في عام ٢٠٠٥م بفضل الدعم الذي قدَّمه برنامج «المسرح المكشوف» في موسكو. وكان مشروع إعلام الكتاب المسمَّى «عن هذا بريك» قد جرى تقديمه قبل ذلك بأربعة أعوام، وهو المشروع الذي أصبح في الواقع أولَ تجربةٍ مسرحية (بعد «الكولاج المكاني») لمسرح الفنان على النحو الذي وضعَته أنَّا كاليتشوك. لقد بُني هذا العرض الذي يستغرق أربعين دقيقةً بفصوله الأربعة على التفاعل الدرامي للتكوينات الإسقاطية، وعلى انسجام ثلاثة ممثِّلين، قاموا بأدوار ماياكوفسكي وليليا بريك وإيلزا تريولي.
في الفصل الأول من عرض «كتاب»، يتمثَّل النموذج الفني في حجمٍ كبير لوجهِ ليليا بريك بنظراتها القادرة على التنويم المغناطيسي، والتي تخلق توترًا في المشهد المسرحي لا تتناقص قوته لِلَحظة واحدة. يبدأ هذا المشهد بظهور عنصر يتحرك عبْرَ خطٍّ رأسي أبيض ذي «قرون»، «مناقير»، «رءوس» مُدبَّبة تديره شخصيتان نسويتان تختفيان بداخله. هذا الكائن الذي تديره المرأتان يدور، يميل في اتجاهاتٍ مختلفة، يتأرجح، يخرِج «القرون»، «المناقير»، «الرُّءُوس» المُدبَّبة. وفي لحظةٍ ما يأخذ القماش الذي يكوِّنها في الدوران، في البداية بواسطة إحدى الشخصيتَين، ثم بواسطة الثانية، وعندما تمدَّان القماشة تمامًا، تتحوَّل إلى كتابٍ مفتوح. ومن خلال الصفحات النظيفة الشفافة؛ تتمُّ إضاءة الإسقاط الضوئي للشاشة الخلفية، فيظهر وجه بريك، الذي يغطِّي سطحها تمامًا. وبعد أن يظهر ماياكوفسكي، يدور حول الكتاب حركةً دائرية، يقرَؤُه، «يقلِّب» صفحاته، بعد ذلك تأتي سلسلةٌ من التعاملات مع الكتاب من جانب البطلات: يُدِرْنَه عرضيًّا، يخلقْنَ حركةً متماوِجة، تهزُّ كلُّ واحدةٍ بقماشها إلى أعلى لتختبئ أسْفَلَه، تلفُّه على هيئة أنبوب، ينظُرْنَ من خلاله، يَدسسْنَ فيه رءوسهنَّ. وبعد أن يُؤدِينَ على هذا النحو أشكالًا كثيرة من التعامل مع صفحات الكتاب، يقدَّم لنا نَص «عن هذا»، ثم تنزل البطلتان القماشَ على الأرض وتجلسان على رُكَبهما.
في الفصل الثاني المسمَّى «الشاعر»، يظهر على الشاشة إسقاطٌ لصورة ضخمة منفردة لماياكوفسكي. يتعامل مؤدِّي هذا الدور مع أحد العناصر الحركية وهو يدور على حبالٍ تارةً في هذا الاتجاه، وتارةً في الاتجاه الآخَر، وهو تصميم «لتنورة» من شبكة من النسيج، تجسِّد بالنسبة إلى ماياكوفسكي نموذجًا للخطيبة. يروح ماياكوفسكي المسرحي أمامها في تأمُّلها، يدور حولها ببطءٍ يلمسها باهتمامٍ رقيق، وفي لحظةٍ ما يُبدي نوعًا من اللامبالاة، يقطع خطواتٍ بالقرب منها وقد دسَّ يدَيه في جيوب بنطلونه، ثم يقترب منها من جديد في حُب، يقترب زاحفًا منها. أما ماياكوفسكي الافتراضي حليق الرأس (هنا يتمُّ إسقاط الصورة الفوتوغرافية الشهيرة للشاعر) فينظر إلى كلِّ هذا بنظرةٍ جامدة متجهِّمة.
الفصل المركزي من عرض «بريك» بُني على مبدأ الكولاج الذاتي، الذي ابتكَرَه ونظمه ف. كاليتشوك، وتدخل في أساسه تكنولوجيا تفكيك الصورة بواسطةِ التقسيم إلى مقاطعَ تمَّ استخدامها بعد ذلك بنوعياتٍ متباينة جدًّا للصورة نفسها ولكنْ في هيئةٍ جديدة، وهكذا استُخدمَت في هذه المسرحية الصورةُ نفسها لتصبح غلافًا وضعه أ. رودتشينكو لكتابِ «عن هذا» الصادر عام ۱۹۲۳م، الذي تتصدره صورة بريك. يتلخَّص التفاعل الدرامي لماياكوفسكي المسرحي، بريك وتريول على الغلاف الذي تم إسقاطه، في أنهما حاوَلَا استرجاعَ صورتها المحرَّفة، بحيث تظهر الصورة كما كانت في الواقع، وتارةً، على العكس، يقومون بتدميرها.
وأمام هذه الصورة المشوهة (المستمرة في الدوران بشكلٍ تلقائي)، تقوم شخوص، ثلاثة ممثِّلين، بعملِ أكشن مستخدِمين مربَّعاتٍ بيضاء، يرفعونها ويخفضونها في تشكيلات مختلفة، تفرِّقها على الأجناب، مؤدين ما يشبه موسيقى بصرية سوبرماتيزمية في علاقاتها.
بعد ذلك، تحدث للصورة تحوُّلات، تتمثَّل في أنها تصبح صورةً سلبية (نيجاتيف)، تنقسم هي أيضًا إلى نصفَين، ثم إلى ثلاثة، تتسع وتضيق، وفي النهاية فقط تتجمع في صورةٍ واحدة لتبقى كما كانت من قبل صورةً سلبية سوداء.
في الفصل الختامي الرابع المسمَّى «الأخوات» تسود موتيفةُ تمثيل في لعبة الشطرنج. على الشاشة، بواسطة التعدد الاستنساخي للمربع الأسود (مثلما حدَثَ في عرض «ماتير – إي – يا»)؛ وعلى الخشبة، من خلال الصراع التشكيلي بين الأخوات، اللائي يدُرْنَ وقد ارتدَينَ تنورةً واحدة، يتشاجرْنَ داخلها، ويحدُث بينهنَّ «حوار» وهنَّ يحاولْنَ التخلُّص والانفصال، وحين ينجحْنَ في ذلك في النهاية، تسقط التنورة على الأرض، ويبقَينَ مع معاناتهنَّ الدرامية أمام الشاشة، التي تتغير عليها الآن صورٌ إسقاطية لصليب ودائرة، أجزاء منها، مقاطع منها، ثم صليب، ولكنْ في حجمٍ أكبر؛ فيشغل الفضاءَ المسرحي كلَّه، وفوق الظلال القائمة تظهر شخوصُ البطلات.
(١١) المسرح الهندسي الروسي AXE
(١١-١) البداية، عروض البرفورمانس في الشوارع
كان إيسايف وسيمتشينكو قد أتقنا، قبل مجيئهما إلى بونيزوفسكي، قواعد الإبداع الفني في مختلف الاستوديوهات والمدارس الفنية. أما إيسايف فكان قد أنهى قسم الرسم الصناعي في معهد سيروف، وبعد أن أنهى الخدمة في الجيش عمل بعض الوقت في صنع الأدوات المسرحية في مسرح العرائس (بهدف تعلُّم صناعة بشرٍ اصطناعيين). وقد حاوَلَ كلاهما الالتحاق بمعهد موخينا، أما سيمتشينكو فقد حاول الالتحاق، إلى جانب ذلك، بقسم التمثيل بمعهد ليننجراد الحكومي للمسرح والموسيقى والسينما. وقد تبيَّن أن ما كانا يعرضانه يختلف تمامًا عن الطلبات التي اشترطَتها لجنةُ الامتحان. الأمر اللافت للانتباه هنا، أن ما عرَضَه إيسايف أمام لجنة امتحان معهد موخينا من أعمال؛ قد عُرض بعد ذلك بنجاح، وإن لم يتمَّ قبولُ المؤلف، واليوم (وبعد أن عُرف طريقهما في الفن) يمكن أن نرى قانونًا ما في فشل الْتحاقهما؛ فالممتحنون في معهد موخينا ومعهد ليننجراد الحكومي للمسرح والموسيقى والسينما، أدركوا وأحسُّوا بداهة أن المتقدِّمين يعتزمان ممارسة نشاطٍ مختلف تمامًا وبصورةٍ جذرية عن جميع أشكال الإبداع البصري والمسرحي، التي اعتادوا تدريسها في هذَين المعهدَين الدراسيَّين.
وفي الوقت نفسه، كان إيسايف وسيمتشينكو يجريان ابتكارَ مشروعاتهما الخاصة من نوع البرفورمانس. وكانا قد علما بوجود هذا الشكل من أشكال الطليعية التشكيلية للمرة الأُولى من الصحف والمجلات. وبعد أن أدركا أن البرفورمانس هو مجموعةٌ من «المَشاهد الحيَّة»، قرَّرا أن يصنعا شيئًا مشابِهًا، وخاصة أنَّ الفرصة قد جاءتهما. كان أحد الذين جاءوا إلى شقة بونيزوفسكي هو عالِم الفولكلور ف. فيتيكو، الذي اقترح عليهما الاشتراك في عيد المدينة الصيفي، والذي يُقام في منتزه لينين. أحضَرَا إلى المنتزه دولابًا كبيرًا قديمًا وضعاه مباشرةً في إحدى البقاع الخضراء، وبعد أن تجمَّع عددٌ من الجمهور، اقترحا على الراغبين منهم الدخول في الدولاب، وأن تُغلق أبوابه، وأن يبقى بداخله مدَّة من الزمن، بقدْرِ ما يشاء، وأن يظلَّ هناك وحيدًا في الصمت المُطبق والظلام. بعبارةٍ أخرى، فقَدْ وضَعَ الفنانان نموذجًا عمليًّا لوضعٍ لا يمكن أن يحدث في الحياة الواقعية لعزل إنسان جسديًّا عن العالَم المحيط. وقد اتَّضح أنَّ الذين لديهم الرغبة في تجربة هذا الوضع، ولو بدافع الفضول، شكَّلوا عددًا كبيرًا. وقد جرى تنظيم طابور لهذا الغرض. وكان الجمهور يستقبل الخارج من الدولاب بعاصفةٍ من التصفيق، في حين يقوم العارضون بإعطائه جائزةً، عبارة عن قطعةٍ من السُّكَّر. كان إيسايف وسيمتشينكو، وهما ينفذان هذا الأكشن البسيط جدًّا في جوهره، والمكوَّن من فَتْح وإغلاقِ أبواب الدولاب وإهداء الخارجين منه قِطعًا من السُّكَّر، يصيحان أولًا بكلمة «مُشِع»، ثم يختصرانها إلى «شِع» وأخيرًا الحرف الأخير «ع». لقد تولَّد هنا سِحر صوتي خلَّاب، غريب، غير واضح، ولكنْ على نحوٍ مميَّز، مصاحِب ليس فقط لهذا الأكشن باستخدام الدولاب؛ وإنما صاحَبَ أيضًا العروض الأخرى التي قدَّمها في الوقت نفسه عارضون آخَرون في هذا المنتزه، والذين راحوا يصيحون في الوقت نفسه بالكلمة نفسها «مُشِع»، وأيضًا باختصاراتها. وقد اقترح س. راكومبول، وهو أحد المشعوذين من جماعة بونيزوفسكي فكرةَ هذا السِّحر الصوتي الجماعي.
بعد أن قدَّما عروض الأكشن الأُولى في عام ١٩٨٧م مستخدِمَين الدولاب، راح إيسايف وسيمتشينكو، عندما توافرَت لهما الإمكانات، يفكِّران في إقامة شيء ما مشابِه في شوارع بطرسبورج وميادينها، وفي غيرها من أركان هذه المدينة. وفي سياق ذلك، فقَدْ عَقَدا آمالهما على المُشاهِد العابر تمامًا، المُشاهِد المار بالمصادفة في الطريق، والذي قد يتمكن من التوقف والمشاهدة، وأن يهتمَّ بهذا العرض غير العادي، وأن يُمضي بعضَ الوقت في المشاهدة ثم ليذهب إلى حال سبيله بعد ذلك. وتبعًا لإحساس إيسايف وسيمتشينكو، فإن الوقت الذي يستطيع خلاله عابر الطريق الفضولي بمحض المصادَفة أن يتحول إلى مُشاهِد، لا يزيد على عشرين دقيقة. ولمَّا كان البرفورمانس يستمرُّ وقتًا طويلًا، يصِل أحيانًا إلى بضع ساعات (وخاصة عندما يكون العرض في مبنًى كبير)، فإن قوام المشاهدين يتغير، بالتالي، عدَّة مرَّات.
وقد تم استكمال وتطوير فكرة المكعب، التي جرى تجربتها في قلعة بتروبافلوفسك في عرض البرفورمانس، الذي قدِّم في فيليكي أوستيوج. وفي هذه المرة، جرى تمثيل الموضوع بكامله، أي أنه جرى تبادُل عروض الأكشن المتنوِّعة بعضها مع بعض وفقًا للسيناريو الذي ابتكره الفنانون. لقد تمَّ تمثيل البرفورمانس، الذي استمر هنا بضعَ سنوات في الحقل. في البداية، تظهر أمام المشاهدين كتلةٌ من الورق هلامية. عندما يتمُّ قلْبُها، يظهر بداخلها مكعب. ينتصب المكعب في مركز صليبٍ ضخم، جرى تشكيله على الأرض بشرائط من الورق الأبيض، وقَدْ تمَّ نزعُ المكعب من فوق الصليب ونقْلُه جانبًا. أمَّا الصليب الورقي، فقَدْ تمَّ تحويله ليأخذ هيئةَ وحشٍ خرافي أو سمكة، وبعدها تم تثبيت «التمثال» بأربطةٍ من الجبس ووضعه في المكعب. يتمُّ بعد ذلك نزع الغلاف الورقي للوحش ليظهر في الداخل شكلٌ إنساني مثبَّت في حبالٍ ممتدة، وتمثَّل على قطعٍ من الحديد الزهر. يبدو صليلُ هذه القطع الحديدية كما لو كان تجسيدًا لصوت الأجراس التي اختفَت آنذاك من كنائس فيليكي أوستيوج.
كان الجمهور موجودًا هنا بمحض المصادفة؛ إذْ لم تكن هناك أيُّ إعلاناتٍ مسبقة للدعوة لمشاهدة هذا العرض في المدينة تمَّ تعليقها. لقد أراد الفنانان (إيسايف وسيمتشينكو) أنْ يجذبا اهتمام المارَّة العاديين والمشاهدين الكسالى. تجمَّع الناس، الذين على الرغم من تبديلهم (البعض يأتي والبعض يذهب، البعض يبدي اهتمامًا، والبعض الآخَر يبقى لوقتٍ طويل)؛ ومع ذلك، يظلُّ هناك جمهورٌ كبير كافٍ.
وفي ليننجراد جرى عرضُ نسخةٍ أخرى من البرفورمانس باستخدام المكعب والورق، وذلك في فناء المنزل رقم ۱۰ شارع بوشكينسكايا. وكانت الدولة قد أعطَت في عام ١٩٨٩م هذا البيت القديم، شبه المتهدِّم، كثير الغُرَف، إلى الفنانين والموسيقيين الطليعيين. وقد أُطلق على هذا البيت اسمُ مَركز الفنِّ الحديث، وفيه تمَّ تأسيس مسرح بونيزوفسكي «نعم – لا»، جنبًا إلى جنب مع الفِرَق السرِّية الأخرى والمتاحف والجاليريهات والمنتديات-المقاهي، في حين تسلَّم إيسايف وسيمتشينكو ورشةً فنية فيه. لم يعُدْ إيسايف وسيمتشينكو، وهما يواصلان تجاربهما في مجال تنشيط جذب المشاهِدين لتأمُّل عروض الأكشن، يكتفيان بمبدأ المصادَفة، وإنما سعيا بكلِّ الوسائل لتصعيب عملية مشاهدة ما يحدث. تم تغطية جزءٍ من الفناء المخصَّص للبرفورمانس، تم إعادة تغطية جوانبه وإحاطتها بستائرَ ورقيةٍ لا تصِلُ تمامًا إلى الأرض، وإنما تتوقف قبله ببضعة سنتيمترات. وحتى يتسنَّى رؤية ما يحدث بالداخل، كان من الضروري الجلوس في وضع القرفصاء، وهو ما فعله المشاهدون انطلاقًا من فضولهم الطبيعي.
قُبيل بدء البرفورمانس، كان فضاء الفناء مغطًّى بشرائطَ من الورق. وعلى ارتفاعاتٍ مختلفة امتدَّت من جدارٍ إلى جدار، ومن نافذةٍ إلى نافذة، تحركها الريح فتصدر حفيفًا. وفي وسط الفناء، فتاة معلَّقة ووجهها باتجاه السماء، يداها مشدودتان بالأحبال كأنها مصلوبةٌ، جسدها ملفوفٌ بإزارٍ أسْوَد يتأرجح، في حين وقَفَ المشاهدون وقد استندوا بظهورهم إلى جدران البيت، وقد جلَسَ بونيزوفسكي بشَعْره الأشيب على مقعدٍ متحرِّك يراقب ما يصنعه تلاميذه.
الأكشن التالي يتمثَّل في صنعِ «تماثيل» لسمكةٍ خرافية ضخمة الحجم، تشبه إلى حدٍّ كبير «تمساحًا» ذا أربعةِ مخالبَ بارزةٍ مصنوعة من الشرائط الورقية المنزوعة، ومن الملابس الورقية التي خلعوها أيضًا (التي قاموا بتكويمها وتلطيخها وتلوينها والرسم عليها)، وبعد أن أنهوا «عجْنَ» هذه «الشخصية» انتقلوا إلى الفتاة المعلَّقة فوق الأرض داخلَ المكعب، فأخذوا في نزع الثوب الأحمر الذي يلفُّها طبقةً وراءَ الأخرى، وكذلك الأقمشة السوداء. ثم ربطوا الفتاة بشرائطَ ذهبيةٍ قاتمة من الرسغ إلى القبة. راحوا بعدها يدفعون «التمساح»، ثم ربطوا «التمساح» بالشرائح العليا، ثم رفعوها وأنزلوا الفتاة بحرصٍ على الأرض، ثم سحبوها خارج المكعب ووضعوها في وضعٍ رأسي، ثم فكُّوا عنها الأربطة، وأزالوا الأجزاءَ الزائدة من ثوبها الأحمر. مشَت الفتاة ببطء بعد أن تخلَّصَت من كل ما يعوقها نحو القصعة، حاملةً مِشعلًا، أخَذَتها، حمَلَتها نحوَ التمساح الورقي وأضرمَت فيه النار. قام الشباب/العارضون بأداء رقصةٍ شعائرية حول الوحش المُشتعِل وهُمْ يلوِّحون بالحبال التي اشتعلَت النيرانُ في أطرافها، وعندما وصلَت الشعلة إلى ذروتها من التوهُّج على سطح البيت، انفتحَت «المزاريب» المثبَتة في جوانبه، والتي صنعَت من البولي إيثيلين، ومن جميع الجوانب سقطَت تياراتُ المياه فوق الشعلة.
لقد شارك ممثِّلو مسرح «نعم – لا» وكذلك أصدقاء إيسايف وسيمتشينكو ومعارفهما، وعددهم بين سبعة ممثِّلين وثمانية، في عروض البرفورمانس التي استمرَّ عرضها في فِناء هذا البيت الواقع في شارع بوشكينسكايا.
(١١-٢) عروض البرفورمانس على بسطة السُّلَّم
قدَّم إيسايف وسيمتشينكو عدَّة عروض برفورمانس على بسطة السُّلَّم أمام مَدْخل ورشتهما الفنية، حيث جلس المشاهدون على الدرَج المؤدي إلى الأدوار العليا والسفلى. وفي وقت العرض، كان بإمكان السكان المرور بجانبهم ذاهبين لقضاء حاجاتهم، ولم تسبِّب هذه الظروف أيَّ مضايقة للسكان وللمؤدين/المشغِّلين، ولا للمشاهِدين، اللهم إلا بعض المضايقات القليلة للسكان.
كان أحد عروض البرفورمانس يسمَّى «بوفا وكولا – دولتس»، وقد قام بتنفيذه اثنان؛ هما إيسايف وسيمتشينكو. فبعد أن ظهَرَا خارجَين من باب الورشة، أغرَقَا بسطةَ السُّلَّم؛ إيسايف من زجاجات لبن، وقد تدفقَت الخطوط البيضاء بشكلٍ لولبي. أمَّا سيمتشينكو، فقَدْ ألقى بسائلٍ أسْوَد، سال متفرِّقًا فوق سطح اللبن السائل. ثم قام كلاهما بإشعال كراتٍ قطنية مبلولة بالكحول، وأخذا في قذف الكتل المشتعلة على هذا «البحر» ذي اللونَين الأسود والأبيض، ثم غطياه بملاءةٍ من الورق ظهرَت عليها بالتوالي في أماكنَ متفرِّقة حروقٌ، وتشكَّلَت ثقوب، وتشرَّبت أماكنُ مختلفة من هذه الملاءة بالرطوبة، الأمر الذي منعها من الاشتعال التام، في حين تكوَّنَت على السطح فواصلُ مشوشة. في نهاية البرفورمانس، قام إيسايف وسيمتشينكو «بعجن» تمثالٍ على هيئة إنسان من بقايا الورق المحترِق، ألبساه قميصًا أبيضَ انتُزِعَ من أحد المشاركين، ثم دسَّا في جيبه شريطًا، قام المشارك الثاني بتصوير كلِّ عروض الأكشن بكاملها عليه.
نسخة أخرى من عرض البرفورمانس قدِّمَت على بسطة السُّلَّم. وقد بدأ هذا العرض على نحوٍ مشابِه للنسخة السابقة.
يقوم إيسايف وسيمتشينكو برشِّ مسحوق على الأرض من خلال غِربالٍ، يصبَّانِ في أركان البسطة وقودًا، ينثرون كُتلًا من القطن المشتعل مغموسةً بالكحول. وفي لحظةٍ ما، يتوقفان عن الحركة وسط هذا «المنظر» المشتعل (أحدهما واقفًا والثاني جالسًا على ركبتَيه). يُلقيان بعد ذلك على آثار الحريق ورقةً لينتهي هذا المشهد باشتعال السطح الورقي «بألوانٍ» نارية بجانب السِّناج المتخلِّف عنه. يقوم إيسايف بجَمْع الرماد وقَطْع الورق المحترق في طبقِ حساء. وبعد أن ينظِّف الأرض، يُعدُّ أدوات المسرح للأكشن التالي (قِطعًا مربَّعة من نسيجٍ أسود، بينها صينية عليها أكواب وقطعة ورقٍ وزجاجة). يضع إيسايف رفيقه على الأرض جاعلًا وجهه إلى أعلى. يلطخ قميصه الأبيض بالطين. يصبُّ عليه سائلًا أبيض. يجلس على مقعدٍ بالقرب منه ويوقف الأكشن الذي يؤديه رفيقه لبرهة.
يزيل السائل الأبيض من على صدره طبقةً وراء الأخرى. يقطع القميص الملطَّخ بالطين. يضع الخِرَق السوداءَ في نفس طبق الحساء، مالِئًا إيَّاه حتى حافته. يُزيل التمثال الصغير الذي يبدو على هيئة إنسانٍ أبيض. راح يدفع أعلى من ركبتَيه قليلًا تنورته الحمراء مقترِبًا من إيسايف، ثم يقوم بتلطيخ ورشِّ وغسْلِ قدمَيه بسائلٍ أبيض. بعد أن أنهى هذه العملية، وضع الصينية على ركبتَي شريكه. عابرًا خلف إيسايف، مدَّ يدَيه، وبحذرٍ أخَذَ يقطع لفافةَ الورق التي كانت موضوعةً على الصينية وأخرَجَ منها تمثالًا أبيضَ آخَر، يلقي به على الأرض عند أقدام إيسايف، يقوم بعدها برفْعِ قميصه ليُظهِر لنا أسفلَه تمثالًا ثالثًا مربوطًا إلى صدره، رأسه إلى أسفل، فيحرِّره هو أيضًا. وينتهي موضوعُ التماثيل بتدميرها؛ يُدقُّ تمثال في هاون إيسايف؛ أما التمثالان الآخَران، فيتمُّ ربطهما معًا ويقوم سيمتشينكو بحرقهما.
في البداية يرى المشاهدون مقعدًا موضوعًا على حافة البسطة العليا، ويستند هذا المقعد إلى القائمين الخلفيين فقط، معلَّقًا فوق فراغٍ ارتفاعه عشرون مترًا. وعلى المقعد يجلس أحد العارضين فوق بئر السُّلَّم وقد فتَحَ كتابًا وراح يقرأ فيه مدةً طويلة. البطاقات المكتوب عليها عباراتٌ من هذا الكتاب؛ علِّقَت على حبالٍ بأسفل المقعد وباطن القارئ. الأكشن التالي: العارض ينزلق على درابزين الدور العلوي وقد ثبت حبلًا في حزامه؛ تمَّ إلقاؤه ليسقط حتى الطابق الأول، حيث ثبت في الحزام فتاةً كانت تقف في الأسفل. عندما بدأ العارض في الهبوط، بدأ الحبل في الوقت نفسه في رفع الفتاة طبقًا لمبدأ التوازن. وقد وصَلَ العارض والفتاة إلى المستوى نفسه في منتصف الارتفاع في بئر السُّلَّم وحدث بينهما اتصال. في النهاية، يتمُّ عرضٌ باستخدام أشياءَ ماديةٍ دون مشارَكة العارضين، تُستخدم فيه مائدةٌ كانت على البسطة السفلية، وعليها رسمُ طبيعةٍ صامتة مكوَّنة من فاكهةٍ وزجاجة «شمبانيا». تنطلق السدادة من الزجاجة في لحظةٍ ما بشكلٍ تلقائي لتصل إلى السقف. تبدأ المائدة في الطيران بنعومةٍ مثل طائرة، وعندما تأخذ في الهبوط عائدةً بعد فترة، يطير ريشٌ منثور ليحلِّق بامتداد بئر السُّلَّم، مثل «سقوط ثلجٍ» أبيضَ خيالي.
في المرة التالية، تتحول بئر المصعد إلى «معرض». فعلى امتدادٍ ارتفاعه البالغ عشرين مترًا قام الفنانان (إيسايف وسيمتشينكو) بتعليق لوحاتٍ مرسوم عليها أجزاءٌ متفرِّقة من الجسد الإنساني. فنرى على مستوى الطابق العلوي رسمَ رأس، وعلى الأسفل رسمَ يدَين، والمستوى الذي يليه بطنًا، وهَلُمَّ جَرًّا. يتلخص هذا البرفورمانس في أنَّ إيسايف وسيمتشينكو هبطا عبْرَ البئر من رسمِ جزءٍ من الجسد إلى رسمٍ آخَر، وعند كلِّ جزء من هذه الأجزاء قاما بأداء أكشن. وضعا على مستوى الطابق العلوي بين حافة البسطة ودرابزين البئر سلَّمًا. وعلى السلم، فوق هوة بئر المصعد، انبطح أحد العارضين ووجهه إلى أسفل، في حين قام آخَر بتمزيقِ قميصٍ على ظَهْره. وضَعَ كاساتِ هواء عليها. بعدها شدَّ زجاجةً مربوطة بحبل، أنزَلَها لتصطدم بحجرٍ (مربوط باللوحة المرسوم عليها رأس). أغرقَت الرغوة الشخص المنبطِح، انتشرَت عليه شظايا من الزجاج، منزلِقة على ظَهْره طائرة على الشريط المصنوع من مادة البولي إيثيلين الممتد في الأسفل. قدَّم إيسايف وسيمتشينكو عروض الأكشن الخارقة وهما يواصلان الهبوط إلى مستوى اللوحات التالية. وقد تشكَّلَت عروض الأكشن هذه مكوِّنة «موضوعًا» بصريًّا تشكيليًّا، لم يشترك في تشكيلها مؤلفون أو مشاهدون، وإنما تكوَّنَت بفضل قدرتها على التأثير وترك انطباعٍ قوي.
وهكذا، فعلى سبيل المثال، أصبح «الموضوع» في أحد عروض البرفورمانس هو تدمير الإنشاءات المقامة على المقاعد (التي وضعَت على نحوٍ «متوازِن» على حافة بسطاتِ كلِّ طابق من الطوابق) من تكوينات الطبيعة الصامتة من أكثر المواد والعناصر الغريبة، بما في ذلك المواد والعناصر السريعة الانهيار والقابلية للاشتعال. وقد سقطَت في بئر المصعد بقايا أعمال الطبيعة الصامتة المعلَّقة في الطوابق، حيث كوَّنَت في القاع تكوينًا يعدُّ في ذاته طبيعةً صامتة، تكوينًا عامًّا اتخذ شكله هذا بطريقةٍ تلقائية وعفوية، مع أنه مبرمَج على هذا النحو من قِبَل الفنانين.
(١١-٣) عروض البرفورمانش في الغُرَف والقاعات
على هذا النحو، بدَت عروض البرفورمانس الثلاثة التي عُرضت في مختلف السنوات في غرفةٍ ذات جدران عارية وأسقفٍ مرتفعة.
وبشكلٍ موازٍ مع عروض الأكشن التي قدَّمها إيسايف، وقَفَ سيمتشينكو بالقرب من منصةٍ موضوعة في الجزء الأيسر من الغرفة ثم أخَذَ يمزِّق كتابًا. انتزع صفحاته وألقى بها على الأرض. لطَّخ ما تبقى منها بالزيت. أشعل شموعًا بالقرب من المنصة، وبعد أن كتب شيئًا ما في الكتاب أعطاه لشريكه، ثم أخذ يقطع رغيفًا من الخبز الأسود إلى قِطَع، فتَّتها ثم ألقى بها.
احتلَّ الشريك الثالث مكانَ سيمتشينكو على المنصة، ثم أخَذَ يصوِّر وضعياتٍ لتماثيل إغريقيةٍ عاريًا تمامًا إلا من ملابس الاستحمام.
زوجان من الدُّمى، من الدمى الضئيلة، رجال ونساء، قام سيمتشينكو بتعليقهما بمحاذاة الشريط الشفاف، راحا يكرِّران بشكلٍ جروتسكي الانسجام النحتي. قام الزوج الأول بالأداء في وضعٍ رأسي، في حين قام الزوج الثاني بالأداء في وضعٍ أفقي. كانت التماثيل راقدةً، الواحد فوق الآخر على مسافة، بحيث لا يمسُّ منها الآخَر، وإنما يظلُّ كلُّ تمثالٍ على حِدَة، وقد راحوا يؤدُّون حركاتٍ مضحكةً إيروتيكية متشنِّجة باستخدام الجسد وأجزائه؛ كلٌّ بشكلٍ منفرد.
جلس إيسايف وسيمتشينكو خلف المائدة عند جهاز الحاكي يصبَّان البيرة في أكواب من البلاستيك، ريثما تقوم الدُّمى بعرض حركاتها الجسدية الجروتسكية. ثم وضعا الأكواب في حلقات على أطراف عصيٍّ طويلة ومدُّوها نحو المشاهدين. وبعد أن قدَّما واجبَ الضيافة إلى الراغبين، شربا ما تبقَّى من البيرة على أصواتِ أسطواناتٍ مشروخة.
وفي برفورمانس آخَر، تمَّ عرضه في الغرفة نفسها، كانت هناك ضرباتٌ ذات إيقاعٍ على آلة الطمطم بمصاحبة الموسيقى، أصوات ممتدَّة من حناجر وضربات الأحجار.
تمثَّل العنصر الرئيسي لعروض الأكشن في مكعَّبٍ غير مرتفع، موضوع في منتصف الغرفة. قام العارض بتغطيته بقماشٍ أسود. وفي الأركان رُفعَت أوعية على نيران، وفي مركز المكعب وُضعَت صينية وقد بُسطَت فوقها بدقَّة وعلى نحوٍ شعائري بطيء صفحاتٌ منتزَعَة من كتاب، على صفحاته نُثرَت قِطَع من رغيفِ خبز عليه، وبالقرب منه عملاتٌ بعضها من الفضة، وبعضها الآخَر من النحاس.
وفي الوقت نفسه، فرَشَ عارضان آخران ورقةً كبيرة على الأرض، رقدا فوقها، ثم قاما، وهما على هذا الوضع، بأداء دويتو موسيقي باستخدام التي البوق والمزمار؛ مواصِلَين العزفَ على آلاتهم الموسيقية، راحا يزحفان بالقرب من الورقة، الأمر الذي أدَّى إلى تكوُّن «تلٍّ» ورقي يتحرك مصدِرًا صوتًا.
وفي الوقت نفسه، وضع الشخص الذي قام بعمل عرض الأكشن على المكعب، وضع منبِّهًا مفكوكًا على الأرض، ثم أحضر جِوالًا مملوءًا بالتراب، شقَّه بسكين وراح ينثر كومةَ التراب فوق قِطَع الخبز. ساوَى السفوح ثم ضغَطَ عليها محدِثًا فيها ممرَّات، حوَّل الكومة وأقام مدينةً خيالية من المكعبات والمربعات والأسطوانات والمخروطات التي يستخدمها الأطفال. بعد أن أنهى أكشن «خَلْق العالَم»، غَرزَ في الكومة جذوةً فضيَّة أخذَت في الاشتعال لتطلق عمودًا من الدخان. بدأت «العاصفة الرملية»، نَثرَ العارض (من خلال منخلِ مَطْبخ) رملًا ناعمًا، نفَخَه بواسطة مجفِّف شَعر. عندما هدأت «العاصفة الرملية» صبَّ فوق الكومة سائلًا من زجاجة، وبعد ذلك تناوَلَ جرعةً من الماء في فمه ورفعها لتُحدِث آلافَ القطرات كأنها «المطر». تم تسجيل هذه الحادثة الطبيعية بواسطة آلة تصوير تمَّ ضبْطُ زرِّها آليًّا. وفي النهاية، قام العارض بأداء مشهدٍ آخَر؛ كسَرَ بيضةَ دجاجة على ثنيةِ صفحاتِ كتابٍ مفتوح ثم أغلقه بعدها بعنف (على غلاف الكتاب اسم «روسيا»)، ثم غَرَزه في قمَّة الكومة. النتيجة عالَمٌ غريب صُنع في سياق عمليةِ عروض الأكشن والتعرُّض لتأثير «الأحداث الطبيعية»، وصَلَ إلى نهايته بدرجةٍ كبيرة من التكوينات العجيبة، التي استطاع المُشاهِد أن يدرك مغزاها، كلٌّ على طريقته، وإن كان من الأفضل له ألَّا يحاول أبدًا أنْ يكتشف هذا المغزى.
وفي البرفورمانس الثالث، الذي جرى عرْضُه في الفرقة نفسها، كان العنصر الرئيسي للعرض صندوقًا كبيرًا يمثِّل «تابوتًا».
أخَذَ سيمتشينكو يدخِّن سيجارةً وراء أخرى، ثم راح يضعها بين صفحات الكتب. فتَحَ الديكتافون الموجود داخل جيب مِعطفه، ليصوِّر موسيقى مُصاحِبة لعروض الأكشن التالية. يبدأ في الحركة في الطريق الخارجي «للمتاهة». ينضمُّ إليه إيسايف، يسيرا تارةً أحدهما وراء الآخَر، وتارةً في اتجاهاتٍ مختلفة، ببطءٍ وبسرعة، يلتقيان ويفترقان، ثم يلتقيان مرةً أخرى، وبعد أن يظهرا في المنتصف، يتوقَّف سيمتشينكو، يخلع حذاءه، يسقط منه على الأرض تمثالٌ أبيض صغير، يدور إيسايف حول شريكه ثم يشغل مكانه فوق التمثال الراقد، يشقُّ بسكينه طرَف مِعطف المطر الخاص به، حيث ينساب الماء ملوِّنًا بِركةً وسط الأرض، يتناول صليبًا خشبيًّا، ينشر السكين بالمنشار، يلفُّه بسترته، يجرف «المتاهة» المصنوعة من نشارة الخشب، من الأطراف إلى الوسط، يواصل الأكشن بعد أن يهبط على ركبتَيه ويستخدم مِعطفه كممسحة للأرض.
وعلى نحوٍ موازٍ، يجري عرض أكشن سيمتشينكو، الذي يستخدم فيه سُلَّمًا نقَّالًا يسنده إلى مختلف أجزاء الجدران (واضعًا قوائم السُّلَّم فوق البطاقات البيضاء، وهي عبارة عن رزمةٍ أخرجها من جيبه). يتسلَّق سيمتشينكو السُّلَّم، وفي كل مرة يجد كتابًا مفتوحًا. يتعامل معه بطرائقَ مختلفة، على سبيل المثال، يُلصق بالصفحات صفحاتٍ خضراءَ بواسطة شريطٍ لاصق، أو يدقُّ فيها مسامير. يطوف إيسايف في أنحاء الغرفة بالسُّلَّم ثم يعود إلى مركزها، حيث يرقد على طبقةٍ من نشارة الخشب وفوقه الصندوق الكبير الذي يمثِّل «التابوت». وفوق «التابوت» يتأرجح حجر. يفكُّ سيمتشينكو الصواميل المثبتة في قبعته ينزعها ويضعها في الصندوق. وعلى مقربةٍ يرفع الحجر، ويربط الحبلَ بشريحةٍ في المنتصف، ومن ناحيةِ طرَف الصندوق ينفصل الصندوق عن إيسايف الراقد على الأرض، يرتفع، يتوقَّف، ينثر سيمتشينكو قشًّا ثم يفترشه ويضع عليه صحفًا قديمة يصبُّ عليها بيرة، يتسلل بعدها إلى الصندوق ويتخذ هيئةَ «ميت». ينهض سيمتشينكو من هذا الوضع بأداء عددٍ من المَشاهد فيقرأ خطابًا بصوتٍ مرتفع، ويضع على بطنه عُلبًا طبية، وما إلى ذلك. وفي لحظةٍ ما، يتحول «التابوت» بالنسبة إلى «الميت» إلى أرجوحة، وعندما يقطع شريكه الحبل، يميل ثم يسقط. في نهاية العرض، يرفع سيمتشينكو «التابوت» على ظهره بألواحه المدقوقة. وبعد أن ينحني، يخرج به من الغرفة إلى حديقةٍ خضراء في فِناءٍ غمرَته الشمس.
قدَّم إيسايف وسيمتشينكو في معرضهما «بورييه» القِطَع التي ضمَّها — وفْقَ خطتهما — «كتالوج البطل». استهلَّ العرض بالإعلان من خلال بوق؛ «امرأة البطل»، و«عزلة البطل»، و«الحياة الجديدة للبطل»، و«موت البطل»؛ ثم قدَّم المؤدُّون الواحد تلوَ الآخَر القِطَع المُركَّبة على خلفية الشاشة الصافية. ومن بينها على سبيل المثال، صور السيدات، مع ذِكر الأسماء والتواريخ على مدى سنواتٍ مختلفة من القرن العشرين، أو السيجارة المشتعِلة المثبتة على عصًا ذات جناحَين يتحركان عندما يبدأ المؤدي التدخين، أو لافتات بلُغاتٍ مختلفة. كان النَّص يدلُّ على عناصرَ أساسية ومجازات شِعرية. وعند عرْضِ اللافتات، كان المؤدي ينطق أسماء رجالٍ من شعوبٍ مختلفة، وكان شريكه يغلق فمه بكمامة. كما قام بتركيب شريطٍ مطاطي على الكمامة، وكان يقوم بشدِّه. شدَّ الشريط من الفم، وعندئذٍ ساد الصمت. وفي المشهد التالي، كان المؤدي الجالس على المقعد ينفخ فقاقيعَ الصابون في حجمِ البطيخ من خلال قمعٍ من الصفيح. كان الشريك يسرِّح شَعره ويثبته بالخيوط المطاطية على سطحه حتى يصعب على مصدر الفقاقيع الخروج من هذه «الشبكة».
لم تأتِ كلُّ هذه المَشاهد ذات الإنستاليشن بالنتائج المرجوة، وشكَّلَت في قالبها الجديد فيما بعد مضمونَ العرض الأول للمسرح الهندسي الروسي الذي اكتسب أيضًا تسميةَ «كتالوج البطل». كان هذا العرض بمثابة نقطةِ انتقالِ إيسايف وسيمتشينكو من مجال الأكشن وعروض البرفورمانس غير المتكرِّرة إلى مسرح الفنان وإعداد العروض المخصَّصة لعرضها عدَّة مرَّات على المشاهدين.
تم إعداد مشروع «تشيخوف – اثنا عشر» «النورس» في الذكرى المئوية لتأليف المسرحية، وكان من المنتظَر أن يَشْهد كل شهرٍ من عام الذكرى عرضًا واحدًا أو أكشن ينشأ منه ويحدث معه. كان يتمُّ إعداد العرض والأكشن على أنها تجسيدٌ بصري لنَص المسرحية وللموتيفات وموضوعات والشخصيات الإحدى عشْرَة.
تم توظيف الثلج الجافِّ والشاشات في العرض المكرَّس ﻟ «نينا زاريتشنايا»، وجرى عرضٌ آخَر في «المعرض ۲۱» المنقسِم إلى جزأين غير متساويَين. كان يتمُّ فصْلُ ساحة العرض عن المشاهدين بستارٍ رمادي لا يصل إلى الأرض، وسورٍ غير مرتفع. ومن أجل رؤية ما يحدث، كان على المُشاهِد الجلوس في وضْعِ القرفصاء، أو أن يقف على أصابع قدمَيه. وكان يحدث التالي:
يقوم المؤدي بإخراج قِطَع مختلفة من الصندوق على كرسي في منتصف الجزء الأكبر ويستخدمها لبناء نموذجِ العالَم على مائدة. كان يخلق «الأرض» من التربة التي يعثر عليها، بصفته مبدعًا حقيقيًّا، في كل أجزاء جسمه من الرأس والبطن وحتى البنطلون، ثم يضع «شخصيات تشيخوف» عليها. كانت الصور الفوتوغرافية القديمة من بداية القرن العشرين تمثِّلها، ثم شيَّد النور الإلهي من خلال شموع الكنيسة المشتعلة المحيطة بالمجموعة. وعند نهاية مشهد الخلق، تبدأ الكوارث الطبيعية، ينثر المؤدي على العالَم الذي شيَّده دقيقًا بوصفه جليدًا، والمياه بوصفها «مطرًا»، ثم قام في نهاية المطاف بإشعاله وتدميره وتحويله إلى مزيجٍ تسوده الفوضى.
كانت الصورة المكبَّرة للعالَم تُنقل عبْر الشاشة التي شغلَت جزءًا صغيرًا من الفضاء المسرحي. كان المؤدي الثاني يرقد بجانب الشاشة الثانية، وكانت صورته بدورها تُبثُّ بالكاميرا على الجانب الخلفي من الصندوق الذي كان المؤدي الأول يقوم بإخراج القِطَع لبناء العالَم منه.
وفي الختام، يتَّحد الفضاءان الكبير والصغير، ويصبحان وحدةً واحدة، وينتقل المُشاهِد من فضاءٍ إلى آخَر، ثم إلى الخلف عن طريق الممرِّ المحيط.
كان الإنستاليشن والبرفورمانس تحت عنوان «كوستيا الانتحار» يجسِّد قصة انتحار «تريبليف»، وقام الفنانون بعرض قِطَع مختلفة جدًّا وذات صلةٍ بهذا الموضوع، وهي السكاكين والأناشيط والسموم وسبعة أكواب مختلفة وكُئُوس وفناجين بها سوائلُ مختلفة (الشاي واللبن والنبيذ والمياه) كان بإمكان السموم أن تذوب بها، وخطابات بها أسباب الانتحار.
يتمثل العرض في تمثيل طرائق مختلفة للانتحار، وذلك مع قدرٍ من السخرية والعبث. ومثال على ذلك، عرض الإنسان الذي كان في الوقت نفسه يتناول السموم، ويضرب نفسه بالرصاص. ويغرق نفسه، وينتحر شنقًا.
شارك ممثلو فرقة «ديريفو» — الذين كانوا وقتئذٍ موجودين في ألمانيا — في مشروع «تشيخوف – اثنا عشر» «النورس». هكذا، قام اثنان منهما بأكشن «التقرير بالأنشوطة على العنق»، حيث طرح أحدهما بالكاميرا على الآخَر أسئلةَ «المراسل» السخيفة (مثل: «هل سبَقَ لك أن قمتَ بالسرقة في الطفولة؟») وكان الآخَر قبل أن يُجيب يضع رأسه في برميل المياه لأطول مدَّة ممكنة حتى كاد يختنق، وبعد رفع رأسه من المياه كان يجيب، ثم كان المشهد يتكرَّر مجددًا. كان المؤديان يتبادلان الأماكن في الجزء الثاني من الأكشن. وكان هذا «الحوار» الغريب يُبثُّ هنا أيضًا بالفيديو على الشاشة الكائنة في مكانٍ آخَر.
غُمرَت أرض صالة العرض بالحصب الذي وَطِئَته أحذية المشاهدين محدِثةً أصواتَ حفيف. وقد مثَّل الجانب الشفهي للعرض إلقاءً غنائيًّا بتألفٍ من تكرار لا ينتهي للجملة نفسها التي قالها ياكوف: «نحن، قسطنطين جافريليتش، سنذهب للعوم.» وكان فولكوف يقوم بالعزف. وكان يعزف بأوتارٍ معدنية قام المؤدون بسحبها من أسفل الحصب، ووضعوا من أسفلها مختلف المواد العفوية (علبًا خشبية، مقاعد، وغيرها)؛ وذلك لإحداث رنين.
كان الإنستاليشن يشكل صفائح الحديد النحاسية والمطلية بالزنك، وعليها عددٌ من الورقات التي تضمَّنَت كلَّ هوامش المسرحية المشيرة إلى الجوِّ المادي اليومي وتصرفات الشخصيات (مثل: «يستنشق التبغ»، و«ينظر إلى الساعة»، و«يدخن»، و«يُشعل الشمع»، إلخ). هناك بقعةٌ زيتية على إحدى الورقات، وكان حجمها يزيد أكثر فأكثر على مدى المعرض الذي استمر شهرًا كاملًا. والورقة الأخرى كانت عليها قطعة جبن شبه جافة، كانت تصغر تدريجيًّا يومًا بعد يوم لتنتشر حولها بقعٌ دهنية. كانت هناك سجائر على الورقة الثالثة (كان عددها يساوي عددَ السجائر التي دخنَتها شخصياتُ تشيخوف)، وكانت تشتعل وتتحول تدريجيًّا إلى عمودٍ من الرماد الذي كان حجمه يزيد دون أن يسقط لمدةٍ طويلة، وذلك لأسبابٍ غير واضحة. ثم يسقط في مصيدةٍ خاصة.
كان أحد عناصر الإنستاليشن مصنوعًا من حبوب الفاصوليا النامية. والإنستاليشن الآخَر كان يقدِّم للمشاهدين وعاءً بداخله حمض كلوريد، وشحم معفن تصدُر عنه رائحةٌ كريهة.
تم تصوير العرض تحت عنوان «اللعبة» على شريطٍ سينمائي من مقاس ثمانية ملِّيمترات، وهو عبارةٌ عن «باليه» يدور موضوعه حول ملاحظات تشيخوف تجاه تصرفات الشخصيات («يدخلون»، و«يغادرون»، و«يسيرون بسرعة»، و«يصافحون بشدَّة»، و«ينظرون إلى الخلف»، و«يهتزون»، و«يجلسون»، و«يسيرون بكسلٍ»، و«يهتزون»، و«يتمطون»، و«يهربون» …).
كان هناك أيضًا إنستاليشن الكتاب في وسط الصفيحة النحاسية، وكانت صفحات «النورس» مفتوحة. كان «البندول» يهبط إليها، وهو عبارة عن حبل بالحجر في وسطه والسجق في نهايته. وقد وُضع طبقان على جانبَي الصفيحة النحاسية، أحدهما بالكتشوب، والآخَر بالخردل السائل. كان السجق يتأرجح ﻛ «البندول»، ويلمس الكتشوب والخردل على التوالي، ثم يعبِّر فوق الكتاب ويترك بقعًا على نص الكتاب.
(١١-٤) «بلاتفورما المسرح الهندسي الروسي»
كان من المُنتظَر أن يستمرَّ المشروع سبعة أيام، تضمَّنَت الأمسيات الستُّ الأُولى عروضًا جديدة، وهي: «أربعة عناصر»، و«الصوت والصمت»، و«الصورة»، و«المرأة والرجل»، و«سينماتيك»، و«المقبلات المحفوظة». كانت تُقدَّم للمشاهدين الجالسين على خشبة المسرح على مدى حافة دائرة الدوران (وبداخل الدائرة في «الصورة» و«المقبلات المحفوظة») التي لم تكن تدور بواسطة آلية التدوير الكهربائية الميكانيكية، بل على يد المؤدِّين، أو بواسطة عصيٍّ طويلة، أو من خلال الانطلاق من الجدار بواسطة اليدَين والساقَين. كان العرض السابع ختاميًّا؛ إذْ كان يجمع بين موضوعات العروض الستة السابقة، وجلس المشاهدون في القاعة بدلًا من بلاتفورما المسرحية. وضعت سبع شاشات على خشبة المسرح، بثَّت ستٌّ منها تسجيلاتِ العروض السابقة، في حين خصِّصَت الشاشة السابعة للبثِّ الحي.
ظهَرَ شابٌّ وفتاة حليقَا الرأس أولًا (جوكوفسكي وخاباروفا). قامت الفتاة بإخراج الخرقة من حقيبة سفرٍ قديمة، وهزَّتها محدِثةً غبارًا. قام الشاب بمسح جانبَي حقيبة السفر بعناية. كان الدوران يأتي بالمؤدين التاليين، وهما إيسايف وسيمتشينكو، أولهما يرتدي مِعطفًا أسْوَد طويلًا، والآخَر على وجهه مكياج المهرِّج الأبيض والأشقر، ويرتدي الصِّدار وشريطَي الكمِّ وتنورةً حمراء وقبعة بها سجائر مشتعِلة. أمسك المؤدون نهاية شريط مطاطي به كرات بيضاء. وبعد تخفيف شدَّة الشريط، هبطَت الكرات إلى الأرض، وعند شدِّه، كانت تقفز وتصعد إلى أعلى. وفي لحظةٍ ما، كانا يمسكان الكرات في أيديهما ويضغطان عليها حتى تسيل المياه على الأرض. ثم أمسكا بأركان قطعة القماش وهزَّاها حتى خرجت منها الرمال، وفرشاها على الأرض، ووضعا الكرسي. جلس سيمتشينكو، ونكسه إيسايف على الأرض بالكرسي، وأصبح سيمتشينكو موضوعًا لأكشن زميله بعد أن رقد على الأرض وفتح يدَيه على الجانبَين، ورشَّ الأخير رمالًا من الكتاب المفتوح على صدره. ثم رفَعَ الجزء الأسفل من المِعطف، ورشَّ قِطع التربة على وجهه، وأسال الماء على صدره؛ من التربة التي كانت موجودة بأكياس بلاستيك مربوطة تحت المعطف. ثم قطَعَ تنورة سيمتشينكو الحمراء بالسكينة، وعثر تحتها على عروستَين صغيرتَين، ووضعهما على جانبَي المائدة. ثم رفَعَ سيمتشينكو بالكرسي إلى وضعِ الجلوس الطبيعي، وصَعدَ نفسه على الكرسي. صرخ إلى حدِّ أنَّ زميله خاف وحاوَلَ الفرار. أمسَكَ إيسايف حمَّالتَيه حتى لا يتسنَّى له إلا الجري بدون تقدُّم، أو التحرك من اليمين إلى اليسار.
وفي الموضوع التالي، يتأرجح إيسايف بواسطة «الأرجوحة» المعلَّقة فوق خشبة المسرح. ثم تنقطع الحبال التي كانت الأرجوحة معلَّقةً عليها واحدة تلوَ الأخرى وتسقط رأسًا إلى الأرض. وبدأت دائرة خشبة المسرح تتحرك ﻟ «يزحف» سيمتشينكو وهو يُمسك بيدَيه الحبل الذي شدَّه إلى الكواليس.
اختلط سَيْر حركة الفتاة والشاب مقتربَين ومبتعدَين أحدهما عن الآخَر من حينٍ إلى آخَر، وشدَّا وراءهما أحجار الشحذ الثقيلة، وقطعا الكيس الورقي الذي حمله إيسايف على صدره. سقَطَ الرمل من الكيس. أنشأ إيسايف التل، ووضع في قمته شخصَين عرائسيَّين أخذهما أخيرًا من تحت جيب زميله المقطوع. كان سيمتشينكو أحمر اللون، ورصَّ الرمل على الأرض. ثم بدأ يحرِّك العصا الطويلة حتى رفعها، وسالت منها المياه على الأرض. أصبحت العصا «آلةً موسيقية» مصدِرة لأصواتٍ بوقية ممتدة. هبط سيمتشينكو إلى «الجزيرة» الرملية، واشتعل «بحرٌ» من الأضواء حوله.
كانت أغلبية الموضوعات مرتبطةً بعناصرَ صوتيةٍ مختلفة، كانت تؤدَّى بطرائق مختلفة. كان إيسايف وسيمتشينكو — على سبيل المثال — يسوطان الهواء بالعصا ﻛ «رفقة» للفتاة المرتدية للفستان الأسود، التي قامت بأداء جملةٍ موسيقية متكرِّرة بواسطة الكمان. المشهد السمعي البصري التالي، كان لإيسايف وسيمتشينكو، وهما يبتعدان أحدهما عن الآخَر، وكلٌّ منهما يمسك كتابًا في يدَيه. كانت أيديهما مربوطةً بالحبال، وكانت أصوات الأكشن المرتبطة بالكتاب (تغلق صفحاته وتفتح بالتتابُع، ويتمُّ تعديل وضع الصفحات)، تتوقف بعضها على بعض، فضلًا عن أنها كانت تزداد وتتضاعف.
ثم ظهَرَ أمام المشاهدين المشهدُ البصري «الخَلْق»، أي تأليف الموسيقى أو نظيرها اللفظي. جلس «المؤلف» سيمتشينكو على المائدة، وأمامه رزمة من الأوراق البيضاء، وهو يرسم بالقلم الرصاص على الورق دون أيِّ نتائج. ثم وضَعَ إصبعه في «الحبَّارة»، وهي فنجانٌ صغير يحتوي على الكحول، وأحضَرَها إلى الشمع المشتعِل. اشتعلت النيران وكأنها «نيران الوحي» المرغوب فيها. «كتب» السطور غير الواضحة بواسطة إصبعه المشتعلة، وهو في حالة الانفعال الإبداعي، ثم قام بإشعال إصبعَين أخريَين، ثم قبضة يده. أتَت النيران على رزمة الورق.
دوران القرص. يقوم إيسايف بنشر شيءٍ ما على المائدة بواسطة المنشار. وعند المائدة الأخرى، يقوم سيمتشينكو بدقِّ الكتاب المفتوح في غطاء الزجاجة، وذلك بواسطة المِطرقة. يقلِّب الصفحات، ويقوم بالرشِّ من الزجاجة ويضربها بالعصا وكأنه يصنع «كفتة». يقوم إيسايف بتزييت الصفحات.
بدأ الأكشن الذي أصبح نمطيًّا بالنسبة إلى فناني «المسرح الهندسي الروسي» في العروض اللاحقة، وهو أكشن «عمل الإنشاءات» على المائدة من العناصر الطبيعية والزجاجات وعناصر الغذاء، وكذلك شخوص عرائسية للعالَم الصغير وتلاعبات المشاغل في هذا العالَم، وكان إيسايف يقوم بدوره هنا. قدَّم سيمتشينكو مصاحبةً صوتية لأفعاله، وذلك بواسطة النقر بالطبل، والعزف على أكورديون صغير، وعلى الطبل بالعصيِّ الخشبية.
انتهَت «بلاتفورما ٢» بالمشهد نفسه الذي بدأت به: عازفة الكمان في الوسط (ترتدي الآن فستانًا أبيض)، وكان إيسايف وسيمتشينكو على الجانبَين يقدِّمان «خلفيةً صوتية» بواسطة نقْرِ الهواء.
وفي الأمسية الثالثة، تم تقديم العرض حول العلاقات بين الرجُل والمرأة.
المشهد الأساسي على المائدة. «الشخصيتان»: «هو» و«هي» وجهًا لوجه، أمام كلٍّ منهما عَصَوان.
ثم قاما في الوقت نفسه بوضع العصيِّ بشكلٍ عمودي، ووضعاها على هيئة الصليب عند العنق. ثم أمالا رأسَيهما إلى المائدة. بدأ المشغل عملية دمج المرأة والرجُل. أخذ العصا من المائدة ووضع طرفها عند جبهة المرأة والطرف الآخَر عند جبهة الرجُل. وقام بدمج نهايتَي أنفَيهما بواسطة العصا الثانية، والذقنَين بواسطة العصا الثالثة، والأكتاف بواسطة العصا الرابعة. وهكذا، فقد اتخذ دمج الشخصَين المنفصلَين بالمائدة طابعًا ملموسًا وبصريًّا، ويهبط المشغل إلى مقعده، ويتابع تطورات هذا الاتصال. أمسَكَ الرجُل والمرأة بنهايات الأصابع، قام الرجُل والمرأة بدفعها أحدهما إلى الآخَر ببطءٍ وحذر، وأنزلاها قليلًا، ورفعاها. وفي هذه اللحظة، عندما صعدَت العصيُّ، قام المشغل بسحبها وألقى بها إلى الوراء على خشبة المسرح. لم يبقَ لديه ولديها الآن سوى أربع عصيٍّ قصيرة. وهنا تتخذ الأحداث طابعًا مختلفًا؛ إذْ وقعَت «معركةٌ» درامية، ثم صَعدَ الرجُل والمرأة ورفعا العصيَّ فوقهما ووضعاها على مستطيلٍ عرضي، ألقى المشغل طبقتَين من الشريط الشفَّاف عليه. هبط «التركيب»، ولم يغطِّ المائدة فحسب، بل «الشخصيات» أيضًا. وبعد خروجهم من تحت الشريط بنجاح، فتحوا الزجاجات. فتح «هو» زجاجةَ «النبيذ»، وفتحَت «هي» زجاجةَ «اللبن»، وفتَحَ المشغل زجاجةَ «الشمبانيا». أسقطوا الزجاجات، وسالَت المشروبات البيضاء والحمراء على الشريط. ابتعد المؤدون إلى المكان الخلفي على خشبة المسرح، حيث أخذوا بعض الوقت للتدخين. دوران القرص عاد بهم إلى الموضع الأصلي على المائدة. وبدَءُوا لحْسَ بِرَك الخمر واللبن. سلَّمَ الرجُل المرأةَ المظروف الذي قامت بإخراج ورقةٍ منه عليها صورةُ المركبة العابرة للمحيطات. قامت بإرشاد المركبة الورقية في «بحر» النبيذ واللبن ببطء، وكانت النوارس العرائسية البيضاء تطير فوقها، وكان المشغل يقودها بواسطة الأسلاك. ضرَبَ الرجُل المركبة ﺑ «البروق» الورقية، وكأنه «زيوس» الأسطوري. المشغل اختفى أيضًا «على القاع» تحت سطح المائدة مع المركبة الغارقة.
يستبدل بمشهد كارثة المركبة مشهد خلق الجبل الرملي على يد الرجُل في وسط «البحر»؛ وضعَت المرأة وردةً بيضاء في فمها، ثم قادت طائرةً صغيرة فوق «المنظر الطبيعي» المخلوق على حافة الإيشارب الأبيض. اقتربت الطائرة من الرجُل المدخِّن ليلقي بالطائرة والإيشارب على الأرض.
بدأ الرجل والمرأة «تناوُلَ الطعام» مجدَّدًا، كانا يأكلان بواسطة الملاعق مزيجًا من اللبن والنبيذ المسكوب على المائدة. أحضرَت الموزة، وقامت بتجريدها من القشرة بهدوء وكأنها تقوم بشعائر. صعدَت واتجهَت إلى الرجُل الذي توقف مائلًا فوق المائدة. وعند اقترابها منه أنشبَت الموزةَ في ظَهْره.
(١١-٥) «الكابينة البيضاء»
بدأ العرض بخروج المرأة ببطء من داخل خشبة المسرح المظلِمة إلى الكرسي عند أضواء المسرح الأمامية. جلسَت موليةً ظَهْرها إلى المشاهدين. يظهر رجُل مُلتحٍ على اليمين في وسط دخان التبغ، وكان مرتديًا البنطلون الأحمر والسُّترة المكرمشة والقبعة الحمراء (إيسايف). يتصفح الكتاب بسرعةٍ وبعصبيةٍ من الصفحة الأُولى إلى الأخيرة، ثم العكس، أيْ من الصفحة الأخيرة إلى الأُولى. وعند العثور على الموضع المطلوب يضع فيه (عقب) السيجارة المشتعلة.
ظهَرَ الرجُل الملتحي الثاني (سيمتشينكو) على يسار خشبة المسرح. كانت أفعاله شبيهةً بلعب الأطفال عندما يشدُّ أحد اللاعبين الحبل على أصابعه، ويمسكها الآخَر في الوسط من الجانبين ويشدُّها إلى نفسه، ليكون بذلك تشكيلةً جديدة من الخطوط. ثم قام المشارك الأول بالعملية نفسها، إلخ؛ حتى اكتملَت كلُّ تشكيلات شدِّ الحبل. استخدم سيمتشينكو مضغ العلكة بدلًا من الحبل؛ إذْ مضغها ونعَّمها في فمه، وشدَّ الشريط الطويل إلى اليمين أولًا، ثم إلى اليسار، ويلمس عنق الزجاجة، وقام بعمل التشكيلات المتقاطعة. وعند قطع الشرائط، وضَعَها في فمه ومضَغَها مجددًا ونفَخَ فقاعةً كبيرة. وبعد الانتهاء من التلاعب بمضغ العلكة والزجاجات، قام بعرض «شعوذةٍ» أخرى؛ إذْ أزال الكرة الصوفية من القبعة ووضعها على الأرض، حيث تحركَت عبْرَ خشبة المسرح بطريقةٍ سحرية بدون مفعولٍ واضح.
«الموضوع البصري» التالي هو انتحار أقدَمَ إيسايف عليه بأسلوب «عرض التهريج» السوريالي الساخر الخاص بالمسرح الهندسي الروسي. صَعدَ على الكرسي الذي كان فوقه حبلٌ مربوط وفي نهايته الزجاجة المقلوبة. أخرج الخطَّاف من جيبه، وأدخله في غطاء الزجاجة، وربَطَ الأنشوطة بالخطاف. ثم خلَعَ القبعة، ولَبسَ الأنشوطةَ على عنقه، وقام بالخطوة «المُهلِكة» من الكرسي. خرَجَ الخطَّاف مع السدادة تحت وزن الجسم، وأُغرق بالخمر المنتحِر الفاشل الذي سقَطَ من الكرسي على الأرض. سال الخمر لمدَّةٍ طويلة على رأسه المنكَّس حتى بعد أن قام وجلس على الكرسي مضطربًا. ثم رمى الكرسي بعنف، واتجه إلى الفتاة (التي ظلَّت طول هذه المدة جالسةً في الجزء الأمامي من خشبة المسرح دون أن تتحرك وهي تتابع الأكشن المنفرد للشركاء). إلا أنه لم يتمكن من الاقتراب منها؛ إذْ أمسك الشريط المطاطي، صُلبَ المربوط خلفَ حزام بنطلونه. وكرَّر عدَّة مرَّات محاولةَ الجري والقفز حتى الفتاة، ولكنَّ الشريط عاد به مجددًا إلى الوراء. سدَّت الحبال، التي ملأ سيمتشينكو فضاءَ خشبة المسرح بها، الطرقَ. وكان يتحرك من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. تزامنَت تحركات سيمتشينكو مع تحركات إيسايف السابق وصفها. كانت تلك الحبال مربوطةً بالورقيات على جسم سيمتشينكو، وسقطَت على الأرض، الواحد تلوَ الآخَر.
وفي لحظةٍ ما بعد سلسلةٍ من المحاولات الفاشلة لعبور حواجز الحبال، جمَعَها إيسايف في قبضته وشدَّها وكأنها وترُ القوس الكبير، وأطلَقَ كتلةَ الورقيَّات التي ارتداها شريكه إلى قدَمي الفتاة. ثم انفصل عن الشريط المطاطي واقترب من الفتاة. رفَعَ يدَيها إلى أعلى جانبَين، وقام بدقِّ المسامير بين أصابع قدمَيها الحافيتَين؛ ليضعها بذلك في موضع «الصليب». ثم أنزل أمامها المِرآة المربعة المتحركة التي كان بإمكان المشاهدين أن يروا من خلالها ملامحَ وجهه التي كانت تعبِّر عن الخوف والرعب والألم والصوت الصامت والاحتقار والتأفُّف إزاء العجينة التي كان يطعمها بها بالملعقة.
أوقف سيمتشينكو «التعذيب» الذي تعرضَت له الفتاة على يد إيسايف؛ إذْ قطع الحبال التي كانت تُمسك يدَيها. ورفعها من الكرسي، ورقصا ودارا في رقصةٍ مبالَغ فيها، وقاما بالمناورات بين الحبال المشدودة على خشبة المسرح التي كان عليها كثيرٌ من الورق. واقتربا من المائدة، وطلبا تناوُل المشروبات معًا وقد تشابكَت أيديهما. إلا أنهما لم يتمكنا من ذلك، حيث شدَّ كلُّ واحد منهما اليدَ إلى نفسه دون أن يتمكن من الوصول بيده إلى الفم. وقفا إلى جانبَي المائدة المتقابلَين، ومالا واستندا بالأكواع إلى الغطاء، وبدأ سباق القوة بعد أن شبكا الأصابع.
وفي «المشهد البصري» التالي، جلست الفتاة حزينةً على المائدة بمفردها وأمامها زجاجةٌ تحرَّكَت على المائدة ببطء وبطريقةٍ غير مفهومة. وضعَتها الفتاة في الموضع السابق، ولكنَّ الزجاجة تحرَّكَت مجددًا. حضر إيسايف ووضَعَ الزجاجة تحت المائدة، وبدأ «المعاكسات» دون أن يخرج السيجارة من فمه، وعندما لمَسَ يدها وحاوَلَ تقبيلها، أبعدَت وجهه، وهنا سحَبَ الكرسي من تحتها غاضبًا؛ ردًّا على ذلك أمسكَت عنقه بشدَّة، وضغطَت على المائدة بوجهه. رقدَت على ظَهْره، والْتصقَت به في حنوٍّ، وتوقفَت في هذا الوضع دون أن تتحرك. ثم قاما ورقصا معًا رقصًا كوميديًّا وحميميًّا. انتهت «العاطفية» عندما ابتعدا كلٌّ منهما عن الآخَر. وأخرج حينئذٍ من (الجاكتة) المسدس الملفوف في منديلٍ أبيض. بدأت الفتاة تنظيفَ المائدة بالمنديل المرمي، ثم لاحظَت المسدس عند صدغها. أمسكَت يده ووضعَت ساقها على جنبه وأبعدَت اليد بالمسدس ليتَّجه إليها ويضطر شريكها إلى إبعاد أداة الموت.
وضَعَ سيمتشينكو اللمبة الكهربائية المضيئة على المائدة أمام الفتاة، وبدأت الفتاة تقوم بسلسلةٍ من الحركات العجيبة بها. دوَّرَت الكرةَ المضيئة على الحبل، فاخترقَت يدها ونفخَت في أصابعها، وحاولَت فكَّ اللمبة. وضعَتها تحت إبطها، وصرخَت، وأبعدَتها، ثم ضمَّتها إلى صدرها في نهاية المطاف، ولمسَت الجسم باللمبة الساخنة.
ومع استمرار أداء هذا التعذيب الذاتي، كان يحدث تغييرًا في الفضاء. شدَّ إيسايف الحبال المعلَّقة واحدًا تلوَ الآخَر، وسقطت قِطَع النسيج الأربع واحدة تلوَ الأخرى من الفضاء المسرحي. كانت القطعة الأمامية مصنوعةً من القماش التل الشفَّاف. والقطع الثلاث المتبقية، كانت مقطوعةً في الأماكن المخصَّصة للنوافذ. شكَّلَت القطع مجتمعةً «الكابينة البيضاء» وفقًا لعنوان العرض. تكوَّنَت «الكابينة» من ثلاثِ «علب أقلام» متوازية. انتهى مشهد اللمبة المضيئة بداخل «الكابينة»، حيث تابَعَ المشاهدون ما تعرضَت له الفتاة عبْرَ فتحات النوافذ. ظهَرَ مؤدُّو «المَشاهد البصرية» القادمة في إحدى «عُلب الأقلام»، وتحركوا فيها من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ليوجدوا — في كل مرة — بين طبقتَين أو عدَّة طبقات، صور إسقاطَين مختلفَين فأكثر. اللقطة الكبيرة على قطعة القماش الأمامية، ولقطات أصغر على الستارة المسدَلة على النافذة البعيدة. كانت تلك اللقطات من الأفلام القصيرة، التي قام إيسايف وسيمتشينكو بتصويرها، ليخلقا بذلك «سينما الفنان» بجانب مسرح الفنان.
بعد نهاية التلاعبات باللمبة واختفاء الفتاة، قام إيسايف وسيمتشينكو بأداء المشهد بالأقنعة؛ إذْ تحركا بداخل «علبة الأقلام» الخاصة بكلِّ واحدٍ منهما، والواضحة عبْر إطار «اللوحة». وأمسكا أمامهما أقنعةً ذات وجوهٍ مبتسمة. وعند إبعاد الأقنعة في لحظةٍ ما، ظهرَت وراءها أقنعةٌ أخرى مثلها، أو وجوه المؤدين الملتحين. نظَرَ شخصان حزينان من «الشاشة» الأمامية الشفافة إلى المشاهدين، وأغلقا عيونهما بأيديهما بحزن. الأداء في قالبِ الرسم البدائي قدَّم هذه الصور وكأنها خرجَت من لوحات إيسايف وسيمتشينكو. كانت تشبه المنظر العام للأشخاص على خشبة المسرح، وتزامنَت الدمعة التي خرجَت من إحدى العيون على اللوحات بطريقةٍ غير واضحة مع «المشهد البصري» الجديد في الفتحة السوداء للنافذة البعيدة. الفتاة — العارية في هذه المرة — قامت بالاغتسال وظَهْرها إلى المشاهدين. وفي العمق تبينَت عن بُعد صورةُ المنظر الطبيعي المقفر الحزين مع إنسانٍ منعزل صغير.
مرَّ إيسايف ببطء وهو يرفع الرُّكبة ويمسك العلَم الأخضر في يده. واتجه إليه في «علبة الأقلام» الأخرى سيمتشينكو، وذلك بالإيقاع نفسه وهو يمسك أيضًا بالعلَم الأخضر في يدَيه. أعطَته الفتاة باقة من الزهور، ضرَبَ نفسه بها وكأنها مِكنسة الحمَّام، ضرَبَ الصدر والساقَين والظَّهر. ثم استبدلها سيمتشينكو مع شريكه بالزجاجة، وأسال النبيذ الأحمر على العروسة المعلَّقة من الساقَين إلى أعلى.
كان «المشهد البصري» التالي هو عبور المؤدين الصعب والمستمر والمتكرِّر والمتزامِن. استند كلُّ واحد منهم إلى عصًا طويلة، واختبر بها التربة تحت قدمَيه في «علبة الأقلام» المنفصلة من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، وفي الاتجاه نفسه، وباتجاه أحدهما إلى الآخَر، وبالتتابع، ومعًا. تمَّت هذه الحركات بين طبقتَين من الإسقاط (من الأمام: الوجوه الكبيرة للناس، وأزيز الشطرنج والبوق الموسيقي، والبيوت، والكف التي تبينت من وراء الحافة الجانبية للشاشة وهبطَت من وراء الحافة العليا. وتضمَّنَت الستارة الخلفية لقطات اليد التي تمسك الشعلة المشتعلة، ثم القبضة)، وعند بداية لقطات الفيلم القديم التي ترسم المرأة التي لا تتحرك والرجُل الذي يدور حولها وهو يرفرف بيدَيه. وفي هذه اللحظة، يظهر ثلاثة من المؤدين معًا من وراء الإطار السُّفلي بكامل الطول لتبقى الأقنعة على عصيِّهم فقط.
التكوين التشكيلي للعرض وصَلَ إلى موضوع المواجَهة البدنية بين الشركاء؛ إذْ خلعوا الفانلات وبدَءُوا الصراع وهُمْ في سراويلهم. ضربوا صدرهم، واستعرضوا الصدر، وهاجموا بعضهم، وكأنهم ديوكٌ متصارعة. حاولَت الفتاة إيقافَ حماستهم عندما ظهرَت في نافذةِ «علبة الأقلام» البعيدة. قامت برشِّ الخمر على الشبَّان بعد أن شربتْه من الزجاجة. ساعَدَ ذلك في وقتٍ من الأوقات، ثم اشتبكَت «الديوك» مجددًا، ولم تنتهِ إلا عندما رشَّته على وجهَيهما معًا. رفَعَ إيسايف سيمتشينكو وأبعَدَه إلى خارج الكابينة.
ظهرَت على قطعة القماش الأمامية مجموعةٌ من صور شخصيات النبلاء المرتدية لأزياء نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هي ذكرى سريعة لهذا الزمن البعيد. قام ثلاثة من المؤدين بنقر الأطباق النحاسية بصوتٍ عالٍ عدَّة مرَّات في نوافذ «الكابينة البيضاء». دوَّى صوتُ المؤدية هنا لأول مرة؛ إذْ نطقَت قبل كلِّ طبلة: «واحد» – «اثنان» – «ثلاثة» – «أربعة». اختفَت الوجوه الإسقاطية من الماضي مع النقر الأخير. وضع إيسايف وسمتشينكو الأطباق النحاسية على رأسَيهما، ورمَيَاها بعد لحظة. واحتضنا وقبَّلا كلٌّ منهما الآخَر، ثم بدآ شدَّ مُضَغ العلكة بين أسنانهما. وفي أثناء هذه الأفعال، ظهرَت شريكتهما في الممرِّ الآخَر. جلسَت إلى الكرسي المغطَّى بالصحيفة في مواجهة المشاهدين. جلسَت بدون حَراكٍ لبعض الوقت وكأنها تنتظر شيئًا. صرخَت باليأس المتزايد: «تانيا!» «أنيا!» «شوركا!». وفي العمق اشتعلَت إسقاطات الوجوه المبتسمة للسيدات على الستار. ظهرَت السطور من الرسالة القديمة المكتوبة يدويًّا على الشاشة الأمامية الشفافة. صرخَت للمرة الأخيرة: «أولا! أولا!»، وبكَت وأغلقَت وجهها بالصحيفة المكرمشة وغادرت المكان. وبعد ذلك بقليل، وجدت نفسها في «علبة الأقلام» الأبعد وحاولَت دون جَدْوى أن تتغطَّى بالصحيفة من سيول «المطر» من عنق الزجاجات المثبتة على الخشبة المتأرجحة التي علَّقها سيمتشينكو فوق رأسها. قام إيسايف بأداء أكشن النار في أثناء وجود الفتاة تحت تيار «المطر». جلَسَ على الكرسي، وضَعَ على ركبتَيه حوضًا من الزنك، وقرأ الصحيفة الأخرى التي أخرجها من الحوض بعد أن وضعها هناك، وكانت تحرق يدَيه. ظهرَت نارٌ أخرى في الممرِّ البعيد، وهي عبارة عن كرةٍ مشتعلة على الحبل أخرجها سيمتشينكو. أدارها فوق رأس الفتاة التي ما زالَت واقفةً دون أن تتحرك. تابعَت تومينا دورانَ «الكوكب» فوقها بانبهارٍ، ثم فكَّت كتلةَ الصحيفة الرطبة وحاولَت بواسطتها «صيْدَ» الكرة المشتعلة.
بدأ الموضوع الثالث المتعلِّق بالانتحار، وقام إيسايف بأدائه. خرَجَ إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح وأخرَجَ من الظرف رسالةً وقرأها (هل هي الرسالة نفسها التي رآها المشاهدون في الإسقاط على الشاشة الأمامية؟)؛ شكَّلَت لقطاتٌ من أفلام فناني «المسرح الهندسي الروسي» خلفيةً عميقة لهذا «المشهد البصري» (الشجرة ومجموعة من الرجال والسيدات الجالسين تحتها مع رسائل في أيديهم). بعد القراءة قطَعَ إيسايف الرسالة إلى قِطَع صغيرة، وألقى بها إلى الأرض، وبدأ الانتحار الأخير، في هذه المرة ﺑ «قَطْع الشرايين»؛ إذْ قطَعَ بواسطة موسى الحلاقة كيسًا بلاستيكيًّا واحدًا ضمَّه إلى صدره أولًا، ثم الأكياس الثاني والثالث والرابع والخامس. وجدَت هذا الأكياس على أعضاء أخرى من الجسم (من العنق والبطن واليد والساق). النافورات التي كانت تملأ الأكياس بالمياه، تسبَّبَت في الانطباع بأنَّ الدم يسيل. تزامَنَ المشهد مع عبور سيمتشينكو عبْر «علب الأقلام» في اتجاهاتٍ مختلفة؛ إذْ حملا خشبةً طويلة عليها نيران مشتعلة مع خلفيةٍ موسيقية أثارَت جوًّا مقلقًا ودراميًّا على مدى العرض، وأسْهَم في ذلك غناءٌ مرتفع بصوتِ نساء.
(١١-٦) «هباءً منثورًا»
بدأ العرض باستهلالٍ قصير دام عدَّة ثوانٍ، وجرى بواسطة العرائس. انفتح الستار في الفضاء المُظلِم لترتفع الكرة البيضاء عليه. وعند ابتعادها إلى اليمين ظهرَت عروسةُ المرأة المسطحة، التي رفعَت يدَيها أعلى إلى جانبَين. ارتفع رجُلان على الجانبَين موجهَين أحدهما إلى الآخَر لعبات مسدسات المبارَزة. كان يجب في تلك اللحظة أن تحدُث طلقة الرصاص، ويسقط الستار ليكشف ثلاثة من المؤدين شدُّوا أزرارهم بشكلٍ مباغِت فجأةً. من الواضح أنهم لم يكونوا على استعداد للظهور أمام الجمهور. ارتدى الرجال السروال والفانلة، والمرأةُ المعطفَ الأحمر فوق القميص الداخلي. كانت أزياؤهم قد ظهرَت للتوِّ على الحبال في ذلك الحين، وهي بدلةٌ سوداء للرجال، وفستانٌ من طرازٍ قديم للمرأة. ارتدى سيمتشينكو البدلة بعد أن وضَعَ أزرار الأسطول على كتفيه (لتبقى في التركيب المكاني حتى نهاية العرض). المشارك الثالث إيسايف ارتدى مريول النبلاء، وأمسك المكنسة في يدَيه وقام بمسح الأرض على خشبة المسرح. اللقطة الأخيرة من الاستهلال: نظرَت تومينا إلى الساعة، وابتعدَت تدريجيًّا إلى داخل الفضاء، وجلَسَ سيمتشينكو على الكرسي بدون حركة مع حقيبة السفر على ركبتَيه، وتأمَّل في قاعة الجمهور، وفي اللحظة الأخيرة فقط نظَرَ إلى المرأة المُنصرِفة.
ساد الظلام خشبة المسرح. «لقطات» المَشاهد التالية كانت تتغيَّر وكأنها «ومضاتٌ» منفصلة. ظهَرَ جسَدَا تومينا وسيمتشينكو المضيئان بالتتابع في وقفاتٍ مختلفة ومَشاهد صغيرة، وذلك برفقة أصوات الناقوس المُقلِقة.
ظهرَت تومينا وهي تمسك في يدَيها قند الأطفال على العصا، ووضعَته في فمها. قامت بفكِّ اللفافة ونظرَت إليها باهتمام بالقرب من عينَيها، ورفعَته فوق رأسها، ليتسلَّط الضوء على وجهها عبْر هذه القطعة من الورق.
ثم ظهَرَ سيمتشينكو، وشرب من عنق زجاجةٍ صغيرة ورفَعَها ونظَرَ إليها بانتباهٍ حتى يعرف ما إذا كان بداخلها شيءٌ أو لا.
تسلَّط شعاع الضوء على تومينا مجددًا؛ إذْ قامت الآن بدور مسح النظَّارة بواسطة المنديل. ثم يرى المشاهدون يدَي سيمتشينكو وهي تمسك منديلًا في وسطه ثقبٌ نظَرَ المؤدي عبْرَه إلى السماء.
تبينَت شريكته الجالسة إلى الكرسي من الظلام. أخرجَت صورةً فوتوغرافية «بولارويد» من الشنطة، وكتبَت شيئًا عليها وتأمَّلَت في شيءٍ غير معروف.
في «اللقطة» اللاحقة، أخرج سيمتشينكو مائدةً عليها مظروف إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح. فتَحَ الظرف بالسكين. أخَذَ الرسالة وفتَحَها. وجَدَ ثقبَين في وسط الورقة. وضَعَ الورقتَين إحداهما فوق الأخرى، وكأنهما قناعٌ ذو فتحتَين للعيون. تسلَّل الضوء عبْرَها بقوة حتى أغلَقَ سيمتشينكو عينَيه بموسى السكين بعد أن أنزَلَ الرسالة.
في الختام رؤيتان مضطربتان ﻟ «هذا النوع من الشخصيات» قبل أن تجتمع في ميزانسين. أمسكَت تومينا بمرآةٍ صغيرة في يدها. تضمَّن الجانب الخلفي للمرآة صورةً لوجهها. ظهَرَ سيمتشينكو من الظلام، وهو يُمسك وردةً حمراء في فمه، ثم أخرَجَها، ورفَعَها أمامه، وتأمَّل فيها لمدَّةٍ طويلة.
حان موعد الدور الشخصي للمشارك الثالث، وهو إيسايف. ألقى الكشَّاف ضوءًا على جسده العاري. قام أولًا بطقسه التقليدي؛ إذْ أشعَلَ الكبريت ودخَّن السيجارة. ثم جلس القرفصاء أمام حقيبة فيبر حمراء موضوعةٍ على مقعد الكرسي. صوت من خارج اللقطة يغنِّي كلماتِ أغنيةٍ سوفيتية شهيرة («أين هذا الشارع، أين هذه الفتاة التي أحبُّها؟ الكرة الزرقاء تدور فوق الرأس؟»). مع مراعاة إيقاع الأغنية، قام إيسايف وفتَحَ غطاءَ الحقيبة، لتصدُر أصواتُ النَّقْر من داخلها، وكذلك ضوء أزرق. قام إيسايف ﺑ «الاغتسال» بتياراتِ الضوء. أخرَجَ قميصًا أبيض وكرافتة من الحقيبة وارتداهما. ثم أغلق الغطاء بحركةٍ شعائرية بطيئة. بعد لحظة، كان الظلام يسُود خشبةَ المسرح.
لحنٌ عاطفي، بدأ «المشهد البصري» الذي عُرضت روايته الأُولى منذ عامَين مع «بلاتفورما المسرح الهندسي الروسي». أُطلق عليه وقتئذٍ «الرجُل والمرأة»، ثم تطوَّر وعُرض الآن في شكلٍ مختلف.
اقترب سيمتشينكو من المائدة. جلَسَ بجانب القطاع العرضي الأول. ثم أخرَجَ مُضَغ العلكة من فمه، ووَضَعه في وسط الغطاء، وضرَبَه بكفِّه، ووضع علبةَ الجعة عليه. عثر على لعبةٍ ميكانيكية في جيب الجاكتة، وهي عبارة عن ولدٍ على الدرَّاجة، قام بتشغيلها وأطلقها على المائدة. لفَّ الولد حولَ العلبة حتى وصَلَ إليها، وعندما سحبها سيمتشينكو، واصَلَ طريقه إلى الحافة ليسقط على الأرض.
أتَت تومينا إلى المائدة، وجلسَت أمام القطاع العرضي. رفعَت اللعبة من الأرض، وأطلقَتها على المائدة مجددًا إلى شريكها الذي ما زال يشرب الجعة.
جلس الشريكان بدون حراك لمدةٍ ما؛ إذْ تناوَلَ هو الجعة، ووضعَت هي يدَيها على المائدة وتابعَته بتركيز. بعد نهاية الشرب، بدأ سيمتشينكو ينفخ على الفتاة، لتهتزَّ بسبب المفاجأة. أغلَقَ عينَيه بكفِّه، وهي الفمَ لتمسك نفْسَها حتى لا تصرخ. ثم رفعَت يدَيها أمامَها، ووجَّهَت كفَّيها إلى شريكها. ردَّ عليها بالحركة نفسها. عبَّر ميزانسين بصورة تشكيلية عن نوعٍ من الوفاق والتصالح المتبادَل، ليتوقفا عن الحركة حتى حضور إيسايف الذي أعطاهما إشارةً تدلُّ على هبوط أيديهما، ووضَعَ بحركاتٍ مستعجلة عصيًّا ضيِّقةً بيضاء على سطح المائدة: ستًّا منها طويلة تعادل المساحة بين سيمتشينكو وتومينا، وأربعًا منها أقصر. ثم دخَّن السيجارة التالية وبدأ أعمال الإنشاء من عصيٍّ طويلة، وقد وضع نهاياتها إلى النقاط الحساسة لدى الرجُل والمرأة الجالسَين، وهي نهايات الأصابع والكتف والصدر بالنسبة إلى المرأة، والجبهة والأنف والخد والأصابع بالنسبة إلى الرجُل. وعند تحقيق المنشأة من العصيِّ كاملة، اتخذَت «التيارات العصبية» القادمة من الرجُل والمرأة طابعًا بصريًّا. بدأت تومينا وسيمتشينكو «إعادتها إلى الحياة». أمسكا العصيَّ بنهايات أصابعهما، ورفعاها وأنزلاها تدريجيًّا وببطء، وقاما بتحريكها إلى اليمين وإلى اليسار، هو إليها وهي إليه. كان ذلك حوارًا صامتًا ودراماتيكيًّا ومتوترًا بالداخل. قطعه إيسايف الذي سحب العصيَّ من أيديهما ورماها، مدمرًا بذلك التوازن والتفاهم المحدودَين اللذين حقَّقهما الرجُل والمرأة.
والآن عبَّرت المرأة والرجُل، تومينا وسيمتشينكو، عن مرحلة المواجَهة الجديدة في العلاقات بينهما، وذلك بأخذ العصيِّ الأربع المتبقية على المائدة، ووضعها بالطول بعضها أمام بعض، وإجراء «المعركة» العنيفة بواسطتها. ضرب بالعصا صليبًا على صليب. تجمع العصوان في واحدةٍ طويلة ورفعاهما على بعضهما بصورةٍ مخيفة. شدَّا العصي. «كتبَا» بواسطتها «كلماتٍ» ما على المائدة. وألقيا بها على المائدة بصوتٍ عالٍ. واستخدماها كمجاديف ﻟ «جدف» سطح المائدة برفق، بمصاحبة أصوات الأمواج والنورس. المرحلة الأخيرة من المواجهة، رفعا العصا بحركةٍ حادة ولوَّحَا بها، وقاما مجددًا ﺑ «المبارزة»، ولكنْ في هذه المرة أقل عنفًا وأخف وأنعم وأكثر لعبًا. ثم قاما بإنشاء هيكلٍ مستطيل من أربع عصي. وضع إيسايف زجاجةً أمام كل شريك؛ زجاجة اللبن لها، والنبيذ الأحمر له. قام بربط الزجاجات بالحبل الذي وضَعَ عليه زجاجة فودكا ثالثة. ثم وضعها على المائدة. سال محتوى الزجاجات الثلاث على سطح الشريط في شكل بركةٍ فوضوية من ثلاثة ألوان.
حان موعد مجموعة أكشن فردية لتومينا. كانت في هذه المرة في منتصف المائدة، وقامت البطلة مجددًا بنفس تصرفات الاستهلال عندما ظهرَت في لقطاتٍ خاطفة. أخرجَت قطعة حلوى القند من الحقيبة وفتحَتها ووضعَتها في فمها، ونظرَت مركزةً إلى الغلاف، ثم ألقَت به إلى داخل الحقيبة. ارتدَت الإيشارب الأبيض الصغير على عنقها. رفعَت المرأة أمامها، وكانت على ظَهْرها صورةُ وجهها. قامت بطِلاء شفتَيها وتابعَت أشباح شركائها التي كانت تمرُّ وراء ظهرها في شبه الظلام المسرحي. أخرجَت المسدَّس الأسود من شنطتها، ووجَّهَته إلى صدغها، ولكنها أبعدَته ووجَّهَته إلى داخل خشبة المسرح. ولكنها فورًا تنازلَت عن فكرة إطلاق النار على ظالِميها. ضمَّت المسدس إلى صدرها مضطربةً وأخفَته مجددًا بداخل الحقيبة.
اجتمع الثلاثة على المائدة مجددًا؛ إلا أنَّ إيسايف تبادَلَ الآن الأماكن والأدوار مع سيمتشينكو، ليجلس بجانب القطاع العرضي الأول أمام الشريكة. ومنذ هذه اللحظة، جرى موضوع العلاقات بين الرجُل والمرأة بينه وبين تومينا، أما سيمتشينكو فقد قام بمهمَّة المشغل الوسيط.
أشعل إيسايف الكبريت، وقرَّب النار من السيجارة. صوت طلقة الرصاص في حقيبة الفتاة. اهتزَّ الرجلان، ونظرا إلى الجانبَين، وتأكَّد أنه ليس هناك أحدٌ تحت المائدة. الفتاة واصلَت وضْعَ المكياج على شفتَيها وكأنَّ شيئًا لم يحدث. ثم رفعَت أحمر الشفاه وتوقفت عن الحركة. نظر الرجلان إليها بتركيز. قام إيسايف من الكرسي قليلًا وقرَّب وجهه إليها. تحمَّلَت نظرته هذه أيضًا. وفجأةً وضع رأسه على المائدة في بِركةِ النبيذ واللبن والمياه، و«جرَّب» محتواها بلسانه. وقد نحا نحوَه تومينا وسيمتشينكو؛ إذْ تكرَّرَت انحناءاتهما و«تجاربهما» عدَّة مرَّات، حتى أعطى إيسايف مظروفًا لشريكته فوق المائدة. وعند فتْحِه عثرَت بداخله على سفينة المحيط الورقية وأوفدَته ﻟ «الملاحة» في «بحر» النبيذ واللبن والفودكا في اتجاه إيسايف. «ضرب» السفينة ﺑ «البروق» الورقية. بدأت العاصفة ﺑ «الغيوم» التي تشكَّلَت من البودرة التي نفخَتها تومينا من علبة البودرة. تمَّ — في الواقع — هنا أداءُ «المشهد البصري» نفسه الذي قدَّمه المسرح الهندسي الروسي لأول مرة في برفورمانس «الرجُل والمرأة» في «بلاتفورما» عام ١٩٩٧م. ولكنْ، في هذه المرة «غرق» سيمتشينكو الجالس في وسط المائدة، وهو يمسك في يدَيه دائرةَ الإنقاذ، عليها اسم السفينة «جلوريا». وبعد أن رشَّ إيسايف تلًّا من الرمل من المظروف الآخَر، ووضعَت تومينا ريشةَ المكياج فيها، سيمتشينكو «ارتفَعَ إلى سطح المياه»، وأعطى إيسايف ملعقةً خشبية ليغرف السوائل من المائدة ويلقي بها على التلِّ الرملي. عطَّلته تومينا عن هذا النشاط في لحظةٍ ما؛ إذْ قادَت طائرةً صغيرة في «السماء» على نهاية إيشاربها الشفَّاف. وعند اقتراب الطائرة منه، أبعَدَها إيسايف ﺑ «ذيلها» إلى ما وراء ظَهره، وواصَلَ العمل بالملعقة، بإلقاء السوائل إلى فمه، بدلًا من إلقائها على التلِّ الرملي. تضايقَت تومينا من سلوكه هذا، وأخرجَت من الحقيبة شيئًا ملفوفًا في المنديل الأبيض. ثم قامت واتجهَت إلى إيسايف وفتحَت المنديل. كانت بداخله موزةٌ. وضعَت المنديل على ظَهْر شريكها بعناية، وفجأةً وبكلِّ قوتها طعنَته بالموزة. سقطَت الملعقة من يدَي إيسايف بسبب المفاجأة. توقَّف «تناوُل الطعام».
حان دور العرض الانفرادي لسيمتشينكو، وهو «مونولوج» الوداع بعد الفراق مع المرأة المعشوقة. كتَبَ رسالة جالسًا على المائدة وقطَّعَها. شدَّ الحبل المؤدي إلى العُلَب على رأسه. تقلَّبَت العلب، لتسقط منها الرمالُ على المائدة. صنَعَ سيمتشينكو «راقصةَ باليه» من قِطَع الرسالة. ثبَّتَها على غطاء الزجاجة العائمة في كأس النبيذ الأحمر. شَربَ ما بداخل الكأس، ومسَكَ راقصةَ الباليه بشفتَيه، وصَعدَ إلى المائدة. ضَغطَ على الكأس بقَدَمه، وحاوَلَ الوصول إلى الأنشوطة المعلَّقة فوق رأسه، ولكنْ في اللحظة الأخيرة لفَّ نفسه بالستار، ليشكِّل بذلك «الشرنقة». اختفَى إيسايف بعد ذلك أيضًا في «الشرنقة». قُبيل الاختفاء، وضَعَ في يد تومينا المظروفَ المثبت على العصا، وبه رسالةٌ سبَقَ لسيمتشينكو أن كتَبَها تحت المطر الرملي.
نظرَت إلى المظروف لمدَّةٍ طويلة، وضمَّته إلى صدرها، ونظرَت إليه تحت الضوء. اتخذَت خطوةً حاسمة لتفتحه، ولكنَّها فجأةً قطعَته وكرمشَته ورَمَته. ظهَرَ حبلٌ مربوط بالعقد بالجزء المظلم بداخل خشبة المسرح. أمسَكَ إيسايف الحبلَ وفوقه أكياسٌ ورقية، دخن سيجارة، وأخرج السكين من جيبه، وقطَعَ الكيس العلوي. نزلَت الرمال منه. بعد ضربة السكين بالحبل سقَطَ إيسايف نفسه والكيس الثاني رأسًا على عقب على «البلانشيت».
حلَّت الموسيقى المرِحة مكانَ الموسيقى القَلِقة. بدأ إيسايف الرقص، وهو يُمسك الكيس في يدَيه. انضمَّ إليه سيمتشينكو الذي استبدل بالبدلة السوداء البنطلونَ الأحمر والطربوش. خرَقَ كيسَ إسايف بخنجر. سقَطَ تيارٌ من النشارة على الأرض، وقاما تحت هذا المطر بحركاتٍ غريبة، وألقى بها، وقفز وتزحلق وسقط. وبعد سقوطه عثر إيسايف على راقصةِ باليه عرائسية أخرى تحت النشارة. علَّقها على الحبل الممتد من مقدمة حذائه. ثم قام بإلقاء النشارة على راقصة الباليه المتَّزنة والمتأرجحة على الحبل، وزحف ببطء إلى ما وراء الكواليس معها راقدًا على ظَهْره.
تضمَّن الختام جزأين. في البداية — كما هو الأمر في الاستهلال — هبطَت الأكتاف ذات البدلة البحرية السوداء ومِعطف البطلة الأحمر. بعد ارتداء المعطف أخرجَت تومينا من جيبها دميةً على هيئة ملَّاح شجاع يرتدي قبعةً بدون حافة. وقفَت بجانب بدلة، وحملَت الملاح إلى وجهها لتصوِّر نفسها في ميزانسين كهذا. بعد ذلك، ثبتَت صورة «بولارويد» على البدلة وابتعدَت إلى داخل خشبة المسرح بحقيبتها.
رقص سيمتشينكو وحرَّك النشارة بالمكنسة مرتديًا الرداء الأحمر. كان ذلك «انقلابًا» آخَر؛ إذْ قام إيسايف بدورِ «عامِل نظافة» في الاستهلال. وفي لحظةٍ ما، حاوَلَ بلا نتيجة الوصولَ بالمكنسة إلى شيءٍ لا نعلمه فوقَ رأسه. ثم بدأ استخدام المكنسة ﻛ «آلةٍ بوقية» تُصدِر أصواتَ النداء الممتدة، وذلك في أوضاعٍ مختلفة تمامًا، أيْ واقفًا وراقدًا وجالسًا.
ساد الظلام على خشبة المسرح لبعض اللحظات. ثم ظهرَت الأيدي التي أشعلَت الثِّقاب والدائرة على قبعة إيسايف. غنَّى الصوت النسوي «أريا كارمن» من أوبرا «بيزيه». خلع إيسايف قبعةً بها الدائرة المشتعلة ووضَعَها على الأرض، حيث تحوَّلَت إلى «شعلة» جلَسَ حولها المؤدُّون الثلاثة. قاموا — لمدةٍ طويلة — بفرز صور «بولارويد» ﻟ «قصة حُب عاطفية» وأحرقوها.
(١١-٧) «الإوزَّة الخضراء» و«قصَّة أم»
هكذا أكَّد مجيء إيسايف وسيمتشينكو إلى المسرح العادي إمكانية التعايش الخصب لجماليات نوعين — مختلفين على ما يبدو — من الإبداع المسرحي: مسرح الفنان من ناحية، والمسرح الدرامي من ناحيةٍ أخرى (وخاصة مسرح الأوبرا)؛ شأنهما في ذلك شأن زميلَيهما الكبيرَين ر. ويلسون وأ. فراير. إنَّ التجارب المسرحية التي أجراها فنانو المسرح الهندسي الروسي مع الفرقة النمساوية المتواضِعة والصغيرة المكوَّنة من أربعة ممثِّلين من الشباب؛ لا يجوز مقارنتها مع المشروعات العملاقة التي قام بها زميلاهما الكبيران في مسارح الدراما والأوبرا العالمية، ولكنَّها مهمةٌ ومعبِّرة جدًّا، والأهمُّ أنَّ لها أفقَ التطور، وخاصةً بالنسبة إلى الثقافة المسرحية الروسية؛ حيث إنَّ إنجازات واكتشافات نوعِ الإبداع الذي نتناوله هنا (مسرح الفنان) لم يصلْ بعدُ إلى خشبة المسرح الدرامي والأوبرا.
إذن، ما خلاصة تجربة عملِ أساتذة مسرح الفنان من وطننا مع ممثِّلي الدراما النمساويين؟
اقترح المسرح المادةَ الأدبية، وهي نصوص ك. إ. جالتشينسكي المكوَّنة من الهزليات والمقالات التي نشَرَها الكاتب في الأربعينيات والستينيات على صفحات الصحيفة الأدبية البولندية تحت عنوان «المسرح الصغير «الإوزة الخضراء»». قام إيسايف وسيمتشينكو بإعداد ثلاثِ كُتَل. كانت إحداها مخصَّصة لميلاد العالَم الأسطوري: خلق الأرض، وآدم، وحوَّاء، إلخ؛ والأخرى مخصَّصة بناءً على رغبة أحد الممثلين لأداء دور «هاملت» المطلق، والثالثة للنزاع بين أستاذ يخلق الممثلين «المثاليين» في شكلِ العرائس ومدير المسرح.
لم يكُن على إيسايف وسيمتشينكو أن يقوما بإخراج العرض فحسب، بل تصميم الديكور أيضًا. وكانت لهما بعض الخبرة في العمل في مجال السينوجرافيا. (لنذكِّر هنا أنَّ إيسايف استُدعي إلى «نعم – لا» بصفته فنَّانًا، وفي أثناء وجوده بجانب ب. يو. بونيزوفسكي شارَكَ في تأليف موضوعات العروض المختلفة، وإعداد الحلول السينوجرافية. ثم أعدَّ تصميم العروض للمخرِجين الآخرين أيضًا، ومنهم على سبيل المثال أ. موجوتشيه، و«الاقتصاد الطبيعي في شامبالا» ﻟ «أ. شيبينكو» على خشبة مسرح «البيت البلطيقي» عام ١٩٩٩م. وفي هذه الفترة، بدأ عروضه الخاصة في المسرح الهندسي الروسي. وفي كلِّ برفورمانس، وفي عروضهما على وجه الخصوص، لا يجوز الفصل بين التصميم السينوجرافي الفضائي الضوئي والمادي الأسلوبي والأزياء والأقنعة وبين الإخراج).
قد تكون هي المرة الأولى عندما أعدَّ إيسايف وسيمتشينكو النص بجدية. ولقد تمَّ إعداده حتى أصبح ممثِّلو مسرحٍ صغير ما أبطالًا للعرض، وهناك تعاملات ما بينهم وبين المدير. إنهم جسَّدوا أشياء وشخوصًا، وحلموا بشكسبير، وحاولوا أداء بعض موتيفات «هاملت». ولذلك قاموا بتلاوة جمل وكلماتِ تراجيديا شكسبير، فضلًا عن نصوص جاتشينسكي. وقاموا بتلاوة موضوعات «هاملت» التي استلهمها د. شوستاكوفيتش، وكذلك موتيفات مارسن الحداد. ولكنَّ إيقاعات السخرية والهزل كانت سائدةً، وردَّ الجمهور على الأحداث بالضحك، بل حتى الكركرة.
الستارة الشفافة هي أول ما رآه المشاهدون. وقد غطَّت وسط الفضاء المسرحي الذي ظهَرَ بشكلٍ غير واضح بما فيه من العناصر السينوجرافية. ظهَرَ المؤدون الواحد تلوَ الآخَر: ثلاث ممثلات، وممثِّل واحد. في البداية مرَّت الممثلة ذات الشَّعر الأشقر بالستار مرتديةً زيًّا عاديًّا. صوت عالٍ للكعوب. نظرَت إلى ما وراء الستار بفضول، واختفَت هناك. حضَرَ الممثل بعد فاصلٍ قصير مرتديًا أيضًا ملابسَ عادية وليست مسرحية، وهي قميصٌ أبيض وبنطلون بحمَّالات. ثم من ورائه ممثلة أخرى. الأخيرة هذه هي القائمة بدور المدير. مرُّوا عدَّةَ مرَّات، الواحد تلوَ الآخَر، من يسار الستار إلى يمينه، ومن اليمين إلى اليسار إلى وراء الستار. اجتمع الممثلون الأربعة في عمق الفضاء المسرحي، حيث كان عليهم أن يؤدوا عرضهم. نظروا إلى الأشياء المادية الكائنة هناك بارتباكٍ واهتمام، وهي أربعة كراسيَّ غريبة الشكل. تضمَّن الضلع العلوي لظَهْر أحد الكراسي بُوقًا ضخمًا ذا طرَف متَّسع مربع (ثم تحرَّك الطرَف المتَّسع ليتخذ وضعًا طوليًّا). الكرسي الآخَر ذو مقعدٍ عريض وطويل بشكلٍ مفرط. كان الكتاب مطروقًا فيه، وفي الجزء العلوي المرتفِع (قامة الإنسان) من الظَّهر في شكل السُّلَّم، كانت الضلفات تفتح لتكشف صورةَ شكسبير وكأسًا وزجاجةً مالَت من تلقاء نفسها و«ملأت» الكأس. الكرسي الثالث ذو الظَّهر في شكلِ المقصلة. والرابع ذو خزَّان في موضع المقعد.
بعد النظر ولمْسِ هذه الكراسي الغريبة، ابتعد الممثلون وتوقفوا. وفي لحظةٍ ما، ضرب جميعُهُم رُكَبَهم، وصعدوا، وتبادلوا الأماكن، وتوقفوا مجددًا للحظة. وقاموا بعَقْد الصفقة مرةً أخرى وتبادلوا الأماكن حتى جلس كلُّ واحد منهم على الكرسي المخصَّص له.
بعد نهاية أكشن الكراسي اتجهوا إلى المائدة الطويلة. فتح المدير أغطية المائدة الأربعة الواحد تلوَ الآخَر. ما تحته يشبه «التابوت» (موسيقى جنائزية)، وتوجد هناك إكسسوارات الملابس. أخرجوا ما هو ضروري لأداء الدور (القبعة والجاكتة والعصا بالنسبة إلى الرجُل، والجوانتي الأبيض بالنسبة إلى الشقراء، وقِدْر، وبدلة سوداء بالنسبة إلى المدير). عادوا إلى الكراسي، واحتلُّوا مقاعدهم، وبدَءُوا تلاوةَ نصٍّ ما، جميعهم بصوتٍ واحد ولكنْ على انفراد. قام كلُّ واحدٍ منهم بتلاوة ألفاظِ شخصيته، وقام بحركاته وإشاراته الشخصية. العرض الاستهلالي الذي قام به الممثلون أولًا، ثم الشخصيات (مع أربعة «مونولوجات» منفردة) أمام المشاهدين، انتهى بخروج الكراسي من خشبة المسرح وتمزيق الستائر التلِّية (من الأمام والوراء ومن الجانبَين)، وذلك برفقة فالس الفيينا. المدير هو آخِر مَن أنهى رقص الفالس مع الكرسي. وضَعَ الكرسي بجانب الكرسي الآخَر. وفي وسط الظلام السائد، وضع الشمعة المشتعلة بداخل البوق وتفوَّه ﺑ «هاملت»، ثم أطفأ النار التذكارية.
بدأ الموضوع البصري للعرض، الذي قام إيسايف وسيمتشينكو بتأليفه كهيكلٍ مميز للمسرح الهندسي الروسي. أتَت العروسة إلى مائدةٍ طويلة عليها الخيال الأسود للقبعة المنسية (إمَّا أوفيليا، وإمَّا الملكة على ما يبدو). الطرحة غطَّت الرأس والوجه تمامًا وكأنها شرنقة. جلست. وضعَت الفنجان أمامها، وأضافت إليه شيئًا. مالت إلى الفنجان في حركة الطقوس والصلاة، أطبقَت يدَيها المرتديتَين قفَّازًا أبيض، أبعدَت الطرحة (الشرنقة)، كشفَت وجهها، أخذَت الفنجان، رجَّت ما بداخله وشربَت قليلًا، وضعَت الفنجان على المائدة، انحنَت مرةً أخرى في حركةٍ طقوسية ثم انصرفت. ظهَرَ المدير أمام المائدة مع المشتعلة. رشَّ شيئًا من الكمِّ إلى داخل الفنجان الذي تركَته العروسة. شمَّ محتواه واختفى. الملك العجوز (والد هاملت) شَربَ من الفنجان مرتديًا الرداء الأحمر والتاج المائل إلى الجانب. وضَعَ يدَيه على صدره وبطنه مرعوبًا.
يدوِّي موتيف شوستاكوفيتش لهاملت. هاملت يعاني على المائدة أمام خلفيةِ الستار الأحمر كالدم (قامت الممثِّلة بتجسيده هنا). بكى بمرارة وقرَّب فنجان العروسة (أوفيليا وجيرترودا) من الفنجان الذي حدَثَ منه التسمُّم. قام بدمجهما وغطَّاهما بكفِّه وقلبهما، وأسال محتواهما إلى الأرض. كلُّ هذا وهو يتلو نصَّ مونولوج اليأس. ركع على ركبتَيه أمام الستار المعلَّق أمامه وكأنه «العمود» الأزرق. الْتصق بوجهه به. سمع الأصوات الكريهة بالنسبة إليه، وأغلق الجزء الأمامي من خشبة المسرح بالستار، ظهَرَ كلودي وجيرترودا في عمق خشبة المسرح برفقة الموسيقى المسلِّية. لعبَا بالعصا الطويلة أولًا؛ إذْ وقفا على بُعدٍ، أحدهما عن الآخَر، وأمسكا نهايتيها، ورفعاها وأنزلاها وحرَّكاها بطرائقَ مختلفة. أمسكاها بأسنانهما. ضمَّاها إلى صدرهما. اتَّجها كلٌّ منهما إلى الآخَر مع العصا، وحين وجدَت جيرترودا نفسها وراءَ ظَهْر شريكها قصمَت العصا نصفَين بحركةٍ حادة. أجرَيا «مبارزة» بنصفَي العصا. انتهى الصراع بدمج النصفَين مجددًا.
ظهَرَ الممثل الذي حمل فستانًا نسويًّا أصفر على العصا. خلَعَ الجاكتة وارتدى الفستان؛ أدخل يدَيه في الفتحتَين المخصَّصتَين للأكمام القصيرة، وأدخَلَ الرأس في الياقة. خلَعَ الحذاء مرتديًا الأزياءَ النسوية. أخَذَه في يدَيه ونظَرَ إليه ومسَحَه، ضمَّه إلى جبهته و«نطح» الستائر الجانبية بفرديته وكأنها «قرون». ثم ارتدى الجاكتة فوق الفستان بشكلٍ مقلوب ليغادر خشبة المسرح بهذا الشكل.
بدأ المشهد البصري» لمونولوج أوفيليا المجنونة. ظهَرَ الوجه في وسط الظلام، وهو يتلو النَّص ويضحك ويبكي. كان حوض المياه معلَّقًا على الحمَّالات على العنق أمام أوفيليا، وكان مصدرًا للضوء. نظرَت أوفيليا منبهرةً إلى سطح المياه. أنزلَت يدها إلى المياه. غسلَت شفتَيها وخدَّيها وجبهتها وذقنها. ظهَرَ وجهُ هاملت في الجزء الشمالي من خشبة المسرح لبعض اللحظات. أنزلَت المؤدية القائمة بدور أوفيليا الحوض إلى الأرض عند الكلمات الأخيرة لمونولوج هاملت. مسحَت الوجه الرطب بالمنديل، وارتدَت القفَّاز الأبيض. أخذَت العصا لتصبح من الآن فصاعدًا شخصيةً أخرى. رفعَت كرةً ثقيلة من الأرض، واتجهَت إلى الجزء الأيمن من خشبة المسرح، حيث جلس الممثل على كرسي ذي ظَهرٍ عالٍ. سبق له أن ارتدى الفستان النسوي والجاكتة بشكلٍ مقلوب. وضعَت الكرة في يدَيه. صفعَت خدَّه. حضرَت من الخلف. صعدَت عوارض الظَّهر. فتحَت ضلفات خشبة مسرح العرائس، وقالت له شيئًا عبْرَ هذه «النافذة». ردَّ بالإيجاب وهو يهزُّ رأسه. صَعدَ. علَّقَ الكرةَ على الحبل المعلَّق في عمق خشبة مسرح العرائس. أصبحَت الكرة بندولًا، ورأى المشاهدون كوبًا وزجاجةً مائلة إليه على خشبة المسرح.
خلع الجاكتة، ليبقى عليه الفستان. ثم قام الممثل والمدير بتجهيز خشبة المسرح ﻟ «المشهد البصري» التالي. فتحا الستار وأخرجا المائدة وجلسا بجانب القطاع العرضي. سلَّمَ المدير الكتابَ للممثل. قرأ بعضَ الجمل على خلفية الموسيقى المسلِّية، ووضَعَ اللافتات الورقية إلى المائدة. ظهرَت بقية الشخصيات. جلسَت الشخصية ذات التاج على رأسها والسيجارة في فمها في وسط المائدة. أخَذَ الكتاب. نظَرَ إلى قائمة الطعام، إلا أنه بدأ كرمشةَ اللافتات الورقية بدلًا من تناوُل الطعام، شأنه في ذلك شأن الباقين. ثم ألقَوا بها بعضهم إلى بعض. انتهَت «المعركة» بكسر المائدة إلى نصفَين وتحريكها حتى تتحوَّل من المستطيل إلى مربعٍ في وسطه تاج. ارتفَعَ سطح المائدة إلى الأعلى؛ إذْ رفَعَ الممثلون أجزاءها الأربعة بالتتابُع.
ثم جرى «المشهد البصري» الذي تناوَلَ الموضوع الأسطوري الخاص بإغراء الشيطان لآدم وحوَّاء. تحرَّك الممثلون حول المائدة ببطء ليميلوا برءوسهم فوق سطحه الخالي. بعد وقفةٍ من الصمت، اقتربوا من تجويفٍ في المائدة مملوء بالكتب. أنزلوا الرءوس الواحد تلوَ الآخَر إلى «مقبرة». ثم أمسَكَ كلُّ واحد منهم القناع المرسوم على الكارتون أمامه. قناع الشيطان فوق جسم الثعبان. وجه آدم وحواء من ألوان الرسم البدائي لإيسايف وسيمتشينكو. أفواه الممثلين المتحدِّثين ظهرَت عبْرَ الفتحات. وضعَت حواء تفاحًا أخضر في فمها. هبطَت الأقنعة ببطء في لحظةٍ ما. رأى المشاهدون وجوهَ الممثلين. أمسكوا الأقنعة أمامهم الآن في وضعٍ عرضي، وعليها كُتُب الكونِ المفتوحة. إنها الكتب نفسها التي مالوا إليها في بداية «المشهد البصري» عندما أنزلوا رءوسهم إلى تجويفٍ على المائدة. اكتشفوا القَطْع في الصفحات، وغطَّوها بأيديهم. ثم أنزلوا الكتب وتغطَّوا بها وكأنها أوراق التين. وفي هذا الوضع غادروا خشبة المسرح بخطواتٍ صغيرة يصاحبهم ضحكُ الجمهور.
لم تبقَ على خشبة المسرح سوى مؤديةٍ شقراء واحدة، قائمة بدور جيرترودا. ضربَت خشبة الطبيخ المستديرة بالسكينة. قطعَت جزءًا من شَعرها، من رأسها. واصلَت ضرْبَ الخشبة بالسكينة بقوةٍ متزايدة. وفي لحظةٍ ما، قامت مع هاملت، ثم بمفردها، بأكشن بالأجزاء الأربعة من غطاء المائدة (رفعَتها في شكل البيوت من الكوتشينة، وأنزلَتها ورفعَتها وأنزلَتها مجددًا). ثم قامت بدمج نصفَي المائدة ورقدَت على المائدة رأسًا إلى الأسفل بعد أن ارتدَت القفَّاز الأبيض.
ظهرَت أربعةُ ممرَّاتٍ طولية مستطيلة بالداخل. كان كلاودي يتحرك وراءها، وهو يحاول الهروب من هاملت الذي وجَّه المسدس إليه. اقترب هاملت من جيرمترودا الراقدة على المائدة. غطَّاها باللافتات الورقية. عثر على السكينة على الأرض، ونظَرَ إليها لمدَّةٍ طويلة، ليُخفي السكينة والمسدس في جيبه.
انضمَّت جيرترودا إلى الممثلين الثلاث المتبقِّين، ليبدَءُوا التمثيل بالقِطَع الورقية. دفعوها إلى فوق. الستار الشفاف أحدَثَ انطباعًا بأنَّ الأوراق تحلِّق وتدور من تلقاء نفسها في الهواء.
خرج هاملت إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح، وأخرج قِطَع الورقِ واحدة تلوَ الأخرى من عبِّه وفتحها. قرأ جمل النَّص العبثية من وجهة نظره وهو يغرز بنهاية العصا في جمل النص التي تبدو له شائنةً وخرقاء. رد الجمهور ضحكًا على تصرفاته وألفاظه. بعد نهاية التلاوة، عاد بقِطَع الورق إلى الجاكتة مجددًا وقفَزَ ولوَّح بيده وانصرَفَ بسخرية ليعود بعد لحظاتٍ إلى المائدة الممتدة من جديد بالداخل. رفَعَ الستار التل المعلَّق فوق سطح المائدة قليلًا ليضع حافته على الأيدي الممتدة للسيدات الضاحكات، ووقف بجانبهنَّ.
اختفى الممثلون وراء الستار، ليشهد الجمهور الأكشن على سطح المائدة بمشاركة الزجاجة وأربع كُئُوس. تحرَّكَت الزجاجة ببطء لتقترب من الكأس الأولى وتميل إليها. لم تصبَّ فيها شيئًا، بل لمسَتها باحتراسٍ وحميمية. تكرَّر هذا ثلاثَ مرَّات، ثم اقتربَت من حافة المائدة وتوقفَت. الآن انتعشَت الكُئُوس؛ إذْ مالت كلُّ واحدة منها إلى اليمين أولًا ثم إلى اليسار. وذلك برفقة الغناء النسوي الهادئ. تحركَت على المائدة إلى الخلف وإلى الأمام. اقتربَت من بعضها لتقرع ثم تعود إلى مواضعها. وفي هذه اللحظة، ظهرَت وجوه الممثلين من وراء الستار لتسقط الكُئُوس المرعوبة واحدة تلوَ الأخرى، ثم سقطَت الزجاجة. وسُمع صوت الرعد، وساد الظلام على خشبة المسرح. وعند عودة الضوء إلى خشبة المسرح، كانت المائدة خاليةً من أيِّ شيء.
صوتُ أغنية ألمانية تحظَى بشعبية. خرجَت ممثلةٌ مرتديةً الصِّدار الأحمر، وبدأت اللعبَ بالشخوص العرائسية على المائدة، والبشرية في عمق خشبة المسرح. وعندما رفعَت يدَي العروسة في وسط المائدة، اتخذَت إحدى المؤديات بالداخل الوضعَ نفسه والحركةَ نفسها. ثم أحضرَت المؤدية العروسةَ الثانية ووضعَتها في وضعِ مدِّ الأيدي إلى الأمام، ثم الثالثة في موضع هبوط الأيدي إلى الأسفل. قامت بترتيب العرائس لتلعب بها وكأنَّها بلياردو؛ إذْ لفَّت حول المائدة لتحركها عصا البلياردو لتجتمع في الوسط، ثم ضربَتها ضربةً ماهرة واحدة. كرَّر الممثلون الموجودون خلف المائدة لعبةَ البلياردو هذه وكأنَّهم المِرآة؛ إذْ رفعوا أيديهم وسقطوا وقاموا. بعد نهاية الدور، تركَت «المؤدية» الراضية عصا البلياردو. والآن قامت العرائس في يدَيها والممثِّلون في عمقِ خشبة المسرح بأداء «الرقص» على المائدة وفوقها، وذلك بصورةٍ متزامنة.
جاء دور «المَشاهد البصرية» الفردية. قامت «مؤدية العرائس» بأداء المشهد الأول والأقصر منها. وقفَت في مواجهة المشاهِدين مبتسمةً والْتفتَت إلى رأس شخصيةٍ عرائسية أخرى، وقالت لها شيئًا. ثم أخرجَت العروسة وانصرفَت وهي تُمسكها أمامها. يدوِّي موتيف عاطفي «بيسامي موتشو» بين الستائر التلِّية من النواحي الثلاث، وقامت الفتاة المرتدية الشالَ بالأكشن في وسط بلانشيت الدائرة الضوئية. لوَّحت بالشال بسعادة للشاب الدائر في الجزء الأمامي من خشبة المسرح وهو يمسك زهرة، ثم وراء الستار الخلفي، ثم مجددًا في الجزء الأمامي من خشبة المسرح دون أن يتمكن من الاقتراب من الفتاة. مدَّت يدَيها بالقفَّاز الأبيض إليه بلا نتيجة. حركة الاضطراب. أمالت رأسها بحزنٍ. ضمَّت الشال إلى عينَيها لتنصرف دون أن تنتظره. ما زال الفارس يبذل أقصى جهوده للقيام بحركاتِ الدوران.
ثم قام بأداء المونولوجات الفردية. رقَدَ الفارس الذي خلَّفه الحظُّ على مائدةٍ طويلة. عاد الوعي إليه وقام. خلع الجاكتة والقبعة ليبقى مرتديًا قميصًا أبيض وبابيونًا حول رقبته. أمسَكَ الوردة وبدأ إبداعه بانفعال، أي «تلحين» الموسيقى التي استُمعت فوق خشبة المسرح كنغمة «باخ». «سجَّل» الجمل الموسيقية (أو الشطرات الشعرية) التي يبدو أنها وُلدَت في رُوحه على سطح المائدة، مسرعًا بساق الزهرة أولًا ثم بالبرعمة. كتَبَ على طول المائدة بكاملها وهو يتحرك بسرعة وحماسة، ليواصل «الكتابة» في الهواء، ثم على سطح المائدة مجددًا، ولكنْ في هذه المرة راقدًا وزاحفًا من مكان إلى آخر بعد انقلاب المائدة تعامديًّا إلى المشاهدين؛ ليصعد إليها ويتحرك على سطحها ويكتب بالعرض. قام وبدأ كتابة «علامات النوتات» غير المنظورة (وربما ألفاظ النص الشِّعري أو لمسات الريشة الجميلة) على نفسه؛ على الرأس والوجه والعنق والصدر والأيدي والساقَين. كتَبَ على كامل جسمه ليقف على رُكبتَيه ويضع «النقطة الأخيرة»، وهي «لمسة الريشة الأخيرة». سقط مرهَقًا على المائدة رأسًا إلى الأسفل.
حضَرَ شخصان إلى المائدة ببطء. لمسَا سطح المائدة بأصابعهما، وهما يتلُوَان بصوتٍ مسموع السطورَ المكتوبة عليه. ضَحكَا واضطرَبَا. وضَعَ المبدِع على ظَهْره وأجرَيَا عمليةً «جراحية» عليه؛ إذْ فتَحَا القميص وأخرَجَا «القلب» من الداخل. قاما بإلقاء نظراتٍ محبطة إليه ليُلقيا بهذه القطعة الحمراء كالدم إلى ما وراء الستار، قاما بوضع المائدة في شكل المربع، ثم انصرفا. قام المبدِع وارتدى الجاكتة والقبعة متخذًا بذلك شكل المدير، وقرأ السطور المكتوبة غير المنظورة، وذلك برفقة التعليقات الساخرة. ثم ذهَبَ تحت المائدة حيث وُجِد حتى في أثناء المونولوج البصري الفردي التالي، والذي قام بأدائه هاملت برفقة أصوات المسيرة الجنائزية.
قام بتلاوة نَص بطل شكسبير راكعًا على ركبتَيه على المائدة، وهو يتلو نَص الورقة التي أخرجها من الصندوق. قرأ الورقة ثم أشعلها. عاد بالورقة المشتعلة إلى الصندوق. أغلق الغطاء. رفع الصندوق أمامه، ووجهه خلفًا إلى المشاهدين؛ لينظر قناعُ الجمجمة إلى المشاهِدين بعيونه السوداء والمُصدِرة للدُّخان. رفَعَ القناع المُصدِر للدخان أمامه. على الرغم من شكله المُخيف (وموسيقى جنائزية) ضحِكَ الجمهور ردًّا على ذلك. استدار هاملت بظَهْره ببطءٍ ورأى المشاهدون شخصًا عرائسيًّا على نعلِ حذائه. شدَّ هاملت الذراع، ليرفع الشخص يدَيه ويفتح فمه وينطق الكلمات بصوتٍ ذي صأصأة. الْتف الممثل وقال شيئًا مضحِكًا بصوته. قام حتى كسَرَ العروسة بالضغط بها على سطح المائدة. ارتدى هاملت القبعة، وانصرف إلى الداخل ببطء. قناع الجمجمة ما زال على المائدة التي تحوَّلت من المربع إلى المستطيل بدون أيِّ عواملَ خارجية من تلقاء نفسها، وكأنَّ ذلك حدَثَ تحت تأثير قوةٍ غير معروفة. رقَدَ القناع عند الحافة الأمامية ونظَرَ بعيونه الخالية إلى قاعة المشاهدين.
أدار المدير المجموعة المسرحية التي ألَّفها إيسايف وسيمتشينكو، واتَّخذ حسبَ سَيْر الأحداث قرارًا بإغلاق المسرح وتصفية الفرقة. ومن أجل القيام بهذا الأكشن، أحضر كرسيَّ المقصلة ووضعه على غطاء المائدة. أدخل حافة الستار عبْرَ الظَّهر. لفَّ القطعة ووضَعَ «رأس» المحكوم عليه بالإعدام إلى «المقصلة». بعد نُطق الحُكم شدَّ الحبل. سقط سكين المصقلة لتتمَّ عملية «الإعدام». تسمَّر في وضعِ الحزن لِلَحظة والرأس مائل، رمى المدير القبعةَ وبدأ الرقص. انضمَّ إليه الممثلون ووقفوا أزواجًا على جانبَي المائدة مستندين إلى كفوفهم ومائلين برءوسهم. انقطعَت الموسيقى المسلِّية ليسُود الصمت. قام كلُّ واحد منهم بتلاوة الألفاظ النهائية لنصِّه. سلَّمَ المدير الكتابَ الصغير المفتوح للممثِّل الواقف أمامه، الذي نظَرَ إليه بدوره وأعطاه للمؤدية الثالثة التي أعطَته للرابعة، التي لفَّت الصفحات في شكلِ الكعب ووضعَته إلى المائدة بجانب قناع الجمجمة. وعند إبعاد القناع بعد لحظةٍ، بدأ الكعب يتحرك ببطء على المائدة ليصل إلى حافتها ويسقط إلى الأرض. كان المدير قد رقد في هذه اللحظة في عمق «المقبرة» في وسط المائدة تحت غطاءٍ من صوف مخطَّط بعد أن وضع ساقًا فوق الأخرى، وبيتًا صغيرًا على صدره. قام الممثلان القائمان بدور هاملت وأوفيليا بالأكشن العاطفي الأخير، وذلك على خلفية الكورال النسوي. ملآ الحوض في مقعد الكرسي بالمياه، وضعا «معًا» أيدِيَهما في «الحوض» وقرَّباه من وجْهَيهما وعنقَيهما ورأسَيهما، وفي حركة شعائرية كما لو كان يغمرهما ضوءٌ فوق الطبيعي، بدأ الاغتسال بها ثم بشريكها الغيبي. ألقى لمسةً حميمة على شريكته، لترد على ذلك بالطريقة نفسها. أنزلَت رأسها إلى كتفه. مالت إلى المياه باكيةً في موضع المعاناة. ومال هو فوقها. أبعدَته يائسةً ليسيرا في اتجاهَين مختلفَين.
ظهرَت المؤدية الرابعة بالداخل واقفةً بدون حراك. رفعَت يدها اليمنى في القفاز الأبيض ووجَّهَت أشعة الشمس بواسطة المِرآة إلى المشاهدين. وذلك على خلفية الجمل الختامية المرِحة والحزينة لنصِّه. وعند نزول المرآة ساد الظلام على خشبة المسرح.
إنَّ تجربة دمج عناصر شعرية المسرح الهندسي الروسي مع فن الأداء لدى ممثلي الدراما؛ نجحَت إلى حدِّ أنه بعد مرور عامَين استدعى المسرح نفسه إيسايف وسيمتشينكو لإخراج عرضٍ آخَر، تمَّ اختيار حكاية «قصة أم» ﻟ «ﻫ. ك. أندرسون». كان من المنتظَر في البداية أن تقوم العرائس بالتمثيل، ويخاطب العرض المشاهدين الأطفال. لكنَّ هذه الفكرة تغيرَت فيما بعد؛ إذْ خاطب العرض المشاهدين الكبار، وتضمَّن ثلاثة ممثِّلين فقط: الرجل الذي يمثِّل في آن الموت وشجرة الشوك والبستاني، وامرأتَين إحداهما البطلة الدرامية لحكاية أندرسون، وهي الأم التي تبحث عن الطفل الذي أخذه الموت، والأخرى الراوية ومؤدية العرائس المجنونة القريبة من البطلة الرئيسية، والتي توحَّدَت معها في ختام المسرحية في معاناةٍ مشتركة.
في عمق الفضاء المحيط بالجدار من الورق المكرمَش، توجد الأمُّ بجانب المهد (يصوِّره كيسٌ ضخم معلَّق على الحبل). يتقرَّر المصير التعيس لابنها المريض المسكين. حضر الموت (الرجُل المرتدي القبعة السوداء والبنطلون والصِّدار والقميص الأبيض والكرافتة) إلى السُّلَّم في الجزء الأيمن من خشبة المسرح دون أن يستند إلى أيِّ شيء. بعد أن وضع الموتُ الكتابَ (أعمال أندرسون) إلى الأرض، بدأ الموت الصعودَ من درَج السُّلَّم إلى الآخَر. وصَلَ إلى القمة ورفع الوجه المضيء بضوء المكان إلى السماء. بدأ حوارًا غير مسموع مع الإله. أمَرَ الإله بأخذ الرضيع الميت من الأم. أنزل على الحبل عنصرَ الملابس الناقص وهو الحذاء حتى يتسنَّى للموت التوجُّه لتنفيذ الأمر. بعد النزول ارتدى الموت الحذاء وبدأ ضربَ الأرض بالأقدام. سقطَت الأجزاء البيضاء لجسم الشخص العرائسي من السماء إلى الأرض. ترك الموت مكانه على خشبة المسرح للمساعِدة وهي الراوية.
كانت مرتديةً قبعةً ضيِّقة صغيرة غريبة، مما جعلها شبيهةً بفتاةٍ ريفية حمقاء، وعلى ظَهْرها سلَّم مثل السُّلَّم الكائن بالجزء الأيمن من خشبة المسرح ولكنْ أصغر حجمًا، وهو الطريق إلى الإله. تجسَّد الإله في شكل العروسة المربوطة بقمَّة السلَّم أعلى، فوق رأسها. قامت برفع اليد الإلهية وإنزالها بواسطة عصًا طويلة. ثم قامت بجمع أجزاء الشخص العرائسي من الأرض بواسطة الطرَف السفلي للعصا. قامت بتجميع عروسةٍ منها وأخذَتها معها.
ظهر الممثِّل في وسط الساحة المسرحية مرةً أخرى ليمثِّل الموت. ارتدى المعطف؛ إذْ كانت الأحداث تجري في الشتاء وفقًا لموضوع أندرسون. بدأ «الحوار» التشكيلي غير المسموع الصامت مع الأم، ووجهت الأم «مهدها» في الاتجاه نفسه الذي مال إليه الموت. نعسَت لبعض الوقت وتركَت الأيدي الضعيفة «المهدَ» الذي شدَّه الموتُ إليه وضرَبَ الحبل بالسكين ليسقط «المهد». ساد الظلام خشبة المسرح.
عند عودة الضوء رأى المشاهدون الأمَّ الجارية إلى «المهد» على الأرض، وحاولَت رفْعَ الكيس ولمسَته وهزَّته ولفَّته. ألقَت بنفسها في اتجاهاتٍ مختلفة. عادت إلى الورق على الأرض وزحفَت عليه، ونظرَت إلى كلِّ قطعة، ولكنَّ الطفل اختفى.
استدار الموت الذي ما زال طولَ هذه المدة في الجزء الداخلي من خشبة المسرح ظَهرًا إلى الأم، لينطلق الملاك الصغير من قبَّعتها. رفرَفَ بجناحَيه الأسودَين ليطير حول الأم الباكية الواقفة على ركبتَيها، والتي لم تلاحظ روحَ ابنها الملائكية الطائرة. استعدَّت للمغادرة للبحث عنه. فتحَت أزرار فستانها المنزلي ببطء وخلعَته وقلَّبته، وارتدَته مجددًا ليتحول الفستان إلى الزيِّ الخارجي.
ظهرَت الراوية وفي يدها الحقيبة. رأت الملاك الطائر، توقَّفَت. نظرَت إليه باهتمامٍ. لمسَته بإصبعها في حذرٍ. خلعَت الحبال منه. أمسكَت بالجسم المهتزِّ في يدها ونظرَت إليه باهتمام، ثم أوقفَت حركة الجناحَين وأنزلَت «اللعبة» الميتة إلى الأرض. ارتدَت الأزياء الشتوية (قبعة محبوكة ثانية على الرأس والجاكتة الدافئة)، واتجهَت في هذا الشكل وفي يدها الحقيبة إلى الكرسي الذي اخترعَه، وقام بتصميمه فنانو المسرح الهندسي الروسي، الظَّهر ذو قمَّة في شكل المثلث وفتحة مستطيلة في الوسط. مقعدان مختلفان في الشكل. احتلَّ الموت المقعد على اليسار، ووضعَت الراوية الحقيبةَ إلى المقعد على اليمين. رفعَت الغطاء ليتحوَّل الجزء الداخلي من الحقيبة إلى ساحة عرضِ مسرح العرائس. قامت بإنشاء الميزانسين عليها؛ الأم التي تدفع المهد. ربطَت الراوية ثِقلًا بالحبل. توقفَت حركة المهد؛ لأنَّ الأم نامت في هذه اللحظة، وقام الموت بلصق عينَيها بمُضَغ العلكة، وأعطى المقصَّ للراوية حتى تقطع الحبل. انطلَقَ المهد إلى فوق وكأنه لولب. عروسة الطفل «قذفَت نفسها» منه، وأمسكها وأخذها الموت. انفعلَت الراوية بهذا الختام، وكان يبدو أنها جرَت وراءه. وفي هذه اللحظة تحديدًا، حسب فكرة الفنانين، استيقظَت غريزة الأمومة لديها؛ لكنَّ انفعالات الراوية ظهرَت في شكل جنوني وقبيح، وحتى عبثي، وذلك على خلاف الأم الحقيقية الدرامية والعاطفية. في هذا الإطار، بقيَت الراوية مساعِدةً للموت، ونفَّذَت كلَّ أوامره. فعندما لحقَت بالموت الذي خطف الطفل، أوقَفَ الأخير انفعالاتها بمدِّ مجموعةٍ من الكتب إليها (أعمال أندرسون) لتنسى الراوية حماستها فورًا وترتب الكتب على الأرض. حضرَت الأم إلى نقطة الانطلاق في «طريقها»؛ إذْ كانت المسافة بين الكتب «الأحجار» أطول من خطوتها، فقرِّب الموت «الأحجار». ثم أعطى الأم العصا لتشكِّل «الغابة» وهي مطروقةٌ في «الأحجار».
الظلام التام في الفضاء المسرحي يرمز إلى الليل. لمبةٌ ضئيلة واحدة فقط معلَّقة على ذراع الشرائح الضيقة، ولها اتصال بالسُّلم، وهو شيء مادي آخَر أعدَّه الفنان ويشبه قدَمَ حشَرةٍ كبيرة. دوران الشيء المادي باللمبة من السُّلَّم على يد الراوية. ظلال متخيلة «للأشجار» وشبح الموت يزحف على مؤخرة الحذاء. حاولَت الأم أن تلحق به بلا نتيجة.
تعبَت الراوية ورقدَت للنوم على أرض «الغابة». إلا أن الكلب نبح عندما وضعَت رأسها على الوسادة. قامت الراوية ورمَت الوسادة النابحة. رقدَت إلى الأخرى التي أصدرَت بدورها أصواتَ نعيبِ الغراب الزاغ العالي، تسبَّبَت باقي الوسادات أيضًا في مفاجآتٍ متشابهة، وهي مواء القطط والسعال، وضربات المنبه العالية، أو صوت العاصفة الفظيع.
وفي هذا الوقت، قامت الأم بأداء الأكشن في يسار خشبة المسرح. جلسَت على المقعد الخلفي بالعكس؛ بحيث يصبح الظَّهر ذو الفتحة المستطيلة أمامها. مدَّت الفتحة إلى المقعد الأمامي وكأنه نَطْع، وكشطَتها. سقطَت النشارة إلى يدها عبْر الورقة التي تغطِّي «النطع»، والتي اهتزَّت وقفزَت بسبب صوت الموسيقى من الأسفل. رسمَت الأم الدوائر السحرية من النشارة بأصابعها. لمسَتها بكفِّها. حاولَت جمعها وتهدِئة «الرقص» بلا نهاية. ازداد صوتُ الموسيقى أكثرَ فأكثر. انقطعَت الورقة لتصعد نافورة من النشارة القادمة من مكبِّر الصوت الكائن تحت المقعد. «أغلقت» الراوية النافورة بجلوسها عليها.
الأم موجودة في «غابةِ صنوبر مُظلِمة» (اشتعلَت النيران في قمَّة العصا؛ «الأشجار»، كأنها سماءٌ بها نجوم) حيث «وقفَت الشجرة الشائكة» حسب نصِّ أندرسون. بدأ ثنائي البطلة مع الشجرة الشائكة، وحَمَل طابعًا دراميًّا وعاطفيًّا وجنسيًّا معًا. قام بأداء دور الشجرة الشائكة الممثِّل نفسه الذي قام بدور الموت. بدأ الرقص مع الأمِّ التي احتضنَت شريكها وحرَّكَت أصابعها على أوتار «القيثارة» المثبتة على ظَهْرها. «القيثارة» عبارةٌ عن مضربٍ بدون الجزء الأعلى منه. اشتعل إطار المضرب وكأن «الأشواك» النارية أحاطَت به. وبرزَت استعارةٌ مسرحية واضحة، وهي تجسيد نَص أندرسون: «ضمَّته إلى صدرها بشدَّة. دخلَت الأشواك في جسدها بحدَّة.» «الشجرة الشوكية» فتحَت الفستان على ظَهْر الأم. أخرج ما كان تحته من النشارة والأوراق والزهور الجافة. أنزل الأمَ إلى الكرسي ورفَعَ طرَف ثوبها لتظهر بالأسفل بين ساقَيها خشبة المسرح المضاءة بضوءٍ ناصع، و«بلانشيت» مسرح آخَر صغير.
كرَّرَت الراوية موضوعَ الرقص مع الشجرة الشائكة، الذي قام به الممثلون، وذلك في صندوقِ «مسرح الرسوم» الذي أمسكَته بين يدَيها. وبداخل الصندوق شخصٌ عرائسي رجالي، وتتراءى أشواك. غطَّى خشبة المسرح مسطحٌ عليه صورة الأم. قطعَت الأشواكُ هذه الصورةَ والورق. وفقًا لأندرسون («اخضرَّت الشجرة وأزهرَت على الرغم من برودة الليل») الممثل القائم بدور «الشجرة» أخرَجَ من صندوق الراوية لفافةً ورقية، ووضَعَها على «بلانشيت» خشبة مسرح العرائس أمام الأم. فكَّتْها بحذرٍ، عثرَت بداخلها على وردة («ثمار» رقصة الحُب). ظهَرَ شبح الطفل المخطوف على الورقة على الشاشة المضيئة. رسمَت جسده ببطءٍ بواسطة لمساتِ نهاياتِ أصابعها الخفيفة، ولمَسَت الأيدي المرفوعة والرأس وقبَّلته. ثم حدَثَ لقاء الأم مع البحيرة المجمَّدة. حسب الموضوع، بكَت بدون تردُّد حتى تنقلها البحيرة إلى الضفَّة الأخرى إلى العالَم غير المرئي لحديقة الفردوس، حيث من المحتمَل أن توجد رُوح طفلها في دفيئة الموت.
يمثِّل حوض السمك البحيرةَ في العرض. أخرجَته الراوية وملأه الموتُ بالمياه من البرَّاد. النصف الأيمن من الكرسي أصبح «مِشنقة». جلسَت الأم تحتها بدون حراك. كان الحبل معلَّقًا أمام وجهها، وكان يهتزُّ قليلًا بسبب النَّفَس. جلَسَ الموت هنا أيضًا على يسار الكرسي. قرأ كتابًا يتضمَّن نَص أندرسون، وفي الوقت نفسه استخدَمَ الصحيفة لإبعاد الذبابة المزعِجة (تحول الشتاء إلى الصيف)، وهو ينقر رأس الراوية التي قامت بتغسيلِ قدمَي الموت في حوض السمك. وفي لحظةٍ ما تضايقَت الراوية من الضربات، وقامت وردَّت بالضرب ليضربا كلٌّ منهما الآخَر لوقت. ثم أخرجَت الراوية بيضَ الدجاج، ونظَّفَته من القشر، وقطعَته بالمناصَفة. وضعَت حدقاتِ العين «الصفراء» («عيون الأم» حسب نَص أندرسون) في القناع الشفَّاف الذي ظهَرَ فوق ظَهْر الكرسي، ومثل «البحيرة». وفي الوقت نفسه، ارتدَت مؤدِّية دورِ الأم القبَّعة لتسيل «الدموع» التي لا عزاءَ فيها من الزجاجة الراقدة عليها إلى وجهها وعنقها وكامل جسدها. جرى القربان برفقة موسيقى الأسطوانات الرومانسية القديمة بواسطة الدوران على قرصِ الحاكي الواقف تحت المِشنقة حيث جلسَت الأم منذ قليل.
بدأ الجليد يتساقط. رقصَت الأم الفالس الحزين وسط «الأشجار». قام شخص الموت العرائسي بتقليدها بعد أن ربطَته الراوية بحبلِ المشنقة حتى لمسَت أقدام العروسة دائرةَ القرص الأحمر للأسطوانة ودارَت معها. وفي لحظةٍ ما توقَّف الحاكي، وحلَّ الصرير محلَّ الموسيقى. ازداد الصرير وتحوَّل إلى صوتِ العاصفة.
ثم بدأ موتيف «حديقة»، وهو مَسْكن الموت، حيث أقامت أرواحُ الموتى. وقَفَ الموت بالحقيبة في يدَيه أمام الجدران المسلَّط عليه الضوء الأخضر وبه ثلاثُ نوافذَ مستطيلةٍ سوداء، وعلى رأسه قبعتان واحدة فوق الأخرى. سقطَت كرتان من اللون الأحمر منهما. فُتحَت الحقيبة. بداخلها شخصان عرائسيان للأطفال، شبيهان بما رأته الأم منذ وقتٍ مضى على الشاشة المضيئة. شدَّ الموت الخيوط من الكرتَين إلى الجدار والنوافذ السوداء. أنزل نهايات الخيوط إلى النوافذ لتستمر الخيوط في الشدِّ من تلقاء نفسها. بعد فكِّ الكرات بكاملها اتضح أن الخيوط كانت تحيط بالشخوص العرائسية. اقتربَت الشخوصُ من الجدار لتعلَّق تحت النافذة الخاصة بها؛ ظهَرَ في النوافذ وجهَا المؤديتَين القائمتَين بدور الأم في شكلها الجنوني والراوية، عندما خرجَت السيدات من وراء الجدار إلى الأمام، عادت الشخوص العرائسية إلى النوافذ. نظرَت الأم والراوية إلى النوافذ السوداء الفارغة باضطراب. بدأتا التحرُّكَ بجانب الجدار وضرْبَه بالسكين، وعملَ نوافذَ جديدةٍ، ولكنَّها كانت فارغةً أيضًا.
اقترح الموت الاختيار؛ إذْ عرض اثنتَين من عرائس الرضيع بعد أن أمسك العرائس (المصنوعة من مادة الفوم) في كفَّيها، ولعب بهما برفقة الموسيقى وكأنه مشعوذ السيرك. ألقى بهما إلى الأرض، وعندما اتَّجهَت السيدات إلى العروستَين أمسكهما مجددًا في قبضة اليد واقترح عليهنَّ التخمين: أين الطفل؟ ثم أخفى العروستَين تحت القبعتَين ولعب بهما على الأرض وكأنه نصَّاب من الشارع. «تعاطف» في نهاية المطاف وأخرج إحدى العروستَين وتركها على الأرض وغادَرَ ومعه الأخرى. ولكنَّ المرأتَين دعتَا الموت للعودة: هذا ليس ابني. وعرَضَ عليهما الموتُ عروسةً أخرى.
– هذا ليس ابني.
وحينئذٍ وضع الموت نهايات الخيط الأحمر في أيدي المرأتَين اللَّتين لم تقوما بالاختيار. اقتربَت المرأتان إحداهما من الأخرى بواسطة الخيط بعد أن اشتركَت في مصيرٍ واحد إلى الأبد، ووقفتا بجانب السُّلَّم المؤدي إلى السماء؛ إلى الله. بدأتا في الوقت نفسه صعودَ السُّلَّم من الجانبَين ببطء. توقَّفَت الأم المجنونة (الراوية) في الوسط، في حين واصلَت الأم الدرامية حتى النهاية، حيث تسمَّرت في وقفةٍ طويلة وهي تبتهل إلى الله: «لا تسمعني عندما أطالبك بشيء لا يتناسب مع إرادتك الحسنة! لا تسمعني! لا تسمعني!»
هذه الجملة «لا تسمعني!» كان يجب أن تصبح عنوانًا للعرض؛ إذْ جسَّدت جوهر نهاية موضوع أندرسون، كما أدركه ونفَّذه إيسايف وسيمتشينكو، ليكرِّرا بذلك الميزانسين البدائي للحديث بين الموت والله.
انتهى العرض بحركة الجدار الخلفي (جدران الموت والحياة) في اتجاه الجمهور. أُغلقَت النوافذ المستطيلة السوداء، واحدة تلوَ الأخرى. تحوَّل الجدار إلى الستار عندما اقترب من الجمهور. وسرعان ما أصبح الستار شفَّافًا لتظهر وراءه صفوفٌ من عرائس الأطفال المعلَّقة على الخيوط في العالَم الغيبي المتَّشح باللون الأحمر. أخذ الموت هؤلاء الأطفال إلى الجنة.
(١١-٨) Sine Loco
يرجع هذا المشروع إلى عام ٢٠٠١م، وهو عرض الرحلة، كما أطلق إيسايف وسيمتشينكو على هذا النوع من العروض، وجرى في مدينة إيرلانجين الألمانية على أعلى مستوى عدَّة مرَّات. شارك في المشروع الممثلون الرُّوس المقيمون في ألمانيا. المسرح الهندسي الروسي قدَّم لأول مرة عرضًا مأخوذًا عن موضوعٍ أدبي استعاره من الأساطير الإغريقية. رأي المشاهدون لأول مرة برنامجًا تضمَّن شرحَ كلِّ «مشهد بصري» من الموضوع. لنذكُرْ تعليقَ إيسايف للعرض السابق «هباء منثورًا» الذي ورَدَ سابقًا: «هناك موضوع، ولكنني لا أتخيَّل كيف أسرده.» في نهاية المطاف، قام إيسايف وسيمتشينكو، وبخاصة الممثلون، لأول مرة بتمثيل شخصياتٍ محدَّدة لها أصلٌ أسطوري واضح، مع أنهم ما زالوا «مشغلي» الأشياء المادية والأساليب والفضاء، كما هو المعتاد في المسرح الهندسي الروسي، مثل سيمتشينكو ديدال وإيسايف بوسيدون والممثلين الألمان الحليقي الرُّءُوس مينوتافر وتيزيه وإيكار وإحدى الممثلات باسيفيا، والثلاث الأخريات أريادنا في أشكالها المختلفة.
مرَّت الفكرة كالتالي: أردنا أن نعمل شيئًا في أسلوب المتاهة أو عن المتاهة.
بدأ العرض بالاستهلال المكوَّن من جزأين. أجرى ديدال سيمتشينكو التجارب «ورشة الحِدادة» الخاصة به؛ دوران عجلة الشحذ والشرارة، وانصهار القصدير، ودوران العجلة الحديدية الضخمة والطبلة. رسَمَ ديدار ملامحَ المتاهة التي اخترعها على سطح الشاشة الزجاجية.
تحرَّك رصيف المشاهدين تدريجيًّا إلى اليسار ليقف أمام الكابينة ذات المستويَين، والمخصَّصة لأداء أكشن ميلاد الشخص الذي كان عليه حسب الأسطورة أن يقيم في المتاهة، وهو مينوتافر. دخلَت ديدال باسيفيا (المرتدية التنورة الحمراء، وذات الشَّعر والصدر الملوَّن بالطين الأحمر) إلى الجزء الداخلي من الكابينة. وأخذ إيسايف لفافةَ القصدير في شكل السمكة إلى الدور الثاني إلى قدمَي باسيدون. ألقى باسيدون «مطر» الريش الأبيض على باسيفيا، وذلك عبْرَ القضبان. ثم ضغَطَ بقدمَيه على الأكياس البلاستيك المملوءة بالمياه، وقطعها بيدَيه حتى تتساقط المياه عليها. في نهاية المطاف أنزل «ثمار حبِّهما» إليها، وهي عبارة عن سمكةٍ قبيحة؛ لتبتعد عنها مرعوبةً (ميلاد «طفل الحُب» في شكل السمكة يرجع إلى أن أباه إله البحر. كان ذلك أيضًا امتدادًا لإحدى موتيفات المسرح الهندسي الروسي البصرية من عروض الفناء والسُّلَّم؛ حيث وردت السمكة من الإعلان التجاري القديم ﻟ «كولا دولتس»).
وفي القسم التالي مثل الشاب المرتدي القميص الأبيض والقبعة السوداء مينوتافر. أخوه الكلالة ابن باسيدون تيزيه ارتدى الأزياء نفسها أيضًا. كانت المائدة تفصل بينهما. كان يتصارعان وهما يتحركان بصورةٍ متزامنة، ويكرِّران إشارات وحركات أحدهما للآخَر وكأنهما المرآة. وفي لحظةِ الذروة بدأ رفع المائدة وإنزالها ببطء أولًا، ثم أسرع فأسرع حتى يصعد الشريط المغطِّي المائدةَ ويرفرف. شريط الجدران الشفافة تحرك أيضًا. شاهدَت السيدات الثلاث (أشكال أريادنا) عبْرَ الفتحة المستطيلة في الجدار الخلفي العاصفة الكونية.
بنى إيسايف وسيمتشينكو «معركة كريت وأثينا» بشكلٍ مختلف عن المشهد السابق؛ إذْ جرَت في «العالَم الصغير» على سطح الغطاء الزجاجي للمائدة الذي أنزل ديدال المسحوق الأبيض عليه (ليغطِّي بذلك ظلال المتاهة على الأرض)، ثم ترك مكانه لابنه ليسيل الزيت الأحمر من لون الدم على مدى المحيط. عائلتا أثينا وكريت المعاديتان وقفوا ثلاثةً أمام ثلاثة على جانبَي المائدة، ولعبوا «دور الشطرنج»، وهم يرتدون القبَّعات والأزياء الحمراء. حركوا «قِطعًا» حجرية وعلى رأسها الشموع المشتعلة في اتجاهاتٍ مختلفة حتى أسقط ديدال دلو المياه إلى «ساحة القتال».
ثم أتى المشاهدون إلى قسم مشهد اللقاء الأول بين أريادنا وتيزيه. البطلة المرتدية الطرحة والفستان الأبيض جلسَت على الكرسي وسط المياه وتحت المطر المتساقط قليلًا، وحركَت إصبعها بين صفحات الكتاب. هبط تيزيه إلى المائدة المتأرجِحة. مدَّت أريادنا الكتاب إليه، فجاء الرد بأن وضع إصبعه إلى الشفتَين وهو يدعو إلى الصمت.
ثم ظهرَت الأشكال الثلاثة لأريادنا، الواحد تلوَ الآخر، أمام المشاهدين. جسَّدت المؤديات تشكيليًّا الحالاتِ المختلفةَ للبطل، وذلك عن طريق القيام بالأكشن باللمبات الكهربائية المضيئة في الجزء المتوسط والبعيد والأمامي من فضاء القسم. أريادنا الأُولى حاولَت «كسْرَ» اللمبة المتأرجحة فوقها بصفقات الكفِّ على الكف الحادَّة، والصفقة الأخيرة حقَّقَت الهدف. والثانية سحبَت من اللمبة طبقاتِ المناديل الورقية وعلَّقَتها على الحبل الخفي. أكلَت الثالثة العنب بشهوةٍ، واعتصرَته إلى جبهتها، ووجهها، وشَعرها، وصدرها، وملأت منها الكأس بالعصير، حيث وضعت اللمبة المشتعلة. انتهى المشهد بمرور تيزيه ببطء في الجزء الأمامي من خشبة المسرح بجانب الحبل الساخن الذي قاد عليه سفينةً صغيرة مُصدِرة للدخان وهي تحترق كاملةً.
في المشهد السادس، كشف ديدال سرَّ المتاهة لأريادنا. بدأ هذا الأكشن بأنَّ إيسايف القائم بدور ديدال هنا أعدَّ المائدة لعمل «مكياج» البطلة. ملأ أحد ثقوب المائدة بالمياه، والآخَر بالتربة السوداء، والثالث بالدقيق، حيث كسَرَ بيض الدجاج وقام بخلط المحتوى. ثم وضع وجه الفتاة بالتتابع في المياه، ثم في خليط الدقيق، ثم في التربة السوداء، وذلك مع السيجارة في فمه. قام ديدال بالعمليات التالية، وهي: مدَّ يده عبْرَ الدائرة المشتعلة، ثم أخرَجَ الزجاجة من المائدة، وملأ الكوب بالنبيذ، وأعطاه لأريادنا. سقَت أريادنا حبيبها وأعطَته الدائرة المشتعلة. صَعدَ الجدار الخلفي. ظهرَت المتاهة أمام المُشاهِد، ولكنْ في هذه المرة بكامل حجمها في عمق الفضاء وليست مرسومة. قامت أريادنا بوضع الكوب بالقرب من فم تيزيه، الذي كان طوال الوقت يراقب ما يحدث عبْرَ نافذةٍ موجودة في الجدار الخلفي. وبعد أن ارتوى ظمأ العاشقين، أعطَت له أرياندا الدائرة المشتعلة وانصرفَت إلى الجدار الخلفي. تتكشَّف المتاهة أمام نظَرِ المشاهدين في هذه المرة ليس على شكل رسْمٍ، ولكنْ منبسطة بعرض الفضاء وعمقه. دفَعَ تيزيه الدائرة المشتعلة إلى الأمام بواسطة العصا الحديدية. وقَفَ مينوتافر في وسط المتاهة في وضعِ «الصَّلب». أمسك العارضة الخشبية الطويلة والثقيلة على كتفَيه ويدَيه المفتوحتَين. قطَعَ طريقًا طويلًا في المتاهة واقترب من أخيه، ثم وضَعَ تيزيه الدائرة المشتعلة على العارضة، ثم أنزل مينوتافر إلى الأرض بعناية.
رأى المشاهدون حظيرةَ الحيوانات عند وصولهم إلى القسم التالي. تضمَّن المستوى العلوي مشهد الكواليس القطيفية الخمرية ومؤخرة الحذاء. كان المستوى السفلي مغلقًا بالضلفات. ظهرَت أريادنا بالداخل عندما فتَحَها ديدال. كانت تجلس على المائدة أمام الكتاب المفتوح، وهي تقوم بعمل المكياج «في انتظار الحل». حاولَت «تعديل النص» بواسطة قلم العيون في صفحة الكتاب، وهي تقوم بتلاوة النص. إنها اللحظة الأُولى والوحيدة في العرض الذي تُرافِق فيه ألفاظ الأسطورة باللغة الألمانية الأحداث. قام ديدال بالترجمة الفورية إلى اللغة الروسية. ثم بدأ اللعب بالعرائس في المستوى الثاني. وضَعَ عروسة أريادنا وأمامها تيزيه وأمامهما مصفاة المطبخ ذات الأجنحة في عنق الإبريق بعد أن فتَحَ غطاء العنبر وأنزَلَ العروس التي تمثِّل تيزيه إلى فضاء المستوى الأول. الممثلة القائمة بدور أريادنا نظرَت بابتسامة إلى عروس حبيبها وقامت بتلاوة النص (قصة لقاء باسيفايا وباسيدون). استمرَّت التلاوة حتى بعد أن أغلق ديدال ضلفات المستوى السفلي. وعند فتح الضلفات مجددًا كانت خشبة مسرح المستوى السفلي خاليةً. وضَعَ ديدال علبة الخيار المخلَّل إلى الأرض ووضع بجانبها ١٦ من المخبوزات المجفَّفة (استعارة العطاء الأثيني لمينوتافر، وهو تقديم ٨ شبَّان و۸ فتيات كقربان لمتاهة كريت).
جرى قتل مينوتافر مثل تقطيع السمك بأدواتٍ مطبخية كانت مثبتةً على رأسَي شابَّين وكأنها منقار لطيورٍ خيالية. مال الشابَّان بالتتابُع ثم معًا بالمنقار إلى المائدة ليضربا السمكة حتى قطعاها إلى أجزاء.
انتقل رصيف المشاهدين إلى القسم العاشر. به غرفة مملوءة بالدماء، وقام ديدال بالعبور ببطء عبْرَ مجموعةٍ من الرجال والسيدات الواقفين بدون حراك في مواضعَ مختلفة. تاج ورقي على رأس ديدال، وفي يده باقة الورد الحمراء. ضرب ظهر تيزيه بالباقة، وهو واقف في الفتحة المؤدية إلى القسم الحادي عشر التالي إلى فضاء حلم أريادنا، وهو الحديقة المزدهرة، حيث تمَّ اللقاء الأخير مع حبيبها. اقترب تيزيه وأريادنا أحدهما من الآخَر في بطء وهما يمسكان على العصيِّ دبلتَي الخطوبة في أيديهما. وعند وصولهما أحدهما إلى الآخَر ارتدَت الفتاة دبلةَ الخطوبة، وردًّا على ذلك لمَسَ تيزيه وجهها وعنقها وصدرها بحميمية ثم انصرف ليتركها في موضع الانتظار.
«غادَرَ تيزيه إلى الأبد»، كما علَّق مُعِدُّو العرضِ على هذه اللحظة في البرنامج، وأُطلق على المشهد التالي «نهاية أريادنا»، الذي قدَّم للمشاهدين ثلاثة احتمالات مختلفة لمصير البطلة؛ الاحتمال الأول: راهبة وحيدة نظرَت بحزنها إلى انعكاسها في المرآة وبكَت بدموعٍ سوداء ساقطة إلى الأرض بصوت عالٍ. الاحتمال الثاني: حبيبة ديونيس في مواضع متحرِّرة على سريره. الاحتمال الثالث: أريادنا تشرب كأس السُّم وتُشعل الشاشةَ الورقية بينها وبين المشاهِدين و«تحترق».
أنهى إيكار بالأجنحة الخشبية الضيقة الغريبة على كتفَيه الرحلةَ البصرية في الموضوع الأسطوري للمسرح الهندسي الروسي. صَعدَ إيكار السُّلَّم إلى فوق وقفَزَ إلى الظلام تنفيذًا لإشارة ديدال.
عاد المشاهدون مشيًا على الأقدام في الاتجاه المعاكِس لحركة الرصيف. سنحَت لهم الفرصة لرؤية كل الأقسام مرةً أخرى، والتي تحولَت بدون المؤدين إلى أعمال الإبداع البصري الخالص، أي إنستاليشن مادي معبِّر.
(١١-٩) Plug-and-Play وعروض النوادي الأخرى
وقَفَ رجلان ملتحيان مرتديان القبعة في الجزء من فضاء النادي المخصَّص لبرفورمانس. كان وجهاهما ملوَّنَين وكأنهما مهرِّجان، ودخَّنا السجائر. أمسكا أكواب النبيذ في أيديهما. وضعا المسحوق الأبيض في النبيذ، وقاما بخلطه باللمبة الكهربائية المضيئة أولًا ثم بالملاعق. قرعا كأسَيهما وشربا واحتضَنَ كلٌّ منهما الآخَر. «شخطا» عود الولاعة بكتفيهما وأكمامهما، ثم انفصلا أحدهما عن الآخَر ودارا مرفْرِفَين بالأيدي المشتعلة وكأنها الأجنحة. وفي أثناء القفز ألقَيا بالأكياس البلاستيكية المعلَّقة على الخيوط إلى الأرض، وأخرجا منها الليمون للكوكتيل.
بدأ الرسم، أو استكملا الرسمَ بمعنًى أصحَّ، وذلك بواسطة الطباشير على السطح الأسْوَد للباب الخلفي (إنها «صورُ الرسَّام بريشته» بأسلوبٍ بدائي مبالَغ فيه، بالإضافة إلى موتيفاتٍ بصرية أخرى من الرسم والمسرح الخاص بهما: السمكة والقناع وزجاجة ضخمة عليها ملصق «فارغ» … إلخ). بعد مرور بعض الوقت انفصلا. واصَلَ سيمتشينكو الرسم. بدأ إيسايف تجاربه الغذائية والخيميائية على المائدة التي عليها موقدٌ كهربائي، وكتاب مفتوح ذو شمعٍ في أركانه.
تمهيدًا لطبخ الغذاء، أيْ شيِّ اللحم، قام إيسايف بمجموعةٍ من الأكشن التمهيدية. صَعدَ إلى الكرسيِّ ورفَعَ ساقه إلى غطاء المائدة، وقَطعَ جزءًا من نعالِ الأحذية الواحد ثم الآخَر بواسطة سكينٍ طويل. وضع الأوراق إلى المائدة. رشَّ عليها رملًا من الكيس المعلَّق على صدره. أخذ كتابًا آخر وفتَحَه، عرض الصفحات على المشاهدين وعليها قِطَع الزبدة. أشعَلَ الشمع على الكتاب الأول، ووضع المِشواة على الموقد الكهربائي. اقتطع الزبدة من صفحات الكتاب الثاني. رشَّ الدقيق إلى صفحات الكتاب الأول عبْرَ المصفاة ليُطفئ بذلك الشمع. صَعدَ إلى الكرسي مجدَّدًا، ووضَعَ ساقه بجانب الكتاب حيث الزبدة، ورفَعَ بنطلونه قليلًا. قطَّعَ الطماطم المثبتة على قدمه ليسيل العصير الأحمر إلى الصفحات الزبدية. بدأ تجهيز الكفتة. دقَّ بالمنشاب على صدره، إذ كان اللحم مثبتًا على الجسم تحت الجاكتة. وضعه في الدقيق على صفحات الكتاب الأول، وعصير الطماطم على الكتاب الثاني، ووضعه على المشواة المثيرة للضجيج.
بعد نهاية هذا الجزء من الأكشن، انتقل إلى مائدةٍ أخرى عليها فرن حديدي مدوَّر. فتح الباب. أخرج الطوب الساخن بواسطة السلك. وضع الكَسَرُولة على الطوب الذي يصدُر عنه الدخان. قام بكسر بيض الدجاج بأن أطلق رصاصةً من مسدسه إلى كل بيضة ووضعها في الكَسَرُولة. قام ﺑ «طلقة التأكُّد» الأخيرة بداخل الكَسَرُولة. ثم أسال زجاجتَين من الجعة. وضع البوفتيك المشوي على صفحات الكتاب الزبدية. وضَعَ ما أخرجه من الفرن المشتعل إلى الحلَّة المغلية. أسال اللبن من زجاجاتِ تغذية الأطفال المربوطة على صدره. أسال الدهون المغليَّة من المشواة. أخَذَ قطعةَ بوفتيك أخرى من الكتاب وأعطاه إلى «دي جي» الذي كان طوال هذه الفترة يقوم بتلاعباتٍ ماهرة بالأجهزة الموسيقية، ليخلق بذلك خلفيةَ الإيقاع الصوتي الديناميكي لأكشن قام المؤدون به.
تبادَلَ المؤدون الأماكن. استكمَلَ إيسايف رسم المجموعة التشكيلية. اتجه سيمتشينكو إلى المائدة حيث قام بمجموعة من الأكشن الخاصة به. داس على القبعة بقدمَيه وألقى بها إلى حوض السمك. أخرج منه زجاجة بلاستيك للمياه المعدنية سعتها لتران. ثم خلَعَ الجاكتة ووضعها إلى المائدة بطانتها إلى الأعلى، ووضع الزجاجة وضربها بالسكين عدةَ مرَّات بقوة. سالت المياه في اتجاهاتٍ مختلفة. شرب السوائل المتبقية ووضَعَ الزجاجة المشروخة إلى داخل الجاكتة، ووضَعَ «الشيء المادي» إلى داخل حوض السمك.
ثم بدأ الأكشن بأربعة كراسي استخدمها لطهوِ «وجبة غذاء» على بنطلونه. وضع الدقيق على مقعدِ أحد الكراسي بعد أن وضع على المقعد الثاني طبَقًا به زيت عبَّاد الشمس، وأسال على المقعد الثالث عصيرَ فواكه معلبًا، ووضَعَ على المقعد الرابع تورتة بها شموع مشتعِلة. جلس إلى كلِّ كرسي بالتتابُع (إلى العصير أولًا، ثم إلى الدقيق، ثم الزيت، وأخيرًا التورتة بالشمع). ونتيجةً لذلك تكوَّنَت «مجموعةُ وجبات» معبِّرة على البنطلون، إلا أنها كانت غيرَ قابلةٍ للأكل.
ثم ارتدى الخشبة المقسَّمة على صدره، ووضَعَ عليها كفَّ يده اليسرى المغطاة بالقماش الأسْوَد حتى ظهرَت أصابعه المنشورة. دقَّ المسامير بينها. بعد الانتهاء من التعذيب الذاتي، شدَّ يده «المطروقة» ليُبقي غطاءها الأسود فقط على الخشبة. خلع الصِّدار وارتدى قميصًا أبيض وربطةَ عنق. وضَعَ شريطًا شفافًا تحت ربطة عنق، ثم وضع رنجة إلى ربطة عنق ووضعها مع القميص إلى حلَّة بها سوائل إيسايف المغليَّة. أخرجها بعد لحظةٍ ولفَّها بورقٍ مفضَّض ووضعها داخل الفرن. بدأ عملية «طهو» متشابِهة بالصِّدار الذي لفَّه ووضعه في برطمان النبيذ الأحمر، يسع لثلاثة لترات. خلع الحذاء ووضعه فوق المائدة (بعد طقوس النار)، وقام بإعدامها الشعائري بواسطة الفأس الصغير في منصة الإعدام هذه. البنطلون هو الزيُّ الأخير الذي تعرض لعملية «الطهو»؛ إذْ ألقى به إلى حوض السَّمَك ثم خرج من هناك وأخذ حمَّامًا بواسطة المياه السائلة من زجاجة اللبن الضخمة.
ارتدى الملابس الجافة ثم حلَّ سيمتشينكو محلَّ إيسايف بصفته رسَّامًا، وانتقل الأخير إلى يمين خشبة المسرح، حيث أنزل الشاشة شبه الشفَّافة الأُولى، ثم الثانية الأكثرَ عَرضًا. ظهرَت على الشاشة لقطاتُ مَشاهد أفلامِ «الرقص» بالمسرح الهندسي الروسي.
قام سيمتشينكو أيضًا بالأكشن باللمبات الكهربائية. تدلَّت خمس لمبات مضيئة على الخشبة وكأنها شخصيات «عرضٍ» لعرائس ما (أو بمعنًى أصح العرض الذي تقوم به الأشياء المادية). لفَّ سيمتشينكو إحدى اللمبات بالورق وربطها بالحبل والأربطة. غطَّى الأخرى بالحبر الأسود السائل من فمه. أسال الكحول على الثالثة وأشعلها. دقَّ المسمار في الرابعة. وضَعَ نصف الزجاجة البلاستيك على الخامسة، وأشعل النيران بداخلها.
اختلفَت هذه العمليات الغذائية والخيميائية في كل العروض، وأُضيفت إليها عملياتٌ جديدة، كما سبق أن أشرنا. ومثال ذلك: الاشتعال الذاتي للكتب عند فتحها، أو نزول المياه من الكتب. لنذكُر هنا لعبةَ نزول المايونيز من مقدمة الحذاء المقطوع، أو قطع الجَزر في الكَسَرُولة، المبالَغ فيه بسخرية، والذي كان مثبَّتًا على رأس إيسايف، والشحم بين قدَمي المؤدي الذي خلَعَ البنطلون. في أحد العروض، وضع سيمتشينكو نفسه البرطمانَ الطبي على الجبهة، وفي العرض الآخر كُتِب بواسطة الأصابع المشتعلة، أو اشتعَلَ من تلقاء نفسه، أو انفجرَت كلُّ الأشياء المادية الكائنة على المائدة: علبة الجعة، والشمعة المشتعلة، والفطيرة، والتفاحة، والبرتقالة.
في نهاية العرض، اقترح إيسايف وسيمتشينكو على المشاهِدين أن يجرِّبوا ما أعدَّاه في أثناء البرفورمانس؛ إذ اقترحَا لَحْس اللمبة المسكرة، أو تناول المشروب المؤلف بطريقةٍ خيميائية من أكواب بلاستيك قاما بوضعها في الخواتم في نهايات العصي الطويلة ومداها إلى مَن يرغب. كان هناك عددٌ كافٍ من الراغبين؛ لأنه على الرغم من غرابة العمليات التي قام بها المؤدون، فإنها كانت مثيرةً للثقة والرغبة في المشاركة في لُعبتهم المسلية.
ومن أجل برفورمانس الطهو المسائي الكبير؛ وضَعَ إيسايف وسيمتشينكو مائدةً طويلة بجوار منصات «البار الخيميائي». جلَسَ سبعة أشخاص إلى جانبٍ منها (الممثلون الشبَّان: ستُّ فتيات، وشابٌّ واحد)، هم «ضيوف» المائدة، وفي بعض اللحظات مساعِدو فناني المسرح الهندسي الروسي والأشياء المادية للأكشن. وعلى الجانب الآخَر من المائدة، جلَسَ المشاهِدون على المقاعد. كان بإمكانهم أيضًا أن يشعروا بأنهم «ضيوف» هذه «المأدبة»، ولكنهم لم يشاركوا فيها بصورةٍ مباشرة، بل تابعوها.
يتلخص البرفورمانس في أن اثنَين من الطباخين، وهما إيسايف وسيمتشينكو، عملا وراء منصة البار الخيميائي، أعدَّا مأكولات مختلفة على كل مستويات الهيكل. حمل الضيوف «الممثلون» هذه المأكولات وقاموا بتوزيعها وترتيبها ووضعها في أطباق الزملاء الجالسين حول المائدة. هكذا تكوَّن «الموضوع» من سلسلةٍ من الأعمال، التي تمَّ إعدادها كالعادة بذكاء ومبالغات وتسلية.
في بداية العرض، رأى المشاهدون ستَّ فتيات وشابًّا واحدًا يجلسون حول المائدة. طبقٌ فارغ أمام كلِّ واحد منهم. أبعد قليلًا، المنصة الطويلة ﻟ «البار الخيميائي»، وراءها أصحاب «البار الخيميائي»: إيسايف، وسيمتشينكو. قاما بتلاوةِ نَص التعليق بالروسية والإنجليزية والألمانية. صبَّ إيسايف في الكُئوس والأكواب والفناجين والأوعية الأخرى النبيذ. شربها سيمتشينكو واحدة تلوَ الأخرى، وهو يسكبها على صدره.
استُدعيت «الضيفة الأولى» من المائدة. تمَّ اصطحابها إلى المستوى الثاني. ضُربَت المائدة بالحبال ووُضع الكرسي عليها لتجلس الضيفة عليه، وقاما ﺑ «غسل» ساقَيها باللبن من الزجاجة. ثم وضَعَا الفتاة إلى الخشبة، وأخرجا المنشار؛ قطَعَا الخشبة قطعةً قطعة لتسقط إلى الحوض بصوت عالٍ. رفعا الحوض إلى مستوى صدر الفتاة لتسقط منه قِطَع الخبز الذي أمسكاه بالطُّول أمام وجه «الضيفة» مع الخشبة، وكأنه «قناع» خاص بها. عند نهاية الأكشن، هبطت «الضيفة» بالحوض إلى المائدة، حيث قامت بترتيب قِطَع الخبز بجانب أطباق زملائها.
وفي ذلك الحين، استدعى «الطبَّاخان» «الضيفةَ الثانية»، واصطحباها إلى ما وراء منصة البار، وجعلاها تضرب الكستليتة. صعد سيمتشينكو إلى قمة الهيكل حيث ألقى بالبيض والدقيق والتوابل والملح إلى قطع اللحم من ارتفاعِ عشرة أمتار. وقف إيسايف ومعه الكسترولة على بُرج آخَر، ووضَعَ الكفتة بها. كان سيمتشينكو يقوم بإرسال الكفتة إليه بواسطة الخشبة على الحبل. عند استواء اللحم، حملَته «الضيفة» إلى المائدة ووضعَته في الأطباق.
مهمَّة المساعدة الثالثة ﻟ «الطباخين» تتمثَّل في صيد الزجاجات الطائرة من منصة البار الخلفية إلى الأمامية؛ نتيجةً لضربات الخشبات المُتأرجِحة. لعبة السيرك لا علاقةَ مباشرة لها بعملية الطبيخ على ما يبدو. إلا أنها تتناسب تمامًا مع أسلوب التهريج وتصرفات «الطباخين». قام سيمتشينكو بلعبة الزجاجات الطائرة. وإيسايف لم يضيِّع وقته، بل واصَلَ طهو الوجبة التالية وراء المنصة الأمامية؛ قطَعَ شيئًا وبشَرَه بالمِبشرة وعصره وملأ الوعاء الزجاجي. حملَت «الضيفة» ما طبخه إلى المائدة؛ إلى زملائها.
المساعِد الرابع «للطباخين» هو شاب، أمسك أرجُل الكرسي على يدَيه المرفوعتَين. سقطت إلى المائدة عناصرُ السَّلَطة التي قطَّعها إيسايف فوق البُرج. الخيار الطويل هو آخِر ما قطَّعَه عندما أمسَكَه بين ساقَيه. ثم نزل ووضَعَ الطبق تحت المائدة حيث قام بجمع مزيج الخضراوات، وهو نتيجة للطهو بهذه الطريقة المبتكَرة بدون لمسات «الطبَّاخ». حمَلَ «الضيف» السَّلَطة إلى مائدة المأدبة ووضعها في الأطباق.
ثم استُدعيَت فتاةٌ مرتدية فستانًا لبنيًّا وقبعةً مستديرة محبوكة. عمل سيمتشينكو معها وارتدَت بمساعدته المريلة، وأجلسها على غطاء المائدة. خلعت القبعة المستديرة، وارتدت خوذةً حديدية للحماية. أعطاها الزجاجة وطلب صبَّ النبيذ في الكوب، حيث وضع نهايات المريلة التي شدَّتها أمامها. قامت بتلاوةِ قصيدة أطفال عن رجُلٍ سكران باللغة الروسية (هي المرة الوحيدة على مدى البرفورمانس التي تحدَّثت فيها «الضيفة»)، وقامت بصيد التفاح الذي كان يسقط بسبب أنَّ المشاهِدين قاموا بناءً على أمرٍ من المؤدِّين بشدِّ الحبال التي كان التفاح مثبتًا عليها.
شاركَت «الضيفة» السادسة في طهي «الحساء» أو «الكوكتيل»، وهي تُسهم في الوقت نفسه في أكشن آخَر يصعُب شرحه؛ السقوط المتكرِّر لصندوقٍ خشبي خالٍ، من ارتفاع عالٍ، إلى المائدة؛ أو تأرجُح الصفائح الحديدية فوق المنصة. ثم ملأت الأطباق به، بواسطة ملعقةٍ كبيرة. وأخيرًا، قامت «الضيفة» السابعة والأخيرة بصعود السُّلَّم إلى قمَّة الهيكل، وفي هذه الأثناء سمحَت لأحد «الطبَّاخين» بخروج السُّكَّر من الكِيس المثبَّت على ظَهْرها بعد قَطْعه. هبطَت من ارتفاع عالٍ معلقةٌ على حبل السيرك وسط صفحات الصحف. وصلَت إلى الأرض ومرَّت بمائدةِ المأدبة، وملأت الأطباق ووزعَت المناديل الورقية وحلَّت مكانها.
لم يبقَ سوى توزيع كُئوس النبيذ، وقام «الطبَّاخان» بذلك، ثم انضمَّا إلى «الضيوف» حول المائدة. انتهى البرفورمانس بذلك. ثم جرَت المأدبة التي جمعَت المؤدِّين والمشاهدين، مما يتناسب مع رُوح وجوهر وتقاليد مهرجان براغ، وهو الاحتفال الدولي الضخم للفن المسرحي من كلِّ بلاد العالَم.
اتخذَت خشبة المسرح المجهزة للعرض الشكلَ التالي: جهاز التحكم عن بُعد وآلات النقر الخاصة بدي جي على يسار المنصة القصيرة. مجموعة من الأكياس البلاستيك المملوءة والفارغة تحت المنصة. على اليمين مكان لسيمتشينكو؛ مائدتان إحداهما بجانب الأخرى وعليهما أشياء مادية مختلفة (البرَّادات وعُلب المايونيز والغلَّاية والشمعة) مخصَّصة لعملياته وحِيَله وأفعاله. رأى المشاهدون ما قام به المؤدي على شاشة خاصة، حيث تمَّ إسقاط اللقطات الكبيرة لمَا حدث على المائدة.
وسط الفضاء وعمقه حيث كانت ثماني لفافاتٍ من ورق التواليت معلَّقة، تم تسليمهما لتصبح تحت تصرُّف إيسايف.
بدأ البرفورمانس بأنْ أجرى مشغل الدي جي اتصالًا هاتفيًّا طويلًا بشخصٍ ما بجانب جهاز التحكم عن بُعد. ثم تلخصَت مهمَّته في توفير الخلفية الموسيقية والإيقاعية لأعمال إيسايف وسيمتشينكو، إلا أنها تضمنَت الخروج لعدَّة مرَّات بالميكروفون إلى الأمام، وتلاوة «رباعيات الوعظ الاثنتي عَشْرة» ﻟ أ. س. بوشكين. طُبعَت الرباعيات على الكروت. استهلَّ سيمتشينكو الأكشن الخاص به باستخدامها؛ إذْ وضعها أمام الكشَّاف، ليتم إسقاط النص المكتوب على الشاشة. حملَت هذه الموازنات اللفظية الشفاهية معنًى متناجيًا، وأُدرجَت في بناء العرض دون أن تحمل معنًى دلاليًّا، وبدرجة ما كانت قِطعًا بصرية، مثل الأشياء المادية والأساليب التي وظَّفها المؤدون.
في البداية، جلس سيمتشينكو إلى ضفَّة «البحيرة» التي مثَّلتها المرأة المدورة الراقدة على المائدة، والعروسة التي انعكسَت في المرآة، لتصبح بذلك أول لقطة تظهر على الشاشة؛ ثم لقطة الخرقة البيضاء، التي وضَعَ سيمتشينكو عبوةَ «لبن أوستانكينسكي» عليها، ثم لعبة الإنسان الآلي المتحرك على المائدة، والقبعة المملوءة بالشمع، وشخصان عرائسيان، ومنبه ضربه المؤدي وكسَرَه. بعد إسقاط جُمَل نَص الكارت التالي إلى الشاشة، رأى المشاهدون المياه المغلية في برطمان زجاجي كبير وضع سيمتشينكو فيه مسحوقًا، وملأه بالدهانات الزرقاء والبنيَّة. لقطة نص «النبوءة الصادقة» («سأل الأسد الحمار: «هل ستنتهي علَّتي؟»/ردَّ الحمار: أيها الملك الأقوى في العالَم! عندما ستموت ستبقى على قيد الحياة كما كنت.» اثنان في اثنَين تساوي أربعة) استهلَّ أكشن سيمتشينكو الجالس على الكرسي. قام باستعراض ربطة على ساقه مكتوب عليها «على قيد الحياة»، وعند سَحْبها كان يمكن أن تقرأ كلمة «ستموت» على الساق. رفع القميص، وكان مكتوبًا على البطن «صديق – عدو»، وعلى اليد «حمار – أسد». بعد الانتهاء من «فن الكتابة على الجسم» واصلوا الحِيَل في الفضاء الصغير من المائدة. أشعل الشموع التي انطفأت في الكوب الزجاجي بعد تلاوة وإسقاطِ نَص «الانتقام» («لسع النخل جبهة الدبِّ/رغب أن ينتقم ممَّن اعتدى على الخلايا/ ماذا بعدُ؟ توفيَت نفسها إذْ فقدَت الزبان/ما مصير مَن يرغب في الانتقام؟ إنه التابوت»). وضَعَ المايونيز والدقيق والكاتشب إلى صفحات الكتاب المفتوح، وقطَعَ وكرمش الصفحات وألقى بها إلى المكعب الزجاجي، ودقَّ المسامير الضخمة في الصفحتَين التاليتَين. ابتعَدَ عن المائدة لبعض الوقت؛ حتى يساعد إيسايف الذي انشغل بملء الأكياس البلاستيك الفارغة بالورق. بعد العودة إلى «المعمل»، أصبح سيمتشينكو مجددًا «مشغلًا» خالقًا ﻟ «عالَم صغير». رتَّب الشخوص العرائسية على المائدة، ووضَعَ الأصغر منها في برطمانات. قطَعَ الأكياس البلاستيك المملوءة بالتربة والمعلَّقة على الحبل لتتساقط التربة على أقدام الشخوص. وفي الختام، أسقط العرائس واحدة تلوَ الأخرى إلى المائدة، وأبعَدَ عُلَب المايونيز ووضَعَ الكارت التالي: «القوة والضعف» («النسر يضرب الصقر والصقر يضرب الإوزَّ/تخاف الأسماك من التمساح/يموت النمر على يد الذئب ويأكل القط الفئران. القوة تتفوق دائمًا على الضَّعف»). جلس إلى الكرسي. والآن رأي المشاهدون وجْهَه ذا الأنف الأحمر ككرة المهرِّج المصنوع من غطاءِ زجاجةِ «كوكا كولا». رأسه مربوط بالحبال. تتأرجح الخيوط المثبتة على الشفتَين وإطار النظَّارة. شفاه سوداء على الجبهة. كارت «القشَّة» أمام الكشَّاف، وبالتالي على الشاشة («أحبَّت القشة القفز منذ صغرها/وحتى عندما كبرَت ما زالت تقفز عبْرَ الإطار/ما النتيجة؟ كسر الساقين/أيها الشاعر! حافظْ على نفسك في الشيخوخة»). وضَعَ سيمتشينكو الورقة الزرقاء على وجهه. قطَعَ بأسنانه الثقوب لعينَيه في الورقة، ووضَعَ فوقها طبقةً من الورق الأبيض. ظهَرَ نَص بطاقة «المصير المشترك» على الشاشة («كانت هناك زهرةٌ جميلة وسط الجودار/نمَت في الربيع وازدهرَت في الصيف/وفي نهاية المطاف ذبلَت في أيام الخريف الغائمة/إنه مصير الكائنات الحية!»). اللقطات الأخيرة والموضوع البصري الأخير ﻟ «العالم الصغير» هو عيون الدجاج: عين واحدة في الكأس، والأخرى على المائدة، وكسَرَ المؤدي الثالثة في الكأس، ووضَعَ الرابعة فوق التفاحة وقشَّرها، ثم قطَعَ العين والتفاحة ودهَنَ الجوهر الأبيض باللون الأحمر.
وفي ذلك الحين، عمل إيسايف في «العالَم الكبير» من فضاء خشبة المسرح. وضَعَ الكوب تحت كيسِ البلاستيك الكبير المملوء بالسوائل؛ أملًا في أن يملأه بشيء. نظرًا إلى عدم تحقيق النتيجة، أخرج الورود البيضاء الملفوفة في الصحيفة، وبدأ مسْحَ الأرض بها؛ حتى تدهورَت الباقة تمامًا وتحوَّلَت إلى سيقان خاليةٍ من الزهور. ثم شدَّ خطوط ورقِ التواليت إلى الأرض من اللفافات الطويلة الثماني المعلَّقة فوق خشبة المسرح. قام بجمع نهاياتها في شكل كرة. وضعها في حوض السمك الزجاجي أعمق وأعمق حتى امتلأ الحوض بكامله بالورق. تغيَّر لون المياه إلى البنفسجي. ثم شدَّ قِطَع القماش الخمس بواسطة أسنانه من تحت الأرض في الجزء الأمامي من خشبة المسرح إلى الداخل، ورقص وسطها. قام بلعبته الأخرى الخاصة؛ إذْ مال فوق حوض السَّمَك وقطَعَ أجزاء «اللسان» الأحمر الخارج من فمه جزءًا بعد جزء، وذلك بواسطة السكين. ثم خفق الرغوة في المياه بواسطة إطار خشبي ونفخ فقاقيع الصابون. قبيل نهاية العرض، رسم مجموعةً تجريدية على الشاشة الشفَّافة، وهو يقف وراءها. ساعَدَه سيمتشينكو في الرسم بعد أن ترك «عالَمَه الصغير». انتهى البرفورمانس بأنَّ المؤدين الثلاثة استهلُّوا الأكشن الأخير بإسقاط نَص «المشاجرة بدون ضرر» («اختلفَت الكلاب بسبب العظم/ولكنها هدأت بعد المشاجرة/واتجهَت إلى منازلها/إذن هناك مشاجرات بدون ضرب»)، وألقَوا بعضهم إلى بعضهم وإلى الجمهور بالأكياس المملوءة بالورق. على الشاشة لقطةٌ تتضمَّن نص البطاقة الثانية عشرة «قانون الطبيعة» («رائحة البنفسج في الهواء/كان الذئب عنيفًا وسط الشعب المتنزه/كان متعطشًا إلى الدماء، والبنفسج لطيفًا/كلُّ واحد له طبيعته الخاصة»).
(١١-١٠) «الزفاف المبتلُّ»
بدأ العرض بأنْ قام إيسايف وسيمتشينكو بمجموعة من الأكشن تمهيدًا لخروج الممثلين إلى خشبة المسرح، وضربَا الأرض بالسوط. كما ضربا المائدة التي عليها الزجاجات، والأكواب التي يصدُر عنها دخان العطور الشرقية. بعد «تقديس» خشبة المسرح والأشياء المادية، بدأ الممثلون الاستعدادات للأحداث. قاد إيسايف شيئًا ماديًّا متحركًا على العصا الطويلة في شكل طرطورٍ ورقي يبلغ طوله ثلاثة أمتار. وعند رفْع الطرطور، ظهرَت العروس بالداخل مرتديةً ملابسَ يوميةً متواضعة؛ الفستان الأسْوَد، وقبعة مستديرة. أخذها إيسايف إلى كابينة بدون جدران ومغلقة بالزجاج من الأمام. لم يظهر وجه الممثلة؛ إذْ كان الزجاج مدهونًا بالدهانات البيضاء. ركز المشاهدون على يدَيها وحركاتها. قامت بإعداد «الإنستاليشن» من قِطَع القماش و«غسَلَتها» في الجردل ومسحَتها وعلَّقَتها على الحبل لتمتدَّ عبْر خشبة المسرح، وتلتفَّ حول العجلة المحرِّكة للحبل، وتعود إلى الكابينة. ثم مسحَت العروس قِطَع الزجاج وظهرَت كاملة. وفي هذا الوقت، قام إيسايف بممارسة «السِّحر» حولها؛ ليقرب الكبريت المشتعل من وجهها. أطفأ النار بواسطة الزجاج. نفَخَ «التلك» إليه عبْر الغليون الأسْوَد. ألقى بالرمل إلى كفَّي العروسة الممتدتَين، لتترك الكابينة وتتَّجه إلى العريس الذي قام سيمتشينكو بتجهيزه.
كلُّ ما عمل معه سيمتشينكو جرى بالتوازي مع أكشن إيسايف إزاء العروسة. ظهَرَ العريس فجأةً من صندوقٍ كبير مغطًّى بأوراق الشجر والقشرة الجافة. أسال سيمتشينكو عليها النبيذ واللبن. بدأت أوراق الشجر تتحرك، ليُخرِج الحبلُ العروسَ العاريَ منها، وعليه ارتداء الضلوع. كان العريس مائلًا ومعلَّقًا على أعقابه، وحليق الرأس، محركًا يدَيه. تحرَّكَ في محاولةِ الوصول إلى وضعِ الوقوف. بعد صعودِ الكوبري، أمسَكَ سيمتشينكو حزام العريس وشدَّه إلى أعلى ووضعه على قدمَيه. بعد التخلص من الحبل، حاوَلَ العريس الفرار من «مشغِّله»، ولكنَّه أمسكه مجددًا وعاد به. وضعه تحت «الدشِّ» الذي سقطت منه النشارة والفاصوليا والأرز وحبوب البنِّ بدلًا من المياه. استكمل العريس الاغتسال في الحوض؛ إذْ ألقى سيمتشينكو بالنشارة على ظَهْره ورأسه وكتفَيه ورقبته ويدَيه، وأزال النشارة بواسطة أعمدة من الدخان الأبيض. ارتدى العريس البدلةَ السوداء فوق جسده العاري. وضَعَ سيمتشينكو الرمل في كفَّي العريس بعد أن قدَّم له النبيذ، ثم أخذه إلى أسفل خشبة المسرح.
حمل العريس والعروس الرملَ في أيديهما ودارا حول الفضاء المسرحي ببطء في اتجاهاتٍ مختلفة دون أن يلتقيا. احتلَّا موضعَ المواجَهة؛ هو على اليسار، وهي على اليمين. ألقَيا بالنشارة والرمل على الكتب. وضَعَ المشغلان في أيديهما العصيَّ، التي كانت مربوطةً بنهايات الحبل الطويل. هذا الحبل الممتدُّ عبْرَ كامل خشبة المسرح؛ ربَطَ بين العريس والعروس المبتعدَين أحدهما عن الآخَر في الأكشن المشترك الأول لهما (يطلق عليه «التوقيع على عَقْد الزواج»). تلخَّص الأكشن في تمثيل ميزانسين شخصَين عرائسيَّين بواسطة مد ورفع وهبوطِ الحبل الذي يجمع بينهما. حافظَت المرأة على التوازن على الحبل برشاقة. وقَفَ الرجُل تحته على الأرض. كان مصنوعًا من صندوق السجائر، وكان يستوعب كإنسانٍ آلي ذي ساقَين مائلَين قليلًا ورأسٍ مربَّع. هبط الإنسان الآلي على رُكبتَيه. سحَبَ الرأس إلى الداخل. افتتح الضُّلَف. ظهرَت العيون المضيئة بداخل الصندوق. توازُن المرأة ودورانها كان نتيجةً لتحرُّك الحبل بمعرفة العريس والعروس بصورةٍ غير متعمَّدة على ما يبدو؛ إذْ إنهما قاما في الوقت نفسه بأكشنَ آخَر بواسطة العصي، وهو خلطُ محتوى الأوعية الواقفة أمامهما.
وفي ذلك الحين، استعدَّ المشغلان للحدث الخاص بأهمِّ قطعةٍ في العرض، وهي حوضٌ مربَّع كبير مملوء بالمياه. قاما بسحبِ قِطَع القماش من سطح المياه واحدةً تلوَ الأخرى، ووضعاها إلى البلانشيت على يسار الحوض وعلى يمينه وأمامه، ورفعا قطعة القماش الأكبر إلى أعلى. بعد نهاية هذا الإجراء، اقتربا من العريس والعروسة. وضعا تفاحةً خضراء أمام كلٍّ منهما، ليضرباها بمطرقةٍ خشبية بقوة. ثم اتجه المؤدون الأربعة (الممثلان والمشغلان) إلى الحوض. وقَفُوا في الأركان. أسقطوا أوعيةَ المياه إلى الحوض. أخذوا المكانس والجواريف، وتحركوا حول الجوانب، وهم يقومون ﺑ «مسح» سطح المياه بصورةٍ شعائرية. وفي الوقت نفسه، جرَت أربعة من أكشن من تلقاء نفسها على جوانب الحوض، وذلك بدون مشاركة المؤدِّين، بل فقط بواسطة الأشياء المادية والأساليب، وشكَّلَت مقاعد الكراسي الأربعة مقاعدَ لها. على أحد الكراسي، هبطت كرةٌ معدنية إلى حوض المياه ببطء، لتصعد وتهبط مجددًا، وسالت المياه منه كلَّ مرةٍ صَعدَ فيها. كتاب مفتوح على كرسي آخَر، به مسامير دخلَت الصفحات نتيجةً لضربات المطرقة التي تسقط من فوق. فستان الزفاف على الكرسي الثالث؛ كرمش الفستان وتمَّ الضغط عليه في المقعد عدةَ مرَّات، بواسطة ماكينة طرد الأتربة التي كانت تسقط عليه. وأخيرًا الكرسي الرابع؛ منشار المعادن في وضعٍ طولي يقطع شيئًا ماديًّا تحرَّك من الأعلى إلى الأسفل. ارتبطَت القطع الأربع بالحبال المثبت بها أدواتُ الحفر الخاصة بالمؤدين.
جلس العريس والعروس القرفصاء على ضفَّتي البركة، ووجَّه كلٌّ منهما إلى الآخَر «سفينة صغيرة» بها صندوق السَّمَك. تحرَّكَت «السفينة الصغيرة» بين العريس والعروس في الاتجاهَين. كان ذلك — في الواقع — الحوار العاطفي الوحيد بينهما على مدى العرض، قدِّم بشكل تشكيلي وإيقاعي. ثم بدأت المرحلة الدرامية للعلاقات والمواقف، وجرَت في وسط الحوض، حيث وضع إيسايف وسيمتشينكو مباشرةً مائدةً بالزجاجات في المياه، وأنزلا فوقها صورةَ المكعَّب الخشبي الكبير. ومنذ هذه اللحظة حتى النهاية، أحاط المكعب بفضاء وجود العريس والعروس وكل ما قاما به من الأكشن فيما بعد. والآن، اتجه كلُّ واحد منهما إلى المائدة ومعه الكرسي الخاص به. كأس النبيذ على كل مقعد. أمالا الكرسيَّين حتى يشربا النبيذ.
اختفى فضاء المكعَّب في الدخان الأبيض لبعض الوقت. وحين انقشع الدخان، ظهَرَ العريس والعروس أمام المشاهدين جالسَين أحدهما أمام الآخَر، وهما ينظران كلٌّ منهما إلى الآخَر بتركيز. ثم قاما بصورةٍ مفاجئة، وتحركا حول المائدة، وتبادلا مكانَيهما ونظرا مجددًا كلٌّ منهما إلى الآخَر. كتب العريس على المائدة الكلمات الموجَّهة إلى العروس بواسطة الطباشير. ألقى بالطباشير إلى المياه عندما وصلَت الجملة إلى حافة المائدة. قامت العروس برشِّ الكلمات المكتوبة بالدقيق، وقام العريس برشِّها بالرمل. أسقطَت العروس زجاجة النبيذ الأحمر ليسيل إلى حافة المائدة حيث جلس العريس. ملأ الكأس وشَربَ ودخَّن. ألقى بالكبريت المشتعِل إلى المائدة. اشتعلَت النيران. خلعَت العروس الجاكتة التي سبق لها أن لبسَتها فوق فستان الزفاف، ووضعَته في المياه وبدأت ضربَ النيران بقوة. سقَطَ العريس بالكرسي إلى البركة نتيجةً لكلِّ ضربة.
بعد إطفاء النيران، خرجَت العروس من البركة، وجلسَت إلى مائدة أخرى (كائنة بالجزء الداخلي من خشبة المسرح خارج الحوض) وبدأت إعداد العجينة. وفي ذلك الحين، حاوَلَ العريس الفرار، ولكنْ لاحَقَه المشغِّلان وضرَبَا ظَهْره بقطعةٍ مبلولة من القماش، وأسقطاه إلى المياه، وأمسكا يدَيه وساقَيه، وعلى الرغم من المقاومة اليائسة وضَعَاه إلى المائدة. نزَعَا ملابسه ليبقى المايوه فقط. أسقطاه على ظَهْره، ووضعا على صدره صندوقًا يحتوي على سمكة. قطعاها بواسطة منشار المعادن، ثم أخرجا السمكة الباردة من الصندوق ووضعاها إلى صدر العريس العاري. أسال إيسايف الشامبانيا على السمكة. وقد صاحَبَ ذلك عزفُ سيمتشينكو مستخدِمًا الهارمونيكا. ثم ترك المشغِّلان العريس منفردًا؛ ليعيش حالته الراهنة.
وقف العريس على قدمَيه بصعوبة، ولَمسَ كتفه ورقبته ويدَيه ورأسه وصدره بالسمكة الزلقة. بعد الانتهاء من التعذيب الذاتي، قام بقطع السمكة وإخراج محتوياتها. استوعَبَ هذا الحدَثَ كتعبيرٍ عن التعذيب الذاتي الذي يعانيه. أدخَلَ أصابعه إلى البطن المفتوح وأخرج النظَّارة، ولبسها متجاهلًا أمعاء السمكة المعلَّقة عليها. قطَّع السمكة أكثرَ فأكثر، وعثر بداخلها على ورقةٍ مكرمشة، وفتَحَها وقرأها ليلفَّ السمكة بها بعد ذلك.
اقتربَت العروس في هذه اللحظة، وهي تمسك بدلةَ زفافٍ بيضاءَ في يدَيها. ارتداها العريس بمساعدتها ونزل من المائدة. أمسك يدها ليسيرا في نهاية المطاف في توافُق ببطء إلى حافة البِركة، حيث انتظرهما إيسايف رافعًا يدَيه. لم يتبيَّن إذا ما كانت هذه الحركة تدلُّ على الترحيب بالعريس والعروس أم للوصول إلى هيكل المكعب الهابط. كان المكعب الآن يسير وراء شخصيتَي العريس والعروس المتمازِجتَين البيضاوَين عبْرَ خشبة المسرح (قام المشغلان بتغييرِ وضع؛ من ضلعٍ إلى آخَر)، وكأنه فضاؤهما العاطفي. غادَرَ العريس والعروس عبْرَ الفتحة بالداخل، وكان هناك عالَم آخَر وراء هذه الفتحة. «اللقطة» البصرية الوحيدة للعرض: العرائس التي تنوب عن العريس والعروس ظهرَت مضيئةً وسط الظلام السائد على خشبة المسرح، وهما الإنسان الآلي وتمثالٌ صغير نسوي أبيض. المكعَّب الهيكلي ابتعَدَ عنهما ببطء، شأنه في ذلك شأن المكعَّب من خشبة المسرح، إلا أنه عرائسيٌّ وصغير.
(١١-١١) Mr. Carmen
إذا كان إيسايف وسيمتشينكو قد قاما في المقام الأول في العروض السابقة، وخاصة برفورمانس النوادي، بدور المشغِّلَين، ففي عملهما الجديد قاما بدور آخَر؛ إذْ قاما هنا بمهمة الممثِّلَين بدرجةٍ أكبر. إلا أنهما في هذه المرة أيضًا لم يحاولا تمثيل شخصيتَي كارمان وخوزي، بل قاما بالنيابة عنهما بأعمالٍ ما في رُوح جماليات المسرح الهندسي الروسي. ومع ذلك، فإن ما قاما به والأهم هو كيف اتخذ طابعًا دراميًّا فعلًا، ممَّا تطلَّب عطاءً عاطفيًّا وروحيًّا تامًّا من المؤدِّين. قاما بأداء موضوع المواجهات والنزاع الذي لا حلَّ له، والتسوية المأساوية للعلاقات بين الرجُل والمرأة؛ خوزي وكارمن. بُني الموضوع على تنوُّع الأكشن الوحيد الذي قام به بصورةٍ متكررة بالتتابع كلٌّ من المؤدِّين. تلخَّص الأكشن في كتابة الأسماء بطرائقَ مختلفة: كتب سيمتشينكو القائم بدور خوزيه «كارمن»، وكتب إيسايف القائم بدور كارمن «خوزيه». كان ذلك «مصارعة الثيران»، حيث اشتبك الاسمان في المواجَهة. جرَت كتابة الأسماء بتوتُّر متزايد.
المكان الضيق في وسط الفضاء المسرحي هو أول ما رآه المشاهدون بعد دخولهم القاعة. جلس شخصان ملتحيان مرتديان القبعة السوداء على كراسيَّ قصيرة بلا مَسْند. كانت قبعة سيمتشينكو — خوزيه — ذات جوانب مسطحة، وقبعة إيسايف — كارمن — ذات جوانب موجَّهة إلى الأعلى. رأساهما وأكتافهما فقط كانت واضحة، لأنَّ الجسم والأقدام كانت مغطَّاة بجدارٍ عليه صورةُ أقدام الرجُل والمرأة (في رُوح من أسلوب الرسم البدائي لمؤسِّسي المسرح الهندسي الروسي).
المراوح هي فقط التي أشارت إلى الأصول «الإسبانية» للشخصيتَين؛ حيث — من حين إلى آخَر — كان يقوم إيسايف وسيمتشينكو بتهوية أنفُسِهما. نظَرَ سيمتشينكو إلى المشاهدين الداخلين والجالسين إلى مقاعدهم عبْرَ نظَّارة مكبِّرة. تأمل إيسايف في الصور. ومن بين المشاهدين والصور، قام باختيار «الشخصيات» المحتمَلة للعرض، والتي يمكنها أن تحمل أسماء أبطال العرض، وفي لحظةٍ ما قاما من الكرسي، ووضعا شمعتَين عاليتَين مشتعلتَين إلى ضلع الجدار، ورفعاه وحملاه إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح. فتحا الجوانب ووضعاها بين الأجزاء الأخرى من الجدار؛ ليمتد نتيجةً لذلك على كامل عرض خشبة المسرح. تكوَّن ما يُشبه الملعب أو الحلبة؛ ومدَّا الحبل حولها. وضَعَا هناك الشخصَين العرائسيَّين لخوزيه وكارمن على بُعد أحدهما عن الآخَر. وفي أثناء العرض، وبالتزامن مع «مصارعة الثيران»، سيمتشينكو (خوزيه) وإيسايف (كارمن)، تحرك الشخصان حول الحلبة إلى الأمام وعلى الجانب وإلى الوراء وإلى الأمام مجددًا، وهكذا بلا نهاية، وكأنهما يطارد كلٌّ منهما الآخَر.
بدأ خوزيه (سيمتشينكو) «مصارعة الثيران». كان يدور في شِبه الظلام، وكتب أحرف كلمة «كارمن» على الأرض بواسطة دُمية الموت. ظهرَت الكلمة نتيجةً لتسليط الضوء عليها. ثم أُلقي ضوء الأشعة إلى إيسايف الجالس بجانب الجدار. كان يتصفح الكتاب، وهو يضع العصا في فنجان القهوة وكأنه محبرة، وكتَبَ كلمة «كارمن»، ووضع خطًّا تحت «خوزيه». قام سيمتشينكو (خوزيه) بقطْعِ هذه الصفحات. جمع إيسايف (كارمن) هذه القطع المقطوعة وهزَّها في علبةٍ خاصة، وأخرجها منها على الخيط. تشكلَت مجددًا كلمة «خوزيه».
سُمع صوت ضربات المطرقة من الحافة اليمنى لخشبة المسرح؛ إذْ كان إيسايف يصنع الشيء المادي لإنستاليشن: أدخل المسامير الطويلة في خشبةٍ عليها صورة المرأة ولفَّها بالخيط الأحمر بطريقةٍ تجسِّد نفس الكلمة «خوزيه».
كان سيمتشينكو يقوم بتجسيد حركة شخصيته على الجدار بواسطة ساقَي الجندي العرائسي. انضمَّ إليه إيسايف وحرَّك ساقَي المرأة. ثم أصبحَت علاقتهما أكثرَ هزلًا. اقتربَت ساقه من ساقها، وتبادَلَا الأماكن، وتأرجَحا وابتعدا أحدهما عن الآخَر ثم اقتربا مجددًا. أخذ سيمتشينكو (خوزيه) ساق المرأة. قطع بأسنانه كعبَ الحذاء وملأ حذاء الجندي من ساق المرأة وكأنه زجاجة، وحمله إلى إيسايف (كارمن) وأعطاه اللانشون على العصا. استمرَّ التحرك العاطفي لساقَي الرجُل والمرأة على الجدار في وِفاق وعلامات الحميمية إلى أن ألقى إيسايف بحذائه وبدأ بكلِّ قواه في النفخ في لعبة الغليون. ازدادت قوة الأصوات العالية. لم يصدرها البوقُ الآن، بل أتَت من كل مكان؛ من الأعلى ومن الجانبَين، وحتى نفخ إيسايف من الزجاجة. تحوَّلَت إلى إشارة مجموعةٍ من الجنود الجُدد، وتبادَلَت بقرع الطبل الذي خرَجَ سيمتشينكو برفقته إلى وسط خشبة المسرح. رفرَفَ بعلمَين من اللون الأبيض وكأنه يعمل إشارات المراكب، وكتَبَ في الهواء: «كارمن». استُوعِبَت الكلمة هنا كإشارةٍ يائسة للأمل الأخير لمَن مصيره الموت: «أنقذوا أرواحنا.» وعند هبوط العلمَين إلى الأسفل، «غرزَت» مقابضهما في الصدر والبطن.
رقد إيسايف إلى «الأحرف» المبلولة ومسحها، وهو يزحف، ويتأرجح، ويدور؛ ونتيجةً لهذه الحركات تحوَّلَت كلمة «كارمن» في لحظةٍ ما إلى «خوزيه»، لتختفي عندما جفَّت الأرض.
ردُّ فعل خوزيه (سيمتشينكو) اليائس كان حاسمًا وعنيفًا؛ رسَمَ القلب بالطباشير الأحمر على السبورة السوداء، وضرَبَه بالخنجر وخربَشَ «كارمن»، التي سرعان ما أصبحَت موضوعَ هجوم إيسايف. وضرَبَ صورة القلب بالخنجر أيضًا. ثم سحَبَ الخشبة من يدَي سيمتشينكو وقطعها بمنشار المعادن. ضرَبَ بالخنجر مجددًا وقطع بالمنشار مجددًا. سقطَت النشارة من الأعلى لتكتب كلمة «خوزيه» لآخِر مرة على الأرض.
جلس سيمتشينكو بجانب الجدار؛ ليكتب «كارمن» للمرة الأخيرة أيضًا. عصَرَ برتقالة في كوب، وابتلَّ القلم، وبدأ كتابةَ الأحرُف. سقَطَ القلم من يدَيه وبدأ يتحرك بصورةٍ خيالية على الورقة بسرعةٍ متزايدة. ولم يبقَ له سوى أن يتابع في دهشةٍ «رقصته».
جاءت اللحظة التي الْتقى فيها إيسايف وسيمتشينكو في الفضاء المسرحي للمرة الثانية، وذلك بعد فاصلِ العواطف. ولكنْ على خلاف التوافق العاطفي للِّقاء السابق، كانت تلك مواجهةً لا من أجل الحياة؛ بل الموت. دارا على خشبة المسرح مهدِّدَين أحدهما الآخَر بالسكين، وهما يتبادلان الأماكن، وهما على الاستعداد للضربات الحاسمة حتى الموت دون أن يقوما بها. ثم ابتعد كلٌّ منهما عن الآخَر وأنهيَا الموضوعات الدرامية الشخصية بمفردهما بالمونولوجات التشكيلية عن اليأس وخيبة الأمل.
أولًا: العرض الشخصي النهائي لإيسايف (كارمن). جلس في وسط الجدار. حاوَلَ الكتابة بلا نتيجة؛ إذْ لم يتحرك القلم على الورقة. خلَعَ القبعة (لأول مرة في أثناء العرض)، ليظهر رأسه المدهون باللون الأحمر الساطع. أخرَجَ حلقةَ الغجر من العلبة وثبَّتها على أذنه. وضَعَ أحمر الشفاه وهو ينظُر في المرآة. وهكذا أعطى لوجهه الملتحي ملامحَ البطلة التي يمثِّلها، إلا أنها في هذه المرة، كانت كلُّ هذه الأعمال خالية من نصيبها من السخرية في كل لحظات العرض، وعلى العكس، اتسمَت بقضاءٍ درامي محتوم. وضَعَ الوردة الحمراء إلى الورقة وقطَعَ البرعمة إلى أجزاءٍ صغيرة، وحوَّل الزهرة إلى «تبغ» (أي قام بالعملية الشبيهة لمَا كانت تقوم به البطلة يوميًّا في المصنع، حسب ميريميه). لفَّ السيجارة ودخَّن. سعل لمدَّةٍ طويلة بسبب دخان «التبغ» المصنوع من أوراق الوردة. انسكبَت الدموع من عيون الغجرية الملتحية بسبب السعال، أو لسبب آخَر أهمَّ من ذلك.
حان دور المونولوج الختامي لسيمتشينكو (خوزيه). وقف في وسط خشبة المسرح، وأمسك نهاية الحبل الممتد من الخنجر في الجدار الأيمن بحدَّة إلى الخارج. أدخَلَ الخاتم في الحبل، وبدأ الخاتم في الحركة من تلقاءِ نفسه في اتجاه موسَى الخنجر. اقترب منه وأدخل نفسه عليه، ثم بدأ الخنجر «وعليه الخاتم» في الحركة على الحبل إلى وسط خشبة المسرح في اتجاه سيمتشينكو (خوزيه). دخل بصورةٍ عابرة في قلبه، ثم واصَلَ الحركة إلى اليمين برفقة الشريط الأحمر للدم المأخوذ من الصدر.
Al Gran Sole Carico D’amore. Milano, 1974. P. 53.
إن هذا المسرح هو الذي يفحص أعماق النفس واتساعها بطريقةٍ لم نكن نراها من قبل. إنه مسرح ما بعد سوريالي، ما بعد دادي، ما بعد حداثي، ما بعد ارتجالي، ما بعد الكلام. إنَّ مسرح AXE يصنع صورًا متحركة صامتة. لا أعرف كيف أعبِّر أكثرَ من هذا …» تاتيانا جاكوفسكايا، الباليه اللاكلاسيكي، والمسرح اللادرامي. مجلة المسرح البطرسبورجي، ۲۰۰۱م، العدد رقم ٢٦، ص۸۷ و۸۹.
في بطاقةٍ مطبوعة خصوصًا لدعوة المشاهِدين إلى هذا البرفورمانس «المنتدى» (الذي عُرض في موسكو في الخامس من مارس ٢٠٠٤م في نادي «مشروع OGE»، والسادس من مارس في نادي برستسكايا)، قام إيسايف وسيمتشينكو بإحصاء كلِّ الأشياء التي يمكن رؤيتها، وكلِّ ما استُخدم في عروض الأكشن. يستحقُّ هذا الحساب أن نورده هنا كاملًا، ليس فقط لأنه يكشف «المطبخ» الفني لمسرح AXE؛ وإنما لأنه يعكس بشكلٍ متميز جماليات هذا المسرح والوسائل التعبيرية الخاصة به. وهكذا كانت العناصر المكونة للعرض المقدَّم على النحو التالي: «ممثلان من بطرسبورج، مشغل أسطوانات DJ، مائدتان، مقعدان، لتر جواش أبيض، نصف لتر جواش أسود، طائرة ملوَّنة، ٢٥ لمبة بنيَّة من ٦٠ إلى ١٠٠ وات، أربع بطاريات AA، لتر لبن، ٠٫٧ لتر نبيذ أحمر، فودكا، موزتان، خمس تفاحات، كيلوجرام ليمون، ثلاث بصلات، قطعة سجق، ۳۰۰ جرام شحم، كعكة، برطمان مايونيز، كيلوجرام سكر، سمكة مدخنة، ثلاثة كيلوجرامات من الثلج، خمسة كيلوجرامات فلفل بلغاري، كرياج طوله ٥ أمتار، سير شاحن، مِطرقة، ركاب، خمسة أكواب، تليفزيون، ۲۰ بروجيكتور، جهازا CD، لوحة ﻟﻠ DJ، Sub-bass، سمَّاعات، طقم طبول». بالطبع، فإن هذه القائمة يمكن تنويعها عند تقديم كلِّ عرض من عروض البرفورمانس في بعض التفاصيل، بعضها يُغيَّر، وبعضها الآخَر يضاف، وذلك تبعًا لمَا يستجدُّ من أفكار، والحقيقة أنَّ أفكار هؤلاء الفنَّانين هي مَعينٌ لا ينضب.