الفصل الرابع

في روسيا

السينوجرافيا المؤثِّرة
بدأت منذ النصف الثاني من الستينيات عمليةُ التغيير الجوهري في بناء العرض المسرحي في روسيا، مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب، والذي فتح إمكانية الخروج في المستقبل إلى شكلٍ خاص من أشكال الإبداع المسرحي، وهو مسرح الفنان. وكان السينوجرافيون هم الذين حدَّدوا على نحوٍ كبير سياق هذه العملية. ومع أنَّ أحدًا منهم لم يخطُ الخطوةَ التالية لمسرح الفنان المؤلَّف الخاص بهم، خلافًا لزملائهم الألمان، فإنَّ النماذج السينوجرافية الكثيرة التي وضعوها للمسرحيات الدرامية والموسيقية يمكن اعتبارها عناصرَ شاعرية للبناء الإبداعي في هذا المسرح.١

إن ما يعنينا في البحوث السينوجرافية هنا هو التعبير عن الاتجاه العام، الذي يتلخَّص في تغيير طابعِ العمل في مسرح الفنان؛ فقد حلَّت السينوجرافيا المؤثِّرة محلَّ فنِّ الديكور (الذي كان سائدًا في مسرح العصر الحديث، والذي تناوَلَ مهمَّة رسمِ مكان الحدَث، بوسائلَ مختلفة، عن طريق تصميم الفضاء المسرحي بأساليبَ وطرائق متنوعة). وقد تناولَت هذه البحوث السينوجرافية مهمةَ صياغةِ الحدَثِ نفسه عن طريق تصميم الفضاء الخاص به، بما فيه من مكوناتٍ مادية وجمالية وغيرها، ومن بين هذه المكونات تشغل النماذج السينوجرافية مكانةً مهمة، وهي النماذج التي تعمل باعتبارها شخصياتٍ بصرية لها دورها المهمُّ في العمل المسرحي. في هذا السياق، فإن السينوجرافيا المؤثرة تستوعب بشكلٍ تام الوظائفَ والنُّظم السابقة لفنِّ الديكور وللسينوجرافيا التمثيلية لمختلف أشكال المسرح، وكذلك سينوجرافيا العروض الفولكلورية الطقسية-الشعائرية. وبالنسبة إلى الحدث الذي يقوم المخرِج ببنائه، فإنَّ تخطيط ديكور المكان، وكذلك السينوجرافيا التمثيلية أو الشخصيات البصرية المستقلة تمثِّل جميعها أمورًا مهمة جدًّا في تركيباتها وتكويناتها الممكنة كافة. في هذا المجال، فإن السينوجرافيا المؤثِّرة، كانت تتفق ومبدأ بريشت بشأن «تفكيك العناصر»، مع أنَّ الفنانين الرُّوس استندوا بالدرجة الأُولى إلى خبرتهم المحلية، أي إلى فكرة التوظيف الملائم، التي قدَّمها للمسرح مايرخولد والإنشائيون من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، إلى الاكتشافات السينوجرافية الغنية بتنوُّعها، والتي أنجزها فنانو المسرحيات لمخرِجي المسرح الروس الكبار في بداية القرن العشرين، بدءًا من ق. ستانيسلافسكي، وف. نيميروفيتش-دانتشينكو وصولًا إلى أ. تايروف، وي. فاختناجوف.

لنتذكرْ هنا فقط بعضًا من النماذج السينوجرافية التي وُضعت باعتبارها شخصياتٍ بصرية مستقلة في العرض المسرحي، والتي حددت إلى حدٍّ كبير طابعَ هذا العرض وإيقاعه وتشكيله وشكله ومضمونه. وكان من أكثر الذين عملوا في هذا الاتجاه على نحوٍ مثابر ومثمر د. بورفوسكي، ود. ليدير، وأ. شاينتسيس.

(١) دافيد بوروفسكي

منذ أعماله الأُولى في المسرح راح بوروفسكي (بدأ هذا الفنان في تصميم الأعمال المسرحية في النصف الثاني من الخمسينيات) يعالج المهمة التي اعتبرها المهمةَ الرئيسية بالنسبة إليه، وهي أن يعبِّر بصورةٍ مرئية باستخدام أدوات السينوجرافيا، عن الجوهر الأساسي وإشكالية المسرحية والظروف الجذرية للصراع الدرامي الكامن بداخلها. والمثال الدالُّ على ذلك هو مسرحية «دكتور شتوكمان» لإبسن، والتي أخرجها في عام ١٩٦٨م على خشبة مسرح موسكو للدراما (مسرح ستانيسلافسكي) قبل انتقالها إلى مسرح تاجانكا. يظهر أمام المشاهدين تكوينٌ من قبَّعاتٍ سوداء وصفحات صحفٍ مفتوحة، بصفتها شخصية صامتة، وإن كانت شخصيةً سينوجرافية جوهرية تمامًا. يشغل هذا التكوين سطح الجدار الخلفي، ثم ينتقل نحو الأبواب ليصبح نموذجًا «لقراء الصُّحف»، «ملتهمي الفراغ» الذي يمثلون «الرأي العام»، المعادي للبطل. في النهاية، وبعدما يقوم البلل باختياره الأخلاقي الصعب، يميل جدار القبَّعات والصحف بشكلٍ منذر بالخطر نحوه، ويدفعه نحو المنطقة الضيقة في مقدمة المسرح.

إن فهْمَ النموذج السينوجرافي، بوصفه شخصية بصرية مستقلة للعرض المسرحي الذي يجسد جزئيًّا أهمَّ الموتيفات الجذرية والغنية بالمضمون في هذا العرض، أصبح هو الأساس الذي قام عليه التعاون بين بوروفسكي ويوري لوبيموف في المسرحيات التي قدَّمها مسرح تاجانكا، وكذلك في العروض التي أنجزاها في الخارج.

افتتح البندول القوطي في مسرحية «ساعة الذروة» لستانيسلافسكي (١٩٦٩م) سلسلةَ هذا النوع من النماذج التي عُرضت على خشبة مسرح تاجانكا. وقد جسَّد هذا البندول موتيفة الزمن. عند حلول ساعة الذروة، كان هذا البطل أو ذاك، من أبطال المسرحية يقف عند البندول، يتأرجح معه، في إيقاعه الفردي وفي اتجاهه؛ مندفعًا معه أو متحركًا ببطء، وهو يشقُّ الفضاء بالعرض، من اليسار إلى اليمين، أو مفتوحًا إلى الخلف، كما لو كان يعود إلى الماضي، ثم يندفع مرةً أخرى بشكلٍ أقوى نحو الحافة الأمامية لخشبة المسرح، بل أبعد منها، إلى الأمام، أعلى الصفوف الأُولى للمشاهدين.

وفي مسرحية «والفجر هنا هادئ» من إخراج ب. فاسيليف، جرى بناءُ مجموعة نُوَت العرض المسرحي (البارتيتورا) بإعادةِ صياغةِ شكلِ شنطةِ سيارةٍ عسكرية. يهبط من «السماء» جنودُ الإنزال الفاشيست فيحطمونها إلى أجزاء، وترتفع جوانبها الخشبية في وضع رأسي، وتتحول إلى غابة، وفي الخاتمة تتخذ هذه الألواح شكل اللوحات التذكارية. تدور الألواح وقد الْتصقت بها شخوص بطلاتٍ ميتة، وعندما تختفي الفتيات تستكمل الألواح الخشبية الرقصة الحزينة.

بعد مرور ثلاثةِ أعوامٍ، قام بوروفسكي بتطوير الموتيفات التشكيلية للمعالجة السينوجرافية؛ قام فيها بتطوير العمل المشترك الأول مع لوبيموف في المسرح الموسيقي وتحويله إلى عرض أوبرا «تحت شمس حُبٍّ عنيف» للموسيقار الإيطالي لويدجي نونو، أُخرجت على خشبة مسرح «لاسكالا» (١٩٧٤م) في ميلانو بإيطاليا. بدأت المسرحية بمشهد «سهوب الموت» وفيه تظهر نساءٌ في ملابسَ سوداء رُحنَ يبحثنَ عن أبناءٍ وأزواج وإخوة وسط أعضاء الكوميونة الذين أُعدموا رميًا بالرصاص، الراقدين على دروعٍ خشبية، ترتفع الدروع بعد ذلك، ومعها أعضاء الكوميونة، في وضعٍ رأسي ليملئوا كلَّ الفضاء المسرحي وكأنهم يجسِّدون بذلك المجاز الذي يقول: «إن الشهداء قد بُعثوا.» وفي سياق العرض، تهبط الدروع مع جوقة أعضاء الكوميونة بطرائق مختلفة، فيقومون بشكلٍ جماعي أو فردي بالاستدارة والتجمُّع والتشتُّت، وينتقلون من مكانٍ إلى مكان بحيث يخلقون صورةً عامة «لأمواجٍ» ضخمة للحركات الثورية، التي يدور بشأنها الحديث في موضوع الأوبرا، وفي الوقت نفسه تدرك هذه الصورة بوصفها اقتراحًا إنشائيًّا إلى لغة السينوجرافيا بواسطة عمل بناء جرافيكي للغة ل. نونو الموسيقية، بناء نموذجي سينوجرافي في تفكيره، وفي النهاية، لطريقته الخاصة في رسم «دياجراما» على الورق للإيقاعات ومزج للألحان Counterpoint.

وفي عرض «هاملت» لشكسبير الذي قدِّم على مسرح تاجانكا (۱۹۷۱م)، أصبحت الستارة المحبوكة المصنوعة من الصوف الشخصية السينوجرافية، وهي تعدُّ نموذجًا للانحلال والسقوط والهباء؛ الأمر الذي يعبِّر عن جوهر الظروف الأساسية للتراجيديا، ألَا وهو: «شيء ما فاسد في مملكة الدانمارك.» وفي الوقت نفسه، تكتسب الستارة، في سياق العرض المسرحي، معنًى مجازيًّا مجسِّدًا للخلود وللزمن والكونية. عندما راح اللون الأرضي لهذا البنيان يتحرك للمرة الأولى ببطء في اتجاه منتصف الخشبة مجتاحًا أمامه أيَّ شخص يعترض سبيله؛ كان هذا الأمر أحد أقوى الصدمات في هذه المسرحية، في حين راحت الستارة بعد ذلك تتحرك بشكلٍ فعَّال في إيقاعاتٍ واتجاهات مختلفة مشاركة في العرض، فتارةً تواجه الشخصيات، وتارةً تتابعهم دون رحمة وتعرقلهم من أقدامهم، وفي النهاية تضع خاتمةً لهذه القصة التراجيدية، فتخلي خشبة المسرح من الشخصيات التي تنهي المأساة، بعد ذلك تتحرك ببطء قاطعةً الفضاء الخالي، كأنها تقلب صفحةً من صفحات الوجود البشري.

وفي المسرحية التالية التي قدَّمها بوروفسكي على خشبة مسرح تاجانكا، بعنوان «تحت قشرة تمثال الحرية» للشاعر يفجيني يفتوشنكو (۱۹۷۲م)، يستخدم المخرِج جدارًا من الصُّلب بوصفه موضوعًا لأداء الممثلين، وفي الوقت نفسه يؤدي هذا الجدار دورَ شخصية سينوجرافية ذات مغزًى مجازي مستقل. يدفع هذا الجدار نحو مقدمة المسرح ليحاصر الممثلين في مساحة ضيقة في هذا المكان، مجسِّدًا نموذجًا لقوة لا تُقهر، مواجِهًا أبطال العرض من الطلبة الأمريكيين المتظاهرين والمتمردين. الشعارات التي كتبها المعادون للحرب وغيرهم من المتظاهرين غارقةٌ بالحبر واللون الأحمر وملطَّخة بالدم. الجدار يَصْفر ويُصلصِل كردِّ فعلٍ عندما يدقُّ الأبطال فوقه بأيديهم وأقدامهم ورءوسهم وكلِّ أجسادهم من اليأس والغضب. وعندما يصطدمون به يبدو العرض المسرحي وكأنه انفجر في احتجاجٍ هادر. وهنا تلتصق بالجدار (باستخدام مغناطيس) الأدوات المسرحية واللافتات وصورٌ من المجلات وقصاصات من الصُّحُف، ويزحف فوقه في إعياءٍ بالِغ المتظاهرون الذين قفزوا فوقه، ولا تثبت فوق سطحه الرأسي سوى شخصيةِ المسيح، وعلى نحوٍ بديع.

وفي مسرحيته عن بوشكين المسمَّاة «أيها الرفيق، آمِن!» (۱۹۷۳م)، كانت عربة القيصر الذهبية تقف على الخشبة بقوةٍ وثبات، وفي مواجَهتها خيمةٌ سوداء متنقِّلة يعيش الشاعر فيها حياته الحرة، وقد ثبتَت بسيور إلى سرج الحصان، في حين راحت تتأرجح بحُريَّة في الفضاء، وكلتاهما تمثلان شخوصًا سينوجرافية متعددة المعاني. وفي مسرحية «الجياد الخشبية» (١٩٧٤م) عبَّرَت الشخصيات السينوجرافية فيها عن جوهر إشكالية النثر الذي كتبه ف. أبراموف. أدوات مسحاة (شوكة تسوية الأرض) أُحضرَت من الحقول، وضعها بوروفسكي في وضعٍ رأسي مخالِف لوضعها الطبيعي وقد رُفعَت «على أطرافها»، مجسِّدة انتزاع الكادحين من الفلاحين عن أرضهم، مهدِّدة بأسنانها الحديدية مَن يقف في مواجهتها.

جدارٌ آخَر زجاجي مغطًّى بترابٍ عتيق وسِناج، متَّسخ ومكسور، أحضره بوروفسكي لاستخدامه في مسرحية «منزل على الكورنيش» (١٩٨٠م)، وقد جرى استيعاب هذا الجدار بوصفه مجازًا ملموسًا لحياة الناس أيام القهر الستاليني. حياة غامضة، تحركها قوًى غامضة ومواقفُ مبنيَّة من عمليات اختفاءٍ وظهور، ومن سقوطٍ وارتفاع لا تفسيرَ لها.

وحتى عندما وضَعَ بوروفسكي — كما يبدو — مكانًا محدَّدًا للعرض، كان هذا المكان نموذجًا لأهمية الشخصية، وتجسيدًا لجوهر الظروف الدرامية التي كان على الأبطال أن يتخذوا بشأنها قرارًا حاسمًا؛ وهكذا فإن العرض المكوَّن من صفَّين من مقاعدِ طائرة ترتفع وتهبط بالتناوب بالنسبة إلى محور المدخل، قد أصبح مجازًا مرئيًّا وفاعلًا بالنسبة إلى «مؤرجحي» المصائر الإنسانية في عمل ج. باكلانوف، ويو. لوبيموف «اربطوا الأحزمة» (١٩٧٥م). وفي مسرحية «مُفترَق الطُّرق» لفاسيلي بيكوف (۱۹۷۷م)، طبقات خشبية لطُرق الفدائيين، صليب فوق صليب، الواحد فوق الآخَر فوق حفرةٍ ضخمة سوداء لا قرارَ لها لقبرِ أحد الإخوة، نموذج بدائي لطريق، مُفترَق طُرق يمثِّل تجسيدًا للظروف الدرامية التي عاش فيها أبطال القصص الحربية لبيكوف. وفي مسرحية «التبادُل»، المأخوذة عن أحد أعمال يوري تريفونوف (١٩٧٦م)، يعبِّر البناء الفني عن الوضع الدرامي للانتقال الاضطراري للبطلة التي تحتضر، وذلك من خلال أشياءَ عميقةِ الخصوصية، ومن الحياة الحميمية لامرأةٍ عجوز، نجِدُ هذه الأشياء تُعرض ليشاهدها الجميع وهي ملتصِقةٌ بإعلاناتٍ لا نهايةَ لها، كُتِب عليها «للبدل» أو «للبيع». وفي مسرحية «الجريمة والعقاب» المأخوذة عن رواية فيودور دستويفسكي (۱۹۷۹م)، نجِدُ تجسيدًا مرئيًّا للجريمة التي ارتُكبت بواسطة إنستاليشن (إنشاء) لجزءٍ من غرفة العجوز المُرابية، نفِّذ بشكلٍ يتجاوز الواقع؛ ولجُثَّتَين غطِّيَتا على عجلٍ بأوراق الصحف؛ هذا الإنستاليشن يظلُّ موجودًا على امتداد المسرحية كلها عند الباب الأيمن، ويراه بشكلٍ دائم كلٌّ من الجمهور وراسكولنيكوف. وهو بمثابة «الحجة» الواضحة والدامغة التي تحدِّد وجهةَ نظر المسرح.

وقد وضع بوروفسكي نماذجَ الشخصيات ذات المغزى الجوهري المستقل، التي تُضفي الجانب التشكيلي، والإيقاع، والشكل للعرض المسرحي كله، وقد فعل ذلك للعروض الأوبرالية التي كان لوبيموف أيضًا يُخرِجها. وفي مسرحية «بوريس جودونوف» للموسيقار موسورجسكي (۱۹۷۹م) يتمثل النموذج الرائع لصورة «الأيقونة المغنية». تقف شخوص الرهبان السُّود على خلفية لفافات من المدونات التاريخية المختومة، تحيط برسمٍ لأيقونة عذراء فلاديمير وقد أمسكَت بيدَيها بشموع وبصفحات من مخطوطةٍ لبيمن،٢ ويقرأ الرهبان قصةً عن الفترة المضطربة وعن القيصر بوريس. وفي مقطوعة «خوفانشينا» لموسورجسكي (۱۹۸۱م) نجِد تجسيدًا واضحًا للحُكم المطلَق من خلال بناءٍ لخمسة حروفٍ نحاسية ضخمة PYOTR٣ يحركها جنودُ فرقة بريوبريجنيسكي، تخرج ببطء من عمق المسرح لتخلق تداعيًا في الأفكار مع صورة باني روسيا الحديثة. ثم يتحرك كلُّ حرفٍ من الحروف بمفرده ليجسِّد موضوعًا لهذا أو ذاك من المَشاهد. وفي الخاتمة، تتشكل الحروف من جديد في جدارٍ ضخم من الصُّلب، مكوِّنة مرةً أخرى اسم القيصر الرهيب، تشتعل سطوحها ببريقِ مشاعلَ منفصلةٍ ذاتية الاشتعال، في حين تتحوَّل خشبة المسرح إلى جبَّانة من الصلبان السوداء.

(٢) ونييل ليدير

إذا كان بفوروفسكي قد وضَعَ نماذجَ لكلٍّ منها شخصيةٌ ذات معنًى، وذلك لحساب العمل الإخراجي الذي يقوم به لوبيموف (الذي ضمَّن هذه الشخصيات في بناء المسرحية بشكلٍ عضوي)؛ فقَدْ كان على ليدير أن يعِدَّ نوتات (بارتيتورا) للعرض البصري، غير معتمدٍ فيها — في الأغلب — على تحقيق أيِّ تشابه مع المخرِجين الذين كانوا يعملون على مستوًى مغاير تمامًا من الفكر المسرحي. وكانت النتيجة أنَّ ليدير وضَعَ داخل المسرح العادي (والمسرح المبتذل في أحيانٍ كثيرة) الشكلَ الخاص لرؤيته لمسرح الفنان، دون أن يطمح — بأيِّ شكل من الأشكال — في هذا السياق، للخروج عن إطار حِرفته كسينوجرافي، وإنما ليفتح مساحاتٍ وآفاقًا جديدة لإمكانات هذه الحرفة، مفترِضًا في كلِّ مرة مفهومًا إخراجيًّا عامًّا للمسرحية ككلٍّ من ناحية الجانب التشكيلي والإيقاعي والشكلي لها.

في مسرحية «ياروسلاف الحكيم» لكوتشيرجي (۱۹۷۰م)، يمتلئ الفضاء المسرحي بموتيفات من لوحاتٍ من الفسيفساء من كاتدرائية صوفيا، ووفقًا لفكرة ليدير، يقوم فنانون مرمِّمون معاصرون في مقدمة المسرحية بإعادة بِناء هذه الكاتدرائية داخل غاباتٍ معدنية، يبدَءُون بعد ذلك في بِناء مدينةِ كييف القديمة، في ذلك الزمن الذي تقع فيه أحداث المسرحية. يظهر فنُّ التصوير القديم بوصفه تجسيدًا للثقافة القومية التي وُلدَت في خضمِّ الأحداث التاريخية الجامحة، والتي يجب أن تتعرَّض في سياقِ المسرحية لمصيرها التراجيدي، فتنغرز في هذه الصور سِهامُ القبائل التترية، وتبدو عليها البُقَع الصَّدِئة ﻟ «بقايا دم متخثِّر».٤ العيون الكبيرة لشخوص المصلِّين في هذه الصور، تنظُر إلى القاعة وقد امتلأت بالرعب. في الخاتمة، وبعدما ينتهي عرض موضوع المسرحية، وتَخرج مرةً أخرى من الماضي البعيد أحداثُها وأبطالُها، لا يبقى على خشبة المسرح سوى هذا التصوير الرائع الذي يمكن اعتباره الشخصيةَ البصرية الرئيسية للمسرحية.

أمَّا الفكرة البصرية الأساسية في مسرحية «النفَس الثاني» (۱۹۷۲م)، فقَدْ صنَعَها ليدير بواسطة خطوطٍ رأسية قائمة بارتفاع خشبة المسرح، ومغطاة بقِطَع من القماش الأبيض لتمثِّل «الشخوصَ» لنُصبٍ تذكاري للأبطال الذين استُشهدوا في المقاومة ضدَّ الفاشيست، وعندما تسقط هذه الأقمشة في الخاتمة، تظهر بالقرب منها قضبان السكك الحديدية المنزوعة، وبنادق آلية على هيئة صلبان.

وفي مسرحية «ليلة غاب فيها القمر»، من تأليف م. كريم (۱۹۷۲م)، يعاني البطل السينوجرافي الرئيسي حياة درامية صعبة، ويتمثل هذا البطل السينوجرافي في قطعة من الجِلد مصلوبة على أعمدةٍ خشبية تبدو ممزَّقة ومهترئة عند موضع الغَرْز. وتجسِّد هيئتها التشكيلية شدةَ التوتر، وعندما تتغير هذه الهيئة على نحوٍ درامي تصل إلى أعلى حدَّة التوتر. وفي مشهدِ عتمة القمر، يسقط الجِلد فوق الناس الذين أصابهم الذُّعر؛ وهذا الأكشن السينوجرافي، يُدرك بوصفه طوفانًا يجتاح العالَم بأَسْره.

عندما صمَّم ليدير مسرحيةَ «زمن الورقة الصفراء»، من تأليف ن. زارودني (۱۹۷۳م)، حوَّل فراغ المسرح إلى شالٍ أوكراني شعبي مطرَّز، غطَّى به خشبة المسرح اتساعًا وارتفاعًا، من الخشبة إلى الكواليس. هذا الشال الذي يعَدُّ عملًا رائعًا من أعمال الإبداع الشعبي، قدَّمه الفنان برؤيةٍ تأويلية وحشية، حيث أصابَتْه الحروق، وظهرَت الدانتيلا في حالةٍ رثَّة وقد لطَّخَتها قمامةُ بقايا الحضارة الحديثة. لقد عبَّر هذا النموذج بشكلٍ مؤثر عن تدمير الثقافة القومية ليدوي هذا «اللحن» العاطفي القوي على امتداد المسرحية كلها؛ مطوِّرًا موضوعه المؤثِّر في مادة مسرحية «مرحبًا بريبباد»٥ من تأليف ن. ليفادا (١٩٧٤م). أعدَّ ليدير أكشن سينوجرافيا على موضوع الكارثة البيئية ذات الأهمية الكونية؛ في المكان جزيرة بها آخِر حديقةٍ مزهرة محكوم عليها بالدمار من قِبَل مباني المستقبل الضخمة لمحطات القُوى الذرية التي نمَت مخترِقةً طبقات الأرض العارية المجتثَّة، والتي دُقَّت بها الأوتاد والأسياخ المسلحة، هذه الأشياء خلقَت «قرًى» لها «منظرٌ طبيعي» جديد، منظر صناعي ميت. وعلى العكس من ذلك، جاء التجسيد الواضح لموضوع نضال أبطال مسرحية «هذا الصيف الطويل الطويل»، من تأليف ن. زارودني (١٩٧٤م)، فمنْ أجلِ الحياة على أرض محترِقة، ليس بها مياه ظهرَت طيور الغرنوق، هذه الطيور عانت فعلًا دراميًّا خاصًّا، في البداية ظهرَت «رقابها» الطويلة المكسورة، المنكَّسة، المطمورة في التربة، وبعد ذلك راحَت هذه الرقاب تدريجيًّا، وبصعوبةٍ بالغة تعتدل. وفي لحظةٍ ما، نرى سرب الغرانيق الحزين مثلَ صواري سُفن الأمل الوهمية، وفي خاتمة مشهد زفافٍ، تتحوَّل لحديقةٍ شابة مزهرة، وبشكلٍ شعائري تتجمَّل في طقس الزفاف.

أصبحت الشخصية السينوجرافية الرئيسية والموضوع، الذي يكشف على نحوٍ بصري الموتيفات العاطفية لمسرحية «ضوء المساء» من تأليف أ. أربوزوف (١٩٧٥م) عند ليدير؛ هي طَوْفًا خشبيًّا ثقيلًا معلَّقًا فوق خشبة المسرح. كان هذا الطَّوْف يمثِّل نموذجًا لمربط سُفُن، مأوًى، استقرار، للوجود النثري الثابت والراسخ، وفي الوقت نفسه كان يحلِّق في حرية، متجاوِزًا الجاذبية الأرضية، مدعومًا بخيوطٍ دقيقة لبالونات خفيفة تجسِّد البداية الشِّعرية للحياة الإنسانية.

وحتى في تلك الحالات التي كانت المسرحية فيها تتطلب مجرَّد رسمِ مكان الحدث، رسْم شقةٍ صغيرة حديثة عادية على سبيل المثال، كان ليدير يرسمها باعتبارها إنستاليشن غني المضمون يكشف بطريقةٍ بصرية عن إشكالية المسرحية، على هذا النحو رأينا في عرض «زوج وزوجة»، من تأليف م. روشين (١٩٧٦م) كيف جرَى تقديم البناء الفني لموضوعِ Theme «الإصلاح الشامل»، الذي تناوَلَ المخرِج فيه ليس فقط مَسْكن الأبطال، وإنما — وهو الأهمُّ — عالَمهم الروحي، علاقاتهم المتبادَلة ومشاعرهم. أما في مسرحية «بستان الكرز» لأنطون تشيخوف (۱۹۸۰م)، فقَدْ أقام ليدير إنستاليشن في الفضاء المسرحي عبارة عن صفٍّ من القاعات التي تمثِّل ثلاثةَ عصورٍ من سيرة حياة عائلةٍ من أصلٍ نبيل؛ الأولى: في العمق، وهي على الطراز الإمبراطوري. الثانية: على الطراز التوفيقي، من القرن التاسع عشر. الثالثة: في الوسط، على الطراز الحديث بداية القرن العشرين، زمن عرْضِ المسرحية، في مقدمة المسرح «جدران» شفَّافة مخرَّمة تفصل بين هذه الطبقات الثقافية، مجسِّدة نموذجَ بستان الكرز الذي يحيط البيتَ في البداية بزخارفَ زهريةٍ بيضاء كالدانتيلا، أمَّا في الخاتمة، فتُدمَّر هذه الزهورَ الرائعة على صوتِ بلطةٍ ليتحوَّل المكان إلى «ثقوبٍ وثغرات» سوداء تأخذ في الامتلاء الواحدة بعد الأُخرى بظهور أزهارٍ بيضاء عند كلِّ ضربةِ بَلْطة.
وعلى مستوى التعميم الفلسفي العميق، عالج ليدير مسرحية «الملك لير» لوليم شكسبير (۱۹۷۹م)، حيث وضع في عمق المسرح جدارًا ناصعَ البياض مصنوعًا من الحجر الجيري وقد خطَّط وفقًا لقوانين المنظور المباشر بحيث يأخذ في الصغر على نحوٍ تماثلي Symmetrical كلما اتجهنا نحوَ مركز المثلث. ويجسِّد هذا الحائط، في وضع الانطلاق، عالَمَ عصر النهضة المتناسِق. ثم يقع بعد ذلك انهيار لهذا الوهم الذي انعكس باعتباره انهيارًا لهذا المنظور المثالي المباشر، وذلك بواسطة تحريك الأجزاء الأكثر صِغرًا من الجدار إلى الأمام عكس الأجزاء الأكبر، فيكون من نتيجة ذلك استبدال منظور الجدار على نحوٍ معاكِس، أي ضد طبيعة البطل الشكسبيري، ووفقًا لخطة الفنان، فإن بطل المأساة يخرج من هذا العالَم المثالي، وهو يحمل معه جزءًا من الجدار، الذي كان يمثِّل المركز، كما يأخذ هذا الجزء المنتزَع في الجدار شكلَ صندوقٍ صغير (علبة، حُق)، وهو الشيء الوحيد الذي تبقَّى للملك لير من عالَمه الكبير. وقد أصبح الكون بأَسْره الآن بالنسبة إليه حبيسًا داخل العالَم الصغير لهذا الصندوق.٦

وفي السبعينيات توصَّل ليدير إلى عددٍ من الحلول التي عالَجَ بها البناء الفني لحركة ووقفات وإيماءات شخوص الممثلين، أي توصَّل إلى «السينوجرافيا الحيَّة» كما أطلق عليها هو نفسه هذا الاسم.

وفي الرسوم التخطيطية والنموذج المصغر Maquette لمسرحية «ماكبث» تظهر من فتحةٍ ثلاث عشرة ساحرةً لهنَّ أذيال تتغيَّر بشكلٍ دائم، مكوِّنة وسطًا تشكيليًّا بارزًا يمثِّل عالَم الشهوات. وبعد مرور أربعة أعوام، يقوم الفنان في تصميمه لمسرحية «شُرفة تطلُّ على الغابة»، للمؤلف إدفورتيسكي، ليرفع من جديدٍ فوق خشبة المسرح تكوينًا تشكيليًّا يمثِّل بستانًا رائعًا من خلال خطوطٍ رأسية طويلة ممتدة بارتفاع المسرح لملابس فنَّانات يمسكْنَ في أيديهنَّ بفروع الأشجار. وعندما تسقط في خاتمة العرض هذه الملابس؛ تنكشف لنا بالقرب منها أبراجُ استخراج النفط وقد «نمَت» في مكان هذا البستان الجميل.
وفي مسرحية «ما بقي القلبُ نابضًا»، من تأليف د. خرايروفيتسكي (١٩٧٨م)، قاد الفنان «جوقةً» مكوَّنة من ثمانية وأربعين طالبًا من كلية الطب يرتدون بلاطيَّ وأغطية رأس وأقنعة بيضاء، يجلسون بلا حركةٍ على صفِّ مقاعدَ أبيضَ، وقد راحوا يرقُبون عمليةً جراحية في أثناء إجرائها، كما يرقبون تاريخ العلاقات الدرامية بين الأبطال. ووفقًا لخطة ليدير كان من الضروري «أن تتوحَّد هذه الجوقة في حياةٍ واحدة مع كل ما يحدث. كل شيء جرى بناؤه على الانتباه المتزامِن لهؤلاء الناس، وكذلك على ردود أفعالهم الموحَّدة في النهوض والخروج والمغادرة والوصول. فنجدهم يدقُّون بأسطح اللوحات في آنٍ. وتُوقَد اللمبات لتضيء ثم تحترق ببطء … حتى المشاهد الحميمية تحدث في وجود الجميع، يرونها ويسمعونها معًا. يشارك صفُّ المقاعد الأبيض في الحوارات التي يُجريها الأبطال، يستجيب لهم ويشعر بما يحدث». وفي لحظات الذروة، تنظر هذه الشخصية المتعددة ككتلةٍ متجمدة في أماكنها، ساكنة بيضاء وحيدة لا ملامحَ لها (ملتفَّة في ضمادات من الشاش)، وقد أخذ بها التوتر من العملية الجراحية التي أُجريَت، تشعُّ منها مشاعر جماعية تخلق «مجالًا للقوة، التي يدوِّي لحنُ الحياة والأقدار البشرية فيها على نحوٍ رفيع وغاضب».٧

(٣) أوليج شاينتسيس

شاينتسيس هو الوحيد من بين أساتذة السينوجرافيا الذي اعترف المخرِج م. زخاروف بصراحة وبصورةٍ تظاهُرية بدوره المهم في تصميم الرسوم البصرية لمسرح لينكوم وإعدادها. وبناءً على مبادرة زخاروف، وُضعَت كلمة «مخرِج السينوجرافيا» على الإعلانات قبل اسم الفنان بدلًا من الاكتفاء بكلمة «سينوجرافيا». وهو أمرٌ لم يكن شاينتسيس نفْسُه يطمح إليه بأيِّ حالٍ من الأحوال. كان شاينتسيس يعمل قدْرَ استطاعته، ويقدِّم ما يرى أنه ضروري، ولم يفكر قَط أنَّ منهجه في تصميم الموضوع البصري لحياة الفضاء والعرض المسرحيَّين هو في واقع الأمر عملٌ، في جوهره، من أعمال الإخراج. وقد أعدَّ شاينتسيس كثيرًا من الرسوم التخطيطية والمَشاهد، مقترِحًا أن يقدِّم من خلالها ليس فقط أكشن سينوجرافيا؛ وإنما تكوينات تمثيلية إخراجية رمزية أكثر مغزًى وقدرةً تعبيرية. حدَّد شاينتسيس هذه الرسوم التخطيطية المتعددة للمَشاهد (لعلَّ من الدقة أن نسميها تخييلاتٍ حرةً على موضوع المسرحية) لزخاروف، ووضعها تحت تصرُّفه بوصفها تنويعاتٍ ما ممكنة لبناء هذا المشهد أو ذاك في هذا الفضاء الذي صمَّمه.

ظهَرَ تعبيرُ «مخرِج السينوجرافيا» الموضوع على إعلانات مسرح لينكوم في عام ۱۹۹۳م. سبق ذلك عَقد ونصف من التعاون الإبداعي الذي أظهَرَ فيه شاينتسيس عدَّةَ مرَّات أنه كان يستحقُّ أن يحمل هذا الاسم.

منذ العمل الأول مع زخاروف في مسرحية «ألعاب عنيفة»، من تأليف أ. أربوزوف (۱۹۷۹م)، اقترح شاينتسيس، إلى جانب ما اقترحه من المواصفات المكانية المسرحية لشقة في موسكو، بناءَ عجلةٍ ضخمة في النصف الأيسر لخشبة المسرح لونها أحمرُ فاتِح تمثِّل نموذجًا للمضمون القديم لا علاقة لها — كما يبدو — بهذا المكان. هذا الاتجاه الحاد في رسْمِ الخطوط والنزعة الميكانيكية الصريحة في دوران العرض المسرحي بمصاحبة أصواتِ موسيقى إلكترونية هيستيرية؛ أدخل الإحساس بالفزع والضغط على الأعصاب منذ الثانية الأُولى للعرض. في لحظة الذروة، تنتفض العجلة لتحمل أحد أبطال المسرحية إلى خارج العرض. وفي الخاتمة، يحدث تداعٍ للأفكار مع ألعاب حدائق الأبطال، حيث تدور العجلة بمرح، وتُضاء اللمبات بمختلف الألوان. وفي السياق العام للمسرحية، يرمز دوران العجلة إلى التلاعب المستمر والقاسي بالمصائر الإنسانية وبالحياة.

حملَت السينوجرافيا التي ابتكرها شاينتسيس في عروض «يونوتا وافوس» (۱۹۸۱م)، و«التراجيديا المتفائلة» من تأليف ف. فيشينيفسكي (۱۹۸۳م)، معنًى دالًا بالنسبة إلى تشكيل العرض المسرحي الذي بناه زخاروف، وكذلك بالنسبة إلى إيقاعه وشكله. وفي المسرحية الأخيرة، ترتفع وسط الطبقات المطمورة من «الرماد» (المكوَّن من نثار الخشب الأسْوَد) سلَّماتٌ ضخمة من صخورٍ ضخمة من الحجر الجيري، تحمل هذه الصخور آثارًا درامية من البيئة والطوفان، سواء طبيعية أو جاءت نتيجةً لتقلبات التاريخ البشري، تعرضَت السطوح خلالها لعددٍ لا يُحصى من الدمار والتشقُّقات والتفتيت، التي تجمَّدَت فوقها مكوِّنةً نتوءات غير مستوية من بُقَع وطبقات. يتطور موضوع المسرحية في هذا المنظر الميت باعتباره ذكرياتٍ لمأساة وقعَت في زمنٍ سحيق جدًّا. وبالنسبة إلى الفنان، كان من المهم أن تدخُل المفوضة (القوميسيرة) إلى المكان لا في فستانٍ من الجِلد؛ وإنما مرتديةً بلوزةً بيضاء خفيفة وقد اعتمرَت قبعة، وحملَت مِظلَّة من الدانتيل، وحذاءً له كعبٌ عالٍ وفي يدها حقيبة. كانت الشخصيات تظهر من أسفل، من الرماد الأسْوَد، كما لو كانت صاعدةً من الجحيم، أو تتسرب من خلال تشققات الصخور. تميل الصخور تدريجيًّا في اتجاه الشخصيات والمشاهدين، الذين لم يلاحظوا بدءَ حركتها؛ وإنما شعروا فقط في اللاوعي، أن تغييراتٍ ما تحدُث في الفضاء المسرحي. وفي الوقت نفسه، تشتدُّ إضاءة الأسطح البيضاء، وبحلول خاتمة المسرحية تسبح هذه الأسطح في لونٍ لامع، ويشتدُّ بياضها إلى أقصى حدٍّ ممكن، مقتربةً جدًّا من قاعة الجمهور، تبدو وكأنها «أغلقَت» البابَ بالأحجار وهنا تتحوَّل ليس فقط إلى أداةٍ لمنظرٍ كوني؛ وإنما إلى نجومٍ هائلة، وتكتسي شخوص أبطال المسرحية الذين لقوا حتفهم باللون الأبيض (كأنها خاليةٌ من الدم)، وبوجوهٍ غشاها الموت تتجمَّد مثلَ نقوشٍ بارزة منحوتة. يستمر موضوع الذاكرة على يد الفنان خارج حدود الفضاء المسرحي، حيث تتجسَّد في صورٍ فوتوغرافية تسجيلية للبشر الذين عاشوا في ذاك الزمن: بحَّارة وضبَّاط من الحُمر والبيض [الشيوعيين وأنصار الحكم القيصري. (المترجم)] جميعهم معًا، الواحد وراءَ الآخَر في صفٍّ واحد يبدأ من عمق المسرح مارًّا عبْر المسرح كلِّه، خارجًا من باب قاعة الجمهور، ممتدًّا عبْرَ البهو العلوي (تبعًا لفكرة العمل، فإن هذا الصفَّ من الصور ينبغي أن يقابل الجمهورَ أمام مدخل المسرح، وأن يرافقهم حتى الخشبة نفسها ليختفي في جوف الفضاء المسرحي).

إبَّان عمله في إعداد مسرحية «ثلاث فتيات يرتدين ملابسَ زرقاء»، من تأليف ل. بتروشيفسكايا (١٩٨٥م)، أقام شاينتسيس جدارًا «منحوتًا» من عناصر شتَّى (كولاج) باعتباره هو الشخصية السينوجرافية المؤثرة الرئيسية، والذي كان يمثِّل — في جانبه الأيمن — مجرد أداة عادية، وإن كان على نحوٍ جزئي، تصور العالَم بما فيه من الحياة المشوَّهة المشتركة التي تعيشها البطلات، في حين يبدو في جانبه الأيسر كما لو كان قَدْ فقَدَ سُمكه وأصبح رقيقًا، ليتحول بعد ذلك إلى شيءٍ غير واقعي، تمامًا كما لو كان سرابًا، لوحة مستلهمة من موتيفات الرسَّام بوريسوف-موساتوف، وتجسِّد موضوعًا لماضٍ لا رجعة له. وفي لحظاتِ التذكر يُضاء هذا المسطح الجميل، وتظهر خلفه رؤًى خاطفة لشخوصٍ نسوية باهتة وصامتة، ترتدي ملابسَ باللونَين الأبيض والأزرق، أو وجوه غابرة. كان من الضروري بالنسبة إلى شاينتسيس أن تبقى الأشباح الأثيرية للذين رحلوا إلى العدم بشكلٍ دائم على نحوٍ عاطفي، نقيضًا للحنين إلى العالَم الواقعي لوجود البطلات، فضلًا عن الإحساس بجوِّ حياتهنَّ البعيدة وهوائها. كان هذا المشهد يبدو في المسرحية كما لو كان موضوعًا مستقلًّا تمامًا، يدوي بشكلٍ متوازٍ مع ما يدور في الجانب الصيفي الأيمن لخشبة المسرح. وفي الخاتمة فقط، عندما تتحرك الخشبة، تنكسر المنطقة السرابية في فضاء المسرح وتنشقُّ لتصبح هي مكانَ العرض؛ تدخل البطلة إلى مكانٍ أخَذَ شكلَ «ممرٍّ فضائي» رأسي. وفي سينوجرافيا المسرحية، يُبنى بناء «منصة إعدام» بشكلٍ طبيعي مع خطٍّ متعرِّج تراجيدي وفضاء مسرحي تطهيري.٨

وإذا كان الأكشن السينوجرافي في مسرحية «ثلاث فتيات يرتدينَ ملابسَ زرقاء» هو الذي انتهَت به المسرحية؛ فإنَّ عرضَ «لكلِّ جوادٍ كَبْوة» لأستروفسكي (۱۹۸۹م) — على عكس ذلك — يبدأ من الأكشن السينوجرافي؛ فقد كان أولُ ما شاهَدَ الجمهور ستارةً مرسومًا عليها موتيفاتٌ لموسكو القديمة. أمَّا عملية رفْعِ الستارة، فقَدْ أعدَّها الفنان بوصفها مشهدًا مستقلًّا تمامًا يمثِّل النفاذ إلى عالَم المسرحية. وبصعوبةٍ بالغة، متخطية مقاوَمة القوى المجهولة، تنفصل الستارة عن الأرض، وترتفع ببطءٍ كما لو كانت تصعد بلا رغبة، وعندما تصل إلى أعلى نقطة يتمزَّق طرَفُها وينشقُّ وينفتح فضاءُ ضياءٍ على جلوموف مغلَقٍ تمامًا بجدارٍ حديدي أسْوَد مرتفع. وفي الوسط، يُسمع صوت فحيح فرن، وكلما نظَرَ جلوموف أكثر إلى النار الشيطانية المغوية، ازداد خياله قوةً ليظهر ويمتدُّ نحوَه العالَم الطمَّاع الموجود وراء الجدار الحديدي. يدقُّ جلوموف في يأسٍ بالِغ هذا الجدار بيدَيه وقدمَيه، جاثمًا عليه بجسده؛ يستسلم الجدار ويستدير محدثًا صريرًا، ويرجع إلى الوراء ببطءٍ إلى اليسار، ليشقَّ عمق الفضاء المسرحي كلَّه، والمكوَّن من مسطحات من المرايا. يتَّجه جلوموف إلى حيث يجلس سادة العالَم خلف مائدةٍ بيضاوية يتناولون عليها الطعام. وكعلامةٍ بصرية على الثراء الفاحش لهذا العالَم، يمتلئ فضاءُ المسرح بثريَّات ذاتِ شموعٍ كثيرة فاخرة، تهبط من أعلى، تتلألأ هذه الثريات بشلَّالات من الدلَّايات البِلَّوْرية لتشكل شخصياتٍ سينوجرافية مستقلَّة، تعمل على امتداد العرض التالي كلِّه. وهذه الثريَّات تؤدي أدوارًا مختلفة، فتنتقل من مكانٍ إلى آخَر، أو تتجمع أو يقدِّم كل منها دورًا منفصلًا، فتارةً تمثل دور نجوم السماء البِلَّوْرية في (الليل)، وتارةً تتجمع على هيئة تنورةٍ ضخمة على هيئة جرسٍ يغلِّف الثريات بداخله نحو مامايف. وفي الخاتمة، وإبَّان الاجتماع الأخير على المائدة، يخلع جلوموف، الذي بلَغَ به الإعياء الحدَّ الأقصى بعد «الضيافة»، يخلع ملابسه بعد أنْ لم يعُد بمقدوره تحمُّل محنة هذا العالَم؛ فيروح وهو عارٍ وفي حالة ضعفٍ شديد يضرب في الجدار الحديدي، وفي هذه اللحظة تبدأ الثريات المعلَّقة فوق المائدة نحوَ خشبة المسرح، تلتوي وتدور، ثم تنتشر دلاياتها البِلَّوْرية على الأرض. تنتهي قصة «الحكيم»، وبوصفها النقطة البصرية الأخيرة، تسقط الستارة المرسوم عليها موسكو القديمة، ويبدو هذا الرسم الآن غارقًا في تياراتٍ قذرة.

هذا الأكشن السينوجرافي المؤثِّر وضَعَ تصميمه وبناه شاينتسيس في مسرحية «مدرسة المهاجرين» من تأليف د. ليبيكيروفا (١٩٩٠م). وعندما يأخذ بطل المسرحية، مدرِّس الألعاب الرياضية، الذي يعيش على سريرٍ في قاعةٍ للألعاب الرياضية خاليةٍ تُرمَّم، يأخذ في الاندفاع في حياةٍ أخرى من بنات أفكاره، متسلِّقًا حبلًا وقد ارتدى الثوب الرسمي للأمير تروبتسكوي، يبدأ السقف في الهبوط في مواجهته كاشفًا المكان خلفه، جاذبًا إلى الوراء هدفًا جميلًا خياليًّا مضفرًا من أقمشةٍ غالية الثَّمَن من الديباج وخيوط الذهب والفضة والتِّرتر ووسائل البهرجة الأخرى. يدرك هذا الموضوع بوصفه جزءًا من ديكورٍ قديم جميل، يمكن أن يكون قد صُنع في زمن الرسَّام أ. جولوفين أو من أحد فناني العصر الفضي البارزين. وبعد أن يظهر بطل المسرحية في وسط قاعة الألعاب الرياضية للمدرسة الحديثة؛ يقدِّم نموذجًا لحفلٍ مسرحي في شكل «اجتماعٍ للنبلاء»، مجسِّدًا تصوُّر البطل للحياة الجميلة في الماضي، تتحطَّم بعدها هذه الرؤية الخيالية؛ فتنكمش وتتقلَّص ثم «تزول». وفي مشهدٍ آخَر من هذه المسرحية، تنشط شخصيةٌ سينوجرافية صمَّمها وبناها شاينتسيس، وهي عبارةٌ عن ثورٍ اصطناعي ركِّب من أُطرٍ لدرَّاجاتٍ وتروسٍ وعجلاتٍ صغيرة وبدَّالاتٍ ومقود. يظهر الثور في وقتِ «مصارعة الثيران»، حيث تتلألأ لمبات «عيون»، رافعًا «ذيله»، مندفِعًا نحو القماشة الحمراء التي يحملها مُصارع الثيران ليسقط مهزومًا على الأرض، و«يموت» على نحوٍ مؤثِّر.

هذا النوع من الشخصيات السينوجرافية التي تعمل بوصفها شريكًا للممثلين، وعلى نحوٍ مستقل، قد وضعها الفنان في مسرحياتٍ أخرى أيضًا. لنتذكَّرْ، على سبيل المثال، الشكلَ الخيالي للمهرج المتحرك بالكهرباء، الذي غادَرَ جورودولين في مسرحية «الحكيم»؛ حيث يتناثر قِطعًا صغيرة في نهاية المشهد. أو نرى أحدَ موضوعات فنِّ البوب آرت Pop-Art مجسَّدًا في تمثالٍ لفارس من العصور الوسطى يمتطي صهوة حصان في مسرحية «هاملت» (١٩٨٦م) يأخذ في الصعود حتى يصل إلى ذروة الخشبة. هذا الموضوع صمَّمه شاينتسيس لصالح ج. بانفيلوف، الذي دُعي إلى العمل في مسرح لينكوم لإخراج هذه المأساة الشكسبيرية. وعندما تمَّ الانتهاء من عمل البناء الفني لمسرحية «البربري والزنديق» المأخوذة عن أحد أعمال فيودور دستويفسكي (۱۹۹۸م)٩ صمَّم شاينتسيس الديكورات لزخاروف، فأقام عند الباب الأيمن تركيبًا خياليًّا يعمل تلقائيًّا، ويمكن تصوُّره كتجسيدٍ ساخر للنموذج الرئيسي للمسرحية، وهو عبارة عن روليت في كازينو عالمي للقمار. تبدأ مكونات هذا البناء المُركَّب من عجلاتٍ كبيرة وأخرى صغيرة ومن تروسٍ وأعمدة وأسهم وأذرع وأثقال وبناديل في الحركة من وقتٍ إلى آخَر، ولكن على نحوٍ مفاجئ دائمًا، فتبدو كما لو كانت تفعل ذلك في وقتٍ غير مناسب. فتأخذ في الصرير والدقِّ والتحرك، إما كل منها على انفرادٍ وإما في توافقات أو بشكل جماعي.

وفي مسرحية «الخدعة» المأخوذة عن أحد الأعمال الأدبية لنيكولاي جوجول (١٩٩٩م)، يقترح الفنان أن يبدأ العرض المسرحي (قبل ظهور الممثلين بفترةٍ طويلة) بتقديم كائناتٍ ما سينوجرافية يسميها «الحبَّار»، وتؤدي هذه الكائنات «عرضها» بعد أن ينتهي الأكشن السينوجرافي الأول. ويتلخص هذا الأكشن الذي يُعرض في فضاءٍ مكشوف تمامًا في هبوط مونوريل أحمر في سلاسة، يتحرك بواسطته تلفريك يتدلَّى منه خطاف، يمتدُّ متحركًا فوق خشبة المسرح كما لو كان يرسم فوقها خطًّا لطريقٍ ما دون أن يترك — مع ذلك — أيَّ أثرٍ فيها. وبعد أن يقوم بهذا العمل الغريب الذي لا تفسيرَ منطقيًّا له، يصعد الخطَّاف، ولكنْ بطريقةٍ غامضة مع التلفريك والمونوريل ليثبت فوق الخشبة. يهبط من العَجَل جسرانِ معدنيان، يجلس على أحدهما الموسيقيون وقد أمسكوا بآلاتٍ موسيقية تصدر ضجيجًا وأصواتًا من تأليف شاينتسيس، وعلى الجسر الآخَر الموضوع إلى أسفل تزحف ببطءٍ الكائنات المعدنية «الحبَّار» («عناكب»، «سلاحف»، «تنانين»؛ كما يسميها ب. كازيمين في ملاحظته). وبعد أن يصل أولُ هذه الكائنات إلى نقطةٍ محدَّدة، تسقط الكائنات الأخرى بعده من الجسر إلى أسفل. وعلى أثرِ ضربةٍ على خشبة المسرح يدوي صوتُ انفجار وتتدفَّق بُقعةٌ رطبة على الأرض وتخيِّم على المكان أعمدةٌ من الدخان الأبيض، وعندما ينقشع الدخان يندفع «الحبار» على الخشبة في شتَّى الاتجاهات؛ فتنقلب رأسًا على عقب، وتسيل على أجنابها، ثم تثِب وتقفز، وبعدها «تلفظ أنفاسها الأخيرة»، وفي عجزٍ بالغ ترفرف على طرَف الخشبة بين الحياة والموت.

فقط بعد أن ينتهي هذا «العرض» يدخل الممثلون لأداء عرضهم. يبدو كلُّ موقفٍ مسرحي هنا مرسومًا سلفًا مع تخطيطٍ توضيحي جرافيكي في «براويز» صنَعَها الفنان للمخرِج الذي أخَذَ في حسبانه، كما فعل من قبل في الأعمال الأخرى مع شاينيتس، هذه المواقف عند بنائه للتكوينات الإخراجية (الميزانسين).

يظهر تشيتشيكوف١٠ من ناحية الجسر القريب من الجمهور وهو يسبح في صندوقٍ أسْوَد وكأنه في جندول، «سابحًا» لمقابلة المرأة المجهولة (هنا يجري تمثيلُ رؤيةٍ لكرنفال من كرنفالات مدينة فينيسيا). تختفي المرأة المجهولة، يظهر سيلفان ممسكًا بعِنانٍ يمتدُّ من أسفل، بعيدًا عن مقدمة المسرح. في الخلف يقوم عمَّال المسرح برفْعِ قمرٍ مسرحي (هؤلاء العمال يقومون طوال المسرحية بإعداد الخشبة أمام المشاهدين مباشرةً دون أن يولوا الممثلين أيَّ اهتمام، كما أنهم يلعبون دورًا فعَّالًا كمشارِكين في العرض، وإن كان دورًا صامتًا، ولكنه لا يخلو من ضجيج). يبدأ مشهدُ «البراري»، ينتقل تشيتشيكوف من الجسر «الإيطالي»، من «البلاد البعيدة الجميلة» إلى أسفل، إلى الواقع الروسي. وقَدْ عُبِّر عن هذا الواقع بطريقةٍ سينوجرافية من خلال ديكوراتٍ ذات موتيفات تُوحي بالاضطراب والفوضى (عادةً تُخفَى عن المشاهدين، ولكنها هنا تتَّخذ شكلًا فنيًّا). يمتلئ الفضاء المسرحي بحواملَ وأجزاءٍ من الإنشاءات والكماليات. يتولد انطباع أن هذه الأشياء قد اجتمعت معًا على الخشبة، جانبًا، بالتناوب، كما لو كان الأمر قد وقع بالمصادفة المحضة. لم يستطع جمهور مسرح لينكوم أن يميِّز للتوِّ انتماءَ أجزاءٍ كثيرة من هذه الإنشاءات والديكورات لمسرحياتٍ شُوهدَت في هذا المسرح من قبل. كانت العناصر التي ظهرَت في تلك المسرحيات مجهَّزة تمامًا على أساس فكرة مشروعِ وضْعِ الفنان بناءَه المعماري وتصميمه. وهنا أيضًا كان هذا التصميم قد أُعدَّ بالدقة نفسها من وجهة نظَرِ تجسيد فكرة العرض (وقد جرى أخذ تلك العناصر كما لو كانت من «مجموعةٍ» منتقاة، وإنْ قد جرى إعدادها في الواقع من جديد، فضلًا عن أنها قد أُعدَّت على هذا النحو حتى تبدو أكثر قِدمًا). إن «انتزاعها» تحديدًا من سياقٍ مسرحي سابق، وما يبدو فيها من سخافةٍ ظاهرية، والارتباط المشترك، قد خلَقَ في النهاية نموذجًا مسرحيًّا للعبث الأبدي في الحياة الروسية، وهو ما تمثَّل أمام تشيتشيكوف على النحو الذي استمر باقيًا في جوهر هذه الحياة إلى يومنا هذا. وطوالَ الفصل الأول من المسرحية، كان الممثلون يستخدمون هذه العناصر الإنشائية أو الديكورية على نحوٍ متنوِّع (على سبيل المثال، تحوُّل باطن السفينة المُدار من مسرحيةِ «يونونا» إلى مُركَّبة (كارتة) تشيتشيكوف وهَلُمَّ جَرًّا)، إلى جانب قيام عمَّال التركيبات بشكلٍ لا ينقطع بنقل أشياء من مكانٍ إلى آخَر، فتارةً يضعونها هناك أو يعودون ليعيدوها إلى هنا، أو يسحبوها، أو يدقُّوها أو يربطوها، أو يُنزلوها على العوارض. بنهاية الفصل الأول فقط، اتضح أن تركيبًا موحدًا قد جرى تشكيله على خشبة المسرح، وهو التشكيل الذي كان شاينتسيس قد صمَّمه ذات مرة لمسرحية «يونونا»، ويتمثل في معدَّات سفينة وضعَت على الجانبَين، وشراع قديم يحلِّق فوق الخشبة، ومنحدَر خفيف من الزجاج، وهي السفينة التي يبحر بها بطل الروك-أوبرا إلى أمريكا. على أنه سرعان ما يتَّضح لنا أنَّ هذا الأمر هو بمثابة تنظيمٍ لفوضى الديكور، وإضفاء شكلٍ ما تخيلي وخاطف وحتمي عليه. ويصبح تدمير ولو جزءًا محدَّدًا من البناء الرومانسي الذي تمَّ عمله؛ هو المضمونَ السينوجرافي للفصل الثاني من المسرحية. «تنفجر» الألواح الزجاجية للحامل، ويمتلئ الفضاء المسرحي بعناصر من واقع الدراما الروسية (جدران، شُرفات، وجذوع أشجار محترقة من مسرحية «النورس»، قِباب مائلة من مسرحية «صلاة الجنازة»). وأخيرًا في المشهد قبل الختامي (في بيت كوروبتشيك)١١ يتفرق الحامل، الذي يمثل «سطح السفينة» على الأجناب، وتظهر في العمق عجلةٌ حمراء ضخمة وهي التي كانت تؤدِّي – إذا ما تذكَّرنا في مسرحية «ألعاب صعبة» — في الوقت نفسه دورَ العلامة والألعاب المشوقة ومصير الأبطال الشباب في تلك السنوات، أما هنا فهي توحي بتداعٍ لأفكارٍ أكثر عموميةً (بما في ذلك تداعي الأفكار مع النموذج الرئيسي لملحمة الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين).١٢ انشقَّت العجلة بشكلٍ واضح أمام الجمهور، وانكشفت على الممر، الذي تكوَّن بين الحامل الذي تصدع، ثم مالت على تشيتشيكوف، الذي بدا في وضْع الصَّلب.

على هذا النحو، كانت المحصِّلة الدلالية التي اقترحها الفنان للموضوع الدرامي للعرض السينوجرافي، وتتلخَّص في أنه مهْمَا بنَت روسيا من «سفنٍ» رومانسية، ومهْمَا سعَت بها نحو «أمريكا» المرتقبة، فإن كلَّ شيء سينتهي بعجلة التعذيب والمعاناة النفسية والجسدية، وبفوضى جديدة واضطراب، باعتباره الوسيلة الرئيسية لوجود هذا البلد الذي تبلغ مساحته سُدس مساحة العالَم.

(٤) سيرجي بارخين

استنادًا إلى الخصائص الشخصية لبارخين الفنان، يتضح لنا أنه أقلُّ الجميع ميلًا إلى خلْقِ شخصياتٍ سينوجرافية بوصفها شخوصًا بصرية مستقلة في العرض المسرحي. ومع ذلك، فإن بارخين تحديدًا أول مَن قدَّم في المسرح الروسي عرضًا قام التشكيل فيه على أساس اللعب بالتقنيات والوسائل التعبيرية ومزجها بعناصر عرض الهابيننج. كان هذا العرض هو مسرحية «روميو وجوليت» لوليم شكسبير عام ١٩٧٥م، وكان العرض بمثابة مشروع التخرج للمخرِج أ. بودوف من معهد ب. شوكين. في تلك الفترة، كان لدى فنان السينوجرافيا خبرةُ تقديم عروض الأكشن برُوح الهابيننج؛ ففي منطقة بتروفسكي، تمَّ في عام ١٩٧٣م ملء شخوصٍ عملاقة من اللدائن تمثِّل «رجالًا» و«نساء» يبلغ ارتفاعها ثمانية عشر مترًا بالهواء. كانت هذه الشخوص مخصَّصةً للدعاية لفيلم «لقاء وفراق» للمخرِج إ. إيشمخمروف. انطلق بارخين وهو يضع الرسوم التخطيطية لمسرحية «روميو وجوليت» من الانطباع الذي تركه لديه طلبة استوديو شوكين. شرح بارخين للمخرِج الطريقةَ التي تناوَلَ بها هذا العرض بقوله: «لقد رأيتُ كلَّ ذلك لديكم. إنَّ الشباب الجديد المعاصر، الذي يتصرف بحرِّية مرتديًا الجينز، ويتجول دون قيود وعلى نحوٍ جميل على خشبة المسرح ووسط الجمهور في القاعة، هم شبابٌ يتمتع بجمال الفتوة والحرية. إنه جيلٌ آخَر، لديه حياته ولغته وألعابه الخاصة. وهم بحاجةٍ إلى بيئة جديدة.»١٣
لقد عُرض على المخرِج ثلاث تنويعات تؤلف معًا، وعلى نحوٍ مفارق Paradoxical، صورًا لموتيفات كلاسيكية من لوحاتِ عصر النهضة وعمارته، ملوَّنة ومكسوَّة بالجصِّ، مثل المؤدِّين أنفسهم الذين يؤدون أدوارهم، مستخدِمين أكثر المواد والتقنيات تنوُّعًا، وعلى نحوٍ غير متوقَّع.
وفي الرسوم التخطيطية لمسرحية «ليلة مع بييرو ديلا فرانشيسكا»١٤ تكونت «البيئة الجديدة» المبنية على الأجناب من صفوفٍ من ظلال جانبية لرءوسٍ ضخمة لها «وجوه» نسوية حمراء ورجالية زرقاء تنتمي إلى عائلات مونتيكا وكابوليتا (في صورةٍ مكرَّرة أربعَ مرَّات، تزداد صغرًا كلما اتجهنا نحو العمق، مقاطعُ من لوحاتٍ للرسَّامين باتيستا سفورتس، وفيديريجو دا مونتيفيلترو، وبييرو ديلا فرانشيسكا) ينظرون بعضهم إلى بعض في عداوةٍ شديدة، وتقف بينهم شخوص روميو وجوليت عاريةً، وبعد أن ينتهيا من عناقهما يبتعدان إلى عمق الخشبة المغطَّاة بقماشٍ ورقي أبيض سميك مصنوع من ملاءة وخرق مكرمَشة، وقد انتثرَت في وسطها قِطَع من الحلوى وحقن وعُلَب ثِقاب وماكينة إعداد قهوة وفنجان قهوة، وفي هذا العمق يمكن مشاهدة ثمانية أشكالٍ متكرِّرة متعددة الألوان لبرج بيزا المائل، تحلِّق فوقها طائرة-لعبة صغيرة (قطعة من ملصقات عُلَب الكبريت في الثلاثينيات).

وفي رسم تخطيطي آخَر بعنوان «البطيخ البالادياني»، تتوزَّع مجموعةٌ من الشباب فوق بطيخ مقطَّع وسْطَ أدواتِ تمثيل، على هيئة فواكه نشَرَها الفنان بكرمٍ بالغ على خشبة المسرح. وعلى يمين الخشبة، تنتصب أعمدةٌ ضخمة، وعلى اليسار منظورٌ لقصرٍ من طرازِ عصر النهضة يسير على نحوٍ مائل وقد اكتسى بألوانٍ (مثل ألوان الأعمدة) وهي الألوان نفسها التي يرتديها الممثِّلون، مرِحة ومرعبة في الوقت نفسه، تنتشر سائلةً مثل ألوان الطيف (عبَّر الفنان باستخدامه هذه الألوان الغريبة عن أزمة البترول التي انفجرَت في تلك الفترة).

الرسم التخطيطي الثالث (وقد نُفِّذ في المسرحية)، ويسمَّى «نشارة كورينثية»، هنا تشكِّل تيجان الأعمدة العملاقة عالَم التراجيديا الشكسبيرية. تمتدُّ هذه الأعمدة في نفس التكوين الفني الموجود في الرسم التخطيطي الأول لرأس بييرو ديلا فرانشيسكو وهو على هيئة صفَّين من الأعمدة التي تمتدُّ إلى عمق خشبة المسرح صاعدةً نحو السماء مع قمرٍ رومانسي. على جانبٍ تيجان الأعمدة الأيونية («كابوليتي»)، وفي الجانب الآخَر الكورينثي («مونتيكي»). وهنا نرى «العمارة» المستخدَمة كديكور، وكان الطلاب قد كسوها بالجصِّ بألوانٍ حمراء فاتحة وخضراء وزرقاء. كان بارخين يودُّ لو أنَّ طلاب الاستوديو أنْهَوا تجصيصَ الديكور في حضور الجمهور، ثم بعد ذلك، عندما تدور رَحَى المعركة، يستخدمون فرشات الرسم بوصفها أسلحةَ المعركة.

تظهر تيجان الأعمدة وقد رُسمت على هيئة كوليسات-«رءوس» أعمدة، في حين يغرق الجزء الأكبر من العمود فيما يسمَّى ﺑ «الطبقة الثقافية» للتاريخ. يشكِّل النشارة الطبيعية التي تغطِّي خشبة المسرح «الطبقة الثقافية». وفقًا لخطة بارخين، فإنَّ هذه النشارة تتساقط من جذوع الأشجار، التي من المفترض أن تكون قد نتجَت من قيام شابين بنشرها في عمق المسرح في أثناء العرض. ثم وُضع بعض الأدوات المسرحية المستخدمة في تمثيل العرض فوق هذه النشارة: برتقال أصفر، تفاح أخضر، ليمون أصفر. وتشكِّل الآلات الموسيقية المكوَّنة من ماندولين، وطبلة، وبرميل معدني مكرمَش، وعُلَب طلاء، وأخيرًا كومة من بيض الفراخ، الكماليات الأساسية لأداء الممثلين في أهمِّ أوقات المسرحية. وكنوعٍ من اللهو يأخذ بعض الشباب من جماعةِ ميركوتسيو في إلقاء البيض على الجدار الخلفي المغطَّى بالألباستر؛ فيسيل على سطحه «صفار البيض» مكوِّنًا بقنًا فوضوية.

وعندما يقذف ميركوتسيو الجريح جرحًا مميتًا بالبيضة يتحوَّل لونها إلى اللون الأزرق. ثم تخرج جولييت من البيضة أولًا دواءً أعدَّه لورينزو، ثم تخرج بعد ذلك سمًّا، ثم تصيح وقد وقفَت في مواجهة القاعة وقد أمسكَت بالبيضة أمامها: «نخب صحتك أتجرع هذا السمَّ يا روميو …»، ثم تروح تحطم البيضة. وفي هذا السكون المطبق تدوي شخشخةُ بيضةٍ فارغة. «كانت هذه هي المعجزة!»١٥ كان الناس يسيرون وهم يطَئُون بأقدامهم قشرة البيضة، دون أن يَلْحظوها. وقد يمكن إدراك هشاشتها بوصفها رمزًا لضعف الحُب في مرحلة الشباب والحياة الفتية التي تواجه عالَمًا من القسوة والعداوة والكراهية.
وكما كتبت الباحثة ف. كوليشوفا المتخصِّصة في إبداع بارخين: «من بين كلِّ التنوع الموجود في الحياة التي يقدِّمها العمل الشكسبيري؛ يحدِّد الفنان لنفسه الخاصية الرئيسية لهذه الحياة وهي «الهشاشة»، وهذا المفهوم يرِدُ على ذهن الفنان مع رؤيته للشباب عمومًا، وعند شخصيات شكسبير الذين لا حولَ لهم ولا قوة، فوراء هذه الكلمة تكمن الإرادة القاسية للمصادفة … وراء هذا المفهوم يكمن توجُّه الفنان في عصرنا الحاضر … شباب وفتيات اليوم يصمِّمون ملابسَ شخصيات شكسبير، ملابس متنوعة الألوان وكأنهم صنَعُوها بأنفُسِهم. في حين، يصعب علينا أن نلتقط في الظِّل وفي التشكيل سمةً من سمات عصر النهضة الشكسبيري، مثل المعاطف السوداء والسراويل الأليفة والوديَّة. إنَّ الإحساس بعصر النهضة يتحقَّق أيضًا في «الزخارف الوشيكة على الانهيار». إن النشارة المذهَّبة التي تُلقى بها الشخصيات ثم يجلسون عليها وينامون فوقها تأخذ في التشكُّل، تحت تأثير ضوء المسرح، إلى زخارف، وتتحول تارةً إلى أهداب على طرَف تنورة جولييت؛ وتارةً إلى نجوم تتلألأ فوق «ياقة» روميو. يظهر كل ذلك في لحظةٍ واحدة ليختفي كالبرق، لكي يظهر في اللحظة التالية من جديد بصورة مختلفة.»١٦

نتيجة للسينوجرافيا التمثيلية الصريحة التي وضعها بارخين؛ يتحقق أمامنا نموذجٌ درامي مبني على الصراع الحادِّ المتمثِّل في المقابلة بين البقايا الأخيرة لعمارة عصر النهضة من ناحية، ومع أنها مرسومة، ومع أنَّها موشَّاة بالزخارف، ولهذا السبب لا تقل جمالًا وانسجامًا عنها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، بين الكميات الكبيرة من النشارة اللَّزجة المنتشِرة في كلِّ مكان والشاحبة، التي تجسِّد قُوى الشر الوحشية، والتي لا ملامحَ لها، ولا اختلاف فيما بينها، ولا تتسم بالروحانية، والتي تبتلع الجمال والفن والحُب وتدمرها.

وفي الرسوم التخطيطية التي وضعها بارخين فيما بعد باعتبارها معالجات للدراما الشكسبيرية، سعى باختين إلى إيجاد تأليفٍ أصيل ومفارق Paradoxical عن طريق إعادة إنشاء ديكوراتٍ تمثِّل الوسط المعماري بوصفها مكانًا للعرض من جانب، ومن جانب آخَر عن طريق وضعٍ سينوجرافي والتشكيل بالملابس التي تحدِّد الطابع التمثيلي للعرض. ففي عرضِ «حُلم ليلة صيف» الذي جرى إعداده في مسرح مدينة تولا، أراد بارخين أن يصنع عمارةً مطابِقة لعمارة مسرح «أوليمبيكو» من طراز عصر النهضة، الذي صمَّمه المعماري الإيطالي أندريا بالأديو باستخدام منظورٍ تخيلي لشوارع تأخذ في الابتعاد، تقع أمامها سبعةُ ميادين صغيرة تشبه الجزر ذات أشكال دائرية أميبية، كان من المفترض أن يؤدَّى عليها موضوعٌ خيالي. وفي تخطيطٍ آخَر على موضوع «حُلم ليلة صيف» نجِدُ غابةً خيالية مكوَّنة من عمارةٍ على الطراز الكورينثي الكلاسيكي (ضفيرة أعمدة متعرِّجة وأوراق شجرٍ وحلزونات)؛ بالإضافة إلى ذلك، فقَدْ كان من المفترَض أن يكون الديكور مصنَّعًا من مادة البورولون، وأن يكون ليِّنًا ومتحركًا وخفَّاقًا، متسعًا من أعلى وضيِّقًا من أسفل مثل ميدوزا.١٧
وفي الرسم التخطيطي لمأساة «تيتوس أندرونيكوس»، نجد تنويعةً أخرى للديكور المعماري، وهو في هذه المرة ديكور على الطراز الإغريقي يشتمل على جداريات من عصر بومبي، مُنفَّذة بشكلٍ صريح على نحوٍ زائف، ومطليَّة بألوانٍ فاتحة، وقد تحدث الفنان عن خطته بقوله: «ينبغي أن يتولَّد هنا انطباعٌ كما لو كان ناتجًا عن شيءٍ ما زائف وجميل.» ثم أضاف قائلًا: «مأساة في ديكورٍ غير مأساوي. روما بلا تضخيم أو مبالغة، وإنما مدينةٌ ساطعة، ذهبية تكسوها حُمرة، موزَّعة على رسمٍ لجدارية.»١٨ كانت الشخصيات تملأ هذا الديكور وقد ارتدَت سراويلَ ملطَّخة بالدماء، واعتمرَت خوذات، ووضعَت دروعًا واقية للرُّكَب، وجبائرَ جِلدية تعويضية. هذه النماذج جاءتْ وليدةً لذكريات طفولة الفنان عن الفقراء ما بعد الحرب، الجنود العائدين من الجبهة وقد حملوا أعضاءً مبتورة بدلًا من الأقدام والأيدي؛ كانت الأجهزة التعويضية مُلقاة أيضًا على مقدمة المسرح. ووفقًا لخطة المخرِج، فقد كان من المفترض أن تكون هذه الأجهزة هي الخواصَّ الأساسية للعرض. وقد قُدِّمَت هذه الأجهزة التعويضية بتقنياتها الحقيقية التي تتناقض بشدة مع التمثيل البصري المضاعف، مع أشكال المناظر المعمارية المرسومة والملوَّنة على أسطح.

أصبح العرض الموسيقي المعروف باسم «تيفي من أناتيفكا» من تأليف ج. بوك وج. ستاين (۱۹۸۳م)، هو العرض الذي وضَعَ بارخين تحديدًا فيه المَشاهد البصرية الرئيسية. وقد اقترح الفنان، بعد أن وضَعَ نموذجًا لخيمةٍ يهودية تمَّ عملها من أقمشةٍ عليها كتاباتٌ قديمة وعلامات طقسية، اقترح أن يقوم المؤدُّون أنفُسُهم بتغيير شكلها. وفي لحظةِ ذروة العرض، نرى هؤلاء المؤدِّين وقد سار كلٌّ منهم خلف قماشته وقد حشَرَ رأسه في فتحةٍ فيها، وقد رفعوا جميعًا أيديهم جانبًا، وأخذوا خطوةً إلى الأمام معًا في وقتٍ واحد. وفي آنٍ واحد أيضًا يُنزع القماش من أماكن تثبيته ليُوضع على شخوص الممثلين باعتباره ملبسًا لهم، في حين يصطبغ الفضاء المسرحي الأرجواني الموحي بجوِّ الأعياد في لحظةٍ خاطفة بلونٍ أحمر قاتم. وفي نهاية الفصل الثاني، يتغير المكان بالطريقة نفسها إلى اللون الأزرق، في حين تبدو الشخصيات، بالتالي، وقد ارتدَت الآن ملابسَ حمراء قاتمة يؤدُّون بها رقصةَ البكاء الطقسية. وعندما يطردون في ختام المسرحية من أناتيفكا؛ فإنهم ينزعون عنهم هذه الطبقة الزرقاء من القماش التي يتضح أنها الطبقة الأخيرة. يظهر على الجمهور ما تبقَّى من حُطام هذه الخيمة ومن الموقع اليهودي الذي دمِّر، ولا يبقى من الخيمة سوى هيكل عارٍ لا لونَ له. يسير المطرودون وقد ارتدوا ملابسَ زرقاء في تيار عبْر السُّلَّم المؤدي إلى أعلى، إلى السماء، إلى العالَم الآخَر.

في النهاية، فإن المسرحية التي قام التناول السينوجرافي فيها بتحديد طابعِ الحدث المسرحي وشكله ومضمونه، كانت هي أوبرا «نابوكو» لفيردي (۲۰۰۱م)، والتي عُرضت من بين أعمال بارخين على مسرح البولشوي. لقد عبَّر الفنان عن المواجَهة الحتمية بين قوتَين، حضارتَين، عالَمَين من خلال الصراع البصري ﻟ «الموسيقى» الجرافيكية لنصوصٍ مقدَّسة قديمة من التوراة غطَّت تمامًا الأسطح البيضاء لجدرانِ أطلال هيكل الملك اليهودي سليمان الذي دمِّر، وقد ظهرَت خطوط الكتابة الآشورية المسمارية عند إدارة الجدران نحوَ الجانب المُظلِم. لقد تمَّ التعبير عن المصير الحتمي لهذه الحضارة وتلك من خلال الكتابة الكهنوتية «المحفورة» على الجدران، وقد قُرِئَت على بصيصٍ من الضوء؛ مما جعَلَ الجدران الضخمة السميكة تبدو كما لو كانت جدرانًا رقيقة. وفي خلفية المسرح، وفي وسط من الغابات الإنشائية المعدنية، يظهر برج بابل، وتأتي ذروة المسرحية لحظةَ جنون «نبوخد نصر» الذي يمثِّل رمزًا للتحدي العدواني الشرِس لله؛ إذ يحترق في لهيب النيران. وقد أدى تبديل أماكن الجدران المغطاة بالكتابة والتحويل المتعدد في زواياه إلى خلْقِ تكويناتٍ متغيرة للفضاء المسرحي ووضعِ ظروفٍ لبناءٍ تعبيري — من الناحية التشكيلية — للتكوينات الفنية لميزانسين توزيع الجوقات والمغنين الانفراديين.

هذا التناول لمسرحية «نابوكو»، وكذلك لمسرحتي «روميو» و«تيفي» الذي تحدثنا عنه سابقًا، كان تناولًا فريدًا استخدَمَه بارخين. وخلافًا لبوروفسكي وليدير وشاينتسيس، فإنَّ هذا الفنان لم يكن ميَّالًا لاتباع نموذجٍ وحيد ما للتفكير السينوجرافي؛ فقد كان من المهم بالنسبة إليه أن يعمل في كل مسرحية على نحوٍ مختلف. كان بارخين منفتحًا على ثراء تقاليد الثقافة الفنية العالمية بأَسْرها، وفي البحوث التشكيلية المعاصرة. ولعلَّ أهمَّ ما كان يميِّز موهبته هو البراعة الفنية التي تظهر في جميع ما يفعل، بما في ذلك تأليف المسرحيات. هذه المسرحيات لم يسبق أن كتَبَ مثلها أحدٌ من قبل، وهي لا تتشابه في شيء مع الإبداع الأدبي في هذا المجال، والمعروف باسم الإعداد المسرحي Dramaturgy، وهي ليست سوى هذا الشيء الذي اخترعه بارخين الفنان. مسرحية تُحكى بالكلمات، أيًّا كانت هذه الكلمات وعلى أيِّ مسرح عُرضت. بعبارةٍ أخرى، فإن مسرحيات بارخين هي مؤلفات من نوعٍ خاص لمسرح الفنان الخاص به، والمجسَّدة على نحوٍ شفاهي.

(٥) مسرح الفنان الورقي

نشأ التشابه بين «المسرح الورقي» عند بارخين وما عرف ﺑ «العمارة الورقية»، وهي الظاهرة التي نشأت في السبعينيات والثمانينيات كبديلٍ للواقع القائم في البناء وفنِّ العمارة السائدَين في تلك الفترة. ومثلها مثلُ مشروعات «العمارة الورقية» التي من بينها أهمُّ مشروعات بارخين نفسه (نذكِّر أنَّ بارخين تلقَّى تعليمًا معماريًّا، وكانت العمارة هي حرفته الأُولى)، فقَدْ عُدَّت مسرحياته تثبيتًا أدبيًّا للأفكار المسرحية البصرية التي وُلدت في مُخيِّلة الفنان، ولكنها لم تتجسَّد على خشبة المسرح. وحتى هذا الأمر كان يمثِّل قصةً قصيرة تتضمن رؤيته للعمل المسرحي بوصفه أكشن تشكيليًّا متحررًا (مقارنةً بالتقاليد الأوروبية) من هيمنة النص الأدبي وما به من إسهابٍ وحوارات طويلة ومونولوجات وما إلى ذلك.

يقول الفنان: «لقد جمعَت بين تصوُّري عن ماهية الديكور، وعن أهميته، وعن ماهية المسرح الذي ينال إعجابي، والذي أظلُّ أذكره؛ ورغباتي الصغيرة التي تسيطر بشكلٍ ما على إرادتي فأصوغها وأكتبها. أستيقظ من نومي ليلًا فتتبدى لي رؤيةٌ ما فأكتبها. أكتب على نحوٍ آلي تمامًا غير واعٍ بما أضع ولماذا. لا يمكن أن تكون هنا خطة، يبدو كلُّ شيء كما لو كان وليدَ اللحظة.»١٩
حمَلَت أول مسرحيات بارخين اسم «الصيف الأسود». وقد كتبها عام ١٩٩١م، عندما ذهب ليستجمَّ بناءً على دعوة أصدقائه عند تلِّ نيكولينا، وهو مكانه المفضَّل في ضواحي موسكو، حيث أمضى سنوات طفولته. كان الصيف خلَّابًا وصحوًا، ولكنه كان «أسود» نتيجةً للحالة النفسية التي كان يعانيها الفنان، إذ لم يكن يبدو أمامه أفقٌ، كما لم يكن يعرف ما الذي عليه أن يقوم به في المستقبل وعلى أيِّ نحوٍ ينبغي أن يعيش. يقول الفنان: «كانت النصوص الطويلة تثير الاضطراب فيَّ، كما يحدث لكم عندما تختفي الأحداث على خشبة المسرح، في حين يروح الجميع في الحديث، ثم الحديث مع قليلٍ من التعبير، يتحدثون ويتحدثون.»٢٠

(٥-١) الصيف الأسود

تراجيديا خيالية عن لامعقولية مسرح الورق من فصلٍ واحد

يجب تنفيذ تعليمات المؤلف كافَّة، وإلا سيضطر الكاتب أو ورثته إلى اللجوء إلى محكمة زيوريخ الدولية في أمستردام المختصة بالنظر في حقوق المؤلف.

الشخصيات

أركادي (أركادي سيرجيفيتش ستوب)، شاب يبلغ من العمر ٣٤ عامًا، يرتدي بدلةً سوداء من القطيفة، وقميصًا أسود من القطيفة الحريرية.

ماريا نيكولاييفتا أوفتشينيكوفا، أرملة شابة تبلغ من العمر ٥٠ عامًا، مالكة ضَيْعة المستقبل، ترتدي ثوبَ سهرة من القطيفة السوداء، وتزيِّن رقبتها بعِقدٍ من الأحجار الكريمة ذاتِ لونٍ أرجواني من تشيكوسلوفاكيا.

جيورجي (جوجوتشا، جوشا، جوجا)،٢١ الابن الأصغر لعامِل السِّباكة، موصِّل الأنابيب في البيت الصيفي التعاوني سابقًا، والذي أصبح الآن عزبةً، يرتدي بنطلونًا قصيرًا واسعًا من القطيفة، ويضع في رقبته ربطةَ عُنق سوداء.

ناتاشا، بائعة لبنٍ تبلغ من العمر ١٨ عامًا، تأتي من مسافةٍ بعيدة لتشاهد جهاز الفيديو، تحبُّ أفلام برجمان، تسير على المسرح بخطواتٍ راقصة، ترتدي ثوبًا أسود من القطيفة بسيطًا وقصيرًا جدًّا، مبتذلًا عند الصدر والبطن والفخذَين والأرداف وعِظام اللَّوح والكتفَين.

على المسرح بدايات الربيع. شهر مايو، شمس ساطعة تغمر الغرفة. أشياء كثيرة على خشبة المسرح، ومع هذا يبدو وكأنْ لا شيءَ هناك، لا غرفة ولا أُطر للنوافذ، لا بوفيه ولا مائدة ولا مقاعد، لا أطباق ولا شوك. كلُّ شيء يبدو خياليًّا؛ لأنَّ كلَّ شيء — كلَّ شيء بلا استثناء؛ الجدران، والأرضية، والأثاث، والأواني، والأبواب، والثريات، وحتى الأشجار بأوراقها — كل شيء قد أُلصقَت به، وعلى نحوٍ دقيق، قطيفةٌ سوداء. مصابيح المسرح العلوية Soffitto تُرسل ضوءًا مبهرًا يضيء من الخلف كلَّ الأسطح العلوية، الرُّءوس والأكتاف، ومن ثَم يرسم كلَّ الأشياء.

غرفة تشبه شرفةً كبيرة تخصُّ ماريا نيكولايفنا (ذات جدران مكسوَّة، كما شاهدنا من قبل، بقطيفةٍ سوداء) ولها نافذتان كبيرتان وبابٌ زجاجي في وسط الجدار الخلفي المواجِه للجمهور. الستائر من القطيفة السوداء لها شراشيب. على اليسار بوفيه كبير وباب للدخول. في الأمام سُلَّم ذو (درابزين) له أعمدة يقود إلى الطابق الثاني. مائدة على اليمين، وفي الخلف جهازُ تليفزيون، وفي الركن الأيمن الأمامي مِدفأةٌ مملوءة بأخشابٍ سوداء غضَّة. ومن خلف النافذة، يتراءى الربيع. جذوع أشجارٍ سوداء، شُجيرات سوداء، وسماء سوداء، صوتُ ضجيج منخفض لمحوِّلاتٍ كهربائية وبروجيكتورات تعمل. صوتٌ مرتفع لخطواتٍ خفيفة، تدخل ناتاشا وهي تتراقص (ميكروفونات كثيرةٌ موضوعة أسفل الخشبة؛ ولهذا يمكن الاستماع إلى كلِّ خطواتها) تحاول فتْحَ الترابيس (بالتتابع)؛ ترباس النافذة اليسرى، ثم الباب، ثم النافذة اليمنى. المزاليج والمقابض مرتفعة، في حين تروح ناتاشا لفترةٍ طويلة تعرض علينا ساقَيها الجميلتَين التي لوَّحتْهما الشمس، وكذلك أردافها البيضاء، ولعلَّه كان من الأفضل لو لم ترتدِ الممثلة سروالًا. تنصاع النافذة اليسرى وتنفتح على مصراعَيها؛ فيغمر الضوء أكثرَ فضاءِ المسرح.

قفل النافذة. تلياتس!
مفصلة النافذة. تصر… صر… ر… ر… ر…
الطيور من ناحية النافذة تصو… صو… و… و… و…
والرياح تهز الأوراق … (التي تخشخش) شي… شي… ي… ي…

(تقترب الفتاة من النافذة.)

القفل والمزاليج. تليانتس.
المفصلات. آآآخ بيييبس.

أصوات أوركسترا كامل: صفير قصير لسيارة: بيب بيب، صافرةُ حَكَم كرة قدم فييي … صراخ أطفالٍ طويل وهادئ: أي، إي، بيتكا، آآآ. إخ ناولني … أف … تحكُّ الفتاة فخذها بصوتٍ عالٍ دون أن تستدير: شي، شي، شي… (يضيع الصوت في ضجيج طائرة تحلِّق): ش… ش… ش… ج… ج… ج… أَ… أَ… أَ… ش… ش… ش.

تفتح الفتاة النافذة اليمنى فينساب إلى المسرح غناءٌ هادئ على صوتِ جيتار (مع صوتِ مقصٍّ يقلِّم الفروع): «هل افتتنت بجمالٍ آخَر؟»

تمتد يدٌ في النافذة لتقدِّم باقةً من زهور التيوليب السوداء، تلتقط ناتاشا الباقة ثم تلتفت؛ فنرى عندئذٍ أنها ترتدي نظَّارة سوداء، ومنذ هذه اللحظة تأخذ في التحرك وكأنها عمياء. تتلمس الأشياء حتى تجِدَ آنيةَ زهورٍ سوداء من الزجاج، تضع فيها زهورًا، ولكنها في هذه اللحظة تُسقِط الإناء، يُدوي صوتُ تحطُّم الزجاج: دزين – دزين – دزين – طراخ.

تستند ناتاشا على رُكبتَيها على الأرض اللينة بالقرب من الميكرفون، تجمع شظايا زجاجِ آنيةِ الزهور الذي يُصدر صوتًا مميزًا. يحملق الجمهور باهتمامٍ؛ ينظر إلى فخذَيها وأردافها.

ناتاشا : سأُسرع بالذهاب إلى الدكان.

(تخلع نظَّارتها وتنظر.)

أدكادي (من النافذة اليمنى) : لقد فقدتِ صوابكِ.

تدخل ماريا نيكولايفنا من الجانب الأيسر، دون أن تلاحظ وجود ناتاشا أسفل المائدة. تفتح البوفيه وتأخذ في وضعِ مفرشٍ أسْوَد على المائدة، ثم ترصُّ أواني سوداء لا تكاد تُرى. تطرق الأواني بالشوك والخزف. صوت صلصلة الكُئُوس الزجاجية السوداء في البوفيه. تغنِّي أغنيةً يختارها المخرِج. يندفع جاشنكا نحو الباب الخلفي قادمًا من الحديقة وقد فتَحَ عينَيه على اتساعهما، وقد أخَذَ يدبُّ بأقدامه الحافية فوق القرص الدوَّار لخشبة المسرح صائحًا: الحرب، الحرب. يبدو الممثلون والجمهور في حالةِ ذهول.

يُسدل الستار – «التحية»٢٢

لقد أحسَّ الممثلون والجمهور بالحيرة والذهول، فضلًا عن كلِّ الذين قرأ عليهم بارخين هذه المسرحية، والذين أُعجبوا بخبراته الأدبية السابقة، وبحلول هذه الفترة كان بارخين قد كتَبَ عددًا من القصص القصيرة وذكرياته عن طفولته وشبابه، كما كتَبَ عن رفاقه ومعلِّميه. هناك تفسيرٌ لهذه الحيرة؛ فالجزء الأكبر من النصِّ «ملاحظاتٌ» مسرحية تصفُّ — وعلى نحوٍ تفصيلي — المكونات البصرية (الملابس، الديكور) والصوتية للمسرحية، والتي تشير إلى فصولٍ متفرقة للشخصيات؛ وعند اقتراب النهاية فقط، يقوم اثنان من هذه الشخصيات بإلقاء تعليقَين لا قيمةَ لهما. مَن الذي يكتب مسرحيات على هذا النحو؟ إنه الفنان وبالنسبة إلى هذا الفنان تحديدًا، فإنَّ أهمَّ شيء لديه في هذا العرض الذي يقدِّمه هو فكرة السواد. يتكوَّن مظهر الممثلين على النحو التالي: بدلة سوداء وقميص أسْوَد لدى أحدهم، فستان أسْوَد لدى ممثلة، بنطلون قصير أسْوَد مع ربطة عنقٍ سوداء لدى ثالث. بالنسبة إلى الديكور، مع الأخذ في الحسبان أن خشبة المسرح مُضاءة بأشعةِ شمسٍ ساطعة وحارَّة، نجِدُ الجدران والسقف والأرضية والستائر والموائد والمفارش والأواني والكُئُوس كلَّها باللون الأسْوَد، حتى الخشب عند المِدفأة باللون الأسود، في حين تبدو الأشجار والسماء من خلف النافذة وقد اكتسبا لونًا أسْوَد، ونجِدُ الكماليات عبارةً عن باقةٍ من زهور التيوليب الأسْوَد وآنية زهور سوداء.

من الأمور المهمة بالنسبة إلى بارخين، النوتة الموسيقية الصوتية التي أعدَّها ووضعها على نحوٍ تفصيلي مثلما وضَعَ التفاصيل البصرية: «(قفل النافذة)، إي، إي إي (صرصرة المفصلات) تيو، تيو، تيو، فيت، جوخ، جوخ، جوخ (زقزقة الطيور) شي… شي، إي… إي… إي… إي، إي (خشخشة أوراق الشجر بسبب الريح)، بيو – بيب (صوت آلة تنبيه السيارة) أي، إي، أَأَ أَأَ… إخ… داي… أوف… (صياح الأطفال)، شي، شي، شي، شي (خبط الفتيات على أردافهنَّ)، الذي يتحوَّل إلى صوت ش… ش ش… ج… ج… ج… أَ… أَ… أَ… ش… ش… ش… (ضجيج طائرة محلِّقة)، (دزين – دزين – دزين. تراسك) (صوت تهشُّم آنيةِ الزهور الزجاجية)؛ وأخيرًا، صوت اصطدام ركبتَي الفتاة وهي تجمع الزجاج من الأرض، والذي كُبِّر بواسطة الميكروفونات المثبتة في أرضيَّة المسرح.»٢٣ تم مواصلة الموسيقى التي وضعَهَا بارخين لأصوات وضجيج صوت الممثلين، وأُنْهيَت بتعليقَين قيلا في نهاية العمل. نذكُر أنَّ فهم النص المنطوق (بمختلف مقاماته ونوَتِه الموسيقية وإيقاعاته) والأصوات والضجيج (من مختلف المصادر والأنواع) باعتبارها عناصرَ ذات دلالاتٍ متساوية في البناء الصوتي للمسرحية؛ قد أكَّده وجسَّده في مسرحياته ر. ويلسون، أكبرُ أساتذة مسرح الفنان.٢٤
المسرحيتان التاليتان اللَّتان كُتبتا في عامَي ۱۹۹۳م، و١٩٩٤م، مع أنَ حجمهما الصغير لا يزيد على حجم المسرحية الأُولى؛ فهُمَا أكثرُ شبهًا بالمسرحيات المعتادة من هذا النوع، في أنَّ الشخصيات فيها تتبادَلُ التعليقات، وتبدو وكأنها تستوضح شيئًا ما فيما بينها، وفي الوقت نفسه تُوصف هنا الأفكار السينوجرافية التي أراد الفنان، بصورةٍ أو أخرى، أن يحقِّقها على خشبة المسرح. في مسرحية «إدراك»، تراجيديا لمسرح الورق من فصلٍ واحد، يتمُّ فيها البناء الفني على نحوٍ آنِي Simultané٢٥ والمكوَّن من عناصرَ متنوِّعة. في فضاءٍ واحد، نجِدُ أريكةً جِلدية قديمة مبطَّنة بالفرو، دغل من أشجار البيلسان وأشجار ثمرة الغبيراء الطازجة وأزهار الليلك ذات لونَين، كومة من مقاعد وثيرة لقاعة المشاهَدة وسماءٌ زرقاء مثلُ الموجودة في لوحاتِ الرسَّام بييرو ديلا فرانشيسكو أُضرِم أسفلَها نيران لشِواء اللحم. تتحوَّل التماثيل النصفية لكلٍّ من قيصر وبروتوس وهوميروس وسينيكا وقد تزيَّنوا بالألوان الفاتحة المفضَّلة عند بارخين، الأحمر والأبيض والذهبي والفضي، إلى شخصياتٍ ناطقة يعلَن عنها في قائمة ممثلي المسرحية المؤلَّفة بعنوان «سُعال في المسرح» («مسرحية سيئة الحظِّ»، كما حدد «نوعها» المؤلِّف)، تنتصب هذه التماثيل على قواعدها وسط الخشبة، ومن هذا الجانب يلقي الممثلون الآخرون تعليقاتهم.
ظهرت مسرحية «بلياردو في أرل»٢٦ كتثبيتٍ على الورق لإحدى الأفكار التي وضعها الفنان على هيئةِ رسومٍ تخطيطية. ولدَت هذه الفكرة بتأثير عروض الباليه الغربية، التي قد استُقدمَت إلى موسكو في الستينيات والسبعينيات … «فجأةً، شاهدتُ خشبةَ مسرحٍ خضراء يغمرها ضوءٌ ساطع (كان لديَّ مثل هذه الخشبة الصغيرة الخضراء في مسرحية «يفجيني أونيجين»)٢٧ ماكينة تملأ المكان؛ لقد أعجبتني كثيرًا دروس الباليه … على خلفية خضراء تجري راقصات الباليه، خمس عشرة «كُرَة» … من الفتاة الصغيرة إلى المرأة العجوز، مغنية ما ممتلئةُ الجسد ترتدي ملابسَ فاخرة. بعض المَشاهد كوميدية وبعضها الآخَر يحمل طابعَ المفارَقة Paradox، لعلَّه ليس عرضًا خالصًا للباليه. قمت بكتابة اصطلاحات الباليه كافة، لكنَّ أحدًا من مصمِّمي الباليه لم تكن لديه الرغبة في أن يقوم بهذا العمل، مع أنهم جميعًا كانوا يعاملونني باحترام.»٢٨

وفي مسرحية «بلياردو في أول» نجِدُ إلى جانب العناصر السينوجرافية ذات المضمون والدلالة المؤثرة (الفضاء الأخضر المغلق مع رقعة البلياردو، تنتشر فوقها أوتادٌ وأسطوانات وقِدرٌ تتصاعد إلى أعلى في البداية متراقصةً، ثم تهبط في ختام المسرحية)، ويقدِّم بارخين هنا فكرةً تشكيلية «كوريوجرافية» تحديدًا. وبالطريقة نفسها، يبدو وكأنه يتَّخذ الخطوة التالية منتقلًا من مسرح الفنان السينوجرافي إلى مسرح الفنان المتَّجه نحوَ بناءِ تكويناتٍ من شخوصِ الممثلين، وذلك بواسطة «رسم» حركتهم، تشكيلهم، وضعياتهم، وإيماءاتهم. نذكُر أنه في هذا الاتجاه يعدُّ الأمريكي د. ويلسون أكثرَ مَن حقَّق تقدمًا في هذا المجال. وقد سعى إلى العمل في هذا المسار كلٌّ من ل. موندزيك في بولندا، وأ. فراير في ألمانيا.

لقد صمَّم الفنان فكرته التشكيلية على نحوٍ دقيق وواضح: «شخصيتان ترتديان ملابسَ الباليه، في حين تجلس الشخصية الأخرى على الأرضية الخضراء محاطةً بجدران يجب أن تذكِّر المشاهِدين بلعبة البلياردو المعروفة بدون جيوب أو كرةٍ حمراء.» وفي هذا السياق، استهدف المخرِج شيئًا آخَر يخلق تداعيًا جوهريًّا للأفكار التي يجب أن تظهر مع ظهور لوحةِ «مقهى السماء» لفان جوخ. «تبدأ بعض الشخوص في التحرك بمصاحبة الموسيقى مقلِّدةً لعبة البلياردو، عندما تصطدم الكرة الحمراء بعد أن تتلقَّى ضربةً فترتدُّ مصطدمةً بالكرة البيضاء التي تصطدم بدورها بالكرة الثالثة، وهي أيضًا كرةٌ بيضاء … أندريه … يلحق بنينا، يقدِّم لها حركةَ باليه آخذةً في التلاشي جانبًا، ثم يرتدُّ هو نفسه عنها متَّجهًا نحوَ بيلا التي تنتظره بحفاوةٍ وترحاب بعد أن ترفع ساقها اليسرى.» تصاحب «الكوريوجرافيا» عباراتٌ يكرِّرها المؤدُّون عدَّة مرَّات وبالطريقة نفسها المتنوعة: ببطءٍ متعمَّد، وبصوتٍ عالٍ، ثم بهدوء، … وتأمُّل، وعلى طريقة السائرين نيامًا، بتعبيرات، بحيوية، بعدم اكتراث، بشكل أوبرالي بشكل معيشي يومي، بصورةٍ عادية، بتفاخُر، بطريقةٍ مسرحية، في حالةِ تأمُّل، بلهجة، بحزن، بمدح، بشكلٍ حماسي مفرط، بأصواتٍ مبحوحة، بخشونة، بغير أصواتهم الحقيقية، على نحوٍ وعظي، على نحوٍ حالِم، بتهيُّج، بغضب، بتساؤل، على نحوٍ احتفالي، على نحوٍ اعتيادي، باستخدام مقاطع صوتية، بالتحدث بسرعة، بمُشاكَسة، بفاحشِ القول، على نحوٍ مسالِم، بشكلٍ مدمر، وهَلُمَّ جَرًّا. يعبِّر طول هذه التناقضات عن لانهائية التنوُّع، واتحادها بعضها ببعض، واندماج الأصوات المتباينة والتناقضات المتصارعة. زدْ على ذلك أنَّ حركة «الكُرات» أيضًا، وفقًا لفكرة بارخين، ينبغي أن تكون متنوِّعة، وأن تتمَّ في أيِّ نسقٍ كان، يصاحبها التعثر والسقوط، تتخلَّف عن الموسيقى أو تسبقها.

يستهل بارخين مسرحية «الزئبق الأحمر» بالإشارة إلى أنَّ «الديكور والأزياء والنص بالأحرى لا أهميةَ لها، المهم هو ممارسة لعبة الكروكيه». أربع فتياتٍ يلعبْنَ الكروكيه وهنَّ يرتدينَ ملابسَ بيضاء، يتعرَّض لهنَّ شابٌّ بالغزل والمُلاحَقة. وهكذا تحوَّلَت هذه المسرحية التي ألَّفها الفنان نوعًا من التفسير لمسرحية «البلياردو». وفقط هنا، جرى اللعب في فضاءٍ صُمِّم على هيئة معبد. هذا الديكور «غير الضروري» في وصف بارخين يقدَّم باعتباره شيئًا ما جميلًا على نحوٍ خيالي؛ أعمدة أيونية مطعَّمة بالفيروز والمرجان، مزيَّنة بالمطاط الأصفر. الجدار الذي يعلو الأعمدةَ مصنوعٌ من الحجر الأحمر المضيء من أستراخان. جزء من كورنيش الجدار مصنوعٌ من الرخام الأزرق من جنوة، وهناك الرخام البوهيمي المُبرقَش والمُقرنَصات المصنوعة من الياقوت الأحمر والأصفر والزمرد والجمشت والزبرجد والعقيق اليماني، في حين صُنعت الجدران من الحجر اللؤلؤي، وصُنعت التماثيل من أشجار الخوخ المصري مرسومةً بلونِ الزئبق الأحمر الزاهي. وأخيرًا، تكتسي الأرضية باللون الوردي وقد وُضع فوقها مَرمَى لعبة الكروكيه؛ وهو عبارة عن كلبٍ ألماني من النوع ذي القوائم القصيرة يُدعى جورينيتش (يؤدي اللعبة طفلان) يطلق عليه النار من رشَّاش عدو الحيوانات (إلى جانب الكلب الألماني). هناك في المسرحية فرسٌ كستنائي اللون يُدعى المزمار (الفلوت) هو الملك ليونتي بوجاتي (ليونتي الغني)، هو أيضًا ينفجر مُصدِرًا رزازًا؛ فيقتل كلَّ الشخصيات برغوةٍ بيضاء رشاشة تغمر خشبةَ المسرح التي تبرز على سطحها أيادي القتلى وأقدامهم.

الخطاب الذي تسلَّمه بارخين من زميله الصيني في المهنة، رئيس كلية السينوجرافيا بمعهد بكين للمسرح أصبح هو الأساس الرسمي لمسرحية «دعوة إلى الصين»، المشاهد السينوجرافية فيها مصحوبة بعبارات روسية رديئة: البحوث عديمة الجدوى لهذا الخطاب نفسه ثم لعبة المانجونج الصينية وسط فضاء المسرح المشتعل بسبب الحريق.

وفي مسرحية «دعوة إلى الصين»، مثلها مثل المسرحيات الثلاث التي أخرَجَها بارخين، شكَّلَت العناصر السينوجرافية هذه المسرحيةَ لتصبح عملًا من أعمال مسرح الفنان. من هذه العناصر، على سبيل المثال، بدلةُ الممثِّل (المصنوعة من ورق البردي والمغطَّاة بكتاباتٍ هيروغليفية)؛ وتصوِّر البدلة خطابَ تيان-فين. أو اللمبات الخمس ذات الفولت القوي، والتي تُضيء بأشكالٍ وتكوينات متنوِّعة مشكِّلةً نوتةً ضوئية متحرِّكة، كان من المفترض أنْ تتماشى، وفقًا لفكرة المخرِج، مع النوتة الموسيقية التي كُتبت خصوصًا لهذا العمل تحت اسم «مؤلف موسيقي لخمس لمبات». على أنَّ المضمون البصري الرئيسي للمسرحية، انحصر في أكشن موسَّع للبحث الذي جرى عن الخطاب مع عرض الخزائن-الدواليب، وقد قُلبَت وطُرحَت الإدراج خارجها وبُعثرت وتطايرت الأوراق على المسرح، وفي الوقت نفسه تساقطَت ألسنةُ اللهب هنا أو هناك مندفِعةً من الشقوق الموجودة في الجدران والسقف والأرضية لتغطي الفضاء المسرحي بكامله، تصاحبها أصواتُ انفجار اللمبات، وصرير المفصلات ومزاليج السجن، وصليل أجراس الكنيسة المتتابِع، وهدير الشلال، والانهيار الجبلي، وعاصفةٌ من صرخات لاعبي المارجونج الصينية.

وكان مؤلف الكتاب قد نشَرَ عملية «دعوة إلى الصين» و«بلياردو في أرل» للمرة الأُولى في مجلة «تياترلنايا جيزن» (الحياة المسرحية) عام ١٩٩٤م، العدد العاشر. وانتهى الكتاب بخاتمةٍ عبارة عن نِقاش دار بينه وبين بارخين عن الدوافع التي حفزَته لكتابة هاتَين المسرحيتَين. وفيما يلي تفسيرٌ لهذه الدوافع كما رآها الفنان آنذاك.

– في البداية برزَت لديَّ الرغبة لا في كتابة مسرحية، وإنما في كتابة قِصصٍ قصيرة جدًّا. لقد تذكرتُ ثلاثة مواقف قمتُ بكتابتها، وقد كنت مفعمًا بالشعور بالرضا عنها. حدث ذلك، على ما أظنُّ، في عام ١٩٨٨م بعد انتهاء المعرض. وعندما رُحتُ أقرَؤها؛ رأيت أنها نالت استحسانَ الناس.

فيما بعد، وبسبب كوني أصبحتُ أنشر أعمالي، راحَت قِصصي القصيرة تجد طريقًا ما لها. وعندئذٍ انهالَت عليَّ الدعوات للتدريس؛ حدث ذلك في مكانٍ ما من صيف عام ١٩٩٢م. وهكذا قررتُ فجأةً أن أكتب شيئًا ما في شكلِ مسرحية، وحتى تلك الفترة كان يداهمني الشعور بالضجر أكثرَ فأكثر من جرَّاء تعسُّف المخرِجين الذين لا يتشاورون في اختيار المسرحية، ويقومون بحرِّيةٍ تامة بالتغيير في المسرحية التي لم يكتبوها. نعَمْ، التعسف المطلق للعاملين بالمسرح الذي شاهدتُه في بينا باوش وكارين ساراتش (وهي عمومًا رائعة)، وهنا أدركتُ أنَّ الكلمات تعجز عن التعبير عن أنَّ المسرح والكلمات التي قالها الدراماتورجي هما أمرانِ مختلفان. وعندما بدأتُ في الكتابة شعرتُ أنه يوجد هنا حرِّية أكثر بكثير في الواقع من تأليف مسرحية. أن أصفُ مسرحيةً متخيَّلة، هذا ليس سيناريو وليست معالَجة إخراجية.

عندما أقرأ، حتى ولو أفضل الأدب المتنوِّع عن المسرح (ألبيرس على سبيل المثال) لا أستطيع أن أفهم كيف تبدو المسرحية الموصوفة. يتحدث الجميع عن الدراسات، ولكنْ ما الذي جرى تقديمه على المسرح في هذا العمل المسمَّى «تورنادوت»؟ ما الذي حدَثَ فيها؟ وعلى أي نحوٍ حدث؟ أودُّ أن أرى، ليس مجرَّد أن أعرف أن هذا عملٌ عبقري. إن تورجينيف٢٩ يرسم المنظر الطبيعي وأنا أراه. وموباسان٣٠ يرسم باريس وأنا أراها، أرى حياة موسكو أو ساراتوفا في وصفِ بتروف-فادكين،٣١ ولكني لم أرَ مسرحيةً، لا من مسرحيات القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو السابع عشر أو العشرين، وإنما ومضات ما، وخاصة إذا كان الحديث يدور عن مسرحيةٍ متخيَّلة.
ما إن بدأتُ في الكتابة حتى أدركتُ فجأةً لماذا نرسم هذا الشيء تحديدًا هناك، إذا لم أكُن سأرسم منظرًا طبيعيًّا أفضلَ من المنظر الذي رسمه ليفيتان.٣٢

ففي الوقت الذي أرى فيه أنَّ كلمة «حَل المساء» أكثر اتساعًا من رسمٍ تحضيري لليفيتان، بل أقوى، وذلك لأنني لو قلتُ «حَل المساء» «هو يسيرُ في الطريق» أو «الطريق يُفضي إلى البِركة»، تنتصب أمامي اللوحات التي أستطيع أنْ أدقِّقها، فإذا ما سألتَ: ما حجم البِركة؟ وما نوع الحشائش أو الزهور هناك؟ فسوف أجيبك على الفور. أستطيع أن أتعمَّق في الخيال مسترشدًا بالكلمة، أيْ إنَّ الكلمة تستدعي الصورة.

وقد رأيتُ أنَّ الحرية هنا هائلة، وأنَّ الفنان وإنْ كان مخلوقًا ذا طبيعة فريدة، وهو الذي يبدع عالمًا جديدًا على خشبة المسرح؛ فهو مقيَّد بشيءٍ ما. أمَّا أنا، فأستطيع أن أُبدع كلَّ شيء هنا؛ سواء العالَم أو التاريخ، وكل شيء بمُنتهى الحرِّية. ربما إذا ما دخلنا إلى خشبة المسرح فعلينا أن نأخذ في حسباننا بعض القوانين المعمول بها. أستطيع وأنا أؤلِّف المسرحيات أنْ أتجاهلها كأنها لم توجد قَط. وهكذا فكَّرتُ أنه ربما من الممكن أن أؤسِّس مسرحًا؛ وقد حاولتُ. وللأسف ستواجهُكَ كثيرٌ من التعليقات. ولكن دون تعليقاتٍ؛ لا يوجد مسرح. ومن حيث المبدأ، فأنا مهتمٌّ أكثرَ بالعرض، ولكنْ ليس عرض الديكورات.

– وماذا عن إخراج مسرحياتك على خشبة المسرح؟ ألَمْ تكُن لديك هذه الرغبة؟

– ماذا تقول! أظنُّ أنَّ هذا الأمر مستحيل. أنت تقول مثلًا: ارسم أيَّ شيء يناسب النص. ولكنْ هذا الأمر غير ضروري أبدًا؛ لأنَّ الأمر لا يستحقُّ شرح شيء بواسطة شيء آخَر. ربما في مرحلةٍ لاحقة قد يصبح هذا الأمر ممكنًا، أمَّا الآن فالأمر بالنسبة إليَّ مِثلُ واحدٍ يقتل آخَرَ. أنا لا أكتب مسرحيةً لعرضها على المسرح. ما أكتبه شيءٌ يشبه المسرحية من ناحية الشكل؛ هذه دراماتورجيا خالصة، أنا أكتب بوصفي كاتبًا مسرحيًّا-مخرِجًا. أتصور هذا العمل مكتوبًا، ولكني لا أتصوره وقد أُخرِج؛ لأن العمل بكامله هو مشروعٌ معماري، أما العمل الآخَر فهو رسمٌ صغير للرسَّام كلي٣٣ عنوانه «المدينة»، ويمكن تنفيذه في الطبيعة. ولكنه لم يضَعْ له تصميمًا، وأنا لن أضع تصميمًا للمسرحية، أنا أصِف المسرحية التي أصبحَت بالنسبة إليَّ …
لم تنَل مسرحيةٌ واحدة من مسرحياتي إعجابَ أولئك الناس الذين سبَقَ لهم وأنْ أُعجبوا بقصصي القصيرة. لعلَّ مرجعَ ذلك، مع الأسف، أنَّها كانت أقربَ إلى أعمال العبث Absurd، ولم أكُن أودُّ ذلك. فكرة العبث لم تكن موجودةً، ومع الأسف فقَدْ ظهَرَ العبث كذلك كما لو كان مختلطًا بالفكاهة، وهو أمر لم أكُن راغبًا فيه قَط، لكنَّ هذا الانطباع قد جاء إمَّا على صورةِ سخرية، وإمَّا على هيئةِ نُكتة على المسرح، وإمَّا على هيئةِ ادِّعاء على شيء ما. على هذا النحو خرَجَ الأمر بسبب جهلي.
– ما رأيك إذا كان ديبور ملتزمًا بالموتيفات نفسها عندما كتَبَ مسرحياته في عام ١٩١٧م؟٣٤ هل كان يسترشد بالموضوعات نفسها؟

– آنذاك كان الناس يرون أنَّ أهمَّ شيء بالنسبة إليهم هو اختراعُ شيءٍ ما جديد. كان كل شخص في تلك الفترة يبحث عن البيئة الملائمة له، عن فكرته الخاصة. ولا يزال هذا الأمر موجودًا حتى الآن. كان ديبور يتَّجه إلى المسرح، في حين كنت أتَّجه إلى الفن المسرحي. كان ديبور يريد أن يبدع مسرحًا جديدًا، مختلفًا عن المسرح الذي كان موجودًا آنذاك، في حين انحصرَت رغبتي في أن أدير مسرحي بدون أموال. يخيَّل لي أننا الآن في مرحلةٍ مختلفة. الأحرى أنني أنصرف إلى قوقعة، أمَّا هو فقَدْ كان يسعى إلى كشف إمكاناتٍ جديدة للمسرح.

هذا الحوار أداره: ف. بيركيزين٣٥
كانت آخر مسرحية كتَبَها بارخين في عام ٢٠٠٣م (وقت كتابة هذا الكتاب) بالاشتراك مع ك. جينكاس الذي كان موجودًا في هارفورد، حيث كانت تعدُّ النسخة الأمريكية لإخراج «السيدة صاحبة الكلب» من تأليف أنطون تشيخوف. ومثلما حدَثَ في وقتٍ ما، إبَّان العمل في مسرحية «الصيف الأسود» على «تِلال نيكولين»، هناك أيضًا كان الجوُّ رائعًا مثيرًا للشجن: شمس، صيف خالٍ من القيظ، وعلى مقربةٍ كان هناك كوبوريه.٣٦ كلُّ شيءٍ هادئ في المسرح، والأمور على ما يُرام. الجميع راضون. من جينكاس إلى المدير، من رئيس المكان إلى الفنانين. والوقت رحب. فكَّرتُ: عن أيِّ شيءٍ أكتب؟ «أكتب عن أعزِّ شيء.» كانت أعزُّ المخلوقات بالنسبة إليه هي الكلاب التي عاشت سنواتٍ طويلةً في بيته باعتبارها أفرادًا من العائلة. «خيِّل له أنَّ هناك كلابًا حيَّة، ولكنَّ هناك أيضًا كلابًا ميتة كثيرة، وإنَّ لدى هؤلاء فردوسًا، فردوسهم، أو مكانًا لهم في الفردوس … إنهم ينتظرونني، ويعتبروني واحدًا منهم. يتوادون فيما بينهم، يتفاعلون مع عالم مبتكرٍ ما. هذا كلُّ ما في الأمر.»٣٧
في التراجيكوميديا السخيفة، حسب تعريف الفنان الذي وضعها، فإن الفضاء المسرحي لفردوس الكلاب هو هذه «الروعة» التي تجعل المشاهدين «يتعجبون» ببساطة. هذا الفضاء مغمورٌ بضوءٍ مبهر للمباتٍ قوية جدًّا، إلى درجة أنَّ المحولات الكهربائية المغذِّية لها تهتزُّ وتئز مصدِرةً موسيقى لا نهائية جي… جي ي ي. جي ي ي… جوووو… وووو… ووووو… (وهذه الموسيقى نُفِّذَت، وفقًا لفكرة المخرِج، بواسطة شفاه المشاهِدين، والتي قام بتوزيعها المؤلف الموسيقي أ. باكتشي) وفوق خشبة المسرح (التي تصوِّر منظرًا طبيعيًّا للفردوس: تلال خضراء، شجرة غصونها مملوءة بآلافٍ من أوراق الشجر)، تُوضع تنانين ميكانيكية وكأسٌ فوق البكرة السوداء (هنا اقتباس من الشاعر ماندلشتام٣٨ كما يشرح لنا ذلك بارخين) ينساب منها «شلَّال من المياه البلورية الشفَّافة» تتدفَّق من زجاجةٍ بلاستيك بها مياه بورجومي٣٩ المعدنية موضوعة على زهور القنب، بالإضافة إلى أنَّ «المياه المتساقِطة بشكلٍ رائع تخرج من خلال أنبوبٍ شفَّاف ليعود مرةً أخرى إلى الزجاجة»؛ تعيش شخصيات المسرحية (الكلاب المحبوبة) في بيوتٍ متنوِّعة الأشكال، موصوفة تفصيلًا، رسَمَها الفنان على نحوٍ شفاهي، وكذلك وصَفَ الهيئة المميِّزة لكلٍّ من هذه المخلوقات بحيث تكون على هيئةٍ إنسانية. ويؤكِّد باخين أنه لا ينبغي أن يكون هناك أيُّ قناعٍ على هيئة كلب، وهو يضع نموذجًا لزيٍّ «ولموسيقى مستوحاةٍ من نباح الكلاب، من العويل والعواء المعبِّر عن السرور والصَّوصوة والأنين، والتي يمكن أن تتحول إلى كلماتٍ من مفردات البشر، تنطقها المخلوقات التي لا تستطيع أن تعبِّر بها بلغة الكلاب التي تعرفها.

(٦) في كلية السينوغرافيا التابعة للأكاديمية الروسية لفنِّ المسرح

بعد أن تخيَّر بارخين «مسرح الورق» لكي يجسِّد رؤيته الفنية لمَا يجب أن يكون عليه المسرح الواقعي؛ راح يقدِّم للطلبة إمكانيةَ أن يجرِّبوا أنفسهم باعتبارهم مؤلِّفين للعرض، وذلك تحت إشرافه في كلية السينوجرافيا التابعة للأكاديمية الروسية لفن المسرح RATE، وهذه الإمكانية التي قدِّمت لفناني المستقبل باعتبارها واحدةً من المهام الدراسية في مادةِ عمل الفنان مع المخرِج، تمثَّلت في تنفيذ تمثيلِ مشروعٍ سينوجرافي بين عددٍ من المشروعات، التي يُجرى تنفيذها لموضوع يقدِّمه لهم المشرف، يتضمن تصميمًا لحكاية. لم يحدِّد بارخين هنا أيَّ مهام خاصة (وبالأحرى لم يحدِّد مهمةً من مهام مسرح الفنان). لقد أراد أن يغوص الطلاب في البيئة المسرحية، وأن يستشعروا الجوهر الجماعي للحِرفة، وأن يصِلُوا من ثَم إلى مغزى هذا الجوهر، ليس فقط من ناحية تصميم مكان الحدث، وإنما أيضًا من ناحية ابتكار الحدث نفسه، الذي عليهم هم أنْفُسهم أن يؤدوه.٤٠

ومن بين الموضوعات الأربعة التي طُرحت، موضوعان بالفرنسية هما «سندريلا» و«القط ذو الحذاء العالي»، وموضوعان آخران بالروسية، «حكاية الملك سالطان» و«حكاية الديك الذهبي». وقد تم اختيار «الديك الذهبي» وقدَّمت أ. يكالوفا الرسومَ التخطيطية في معرض الربيع الذي أُقيم في عام ١٩٩٤م.

تقع أحداث المسرحية في غرفةٍ من تلك الغرف التي عادةً ما تُجرى فيها دروس الرسم. وتعدُّ القوائم المعلَّقة هنا على جدران استوديوهات الدراسة عنصرًا من عناصر التصميم، وهي من الأغراض التابعة لهذا المكان. وعندما يأخذ المشاهِدون الأماكن المخصَّصة لهم وينتظم الممثِّلون في تجهيز خشبة العرض في الجزء المتبقي من الغرفة؛ تكتسب الغرفة سمات الفضاء المسرحي، الذي يدل عليه هنا مسطحان ورقيان قد وُضِعا في الرُّكن وقد ثُبتا في لوحة الرسم. يظهر القيصر دودون (وتؤدي دوره الممثلة أ. جليبوفا) مرتديًا تاجًا ورقيًّا مرسومًا يشبه غطاءَ رأس المهرِّج، الذي يضع مكياجًا لقناعٍ أبيض وأنف المهرج الحمراء. جرَّ صندوقًا من الكارتون مليئًا بالرمل وأدوات الطلاء وفرشاته. يمزِّق الصندوق ويبني مملكتَه من الرمل «المعجون»، يقيم أبراجًا ويغرز فيها أعلامًا صغيرة وشموعًا يشعلها، يحيط مدينته بدائرة سحرية حدودية باللون الأزرق. يجلس فوق نقَّالات اللُّوج المزخرَفة التي أحضرها «خدَم مقدمة المسرح»، يستغرق في النوم إلى جوار مملكته التي صنعها وقد غمره شعورٌ قوي بالارتياح، إلى درجة أن الجيران «الغاضبين» لم يتمكنوا قبل مرور مدَّةٍ طويلة أن يوقظوه. لقد حاولوا معه بكل الوسائل: راحوا يُدغدِغونه بالفرشاة، لطَّخوا يدَيه بشتَّى الألوان، وعندما استيقظ في النهاية بدأ الأكشن التشكيلي الثاني (بوصفه استمرارًا لموضوع «لقد أصبح الجيرانُ مزعِجين …»)، المبني على التمثيل برُوح عروض الهابيننج، مع الأشياء والألوان والأدوات. «الجيران» بقِطَع من الشرائط الملوَّنة يرشُّونه بالطلاء، وفجأةً يخيفونه ﺑ «ألسنة الذئاب» المهتزة عاليًا، يضربونه بأيدٍ محشورة في الورق، يتراشقون بالتراب ثم يهدمون المملكة الرمالية من أساسها … وهكذا يُجرى أداء عروض الأكشن الفنية، وكذلك الموضوعات الأخرى للمسرحية. على سبيل المثال، ظهور المُنجِّم في ملابسَ زرقاء مفضضة وغطاءِ رأسٍ خيالي، ثم الديك الذهبي الذي تؤدِّي دوره عصًا عادية جدًّا، ملوَّنة بشكلٍ مصطنع، ومزركَشة بريشٍ ورقي مذهب، وهي في يدَي ودون «تطير» فوقَ خشبة المسرح وفوق رءوس المشاهِدين، ثم تُطلق بعد ذلك إشارةٌ من أعلى «البرج» (الدولاب الموضوع في عمق الغرفة). الحرب جرى تصويرها أيضًا بشكلٍ مضاعف وفني جميل بفرشات كبيرة، وقد رُسمت آثارٌ من دماء المحارِبين على جدران ورقية مسطحة، بعد أن حُفر «قبرٌ» مزدوَج (موضوع في وضعٍ أفقي على هيئة «البرج»-الدولاب) عليه أجسادُ أبناء التنصير، «دودون» وهُمْ قتلى. وأخيرًا، تظهر بالكاد أكثرُ النماذج البصرية للمسرحية تأثيرًا، وهي ملِكة شمياخان،٤١ ذاتُ القامة الطويلة التي تقترب من السقف، بيضاءُ ترتدي ملابسَ من كُراتٍ فيروزية تشعُّ بضوءٍ داخلي على نحوٍ غامض، تسير بحركاتٍ نشيطة ذات إيقاع، وذلك من خلال كثيرٍ من الأيدي الراقصة التي تمسك بمروحةٍ عجيبة ذات ألوانٍ متعددة، وعندما تنحني يتحوَّل ثوبها إلى خيمةٍ لقيصرة شيماخان.

عند إخراج مسرحية «الديك الذهبي»، قام ك. جينكاس بمساعدة الطلبة، وكان جينكاس قد تلقَّى دعوةً من بارخين لتقديم دروسٍ تحت عنوان «عمل الفنان مع المخرِج». وبعد مرور عام، عندما قرَّر جينكاس وطلبته أن يعيدوا هذه التجربة على نحوٍ مستقل تمامًا؛ أخبروا بارخين بالأمر، وذلك بعد أن انتهوا من إعداد كلِّ شيء، وكانوا يقومون بالبروفات ويعدُّون كلَّ شيءٍ ليلًا، وقد شاهَدَ بارخين المسرحيةَ في صورتها النهائية، مثله مثل باقي المدرِّسين.

كان هذا العرض قائمًا على موتيفاتٍ في قصيدة جارسيا لوركا «أغنية السائر نائمًا» (من سلسلة «أغانٍ غجرية»). وقام كلُّ مشترك بتأليف نموذجٍ بصري لبيتٍ أو بيتَين شعريَّين، وهكذا يكون البناء الفني للعمل كما لو كان قد تمَّ على نحوٍ تلقائي مزاجي مبنيٍّ من «مقاطع» لموتيفاتٍ عاطفية، من هذه الأغنية العاطفية، لا يجمع بينهما رابطٌ مشترك. «لقد حاولنا طويلًا أن نؤلف موضوعًا، وأن ننسِّقه في نظامٍ ما، ولكنْ أصبح لدينا في النهاية معرض لتمريناتٍ حِسية.»٤٢
كان الفضاء المسرحي في هذه المرة، إضافةً إلى قائمة الدرس، هو هذه الردهة الضيِّقة المؤدية إليها. وفي هذه الردهة تم أداء المقدمة Prolog: غجريةٌ إسبانية تبيع في كشكِ البيع برامجَ العرض المرسومة والمكتوبة بخطِّ اليد. وفي لحظةٍ ما، إذا بها تختفي عن أعيُنِ المُشاهِدين بواسطة شاشةٍ شفَّافة ملوَّنة. وفوق هذه الشاشة، تؤدي موتيفيةً ما مستخدِمةً وسائل مسرح الظِّل على نحوٍ تعبيري، وذلك من خلال قراءتها لأبياتٍ شعرية على هذا النحو، وبعد أن تنغمس في جوِّ السير نومًا، تدعو المشاهدين للدخول إلى الغرفة البيضاء، حيث يتمُّ إجلاسهم عند جدار من الجدران. لقد جرى تصميم الفضاء المسرحي هنا باستخدام أقمشة بيضاء، وكذلك غطيت الأرضية من الأقمشة نفسها. الفتاة ذات الثوب الأسود، تسير ببطء على نحوٍ شعائري وقد تَغطَّى وجهها بشاشٍ أبيض، ثم تروح تعلِّق هذه الأقمشة على أحبالٍ ممتدة في شتى الاتجاهات صانعةً أكشن لإعادة تنظيم الغرفة وتحويلها إلى مكانٍ صالح للتمثيل.

اكتسبت المَشاهد التشكيلية التالية مغزًى شعائريًّا مجازيًّا وشاعريًّا، يرتبط بتداعي المعاني، وهذه المَشاهد تؤدَّى دون نصٍّ مصاحِب، أو بمصاحبة أبيات من الشِّعر يلقيها الممثلون وسط صمتٍ مُطبِق أو على صوت دقَّاتِ إيقاعاتٍ حادَّة، ضربات، صريف، ثغاء؛ توثر جميعها في اللاوعي، ناقلةً بصعوبة الكلمات المشروحة، مزاح هذه الموتيفية أو تلك. وفي سياق ذلك، فهي تبدو في بعض الأحيان أكثرَ اعتياديةً ومحدودية. على سبيل المثال، ما الذي يمكن أن يكون أكثر عادية ومحدودية من مشاهد ممتلئة بخمس فتيات متشابهات (يرتدينَ ثيابًا سوداء، ويلففنَ وجوههنَّ بضماداتٍ من الشاش الأبيض ويسِرنَ حفاة) إحداهن تنظر في المرآة، والأخرى تقضم رغيفًا من الخبز، والثالثة تتسكع ممسِكةً بسيجارة، والرابعة تجلس على الأرض في تركيز ولمدَّةٍ طويلة، آخذةً في كرمشة وطيِّ ورقةٍ تُصدِر حفيفًا، في حين راحت الخامسة تلفُّ رأس شابٍّ بشريط، محوِّلة إياه إلى كتلةٍ بيضاء تمامًا، يصيح الشابُّ، هدفًا لهجوم «مَلَاك الموت» ذي الجناحَين المعدنيَّين الأبيضَين خلف ظَهْره، وله قناع يشبه التنين. شكلٌ آخَر للقناع-غطاء الرأس؛ مصنوع من الورق ومزخرَف بأشكالٍ منوَّعة وملوَّن يقدَّم على خشبة المسرح زينةٍ نسوية، ومرةً أخرى على نحوٍ شعائري تقوم الفتيات بتغطية شخصيةٍ ثالثة بنسيج أوراق شفَّاف من التُّل.

أهمُّ عنصر من عناصر العرض، هو تلك التكوينات الفنية الجميلة، التي تؤدى في مشهد، فتحوَّل دورَ ألوانٍ ملوِّنة «جرافيكية». وقد ظهرَت هذه التكوينات (متجهة إلى المسرح) في لحظاتٍ محدَّدة من المسرحية (بوصفها — على سبيل المثال — تكوينًا لموتيفية المنظر الطبيعي أو تصويرًا لشخصَين رجلَين يجلسان على المائدة) لتمثِّل تجسيدًا بصريًّا للأبيات الشِّعرية التي يلقيها ممثِّلون يختفون وراء ستارٍ من القماش. يجري تقريب الرسم من المشاهدين ليهبط بعد ذلك على الأرض، وعلى هذا الرسم يجري عرضُ أكثرِ مَشاهد المسرحية دراميةً. الفتاة التي ترتدي ثوبًا من ورق السليلوز تمزِّق ثوبها في يأسٍ بمصاحبة ضرباتٍ حادة، وتقطِّعه إلى مِزقٍ صغيرة تنثرها. بقية الفتيات ينكمشْنَ على أنفُسهنَّ جالساتٍ على الأرض على هيئة كومةٍ من شرانقِ دودة القزِّ، ينغلقْنَ على أنفسهنَّ متدثرات بالملاءات البيضاء التي انتزعْنَها من فوق الجبال ليزحفْنَ طويلًا نحوَ الباب.

استحسن جينكاس، الذي كان لا يزال يواصل آنذاك تقديمَ دروس الإخراج، هذا العمل الذي تميَّز باستقلاله، ورأى فيه استمرارًا للعمل الذي قاموا به في مسرحية «الديك الذهبي»، والذي أخرجه بعد مرور عدة سنوات في البهو العلوي لمسرح المُشاهِد الشاب في موسكو TUZ. ومع أنَّ هذه المسرحية احتفظَت بالأساليب الفنية التي توصَّل إليها الطلاب وطريقتهم في استخدام وسائل التعبير البصري؛ فإن هذه الأساليب كانت تنتمي إلى العمل الاحترافي الذي استخدمه مصمِّمو السينوجرافيا (وكانوا من التلاميذ الذين أنهَوا معهد بارخين) والذي لم يتشكَّل في أعمال مسرح الفنان. تميز العمل بوصفه عملًا تمثيليًّا مرحًا، جرى تنفيذه على نحوٍ فني رفيع، كما هو الأمر دائمًا عند جينكاس، قام بأدائه ممثلون شباب في مسرح المُشاهِد الشاب في موسكو.

لم تستوعب المسرحيات التي أخرجها فيما بعد المعلِّمون-المخرِجون بوصفها من أعمال مسرح الفنان. كان المخرِج ن. يايكو أولَ هؤلاء المخرِجين، ثم جاء بعده أ. ليدوخوفسكي، وقد تميزَت عروضهما بشكلهما الواضح والإخراج المبتكَر والسمات المتنوعة والتراجيكوميدية والجروتسكية للشخصيات، التي قام الطلاب بتصويرها بحماسةٍ شديدة، حتى إننا أحيانًا ما ننسى أنَّ هذه المسرحية هي لفنانين واعِدين، وأنه قد تمَّت إدارتهم على يدِ أستاذٍ واثق، وقد عملوا بوصفهم ممثلين. لقد ظهَرَ هذا الإحساس أيضًا في المسرحيات الأُولى التي أخرجها ي. كوزيلكوفا (شجرة عيد الميلاد عند ك. أيفانوف)، و(حلقة الرقص والغناء) في يونيو فقط من عام ٢٠٠٤م، حيث ظهرت مسرحية شارك فيها الطلاب لا بوصفهم ممثلين؛ وإنما بوصفهم منفِّذين قاموا بتأليف التكوين الفني المسرحي من خلال ستِّ دراسات على موضوع «بوراتينون». بعبارةٍ أخرى، أدَّى الطلاب أدوارَهم في هذه المرة بوصفهم شخصياتٍ لا تتميَّز بصفةٍ خاصة، واضعين أقنعةً نصية سواء، مرتدين زيًّا أسود موحدًا، محرِّكين لنماذجَ بصريةٍ صنعوها بأنفُسِهم.

الدراسة الأُولى، ظهور البطل وتشكيله بوصفه شخصية. يصطفُّ الناشطون ويشيِّدون من اليسار إلى اليمين في مستوى الصور قطعةً من النسيج الأبيض الورقي، يتناولون طرَفها من يدٍ إلى يد. ضوء بالروجيكتور يزحف ببطءٍ ليتوقف في المنتصف، حيث يخترق النسيجَ من الخلف أنفُ خشبةٍ طويلة، ويسقط النسيج على الأرض، ونشاهد قناعًا ذا أنفٍ طويل وعيونٍ متَّسعة مثبتة بمشبكِ غسيل في حزام الشخصية المركزية، وتبدأ الشخوص الأخرى في تغطيتها لتتحول إلى شخصية بوراتيو. الشخص يُسوَّى ثوبه وقميصه وتُشبك أزراره وتُقلب أكمامه ويُنظَّف حذاؤه وجوربه المخطَّط، يثبتون ساقَيه المصنوعتَين من القماش فوق النسيج، ويثبتون غطاء الرأس الورقي، ويلوِّنه بخطوط عَرْضية، يُلبسونه ياقته مطرزة، بعدها يُطعمونه بملعقة من الطبق يملَئُونه بسائلٍ من زجاجة، ويمسحون فمه بمناديل ورقية.

بعد ذلك يبدأ تحديد هوية الشخصية، وعلى النسيج المرفوع من جديد والذي تحوَّل الآن إلى شاشةٍ تعكس ظلال الأيدي كلمةَ «ماما»؛ وعلى الشاشة يضيء تعليق بصري ساخِر يعمل على إسقاط صورة العذراء والوليد الكلاسيكية، ثم تكتب اليد كلمةَ «بابا»، ويظهر على الشاشة تمثالُ حصان دوناتسيلو، وفي النهاية يظهر حرفُ Y كبير، وهو الحرف الذي تتحدَّد هويته» مع رسمٍ لأبولون بلفيديرسكي نفسه، وهو النموذج الإغريقي للجمال الذكوري، لا أكثر ولا أقل.

عندما يخرج قناع «بوراتيو» «إلى العالَم»؛ فإنَّ كل شيء حي ومتحرك، يثير لديه الرغبة في التحطيم. ويتابع بوراتينو الفأر الزاحف نحوَ الطبق بخطواتٍ متردِّدة ليقذفه بشاكوش، وعندما يجد نفسه محاطًا بفراشات بيضاء مرفوعة يقذفها بالنبلة. يدوس ويمزق الكائنات الزاحفة على الخشبة المصنوعة من الخراطيم المطاطية إلى قِطَع، يقفز بسرورٍ ويخوض في «البِرَك» من أثرِ أول مطرٍ سيراه في حياته، والذي يسقط فوقه عنقودٌ من كُراتٍ مملوءة بالهواء و«السُّحب» البنفسجية الناتجة من تيار مياه حقيقيةٍ مندفِعة من رشَّاشة الحديقة، يختبئ منها بالمِظلة السوداء التي يحملها في يده.

تضع مالفيتا، بطلة الدراسة الختامية، على رأسها شَعرًا مستعارًا أجعد ورثًّا يؤطِّر وجه الممثلة، التي تتحرك على رُكبتَيها ناقلةً على الأرض ساقَيها الملفوفتَين بقماشٍ مهترئ، البارزتَين من تحت ثوبها. تمسك مالفيتا في إحدى يديها بقطعةٍ مخطَّطة من رقبتها الطويلة، وفي يدها الأخرى تحمل دلوًا وجاروفًا من لُعب الأطفال. شخصٌ ذو ملابس سوداء يضع أمامها سلَّة بها رمل. تبدأ مالفينا، بعد أن ربطَت القطة في يدها، في صُنع كعكِ عيد الفصح من الرمل؛ في حين، راح بوراتينو يراقبها في فضول. تسحب مالفينا من السلة كيسًا من البلاستيك به علبة سجائر ماركة «بيلوموركانال»، تتناول سيجارة لنفسها، وتدسُّ أخرى في فم بوراتينو. تقدح الولَّاعة وتقرب النار من أنفه، بعدها تجمع كعكاتها وتغادر المكان. الشخص ذو الملابس السوداء يضمد طرَف أنفِ بوراتينو المحترق، وفي يده الممدودة يلبسونه مفتاحًا ذهبيًّا ثمينًا، وهنا يبدأ بوراتينو في مغادرة المسرح، مقدمًا طقوس الوداع لكل شخص من الشخوص السوداء، التي عادت لتصطفَّ من جديد، والتي بدأت الآن ترفع أقنعتها النصفية واحدًا تلوَ الآخر لتكشف عن وجوهها.

إن الطابع الفني لهذه المسرحية التي أعدَّها الطلاب، قد أكَّدت عليها بصورةٍ خاصة أستاذتهم المخرِجة ي. كوزيلوفا، عندما قدَّمت هذا العرض للمشاهِدين الذين تمَّت دعوتهم قائلة: «هم الذين قاموا بالتأليف، هم الذين عملوا وفكَّروا بصدق.» وقد ظهرَت الرغبة في الاستمرار في العمل مع الطلاب أيضًا لدى مُشرِفهم د. كريموف، لا باعتبار الأمر تكليفًا دراسيًّا من دروس الإخراج، وإنما على نحوٍ غير مدرسي، أي باعتباره برنامجًا يتجاوز البرنامج الأكاديمي في وقت الفراغ من الدراسة. وقد استجاب الطلَّاب بحماسةٍ شديدة لاقتراح المشرف وعاونوه بأن قاموا بتأليف عرضٍ برُوح مسرح الفنان، وفي هذه المرة، بكل ما تعنيه الكلمة؛ ذلك لأنَّ البناء الفني المقدَّم للجمهور، الذي وضعه مؤلِّف واحد لمسرحية «الأخطاء»، أصبح تحديدًا هو الفنان، وهو ما يعدُّ أولَ علامة من علامات هذا المسرح.

(٧) ديمتري كريموف

وصَلَ كريموف إلى مسرح الفنان الخاص به، وذلك بعد أن تجاوز، من ناحيةِ النمط، الطريقَ التقليدي: من السينوجرافيا والإبداع البصري. وخلافًا فقط عن الأساتذة الأجانب لهذا النوع من المسرح (كانتور، شاين، فراير، ويلسون) الذين اشتغلوا بالسينوجرافيا والإبداع البصري في آنٍ، كانت هذه مراحل مختلفة بالنسبة إلى كريموف في سيرة حياته.

في البداية عمل كريموف مصمِّمًا للسينوجرافيا من عام ١٩٧٦م حتى عام ١٩٩٠م، بعد أن أنهى كليَّة الإخراج التابعة لمدرسة استوديو مسرح موسكو الفني. وخلال هذه الفترة وضَعَ التصميمات لنحو مائة مسرحية، على رأسها مسرحيات الأب أ. ف. إيفروس: «عُطيل»، «شهر في الريف»، «الصيف والدخان»، «استمرار دون جوان»، «طرطُوف»، «عدو البشر»، «الحضيض». وقد تعاوَنَ كريموف مع مخرِجين آخرين من أمثال ي. آري، ومع البلغاري ف. كيسيليف (نذكر هنا المعالجة الإخراجية لمسرحية «محاولة الطيران» التي عُرضت في صوفيا وعلى مسرح موسكو الفني)، ومع المخرِج أ. جينجاشيرشيفيلي في فولجوجراد، حيث عمل كبيرًا للفنانين خلال المواسم الثلاثة الأخيرة في الفترة الأُولى من نشاطها المسرحي.

بعد ذلك جاء الانسحاب من العمل في المسرح، والعمل بالرسم لمدَّة تزيد على عشر سنوات، تناول فيها المسائل التي تبدو منقطعةَ الصلة تمامًا بالمسرح. وعن هذه الفترة يحكي الفنان قائلًا: «عندما بدأتُ في العمل بالرسم، كان عليَّ أن أنسى المسرح؛ لأنَّ الرسم يستلزم أن يتوقف التفكير، في حين ينبغي في المسرح أن يكون ذهنك حاضرًا بقوة. وإلى أن تتعلم كيف تبتعد عن التفكير تكون سنواتٌ طويلة قد مرَّت، وبعد أن تكون قد تعلَّمتَ التوقف عن التفكير تكون قد أدمنتَ الأمر.»٤٣
كانت العودة إلى المسرح محضَّ مُصادَفة. وقد عاد إليه كريموف على نحوٍ مختلف تمامًا؛ إذْ عاد إليه بوصفه مخرِجًا، لقد أقنعه الرفيق الممثل ف. جاركالين أن يجرِّب أن يخرِج له الدور الرئيسي في مسرحية «هاملت». وقد ظهرَت هذه المسرحية عام ٢٠٠٢م على خشبة مسرح موسكو للدراما باسم قسطنطين ستانيسلافسكي، لم تحظَ تجربةُ كريموف الأُولى بإعجابِ معظم النقَّاد، على أنه قد استمتع هو نفسه بالعمل وبعملية البروفات، والأهمُّ أنه أحسَّ برغبةٍ لم تخالجه من قبل، وهي أن يخرِج مسرحيات. إنه أمرٌ جديد حقًّا؛ إذْ إنه عندما وضَعَ تصميم مسرحيات لمخرِجين آخَرين، لم تراوده مثل هذه الرغبة، ولم تظهر لديه، عندما كان يضع السينوجرافيا، أي طموحات إخراجية. والآن فقط، وبعد أن عاد إلى المسرح، أحسَّ أن بداخله «شيئًا ما لم يكن موجودًا من قبل، وخاصة في هذا المسرح الذي أعمل فيه الآن، عندما يتجمع أمام عينَيك شيءٌ ما مع شيءٍ آخَر فكأنما يتولَّد من ذلك شيءٌ ثالث».٤٤
كان المسرح الذي عمل به كريموف بعد «هاملت» بدايةً لمسرح الفنان الخاص به. فبعد أن استوعب مغزى هذا التحول في حياته الإبداعية؛ يعترف كريموف قائلًا: «لو أنني لم أُمارِس الرسم، فلعلِّي لم أكُن لأتمكن من أن أصنع ما تسمُّونه مسرح الفنان.»٤٥ ويؤكِّد كريموف الدور الكبير، بل الحاسم الذي لعبَته الدعوة التي تلقَّاها من س. بارخين للذهاب إلى كلية السينوجرافيا التابعة للأكاديمية الروسية لمسرح الفن ليبدأ العمل مع الطلَّاب.

كانت مسرحيته الأُولى تسمَّى مسرحية «الأحكام المكبوتة»، وهي تقوم في الأساس على موتيفات الفولكلور الروسي، ويظهر المكوِّن الشفاهي هنا، وهو المكوِّن المميِّز لمسرح الدراما في صوتِ عجوزٍ قروية، تروح في بداية العرض فقط في قراءةِ مقطعٍ من حكايةٍ شعبية، ويحدث ذلك في البداية في وقتٍ يجلس فيه المشاركون العشرة في المسرحية ذوو الملابس السوداء الموحَّدة دون حراكٍ بامتداد الجدار الخلفي، على أنه ما إنْ ينهض هؤلاء المشارِكين ليبدَءُوا في السَّير صفًّا واحدًا نحوَ الجمهور حتى يصمُت الصوت، وبعد ذلك لا يسمع الجمهور على امتداد المسرحية كلِّها كلمةً واحدة، في حين يجري أمامهم تمثيل موضوعاتٍ تشكيلية تعبيرية بَحْتة بمصاحبة الموسيقى (تتنوع ما بين ألحانٍ متكرِّرة من ألحانٍ شعبية شائعة في توزيعٍ معاصِر، إلى مقاطع من باخ وموتسارت وشوستاكوفيتش) أو لأصواتٍ خاصة مبتكَرة (على سبيل المثال: صرير معدني مزعِج لمَفْرَمة لحمٍ، عواء كلاب، وما إلى ذلك). يتجسد كل موضوع من موضوعات الحكاية السبعة في نوعَين من الأكشن: في البداية، في تحوُّل شخوصِ الممثلين في النماذج المرئية للشخصيات؛ وفي نوعية هذه الشخصيات، وذلك من خلال أداء إيماءاتٍ وحركات وأفعال تتمُّ مع أدوات.

وفي المشهد الأول من حكاية «كان ياما كان»، وبعد أن يقوم المشاركون كافة بأداء إيماءةٍ شعائرية تتمثل في «غسل» شخصياتٍ مجفَّفة مملوءة بالدقيق؛ يتحرك من الصفِّ فتاةٌ وشاب، فتقف الفتاة في الجزء الأيسر من المسرح، في حين يقف هو في الجزء الأيمن. يخلعان قميصَيهما الأسْوَدين، وهنا يبدأ رفاقهما في الرسم بفرشاةٍ على صدرها، وعلى ظَهْره يرسم وجوهًا للشخصيات التي من المفترض أن يقدِّماها: خطيب، وخطيبته. بعد أن ينتهي رسْمُ العيون (يقوم المشاركون برسمها على كل جانبٍ من جوانب حمَّالة صدرها البيضاء) يرسمون أنفًا وفمًا، يشبكون ضفيرةً طويلة للخطيبة، ثم يلبسونها ثيابَ الزفاف البيضاء، ويلبسون الخطيب «بالطو» قديمًا من الخلف إلى الأمام، ويربطون له ذقنًا من نسالة الكتان، ويضعون على رأسه شنطةً منزلية قديمة مرسومًا عليها نجمة حمراء، يضعون في يديه آلة الهارمونيكا الموسيقية ويحوِّلونه إلى الفتى الأول في القرية. عندما ينتهي أكشن تحويل شخوص الممثِّلين إلى شخصياتٍ مسرحية، يبدأ الخطيب وهو يتحرك بجانبه خطوةً وراء الأخرى، مقترِبًا أكثر فأكثر من خطيبته، وكلما اقترب منها، أخذَت فقاعةٌ بيضاء في وسطه في الكبر، تنتفخ هذه الفقاعة ثم تنفجر. يهرول الخطيب فزعًا ويغمره الثلج فيزحف ببطء على الزحافات على نحوٍ قطري عبْر ممرٍّ مُضيء باتجاه عمق المسرح. تتحرك الخطيبة نحو المقعد الموضوع في منتصف خشبة المسرح. ترفع ساقها اليسرى فوق مسند المقعد. يتضح أن هذه الساق عبارةٌ عن عصًا خشبية كانت الخطيبة تَبْردها بالسكين لمدَّةٍ طويلة. وعندما ترتفع قطعةٌ من القدَم مع حذاء العُرْس الأبيض؛ تأخذه الخطيبة وتغطِّي به طرحة الزفاف، لتجلس وقد غمرها الحزن لتهدهِدها كما لو كان ابنها الذي لم تلِدْه.

يتغير الموضوع الدراسي الأول بفضل دراسةٍ أخرى جروتسكية على موضوع حكاية السمكة الذهبية، وتقوم ممثلةٌ واحدة بأداء دورِ شخصيتَين فيه. في البداية، يرى الجمهور امرأةً عجوزًا ترتدي تنورةً طويلة، ولها وجهٌ ضخم وخدَّان أحمران؛ ونجِدُ رسمًا رديئًا على كارتونةٍ ملفوفة بشالٍ. عندما تستدير العجوز، نرى في ظَهْرها شخصيةَ ممثِّل عجوز، موانئ متهاوية متَّسخة، قميصَ بحَّارة مخطَّطًا وفوقه مباشرةً قناعٌ لوجهٍ عليه تعبيرُ الذهول والاضطراب والإحساس بالضَّيم والنكد. يضع المساعِدون سنَّارة في يدِ العجوز الذي يؤدِّي مشهدًا تهريجيًّا محاوِلًا التوازنَ فوق «قطعة جليد طافية»، يصطاد السمكة الذهبية من خلال ثغرة فيها. وبانعطافةٍ في الأحداث، إذا بالسمكة الذهبية تسقط في يدَي المرأة العجوز. تسعى العجوز لتدسَّ هذه الثروة وتُدخِلها في فتحةِ فمٍ مرسوم على الكارتون، تمَّ تخريمها بسكين. من جرَّاء التوتر الشديد تخرُج الحدقات من ثقوبِ عينَيها؛ تنتفخ وتكبر تارةً وتصغر تارةً أخرى إلى أن تنفجر إحدى العينَين، في حين تزحف الأخرى عائدةً إلى شقِّ العين.

ومن جديد، يتمُّ تقديم موضوع ذي مضمونٍ درامي. مكان الحدث هو حقلٌ مزروع بالتوت البري مغطًّى بمربَّعاتٍ حمراءَ لامعةٍ من «الثمار». البطلة هي كراسنايا شابوتشكا (القبعة الحمراء)، وهي كائنٌ رائع وساذج. وجهها هو النصف الأعلى لشخصيةِ الممثلة: العينان مرسومتان على مقدَّم الكتفَين، الأنف على صفحةٍ من الورق، ينزلق من أسفل القبعة الحمراء، الفم ملوَّن بلونِ اليدَين الحمراء المضمومتَين على الصدر، إحداهما فوق الأخرى. يدا كراسنايا شابوتشكا عبارةٌ عن أكمامِ ثوبٍ طويلة، تهتزان بارزة منها قفَّازات بيضاء. أحد القفَّازَين يمسك بسلَّة، والآخَر يضع فيه المساعد «الثمار» ويقذف بها إلى «فمه». في هذه الأثناء، يمتلئ حقلُ التوت البري بعشر فتيات. هذه الشخوص الصغيرة، التي تضع رءوس أقنعة، مربوطة بمناديل بيضاء. أما الشخوص فمربوطون بأقدامِ خمس ممثلات يقُمْنَ بقيادتهم. لاعبات بعصيٍّ طويلة، تنتهي بفرشاتٍ يجمعْنَ «الثمار» المربَّعات في سلةٍ مشتركة. البطلة التي اقتِيدَت إلى منتصف الحقل، تدفعها اليدان من جانبٍ إلى آخَر، ترشُّ ثوبها الأبيض بألوانٍ حمراء من بالوناتٍ حمراء. نتيجةً لهذا الإجراء، تدقُّ المطرقة في كسارولة على إيقاعِ مارش الغزو من السيمفونية الليننجرادية لشوستاكوفيتش. البطلة «الغارقة في الدماء» ترقد على الأرض دون حراك، وعلى طرَف السرير من ناحيةِ الرأس صليبٌ خشبي مغروز، مع وجود قطاع عرَضي في المشهد الأول للساق ذات الحذاء للخطيبة.

وفي المشهد الثاني، ترتدي الساق الخشبية حذاءً، وتُستخدم بوصفها «سهمًا» يطلقه إيفان دوراك (إيفان الأحمق) من قوسٍ، ليندفع في أثره (يقوم أحد المساعِدين بحمْلِ السهم عبْرَ فضاء المسرح). تقوم إحدى الفتيات بتمثيل دورِ إيفان وقد ارتدَت قميصًا أبيضَ اللون وحمَّالة بنطلون ذات فتحاتٍ، في حين تدسُّ ساقها اليسرى في البنطلون، تتحرك ساقها الأخرى بحرِّية، وهي الساق التي يضع المساعد فيها حذاءً. ويتأكَّد عدمُ تناسق البدلة مع الشخصية من خلال انزياح ربطةِ العنق التي أزاحَتْها الممثلة إلى اليسار في ترافُقٍ مع ملامح الشخصية المرسومة بشكلٍ غير متناسِق أيضًا: عين مرسومة على الخدِّ الأيسر للممثلة، والأخرى على كرةٍ من ورق التواليت مرسومة في الفم. أما الأنف، فقد رُسم على الجانب الأيسر للرقبة، وإلى أسفل قليلًا توجد الشفاه.

في الموضوع الذي يدور حول رغيف الخبز، يتمُّ التحول في الشخصيات بطريقةٍ أخرى. يلفُّ المساعدون رأسَي شخصَين كانا يجلسان إلى مائدةِ الممثلين الطويلة بأوراقٍ سليلوزية، تتحوَّل «الخطوط البارزة» لهما إلى وجهَي رجُلٍ عجوز وامرأةٍ عجوز، يدقُّ الرجُل العجوز في توتر على المائدة بملعقةٍ طويلة. أما المرأة العجوز، فتدير يدَ مَفْرمةِ اللحم بلا توقُّف، واضعةً فيها كلَّ ما يصل إلى يدها (ذبابة اصطادتها، فأرة رمادية كانت تزحف على المائدة، وأخيرًا إصبعها التي بُترَت)! من هذا «المزيج المفروم»، عجنَت المرأة العجوز كرةً حوَّلتها إلى قطعةٍ من ورق السليلوز. رسمَت المساعِدة بالفرشاة على السطحِ الورقي المكرمَش عينَين وفمًا، وذلك يبعث الحياة في الرغيف ليبدأ في الزحف ببطء فوق المائدة حتى يصل إلى حافتها ليسقط منها على الأرض. تتلخص الخاتمة الدرامية للموضوع في أن الممثِّلَين، الرجُل العجوز والمرأة العجوز، يأخذان في الدقِّ بحدَّة على المفرش الورقي، يكرمشانه ويقلبان سطح المائدة العاري، وبعد ذلك يروحان في تقطيع وتمزيق الأغلفة الورقية التي كانت تغطِّي رأسَيهما إلى مِزقٍ صغيرة. يحاولان الخروج من تحت قناعَيهما. ولكنَّ المساعِدِين يجذبونهما في اللحظة الأخيرة خارجَ خشبة المسرح.

لا يتبقَّى من «الرغيف» سوى «مشهد ما بعد المعركة»، وفي المشهد التالي تدخل «ريبكا»، فنوتشكا (الحفيدة). يتمثل هذا النموذج في وجهٍ ملوَّن باللونَين الأبيض والأحمر، ولكنَّ الألوان في هذه المرة ليست رسمًا؛ وإنما هي وجهُ ممثلة تخرج زاحفةً على رُكبتَيها (هي مالفيتا في «بوراتينو»، وهو ما فُهِم هنا بوصفه «استشهادًا» ملائمًا تمامًا، يعبِّر عن التتابع الأسلوبي للمسرحيتَين) وهي ترتدي ثوبًا أبيض، أمَّا ساقاها ففي نسيجٍ رقيق منقَّط، ترتدي حذاءً أحمر اللون منتقلةً به (مقرِّبةً إحداهما من الأخرى) إبَّان حركة قدمَيها. تمسك فنوتشكا في يديها بدلوٍ ورشَّاشة. تلقي بالدلو على الأرض «وتسكب» الماء من الرشَّاشة، وبعد أن تُخرِج من حقيبتها الحمراء أحمر الشفاه لتكتب به على الدلو كلمةَ «ريبكا» تضع بالقرب منها على الأرض «ساعةَ منبِّه»، وتسير بجانبها نحو أريكةٍ طويلة، وهي عبارة عن لوحٍ وضعه المساعِدون على ثلاثة مقاعد من «الأرغفة». تأخذ الممثلة مكانها على أحد المقاعد، وتأخذ عبْرَ اللوح في إيقاد السيقان النسجية التي تحملها نحوَ حفيدتها فنوتشكا. على الطرَف الآخَر للأريكة يجلس المساعِد، وعلى رُكبتَيه تجلس الممثلة بابكا موليةً ظَهْرها للجمهور، وبعد أن يرفع قميصها ويعريها ينكشف أمامنا رسمٌ رديء لوجه البطلة الضخم مغطًّى بشال. وإذا كانت الأقنعة في المَشاهِد السابقة المرسومة للوجوه أو «المنحوتة» للشخصيات بصورةٍ أو أخرى غيرَ متحركة بشكلٍ أساسي (في «ريبكا» كان وجه ديدكا على هذا النحو عليه نظَّارات سوداء قرنية)، فإن الوجه المرسوم على ظَهْر بابكا تكاد تدبُّ فيه الحياة. تقوم الممثلة رافعةً خافضةً، تارةً إحدى كتفَيها وتارةً كتفها الأخرى، محرِّكة ظَهْرها بالتعبير عن مختلف تصغيرات بابكا، عدم الفهم، الخوف، الاستياء، وهَلُمَّ جَرًّا. بعد ذلك تنحشر يدَي الشريك وتتلطخ بالألوان التي رُسمَت بها «صورة» المرأة على نحوٍ رديء. عندما يدقُّ المنبه يخرجون من الدلو لا السمكة (كما ورَدَ في الحكاية) وإنما ضفدعة، وهنا يبدأ التفكُّك والتدمير الذاتيان للشخصيات الأخرى أيضًا. عند ديدكا، تنزلق من تحت النظَّارات على الجبهة الحدقاتُ الخضراء لتنتفخ إلى درجةٍ لا تُصدَّق ثم لتنفجر، وفي الوقت نفسه تسقط من قدَميها القصيرتَين المتأرجحتَين في الهواء الأحذيةُ المطاطية (يتمُّ تصوير يدي ديدكا وقد دسَّتا في جيبِ بنطلونها وقد اختفى وجهها خلف قناعِ الممثل). على الأريكة يتمُّ تمثيل أكشن قتلِ الفأرة. يُصَوصو كائنٌ أبيض ذو أنفٍ أحمر وعينَين عبارة عن أزرارٍ سوداء، يؤدي دورَ الفأرة شبشبُ منزلٍ موضوعٌ على ساقِ ممثلةٍ مرفوعة على الأريكة، يتمُّ القتل بواسطة مِصيدةِ فئران بدائيةٍ، يتم الحصول عليها من شنطة الممثلة نفسها. بعد أن تتسلَّق فنوتشكا الأريكة، تقصُّ ضفيرتها الطويلة بالمقص وتسقط معها على الأرض قدماها المصنوعتان من القماش. الممثل الذي يؤدي دور جوتشكا (الجعران) يقوم بجرحِ نفسه عمدًا، بعد أن يقرِّب من قدمه بندقيةً خشبية، بعدها يسير وهو يعرج ساحبًا خفًّا يرتديه «ملطخًا بالدماء» مغادرًا خشبة المسرح.

في المشهد الأخير، المسمَّى «موت الثعبان جورينيتش» يصل الموقف الدرامي إلى ذروته. وفي الوقت نفسه، يسود المسرحية جوٌّ جروتسكي تمثيلي، ساخِر ومُضحِك، بل عاطفي أيضًا.

من عمق المسرح «يحلِّق» «سهم» يحمله أحد المساعِدين، وهو السهم نفسه الذي أطلقه، كما نذكُر، إيفان دوراك من قوسه في المشهد الرابع ليصيب الضفدعة فتسقط في الدلو. يدانِ مدسوستان في جيب، قدَمٌ من الخرق تجرجر بشكلٍ أخرق. إيفان دوراك يحمل كلَّ شيء يحتاج إليه؛ لكي يقدِّم الأكشن التالي له، وهو المشهد ذو المغزى الشعائري والمتميز بالأداء المضحك والأحمق: مصباح غاز، مقلاة، سلَّة شبك بها ثلاث بيضات؛ يقترب إيفان دوراك أولًا من الدلو الذي بقي بعد ذهاب «ريبكا»، يُخرج منه ضفدعةً مطاطية منبطحة يقربها من شفتَيه، ثم يقبِّلها بصوتٍ مرتفع، بعد أن يسحب كرةً من الورق من عينه اليمنى المرسومة. وبعد أن يكرِّر هذه العملية ثلاثَ مرات (بمصاحبة أصواتٍ طائشة لِلَحن «موركا») يتوجَّه نحو مائدةٍ وُضعَت على يسار خشبة المسرح مُمسكًا بالدلو، يضع المصباح في قاعِ الدلو المقلوب، يشعله ويضع الضفدعة على الكَسَرُولة بعد أن يضع فيها جثة الضفدعة، يضع فوقها الفلفل والملح.

تحلُّ جوقة باخ محلَّ «موركا»، وعلى أنغام هذه الجوقة يظهر ثلاثةُ شخوصٍ يتحركون ببطء قادمين من عمق المسرح، مُولِينَ ظُهورَهم نحْوَ الجمهور، ثم يلتفتون تجاهه بوجههم. يعتمرون قبَّعاتٍ سوداء ويضعون خمارًا على وجوههم وقد ارتدوا معاطفَ طويلةً مطرزة باللون الأبيض، تطريزًا يشبه «الأجنحة»، في يديهم قفازات بيضاء ملطَّخة بالدماء تمسك بعصًا. شفاههم ملوَّنة بشكلٍ ناصع، عندما تنفتح تكشف عن أسنانٍ مضيئة لكائنٍ مخيف. هذا الكائن هو رءوس الثعبان جورينيتشا، التي تشير بالعصا نحو إيفان، الذي يأخذ في تكسير البيض في المقلاة على صوت «موركا» مرةً أخرى دون أن يلتفت نحوها. يكسر إيفان البيضة الأُولى، ثم الثانية، ثم الثالثة. واحدةً بعد الأخرى، تسقط رءوس الثعبان جورينيتشا، تخلع الممثلات القبَّعات والقفازات الحمراء، يخلعْنَ الأسنان المضيئة ويغادرْنَ المسرح واحدة وراء الأخرى. ظهور الخطيبة يكمِّل البناء الفني الدائري للمسرحية. تتحرك الخطيبة مُستنِدةً إلى عكَّازات، وهي تدفع أمامها عربةَ أطفال. يقترب إيفان دوراك، بعد أن انتهى من الطبيخ، من العربة، ويضع بداخلها السهم الذي كان يقلِّب به البيض قبل ذلك، ولكنَّ شيئًا ما بداخلها يعوقه؛ فيُخرج من العربة خرطومَ مروحة سميكًا وطويلًا؛ «جذع» هذا «المولود» يأخذ في الامتداد عبْرَ خشبة المسرح، فيمسك به كلُّ الممثلين، يهدهِدونه ثم يُلقون به نحو الصفِّ الأول من مقاعد الجمهور، ومن جديد يقوم «الوحش» المولود «يتشمَّمهم»، ثم «يزحف» إلى خارج حدود الفضاء المسرحي. تجِدُ الخطيبة نفسها وحيدةً فتروح تغترف من عربة الأطفال حفنًا من «الثلج» وتلقي بها وتردم بها خشبة المسرح. يصبح سقوط الثلج هو «اللَّحن» البصري الختامي للمسرحية.

قدم أ. فاسيليف خشبةَ المسرح المعدَّة للعروض الأُولى من مسرحية «الأحكام المكبوحة» في إحدى قاعات بوفارسكايا، وبعد ذلك، وبعد أن رأي ما فعله كريموف وتلاميذه اقترح أن يُدخِل مسرحية «الأحكام المكبوحة» ضمن أفيش ريبيرتوار «مدرسة فن الدراما». وفي الوقت نفسه، وبالاتفاق مع فاسيليف، راح كريموف يُجري بروفاتها بوصفها عرضًا. خطَّط له مقدَّمًا لمسرحية من مسرحيات «مدرسة فن الدراما»، وهي النسخة المسرحية لتراجيديا شكسبير «الملك لير»، التي أسماها «الشقيقات الثلاث». وقد أجرى كريموف بروفاته في هذه المرة على مسرح قسطنطين ستانيسلافسكي، مثلما فعَلَ في مسرحية هاملت، بمشاركة خمسةِ ممثِّلين محترِفين قاموا بأداء أدوار بناتِ الملك: الشقيقات الثلاث، والملك نفسه، ومهرِّجه الخاص. ومع أنَّ المسرحية قد عُرضت بوصفها مسرحيةً درامية؛ فقد احتوَت أيضًا على جوانبَ يمكن إدراجها ضمن جماليات مسرح الفنان، عندما أخرج إلى مقدمة المسرح الوسائل التعبيرية غير الشفاهية. وهنا نجد أنَّ الخلاف الجوهري، بين أسلوب «الشقيقات الثلاث» وأسلوب «هاملت». ومن الجدير بالاعتبار بداية المسرحية، عندما يتحول العرض، على امتداد الزمن المسرحي الطويل، والذي يؤدي فيه الممثلون أدوارهم في صمت، ونرى التكوينات الإخراجية المجسَّدة بشكلٍ تشكيلي، وكذلك التمثيل بالأدوات والأكشن الجسدي بمختلف أشكاله.

أول مَن تَقدَّم للجمهور هي كورديليا راقدةً على الأرض مُمسِكةً بكتابٍ لشكسبير. بعد أن تتوقف عن القراءة، تتابع سلحفاةٌ حيَّةً وتجرُّها إليها، وفي لحظةٍ ما يحلِّق فوقها طائرٌ ورقي. وطوال هذا الوقت، تقوم جونيريليا، تؤدي أكشن خاصًّا بها، فتحمل ماءً ساخنًا تارةً في دلو، وتارةً في برَّاد شايٍ لتصبَّه في حوضٍ كبير موضوع في مقدمة المسرح، ثم تهرع تجاه المهرِّج الضخم الجالس على الأرض في وسط القاعة، فتتسلَّق فوق ظَهْره وتضع يدَيه إلى الخلف، ودون تكلُّف تقصُّ أظافره، بعدها يقوم المهرِّج زاحفًا على أربع يجرُّها إلى عمق المسرح، ويضع منضدةً للعبةِ كُرة المضرب (بنج بُونج). يتبادل لير والمهرِّج «ضرْبَ» الكرة بواسطة مضاربَ حمراء، في إيقاعٍ بطيء كأنه إيقاع حالم بمُصاحَبة موسيقى شوبان، مستخدمين «كرةً» حيَّة، قامة مرنة لفتاةٍ «تحلِّق» عبْرَ الشبكة بجَمالٍ ورشاقة. يتمثَّل أمامنا نموذجٌ مرئي لحياةٍ لاهية لثلاثِ بناتٍ شابات ما زلْنَ في مُقتبَل العمر، يعشْنَ في بيت لير، وهو بيتٌ لا يشبه المملكة، وإنما هو أقرب إلى ضيعةٍ في الريف، ينتشر على أرضه تفاحٌ أخضر. «اللقطة» الأخيرة من حياة عائلةٍ متحابَّة، ثلاث بنات وأب مُحِب، تتجمد اللقطة في ميزانسين جماعي؛ فيبدون وكأنهم يقفون أمام آلة تصوير. والآن فقط تبدأ الشخصيات في إلقاء النَّص الشكسبيري.

في سياقِ عملية التحول التالي للموضوع، يؤدِّي الممثلون عددًا آخَر من عروض الأكشن التعبيرية ذات طابعٍ تشكيلي. على سبيل المثال، عندما تقوم الشقيقات بلفِّ المهرِّج وربطه طولًا وعرضًا بشريطٍ لاصق، اليدَين والقدمَين والرأس والفم والجسد بكامله محوِّلين إياه إلى عبوة (على هذا النحو سمَّى ت. كانتور عروضَ الأكشن المشابِهة)، أو عندما قام لير بتقسيم المملكة عن طريق تقطيع لوحٍ كبير بمنشارٍ معدني وتوزيع أجزائه على البنات؛ أو عندما يخرُج ممسكًا عنوةً بقطةٍ محنَّطة يقطعها ويدسُّها داخل يدَيه، ويسحب كرةً تنزف دمًا ويقذف بها إلى الأرض ومعها القطة المحنَّطة. يتمثل التكوين الفني البصري الختامي للمسرحية في لير ميتًا بالقرب من حوض استحمام أطفال مطاطي منفوخ، وعلى الأجناب حيث تناثرت ثياب البنات الطفولية، في حين وضع المهرِّج على الأرض خمسَ شمعاتٍ مشتعلة بوصفها شعلةً تذكارية.

عرضت المسرحية التالية كنتاجٍ لتطور الخبرة المسرحية «الأحكام المكبوحة» كاملة بوصفها عرضًا من عروض مسرح الفنان، الذي ألَّفه كريموف من جديد مع طلبته. وقد عمل الجميع على نحوٍ غير أكاديمي في أوقات الفراغ المسائية والليلية بعد انتهاء فصول البرنامج الدراسي. بل إنهم رفضوا قضاءَ إجازة الصيف. وقد كان هذا الإبداع الجماعي جذَّابًا، عندما كان الجميع يبدعون معًا ويقومون بتنفيذ كلِّ شيء بأيديهم وتحت إشراف أستاذهم، كانوا يضعون مكونات مضمون المسرحية في البناء الفني المسرحي. وقد كان من خصائص هذا العمل أنَّ كريموف في هذه المرة قد جذَبَ أربعةً من تلاميذ ف. جاركالين في الأكاديمية الروسية لفنِّ المسرح للاشتراك معه أيضًا.

تدخل موتيفات رواية «دون كيخوت» لسرفانتس في صُلب الموضوع. وهذه الموتيفات تتجمَّع مع مقاطعَ من نصوصِ جوجول في «مذكرات مجنون» و«محضر الفحص الطبي للسجين رهن التحقيق يوفاتشيف-خارمس دانيل إيفانوفيتش»، التي قام الممثلون بأدائها في لحظاتِ ذروة التكوينات البصرية للمسرحية. هذا النوع الفني، قد صُنِّف بوصفه قصيدةً سميت باسم القصيدة «دونكي خوت» من تأليف سيرفانتس.٤٦

شاب يرتدي معطفًا أسود طويلًا يخرُج من كوةٍ بعيدة في الجدار الأيسر للمسرح، يخرج إلى فضاء القاعة الخاوي الموجود في بوفارسكايا، يتوقف في المنتصف. وبعد توقُّفٍ طويل، يبدأ في خلع حذائه ببطء، يتضح أن هذا الحذاء مملوءٌ بنشارة الخشب، يأخذ الشاب في نثره على الأرض، ثم يقوم بالعملية نفسها مع الحذاء الآخَر. شخصية أخرى، ترتدي المعطف الأسود نفسه، تظهر أمامنا. هي لفتاة تتخذ لنفسها مكانًا إلى جوار الشاب، تخرج نشارة الخشب من أكمامها الطويلة. تمتلئ خشبة المسرح بمشارِكين آخَرين في المسرحية من الطلَّاب، كلٌّ منهم يُلقي بنشارة الخشب من أماكن مختلفة، من جيوب المعاطف ومن قلابات الأحذية الفرائية، من رءوسهم، حيث صُنع تاجٌ من نشارة الخشب، ومن شمسيةٍ مفتوحة ومن أسفل ذيل التنورة. يحمل الشاب حقيبةً ضخمة ويسحب جِوالَين من البلاستيك مملُوءَين بنشارة الخشب يفضها مكونًا كومةً من النثارة. خاتمة هذا الأكشن الجماعي تصنعه الفتاة التي ظلَّت طوالَ هذه الفترة تداعب برقةٍ جسدَ كلبٍ بُني محنَّط، وقد راحت تضغط عليه بصدرها، بعدها يأخذ رفاقها بحركةٍ بطيئة من أيديهم، في «تقطيع» مَعِدة الجثة المحنَّطة المحشوَّة بالنشارة ونثرها على الأرض على أصوات نباحِ كلبٍ يائس. تتحول السحابة الهابطة إلى قطعةٍ من النسيج، عبارة عن شالٍ تلفُّ به الفتاة رأسها. من هنا يبدأ الممثلون في تغيير ملابس التمثيل ليتحولوا إلى «إسبان»، وهذه الملابس لها ياقاتٌ عالية من عصر النهضة، ثم يفتحون مراوح هي جواريفُ معدنية ينثرون بها بعد ذلك على الأرض نشارةَ الخشب بحيث يكوِّنون مجالًا مستديرًا. يتحوَّل الممثلون بعد أن يجلسون على رُكَبهم، إلى «أقزام». يفتحون جوانب البلاطي ويُخرجون تفاصيل الثياب، ويتحولون بمساندتها (وكذلك باستخدام أدوات المكياج يرسمون لأنفسهم شواربَ ولحًى بالفحم الأسود) إلى شخصياتٍ مأخوذة من لوحات الرسَّام الإسباني فيلاسكيس. يُعرض هذا الأكشن على أنغام «بوليرو» للموسيقار الفرنسي موريس رافيل. وها هم «الأقزام» يقفون في صفٍّ خلف أسطح بيضاء يرسمون عليها بسرعةٍ بالحبر الأسود منظرًا طبيعيًّا لتلٍّ عليه طواحين هواء، ويضربون (على أزرار عدَّادات الحسابات) إيقاعات الكستانيت الراقصة.

في هذه اللحظة، تظهر أمامهم وأمام المشاهدين من مكانٍ ما في الجَنْب شخصيةٌ تمتدُّ أسفل السقف، يبلغ ارتفاعها طولَ شخصَين، ترتدي مِعطفًا أسْوَد طويلًا يصل إلى الأرض. يعلوها رأسٌ صغيرة جدًّا مقارنة بجسدها، وقد اعتمرَت قبعةً سوداء ونظَّاراتِ قِصَر النظر. على هذا النحو، يظهر في المسرحية البطل الرئيسي دونكي خوت Donkey Khot وقد قام اثنان من الممثلين بتجسيد النموذج البصري، والدقيق من الناحية النفسية، على النحو الذي وضَعَه كريموف بمساعدة المخرِج أ. شوكين المتخصِّص في الناحية التشكيلية. وقد وقَفَ أحدُ الممثلين على كتفي الآخر، وإنْ ظهَرَ الأمر في البداية بالنسبة إلى الجمهور على نحوٍ خفي. هذه الشخصية البالغة الطُّول، تدرك بوصفها شخصيةً واحدة. وبعد أن نشاهد أمامنا طواحينَ الهواء المرسومة التي بدَت أطرافها على هيئة عدَّادات الحسابات (والتي يقوم «الأقزام» بتدويرها بعد أن ثبَّتوها في الرسوم). «يقفز» البطل مُمسكًا «برُمحٍ» بشكلٍ متَّزن لملاقاة الأعداء. يتوزع المنظر الطبيعي لنجِدَ دونكي خوت واقفًا بين «الأقزام» المشتَّتين، الذين ينهالون عليه ضربًا بأشجار البلوط السوداء حتى الموت. وهنا تسقط الشخصية الطويلة على الأرض لافظةً أنفاسها.٤٧ يقترب «الأقزام» في هلعٍ من الشخصية المطروحة أرضًا، وبعد أن يتأكدوا من موتها يدخلون عليها قسًّا. وهنا تسقط آخِر كميةٍ من نثار الخشب على جسدِ البطل من كتاب الصلوات الذي فتحه القسُّ.

ينهض الأقزام بعد أن كانوا جالسين على رُكَبهم ليقفوا على محورٍ مستقيم، ثم يخرجون. تظلُّ امرأة «قزمة» فقط تُدعى دوليسينيا واقفةً عند جسد الميت (هذا الدور تؤدِّيه إحدى الممثلات). تغنِّي المرأة أغنيةً حزينة حنونة إلى أن يظهر ممرضٌ يرتدي بالطو أبيض يُخرِجها من على خشبة المسرح بالقوة، ليضع — بمساعدةِ ممرضٍ آخَر — الجسدَ الطويل على نقَّالة، ثم يذهبا به.

تتحرك الستارة في عمق المسرح، الذي يتحول في الخلف إلى غرفةِ تشريحٍ، بها طاولةٌ تشغل عرض فضاءِ القاعة، وعليها هيكلُ دونكي خوت. على الجدارَين الأيسر والأيمن، أمام الستارة، يضع التلاميذ-الفنانون أفرُخًا من الورق المقوى رسموا عليها. وإلى اليسار بابٌ، وإلى اليمين مرحاضٌ له صندوقُ طردٍ يُخرِج، من خلال فتحةٍ به، حبلًا طبيعيًّا. يغادر الطلَّاب المسرحَ بعد أن يضعوا هذه العناصر الديكورية التي يجري استخدامها في المشهد التالي. خلف الستارة، وباستخدام طرائق مسرح الظِّل، يتمُّ تمثيل مشهد إجراءات التشريح، وهو مشهدٌ كوميدي جروتوسكي من ناحية الشكل، ومرعِب من ناحية المغزى (يجري أداء هذا المشهد على أنغامِ كليب صوتي يحتوي على أغانٍ ونصوص، وغيرها من المقطوعات المتنوعة المأخوذة من الإذاعة والتليفزيون).

شخص يرتدي بالطو أبيضَ، يشحذ شفرة المقصِّ، ثم يشرع في التعامل مع الهيكل، بعد أن ينتهي من غسْلِ يدَيه على الحوض بدقةٍ شديدة، وبعد أن يعبِّر بأصابعه بطريقةٍ عرضية لتعكس وجهَ كلبٍ ينبح على رفيقه، الذي يصبُّ له من الإبريق؛ يقص الشخص أظافر الهيكل الطويلة أولًا بطريقةٍ مبالَغ فيها، ثم يأخذ في قطعِ عُقَل الأصابع. مشرِّح آخَر ينزع الشعيراتِ القليلةَ النابتة في الجمجمة، بعدها يقطع قفاه مع القبعة بمنشارٍ معدني. يقيس المشرِّح القبعة على رأسه ثم يلقي بها جانبًا. يشمر عن ساعدَيه ثم يدلف بهما داخل «الرأس». يُخرِج منها كتابًا وراء الآخر. ثم يستلُّ بملقاط من داخل «الرأس» طاحونةَ هواء ورقية وبعدها يأخذ ورقة كوتشينة، «البنت-القلب»، فيقصُّ بالمقص يدَيها الورقيَّتَين وقدمَيها ورأسها. وبواسطة الرأس يكتشف السرَّ الأعظم، وهو الكرة المضيئة. يلقي بهذه الكتلة المكثفة من الوعي الشاعر للبطل باحتقار على الأرض ويركلها بقدمه مثلَ كرةِ القدَم. يقيس المشرِّحون طولَ الهيكل، ثم يقومون بتقصيره بصورةٍ وحشية؛ فيقطِّعونه بالمنشار المعدني إلى قِطَع يدقُّونها بالمرزبة.

يختفي مشهد التشريح. والآن يغمر الضوءُ الفضاءَ القائم أمام الستارة. تخرُج عاملةُ النظافة في المشرحة بعد أن تضرب بكتفها البابَ الأيسر المرسوم على الورق المقوَّى. تجمع الكتبَ المبعثَرة فوق نشارة الخشب وتلقي بها في المرحاض المرسوم. تشدُّ الحبل لترسل بها إلى المجاري. بعد أن ترى أن هناك قصاصاتٍ في المرحاض لم تُجرَف؛ تنتشلها وترصُّها على الأرض، وتبدأ في تنظيمها وترتيبها وفقًا للعبارات المكتوبة، ليتَّضح أنها مونولوج من قصةِ المجنون لجوجول. تلاحظ العاملة، بعد أن استدارت نحوَ الستارة، أن هناك أحذيةً سوداء قد دسَّت وراءها. تقترب منها، وتتلمَّس هيئة الشخصية الموجودة خلفَ الستارة. بعدها تجِدُ على بُعدِ مسافةٍ قصيرة إلى اليمين شخصيةً ثانية. بعد أن تُبعِد الستارةَ عنها، تكتشف وجودَ اثنَين من مرضى مستشفى الأمراض النفسية؛ أحدهما يرتدي سروالًا يصل إلى رقبته، والآخَر يرتدي فانلةً داخلية طويلة. كلٌّ منهما يثِبُ على الآخَر، وعندما تحضر العاملة مِعطف دونكي خوت الأسْوَد يندسَّان بداخله مشكِّلان معًا مرةً أخرى شخصيةَ بطل المسرحية بالِغ الارتفاع.

أول شيء أراده هذان المريضان النفسيان اللذين عادا إلى الحياة في هيئةِ دونكي خوت هو تدخين سيجارة. بعد أن أسندت الشخصية ظهرها إلى الجدار، راحت تفتِّش في جيوبها بيدَين طويلتَين يصل طولهما إلى مترَين، تتدليان حتى الركبتَين، تفتش عن ولاعةِ سجائر. وبعد أن تجِدَ الولاعةَ إذا بيدٍ ثالثة تنسحب فجأةً لتقرِّب الولاعة من السيجارة، وبمساعدتها استطاع دونكي خوت أن يدخِّن في الوقت الذي أمسكَت فيه اليدان الأخريان بورقةٍ، راح يقرأ منها نصًّا من قصةِ «محضر الفحص النفسي لدانيل خارمس». ثلاث أيادٍ تكرمِش الورقة، التي تحتوي على تشخيص المرض، ثم تلقي بها. يسقط البطل من الإعياء فوق نشارة الخشب.

ومرةً أخرى تنهض «القزمة» دولسينيا لتمدَّ إليه يدَ المساعدة. وهنا يبدأ مشهدُ الحُب العاطفي، وهو مشهدُ الصغيرة جدًّا مع الكبير جدًّا. تنفض دولسينيا نشارةَ الخشب عن مِعطف البطل، تعالجه، تضع القطن على التسلُّخات الموجودة على يدَيه ووجهه، الذي مال ناحيتها. وبعد أن حاولَت دولسينيا «القزمة» عدَّة مرات، أن تقفز إليه مستندة إلى ركبتَيها، لم تجد وسيلةً سوى أن تمدَّ إليه كفَّيها في إيماءةٍ تعبِّر عن الرقة والاهتمام. بعد أن تغلَّب دونكي خوت على ارتباكه، مال نحوَها ثم الْتقَت أيديهما. الْتصقَت دولسينيا به، ثم أخذا يدوران في البداية معًا، لكنه بعد ذلك لم يكن يصل، بسبب طوله، إلى خصرها، مع أنها في هذه اللحظة بدأت في النهوض على ركبتَيها لتقف على قدمَيها، لتنمو وتتحول من «قزمة» إلى فتاةٍ عادية. لقد استطاعَت أن تجذبه إلى لعبة الحُب. هزَّت أمامه تنورتها، ابتعدَت مهروِلة عنه ثم اقتربَت منه، ثم اندمجا في عناقٍ دوَّار، ثم تقفز إلى يدَيه.

شخصيان تظهران في زِيٍّ أسْوَد. دولسينيا تختفي داخل معطف البطل. تقوم الشخصيتان بجرف نشارة الخشب إلى عمق المسرح بواسطة جواريف من الخشب الرقيق. تسقط دولسينيا من داخل مِعطف دونكي خوت في أثناء تنظيفها خشبةَ المسرح باتجاه الجدار الخلفي، لتبقى هناك وحيدةً وسط الناس، الذين قاموا بتغطيتها بقماشةٍ كبيرة تبلغ مساحتها مساحةَ القاعة نفسها، وقَدْ تمَّ خياطتها من عددٍ من التنورات النسوية المتعددة الألوان تشبه ملاءةً من القصاصات. كانت دولسينيا تجاهد متحركةً أسفل القماش محاوِلةً التخلص منه حتى وجدَت لنفسها فتحةً للنجاة نفذَت من خلالها، في حين الْتصق القماش بخصرها ليتحول إلى «تنورةٍ» هائلة. بدأت البطلة في أداء رقصةٍ انفرادية على إيقاع «الفلامنكو»، ومعها، بدرجةٍ متساوية، «تنورتها» التي أخَذَ في تحريكها شخوصٌ يرتدون ملابسَ سوداء، راحَت تهزُّ التنورة وترفعها بحيث تخلق إحساسًا أن دولسينيا وهي في منتصف خشبة المسرح وكأنها في مركز «بحرٍ» مضطرِب الأمواج. وفي لحظةٍ ما، إذا بالشخوص ترفع التنورةَ إلى أعلى بحيث تُظهر قدمَي الراقصة وحولها تزحف فئران بيضاء أُطلقَت من ظلام تحت الأرض بواسطة أشعَّةٍ منطلقة من فانوسٍ سحري. كانت دولسينيا تحاول أن تتفادى هذه الكائنات البشِعة، صارخةً كلما لمَسَها أحدهم. هنا يزحف دونكي خوت أسفلَ «التنورة» قادمًا لنجدة محبوبته، يطرد الفئران، ويضع لدولسينيا كرسيًّا لتقف فوقه في أمان. فجأةً تدوي موسيقى «الفلامنجو» ثم تتحول إلى مارش عسكري من الفصل الأخير من مسرحية «الشقيقات الثلاث»، التي كان مسرح موسكو الفني الكلاسيكي يعرضها، وعندما هدأت الأصواتُ التي تمسُّ الرُّوح بصورةٍ تبعث الحنين إلى الماضي، يشاهد الجمهور على الخشبة جسَدَ دونكي خوت الطويل راقدًا على الخشبة الساقطة، وقد مات مرةً ثانية على يد الجمهور. ولكنه في هذه المرة، يبدو على هيئة أحد الأقانيم، التي وضَعَها على نحو فانتازي اثنانِ من مرضى مستشفى الأمراض النفسية وعاملة النظافة، التي أدَّت على نحوٍ مدهِش دورَ محبوبةِ دونكي خوت.

شخصيتان في ثيابٍ سوداء تضعان على جسد البطل قِطعًا من الورق المقوَّى، رسَمَ عليه رفاقهما بالحِبر الأسْوَد هيئةَ رأسٍ ويدَين وقدمَين. وبعد أن أتمَّا الرسم قاما بقصِّ كلِّ جزء من أجزاء الجسم على حِدَة، ثم قاما بترتيبها واضعين إيَّاها على أعمدة، ثم رفعاها في اللحظة نفسها. كان هذا يعني أنَّ الروح قد حلَّقَت مغادِرةً الميت، بعد أن اتَّخذَت هيئة جسده. طارت «الرُّوح» عبْرَ فضاءِ القاعة محمولةً على أعمدةٍ بواسطة ثمانيةِ ممثِّلين (حملوها مثلما يحملون التنين في العروض الشعائرية الصينية). حلَّقت الروح فوق المشاهدين، ثم راحت تصطدم تارةً بالسقف، وتارةً بالنوافذ والجدران. ولمَّا لم تجِدْ لها مَخرَجًا، تناثرَت إلى أجزاء: الأقدام، والأيدي، والبدن، والرأس المصنوع من الورق المقوَّى؛ كلها حُملَت بوصفها أدواتِ ديكور مستخدَمة.

شخصٌ في ملابس سوداء يحمل إلى جسد دونكي خوت المسجَّى صندوقَ مذياعٍ قديم معلَّقٍ به ذيلُ حصان، ويضعه على الأرض. حبلٌ يمتد من الصندوق حتى فتحة الباب الأمامية، يخرُج طرَفه من الفتحة البعيدة، يمتدُّ الحبل عبْر فضاء القاعة إلى أن يصل إلى الجدار المواجِه، حيث يُمسك به «الأقزام» ويضعونه في مصدر التيار الكهربي، وعندئذٍ تصدر أصواتُ صهيلِ خيل. تدبُّ الحياة في أوصالِ دونكي خوت، ويستيقظ من سُباته ويهبُّ واقفًا وقد أمسَكَ في يديه وضمَّ إلى صدره صندوقَ المِذياع. يقوم هذا الشخص بفتح شِباك الطبلة، ومنه يرى العينَ الزرقاء لروسينانتا. يربتُ البطل على حيوانه المفضَّل ويأخذ في الدوران معه على أصواتِ فالس «أمواج الحُب». هنا تتحطم الحياة الرغدة. «الأقزام» يجذبون طرَف الحبل وينزعون من يدي دونكي خوت «حصانه»، الذي يحاول التماسك، ولكنهم يشدُّونه، وبدلًا منه يحضرون بيانو، تتحول القاعة إلى صالة عرضٍ سينمائي قديمة، حيث تُعرض، بمصاحبة دونكي خوت، لقطاتٌ «تسجيلية» من حياة هذه الشخصية على الستارة-الشاشة من خلال شرائحَ ملوَّنة، بوصفها شخصيةً معاصرة. وها هي تبدو نحيفةً — عملاقًا سخيفًا في مِعطفٍ أسْود — تارةً نراها فوق برج إيفل، وتارةً تسير ممتطيةً جَملًا، تارةً عند حائط المَبكَى في القُدس، أو في مقابلةٍ رسمية مع البابا، إلى جانب السياسيَّين «ريجان، وجورباتشوف». في اجتماعٍ أمريكي جماهيري، حيث يلقي مارتن لوثر كنج خطابًا، على خلفية ناطحاتِ سحاب، يبدو مساويًا لها تقريبًا في الارتفاع، في قريةٍ يراقب فلَّاحةً عجوزًا تعمل، طائرًا في قفزةِ باليه في ثنائي مع م. باريشنيكوف، يُدير «حوارًا» مع ليف تولستوي، هو الشخص الخامس الذي يظهر في الصورة الشهيرة للرباعي الشهير من ليفربول المعروف بالبيتلز، يقف مع أطفال من الزنوج، ثم يظهر بصحبة عظماء الفن السوفيتي: شوستاكوفيتش في شبابه وهو يعزف على البيانو، وقد راح كلٌّ من ميرخولد وماياكوفسكي يستمعان إليه، وهَلُمَّ جَرًّا.

بعد عرضِ الشرائح الملوَّنة يغنِّي دونكي خوت هو وصديقته دولسينيا أغنيةً يقاطعها الجمهور بالصفير، ويروحون يلقونهما بالبرتقال وقِشر الموز. يخلع دونكي خوت المِعطف، في حين يغادر المسرح المرضى النفسيون عرايا وهم مستاءُون. بعد ذلك، لا يظهر البطل في مظهرٍ إنساني، على الرغم من ظهوره بعيدًا عن المعيار الطبيعي. تظهر صورته الآن في البداية على هيئة تمثال صغير (بطل مرسوم في حجم دمية)، في حين تمدُّ دولسينيا حبلًا ترفعه من العمق إلى مقدمة المسرح، أمَّا دونكي خوت الدمية فيقف، مثله مثل بهلوان، متوازنًا على الحبل. وعندما يفقد توازُنه يسقط، ويتدلَّى رأسه إلى أسفل، في الختام يمر الموكب الجنائزي للممثلين مخترِقًا فضاءَ القاعة، حاملًا جثةً محنَّطة مصنوعة من الخرق ضخمة الحجم. يضعون الجثة في مقدمة المسرح. وعلى نحوٍ شعائري يغطُّون البالطو بملابس أخرى، يضعون قبعةً على رأسها، يجلسون صفًّا واحدًا، يخرجون من جيوب البالطو أوراقًا كُتبت عليها. يقف «الأقزام»، يغادرون المسرح واحدًا وراءَ الآخَر. في اللحظة الأخيرة، يستديرون فإذا بهم يضعون على وجوههم جميعًا نظَّارات. ثم لا يتبقَّى على خشبة المسرح الخاوي سوى جثَّةِ البطل المحنَّطة.

(٨) «شكولاروسكفا ساموزفنستفا»٤٨

أعلنَت جماعة «شكولاروسكفا ساموزفنستفا» عن نفسها بصورةٍ تامة، بوصفها ظاهرةً ذات علاقةٍ بميلاد مسرح الفنان في روسيا، في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، عندما قدِّمت مسرحية «المعطف رقم ۲۷۳۷ ونصف» التي عُرضت في خريف عام ١٩٩٨م في مهرجان NET الذي أقيم في موسكو. وقد ترأس هذه الجماعة قاديم جاكيفيتش (الشهير بجاك) منذ عام ۱۹۹۲م، وذلك بعد رحيل المخرج أ. تيخي إلى أمريكا، وكانا قد أخرجا معًا أولَ مسرحية باسم «شكولاروسكفا ساموزفنستفا». حدَثَ ذلك قبل أربع سنوات في «الوِرش المسرحية» التابعة لاستوديو المسرح الدرامي، حيث كان جاكيفيتش لا يزال طالبًا في كلية الإخراج بالمدرسة-الاستوديو التابعة لمسرح موسكو الفني، حيث دعاه إليها كبير الفنانين. بدأ التعاون بين جاك وتيخي، الذي كان يدرس أيضًا في تلك الفترة في كلية الإخراج القائمة في مدرسة شوكينسكي، بالعمل على إخراج مسرحية «المهاجرون» من تأليف س. مروجيك، بناءً على طلب مسرح أورلوفسكي للدراما، حيث قام تيخي بالإخراج، في حين عَملَ جاكيفيتش على تصميم السينوجرافيا. ولمَّا مُنعَت المسرحية من العرض قرَّرا أن يؤسِّسا مسرحهما الخاص. وقد انتهى العرض ﻟ «شكولاروسكفا ساموزفنستفا» بفضيحةٍ؛ إذْ تمَّ تقديم كولاج حر للجمهور مكوَّن — كما اتضح — من نصوصٍ متنافرة، من بوشكين وتشيخوف من جانب، ومن سوروكين وبريجوف من جانبٍ آخَر. على أن الأمر الذي أثار استياء الجمهور والنقَّاد بشدَّة؛ لم يكن في واقع الأمر هو هذا المشهد الشفاهي الرئيسي والصارم في المسرحية. يذكر جاكيفيتش٤٩ أنَّ «الأمر الرئيسي كان هو دور التصوير»، ولا يعني «التصوير» هنا هو هذه الصورة المستنسَخة على الخلفية المأخوذة عن إحدى لوحات الرسَّام إيليا جلازونوف المعروفة باسم «مائة قرن»؛ حيث تحوَّلَت الشخصيات المرسومة عليها إلى أرقام (جمع الرسَّام في هذه اللوحة أشهَرَ شخصيات التاريخ السوفيتي الروسي والسوفيتي) (على سبيل المثال، أنطون تشيخوف حَملَ الرقم ١٠). وقد وُضعَت هذه الأرقام نفسها على مقاعدَ المشاهدين، ومن ثم كان المشاهدون الذين شغلوا هذه المقاعد بمثابة مواطنيهم العظماء، بمعنى أنَّهم قد (أصبحوا مثل أحد أبطال مسرحية م. أوجاروف «الحَمَام»، التي على أساسها تم التفكير في هذه المسرحية). وعلى لوحةِ جلانونوف المستنسَخة، الموضوعة على خلفية العرض، يتمُّ إسقاط لوحةٍ أخرى من خلال الفانوس السحري، لوحة متنوِّعة جدًّا لموضوعاتٍ مصوَّرة من روائع التصوير الأوروبي إلى لقطاتٍ معاصِرة لتغيير الحرس عند ضريح لينين، أو إلقاء التحية على الشعب الصيني، أو صب الفولاذ في مصنع الحديد والصُّلب. لكنَّ الأهم نجِدُه في مفهوم «التصوير» الأكشن الذي يؤديه الممثلون وهؤلاء تحديدًا قد نُقلوا إلى خشبة المسرح من ترسانة الطليعية التشكيلية فيما يُعرف بفنِّ الأكشن Action Art، والتي تعدُّ من أهمِّ جوانب المسرحية. على سبيل المثال، الغُسل الجنائزي الشعائري ﻟ «جثَّة» قسطنطين جافريلوفيتش تريبليف المسجاة على الطاولة، والذي يؤدي دوره ممثِّل عارٍ تمامًا، أو أكشن ضرْب كيس لبنٍ موضوع على مقعد، وُضع عند مقدمة المسرح، بالشاكوش. وعندما يُضرب الكيس يتناثر ما بداخله على المشاهدين الجالسين في الصفِّ الأول. المشهد بكامله أيضًا حدَّد المخرجَين باعتباره أكشن، رافضَين تسميته بكلمة «مسرحية» المعتادة.
أمَّا كون هذا الأكشن قد خرَجَ عن حدود المناطق المطروقة (آنذاك) بالنسبة إلى النقَّاد المعروفين، الذين كانوا «لا يزالون أسرى للجماليات المسرحية المحدودة»، فهذا ما أدركه د. بريحوث، الذي عبَّر عن ذلك بقوله: «إنَّ هذه المسرحية لا يمكن إخضاعها لأيٍّ من القوالب الموجودة؛ ولهذا، وبعد أن تستقرَّ في أحد هذه القوالب، إذا بها تقفز إلى قالب آخَر، عابرةً في سياق ذلك نقطةَ الصفر، أي نقطة تحطيم شيءٍ ما من السمات الموجودة للفن.»٥٠ وفي سياق جماليات مسرح الفنان، بوصفه شكلًا خاصًّا من أشكال الإبداع المسرحي، فإن الأكشن و«التصوير»، اللذين يلعبان هنا الدور الأكبر، يمكن اعتبارهما عنصرَين، من عناصر مسرح الفنان تحديدًا، الذي راحَت «شكولاروسكفا ساموزفنستفا» (مدرسة المدَّعين الرُّوس) تتحرك باتجاهه بعد عام ١٩٩٢م، عندما سافَرَ تيخي إلى أمريكا (حيث راح يدرس نظامَ ستانيسلافسكي) وليترأس جاكيفيتش الجماعة. كان العرض التالي هو «المخبأ»، وقد استمر العمل فيه بضع سنين ليصبح في كثير من جوانبه عملًا من أعمال مسرح الفنان، حيث امتلك المكون البصري فيه معنًى محددًا، سيطر على العمل مقارنةً بالمكون الشفاهي، أي النص المسرحي الذي كتبه ف. سوروكين، مع أنه شغَلَ، بسببِ ما به من إطناب، مكانةً كبيرة، ولكنَّه — خلافًا للادعاءات الواضحة للمؤلف تجاه التأثير المثير والمهيج (الألفاظ المحظورة، الفحش المكشوف ودلالات الكلمات غير المفهومة) — لم يكن به في الواقع شيءٌ يُذكر، اللهم سوى ضجيجٍ صوتي.٥١ الواقع أنَّ غالبية المشاهدين الروس، بمَن فيهم النقاد المحترفون، قد أدركوا بشكلٍ معتاد أولًا وقبل كلِّ شيء وبصورةٍ أساسية، الجزءَ النصي تحديدًا من المسرحية، وقليلٌ منهم هم الذين أدركوا أن المكوِّنَين الشفاهي والبصري، كانا مكوِّنَين مختلفَين تمامَ الاختلاف أحدهما عن الآخَر، بل إنهما كانا متناقضَين من ناحية طابعهما؛ فالمكوِّن الأول يمثِّل تيارًا يمثِّل المدرسةَ الطبيعية، وعبثي أيضًا بشكلٍ واضح، وهو من الناحية البنائية يبدو كما لو كان غيرَ مُحكَم. أمَّا المكون الثاني، فهو تكويناتٌ وعروض أكشن وضَعَها الفنان وفقًا لقوانين الإبداع التشكيلي وقواعده. هذه التكوينات والعروض قام الفنان ﺑ «رسمها» و«نحْتِها» باستخدام شخوصِ الممثلين وحركاتهم وإيماءاتهم، أوضاعهم على المسرح، مظهر ملابسهم وتصرُّفاتهم حيالَ الأشياء الموجودة في عالَم المسرح المحيط بهم. ومن الأمور المميزة أنه وبعد الاتفاق على الرفض الجماعي للرأي العام المسرحي في موسكو؛ قد لاقَت المسرحية نجاحًا كبيرًا في ألمانيا. لقد فهِمَها النقَّاد الألمان جيدًا وقدَّروا تميُّزها، على عكس ما حدَثَ في موسكو، بوصفها عملًا من أعمال مسرح الفنان؛ إذ إنَّ الجمهور الموجود على الجانب الآخَر من نهر الراين آنذاك، كان معتادًا على هذا المسرح الذي أصبح ظاهرةً بارزة في الثقافة الفنية.
جرى افتتاح المسرحية وختامها بإقامة عددٍ من الإنستاليشن من الموضوعات.٥٢ في البداية شاهَدَ الجهور في عمق المسرح فتحةً مُضاءة وسط الظلام، تشير إلى وجود «مخبأ» في منتصف خلفيةٍ بيضاء (خشبة المسرح في موسكو عبارة عن جزءٍ من إحدى غُرَف كنيسة روجوديستفينسكي، حيث كانت هذه الكنيسة في وقتٍ ما تشكِّل ملاذًا لجماعة «شكولاروسكفا ساموزفنستفا»). في فضاء الفتحة، تكوينٌ من أربع كُتلٍ خشبية، مصنوعٌ بمهارة وبارتفاعاتٍ مختلفة. هذه الشخصيات السينوجرافية، يقودنا إليها ممرٌّ مكوَّن من ٣٦ «هرمًا» صغيرًا. مبنية من مناديل باللونين الأبيض والأسود، تشبه المفارش التي توضع على مائدة الحفلات، تستوعب بوصفها عناصرَ ذات طابعٍ تذكاري.

هذه اللوحة المعروضة، أمام المشاهدين، «تعبِّر» عن «لحنٍ» بصري يدوي في صمتٍ مطبق، طويل، ممتد في الزمن، جميل ومرعِب يسبق الموقف الدرامي لموضوع المسرحية، والذي يعبِّر عنه أربعة ضباط برُتبة ملازِم يمرُّون، الواحد وراءَ الآخَر، عبْر تشكيل «الأهرام» التذكارية، بعد أن ينتظمون في فضاءِ «المخبأ» الضيِّق ليعيشوا ساعاتهم الأخيرة قبل الموت.

وفي الخاتمة، وبعد أن يأخذ الموضوع شكله النهائي، تغرق خشبة المسرح في ظلامٍ دامس، يُضيئه منظرٌ طبيعي شتوي من أعمال الرسام الهولندي برايجل، ثم تظهر أمامنا أسطحٌ مؤطَّرة متعددة، الواحد وراء الآخر، خالية تمامًا من أي رسم، ثم يظهر في النهاية منظرٌ طبيعي قَفْر لحفرٍ ياباني، بعدها يشاهد الجمهور إنستاليشن ختاميًّا من مجموعة أشياء. ففي المنتصف مقعد من خشب العروق، منحوت وموضوع على نحوٍ مقوَّس؛ شرنقة كبيرة مثل «شيء حي في كون التطور، مثل حالة شيء قبل تحوُّله (يرقة-شرنقة فراشة)».٥٣ على خشبة المسرح وفي ميزانسين يوحي بالحزن ثلاثة «أهرامات» مكوَّنة من أقمشةٍ منثورة على الكتل. وفي العمق فتحةٌ سوداء «للمخبأ»؛ فضاء العدم. تصوير غير جسدي يذكرنا بأبطال المسرحية الموتى يأتي عن طريقِ إسقاطٍ ضوئي من خلال الفانوس السحري (أبيض وأسود، ثم لون ثابت) يعطي «لقطة» لوضعية جماعية، كما لو أن هؤلاء الأبطال قد وقفوا أمام آلة تصوير لتلتقط لهم هذه «اللقطة» في لحظةٍ ما في المسرحية في فضاءِ الفتحة، ثلاثة منهم وهُمْ جلوس على الكتل والرابع وهو راقدٌ على الأرض.

هذا النوع من البناء، الذي يتمُّ باستخدام شخوص الممثلين وحركتهم وانتقالهم من مكان إلى آخر وتصرفاتهم تجاه الأشياء، التي يتم إبطاؤها بشكل ذي مغزًى شعائري، قد أدى إلى تحويل بناء المسرحية في الزمن المسرحي بوصفها عملًا من أعمال مسرح الفنان.

يبدو أبطال المسرحية مثل لوحاتٍ مرسومة داخل «إطار» هو حافة الفتحة يقرَءُون بداخلها الصُّحف، ويتناولون طعامهم المكوَّن من عصيدة الشوفان من قصعة موضوعة على الأرض بين أقدامهم الحافية مستخدِمين ملاعقَ خشبية. أخلدوا بعدها إلى النوم، بعد أن خلعوا قمصانهم وبنطلوناتهم وبقوا بملابسهم الداخلية، المكونة من كلسونات عسكرية وفانلات، بالإضافة إلى أحذية بيضاء عسكرية وقبَّعات «على طراز القبَّعات التي يرسمها الفنان برايجل»، ملتصقة بالرأس، بشكلٍ بارز منفوش أضفَت عليهم مَظهرَ فلاحين في لوحة من لوحات الرسام الهولندي المذكور. على هذا النحو، قام جاكيفيتش بوضع ميزانسين شخوص خارج حدود فضاء «المخبأ»، على خشبة التمثيل التي، بحلول هذا الوقت، تعرضَت لتحولاتٍ بصرية جوهرية.

في البداية، ثلاث شخصيات (يرتدون أيضًا زيَّ الضباط) يؤدون أكشن وقد وضعوا مناديل على هيئة «أهرام». يقلبون كلَّ منديل بحركاتٍ بطيئة. يطبِّقون على الأرض الواحدَ تلوَ الآخر، في تشكيل وترتيب بحيث تتكوَّن نتيجةً لذلك ظلالٌ لدبٍّ أسود ضخم، يقف وقفةَ ملاكِم متأهبًا للقتال (ظهر هذا الدب في هذه الوضعية للمرة الأولى في عام ۱۹۸٩م باعتباره شعارًا لمسرح «شكولاروسكفا ساموزفنستفا» في تصميم لمسرحية بالاسم نفسه).٥٤ بعد ذلك ينكشف، أعلى هذا التصوير، شريطٌ شفَّاف.

تظهر شخصيةُ امرأة تضع على وجهها قناعًا إفريقيًّا وقد ارتدَت ثيابًا غريبة. النموذج الصامت المتكرِّر غير واضح المضمون بشكلٍ تام، الذي أدخل في المسرحية بصريًّا، يقف على النقيض من الأبطال الواقعيين الذين يرتدون فانلات عسكرية، وكذلك من مظهر «الصيادين في لوحات برايجل»، ومن الاعتدالية الفضاء الذي يوجدون فيه. تمرُّ المرأة صامتةً بالقرب من الشخصيات الأخرى لتخرُجَ بعد بُرهةٍ من جديد حاملةً صينيةً عليها برَّاد شاي. ثم إذا بها تظهر مرةً أخرى في مكان آخر، متخذة مظهرًا، وواضعة قناعًا على الدرجة نفسها من الغرابة، تقدِّم للشخصية الجالسة على المقعد المحني في منتصف خشبة المسرح نظَّارةً سوداء وقبعة سوداء ورزمةَ ورق، تلقي بها على الأرض بعد أن تتصفحها. يحيطها ببطءٍ ثلاثةُ «صيَّادين من لوحاتِ برايجل» معهم جلود حيوانٍ طويلة وملفوفة وأعمدة. يتجمعون في لحظةٍ حول الشخصية الجالسة ويحاصرونها بالأعمدة، يبدَءُون بعدها في عملِ عرض أكشن صبِّ «غطاء من الثلج»، وتغطيته بصفحاتِ الورق المرسوم عليه الظِّل الأسود للدبِّ، ثم في هذه المرة يضعون شريطًا شفَّافًا فوق غطاء الثلج.

اثنان من «الصيادين» يرتديان ملابسَ بيضاء، يركعان على رُكَبهم أمام المرأة التي ترتدي الآن ملابسَ سوداء. يمدُّون أيديهم نحو ثوبها، يهزون طرفه ببطء، وهناك، داخل الثوب، تنفتح وجوهٌ وأقنعة. يقتربان من المقعد، الذي وُضعَت عليه لفافةٌ ملفوفة في أغطية بيضاء. يرفعان بحرصٍ بالِغ أحد الأغطية، ثم غطاء آخر، فثالثًا، ليكتشفوا شكلًا مقوسًا، وأن هذا الشكل يصبح في الخاتمة شكلًا مركزًا للإنستاليشن الختامي.

يأتي بعد ذلك أكشن آخَر يؤديه ثلاثةُ «صيادين» مقدِّمين مشهدًا شعائريًّا يحركون فيه أيديهم ببطء، كما لو كانوا يقومون بعملٍ استعراضي، وهم يعدون الكتلة لوضعها على مسند المقعد المحني. الشخص الواقف في الخلف يلوي «رأسه»، الثاني يلوي «رقبته» من المسند، الثالث يقلبها وينثر عليها دقيقًا. ثم وضع عليه كومةً من العجين. تستخدم «الرقبة» بوصفها نشابة تُستخدم لفرد العجين تمهيدًا لعمل الفطير، الذي اقتطعوا منه أجزاء حملوها إلى أفواههم، ومرةً أخرى راحوا، بشكلٍ شعائري، يأكلونها وقد أغمضوا أعيُنهم. بعد ذلك، تؤدي الشخوص البيضاء ذات الأوجه المغطاة بالأقنعة رقصةَ التانجو في الفضاء الأبيض للمسرح. ثلاثة شخوص يتبادلون الرقص: اثنان يرقصان معًا، في حين يتجمد الثالث في وضعيةِ تمثال بانتظار دوره. هذه اللوحة البصرية الفاتنة، المفعمة بالنزعة العاطفية الحادة خلقَت هنا أيضًا، كما في بعض اللحظات الأخرى في المسرحية، تناقضًا حادًّا مع النص الفظ، الفاحش، ذي النزعة الأرضية الطبيعية، الذي تؤديه الشخصية الرابعة في هذا الوقت من مكانها في فتحة «المخبأ».

بعد أن أنهى الأبطال الرقصة الأخيرة في حياتهم، خلعوا عن رءوسهم قبَّعات الجولف «على طريقة برايجل» التي تعدُّ العلامة البصرية الرئيسية لغريزتهم الفتيَّة الحيَّة ووضعوها على الصينية، التي حملتها المرأة «الإفريقية» وخرجَت. يقوم الأبطال بعد ذلك بنقْلِ «المخبأ» من فضاء المسرح، كلٌّ يحمل كُتْلتَه. يضعونها في أماكن متفرِّقة على الخشبة. يأخذون من المرأة (التي أصبحت ترتدي الآن ثوبًا أبيض وقناعَ الموت الأبيض) الملابسَ التي وضعوها في الصينية ليغلقوا بها الكتل، وبعد أن انتزعوا أغطيةَ الرأس «البرايجلية» يغادرون خشبة المسرح، الذي لا يتبقى عليه سوى الإنستاليشن، الذي سبَقَ وصفه، والذي أنهى صفَّ المَشاهد البصرية للمسرحية.

بعد الانتهاء من عروض مسرحية «المخبأ»، ظهرَت الرغبة في إخراج أحد الأعمال الكلاسيكية، وقد اختير جوجول و«معطفه». وقد تمت إدارة هذا العمل بشكلٍ دقيق جدًّا. لقد جرى تأليف «كتاب مسموع»، على حدِّ تعبير د. ويلسون اعتمادًا على النص، الذي وُضع على أساسه بناءٌ مبتكَر، وعلى النوتة والمؤثرات الموسيقية، وقد تمَّ عمل تحليل لغوي لكلِّ عبارة من عبارات جوجول، باعتبار الكلمات هي الأساس لخلق صورٍ بصرية. وفي الماكيت، تم البحث عن الوسط المسرحي؛ أحواله المختلفة، إمكانات تحويله. وكانت النتيجة أن العرض الأول لم يقدَّم إلا في عام ۱۹۹٨م، في مهرجان NET، الذي أقيم في موسكو، وبعد ذلك عُرضت المسرحية عام ٢٠٠٠م في مهرجانَي فينا وسالزبورج، وكذلك في مهرجان «مسرح الأشكال» الذي أقيم في أثناء إقامة معرض إكسبو ٢٠٠٠م في هانوفر وبارونشفايجي. وخلافًا للجدل الذي أثارَته مسرحية «المخبأ»؛ فقَدْ لاقى هذا العرض نجاحًا كبيرًا، سواء في روسيا أو خارجها. وقد أشار ميخائيل شتيوبر، المعلِّق بصحيفة «هانوفريشي الجيمايني تسايتونج» إلى اقتراب هذه المسرحية بمَشاهدها الساحرة التأمُّلية، بما فعله د. ويلسون السابق الذِّكر. لقد ظهَرَ اسم الأستاذ الأمريكي البارز في مسرح الفنان بشكلٍ طبيعي. لقد تميَّز العرض الذي قدَّمه هذه المرة جاكيفيتش تميزًا غير عادي بالنسبة إلى المسرح الروسي من الناحية التشكيلية والبصرية والإيقاعية والصوتية للأبنية المسرحية، وإلى الدرجة التي وصَلَ إليها من الانضباط والدقة في البناء و«الرسم» و«النحت» المحسوبة بالثانية لكل دقيقة، كل «لقطة» في الميزانسين، كل وضعية وكل حركة، وهي أمورٌ لم يكُن يملكها سوى ويلسون.
وكما حدَثَ في أثناء عملية إعداد «المخبأ»، فإنَّ النسخة المسرحية التي حملَت اسم «المعطف ۲۷۳۷ ونصف» تقدِّم البناءَ الإذاعي الذي أُذيع منذ أغسطس ١٩٩٤م حتى يناير ١٩٩٥م في محطة إذاعة «إيخو موسكفي» (صدَى موسكو)، وبعدها مسجَّلة على أسطوانةٍ مُدمَجة.٥٥ ومع أنَّ «الكتاب المسموع» الذي عُرض بعد مرور ثلاث سنوات من النسخة المسرحية «المِعطف»، كان مختلفًا؛ فقَدْ كان المبدأ المشترك هو المونتاج الحر والدقيق في مغزاه للمقاطع الشفاهية والموسيقية والمؤثرات الصوتية المتنوعة.
أول ما يراه المشاهدون في الفضاء المزدحِم شِبه المُظلِم لجناح استوديو السينما الذي يحمل اسم مكسيم جوركي (حيث عُرضت المسرحية في مدينة موسكو)، وهو الجناح الذي يبلغ طولُ قُطر دائرته ثمانية أمتار، والمغطَّى بطبقة كثيفة من موادَّ بيضاءَ هشَّةٍ: «ثلج»، «رمل»، يشكِّلان أرضًا سطحها يشبه سطحَ القمر، كانت هذه الأرضية هي الشخصية السينوجرافية الرئيسية في المسرحية. وقد لعبَت هذه الشخصية «دورًا» كان «يدوي» في بعض اللحظات في تفاعُل مع التشكيل التمثيلي (المشروط إلى حدٍّ كبير بأنه في كلِّ خطوة على هذه الساحة الثلجية أو الرملية تغوص الأقدام حتى الرسغ، وقد استمر الممثلون في تعلُّم٥٦ السَّير بهذه الطريقة لمدة شهرٍ كما ذكَرَ جاكيفيتش)،٥٧ وفي لحظاتٍ أخرى، تؤدي الساحة دورًا بصريًّا منفردًا Solo.

بعد أن أصبحَت الدائرة الخاوية للساحة المغطاة بالثلج في خلال عدَّة دقائق (والتي بدا في المسرح أنه لا نهايةَ لها)؛ هي الشيءَ الوحيد الذي يراه المشاهِدون وراحَت هذه اللوحة تؤثِّر في المشاهدين على طريقةِ التنويم المغناطيسي، مُضفية أسلوبها ببطءِ إيقاع شعائري ومستوًى غير مشخِّص للحدث المقدَّم، أُضيء الحدُّ الأمامي، وبدَت الشخصية الجالسة على رُكبتَيها في عفريتة بيضاء، لفَّتْها من قدمَيها حتى رأسها. يد مسَّت بحرصٍ سطحَ الساحة، كأنما تحاوِلُ أن تحسَّ بأنفاسها من خلال «اللمس». ويبطء تغوص في الغطاء الثلجي وتُخرِج من عمقه بيضةً كبيرة، وهي الشكل المثالي، الذي يضمُّ في ذاته دلالةَ الحياة الكونية. تضع البيضة في كِيسٍ، وبعد أن تقف منتصبةً، ترفع يدها حاملةً جهاز تحكُّم تليفزيوني عن بُعد، وبعد أن تضغط على الزرِّ، تسقط على الساحة بيضةٌ أخرى ضخمة كأنها «شِهاب». وفي وسط «الكتلة» الثلجية، يُضيء قرصٌ سحري.

يغرق الفضاء المسرحي في ظلامٍ دامس، وهنا تُضاء، الواحدة بعد الأخرى، تفصل بين الإضاءة والأخرى لحظةُ توقُّف؛ كلمات اسم المسرحية: «جوجول» GOGOL … «المعطف» … OVERCOAT، والكلمة الأخيرة «رقم ٢٧٣٧٫٥».

بعد ذلك تعزف الساحة المغطاة بالثلج أولَ لحنٍ «منفرد»، مؤثِّر في الحقيقة، بمصاحبة لحنٍ سيمفوني لمقطوعةٍ من مقطوعات فرقة الروك ليد زابيلين. قبل هذه اللحظة، يبدأ السطح المستوي في الازدياد تدريجيًّا بدوائر من «التشقُّقات». تظهر هذه الشقوق بشكل أكثر بروزًا. تزداد سُمكًا حتى تشمل و«تمزَّق» الساحة تمامًا من المحيط إلى المركز. بعد ذلك تقلُّ تدريجيًّا في السكون المطبق، ثم تتقلَّص وتتساوى، تكتسب الساحة وضعَ الانطلاق؛ لقد فتن هذا الأكشن البصري (مثله مثل كل المَشاهد التالية السينوجرافية أو التمثيلية؛ أي المشاهد المجازية) لبَّ الجمهور بإيقاعه الممتدِّ والخيالي، كأنه تشكيلٌ تلقائي ما لطوفان كوني، وذلك بفضل الاهتمام المكثَّف المطلق لهذا الجمهور.

الآن فقط يدخل الممثل إلى الساحة التي طُليَت باللون الأصفر، متحركًا بصعوبة، يغوص في كلِّ خطوة في السطح الرملي الهشِّ حتى يصل إلى المركز، يغرز الجاروف في «الثلج» «الرمل». ينحني على رُكبتَيه أمام البيضة، يلفُّها في قماشٍ أبيض، يخرج بها من الدائرة. وهناك، واقفًا عند الصفِّ الأول للمشاهدين، يلقي بالكلمات الأُولى من النَّص: في البداية على لسانه: «أنا هنا بدلًا من أكاكي أكاكيفتش [بطل قصة «المعطف». (المترجم)].» ثم يقرأ كلماتِ جوجول: «اليوم عيد كبير.» تكرِّر وراءه الشخصية الثانية، شريكه وقرينه (الذي يرتدي الثياب نفسها): «أنا هنا بدلًا من أكاكي أكاكيفيتش.»، «اليوم عيدٌ كبير …»

تسير الشخصيتان AA1 وAA2 ببطء، كلٌّ في مواجهة الآخر، عبْرَ أرض الساحة غير المستقرة، قادمَين من طرفَيها باتجاه المركز. يركعان على رُكَبهما، كلٌّ أمام الآخَر، ويتجمدان في هذا الوضع، بعد ذلك يبتعد AA1، في حين يستمر AA2 في الحفر بالجاروف، بحركاتٍ بطيئة في إيقاعٍ واحد ممتد، آخذًا في تعميق الأرض الرملية. يرقد هناك على ظَهْره في وضعية الميت، بعد أن يشبك يدَيه على صدره. يبدأ AA1، بعد أن يغطِّي وجه شريكه بمنديل في إجراءات الدفن فيهيل عليه الرمال، ثم يسوي بالجانب الآخَر من الجاروف التلَّ الذي تكوَّن. ثلاث شخصياتٍ نسوية حزينة مفجوعة، تتجمد عند القبر. وفي الخاتمة، وبعد أن يقرأ AA1 كلمات الوداع، ينهض من على رُكبتَيه ويقود المرأة الباكية بعيدًا، يحترق حرفَا A–A فوق التل.

على أثر الانتهاء من شعائر الدفن، تُعرَض لوحةٌ، موضوعها «اليوم عيدٌ كبير». وعلى الساحة، التي أصبحَت خاوية إلا من التلُّ الوحيد، تدوِّي «ألحان» أصوات مميزة للإرسال الإذاعي الجماهيري لمظاهرةٍ من مظاهرات منتصف القرن العشرين الفاشية بخطاب نباحي حنجري للفوهرر، ثم ينتقل الأمر إلى خطاب ستاليني مع الهتاف الشعبي العام «مرحى!»، مع صرخاتٍ تشبه الشعارات، مأخوذة من نصِّ جوجول («لا تشعلوا الشموع في المساء!»، «امشِ بقدر الإمكان بخطواتٍ خفيفة وبحذرٍ أكبر!»، «اذهبْ إلى غرفة ربَّة البيت، واشرع في العمل!»، «إليك عني … لماذا تُسيء إليَّ»).

يغمر الساحة الآن ضوء الشمس أول مايو، يحمل جوَّ العيد، يبدأ التل في الاهتزاز، يستيقظ الشخص المدفون أسفله، مخترقًا الرمل الذي يغطيه وكأنه يخرج من تحت الملاءة. تظهر أقدام حافية تليها الأيدي، ينقلب الشخص على جنبه. تعلو الأصوات وموسيقى المظاهرة، وها هي صيحة «مرحى!» المتلاحِقة يصرخ بها AA2 بعد أن يبعث بصورة نهائية ناهضًا على ركبتَيه، رافعًا يدَيه في ثورة من الحماسة الشاملة.
تختفي أصوات «العيد الكبير» ليحلَّ محلها صوتُ وقْع عجلات قطار، ثم صهيل خيل، وصوت يقرأ نَص جوجول. على الساحة لقطةٌ ثابتة بصرية وطويلة، يظهر فيها AA1 وAA2 وقد جلسا فوق حقيبة. بعد ظهور اللوحات التي افتتحت عرض البطل و«كواكبه» بوصفه كائنًا حيًّا، والجنازة و«العيد الكبير»، تبدأ الرحلة وفقًا لموتيفات قصة جوجول. يسمِّي جاكيفيتش البناء المسرحي الذي قام بتأليفه «رحلة كتاب».
تتبادل الموتيفات بعضها مع بعض، وهي موتيفات متباينة تمامًا ومفاجئة، مستلهمة ليس فقط من موضوع القصة، وإنما أيضًا وبصورةٍ أكبر، من التداعيات الفكرية الحرة، التي تظهر أحيانًا من إحدى العبارات أو حتى من كلمةٍ واحدة. ينتقل ميزانسين المرأة ذات الثياب السوداء والحوار الذي يدور معها إلى لوحةٍ، موضوعها الحرب، تمَّ التعبير عنها بصورةٍ تشكيلية وصوتية؛ AA1 يدور زاحفًا على الساحة، ملتصقًا بها، متفاديًا طلقات الرصاص ودفعات الرشاشات وانفجارات القذائف، محاوِلًا الرد على النيران بالنقر بأصابعه على الرمل، إلى أن تصيبه قنبلةٌ تلقيها عليه طائرة. يسقط على ظهره وهو يردد: «أنا أخوك.» قذيفة أخرى قاتلة تصيب AA2، الذي كان يراقب قرينه طوال هذا الوقت جالسًا دون حراك على الحقيبة.

يبدو بعد ذلك أنهما كان يسيران في الشوارع والميادين في ليلٍ بطرسبورج الذي وصفه جوجول، وقد تحوَّلت المدينة إلى «كوكب» رحلتهما المسرحية، الذي تحوَّل سطحه المغطى بإسقاطٍ ضوئي من الفانوس السحري ليُظهر خارطةً لعاصمة الإمبراطورية الروسية، في حين امتلأ فضاء الوسط بأصوات ذلك الزمان وأنغامه تتحول بطرسبورج «الافتراضية» إلى «بحر» افتراضي من خلال الفانوس السحري، وبعد أن يُخرِج البطلان من الحقيبة سترةَ الضباط الرسمية و«الكابات»، يغرقا في دوامة من الأمواج الملوَّنة الدوارة، وبعد أن تغنَّيا في البداية بأبيات من أغنية فيرتينسكي العاطفية («يبدو لي أنك أحببت بعد ذلك رجلًا برتغاليًّا …») ثم أغنية «مصرع فادياج»، يندمجان في رقصةٍ عاطفية مع سيدتَين ترتديان ثيابًا سوداء ليغادرا الساحة بعدها معهنَّ في خطواتٍ متمهِّلة. وعلى هذه الساحة، راحت صورة عنصري البحر والموسيقى تؤدي «دورها» الافتراضي الخلَّاب.

بناءٌ صوتي جديد يتمثل في حياةٍ ريفية مسالِمة: غناء العصافير، خوار البقر، قوقأة الدجاج، صياح الدِّيَكة، يغمر الساحةَ الضوء الساطع لصباح صيفي مشمس، ثلاثة فلَّاحين يرتدون مناديل بيضاء يدخلون الساحة من ثلاثة جوانب، يبدَءُون عرضَ أكشن جماليًّا مدهشًا، «يمشطون» السطح الرملي الأصفر للساحة بجرَّافات. تكتسب كلُّ حركة مغزًى شعائريًّا، يرفعون الجرافات إلى أعلى ببطء ثم يخفضونها ببطءٍ أشدَّ باتجاه طرَف الساحة، ويقودونها بسلاسة نحوَ منتصف الساحة. يكرِّرون هذا «الإجراء» مرةً أخرى، ثم مرةً ثالثة. بعد ذلك، يفرشون على الرمل مفرشًا ويضعون عليه من السلَّة قلَّة ماء وخبزًا وبيضًا، وينضمُّ إليهم A و A وقد ارتديا بدلتَين وربطات عنق، واعتمرا قبعتَين من القش.
تتوارى الحياة الريفية المسالِمة في الظلام، الذي تضيئه بعد ذلك لقطةٌ ثابتة بصرية على النحو التالي: على الهيئة البيضاوية للبيضة (التي سقطَت في بداية المسرحية بوصفها «شهابًا») تقف شخصيةٌ نسوية في ملابس الراهبات، تقرأ في صمتٍ كتابًا، صوت مطرِبة البلوز المشروخ، جينيس جوبلن تغنِّي أغنية «وقت الصيف» لجورج جرشفين.٥٨
عندما تغادر مكانها، يذهب AA1 ليشغله. هنا يقف AA1 دون معطف، واضعًا الأكمام السوداء التي يضعها صغار الكتبة، أي إننا للمرة الأولى بإزاء الصورة الحقيقية لأكاكي أكاكيفيتش بطل قصة جوجول، الذي يقوم بعمل الحسابات مستخدمًا العداد في عدِّ كلِّ ما ورَدَ في نَص القصة، مستخدمًا الأزرار: «عدد الصفحات: عشر … الإدارة: واحدة، موظف: واحد … أسماء: ثلاثة، مكان: واحد … شاب: واحد … مدير: واحد … روبلات: أربعمائة … شوارع: خمسة، ستة … جنرال، روبلات: مائتان … روبلات: مائة وخمسون … قمصان: ثلاثة … روبلات: ثمانون … مخارج: ثلاثة … كُئوس: اثنتان … ساعات: اثنتا عشرة … كتاب: واحد … شخصية مهمة: واحدة … لص: واحد … معطف: واحد … زجاجات شمبانيا: اثنتان …» وهلُمَّ جرًّا، بما في ذلك زمن عرض القصة: «يوم … ونصف». الإجمالي: ۲۷۳۷ ونصف، وهو الرقم الوارد في رسم المسرحية.
يجلس AA1 خارجًا من البيضة في منتصف الساحة على هيئة رجُل بمجداف يسبح في قارب هارون الأسطوري (كما يحدث في المسرح الصيني التقليدي) في الوقت الذي يؤدي فيه AA2 شعائر صلاة شرقية فيميل برأسه نحو الأرض، وفي نهاية الشعيرة يبدو تحت الغطاء القماش، الذي كان AA1 قد غطَّاه به، وقد اتَّخذ شكل بيضة. من هذا الوضع ترفعه الكلمات التي يُعلنها قرينه قائلًا: «إيفان أبرا موفيتش، لقد حان وقت الذهاب …» أمَّا اللوحة المجازية الأخيرة لكلٍّ من AA1 وAA2، فتظهرهما وقد كنسا الرمل المنثور على طرَف الساحة بمكنسة.
تنتهي المسرحية بنموذجٍ سينوجرافي بصري انفرادي Solo، على أنغامِ موسيقى نشأة الكون وسفينةِ فضاء محلِّقة في الفضاء، في حين تمتلئ الساحة، التي أصبحت الآن خاليةً، «بفقاعاتٍ» منفوخة، تزداد كبرًا، لتتحول إلى كُراتٍ ضخمة مضيئة من داخلها بضوءٍ وهمي تمثِّله «صخور» على أرضٍ قاحلة على سطحِ قمر. وبالقرب منها تتجمد شخوصُ قرويَّات في وضع الركوع٥٩

تغيب في الظلام لوحةٌ لمنظر طبيعي لقمر، ويصبح آخِر ما يراه المشاهدون؛ هو اثنين يكنسان الأرض، وهما الشخصان اللذان كانا يؤديان دورًا «بدلًا من أكاكي أكاكيفيتش».

لقد تم التفكير في مسرحية «المعطف رقم ٢٧٣٧ ونصف» وإخراجها بوصفها الجزء الأول من مشروعٍ كبير. وقد كان من المفترض أن يكون «هاملت» موجودًا في الجزء الثاني تحت اسم «رحلة إنسان»، وأن يكون دانتي موجودًا في الجزء الثالث تحت اسم «رحلة رُوح».

(٩) من الطليعية التشكيلية إلى مسرح الفنان: الإنستاليشن، الإنفايرومنت، الأكشن، البرفورمانس

في الفترة من ١٩٦٠م حتى ۱۹۹۰م، ساد في روسيا، كما حدث في ألمانيا من قبل، طِرازان من الطليعية التشكيلية، كلاهما كان يتناسب تمامًا ومسرح الفنان، الإنستاليشن والإنفايرومنت من جانب، ثم مختلف أنواع الأكشن والبرفورمانس من جانب آخَر.

كانت أهم عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت في هذا المجال، هي تلك العروض التي قدَّمها إيليا كاباكوف. وقد أطلق عليها عروض «المسرح الساكن»، وقد ذكر أنها «الوحوش الكبرى، التي إذا ما نفختها فلن يتبقَّى منها شيء؛ فهي تتقلَّص لتختفي … إنها تشبه مُدنًا كبيرة ما، ولكنها في الواقع يمكن أن تنقل بطرفةِ عين. إنها تختفي أمام عيوننا، ومثل أشباح تضحك ضحكًا مكتومًا، ثم لا يبدو منها شيءٌ، مع أنها من الناحية الظاهرية موجودة.»٦٠ إن الحديث يدور هنا في الحقيقة عن خلقِ أشكالٍ يمكن أن نسميها أشكالًا سينوجرافية؛ لأنها تمثِّل «المسرح الساكن».
وبدءًا من منتصف الثمانينيات، عندما انتقل الفنان من أشكال اللوحات المعبِّرة عن الحياة اليومية العادية؛ الحياة الجماعية السوفيتية في حالتنا هذه (في العَقد السالف من إبداعها) إلى أشكال الإنستاليشن،٦١ فقد أسَّس الفنان عددًا كبيرًا من الأعمال من هذا الطراز. وتعدُّ مسرحية «الحبال» (١٩٨٥م)، واحدةً من أوائل هذه الأعمال، قدَّمها الفنان بشكل يعرض ﻟ «نفايات» الحياة المنوعة بشكلٍ أو آخَر، وكذلك في عروض الإنستاليشن التي تلتْها، مثل «الرجُل الذي لم يُلقِ بأيِّ شيء قَط» (۱۹۸۸م)، «الأم والابن» (۱۹۹۳م)، وغيرها. في هذه الأعمال، يتم عرض سقط المتاع معلَّقًا على الحبال أمام المشاهدين. ففي مسرحية «الحبال»، نرى «أغلفة حلوى، أعقاب سجائر، بقايا أقلام رصاص، قصاصات ورق، إيصالات، تذاكر ترام، سدادات زجاجات بيرة، شقافات ما، شظايا، خِرَقًا من القماش، وهَلُمَّ جَرًّا» (تبدو وكأنها قد أُخرجَت من صندوقٍ موجود هنا في رُكن المسرح)، زدْ على ذلك أن كلَّ شيء من هذه الأشياء أرفقَت به أوراقٌ تحتوي على عباراتٍ مقتبَسة من العبارات العامة الشائعة في الحياة اليومية بما في ذلك العبارات والكلمات البذيئة و«ساقط القول».٦٢ يخصص الفنان الإنستاليشن بوصفه «شخصًا» يوضع أيضًا في فضاءِ متحف أو قاعةِ عرضِ فنون؛ فنرى خلافًا للإنستاليشن المخصَّص لعرض «الأم والابن»، الذي وضعه الفنان، جناحًا خاصًّا، مغلقًا من الجوانب كافة، سابحًا في الظلام. يدخل أحد المشاهدين مضيئًا المكانَ بمصباحٍ يدوي صغير، كما لو كان يمسك من ظلام الذاكرة «كميةً لا نهائية من «نفايات» معلَّقة على عددٍ من الحِبال (ممتدة بعرض فضاء المسرح) مثل عُلَب كبريت قديمة، قصاصات ورقية، أسلاك، زجاجات صغيرة فارغة، وغيرها من الأشياء التافهة، وقد أُلصق على كلٍّ منها قصاصةٌ كُتب عليها نَص ما، كلٌّ من هذه النصوص جملةٌ يقولها الابن موجَّهة إلى الأم، اقتباس من العبارات الدارجة، والتي عادةً ما تُقال لها خلال النهار. كل الطلبات الممكنة، الجدل بشأن الطعام، أو بسبب الملابس غير المربوطة بإحكام، أحاديث عن العمل والأقارب، عادةً ما يُسمع خلالها انفعال غير مفهوم». يواصل الفنان بعد ذلك وصفَ الإنستاليشن: «يكتشف المُشاهد، وهو يواصل الحركة في العمق أنَّ الغرفة بمحيطها … محاطةٌ بأوراق «ألبوم أمي»، كل ورقةٍ موضوعةٌ في إطار. أما النص في الألبوم فهو سيرة حياة الأم، يضمُّ كلَّ «عالَم الكلمات» التي كان الابن يستخدمها، والتي أدخلتها الأم في سيرة حياتها.» وأخيرًا، تدخل في فكرة الفنان أيضًا مسألةُ خلقِ جوٍّ عام لوجود المُشاهِد في فضاء هذا الإنستاليشن: «المُشاهِد هنا ليس مجرد ذات، تنظر إلى ما يحيطها، وإنما يتحول هو نفسه إلى جزء من هذا الإنستاليشن الذي هو كذلك بالنسبة إلى الآخرين الذين يدلفون داخله حاملين في أيديهم المصابيح الصغيرة نفسها. تمتلئ الغرفة بأضواءٍ تتحرك في كل الاتجاهات، وتعطي جميعها انطباعًا بالبحث عن شيءٍ ما غامض في الظلام، وهو الانطباع الذي يتَّحد بشكلٍ جيد مع جوِّ الحزن والفراق، الأمر الممتلئ في جوهره بماضينا.»٦٣

يحمل الإنستاليشن المسمَّى ﺑ «الإنسان الذي طار من غرفته إلى الفضاء» (١٩٨٦م) طابعًا أكثر شخصانيةً ليبدو كما لو كان حميميًّا، وكذلك عَرْض «فقَدَ عقله فخلع ملابسه وهروَلَ عاريًا» (۱۹۹۰م). كِلا العرضَين يقدمان للمُشاهد ليس مجرد رؤية ﻟ «نفاية الحياة» معروضةٍ على الحِبال، ويسمحان له بأن يغوص في البيئة الفوضوية للفنان الغائب بحرفية، والذي «يطير إلى الفضاء» أو «يهرول عاريًا» بعد أن يترك آثارًا تدلُّ على وجوده (سريرًا قابلًا للطي مع ملاءةٍ مطوية، حذاءً ملطخًا بالطلاء، قصاصاتِ ورق، دلوًا مقلوبًا وشرائطَ مكرمشة من المطاط، مساميرَ صدِئَة، «جهازًا» للإقلاع، وكذلك ملابس معلَّقة في أماكن متعددة على الجدران ولوحات مبعثرة في طرَف الغرفة). «طار في الفضاء»، أو «هرول عاريًا».

إذا كانت «نفاية الحياة»٦٤ هي الموضوع المطروح سابقًا لجماعة عروض الإنستاليشن، فقد كانت هناك جماعة أخرى تخصصت في إنشاء تكوينات في فضاء المسرح تحت إشراف كاباكوف، وهذه الجماعة قامت بتجسيد موضوع «الشقق المشتركة»٦٥،٦٦ بشكل لا ينتمي إلى الإنستاليشن بقدر ما ينتمي إلى الإنفايرومنت، أي إلى خلق نموذج ﻟ «البيئة المحيطة».

انظر على أيِّ نحو ظَهَر واحد من الأنواع الأُولى لعروض الإنفايرومنت كما وصفها الفنان في عرض «الردهة – ألبوم أمي»، والذي قدَّمه في عام ١٩٩٠م.

«… ردهة ضيِّقة، ذات سقف منخفض، سيئة الإضاءة، بُنيَت على هيئةِ متاهة، أو، إن شئتَ الدقة، تلتفُّ مثل لولب؛ كلُّ هذه الأشياء معًا تشبه ردهةً في شقة مشتركة، ردهة مهجورة، لم يكنسها أحدٌ منذ زمنٍ بعيد. سقف تملؤه الشروخ في عدة أماكن، يستند إلى دعامات من الخشب، الأرضية لم تنظَّف منذ زمن، تتدلى من سقفها مصابيحُ قذرة يكاد ضَوْءُها يُرى، وكما يحدث في أيِّ ردهة في شقةٍ مشتركة توجد هنا أبوابٌ كثيرة، عند أي استدارة يظهر أمامك بابٌ حديد، بعض الأبواب مغلقٌ تمامًا، والبعض مُوارَب، بحيث يصبح من الممكن الدخول عبْرَها بصعوبة. أعلى الردهة سقف طُلي باللون الرمادي، وفي الأسفل طلاء أحمر-بُني (كَرِيه) كما في كل الأماكن «المشتركة» المعتادة، يمتد بطول الردهة، التي يبلغ طولها نحو ٥٠ مترًا، صور فوتوغرافية لصقَت على ورق الحائط، نصوص وقصاصات من بطاقات البريد … كل هذه الأشياء مجتمعة معًا؛ التعليق الرتيب، الردهة المهجورة، الضوء الخافت، الصور الفوتوغرافية، الملل الذي يميز مدينةً صغيرة في الأرياف والقصة المأسوية للحياة … كل هذا موجَّه إلى المُشاهِد الذي يعاني الوحدة، المشاهد الذي يبدو في هذه الردهة مختليًا بنفسه. تنطبق هذه الحالة من الوحدة المطبقة مع صوتٍ يغنِّي بصوتٍ خفيض أغاني روسية رومانسية، يغني «دندنة»، «لنفسه»، إنها حالة من الزيف تنتابه من حينٍ إلى آخَر ثم ما تلبث أن تتوقف … وكلما ازدادت الحركة في المتاهة أصبح صوته مسموعًا، وعندما يعبُر المُشاهِد إلى منتصف المتاهة يخفض من صوته حتى إذا وصل إلى باب الخروج يختفي صوته تمامًا.»٦٧

في التسعينيات قام كاباكوف أيضًا بتنويع موضوع التشوُّه والفقر الذي أصاب الحياة المشتركة في عروض الإنفايرومنت الأخرى.

«دورة المياه» تقدِّم حالةً واقعية من حياة أم الفنان التي تعيشها في مسكنٍ له مرحاضٌ عمومي. في عرضَي «حادثة في المتحف» و«الجناح الأحمر»، يتم التعبير عن حالة انهيار من خلال وصف الإهمال التام؛ في الحالة الأولى: مبنى متحفٍ روسي في الريف، حيث يجري في ظروف ترميم المبنى (مواسير مثقوبة تنهمر منها المياه، جدران عطِنة مُدَّت فوقها شرائط) افتتاح معرضٍ لأعمال فنان عبقري ما مجهول في العشرينيات. وفي الحالة الثانية: دلاء مملوءة بالطلاء، في مبنى جناحِ روسيا في بينالي فينيسيا ٧٣، مبنًى رديء مملوء بالقمامة، به ساحة للعروض الفنية، حيث يعلو فيها صوت موسيقى خفيفة، يرى المُشاهِد وهو خارج إلى «البلكون» لوحةً مُقلدة لمنتجع سوفيتي يصوِّر حياةً رغدة، في حين تسبح السفن في البحر. وفي عرضَي «عربة قطار حمراء» وفي «نحن نعيش هنا» على وجه الخصوص وضع كاباكوف إنفايرومنت ضخمًا مكوَّنًا من شرفتَين مسرحيتَين، قام بتطويره في عام ١٩٩٥م في مركز بومبيدو في باريس، حيث وسَّع حدود «الشقة المشتركة»، التي اكتسبت الآن شكل مبنى «المستقبل المشرق» الشامل اللانهائي، والذي يعيش الناس حياتهم في وسطه، في عربات قطارات ركَّاب، تشبه مقلبًا للقمامة، يولدون فيها ويترعرعون، يتزوجون وينجبون أطفالًا، ثم يموتون. في هذا المكان، يتحرك المشاهدون عبْرَ هذا البناء الضخم لمقلب قُمامة من عربةٍ إلى أخرى، مارِّين عبْر هذا الوضع الحقيقي والمفصَّل والمعروض على نحوٍ طبيعي، والذي يعيشه هؤلاء الناس في كلِّ عربة من هذه العربات، ليهبطوا إلى الشرفة السفلية «تحت الأرض» المخصَّصة للاستجمام الثقافي والاحتفالات الجماعية، هناك ثلاث «عربات للدعاية»، حيث كان من الممكن أن يشغل المشاهدون أماكنهم هنا أمام خشبة المسرح، ومشاهدة لوحات فنية من المدرسة الواقعية الاشتراكية معلَّقة على المسرح، وأن يستمعوا من الإذاعة إلى أغاني الثلاثينيات وحتى الخمسينيات البهيجة.

لم يكن «المسرح الساكن» لكاباكوف بحاجة إلى مشاركة من الممثلين؛ لأن مغزى عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت تتلخص في اندماج المَشاهد في البيئة، حيث لا يبقى في وقت ما من الناس، الذين وُجدوا فيها، سوى آثارٍ مادية، وتصبح هذه البيئة نفسها، جوها ومزاجها، هي موضوعَ الإدراك والمعاناة. إن عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت عند كاباكوف؛ هي مسرح الفنان السينوجرافي المكتفي بذاته تمامًا في أكثر «صوره نقاءً». ويأخذ هذا المسرح في التطور والاتساع لا على خشبة المسرح، وإنما في فضاء العرض كلِّه لينتمي بذلك إلى ظواهر الإبداع البصري.

على هذا النحو، تصبح عروض الإنستاليشن، التي يقدِّمها السينوجرافيون الرُّوس بوصفها تكوينات استعراضية، تصبح مسرحًا (مكتفيًا بذاته) للفنان. جدير بالذكر أنَّ أيًّا من هؤلاء السينوجرافيين لم يزعم وهو يعمل على المسرح أنه يصنع مسرح الفنان، فهؤلاء كانوا يقومون بتنفيذ مهمةٍ احترافية بحتة؛ إذ كانوا يوفِّرون للعرض البيئة المكانية المناسبة وما يلزمه من أشياءَ مادية. وحتى عندما قدَّموا أمام المشاهدين إنستاليشن سينوجرافيا؛ فإن هذا الإنستاليشن كان جزءًا لا يتجزَّأ من تصميم المسرحية. على هذا النحو، كانت عروض الإنستاليشن التي قدَّمها بوروفسكي في مسرحيات «الجريمة والعقاب»، «التبادل»، «الخيول الخشبية». على أنه كان كافيًا عرضُ مسحاتٍ خشبية Harrows (تلائم موضوع «الخيول الخشبية») في فضاء العرض، وهو ما فعَلَه بوروفسكي في معرض برلين حتى يمكن تصوُّر هذا الفضاء بوصفه عملًا من أعمال «المسرح الساكن». كما حولَت فنانة السينوجرافيا إيرينا أكيموفا فضاءَ العرض في الجناح المخصَّص لروسيا في معرض كوادرينالي براغ عام ١٩٩١م إلى إنفايرومنت على موضوع النموذج السينوجرافي الذي أقيم في عرض مسرحية «اثنان في المدينة» من تأليف م. فارفولوميف. لقد تحوَّل هذا الفضاء إلى مكانٍ تقوم فيه حياة سوفيتية متعدِّدة القوميات في إحدى الشقق المشتركة، تتمثل العناصر كافة في جدران ونافذة، باب انتزع من مفصلاته، دورة مياه، مرحاض، أريكة، مقعد، بيانو، نفذت جميعها من الورق المقوَّى؛ ونظرًا إلى افتقاد هذه المادة الرخيصة المستخدمة هنا للمتانة، وكونها غير ملائمة من ناحية توظيفها وتخصيصها، الأمر الذي يخلق إحساسًا بأنَّ هذا المكان خيالي تمامًا، منافٍ للواقع وللحياة الطبيعية للناس. وقد تم تقطيع ورق مقوًّى على هيئة مبانٍ مرتفعة كنماذج للعمارة التي كانت سائدة في عصر ستالين، قام بجرِّها على ظهورهم شخوصٌ سوداء من الورق المقوَّى أيضًا، راحوا «يسيرون في موكب» عبْرَ هذا الفضاء.
إلى جانب هذا، فقد وضَعَ السينوجرافيون الروس عروضًا للإنستاليشن لا تمتُّ بصِلة للأعمال المسرحية، أي بوصفها أعمالًا فنية بصرية خالصة ومستقلة. في عام ١٩٩٤م، عرَضَ بوريس ميسيرير «إنستاليشن وجوديًّا» تحت اسم «حكاية عن المطر»، استخدم فيها عناصر من بيئة ورشة الفنان في منطقة بوفارسكايا، حيث عاش وأبدع أعماله؛ سماورات٦٨ قديمة، ساعات، مكاوي، ماكينة خياطة، موازين، برَّادات شاي، أقفاصًا بها طيور، وأخيرًا جراموفون. جميعها تمثِّل أدلةً صامتة على بحوث ميسيرير الفردية نفسه، فضلًا عن تصويرها لسنواتٍ طويلة من لقاءات الصداقة التي عُقدت حول المائدة إبَّان سنوات السبعينيات الصعبة مع الكتَّاب وفناني السينوجرافيا والفنانين والموسيقيين الذين جاءوا إلى هنا، باعتبارها فرصةً فريدة للمشاركة في «مسرح الفنانين البوهيميين والفكر الحر» على حدِّ تعبير ف. أكسيونوف. آنذاك ظهَرَ هنا المناخ Almanac٦٩ الشهير، الذي عُرف باسم «متروبول»، وكان الشعار المرسوم عليها هو جراموفونات ميسيرير، التي كانت أبواقها، بكلِّ مظهرها البصري، كما لو كانت تستدعي لدى القارئ في زمنِ ما قبل العلانية، عند رؤيته لغلاف «المناخ» الذي منعَته السلطات، تداعيًا مستقلًّا، وفْقَ فكرة الفنان، للمستنسخات التي كانت منتشرة في الشوارع إبَّان سنوات الحرب. وفي المعرض الذي أقيم عام ١٩٩٤م، قد وضعَت صفحتان مفتوحتان موضوعتان على حاملٍ للأوراق أمام هذا الإنستاليشن.

وقَدْ بُني هذا الإنستاليشن بشكلٍ رأسي. وقد رُفعَت كلُّ الأشياء التي أُحضرَت من الورشة فوق أرضية المسرح على أوتادٍ طويلة. رفرفَت فوقها مِظلَّاتٌ سوداء مفتوحة، راحت تسقط فوقها تياراتٌ منهمرة من خيوطٍ فضية تمثِّل أمطارَ شجرة عيد الميلاد، تسقط من «سُحُب» معلَّقة على ارتفاع ثمانية أمتار، وقد صُنعَت هذه السُّحب من كُراتٍ ملوَّنة منفوخة، ﻟ «تنهمر» من المظلات ساقطةً على الأشياء.

إنَّ «حكاية عن المطر» بوصفها نموذجًا لبيئة الحياة والإبداع تعَدُّ، في الوقت نفسه، نسخةً بصرية من موتيفاتِ قصيدة تحمل العنوانَ نفسه للشاعرة بيلا أخمدولينا حول ربَّات الإبداع المعمِّرات ونموذج الفنان.

في عام ٢٠٠٠م، وبعد مرور ستِّ سنوات، وفي المعرض الذي أُقيم في متحف بوشكين للفنون الجميلة، عرض ميسيرير الإنستاليشن المسمَّى «قدَّاس لرُوح فينيدكت يروفييف».

على نصف دائرة Apsis من القاعة البيضاء (حيث أُقيمت في أُمسيات ديسمبر خشبة مسرح)، تمَّ بناء تكوينٍ من ثلاثة أجزاء يضمُّ مائدتَين وصندوقًا في المنتصف. وفوقها، وكذلك فوق ماكينات الخياطة من طراز سنجر، وضعَت أدراجُ خياطة فارغة عليها علاماتٌ تجارية وكتابات، وقد تكدَّسَت بعضها فوق بعض، وقد وضع الفنان فوقها زجاجات فودكا ونبيذ قديمة من أحجام مختلفة، بدءًا من زجاجاتٍ صغيرة جدًّا سعة ٥٠ جرامًا وحتى سعة ثلاثة أرباع اللتر، لُصقَت عليها بطاقاتٌ تميِّز ذلك الزمن الذي شُربت محتوياتها فيه. يقول ميسيرير: «أودُّ أن أؤكِّد أنَّ كثيرًا من الزجاجات الصغيرة، لم تكن في حُسباني، وإنما اعتُبرت جزءًا من مدخل شقة فينيتشكا٧٠ في شارع فلوتسكايا، حيث زرتُه ووجدتُ فيها صفوفًا من هذه الزجاجات الصغيرة سعة مائة جرام، وقد وُضعَت على جميع أرفُف الكتب. وكان يشتريها بسبب فقره، ثم احتفظ بها بعد ذلك على الأرفف ولم يتخلص منها.» والآن في هذا الإنستاليشن، «تختلط الزجاجات بمصابيح الكيروسين لتتشكل أمامنا صورةُ مملكة من الزجاج المبتكر، التي تكتسب في الوقت نفسه شبهًا من آلة الأرغن»، تستخدم الزجاجات كشمعدان لكثيرٍ من الشموع كانت جميعها مُضاءة (مثلها مثلُ مصابيح الكيروسين) كنيران جنائزية على الرُّوح المشرقة للكاتب الروسي. وفوق التكوينات الموضوعة على موائدَ مرتفعةٍ، علِّقَت أربعة جراموفونات من مجموعة ميسيرير «تشبه الملائكة التي تُمجِّد فينيتشكا».٧١ أضواء المسرح الأمامية، المكوَّنة من صفٍّ آخَر من الزجاجات المضيئة بالشموع الموضوعة على الأرض، تفصل بين المشاهدين وبين هذا العرض الذي يدور دون ممثلين.

تم عرض «قُدَّاس لرُوح فينيدكت يروفييف» في كوادرينالي، باريس، عام ٢٠٠٣م؛ حيث أُضيف عنصرٌ آخر تَمثَّل في طاحونةٍ ضخمة ذات أجنحةٍ مصنوعة من عدادات مكتبية تصدر، عند دوران نقْرِ الأزرار، صوتَ القدَّاس على نحوٍ «موسيقي».

إذا كانت عروض الإنستاليشن والإنفايرومنت تمثِّل «المسرح الساكن» لفنان السينوجرافيا في تناسُقٍ مع النماذج السينوجرافية، فإن عروض الأكشن والبرفورمانس هي عروض للمسرح الفعَّال، يقوم الفنانون السينوجرافيون أنفسهم بالتمثيل فيه، وهو مسرح موجود في صورتَين: المونو أكشن، والكولكتيف أكشن (الأكشن الفردي والأكشن الجماعي).

بدأ الفنانون في روسيا في إخراج عروض المونو أكشن برُوح فن الجسد Body Art في الثمانينيات، ثم في التسعينيات على وجه الخصوص عندما اكتسبَت هذه العروض طابع التجسيد البدني (على سبيل المثال: «عش النمل الخاص بنا» ١٩٨٢م لأناتولي جيجالوف، وقد وضع الفنان هنا جسده العاري في منتصف طريق سُكَّر لأعشاش النمل وجعل من جسده «جسدًا حيًّا وعائقًا في الوقت نفسه في طريق النمل»).٧٢ وقد عرَضَ فنَّانو السينوجرافيا، الذين تخرَّجوا في إنتر استوديو Interstudio ي. سوبوليف في مدينة تسارسكوي سيلو سلسلةً من عروض الأكشن اقتفوا فيها أثر تجربة عارضي البرفورمانس في الغرب في الستينيات والسبعينيات. قدَّمت ناتاليا زوبوفيتش رقصة «روسالكا» (حورية البحر) وقد ارتدَت ثوبًا طويلًا خيطَت بطرَفه شفراتِ حلاقة راحت تدريجيًّا «تخضب» القدمَين بلونٍ أحمر دموي. أمَّا سيرجي نيكوكوشيف، فقد قطَعَ على بطنه إطارًا حول ندبة حديثة لعملية زائدة دودية أُجريَت لتوِّها، ليقوم هو بعمل «ندبة أخرى بطريقةٍ فنية»، بهذه الكلمات وصف ي. سوبوليف هذا الأكشن.٧٣ وقد طبَّقت ناتاليا لوجينوفا هذه الطريقة في تحويل جسدها إلى مجالِ الفن في برفورمانس يسمَّى «محاولة للتواصُل»، عندما رقدَت عاريةً عند مدخل قاعة عرض «سبايدرماوس»: «كنت أحلم أن يمرَّ الناس عبْر جسدي، وعندما مرُّوا من حولي، أحسستُ أنهم تجنبوني». وقد عرف سوبوليوف جوهر هذا المشهد الذي أدَّته تلميذته «بأنها عاشت في عالم واقعي تمامًا، ولكنه واقعٌ جديد تمامًا».٧٤ أمَّا عروض البرفورمانس التي يقدِّمها تيموفي كوستين، فتتميز بالاختلاف؛ ففي أحد هذه العروض («إنستاليشن تيموفي كوستين في فضاءِ مسرح مانيج موسكو» ۱۹۷۷م)، قام كوستين بأداء دور «الإنسان-العنكبوت» فاختبأ في فضاءٍ ضيِّق لمنشور، حيث لفَّ جسده ﺑ «خيوط عنكبوت» حتى فقَدَ القدرة على الحركة. وفي عرضٍ آخَر («يوم الأبواب المفتوحة» ١٩٩٨م)، جلَسَ على كرسيٍّ دون حراك على مدى ثلاث ساعات، مقترحًا على المشاهدين أن يربطوا جسده بالحبال وشريط، وأن ينثروا فوقه قشْرَ التفاح وأعقاب السجائر وغيرها من القمامة، وأن يلطِّخوه ويطلوه، وأن يمارسوا ضدَّه أيًّا من التصرفات الأخرى. في العرض الثالث («الزَّ … مَن» ١٩٩٨م)، يأخذ قلبه، باعتباره عددًا، في حساب الزمن الحقيقي (كل دقَّة من قلبه باعتباره عددًا؛ تساوي ثانية في الزمن البشري)، يشير مؤشِّر «العدَّاد» على امتداد ١٥ يومًا بالطباشير على سبورة، والنتيجة «الحصول على رسم إحصائي متعرِّج للعلاقة بين الزمن البشري والزمن الفلكي.»٧٥ في هذا الطابور من عروض الأكشن المبنية على تعريض الممثل للتعذيب البدني القاسي لجسده ذاته، وفي عرض «العبوة ١-٢» (۱۹۹۷م)، تقف مارينا بيرتشخينا (وهي فنانة سينوجرافيا قامت بتصميم عددٍ من العروض الهامة قبل أن تنشغل ﺑ «الطليعية التشكيلية») عاريةً داخل حلقةٍ شعائرية أقيمَت وسط غرفةٍ غُطيَت بالجصِّ، ثم جرى لفُّها بشرائطَ لاصقةٍ من رأسها إلى قدمَيها، ثم قدمَيها إلى رأسها، الأمر الذي ترتَّب عليه «خسارةٌ متزايدة في الحركة والكلام واللمس والسمع والبصر؛ بل حتى الاقتراب من الموت».٧٦ ولفترةٍ ما يتحول جسدها الحي إلى مومياء، تخرج بعدما تبدأ عملية خروجها من «القشرة» المصنوعة من الشرائط اللاصقة.

هذا العمل من أعمال بيرتشيخينا، يمكن أن يُدرج ضمن أعمال النمط القاسي لفنِّ الجسد. فضلًا عن إدراجه ضمن مجموعةِ عروض المونو أكشن، الذي يصبح فيه جسد الفنان هدفًا للتنكر بواسطة المكياج أو الأزياء (أي إعادة تشكيل الطابع الجمالي تمامًا).

بحلول منتصف السبعينيات، انضمَّت كلٌّ من ريما وفاليريا جيرلوفينا إلى مسلسل هذه العروض التي استندت إلى «تلوين» الوجه والجسد أو الأزياء، ويذكرنا ذلك بالخبرات السابقة عند م. لاريونوف وغيره من المستقبليين الرُّوس في بداية القرن العشرين؛ فقَدْ رسم الفنانون على أسطح الملابس البيضاء خطوطًا لشخوصٍ لرجال ونساء عراة، وعلى بطونهم رسمٌ رمزي لتفاحةٍ أُكلَت لتوِّها، وفي هذا الشكل مُثِّلت موضوعات لعروض برفورمانس تحمل عنوان «ألعاب المرايا» (۱۹۷۷م). سلسلة أخرى تحمل رسم عروض «البرفورمانس الساكن»، خصَّصها ف. نوفاسكي، مثل «ألعاب المرايا» من أجل تثبيت الصورة، ويمثِّلها رسمٌ جرافيكي لوجهِ جيرلوفينا، عندما «يتمُّ استخدام جِلدها، مثل ورق الرقِّ من أجل تقديم صياغاتٍ بصرية ﻟ «ميتافيزيقا عضوية»».٧٧ على سبيل المثال صياغة «شجرة الحياة»، التي تحمل دلالةً مُركَّبة من رموز الكيمياء، مرسومة على الجبهة وأسفل العيون، على الأنف وعلى الذقن، موصولة بعضها ببعض؛ أو بُرج الحوت «مجدولة» حول العيون؛ أو «الماء الحي» مكتوبة بحروفٍ لاتينية على الجبهة Aqua Vitae؛ و«أمواج» تبدو كما لو كانت تندفع من أسفل إلى أعلى على الوجه وعلى الأيدي المضمومة إليه، أو السير على طريق الجلجثة بصلبان على ثلاثة أصابع مرفوعة إلى مستوى قصبة الأنف، ومع الحروف تشكِّل على الخدود كلمة Matttep.
إن عروض المونو أكشن ذات الطابع الفردي، التي أدخل فيها الفنان مَشاهد ما، موجَّهة من الخارج، يمكن اعتبارها المرحلة التالية لحركة هذا الشكل من أشكال الإبداع في اتجاه مسرح الفنان. ولعل عروض الأكشن المماثلة في التطبيق الفني الروسي قد راحت تظهر بدءًا من منتصف السبعينيات، وأصبح من الممكن مشاهدتها، على سبيل المثال، في أداء بعض المشاركين من جماعة «الحركة الجماعية» (KD) في عرض «سبع ضربات في الماء» لنيكيتا ألكسيف (١٩٧٦م)، الذي عُرض على شواطئ البحر الأسود؛ وفي عرض «١٠٠٠٠ خطوة» (۱۹۸۰م)، الذي أقيم على أرضيةٍ مغطاة بالثلج مع التوقف في محطات كلَّ ألفِ خطوة، عندما صنع الفنان تسجيلات للانطباعات في شكل نصٍّ شِعري على بطاقات، ونصٍّ آخَر نثري في كرَّاسات، ثم راح يبثُّ الدفء في أطرافه بابتلاعه جرعاتٍ من النبيذ الأحمر؛ وفي عرض «الخطاب» (١٩٨٠م) الذي ألقاه ألكسيف واقفًا على قدمَين حافيتَين على أرضٍ مطليَّة بالمينا الأبيض تمثِّل ذوبان الثلج في الربيع. ويتلخَّص أكشن نيكولاي بانتيكوف (۱۹۸۰م) في جلوس الفنان على مقعدٍ وسط مربع يمتلئ بالثلج، يتابع كيف يرفع المشاركون الآخرون درعًا نحو رأسه، ثم يهيلون عليه الثلج، الذي طرحوا فوقه نسيجًا لا ينفُذ الضوء منه، ليغرق مَن بداخله في ظلامٍ دامس، إلى أن تنهي أجهزة الراديو إذاعة الموسيقى، فيقوم من مقعده ليتحرَّر من كلِّ الأغطية ويبدو «في عالَمٍ صغير تُضيئه الشمس وضحكات الأصدقاء».٧٨ وفي أكشن «عندما أنظر إلى الشلال» (۱۹۸۱م) يجري بانتيكوف على الثلج، عبْرَ مسارٍ يخلق الرسمَ نفسه الذي رسَمَه فنانٌ صيني من القرن الخامس عشر، يستطيع المشاهدون أن يتأكدوا منه بفضل المستنسخَات التي وزِّعت عليهم.
في أكشن «البوابة» (١٩٨٥م) ظلَّ بانتيكوف على مدى ساعة يُدير عتلةً مغروزة في الأرض بواسطة أنبوبٍ معدني، راح يلفُّ حوله ستة خيوط من خيوط صيد السمك، امتدَّت عبْرَ الأرض من الأشجار البعيدة، وعندما اشتدَّ توترها أخذَت في التمزق خيطًا وراء الآخَر؛ بدَت هذه الأحداث كما لو كانت تجري «بمصاحبة» طقسٍ متقلِّب خاص؛ بدأ بسقوطٍ شديد الثلج، ثم ليسود الظلام، وعندما بلغ العمل نهايته صفَت السماء وأشرقَت الشمس، وعلى هذه الأحداث علَّق مؤلفو كتاب «رحلات إلى الضاحية» بقولهم إنَّ الجانب المتعلِّق بالطقس في الأكشن ينطبق مع لحن «البوابة» (التفاعل القوي بين الأصوات يان-إن، وبين السماء والأرض وبين قُوى الظلام والضوء).٧٩ وبعد مرور عامٍ يؤدي بانتيكوف على الأرض نفسها أكشن «الحذاء»، وفي هذا الأكشن يظهر بانتيكوف قادمًا من الغابة وهو يشد بجهدٍ كبير أربطةً مطاطية (نهايتها مربوطةٌ بالأشجار) واقفًا على نعلِ الحذاء، الملفوف بغطاء واقٍ، يدخل الرباط في فتحات الحذاء، ثم يستقيم واقفًا بكامل طوله، ليأخذ في القفز (ممسكًا بالحبل الممتدِّ فوق الأرض)؛ ونتيجةً لذلك إذا بالحذاء ينخلع برباطه ويذهب بعيدًا في الغابة، أمَّا عارض البرفورمانس نفسه فكان يتحرك متعاملًا مع الحبال، لا بذراعَيه فقط، وإنما بقدمَيه أيضًا، حيث سقَطَ في الناحية المقابِلة على الأرض، التي وزَّعَت حفناتٍ من ترابها على المشاهدين مع صورٍ فوتوغرافية للأكشن.
في مطلع الثمانينيات عرَضَ أ. جيجالوف عددًا من عروض المونو أكشن في إطار مفهومه لمشروع المسرح الشامل TOTART، الذي عمل فيه بصحبة ناتاليا أبالكوفايا، وفي المونو أكشن المسمَّى «إهداء إلى براج» (١٩٨٠م) قام جيجالوف فيه بأداء دورِ طالِبٍ يعيش في غرفةٍ فوق سطح أحد المنازل، قام بالانتحار حرقًا عندما داهمت الدبابات السوفيتية تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨م. وقد قام فنان السينوجرافيا ببناء ساحةٍ مربَّعة من شبكة من الحديد فوق أرضية حجرية وضع فوقها زجاجًا ونصفَي دائرة من الورق، النصف الأول لونه أبيض والنصف الثاني لونه أسود، ثم قام بتلوينهما بالفحم والطباشير، ثم راح يطوي الورق ويحوله إلى كومةٍ أشعل فيها النيران، ثم قام بوضع الورق الممزَّق في كأسٍ نصَبَها في مركز التكوين. وقد أضفى هنا العنصر «الشاماني»٨٠ قوةً خاصة لتأثير هذا الأكشن.٨١ وبعد مرور ثلاث سنوات، قدَّم جيجالوف برفورمانس يسمَّى «الثلج» (مكونًا من ثلاث قصائد محدَّدة)، وينقسم هذا البرفورمانس إلى ثلاثة مَشاهد؛ وعلى صفحةٍ من الورق الأسود كتب جيجالوف كلمة «الثلج»، وبعد أن وضع الورقة بين ألواح زجاجية دَفَنها في الرُّكام الثلجي، ثم أخرجها وصنَعَ من الورقة كرةً، قام بإحراقها (أذابت كلمة «الثلج» المشتعِلة كومةَ الثلج الموضوعة بالقرب). وفي نهاية الأكشن، يُخرِج كلمة «الثلج» بيده ويضعها على الثلج، ثم يجمعه ويأخذ في الْتهامه. استمرت عروض المونو أكشن التي استخدم فيها الثلج في عام ١٩٨٢م في سلسلة حملَت اسم «بحث الدائرة»، راح فنان السينوجرافيا يجرِّب فيها التأثير في النسيج الطبيعي الروسي بواسطة تنفُّس الخاص، «محاولة إذابة الثلج أو نقطة القراءة»، بواسطة البول-«الدائرة الموصوفة»، «واستخدام نقاط من الدم-«الدائرة الدموية»».

تميزَت هذه العروض من عروض الأكشن بمدًى نوعي عريض؛ من الشعائري الدرامي إلى التمثيلي المثير.

إلى النوع الأول ينتمي، على سبيل المثال، عرض «بيكابوتانيا» لجيرمان فينوجرادوف، الذي أنجزه في فضاء غرفة المعيشة الخاصة به في إحدى الشقق المشتركة، التي أعيد تكوينها بالاستعانة بمواسير معدنية تتدلى من السقف وأنابيب وأوراق وعناصر أخرى، تتأرجح هذه الأشياء على نحوٍ رتيب، تدور وتتلامس بعضها ببعض، مكوِّنة في الوقت نفسه بيئةً بصرية وأيضًا صوتية، يرى المشاهدون من خلالها حركاتٍ مدهِشة يؤديها جيرمان السائر وهو نائم (أحيانًا تكون رقصةً بمصاحبة الدُّف)، كما يشاهدون إضاءةً غامضة باستخدام أقراص كُحول ومشاعل معلَّقة، وفجأةً تشتعل أمامهم مصابيح وشمعدانات.٨٢ وقد قام إيجور كاشكوربفيتش بتأليف وأداء برفورمانس شعائري مكوَّن من أربعة فصولٍ في مدينة فيتيبسك يسمَّى «انبعاث كازيميز» (١٩٨٩م)، فأقام في البداية، على طريقة ماليفيتش، تابوتًا سوبرماتيزميًّا، ثم إذا به هو نفسه يظهر من تحت غطائه وقد ارتدى بالطو من النوع الذي يرتديه المهرجون، وقلنسوةً، ويسير على طريقٍ أبيضَ ورقي، تاركًا عليه آثارًا سوداء، متجهًا نحو جدار رُسم عليه مربعات ودوائر. بعد ذلك، في نيمتشينوفكا، وعلى قبر ماليفيتش، تُجرى مراسم إحراقٍ علني لهذا التابوت السوبرماتيزمي بوصفه رمزًا لنظرية «حول ظواهر التناسخ العامة، إعادة ميلاد الأشياء والأفكار».٨٣
كانت عروض الأكشن التمثيلية المثيرة أقربَ بطبيعتها إلى المسرح، لأنَّ فنان السينوجيرافيا كان دائمًا ما يؤدي دور شخصية ما، أيْ يتجسد على هذا النحو أو غيره في هيئة كائنٍ آخَر مختلف. وعلى سبيل المثال، فالسينوجرافي أ. قسطنطين تحوَّل، لنقُلْ إلى العجوز إيزيرجيل [بطلة قصة لجوركي بهذا الاسم. (المترجم)] التي كانت تظهر في شارع تفير،٨٤ وفقًا لشهادة د. ب. بريجوف «ترتدي ملابس مبرقَشة مبالغًا فيها خشِنة الذوق … تعرض على المارَّة على محطة الترام فطائر، يبلغ ثمن الواحدة منها خمسين كوبيكا بأسعارِ زمن ما قبل البيريسترويكا، وواضحٌ أنها أعدَّتها بنفسها، وعندما سقطَت منها هذه الفطائر في الوحل، مسحتْها بطرَف ثوبها وغرسَت فيها الشوكة وراحت تعرضها بالمجَّان تقريبًا …
يسير قسطنطينوف في محطةٍ أخرى مرتديًا الملابسَ نفسها، وقد حمل قصاصةً من مجلةٍ بها صورة شاب مشوَّه، ملحًّا على المارَّة برجاء تقديم المساعدة للعثور على الابن الذي سُرق منذ عشرين عامًا مضت.»٨٥ كان أكثر عروض المونو أكشن من هذا النوع التمثيلي المثير في التسعينيات؛ هو العرض الذي قدِّم في نيويورك، والذي عدَّ أفضلَ عروض البرفورمانس التي عُرضت هناك في موسم ١٩٩٧/١٩٩٦م. ويعدُّ الاسم الذي اقترحه الفنان تفسيرًا لبرفورمانس ي. بويس «أنا أحبُّ أمريكا، وأمريكا تحبني»، الذي عُرض في نيويورك منذ عَقدَين مضيَا، وقد قام كوليك بتغيير كلمة «أحبُّ» الموجودة عند الفنان الألماني (والموجَّهة إلى أمريكا الهنود والكائن المتوحش كيوتو) إلى «أعضُّ»، الأمر الذي يتَّسق ليس فقط مع فطرة كلبٍ محبوس في قفص، يشعر بالكراهية تجاه القادمين نحوه ليمسحوا بيدَيهم عليه، وقد قام كوليك بأداء دور هذا الكلب لمدة ثلاثة أسابيع وقد خلَعَ ملابسه، في كلمة «أعضُّ» استجابةً للحالة الداخلية للإنسان الروسي في الواقع المعاصر،٨٦ بعد أن وضع نفسه هذه المدة الطويلة في ظروفِ هذا الاحتجاز الاصطناعي، بمعنى ظروف حياة حيوان معروض على الملأ، يقدَّم له الطعام في إناء من خلال حاجزٍ حديدي، وقد كان عليه أن يبقى حيًّا طوال الوقت، وأن يظل معروضًا أمام أنظار الناس (حتى وهو يقضي حاجته) ليلَ نهار. كوليك الذي مثَّل الكلبَ عانى مجموعةً من التفاعلات المتنوعة أمام الجمهور. راح كوليك يعوي على هذا بصورةٍ كئيبة بصوتٍ مرتفع، ويزمجر على ذاك مهدِّدًا، يمسك بشراسة بيدِ شخصٍ دسَّ يده من خلال القفص، يهاجم شخصًا ما دلف إلى القفص، ويسمح، على العكس من ذلك، بشخصٍ آخَر أن يحكَّ له أذنه، أن يطبطب عليه، بل ويندفع في ثقة ليستقرَّ في أحضانه ويداعبه، ويخضع له في صبرٍ وأناة، ومرةً أخرى يندفع صارخًا نحو شخص يشعر أنه يكِنُّ له مشاعر العداء. بعبارة أخرى، فقد عمل الفنان، في واقع الأمر، وفقًا لقوانين فنِّ الدراما. على أنَّ «حقيقة مشاعره في الظروف المطروحة» لم تكن هنا نتيجةَ فنِّ تجسيد الممثل، وإنما جاءت تحقيقًا للهوية الذاتية، على نحوٍ كامل وقاسٍ، للبناء المادي والمعنوي له مع التصور الغريزي للعالَم وللناس من وجهة نظرِ كلب.

ومن بين عروض الأكشن الجماعية التي بُنيَت على التفاعل بين اثنَين أو أكثر من المشاركين مثَّلت مجموعة كبيرة تلك العروض التي يؤديها اثنان من عارضي البرفورمانس.

قدَّم أفراد فرقة جيرلوفين في بينالي فينيسيا ۱۹۷۷م؛ عرضَ الأكشن المسمَّى «ذو» (حديقة الحيوان). استمر جلوس الممثلين عرايا فيها طوال اليوم في قفصٍ وهم يحملون لافتةً كُتب عليها «الإنسان homo sapiens، الذَّكر والأنثى»، والذي أصبح، بموجب اعترافهم الشخصي، تعبيرًا عن الرغبة في اختلاس البصر فيما خلف ستارة الانتخاب البيولوجي للطبيعة البشرية … «القفص يحمينا كما لو كنا سواء في وطن الدعاية الغادرة، أو في بلد العجل الذهبي.»٨٧ وعلى النقيض من ذلك، فإن عروض فيتالي كومار وألكسندر ميلاميد قد حملَت طابعًا اجتماعيًّا ساخرًا على نحوٍ صريح. ففي عرض «إعداد وجبة بفتيك من صحيفة البرافدا» (١٩٧٥م)، مزقَت الصحيفة إلى قِطَع جرى وضعها في مفرمةِ لحم، في حين أنهم في عرض «المعبد» (۱۹۷۸م) راحوا يُحرقون علنًا، فوق بناء أحمر مدبَّب، له نجمة حمراء على حقيبة سفر يهاجرون بها إلى أورشليم.
الجزء الأكبر من عروض أبالكوفايا وجيجالوف جرَت أحداثها في شقتَهما الخاصة أو في فضاءٍ مسرحي لورشة أصدقائهما. هذه العروض التي دخلت إلى «المسلسل الأسود» عام ١٩٨٠م، حملَت طابع المحاكاة الشعائرية، كما أنها بُنيَت على المعارضة بين النزعة الأسطورية والابتعاد عن الأسطورة، بين «المقدَّس» و«المدنَّس»، بين الفوضى/الكون، البناء، الدمار، الضوء/الظلام، الحياة، «الموت».٨٨ بدأت أبالكوفا عرض «جنازة زهرة» بقطع الخيوط المربوط بها أغصان شجرة سرو. في هذا الوقت، رسَمَ جيجالوف بأحمر شفاه على الأكتاف العارية لزوجته علاماتٍ ما «مقدَّسة». وعندما خلع القميص؛ ظهرَت على ظهره نفس رسوم العلامات. بعد أن تحرَّرت شجرة السرو من الخيوط، وُضع بشكلٍ احتفالي على سطحٍ زجاجى طردٌ من طرود البريد، خرجت من إصبعي، انحشرت الأشرطة الخزفية المغمورة بالجبس في الجزء البارز من الصندوق. بعد ذلك بدأت عملية الهدم؛ يُنتزَع ورق الحائط والشرائط من المواسير، تُزال الماسورة من شجرة السرو المغمورة بالجبس لتُسمَّر في صندوق البريد. يحاول المشاهدون الجالسون في الظلام الخروجَ من الغرفة مستخدِمين حاسَّة اللَّمس، فإذا بهم في الردهة المحاصَرة بمختلف أنواع النفايات، وعبْرَ بابٍ موارَب يكتشفون وجود أبالكوفا وجيجالوف راقدَين في الحمَّام. منتقلين إلى أكشن آخَر يسمَّى «المكعب الأسود»، يجد المشاهدون جيجالوف داخلَ المكعب الأسود، جالسًا في الركن وقد راح يقرأ صحيفة «البرافدا»، وبعد أن ينتهي من القراءة، يلفُّ بداخل العدد الحديث من الصحيفة السوفيتية الكبرى كومًا ملقًى على الأرض من صحفٍ قديمة، يشعل فيها النار ثم يغادر المكانَ إلى الخارج. يغلق باب الدخول بالشمع، ثم يقوم بصحبة أبالكوفا بتمزيق سطح الجدران الورقية السوداء مستخدمًا موسى إلى أن يدمِّر المكعب. ينقل بقاياه إلى الأرض ويضرم فيها النيران.
بُنيَت عروض الأكشن في سلسلةِ «مطبخ الفنِّ الروسي» (۱۹۸۳م) على تنفيذ مشاهد عادية، قدِّمت على شكل عمليةٍ طويلة مستمرة دون انقطاع وفقًا لمبدأ Perpetuum Mobile (الحركة الدائمة).٨٩ وفي برفورمانس «العمل» تتحرك أبالكوفا وجيجالوف كلٌّ في اتجاه الآخَر، ينقلان أجزاءً من الطين من كومةٍ واحدة إلى كومةٍ أخرى، هذا «الجهد السيزيفي» يدعم استمرار حجم كلٍّ من الكومتَين. وفي برفورمانس «البذور» يستمر المشاهدون المشاركون في الأكشن في مضغ البذور في صمتٍ تام في جوٍّ شِبه مُظلِم؛ والنتيجة لوحةٌ حجرة متَّسخة بقمامة من القشر. وفي أكشن «التطهير» نثر الثلج فوق ترابِ حقلِ موسكو في «نقي» من حفريات مدينة «بومبي»، أرسله الزملاء من إيطاليا. وقد تمَّ أكْلُ بقايا «تراب بومبي» في المنزل «تطهُّرًا من الذنوب».٩٠ واصَلَ الجميع عملهم وفقًا لمبدأ الحركة الدائمة لأكشن ١٩٨٤م Praesence-Praesence (على مدى خمس ساعات، أخذت أبالكوفا إيشار من كرة خيوط من الحرير وضعها جيجالوف الجالس في المواجهة على ركبتَيه) وأكشن «علامة الطليعية، أو رياح الشرق تقهر رياح الغرب» (كرة الخيط المربوطة على ركبتَي جيجالوف يمتدُّ منها خيط، يمرُّ عبْر مقبض الثلاجة إلى أن يصل إلى أبالكوفا التي تلفُّه مرةً أخرى في بكرةِ خيط). يحدث كلُّ ذلك بمصاحبة ارتجالاتٍ لموسيقيين يعزفون على موضوع «الشرق والغرب»، تُستكمل عندما يُفتح باب الثلاجة؛ فتصدر أصواتُ تساقُط نقاطٍ من ثلج ذائب. وفي أكشن «دعوة في مايو» يجلس الفنانون فوق صندوق ويحملون فوق رءوسهم صواني عليها شطائر، يأخذ المشاهدون «الضيوف في تناولها بالتدريج على مدى ساعة ثم الْتهامها. وبعد أن يخلِّصوا أصحاب البيت من هذا الحِمل؛ يفتحون لأنفسهم منفذًا للمشروبات، التي كانت موجودةً داخل الصندوق كما يبدو. وقد اكتسب العمل باستخدام أدوات تلميع الأرضيات في أكشن («الملمَّعات») مغزًى طقوسيًّا أيضًا لدى المشاهدين (الذين تمَّت دعوتهم «لاختلاس النظر» لهذا العمل من خلال فتحة الباب)، (كانت حركات التأرجح، حيث يقترب فيها الرجال من النساء تارةً، وتارةً يبتعدون، توحي بممارسة الجنس) ويعبِّر هذا العمل عن «موتيفة» انعدام القدرة الجنسية في المجتمع الشمولي، حيث كلُّ شيء فيه مُحرَّم».٩١ «المناقشة»، هي حوارٌ عن الفن يؤديه الفنانون وهم جلوس إلى المائدة، يضغطون بالتتابُع (مع مرور الدقائق) على أزرارِ ساعةِ لُعبة الشطرنج. هنا جيجالوف وأبالكوفا يمثلان جدلًا بين طرشان. أمَّا عرض «ستَّ عشْرة وضعيةً متطابقة»، فهو بمثابة لوحة برفورمانس فنية، تحيط فيه أبالكوفا وجيجالوف الجدرانَ ذات الأسطح البيضاء بطِلاءٍ باللونَين الأحمر والذهبي، متخذَين أوضاعًا مختلفة بجسدَيهما. ويَطْلِيان جسدَيهما ووجهَيهما بالألوان نفسها، بعدها يتَّخذان مكانَيهما في الركنَين الأحمر والذهبي. وفي عروض الأكشن، التي تُجرى في بيئةٍ خارجية، يواجه الفنانان كلٌّ منهما الآخَر، في حركةٍ بطيئة ممتدة في الزمن، في الثلج العميق («في مثل هذا البرد لا يكون للفن معنًى» ١٩٨٥م) عبْرَ الرمل أو حصى شاطئ البحر («آثار أقدام»، و«أحجار بلطيقية» ١٩٩٠م).
وإذا كان الجزء الأكبر من عروض البرفورمانس عند أبالكوفا وجيجالوف، قد تناوَلَ العلاقة بين الرجُل والمرأة، فقد قدَّم عرض «مترو» الذي قدَّمَته في مطلع الثمانينيات فرقة «الهلاميون»؛ حياتهما الشخصية: «من السادسة صباحًا إلى الواحدة وتسع وثلاثين دقيقة ليلًا، قضى الفنانان وقتهما في أنفاقِ موسكو حيث لا تكفُّ الحركة على خطوط المترو، بل راحا يستقبلان هناك ضيوفهما (موزِّعَين عليهم مقدَّمًا مواعيد المقابلات وأماكنها). كان الهدف من ذلك، هو فهْمَ «المعنى النفسي الخالص لمكان المترو السوفيتي بوصفه مكانًا للحياة … وفي الوقت نفسه استيعاب هذا المكان بوصفه مكانًا أسطوريًّا»؛ «الإحساس بأنهما من سكان العالَم السُّفلي»، وأن عودتهما من هناك يمكن تصوُّرها باعتبارها ميلادًا جديدًا.»٩٢

كان باستطاعة الجمهور الذي حضر في هذا اليوم أو ذاك، خلال تلك الشهور الكثيرة (من أبريل إلى أغسطس ۱۹۹۲م) لمشاهدة عروض البرفورمانس التي أقيمت في بيرتشيخين مثل: «قراءة الحائط الأبيض الأول» و«الكتاب الأسْوَد للحائط الأبيض»، أن يشاهد في أفضل الأحوال جزءًا ما من أجزاء البرفورمانس، ولكن هذا الجمهور نفسه لم يكن باستطاعته أن يشاهد العملية ككل؛ إذْ كان العرض بكامله غيرَ متاحٍ إلا على شريطِ فيديو.

من جانبٍ آخَر، فقد استمرَّت تجاربُ استخدام مختلف وسائل الجذب الفعال للمشاهدين في عروض الهابيننج، التي كانت قد بدأت على تُخوم الخمسينيات والستينيات بوصفه هؤلاء المشاهدين مشاركين في عروض الأكشن. كان الأمر بالنسبة إلى أولئك «الهلاميين» مثله في عرض «الحفريات»، حيث راح المشاهدون يحفرون على مدى ساعةٍ حفرةً في الأرض إلى أن اكتشفوا في عمقها عارضَ برفورمانس يختنق. وفي عرض «الإعدام رميًا بالرصاص» تم صفُّ المشاهدين وقيادتهم إلى مكان «الإعدام»، حيث جرى بعد «عقاب» المقطوع، قراءةُ أمرِ العفو. وفي عرض الأكشن المسمَّى «انسكاب المياه» يقوم العارضون، الذين تمَّت دعوتهم إلى فضاءٍ ضيق في شقة من غرفةٍ واحدة، بسكبِ قصاصات من ورق الرسم عليه إسقاطات ضوئية لصورة البحر، وقد اختفوا خلف سطحٍ من ورق الرسم، بعدها تتمُّ دعوة المشاهدين للحضور عند انسكاب المياه من الحوض (الذي استمر في الامتلاء طوال جريان الأحداث في الغرفة)؛ وفي النهاية، تسقط زجاجاتُ عطرٍ صغيرةٌ تذكارية من هذه المياه نفسها.

كانت لفرقة «المشاهد الجماعية» KD، التي كانت تعدُّ أكثر ظاهرةٍ روسية أهميةً في مجال نشاط عروض الأكشن، والتي شغلَت مكانةً خاصة في هذا الاتجاه المفاهيمي الموسكوفي في فترة منتصف السبعينيات والثمانينيات؛ كانت لها نسخها الخاصة من كل أشكال عروض الأكشن التي تحدَّثنا عنها سابقًا. وخلافًا لمعظم الفِرق الأخرى، فإن KD تشكَّلت، كما كتبَت ي. بورينسكايا، الباحثة في هذه الظاهرة؛ فإنه «استنادًا لا إلى الفنون الجميلة وإنما، أولًا وقبل كل شيء، إلى الشِّعر والموسيقى … بُنيت عروض البرفورمانس لفرقة KD على … البنى غير التعبيرية، التي تم بفضلها تنظيم الأحداث ومنطقية بنائها، والتي تذكرنا بالأشياء الموسيقية والشعرية المنسابة في فضاءٍ مسرحي مادي واقعي»، وعلَّقت الباحثة بقولها: «إن التشديد على استخدام الحد الأدنى من الحدث والوقفة، وذلك … عندما تتوقف الأحداث الخارجية عن الدوران، يشبه «التكوينات الموسيقية أو الشِّعرية المعتدلة»، المبنية أحيانًا على لحنَين أو ثلاثة ألحان أو على كلمات غارقة في فضاء السكون.» وتؤكِّد ي. بوبرينسكايا أن «فرقة KD اهتمَّت بالدرجة الأولى بتلك «الأحداث» التي وقعَت داخل الوعي الإنساني»؛ ولهذا فإن «المشهد يُبنى على هذا النحو، من أجل تقريب المُشاهِد من حالة «التأمُّل الخالص»».٩٣ وعندما يقارن أندريه موناستيرسكي رئيس الفرقة في الكتاب الذي استشهدنا منه، وفي كثير من الأحاديث، عروض البرفورمانس التي يقدِّمها فرقة KD بالعروض الأجنبية؛ فإنه يشير مِرارًا إلى الاختلاف الرئيسي بينهما بقوله: «تكمن شخصية الفنان في بؤرة اهتمام العروض الغربية، أمَّا عندنا فإن الغابة والحفل والثلج يشكِّلون الاهتمام الأول. الإنسان يمكن أن يوجد فقط على هيئة شخصيةٍ صغيرة.»٩٤ وبالإضافة إلى ذلك، فإن «المشهد نفسه في عرْضِ الأكشن يتم ﻟ «تحويل الأنظار» … ففي الوقت الذي ينظر الجميع فيه في اتجاهٍ واحد، يجري الحدث الرئيسي في مكانٍ آخَر تمامًا؛ وفي هذه الحالة يدور في وعي المشاهدين، من حيث الأشياء، وحركة الشخوص المستخدمة في المشهد، لا ينبغي بالضرورة أن يكون لها مغزى مستقل».٩٥ الأشياء والشخوص يتساويان في علاقتهما بالأشياء الأخرى في جذب المشاهدين (ومن بينهم أساسًا ممثلون ودارسون للفنون وعارضون ومعارف قريبون) إلى العرض المقدَّم؛ يقومون بتوزيع الدعوات، توصيل التعليمات الخاصة بخطِّ سير الرحلة الدورية في الضاحية، الجو الخاص للانتظار إبَّان التوجُّه نحوَ مكان الحدث، استيعاب البيئة الطبيعية المحيطة، حالة الطقس، وهَلُمَّ جَرًّا. وبعد النهاية، تُسلَّم شهاداتٌ تسجيلية وتذكارية عن مشاركتهم.

حدَّدَت هذه المبادئ طابعَ عروض الأكشن، التي نفِّذت بوصفها عرضًا واحدًا للبرفورمانس (ضربنا أمثلةً بذلك آنفًا) أو عرضَين أو أكثر.

يتلخَّص حدثُ «الكوميديا» (۱۹۷۷م) في ظهور شخصيتَين من جانبَين متقابلَين «الشخصية الصغرى» تتسلل داخل ثوب فضفاض. في هذا «الميزانسين»، يتحركان باتجاه المشاهِدين، وفي الطريق تختفي الشخصية التي كانت تتسلل في الثوب الفضفاض. تم تمثيل موتيفة التبديل والاختفاء في عرض «النسخة الثالثة» (۱۹۷۸م)، فبعد غرَقِ العارض في الحفرة، إذا بقرينه يظهر من حفرةٍ أخرى تبعد ٣٠ مترًا عن الأُولى، ولكنَّه يظهر ببالونةٍ حمراء محلَّ رأسه. تنفجر هذه البالونة وتسقط الشخصية دون رأسٍ مرةً أخرى في الحفرة. وهنا يصعد شخص في ملابسَ عادية من الحفرة الثانية؛ فيهيل عليه التراب ثم يخرج إلى الغابة.

إنَّ جذب المشاهدين للمشاركة٩٦ يحدث لا على مستوى الترقُّب والانتظار والتأمُّل، وإنما أيضًا على مستوى الحدث الواقعي. وقد اقترح على المشاهدين أن يقوموا مع العارضين بشدِّ حبلٍ (طوله سبعة كيلومترات) من بكرةٍ لمدة ساعة ونصف الساعة، كان الحبل معلَّقًا بين أشجار الغابة «زمن الحدث» (١٩٧٨م)، أو يلفُّوا كلٌّ ببكرة منفصلة (كانت البكرات مغروزةً في مسامير بارزة من لوحٍ موضوع في منتصف أرضٍ مغطاة بالثلج) بخيط أبيض يتحرك، بمقدار الشد، باتجاه الغابة إلى أن ينقطع الخيط عن البكرة ولا تظهر في اليدين سوى الورقة التي تدلُّ على حقيقة وقوع العرض.
من الطبيعي جدًّا أنَّ ما يعطي هذا القدر الجوهري والمغزى الحاسم بقدرٍ كبير في تحويل المشاهدين إلى مشاركين؛ هو الخطوة التالية أيضًا التي اتخذَتها فرقة KD نحو عروض الأكشن من النوع الرابع الذي يمثِّل المشاهدون فيه بأنفسهم دون أن يكون للعارضين أيُّ وجودٍ مادي منظور.
هذا النوع من عروض الأكشن، التي يصبح فيها المشاهدون مشاركين أيضًا، نظِّمَ بفضل فرقة KD، بالإضافة إلى فِرَق موسكو الأخرى، وذلك بدءًا من منتصف السبعينيات. وكانت هذه العروض أيضًا من نوعين: عروض فردية، وأخرى جماعية.
لقد قامت مشروعات عروض الأكشن التي أعدَّها فور. جيولوفين على فكرة دخول المُشاهد في الفضاء الداخلي لكرةٍ ما أو مكعب، والوجود في بيئته التي صمَّمها فنانو السينوجرافيا، وحدَّدوا الفعل السلوكي داخلها. يفترض مشروع «مكعب» الراحة (١٩٧٦م) أن المُشاهد الذي يدلف إلى الداخل؛ يكتشف مكعبًا تبلغ مساحة سطحه ٤٠ سنتيمترًا، مملوءًا بجداولَ صغيرةٍ كُتبت عليها عناوين مختلفة. على سبيل المثال: «طاولة كتابة من طراز الباروك»، «زهور اصطناعية»، «أشعار أبوللو»، «الخادمة الزنجية»، «قِط سيامي»، «النخلة»، «فينوس أمام المِرآة»، «السكون»، «أ ي و ا»، «شفاطة»، «إضاءة حمراء» وهَلُمَّ جَرًّا.٩٧ هذه الجداول (وهناك جداول أخرى غيرها خالية من الكتابة يمكن لأيِّ شخص كتابةُ ما شاء له عليها) يقوم المُشاهِد حسب رأيه وذوقه بلصقها على جوانب المكعب الصغيرة، صانعًا بذلك بيئته الخاصة، التي يمكن للزائر التالي أن يُعيد وضعها. وفي مشروعٍ آخَر، يجد المُشاهِد الداخل نفسه في فضاءٍ من انعكاسات المرايا، سواء انعكاسات بصرية، أو صوتية (صدًى متكرِّر لنطق اسمٍ وكنيته، المُشاهِد-الشخصية)، تخلق «تصورًا سمعيًّا ومرئيًّا متضخمًا وقسريًّا لذات هذا الشخص».٩٨ وفي النهاية نجد مشروع «الانغماس» وهو يدور حول المغزى المفهوم المهم الذي رسمه الفنانان: «في كرة يبلغ نصف قطرها ١٫٥ مترًا، سطحها الداخلي مغلَّف بشريطٍ اصطناعي رقيق، عليها تخطيط رسم لسطح الكرة الأرضية، يبدو الداخل إلى هذا العنصر كما لو كان موجودًا داخل كرة أرضية مقلوبة (منتهى الأنانية الأنثروبولوجية المؤدية إلى العبث). وبالتدريج يبدأ الشريط في التوتر في المركز إلى أعلى. وعندما يتماسُّ مع الجسم الموجود بالداخل؛ فإنه يتمزق، ويبدو المُشاهد وكأنه يمرُّ عبْرَ القشرة الأرضية. أسفل الشريط، الذي جرى إبعاده تمامًا، يظهر رسمٌ ساكن بمقاسٍ كبير للأرض (بأحجار صغيرة ورُفات وهَلُمَّ جَرًّا). يظهر تداعٍ، مع الانغماس في التربة مع عملية الدفن، يصبح الضوء باهتًا أكثر بالتدريج ثم ينطفئ تمامًا. ولا يتسنَّى الخروج من الكرة إلا بحاسَّة اللمس فقط.»٩٩
جرَت عروض الأكشن التي أعدَّها موناستيرسكي في فضاءٍ مغلَق لمدخلِ منزل الفنان، وتلخَّصَت في حدثٍ يرتكز على هدفٍ مادي. اقترح المخرِج على المُشاهد أن ينظر إلى صندوقٍ أسود؛ ونتيجةً لذلك «إذا بصوتِ جرسٍ كهربي يدوي في العلبة بدلًا من أن يحدث تأثيرٌ بصري كان متوقَّعًا»؛١٠٠ «المدفع» (١٩٧٥م). مرة أخرى يقترح موناستيرسكي أن ينفخ داخلَ علبة سواء (من خلال مَبسمٍ بارز فيها) يخرج الهواء عبْر هذا المبسم إلى الخارج؛ «فتحة خروج الهواء» (۱۹۷۷م). بعد مرور عدَّة سنوات، وفي أكشن يحمل اسم «النفخ في هذا الاتجاه» (١٩٨٣م)، يتمُّ النفخ في علبةٍ تسقط كاشفةً عن ملصقٍ كُتبَت عليه حروف وأرقام «أدوات مسرحية». في عرض «ماكينة اللَّف» (۱۹۸۱م)، يقوم المُشاهد على مدى عشرين دقيقةً بإعادة لفِّ خيط يأخذه من علبة كارتونية إلى علبةٍ أخرى، كاشفًا لنا، بعد أن ينتهي الخيط من العلبة، عن اسم الشخص الذي قام بهذه العملية قبله. وفي النهاية، يقوم المُشاهد في عرض «القبعة» (۱۹۸۳م) بتنفيذ الأمر المكتوب المثبت على الزر العلوي للقبعة «ارفع»، وعندما يرفع القبعة يكتشف كتابةً تقول: «يمكن أن تضع القبعة، ولكنْ لا يمكن أن تفهم.»١٠١
وخلافًا لعروض الأكشن الفردية التي يقوم فيها المشاهدون المشاركون بالتمثيل؛ نجد أنَّ فرقة KD قد قامت بتنظيم العروض الجماعية في أحضان الطبيعة، أثناء الرحلات إلى الضاحية. استطاعَت هذه العروض أن تحمل صفةَ القدر الأقل، ولتبدو كما لو كانت عروضًا بلا فاعلية. على سبيل المثال: عرض «الظهور» (١٩٧٥م) و«ليبليخ» (١٩٧٦م)، ويتلخص الأمر في أن المشاهدين المدعوِّين يجتمعون في أول فرصةٍ على طرف حقل، حيث يتمُّ تسليمهم شهادةً تثبت اشتراكهم. يلتقي المشاهدون في العرض التالي، في وسط أرضٍ ثلجية لكي يسمعوا من أسفل الثلج صوتَ جرسٍ كهربي. وسواء في الأكشن الأول أو الثاني، فإن الأساس الذي وضع المصمِّمون نموذجه لسلوك المشاهدين؛ كان تلك الحالة التي وصَفَها موناستيرسكي بكلمة «حالة الانتظار»: «ليست مهمتنا أن «نعرض» شيئًا ما للمشاركين-المشاهدين. تتلخص مهمَّتنا في الحفاظ على الانطباع الناشئ عن حالة الانتظار بوصفها حدثًا هامًّا وذا مغزًى.» وبعد ذلك يقول: «هذا الانتظار المحض هو بالتحديد ما حدث في الواقع؛ وفي الوقت نفسه، فإن حالة الانتظار نفسها هي ما وقَعَ بالفعل.»١٠٢

وفي عروض الأكشن التي قُدِّمَت في نهاية ١٩٧٠م والنصف الأول من الثمانينيات اقتُرح على المشاهدين، بالإضافة إلى معاناتهم «حالة الانتظار»، القيام بأفعالٍ أكثرَ فعاليةً، ولكنها تحمل كذلك صنعةَ القدر الأقل أيضًا.

يتلخص أكشن «الحفرة» (۱۹۸۱م) في حفر الجداول، ثم إهالة التراب بعد ذلك في الحفرة. يقترح المخرِج عرض «اللولب» (۱۹۷۹م)؛ «رحلة» المشاهِدين عبْر لولبٍ (قُطر دائرته الخارجية ١٦ مترًا) قام بإنشائه ألكسييف من قوائمَ خشبية دُقَّت في الأرض، وشُدَّت بينها حبال، وثبِّت بقطاعاتها العرضية ما يزيد على مائة ملصق. وعلى هذه الملصقات تمَّ توضيح «الأماكن» شديدةِ العادية وشديدةِ المفاجأة. المشاهدون بالقرب منها («الشاطئ»، «التقاطع»، «الطريق المشجَّر»، «مصنع القرميد»، «برج الأجراس»، «السلك الشائك»، «بحرٌ بلا قاع»، «الحبال» وهَلُمَّ جَرًّا)، إشارات إلى الظواهر الطبيعية والضوئية («صياحٌ بعيد»، «رنين السحب»، «ضبابُ الصباح»، «قوس قزح»، «الرياح على القمة»، وما إلى ذلك) وكتابات من نوع «طريق عودة كئيب» (إلى المركز الذي وصل إليه «الرحَّالة»، حيث نالوا لفترة ما قسطًا من الراحة بعد «تَرحالٍ» طويل). وهناك «رحلةٌ» أخرى أيضًا في أكشن (۱۹۸۳م)؛ عندما قامت فرقة KD بدعوة المشاهدين إلى حقلٍ مُحاط بغابةٍ صيفية، «الذين حاولوا وضْعَ نموذجِ فضاءٍ فني لوسائل انتقال، في اكتماله «السماوي والأرضي»، وإظهار وجود هذه العلاقة».١٠٣ هنا يبدو النموذج رحلةً يومية عادية جدًّا في المترو تنفَّذ بالوسائل الصوتية فقط باستخدام أجهزة الفوتوجرام (شرائط مسجَّلة على أجهزةِ تسجيل منتشرة في أماكنَ مختلفة من الحقل والغابة)؛ في البداية، صوت هدير سُلَّم كهربي متحرك١٠٤ (على جهاز التسجيل الأول) وبعده (على جهاز التسجيل الثاني) صوتُ الإعلان عن أسماء المحطات، بعدها (على جهاز التسجيل الثالث) صلصلةُ عربات المترو المنطلِق. وفي لحظةٍ ما، يقوم المُشاهِد، العابر عبْر هذا «الصفِّ المشارك في هذا الأكشن الصوتي»، وفق تعبير إ. كاباكوف، في إحدى «المسافات بين محطتَين»، بإعطاء إشارةٍ باستخدام صافرة؛ للانطلاق التالي «لعربة المترو»، ومن غابة يسمع صوتَ استجابةِ صافرة أخرى على صفارته، صادر عن آلةٍ موسيقية.١٠٥ في النهاية المشاهدون-المشاركون أمام تصميمٍ ممتد بين الأشجار، له جناحان ذهبيان ارتفاعهما متران، ألقَى الجناحان بظلِّهما على الكرة الفضية-الشِّعار المكبر لجهاز المترو، علامة «الخلود الطائر في ثبات فوق العالم السفلى» كما وصفها موناستيرسكي.
وإذا كان المُشاهدون في فرقة KD يؤدون أدوارهم بوصفهم ممثلين أساسيين في الأكشن، نسبيًّا، على نحوٍ سلبي وتأملي توقعي، فإنهم مع فرقة «الهلاميون» (ك. زفيزدوتشيوتوف، س. جوندلاخ، أ. كامينسكي، الأخوان ف. وس. يرونينكو، ۱۹۷۸–١٩٨٤م) قد وظِّفوا في مواقف حادَّة؛ فقد قاموا بأداء مشاهدَ حيوية جدًّا ذات مغزًى حاسم بالنسبة إلى كلِّ مشاركٍ عارض على حِدَة، وكانوا بمثابة هدفٍ كامل للأكشن.

إن طابع المشاركة المستقلَّة للمشاهدين في عروض الأكشن التي أعدَّها فنانو السينوجرافيا؛ استطاع أن يحظى بالتنوُّع الكبير.

لقد اقترَحَ على الموجودين أن يهزُّوا مضخَّةً حمراء («هزوا المضخة الحمراء»، ۱۹۸۰م، فرقة «العش»). وقد قام كلٌّ من ي. شابيلنيكوف وي. كيسلياكوف في يوم الاحتفال بعيد النصر بدعوة المحاربين القدماء إلى عرضِ أكشن مسمَّى «هديتان: إحداهما مرَّة والأخرى حلوة» (١٩٩٥م) على أقداحٍ من الفودكا، صفَّت بامتداد جدران الجاليري، ولتناول كعكةٍ كبيرة على هيئة الرايخستاج [مبنى البرلمان الألماني. (المترجم)]. وفي أكشن «المكعب الأبيض» (١٩٨٠م) من إخراج أبالكوفا وجيجالوف، قام المشاهدون-المشاركون في العرض، على مدى ثلاث ساعات، بربط هيكل مكعب، بحيث يظهرون في النهاية منقسمين إلى مجموعتَين (إحداهما بداخل المكعب والأخرى خارجه) يتوحَّدان بعد ذلك بواسطة قَطْع الشرائط التي تمثِّل عائقًا، أي يقومون بتدميرٍ تام لهذا العنصر الذي قاموا من قبل بإنشائه.١٠٦ وفي عرض «الحرس الأسود» (١٩٨٦م)، اقترحَت أبالكوفا ومعها جيجالوف على المشاهدين أن يقوموا بممارسة التأمُّل على صوتِ موسيقَى «محدَّدة» (مكوَّنة من أصوات المطر والريح، وأشياء تتساقط، وعداد حساب للأطفال، وخليط من أعمال باخ). انقسَمَ المشاهدون إلى أزواجٍ وقفوا كلٌّ في مواجهة الآخَر تفصل بينهما مسافةٌ وقد أمسكوا بمرايا، وراحوا يحملقون في الانعكاس، في الوقت نفسه، على أنفسهم وفي الشريك الواقف في المُواجَهة. حل محلَّ الأزواج في «الحرس الحديدي» تدريجيًّا بالتتابع أزواجٌ آخَرون من بين هؤلاء الذين كانوا يراقبون الأكشن من خلال فتحةِ بابٍ مغلق.
إذا كانت عروض الأكشن قد تميزت في السبعينيات والثمانينيات دائمًا بطابع اللاعلانية Underground، ولم يكن متاحًا إلا لعددٍ محدود من المشاهِدين؛ فإنها في التسعينيات قد نظمَت بشكلٍ واسع ومتعدِّدِ الفنون. لقد حلَّ زمن المهرجانات الكثيفة الجمهور، التي تقدِّم مختلف أشكال البرفورمانس. لنتذكر مهرجانًا واحدًا فقط من هذه المهرجانات، وهو المهرجان الأول للبرفورمانس الذي حمل اسم مهرجان كازيميرس-ماليفيتش، والذي عُقد في موسكو في الفترة من ٢٣ إلى ٢٥ فبراير ٢٠٠١م، وقد ضمَّ هذا المهرجان عروضًا ميدانية من جانب، وتظاهرة أقيمَت على خشبتي مسرح قاعة دار إبداع الهواة لمختلف عروض الأكشن، والبرفورمانس من جانب آخَر. في عروض الميادين كانت موتيفات وأشكال وأفكار مبدِع ومؤسِّس السوبرماتيزم؛ تتَّحد بشكل عضوي مع ثقافة الشعائر والطقوس للعروض الفولكلورية: الجوقات السوبرماتيزمية مع الاحتفالات السوبرماتيزمية لأعياد الصوم الكبير التي تنتهي بحرق الحيوانات المحنَّطة، الْتهام الفطائر المربَّعةِ الشكل وكعكة سوداء مربَّعة، التقويم الفلكي على طريقة ماليفيتش، طقوس التشيؤ وجعْلِ كل الأغراض والبشر على شكلِ «المربع». ومن بين عروض الأكشن التي عرضت في القاعة المذكورة نذكر عرض «كوبومير وسوبريمزفوك» لأنَّا كاليتشوك. هنا، كان من الممكن أن نرى أيضًا الملابس نفسها التي قامت أنَّا بتصميمها لعرضِ مسرح الشباب المسمَّى «الانتصار على الشمس» في التسجيلات وبرنامج الفيديو برفورمانس. هذه الفنانة القادمة من «ورشة فيتشيسلاف كاليتشوك»، بفضل الدعم الذي قدَّمه هذا المهرجان (وكذلك المهرجانان اللَّذان جاءَا بعده: «العيد السابق» «عن الجد» و«عن العيد» عامَي ۲۰۰۲م، و۲۰۰۳م)، حيث جرى إعداد مشروع «المسرح الشامل»، الذي اقترح مفهومًا مبتكَرًا جرَت دراسته في كتابٍ له شكلٌ مميز للإبداع المسرحي.

(١٠) «المسرح الشامل»

ظهرَت فكرة «المسرح الشامل» في البداية عند فيتشيسلاف كاليتشوك في نهاية الستينيات، عندما قام هذا الرجُل، الذي تخرج لتوِّه من معهد العمارة، في إعداد مشروعه التجريبي تحت اسم «العمارة الورقية»، وقد أشار صاحب المشروع في مذكرته التفسيرية إلى أن مشروعه «يعدُّ نموذجًا جرافيكيًّا مفاهيميًّا Conceptional، وليس برنامجًا معماريًّا». ويعدُّ هذا المشروع تنظيمًا لخمس مناطق مكانية: (١) المسرح بمعناه المحدَّد والصارم (ويقع في المنتصف). (٢) المدينة. (٣) الغابة. (٤) الماء. (٥) البعد الثالث (مكانٌ تحت الأرض). استهدف المشروع «تقديمَ جميع الأماكن الممكنة لتقديم المشهد المسرحي؛ عروض مائية مبهرة، كرنفالات في المدينة، مسرح في الهواء الطلق ومسرح آخر كلاسيكي».١٠٧ كرَّس كاليتشوك إبداعه التالي للإعداد التجريبي والنظري لمشكلات التكوين الشكلي للبيئة وإقامة عناصرها باستخدام وسائلَ من السينما: الإنشاءات الذاتية الشَّد،١٠٨ التكوينات والعناصر البصرية والصوتية. لم يحدُث اللقاء المباشِر بين هذا الفنان السينوجرافي وبين المسرح إلا في عام ١٩٩٥م فقط، عندما دعاه ف. فوكين ليضع التصميم السينوجرافي لمسرحية «التحوُّلات» المأخوذة عن رواية فرانز كافكا لتُعرض على مسرح «ساتيريكون»، وقد قامت ابنته المصمِّمة أنَّا كاليتشون بتصميم الملابس.
كان لدى أنَّا، قبل هذا التاريخ، شيء من خبرة العمل في تصميم الملابس والحقيقة أنَّ هذه الخبرة كانت في مجالٍ غير مباشر بمجال المسرح؛ إذْ كانت تعمل في رسم الأزياء بوصفها موضوعات للإبداع في مجال التصميم، يدخل في ذلك إعادة رسْم وإنتاج أزياء العشرينيات، بما فيها تلك الأزياء والملابس التي وضعَت تصميماتها ف. ستيبانوفا لمسرحية فسيفولد ميرخولد «وفاة تارليكين». وقد انعكسَت هذه الخبرة التي اكتسبتها أنَّا كاليتشوك في عام ١٩٨٧م في عروض الأكشن التي ظهرَت في التسعينيات من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، عندما نجحَت بعد ذلك في المزج بين مبادئ تصميم الأشكال عند ستيبانوفا وتكوينات مدرسة السوبرماتيزم في الأسطح الملوَّنة عند ماليفيتش،١٠٩ والتي نتَجَ منها إنتاج ملابس بها عنصر الكيمونو الياباني. هذا الكيمونو تدخُل في تصميمه مكونات من المستطيلات الملوَّنة (تنورة زرقاء وأكتاف)، دوائر (مرايل حمراء على الصدر والظَّهر)، مربَّعات (أكمام صفراء واسعة). وفي المساء، قدَّمَت المؤدية عرضًا تشكيليًّا في متحف فوستوك (الشرق). اثنان من الموسيقيين قاما بارتداء هذا الكيمونو (مارك بيكارسكي، وسيرجي زاجني)، ثم قاما بتمثيل البرفورمانس السابق الذِّكر (كوبومير وسوبريمزفوك). والاثنان جلسا في وضعياتٍ يابانية، كلٌّ منهما في مُواجَهة الآخَر على مائدةٍ صُفَّت عليها أطباقُ طعام كبيرة مصمَّمة على طراز مدرسة السوبرماتيزم (مسطحات مربعة ودائرية بيضاء) وقد وضعت فوق الأطباق مكعباتٌ خشبية وغيرها من الأشكال الهندسية (عناصر سوبرماتيزمية)، وقد جرى إقامة نوعٍ من «الحوار» الدرامي بين هذه المكعبات السوبرماتيزمية، وذلك بأنْ قاما ببناء تكويناتٍ سوبرماتيزمية، ناقلين المكعبات، قارعين بها الأطباق، مصدِرين أصواتًا على إيقاعات مختلفة، كأنها «كلمات» و«عبارات». وفي النهاية، وعندما يقع بينهما اختلافٌ في وجهات النظر يأخذان في التقاذف بالمكعبات والإطاحة بالواحدة مقابل أخرى، بعدها يتحول الأمر إلى مباراةِ «تِنِس» بينهما. وينتهي البرفورمانس بضربةٍ نهائية للمكعب الأخير.

قامت الفنانة بالاشتراك مع ف. كايتشوك وإ. أنيشينكو بوضع منظرٍ خيالي لتصميمات نصبَتها فوق رأس المؤدية أو فوق تمثالٍ لها، مُستخدِمةً مبدأ الإنشاءات الذاتية الشَّد (التي ابتكرها الأبُ ونقَدَها في سلسلةٍ من الموضوعات)، وهذه التصميمات تحاكي نجمًا أو طائرة ورقية أو مظلَّة مفتوحة؛ نسيج فاتِح اللون منبسِط بواسطة سنانير التريكو، مقدَّسة بشكلٍ دينامي ذاتي الشَّد. كانت هذه التصميمات ثمينةً في ذاتها؛ فهي تمثِّل «الشخصيات» البصرية الرئيسية للأكشن المعروض بواسطة الممثلين، الذين يدخلونها إلى الحركة. فالموضوع التشكيلي — على سبيل المثال — للبرفورمانس الذي جرى عرضه عام ١٩٩٦م (بأداء ممثلي التشكيل النفسي عند ف. مارتينوف)، والمسمَّى «الثوب الإنشائي»، هو تفاعلٌ درامي لشابٍّ يحمل هذا «النجم» فوق رأسه، مع فتاتَين، إحداهما وضعَت كليةً بين ثلاثة أشياء من هذا النوع (بحيث تصبح هي «المحور للتصميم بكامله»، تديره، تميله، تنقله) وترسم «نجمًا» كبيرًا، يطير باتجاه الأرض قادمًا من كوكبٍ غامض، أمَّا الفتاة الأخرى التي تلبس ثوبًا من التريكو، يغلِّف جسدها فتبدو وكأنها «عارية»، فهي نموذجٌ أرضي، وهي التي يفضِّلها الشابُّ-«النجم».

ومن الأشياء الشائقة بشكلٍ خاص — من وجهة نظرِ شعريةِ مسرح الفنان — سلسلةُ عروض البرفورمانس،١١٠ التي تظهر فيها بدلةٌ عليها إسقاطاتٌ ضوئية من بروجيكتور، وضعَت تصميمها ونفذتها أنَّا كاليتشوك. جوهر هذه «البدلة-السينوجرافية» (حسب تعريف الفنانة) يتمثَّل في قدرتها على اكتساب أشكالٍ متنوعة وهيئة، وذلك بفضل العمل الذي يقوم به معها ممثِّل يختفي بداخلها؛ وفي الوقت نفسه، تستقبل البدلة على سطحها رسومًا مختلفة أُسقطَت عليها بواسطة البروجيكتور. وعن هذا الأمر كتَبَ مصمِّمو المشروع يقولون: «إنَّ تحوُّلات البدلة السينوجرافية من مثلثٍ يشقُّ الفضاء إلى مربَّع؛ يضع هذا الفضاء في حالة استقرار.» وأضافوا: «في هذه العملية، فإن مصمِّم السينوجرافيا والممثل والموسيقيين وفنان الكمبيوتر (أ. كاليتشوك، ي. لوكيانوتشينكو، ف. كاليتشوك، س. كرليتشا، أ. تابونوف) يعالجون المسألةَ الشكلية لتغيُّر الشكل كلَّ مرة على نحوٍ دراماتورجي مختلف، ويستجيبون بمرونة في أثناء العمل، كلٌّ للآخَر.»١١١ تظهر أمام المشاهدين كتلةٌ على هيئة مثلثٍ ممتد عاليًا إلى أعلى، تشبه تارةً صخرة، وتارةً «طائرًا» ضخمًا ذا منقارٍ حاد، أو كائنًا آخر ما غامض، ينتصب واقفًا. تعدُّ عملية تحوُّل هذا الكائن المثلث هي المضمون المؤثِّر للبرفورمانس. يثني هذا الكائن «رأسه»-«منقاره» ببطء، يهتز جانبًا، يستدير، يدور في حركةٍ لولبية. ثم يمتدُّ من جديد إلى أعلى، ينشر أجنحته بشدَّة، ينكسر، يتقوَّس، ينتصب قائمًا، ينتفخ في أجزاءٍ منفصلة، يستدير، يحدودِب، ينكمش، ينحني، في البداية قليلًا، وبعد ذلك أكثرَ فأكثر حتى يستقر على الأرض. يرفع «رأسه»-«المنقار»، يقف في وضعه الأول. ينتشر إلى أعلى، يأخذ شكل «بيضةٍ» ضخمة أو مثلَّث، يصبح شفَّافًا، وعندئذٍ يرى المشاهدون بداخله ظلَّ الممثلة، التي كانت تحوِّل وتحرك هذا الكائنَ، الذي قامت بصُنْعه الفنانة المصمِّمة، متفاعِلةً مع هذا النموذج على نحوٍ مُركَّب. وفي لحظةٍ معينة، تُخرِج من الشكل المثلَّث المصنوع من القماش يدًا ثم وجهَ حيٍّ، يتحوَّل الشكل وتختفي اليد والوجه. ولكنْ خلال فترةٍ قصيرة ينفتح القماش الذي يشكل البدلة-السينوجرافية، ليتحول من كتلةٍ إلى مسطح، إلى غطاءٍ أو إلى مِعطف واقٍ من المطر خلف ظَهْر الممثلة؛ تدور معه، تدفعه، تضمُّه، تطويه، تهبط به على الأرض، تحوِّله إلى بحرٍ متموج، إلى بروزات تشبه التلال، إلى جبال، وفي النهاية، إلى كومةٍ تبدو كخرقةٍ بالية. إن خاصية وجود «تغيير أشكال» الممثلة (ي. لوكيانوفا) داخل الموضوع الذي صمَّمته الفنانة السينوجرافية يتلخَّص في أنَّ «النزعة العاطفية أصبحَت ثانويةً تتغيَّر طوال الوقت، أمَّا البنية فهي ثابتة».١١٢ سوف نلاحظ أنَّ تزاوج النزعة العاطفية الحية والمتغيرة في الأداء التمثيلي يتمُّ بأقصى درجةٍ من الدقة، بالملِّيمتر وبالثانية، مع الرسم المثبت للشكل البصري للحركات والوضعيات والإيماءات والميزانسين، الذي هو السمة العامة والرئيسية لمسرح الفنان بوصفه شكلًا خاصًّا من أشكال الإبداع المسرحي.

قامت أنَّا كاليتشوك بإعداد أزياء تقع عليها إسقاطاتٌ ضوئية، وقد خصَّصت للعمل معها مجموعات من المؤدِّين، أربعة، على سبيل المثال، يظهرون وقد الْتفوا في نسيجٍ أبيض يوحي شكله بوجود كائنٍ ما خيالي (وهذا لأنهم منذ البداية غير مرئيين). هنا، وبحركاتٍ بطيئة، يأخذ المؤدون في الكشف عن هذا الشكل للنسيج الذي يلتف به، وقد راحوا يتحركون ببطء كأنهم في حالة تأمُّل، يلتفتون فُرادى أو معًا، ويبدَءُون في أداء هذه أو تلك من العمليات: قيام وهبوط، أرجحة ودوران حول محور مشترك (مثل دوران أجنحة طاحونة أو صفحات كتاب)، الْتفاف وابتعاد. وفي النهاية، يجمعون النسيج في كومة لينتهي البرفورمانس بأكشن لبدلةٍ حركية سينوجرافية تدور على حبالِ ألسنةِ «شُعلةٍ» داخلها شخصية. من هذه «الشعلة» المتأججة باندفاع، لم يكن من الممكن رؤية شيء سوى قدمَي الشخصية.

وقد جرى أيضًا عرض مشروع ملابس، عليها إسقاطات ضوئية على عشرين شخصًا، لها شكل خطٍّ أفقي طويل، مثل «ساق» نبات متعرِّج، تخرج منه على التوالي عشرون «ورقةً» من القماش؛ أقمشة مخصَّصة لعملٍ متنوع يقوم به الممثلون.

كانت الرسوم البصرية التي غطَّت الكائنات الخيالية في أثناء وجودها على المسرح؛ هي المكون الثاني المهمِّ للنموذج البصري للإسقاط الضوئي على الملابس سواء في «الأشكال المتغيرة» أو في المشروعات الأخرى. تمثلت هذه الرسوم البصرية في التكوينات الجرافيكية للكمبيوتر على موضوع الاستنساخ اللانهائي، المتكرر، المتعدد الأشكال ﻟ «المربع الأسود» الذي ابتكره كازيمير ماليفيتشي. لقد دخلَت هذه الرسوم، مثلها مثل عروض برفورمانس الملابس، في المشروع الرئيسي ﻟ «المسرح الشامل» الذي كتَبَ مفهومَه كلٌّ من ف. وأ. كاليتشوك في عام ۱۹۹۸م تحت اسم «الكولاج المكاني».

كان هذا المشروع يفترض «إنتاج واقعٍ بصري جديد، يسمح مفهومه وشكله بإعطاء إمكانية لإخراجٍ مرِن بواسطة استخدام بنية الفضاء المسرحي ونماذجه، الإخراج الضوئي واللوني، استخدام الملابس المسرحية حركيًّا وصوتيًّا، التكوينات والتصميمات الذاتية الارتفاع والتحول، الرسوم الجرافيكية باستخدام الكمبيوتر والفنون الإلكترونية».١١٣ ووفقًا للفكرة التي تشكلَت لدى أنَّا كاليتشوك بصورةٍ نهائية في مطلع القرن الحادي والعشرين؛ فإن «الكولاج المكاني» هو المسرحية المكوَّنة من تسعة فصول. كلُّ فصل بمثابة برفورمانس مستقِلٍّ، وُضع وعُرض بشكلٍ مستقل في سنواتٍ مختلفة وأماكنَ متعددة (لا على خشبات المسارح؛ وإنما في قاعات المعارض والجاليريهات والمتاحف وهَلُمَّ جَرًّا)، لكنَّ كل هذه العروض يربطها موضوعٌ واحد ومضمونٌ واحد. «الفكرة الرئيسية هي المربع الأسود بوصفه نفقًا ما، يبدأ من عنده كلُّ شيء، وينتهي كلُّ شيء عند هذا المربَّع الأسْوَد الافتراضي.»١١٤ وهي محاولةٌ لتجسيد فكرة التأثير المتبادَل للفضاء المسرحي الذي يؤثِّر فيه الصوت والضوء وتشكيل الشخوص الإنسانية والمواد المستخدمة، والأبنية الهندسية، والموضوعات والملابس متحدةً بعضها مع بعض في بناءٍ واحد. من المفترض أن ينتقل «فضاء الورشة، حيث يحكي الفنان (ف. كاليتشوك؛ المؤلِّف) عن الأفكار، التي جرى تجسيدها في الأعمال التي تحيطه إلى خشبة المسرح. إن الموضوعات التي يبدأ في الحديث عنها؛ تصبح مكانًا للعرض المسرحي أو جزءًا منه. من المفترَض أنَّ المسرحية سيتمُّ اعتبارها محاضرةً عن فنِّ التصميم والحركة مع عرضٍ على هذا الموضوع … موضوع عروض البرفورمانس التشكيلية والمسرحية، الضوئية واللونية، الإنستاليشن السمعي والبصري».١١٥ شيءٌ ما شبيه بذلك قد تمَّ عمله في عام ١٩٩٩م في دار إبداع الهواة؛ فقد ألقى ف. كاليتشوك محاضراتٍ بمصاحبة عروض برفورمانس قدَّمتها أنَّا كاليتشوك، وتضمَّنَت المحاضرات موضوعاتٍ أصبحت فيما بعد فصولًا من مسرحية «الكولاج المكاني».
وهكذا على النحو التالي، ينبغي أن تبدو هذه المسرحية التي يمتدُّ زمانها إلى اثنتَين وسبعين دقيقةً، بعدها سيتم في النهاية جمْعُ فصولها معًا.١١٦

يفتتح «المحيط المعلوماتي» التكوين المسرحي. فيسقط على الشاشة ضجيجٌ صوتي صادر عن شريط خالٍ من أيِّ تسجيل، ومن «صفر الأشكال» هذا، على طريقة ماليفيتش كما لو كان يشقُّ فضاءَ «المحيط المعلوماتي»، يظهر الثلث على شكلِ زيٍّ مُعَد للإسقاطات الضوئية (كالذي قدِّم في عرض الأكشن الذي تمَّ تناوله من قبلُ تحت اسم «الأشكال المتغيرة») ليتجه نحو مقدمة المسرح مثل شراعٍ ضخم. وبعد أن يمرَّ بفترة تطوُّره المسرحي، ينفتح مكتسبًا شكل المربع، ومنه تخرج شخصيةٌ تجسد «جلطة» الجوهر الإنساني وطاقة تنتقل إلى البرفورمانس التالي.

يحمل البرفورمانس اسم «ماتير – إي – يا» (المادة).١١٧ تقسيم الكلمة يعكس بنية البرفورمانس، الإنسان، من جانب، (الأفضل أن نقول «الطاقة»-«يا»١١٨ [وتعني «أنا» بالروسية. (المترجم)]) والمادة-«ماتيريا»، من جانبٍ آخر، والتي عرضَت عرضها بواسطة إسقاطاتٍ فنية ديناميكية على موضوع «الاستنساخ» اللانهائي والمتنوع للمربع الأسْوَد. إن أول ما يراه المشاهدون هو شخصُ إنسان (الراقصة ي. لوكيانوتشينكو ترتدي بونيفورم أسْوَد) تجلس على رُكبتَيها في مساحةٍ ضيقة بين شاشتَين مسطحتين. وفي لحظةٍ، تغطِّي الشاشة الأمامية — الشفَّافة — كثيرٌ من المربَّعات، التي تأخذ في الزيادة باندفاع إلى أن تتجمع في مربعٍ أسْودَ واحد كبير. هنا تنهض الشخصية على قدمَيها، تعبُر الفضاء المسرحي من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، ثم تقف جامدةً بلا حراك مُوليةً ظَهرها للجمهور، رافعةً يديها جانبًا، في أثناء ذلك يتحرك المربع الأسود عائدًا إلى عمق المسرح، ثم يأخذ في التفكك إلى قِطَع صغيرة، ثم إلى قِطَع أصغر حتى يتحول إلى فُتات صغيرة جدًّا، ومن جديد ينسحب هذا الرسم إلى الأمام ليزداد كبرًا، ينبض، يهتز، يتنفس، يتحول إلى أجزاء محدودِبة أو مقعَّرة، لتنثني الخطوط المستقيمة للتكوين، وفي الوقت نفسه يبعث من جديد يقوم الإنسان الغارق في هذا الفضاء الافتراضي بأداء عددٍ من عروض الأكشن مع هذا الرسم؛ يسقط عنه ببطءٍ طبقة، ثم ثانية، وعندما تظهر الطبقة الثالثة المهتزة من الرسوم، يتقدَّم المربع الأسود إلى الأمام ليملأ الشاشة بكاملها، يرجعه مرةً أخرى إلى الخلف، مكررًا هذه العملية مرتَين، بعدها تأخذ الأيدي ببطء في «تدوير» المربع في البداية إلى اليمين، ثم إلى اليسار، كليًّا وجزئيًّا. وبالطريقة نفسها تقود الشخصية تكوين المربعات ببطء (في هذه المرة بارتفاع الخصر) من «الكواليس»، وعندها يملأ الفضاء المسرحي بكامله، يرفعه إلى أعلى نقطةٍ فيه مرةً أخرى يديره، هذه المرة بسرعة، موصلًا إياه إلى أقصى سرعة، إلى أن يتوقف تكوين المربعات، المتحركة ذاتيًّا، تمامًا مكونةً صورة الإنسان. وبعد أن يطير الرسم الإسقاطي مرةً أخرى في العمق يكشف خلف الشاشة الأمامية الشفَّافة ظِل واضح لإنسان، يرى المشاهدون تفاعلاته الوضعية الجديدة مع التكوينات التالية «للمادة»: تباعُد الأجزاء، تجمُّع المربعات في علاقات بعضها ببعض، صراعها من أجل ملء فضاء الشاشة بها من أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل، قطريًّا ودائريًّا، والانتشار اللانهائي إلى أجزاء، إلى مربعاتٍ صغيرة ومكعبات طائرة، تفرقها وتجمعها معًا، بعد أن تكون قد ابتلعَت الشخصية بكاملها.
تكمن «فكرة تحويل الشكل واللون إلى شكلٍ ولون جديدَين من خلال الحركة» في أساس الفصل الثالث «للمربع الأسود»، وفقًا لخطةِ فنانة السينوجرافيا. وتصِفُ أنَّا كاليتشوك هذا الموضوع البصري بأنه «يعتبر إنستاليشن يُستخدم فيه الظل وشاشةٌ بصرية، توضع أمامها قِطعتا قماش، صليب يتقاطع مع آخَر، أحدهما أبيض والآخَر أحمر. تنتشر على القماشة البيضاء مكعبات متعددة الألوان، في حين تُوضع ثلاثة أطباق على القماشة الحمراء: طبقانِ مربَّعان وطبق في المنتصف، مستدير، وباتجاه الشاشة يتمُّ إسقاط رسمٍ لعناصر سوبرماتيزمية تعدُّ تطويرًا ﻟ «المربع الأسود» باتجاه تكويناتٍ سوبرماتيزمية». مؤدِّيَا البرفورمانس هما موسيقيان يرتديان الكيمونو، يقرعان المكعبات في الأطباق المربعة، يمثلان، يؤديان تكوينًا سوبرماتيزميًّا صوتيًّا وبصريًّا، على النحو الذي تمَّ به عرض الأكشن المسمَّى «كوبومبر وسوبريمزفوك»، الذي تحدَّثنا عنه آنفًا، وخلافًا لهذا الأكشن نجد هنا مشاركًا ثالثًا أيضًا يمثِّل تجسيدًا «للطاقة» (مثل شخصية «ماتير – إي – يا»): يقوم هذا المشارك «بنقل المكعبات وبناء بيت سوبرماتيزمي فوق الطبق الدائري. وفي لحظة خروجه وراء الشاشة، يختفي كلُّ الضوء والصوت وتظهر خلف الشاشة حركةٌ دوارة سوبرماتيزمية. ثم يحدث الانتقال إلى الفضاء التالي».١١٩
يحمل الفصل الرابع اسم «الظلال»، وهي تمثل أيضًا موضوعَ هذا الفصل؛ يتجسَّد الموضوع في إسقاطات الظلال لمؤلفات ف. كاليتشوك وتصميماته الحركية الذاتية الشَّد، التي تُقدَّم لا بصورةٍ مجسَّمة، وإنما بواسطة تكويناتٍ محيطية، تظهر في حركةٍ مستمرة، تتقارب وتتباعد، تتضاءل وتكبر، تدور في اتجاهاتٍ وبسرعاتٍ مختلفة. تكتسب أشكالًا مختلفة، تتحول، تتقاطع، تتشوه، تختفي ومن جديد تظهر في أشكالٍ جديدة مرةً وراء الأخرى. في هذا العالَم الافتراضي للرسوم الجرافيكية لخطوط الظلال؛ يوجد الإنسان: ««الطاقة»، يتفاعل معها بشكلٍ مُركَّب، إلى أن يصل إليها بواسطة تشكيله، الذي يعمل مع البنيات الدوَّارة، وتارةً يصبح محورًا لها، وتارةً أخرى مراقبًا دخيلًا …»١٢٠ الشخصية التي ترتدي يونيفورم أسْوَد وتضع على رأسها تاجًا فضيًّا على هيئة «نجمة سداسية»، تنشطر إلى شخصيتَين، ويكرِّر ظِلُّها حركتَها بكاملها، وضعياتها، إيماءاتها في سياق إسقاط الرسوم الجرافيكية للتكوينات الافتراضية على الشاشة، هذه الإسقاطات التي كان باستطاعتها أيضًا أن تتكاثر بمجرد إضاءة كشَّافَين.
في الفصل الخامس المسمَّى «اللعب بالمكعب»، يتشكَّل الفضاء مثل كتلةٍ بمساعدة مكعبٍ كبير (مترَين × مترَين) موحيًا بالعلاقة القديمة للأرض. يستدير على نحوٍ قُطري، يرتكز على زاويةٍ واحدة، وفي هذا الوضع يأخذ في الدوران ببطء، تارةً في اتجاه عقارب الساعة، وتارةً في الاتجاه المعاكِس، جانباه مشدودان بقماشٍ مُعتِم، وله جانبانِ شبه مُعتمَين، وجانبان مكشوفان. وبفضل هذَين الجانبَين المكشوفَين يدلف إلى داخله مؤدِّيان: رجُلٌ في ملابسَ بيضاء، وامرأةٌ في ملابس سوداء؛ كلاهما هنا تجسيد ﻟ «الطاقة»، يدفعان المكعب نحو الحركة، كما لو كانا لا يبذلان أيَّ جهد، بعدها يأخذ المكعب في الدوران والتأرجح بخاصية القصور الذاتي. وعلى أسطحه يتم إسقاطٌ لتكوينٍ من عناصرَ طبيعية، تُحوله إلى «حجر»، «خشب»، «سماء»، «ماء» لتنعكس وتُضيء، «ترسم» حركة الأيدي وشخوص المؤدين، حادَّة واضحة بدقَّة، أو لتؤدي تمريناتٍ أو لتنتشر. الأسطح الدائرة حولها المكعَّب … بشكلٍ تلقائي، تقطعها شخوص طوال الوقت إلى أجزاء … جزء من الشخوص يبدو واقعيًّا، والجزء الآخر ظلال، والجزء الثالث شِبه شفَّاف.١٢١ وعندما يغادر المؤدُّون هذا العالَم الافتراضي للمكعب الأرضي، يظهرون وقد جلسوا خلف شاشةٍ شفَّافة ممتدة بامتداد مقدمة المسرح (لا يزيد ارتفاعها على ثلاثة أمتار) ومن خلالها تبدو ظلال أيديهم وأقدامهم ورءوسهم وأجسادهم خطوطًا لتكوينٍ أفقي.
«يمثل تفاعُل هذه الخطوط التشكيلية الحيَّة الهندسية الواضحة»،١٢٢ الفكرة الأساسية المكوِّنة لتكوينات الفصول الستة، «الخطوط» التي يتكرَّر فيها البناء الإنشائي لعروض البرفورمانس السابقة (المكعب الأرضي، والمنطقة الشفافة في مقدمة المسرح). هنا تتساقط الخطوط الهندسية على جوانبَ غير شفَّافة/وشِبه شفَّافة ومكشوفة لمكعَّب طول ضلعه مترٌ واحد، يدور مرتكِزًا على زاويةٍ واحدة. ممثلة «تشكِّل» بحركاتها المتموجة، المنسابة «المنغَّمة» حركاتٍ تشكيليةً حيَّة: تظهر في البداية على هيئة ظِل خلف مساحةٍ من شاشةٍ شفافة، بعد ذلك داخل فضاءٍ افتراضي تكعيبي لرسمٍ جرافيكي إسقاطي من خطوط متحركة. وهذه الخطوط لها تكوينٌ مبني بوصفه تجسيدًا بصريًّا لقصة «أيام الخلق الستة» الواردة في الإنجيل، والتي قامت أنَّا كاليتشوك بإعادة صياغة نصِّها وفقًا لمبدأ الكولاج المستقل.١٢٣ في اليوم الأول من الخلق يتحرك خطٌّ واحد، في الثاني يتحرك خطان، وفي الأيام التالية، كمية من الخطوط تكبر، تتعدَّد، تتغيَّر وجهتها طوال الوقت؛ من أعلى إلى أسفل، من أسفل إلى أعلى، من اليمين إلى اليسار، من اليسار إلى اليمين، قطريًّا، دائريًّا، وفي الوقت نفسه تتسع حركتها أو تضيق، تتآلف في محيط مربَّع، صليب، وفي غيرها من الأشكال الهندسية، تبتعد إلى عمق المسرح ثم تتحرك مندفعةً إلى الأمام، تدور في سرعةٍ متزايدة، تختفي، ثم تظهر من جديد في أشكالٍ جديدة، ثم في النهاية تزول تمامًا. في الخاتمة، يرى المشاهدون محيطًا دوَّارًا لمكعَّب خاوٍ وقد فقَدَ خطوطه الهندسية والتشكيلية الحيَّة، ومنه تخرُج ممثلة تسقط، بعد أن تغادر فضاءه، خلف الشاشة الأمامية لتتجمَّد هناك عن الحركة، وفي الوقت، نفسه يتوقَّف المكعب نفسه عن الحركة.

في الفصل السابع من العرض المسمَّى «بابليون»، يظهر المكعب مقاس ۳ × ۳ أمتار في هذه المرة وقد ثَبتَ في وضعٍ إستاتيكي للمرة الأخيرة. وقد تم تحويله هنا إلى «متاهة» باستخدام شبكاتٍ من الخطوط رُسمَت بشكلٍ لولبي، يتولَّد بفضلها إحساسٌ بعمق الفضاء المسرحي، إلى حيث يخرج في الخاتمة شاب وفتاة بعد أن أنهيا تمثيلَ برفورمانس انعكاس الظِّل والضوء، الذي بُني اعتمادًا على تأثير الصدى البصري.

تدمير سطح الشاشة الضخمة المكوَّنة من أشكالٍ مثلثة (رسم إسقاطي لمادة الحجر) أصبح هو موضوع الفصل الثامن لمسرحية «الفعل» (Verb)، وقد باشرت هذه الأشكال حركتها، وفي لحظةٍ من لحظات دورانها مثل آلاتٍ متحركة، يخترق سطح الشاشة شخصيتان ترتديان ملابس مثلثةً تمتد إلى أعلى، مبتعدةً داخل مناطق الفضاء المسرحي. تسير هذه الأشكال نحو رسمٍ جرافيكي عارٍ في عمق المسرح يصور المربع الأسْوَد (من عمل ف. كاليتشوك) وقد أضفى عليه مغزى أيقونات القرن الحادي والعشرين بأبعادها الثلاثية المجردة، والتي أصبحَت تنسحب إلى الفصل التاسع الختامي من عرض «التفاحة»، وفي الممرِّ العميق تُقدم جوقَة سوبرماتيزمية يقودها ممثلون يرتدون أزياء مجسمةً صمَّمتها أنَّا كاليتشوك لمسرح الفنان، وهي عبارة عن فستان إنشائي، «نجمة» كيمونو، ملابس مجهَّزة للإسقاط الضوئي.
تتحد فكرة الفصل الختامي مع أفكار «استنساخ» المربع الأسْوَد في عرض «ماتير – و – أنا» وقد تحققَت في مشروع عرض «ممرٌّ افتراضي للعيون والأقدام» عُرِض عام ٢٠٠٠م في معرض روسلدورف الدولي. ويعدُّ المشروع أحدَ عروض الإنفايرومنت من حيث الفضاء المسرحي المكوَّن من أربع شاشاتٍ ضخمة مساحتها ثلاثة أمتار، أسطحها مغطاة — مثل أرضية المسرح — بإسقاطاتٍ ضوئية متحركة تتغيَّر فيها الأشكال الهندسية. يدخل المشاهدون إلى هذا العالَم الافتراضي يندمجون فيه، يشعرون أنهم جزءٌ منه، ويتفاعلون معه؛ بعبارةٍ أخرى، تعطيهم أنَّا كاليتشوك إمكانيةَ أن يعيشوا لفترةٍ ما داخل بيئةٍ خيالية ساحرة لمسرح الفنان الذي قامت بإبداعه، ليصبحوا هم الشخصيات وهم العارضين.١٢٤

يُعدُّ مشروع «الكولاج الفضائي» هو العمل الرئيسي والأكثر تمثيلًا لهذا الشكل من أشكال مسرح الفنان، الذي قامت على إعداده أنَّا كاليتشوك، وقد دخلَت عناصره المتعددة أيضًا في مسرحيات مخرِجين آخَرين قامت أنَّا بوضع تصميماتها السينوجرافية، وعلى رأس هذه التصميمات الملابس المجسمة. وقد شاهَدَ الجمهور التعديلات التي أدخلتها أنَّا على الملابس التي يتم عمل إسقاطاتِ الضوء عليها في مسرحيات المخرِج أ. بونوماريف «الانتصار على الشمس»، من تأليف أ. كروتشيني، التي عُرضَت على خشبة مسرح الشباب (۱۹۹۸م). وعلى هذا المسرح ظهرَت أربعة أزياء مجسمة مفضضة الواحد بعد الآخَر ممتدة إلى أعلى مرتفِعة، وقد اتخذَت شكلَ المثلث. هذه الكائنات الخيالية، التي يديرها ممثلون مختفون، تسير ببطءٍ في موكب حول البناء السينوجرافي، الذي وضعه أ. تيوبيكوف، تصدُر عنها أصواتٌ غيبية، تتأرجح وقد مدَّت رقابها الطويلة مطَأطِئةً «رءوسها»، «مناقيرها»، منخفضةً إلى الأرض، ناهضةً، مستقيمةً، منكشفة، مضيئة، وقد كشفت عن خيالات لظلال شخوص الممثلين بداخلها.

وقدْ ظهَرَ برفورمانس الأزياء أيضًا في مسرحية «رجلانِ اسمهما كاندينسكي»، من تأليف أ. ستروجانوف (٢٠٠٥م)، وهي مشروعٌ قام بإعداده وإخراجه فنان السينوجرافيا ف. تاليروف، زوج أنَّا كاليتشوك، في الفضاء المسرحي المُعتِم وعلى أنغام عزفٍ منفرد لآلة الكمان يظهر شكلُ زيٍّ، محشو من جانبَيه بلمباتٍ مضيئة. يقدِّم هذا الزيُّ موضوعَه التشكيلي؛ يدور ببطء، تعلو بعض أجزائه وتهبط، ثم يحدث ذلك لأجزاء أخرى، ينفتح الزي، يضيء، كاشفًا بداخله خيالات ظلِّ الشخصية المؤدية، يجسد نموذجًا لآلهة الشِّعر والأدب، ثم تنفتح قطعةٌ من القماش تمثل «لوحةً» تنفصل ثم تثبت على حامل اللوحة.

وفي أحد الأعمال المسرحية الأُولى التي قدَّمتها أنَّا كاليتشوك بوصفها مصمِّمةً للسينوجرافيا، وهو عرضُ «شهر في الريف» من تأليف إيفان تورجينيف (۱۹۹۷م)، الذي أخرجه ف. أجايف، وعرض في قاعة الاستقبال الزرقاء في دار الممثل، حيث عرضَت من قبل هذه المسرحية، يحلِّق فوق الممثلين «تصميمٌ ذاتي الشَّد» على هيئة الحيَّة المُغوية. كان من الممكن تمثُّل هذه الحية ليس فقط باعتبارها موضوعًا سينوجرافيًّا، وإنما أيضًا بوصفها «زيًّا» عامًّا؛ غطاء لكلِّ الشخصيات، وقد ارتفع فوقهم في طيَران حُر ليصبح موتيفةً بصرية مستقلة. وبالقَدْر نفسه احتلَّت التكوينات التعبيرية الإسقاطية التي شكَّلتها أنَّا كاليتشوك، التي ظهرَت على الشاشات الخلفية، والتي كانت تغطِّي أحيانًا عناصر الأزياء مكانها في العروض المسرحية. ففي أوبرا «الرجُل الذي اعتقد أن زوجته هي القبعة»، من تأليف م. نايمان (المخرِجة ن. أنستاسيفا)، تقوم هذه التكوينات تحديدًا بإضفاء رؤيةٍ بصرية على البطل الذي فقَدَ القدرة على رؤية الواقع والذي راح يدرك العالم بوصفه شيئًا مجردًا. فتياتٌ على الشاطئ في ملابس الاستحمام، خطوطٌ متماوِجة لكثبان قديمة تتعرَّج، وتلتفُّ وتستحوذ على الفضاء المسرحي بأَسره في حركةٍ مندفعة، مَشاهد من أفلامٍ قديمة يستبدل بها سماء مرصَّعة بالنجوم، ثم مَشاهد من برامج تلفزيونية (سطح القمر وقد امتلأ بفوَّهات بركانية وسار فوقه رائدُ فضاء، وجه مذيع)، مربعات كبيرة وأخرى صغيرة مستنسَخة بلا نهاية «ممسوحة»، مرشوشة بلونٍ وردي، وأخيرًا تظهر عليها صورة الموناليزا، التي تحقق هنا التحول الدرامي: تشتيت، تجريف لهذا العمل الفني العظيم إلى أن تتحول الصورة إلى مربعات صغيرة تمثِّل ختامَ الأكشن البصري.

وفي العروض التي قام مخرِجون آخرون بإخراجها، لم تؤدِّ العناصر التي أدخلتها أنَّا كاليتشوك من مسرح الفنان الخاص بها، دورَها، باستثناء لحظاتٍ معينة من العرض المسرحي، الذي تمَّ تناوله ككلٍّ بأسلوب من الدراما العادية للممثِّل والمخرِج، أو فنِّ الأوبرا. وقد شغلَت هذه العناصر مساحةً أكبر في مشروع برفورمانس الإعلام المسمَّى «طيور الحلم …»، حيث جرَت الإشارة في إعلان العرض إلى أنَّا كاليتشوك ليس فقط بوصفها مصمِّمة السينوجرافيا والأزياء، وإنما أيضًا، وبالدرجة الأولى، بوصفها صاحبةَ الفكرة والسيناريو والإخراج. وفي المعالجة السينوجرافية، «كانت الفكرة هي إقامة فضاء مسرحي للفلَّاحين على طريقة ماليفيتش»،١٢٥ ومن ثَم تجسيد الظاهرة المميزة للثقافة الروسية في مطلع القرن العشرين، والتي يدلُّ عليها مصطلح «الطليعية الشعبية» (Folk Avantgarde) (التي اقترحها ف. كاليتشوك قبل ذلك في الثمانينيات). وقد تحقَّقَت الفكرة من خلال إسقاطاتٍ بصرية، خلقَت بناءً بصريًّا ديناميكيًّا للمسرحية، تمثَّل في تكوينٍ على موضوع دورة الوجود وفقًا لقوانين التتابع الطبيعي لفصول العام: الربيع – الصيف – الخريف – الشتاء.
في البداية يرى المشاهدون أشكالًا هندسية تطير باندفاعٍ قادمةً من عمق حفرةٍ فضائية افتراضية، كأنها قادمةٌ من المصدر الأول للكون: حلقات، مربعات، مثلثات؛ تبدأ من الأحجام لتتزايد حتى تصبح كبيرةً جدًّا لتملأ الشاشة بكاملها. تنبض هذه الأشكال، «تتنفس» على نحوٍ متسارع، تدور حول محور، تخرج واحد من الآخَر، تتبادل أماكنها في حركةٍ لولبية دوارة، ثم يُستبدل بهذا التكوين التجريدي لقطات «من الحياة الواقعية» تبدو أمام المشاهدين في شكل موضوعاتٍ بصرية مختلفة مستقلَّة (في هذه اللحظات تكون خشبة المسرح خاليةً). ثم تسقط جميعها بأحجامٍ كبيرة.١٢٦ الأيدي الشغَّالة للفلَّاحة تعجن العجين وتصنع منه «طيورًا» شعائرية ترمز إلى الربيع. يدا الفنان العجوز تدير قرصَ الفاخوري وتحوِّل قطعةً من الطين إلى دورق. أداة الحصاد ذات المِنجل، تقطع وتحزم سنابل محصول الربيع. مناظر ريفية في مختلف الأشكال. وأخيرًا في نهاية المسرحية، مقاسات كبيرة لوجوهِ نسوةٍ عجائز معبِّرة عليها آثارُ الزمن من تجاعيدَ وبُقع، يضعن على رءوسهنَّ مناديل، ورجال كِبار السِّن يعتمرون أغطيةَ رأس. صور فوتوغرافية تعرض قُرًى روسية ميتة، واحدة تلوَ الأخرى، يؤلفون معًا «لقطةً» طويلة متعمَّدة، ممتدَّة في الزمن لتلك الوجوه التي راحت تنظر إلى القاعة باهتمام وتركيز وحرص بالِغ وابتسامة وشكٍّ وشعور حقيقي بالاعتذار (مَشاهد الفيديو وضعها م. جوروشكوف). وهنا تبدو الشخصيات المسرحية الرئيسية، المشارِكة في فرقة الفنون الشعبية الإثنوجرافية، والتي تمَّت دعوتُهم إلى العمل في المسرحية بوصفهم نسخةً معاصِرة من «فلَّاحي ماليفيتش»، تبدو في الواقع «صغيرةً» مقارنة بتلك الوجوه، في الوقت نفسه، فمع حلول لحظةِ دخول البانوراما البصرية لهذه الوجوه في بنية المسرحية، يكونون قد أنهوا دورهم وغادروا خشبة المسرح.

وإذا كانت هذه الشخصيات التي قدَّمَت الأغنيات الشعائرية التي لا تنتهي، وأغاني المهد، والتي كوَّنت جوقاتٍ طقوسيةً قد تمَّ استيعابها من ناحية الأسلوب بوصفها أشياءَ مختلفةً تمامًا إذا ما قورنت بالإبداع الموجود في عملٍ من أعمال مسرح الفنان الذي وضعته أنَّا كاليتشوك؛ فإن شخصياتٍ من نوعٍ آخَر، شخصيات ليست من الواقع، تمَّ التعبير عنها بواسطة الأزياء، التي استطاع الممثلون التشكيليون من خلالها أن يقدِّموا مَشاهد أخرى كشفَت موضوعَ العمل على نحوٍ أكثرَ عضويةً. لقد كانت هناك ثماني لوحاتٍ في هذه المسرحية تخلَّلَت العرضَ الذي قدَّمته فرقة الفنون الشعبية لتخلق نسقًا بصريًّا مستقلًّا.

بدأ النسق بشخصيةٍ ترتدي ثوبًا أسْوَد كأنما وُلدَت من دورانٍ افتراضي لأشكالٍ هندسية، تم إسقاطها على شاشة وعلى الشخصية. وعندما بلغَت الذروة، وهي تدور، راحَت تنُّورتها تأخذ في الدوران باتجاه القرص الأفقي ﻟ «شمسٍ سوداء».

وفي المشهد التالي، وعلى خلفية عجلةٍ صفراء دائرة تمثِّل علامةٌ سينوجرافية شمسية تدور وتمتدُّ إلى عُمق حلزون لفانوس فضائي؛ تظهر شخصيةٌ بيضاء مفضضة تضع على رأسها «نجمةً» ذاتية الشَّد، لها أكمامٌ طويلة منسدِلة١٢٧ تلعب بمكعباتٍ بيضاءَ وسوداءَ وفضيَّةِ الألوان، يبلغ ارتفاع كل منها نصف متر، وذلك على خلفية عجلةٍ صفراء دوارة تمثِّل علامةً شمسية سينوجرافية وإسقاطًا إقنوميًّا، دائرًا ومنطلقًا في عمق ثقبٍ فضائي لولبي. وبعد أن تصعد فوقها تتجمد على هيئة «نجمة الميلاد» البازغة.

يتمثل الجانب الثالث في تطوُّر موضوع الأزياء في شخصيتَين ترتديان ملابسَ بيضاء؛ تظهر إحداهما في فضاء «أمطار» الربيع، التي تدلُّ عليها خيوطٌ منسدلة عند الشاشة الأمامية، والتي تستخدمها في التمثيل، في حين تقدِّم الشخصية الثانية موضوعًا تشكيليًّا وقد استندَت إلى قوسَين مجنحَين كبيرَين عليهما منديل شفَّاف دقيق وخيوط حمراء.

في منتصف المسرحية تقريبًا، وبالتوافق مع حلول الانقلاب الشمسي في التقويم الطبيعي، تتَّحد الشخصية التشكيلية المقدَّمة في هيئة زيٍّ لمرَّةٍ واحدة مع الشخصيات الواقعية من أعضاء الفرقة في ارتداء الملابس الشعبية، التي قادت جوقةً موجودة داخل دائرة صفراء مخطَّطة في منتصف الخشبة على خلفية قرصٍ شمسي خشبي دوار. تدخل راقصةٌ إلى الجوقة في ثوبٍ أحمر ناصع وقد أدَّى دورانها المتسارع إلى جعْلِ تنورتها المتسعة المصنوعة من الخيوط الحمراء والمذهبة عند الطرَف؛ تبدو مثل قرصِ الشمس الدوَّار.

تظهر بعد ذلك راقصتان تصوِّران شمسًا خريفية غاربة. تقومانِ بأداء دورَيهما، على خلفيةِ إسقاطٍ لعلاماتٍ شمسية دوَّارة، مستخدمتَين قماشةً حمراء أرجوانية، راحَت في البداية تلفُّ كلتا الشخصيتَين لتصبح تارةً زهرة شرقية خيالية، وتارةً تنورة، وبعد أن تتحوَّل من هذا الصراع إلى شريطٍ طويل يرفرف، يخفق في يدَيها، ليسقط في النهاية، منقسمًا إلى نصفَين على الطريق، حيث يفترقان ويتجمَّدان وراء الخيوط البيضاء المنسدلة مثل لوحاتٍ حية، مؤطِّرَين إسقاطًا بصريًّا، عابرَين حقولًا ذات زهورٍ حمراء وزرقاء وغيرها من الألوان، تتحول إلى منظرٍ طبيعي لحقلٍ أصغر من سنابل القمح.

ومرةً أخرى، يزحف هذا الثنائي المكوَّن من شخصيتَين ترتديان ثيابًا بيضاء، وقد حملتَا «نجومًا» رباعية على هيئة معيَّن، وقد وضعتَا كيمونو أبيض قصيرًا وحملتَا قوسًا وُضع عليه الآن قماشةٌ بيضاء كبيرة، تارةً نحو طرَف المسرح، وتارةً نحو الطرَف الآخَر لتكوِّن نماذج مزخرَفة ترفرف في هواءِ سماءِ شمسٍ خريفية مثل «طائرةٍ هوائية» أو ستارةٍ شفَّافة رقيقة.

تتحول الخيوط البيضاء الموجودة على جانبَي فضاء المسرح إلى نهرٍ متحرِّك من الإسقاطات الضوئية، وينتقل الخريف إلى الشتاء في الموضوع البصري للمسرحية. تأخذ شخصية «الرُّوح»، التي ترتدي كيمونو أبيضَ قصيرًا في السَّير على طُرقاتٍ بيضاءَ من القماش، تغوص في تياراتِ المياه الساقطة أو تيارات الذاكرة الفضائية، تؤدي رقصةً تشكيلية. تتحوَّل أصوات آلة الكمان إلى لحنٍ متعدِّد الأصوات، تتَّحد هذه الأصوات مع نداءِ أسماءِ فرقة الفنون الشعبية؛ تتلاشَى «الرُّوح» في الإسقاط البصري.

ينتهي موضوع الشتاء بنموذج زيٍّ لطائرِ سيرين تؤدِّيه راقصةٌ تمدُّ أطراف تنورةٍ بيضاء تتحول إلى أجنحة. تدور الراقصة في فضاء إسقاطي افتراضي لمجاديف دوَّارة لآلةٍ خيالية عبارة عن طيورٍ مصنوعة من أقواس من سيقان البامبو (الفكرة الرئيسية للعنصر السينوجرافي الدائم، الذي طار فوق خشبة المسرح)، وعندما يشتعل قرص الشمس الضخم على الشاشة، يتوقف ويتجمد.

تم تأليف وإخراج «طيور الحلم …» في عام ٢٠٠٥م بفضل الدعم الذي قدَّمه برنامج «المسرح المكشوف» في موسكو. وكان مشروع إعلام الكتاب المسمَّى «عن هذا بريك» قد جرى تقديمه قبل ذلك بأربعة أعوام، وهو المشروع الذي أصبح في الواقع أولَ تجربةٍ مسرحية (بعد «الكولاج المكاني») لمسرح الفنان على النحو الذي وضعَته أنَّا كاليتشوك. لقد بُني هذا العرض الذي يستغرق أربعين دقيقةً بفصوله الأربعة على التفاعل الدرامي للتكوينات الإسقاطية، وعلى انسجام ثلاثة ممثِّلين، قاموا بأدوار ماياكوفسكي وليليا بريك وإيلزا تريولي.

في الفصل الأول من عرض «كتاب»، يتمثَّل النموذج الفني في حجمٍ كبير لوجهِ ليليا بريك بنظراتها القادرة على التنويم المغناطيسي، والتي تخلق توترًا في المشهد المسرحي لا تتناقص قوته لِلَحظة واحدة. يبدأ هذا المشهد بظهور عنصر يتحرك عبْرَ خطٍّ رأسي أبيض ذي «قرون»، «مناقير»، «رءوس» مُدبَّبة تديره شخصيتان نسويتان تختفيان بداخله. هذا الكائن الذي تديره المرأتان يدور، يميل في اتجاهاتٍ مختلفة، يتأرجح، يخرِج «القرون»، «المناقير»، «الرُّءُوس» المُدبَّبة. وفي لحظةٍ ما يأخذ القماش الذي يكوِّنها في الدوران، في البداية بواسطة إحدى الشخصيتَين، ثم بواسطة الثانية، وعندما تمدَّان القماشة تمامًا، تتحوَّل إلى كتابٍ مفتوح. ومن خلال الصفحات النظيفة الشفافة؛ تتمُّ إضاءة الإسقاط الضوئي للشاشة الخلفية، فيظهر وجه بريك، الذي يغطِّي سطحها تمامًا. وبعد أن يظهر ماياكوفسكي، يدور حول الكتاب حركةً دائرية، يقرَؤُه، «يقلِّب» صفحاته، بعد ذلك تأتي سلسلةٌ من التعاملات مع الكتاب من جانب البطلات: يُدِرْنَه عرضيًّا، يخلقْنَ حركةً متماوِجة، تهزُّ كلُّ واحدةٍ بقماشها إلى أعلى لتختبئ أسْفَلَه، تلفُّه على هيئة أنبوب، ينظُرْنَ من خلاله، يَدسسْنَ فيه رءوسهنَّ. وبعد أن يُؤدِينَ على هذا النحو أشكالًا كثيرة من التعامل مع صفحات الكتاب، يقدَّم لنا نَص «عن هذا»، ثم تنزل البطلتان القماشَ على الأرض وتجلسان على رُكَبهما.

في الفصل الثاني المسمَّى «الشاعر»، يظهر على الشاشة إسقاطٌ لصورة ضخمة منفردة لماياكوفسكي. يتعامل مؤدِّي هذا الدور مع أحد العناصر الحركية وهو يدور على حبالٍ تارةً في هذا الاتجاه، وتارةً في الاتجاه الآخَر، وهو تصميم «لتنورة» من شبكة من النسيج، تجسِّد بالنسبة إلى ماياكوفسكي نموذجًا للخطيبة. يروح ماياكوفسكي المسرحي أمامها في تأمُّلها، يدور حولها ببطءٍ يلمسها باهتمامٍ رقيق، وفي لحظةٍ ما يُبدي نوعًا من اللامبالاة، يقطع خطواتٍ بالقرب منها وقد دسَّ يدَيه في جيوب بنطلونه، ثم يقترب منها من جديد في حُب، يقترب زاحفًا منها. أما ماياكوفسكي الافتراضي حليق الرأس (هنا يتمُّ إسقاط الصورة الفوتوغرافية الشهيرة للشاعر) فينظر إلى كلِّ هذا بنظرةٍ جامدة متجهِّمة.

الفصل المركزي من عرض «بريك» بُني على مبدأ الكولاج الذاتي، الذي ابتكَرَه ونظمه ف. كاليتشوك، وتدخل في أساسه تكنولوجيا تفكيك الصورة بواسطةِ التقسيم إلى مقاطعَ تمَّ استخدامها بعد ذلك بنوعياتٍ متباينة جدًّا للصورة نفسها ولكنْ في هيئةٍ جديدة، وهكذا استُخدمَت في هذه المسرحية الصورةُ نفسها لتصبح غلافًا وضعه أ. رودتشينكو لكتابِ «عن هذا» الصادر عام ۱۹۲۳م، الذي تتصدره صورة بريك. يتلخَّص التفاعل الدرامي لماياكوفسكي المسرحي، بريك وتريول على الغلاف الذي تم إسقاطه، في أنهما حاوَلَا استرجاعَ صورتها المحرَّفة، بحيث تظهر الصورة كما كانت في الواقع، وتارةً، على العكس، يقومون بتدميرها.

في البداية ظَهَر على الشاشة تصويرٌ لنصفَين كما لو كانتا تتحركان بواسطة اثنَين من المؤدين. النصف الأيسر من الصورة راح يعلو من أسفل، في حين راح النصف الآخَر في الهبوط، وعندما اتحدَا، بدا أنَّ النصفَين قد الْتقيا بشكلٍ غير صحيح؛ فيعودان لينفصلَا مرةً أخرى ويتحركَا من الأجنابِ في ترتيبٍ آخَر. يستمر الوضع على هذا المنوال حتى تكتسب الصورة وضْعَها الصحيح. وإذا بها تتحطَّم مرةً أخرى بعد ذلك (بواسطة الممثلين وعلى نحوٍ تلقائي) مرةً أخرى تستمرُّ عملية تصحيحها. تستمرُّ حركة نصف الصورة في اتجاهاتٍ مختلفة على الشاشة حتى تصل إلى الحالة الطبيعية للصورة، والآن عندما تثبت هذه الحالة، تبدأ الصورة في التشوه كما لو كان ذلك يحدُث من الداخل؛ تدخل عليها لمسات، تمتدُّ بشكل مفرِط بعرض المسرح، تنضغط ثم تنقسم إلى جزأين، ثم إلى ثلاثة أجزاء؛ وفي سياق ذلك، فإنَّ أشكالها الجديدة تتبادَلُ أماكنها دون انقطاع، وفي الوقت نفسه يتبادل الأبطال أماكنهم، واقفين أمام الشاشة كما لو كانوا يقومون بالتحكُّم في هذا الأكشن الافتراضي، ومع الصور الهابطة إلى أسفل يهبط الممثِّلون على رُكَبهم، يجلسون، يرقدون، مؤدِّين من هذا الوضع حركاتهم التشكيلية. تبدأ صورة بريك على الشاشة في تغيير تعبيراتها. تتخذ ملامحها شكلًا حادًّا وتتمدد وتتخذ شكلًا دائريًّا، تتسع حركات الأعيُن، ترتفع الحواجب، ويكتسب الفم تكشيرةً مشوَّهة. في الوقت نفسه، وبعد أن ترتفع وتقترب تمامًا، يمسُّ ماياكوفسكي برقَّة هذا الوجه؛ يمرُّ بيده عليه في حرص، ينحني أمامه على رُكبتَيه، تتخذ صورة المحبوب شكلًا عاديًّا، ولكنْ لِلَحظةٍ قصيرة؛ إذْ يقوم الشاعر بنفسه بتشويهها وبحركةٍ بطيئة تأخذ في الدوران في اتجاه عقارب الساعة١٢٨

وأمام هذه الصورة المشوهة (المستمرة في الدوران بشكلٍ تلقائي)، تقوم شخوص، ثلاثة ممثِّلين، بعملِ أكشن مستخدِمين مربَّعاتٍ بيضاء، يرفعونها ويخفضونها في تشكيلات مختلفة، تفرِّقها على الأجناب، مؤدين ما يشبه موسيقى بصرية سوبرماتيزمية في علاقاتها.

بعد ذلك، تحدث للصورة تحوُّلات، تتمثَّل في أنها تصبح صورةً سلبية (نيجاتيف)، تنقسم هي أيضًا إلى نصفَين، ثم إلى ثلاثة، تتسع وتضيق، وفي النهاية فقط تتجمع في صورةٍ واحدة لتبقى كما كانت من قبل صورةً سلبية سوداء.

في الفصل الختامي الرابع المسمَّى «الأخوات» تسود موتيفةُ تمثيل في لعبة الشطرنج. على الشاشة، بواسطة التعدد الاستنساخي للمربع الأسود (مثلما حدَثَ في عرض «ماتير – إي – يا»)؛ وعلى الخشبة، من خلال الصراع التشكيلي بين الأخوات، اللائي يدُرْنَ وقد ارتدَينَ تنورةً واحدة، يتشاجرْنَ داخلها، ويحدُث بينهنَّ «حوار» وهنَّ يحاولْنَ التخلُّص والانفصال، وحين ينجحْنَ في ذلك في النهاية، تسقط التنورة على الأرض، ويبقَينَ مع معاناتهنَّ الدرامية أمام الشاشة، التي تتغير عليها الآن صورٌ إسقاطية لصليب ودائرة، أجزاء منها، مقاطع منها، ثم صليب، ولكنْ في حجمٍ أكبر؛ فيشغل الفضاءَ المسرحي كلَّه، وفوق الظلال القائمة تظهر شخوصُ البطلات.

(١١) المسرح الهندسي الروسي AXE

في مطلع التسعينيات، قام مكسيم إيسايف وبافل سيمتشينكو بتأسيس أول مسرح للفنان في روسيا باسم المسرح الهندسي الروسي AXE.١٢٩ وقد لفتَتَ أعمالهما الأولى الأنظارَ إليهما. أولًا، في المهرجانات التي أقيمَت في الخارج (في ألمانيا وأدنبرة وغيرهما من الدول والمدن الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية والشمالية)، ثم بعد ذلك في الوطن؛ وفي عام ٢٠٠٣م، استحقَّا جائزةَ القناع الذهبي بناءً على ترشيح مؤسسة «نوفانسيا»، مع أنَّ أوضاعهما لم تتغيَّر (فكلاهما ظلَّ مستقلًّا دون أيِّ تمويل حقيقي أو الحصول على أيِّ نوع من الدعم، كما صنفَتْهما الحركة النقدية بوصفهما ظاهرةً غير معلَنة Underground) وقد أكَّد هذا الاعترافُ في البداية حقيقةَ ظهورهما في التربة الروسية كشكلٍ خاص من أشكال الإبداع المسرحي المعروف باسم مسرح الفنان.
وحيث إنَّ مفهوم «مسرح الفنان» كان مفهومًا جديدًا في مجال الدراسات المسرحية (فباستثناء مؤلِّف هذا الكتاب، لم يستخدم أحدٌ هذا المفهوم أو يستوعبه على نحوٍ عملي)، فإنَّ مسرحيات المسرح الهندسي الروسي AXE قد صنفَت كمسرحياتٍ تنتسب إلى الحركة الطليعية. وهو تكرار للموقف المشابِه الذي حدَثَ في الغرب، عندما قام معظم النقَّاد والباحثين، الذين كتبوا عن الأساتذة مؤسِّسي فنِّ مسرح الفنان: ت. كانتور، ي. شاينا، ل. موندزيك، ب. شومان، أ. فراير، ر. ويلسون؛ بوصفهم ينتمون إلى الحركة الطليعية، في الوقت الذي كان فيه هؤلاء الأساتذة يقدِّمون شكلًا آخَر من أشكال المسرح يختلف من ناحية نوعيته عن المسرح الدرامي العادي ومسرحَي الأوبرا والباليه.
وعندما طُلب من غيسايف وسيمتشينكو صياغةَ السمات المميِّزة لطريقتهما الإبداعية، حاوَلَا أيضًا تحديدَ هذه السمات بالمقارنة بالجانب الإبداعي للمسرح الدرامي التقليدي. «لقد استبدل المسرح الهندسي الروسي عن طِيبِ خاطر، ودون علم بالقوانين الحقيقية للمسرح، وإنما معجبًا بعلاماته، استبدال بالفن الدرامي (الدراما) التطوير المنطقي للنماذج والمواقف والبروفات واستعادة الحياة ذاتيًّا، كما استبدل بالتمثيل النفسي الارتباط بالقوانين المادية الفطرية».١٣٠ إننا إذا ما اتفقنا على أنَّ مسرح الفنان هو شكلٌ مستقل من أشكال النشاط الإبداعي، فإنه لا حاجة إلى الالتزام بالمسرح الدرامي بوصفه مرجعًا. إنَّ إيسايف ومعه سيمتشينكو لم يلتزما، وهما يؤلفان المسرحيات لم يغيِّرا شيئًا من الأمور الجوهرية المتعلِّقة بالمسرح الدرامي العادي على الإطلاق (النص المسرحي، البروفات، التمثيل النفسي)، وإنما اقترحا نموذجًا آخَر للعرض المسرحي.
لقد توصَّل إيسايف وسيمنتشينكو إلى مسرح الفنان الخاص بهما انطلاقًا من عروض الإستاليشن والأكشن والبرفورمانس (التي واصَلَا ممارستها، بالإضافة إلى ممارستهما لفنَّي التصوير Painting والجرافيك، حتى بعد أن أصبحا يقدمان مسرحياتهما على النحو الذي يقدِّمه أصدقاؤهما الأجانب الأقدم). وفي هذا السياق كان طريقهما إلى مسرح الفنان طريقًا نمطيًّا عكَسَ شرعيةَ التطور العام في هذا الاتجاه للطليعية التشكيلية في القرن العشرين.
على أيِّ نحوٍ بدَت النسخة الروسية لهذا التطور من الطليعية التشكيلية، وجزئيًّا من السينوجرافيا إلى مسرح الفنان لدى هؤلاء المسرحيين من أبناء بطرسبورج أصحاب المسرح الهندسي الروسي AXE؟
تكونت الفرقة في عام ١٩٨٩م، وقد أسسها في البداية ثلاثة أشخاص، هم إيسايف وسيمتشينكو وفاديم فاسيليف، الذي انفصل عنها بعد ذلك ليعمل في مشروعاتٍ خاصة مختلفة قليلًا. وقد شارك في الفرقة أيضًا بعض الأصدقاء والمعارف في عدد من عروض الأكشن، ولكن إيسايف وسيمتشينكو قدَّمَا كلَّ عروضهما في الأساس معًا. وقد انضمَّت إليهما بعد ذلك الممثلة والمخرِجة يانا تومينا، كما جذَبَا للتعاون معهما أيضًا ممثلين من فرقة «ديريفا» («الشجرة») وعارضين يعيشون في بلادٍ أخرى (على رأسها ألمانيا: SINE LOCO). وعلى هذا النحو، وخلافًا للأساتذة الأجانب، الذين أسَّس كلٌّ منهم نسخته الخاصة من مسرح الفنان، بعد أن جمعوا فِرَقهم الخاصة الدائمة (مثل: كانتور، شاينا فراير، ويلسون في مطلع نشاطه) أو المؤقَّتة (مثل: شومان، أو موندزيك)، وخاصة الفِرَق المختلفة عن مسرحَي ويلسون وفراير، اللذين استطاعا تجسيد جماليات مسرح الفنان في العمل مع مختلف ممثلي المسارح الدرامية والأوبرالية، بما ذلك مع النجمَين إيسايف وسيمتشينكو، وهما المؤدِّيان الأساسيان لمعظم عروض AXE. إنَّ ما كانا يصنعانه على خشبة المسرح، لم يكُن يشبه عملَ الممثلين إلا قليلًا، هؤلاء لم يمثِّلا أيَّ أدوار، لم يظهرا على المسرح بوصفهما شخصيتان، وإنما ظلَّا يقدِّمان أنفُسَهما في جميع المسرحيات كما هما في الواقع. وقد اعتبرا أنفُسَهما مشغِّلَين Operators يستغلان «الفضاء المسرحي» (في صورته المثالية). «يندرج في ذلك أيضًا الصوت والضوء (في صورته المثالية) في هذه الحالة؛ فإن الفضاء المسرحي هو أحد أهمِّ شخصيات المسرحية التي يقوم العامل باستيعابه تمامًا؛ فالفضاء هو قيمة، وهو كافٍ بذاته».١٣١ إنَّ تعبير «في صورته المثالية» قد وُضع في قوسَين وتكرَّر مرتَين، مما يعني أن المسرح كمبنًى لا يعني شيئًا بالنسبة إلى إيسايف وسيمتشينكو، كما لا تعني خشبة المسرح، بما يلزمها من معدَّات إضاءة وصوت، أيَّ أهمية لهما. أمَّا فيما يتعلَّق بالمشهد المؤلَّف، فإنه يتلخَّص في التحكم في الأدوات وعناصر الطبيعة (الماء والنار والرمل والتراب والدقيق وبيض الدجاج وهَلُمَّ جَرًّا)، في قبضات الأيدي والجسد، وفقًا لموضوع ما، سيناريو، خطة، يبتكرانها مقدَّمًا أو يقومان بارتجالها. وبالطريقة نفسها قاما، بمعنًى محدَّد، بتجسيد إحدى الأفكار العامة للطليعية التشكيلية في النصف الثاني من القرن العشرين، التي سُمِّيَت بالوعي الفني، مثل «الفنان بدلًا من العمل»، وذلك في شكل عروض أكشن في البداية، وبعد ذلك في شكلِ مسرحيات.
وهكذا، فإن AXE هو مسرح الفنان القائم على عروض الأكشن التي ينفِّذها المؤدُّون/المؤلِّفون باستخدام الأشياء والعرائس وعناصر الطبيعة، والنار والضوء، مع إدخالِ مختلِف أشكال الخدع، وفي النهاية، استخدام أجسادهم ذاتها. (هنا يمكننا أن نلاحظ أحد الفروق بين فناني بطرسبورج ورفاقهم الأجانب الأقْدَم، الذين كانت قضيتهم الرئيسية تتلخَّص في تأليف تكويناتٍ بصرية، تقال على نحوٍ شفاهي أو صوتي، من خلال الموسيقى الدرامية، أو من خلال النص الذي وضعه المؤلف الموسيقي، أو التكوينات المسرحية الصامتة من خلال أجساد الممثلين، مرونتهم، إيماءاتهم). تتميز عروض الأكشن التي يقدِّمها AXE بالتضاد التام من حيث طابعها ومضمونها، وبما يُعرف باسم السينوجرافيا التمثيلية، التي كانت موجودةً قبل ذلك في المسرح العادي من قديم الزمان حتى عصرنا الحالي، والتي تعدُّ من تقاليده الباقية. وهكذا، فإنه إذا كان هذا الشكل من أشكال السينوجرافيا يفترض أن يقوم الممثِّل فيه بأداء دوره مُستخدِمًا مادة أو شيئًا أو عنصرًا من عناصر الأزياء في صورة الشخصية التي يجسِّدها، وكشف بهذه الصورة عن هذه السمات أو غيرها من سمات الشخصية النموذج المقدَّمة، فإن الأمر بالنسبة إلى إيسايف وسيمتشينكو كان يجري على نحوٍ مخالِف. فبقدر ما كانا يتجنبان تصوير أيِّ شخصية، وإنما ظلَّا على سجيتهما دائمًا وفي كل مكان، بقدر ما كانت أفعالهما «التمثيلية» (وكذلك شركاؤهما وعلى رأسهم ي. تومينا) مستخدمين الأشياء والعناصر، وأجسادهما لها قيمتها الذاتية، وقد تمَّ استيعابها بوصفها أحداثًا بصرية. في الوقت نفسه، فإن هذه الأفعال قد وضعَت نموذجًا لمواقف محدَّدة، وخلقَت حالاتٍ مزاجية وروابطَ مشتركة وعلاقاتٍ متبادَلة، الأمر الذي جعَلَ من العرض المصنوع عملًا مسرحيًّا ذا «موضوع» تشكيلي خاص، جرى التعبير عنه بواسطة هذا النوع من الأفعال. بالإضافة إلى ذلك، وكما سنعرض لاحقًا، فقَدْ ظلَّ إيسايف وسيمتشينكو في عددٍ من المسرحيات ﮐ «عاملَي تشغيل» يأخذان على عاتقيهما أيضًا الوظيفة المسرحية على نحوٍ تام، وتتلخص هذه الوظيفة في عرض شخصياتٍ محدَّدة، في البداية «شبه شخصيات»، وبعد ذلك شخصيات دون «شبه»، أي شخصيات محدَّدة تمامًا، يمثلون هذا النموذج أو غيره.

(١١-١) البداية، عروض البرفورمانس في الشوارع

جرى اللقاء الأول بين إيسايف وسيمتشينكو في عام ۱۹٨٧م، حيث تعارفا في شقة بوريس بونيزوفسكي، المخرِج والمفكِّر، الإنسان الحالم والأب الرُّوحي لهذا المجتمع البطرسبورجي غير المعلَن آنذاك. أسَّس بونيزوفسكي مسرحًا في شقته باسم «نعم – لا»، لم يكن هدفه تقديم مسرحياتٍ واقعية (كلُّ ما قدَّمه خلال فترة وجود إيسايف وسيمتشينكو؛ كان عددًا قليلًا من المسرحيات: مسرحية الأطفال باسم «الكلب والقِط» من أشعار فيدينسكي، «من السكون المسرحي، بلغة الفارس» (Farce)، «عقلة الإصْبَع»، «فريونكين يوليا»، وغيرها)، بقدر ما كان هدفه هو مناقشةِ أقصى ما يمكن من أفكارٍ مسرحية وإعداد مشروعاتٍ افتراضية يُحتَمَل تنفيذها. «لقد اهتمَّ بجمْعِ حلقةٍ من الناس حوله، وأن يضع أسطورةً، وأن يتحدَّث ما شاء له الحديث من خلال هذه الأسطورة … وكانت بطاقاته تضمُّ آلافِ التنويعات المبتكَرة لكلِّ مسرحيةٍ من مسرحياته».١٣٢ بعبارةٍ أخرى، فقد كان مسرح «نعم – لا» نوعًا خاصًّا من أنواع «المسرح الورقي» (الشبيه ﺑ «العمارة الورقية»، التي ظهرَت في الواقع السوفيتي، بوصفها المخرج الوحيد للفكر الطليعي في مجال العمارة).
بدا التعريف الذي وضَعَه بونيزوفسكي لجوهر مسرحه أمرًا غير عادي: «الورشة هي المكان الذي يعمل فيه الممثل الدرامي والأشياء والدمى.»١٣٣ هذه الكلمات تحديدًا المأخوذة من الإعلان الملصَق في الشارع لاستقبال فنَّانين جُدد في استوديو «نعم – لا»؛ أثارَت انتباه سيمتشينكو، وقادته إلى شقة بونيزوفسكي حيث كان إيسايف بها آنذاك، مدعوًّا إليها بوصفه فنانًا من فناني هذا المسرح يعمل على ابتكار ورسم (على بطاقات) تنويعات للتجسيد المحتمل للمسرحيات التي تحدث عنها طويلًا وبشغفٍ بالِغ هو وأستاذه، حتى إنهما لم يفكِّرا في كيفية تحقيق هذه الخطط.

كان إيسايف وسيمتشينكو قد أتقنا، قبل مجيئهما إلى بونيزوفسكي، قواعد الإبداع الفني في مختلف الاستوديوهات والمدارس الفنية. أما إيسايف فكان قد أنهى قسم الرسم الصناعي في معهد سيروف، وبعد أن أنهى الخدمة في الجيش عمل بعض الوقت في صنع الأدوات المسرحية في مسرح العرائس (بهدف تعلُّم صناعة بشرٍ اصطناعيين). وقد حاوَلَ كلاهما الالتحاق بمعهد موخينا، أما سيمتشينكو فقد حاول الالتحاق، إلى جانب ذلك، بقسم التمثيل بمعهد ليننجراد الحكومي للمسرح والموسيقى والسينما. وقد تبيَّن أن ما كانا يعرضانه يختلف تمامًا عن الطلبات التي اشترطَتها لجنةُ الامتحان. الأمر اللافت للانتباه هنا، أن ما عرَضَه إيسايف أمام لجنة امتحان معهد موخينا من أعمال؛ قد عُرض بعد ذلك بنجاح، وإن لم يتمَّ قبولُ المؤلف، واليوم (وبعد أن عُرف طريقهما في الفن) يمكن أن نرى قانونًا ما في فشل الْتحاقهما؛ فالممتحنون في معهد موخينا ومعهد ليننجراد الحكومي للمسرح والموسيقى والسينما، أدركوا وأحسُّوا بداهة أن المتقدِّمين يعتزمان ممارسة نشاطٍ مختلف تمامًا وبصورةٍ جذرية عن جميع أشكال الإبداع البصري والمسرحي، التي اعتادوا تدريسها في هذَين المعهدَين الدراسيَّين.

بضع سنين، من عام ١٩٨٧م إلى عام ١٩٨٩م، قضاها إيسايف وسيمتشينكو فعليًّا قريبًا من بونيزوفسكي، وهم يؤلفون معًا عددًا كبيرًا من عروض «المسرح الورقي»، يضعون لها عناصر التصميم والكماليات Accessories والأشياء والعناصر، وفي النهاية، الأقنعة المصنوعة من الجبس، التي خلعها عن وجوههم كلُّ الممثلين، الذين جاءوا إلى بيت مدرِّسهم، وأحيانًا، وفي بعض الحالات، في بناياتٍ مختلفة (أكاديمية الفنون، دار المعماريين) وفي المهرجانات التي تمَّت دعوتُهم إليها (في نيجين نوفوجورو، يكاترينبورج) قاموا بتمثيل عددٍ قليل من العروض التي نجَحَ بونيزوفسكي في تحقيقها.

وفي الوقت نفسه، كان إيسايف وسيمتشينكو يجريان ابتكارَ مشروعاتهما الخاصة من نوع البرفورمانس. وكانا قد علما بوجود هذا الشكل من أشكال الطليعية التشكيلية للمرة الأُولى من الصحف والمجلات. وبعد أن أدركا أن البرفورمانس هو مجموعةٌ من «المَشاهد الحيَّة»، قرَّرا أن يصنعا شيئًا مشابِهًا، وخاصة أنَّ الفرصة قد جاءتهما. كان أحد الذين جاءوا إلى شقة بونيزوفسكي هو عالِم الفولكلور ف. فيتيكو، الذي اقترح عليهما الاشتراك في عيد المدينة الصيفي، والذي يُقام في منتزه لينين. أحضَرَا إلى المنتزه دولابًا كبيرًا قديمًا وضعاه مباشرةً في إحدى البقاع الخضراء، وبعد أن تجمَّع عددٌ من الجمهور، اقترحا على الراغبين منهم الدخول في الدولاب، وأن تُغلق أبوابه، وأن يبقى بداخله مدَّة من الزمن، بقدْرِ ما يشاء، وأن يظلَّ هناك وحيدًا في الصمت المُطبق والظلام. بعبارةٍ أخرى، فقَدْ وضَعَ الفنانان نموذجًا عمليًّا لوضعٍ لا يمكن أن يحدث في الحياة الواقعية لعزل إنسان جسديًّا عن العالَم المحيط. وقد اتَّضح أنَّ الذين لديهم الرغبة في تجربة هذا الوضع، ولو بدافع الفضول، شكَّلوا عددًا كبيرًا. وقد جرى تنظيم طابور لهذا الغرض. وكان الجمهور يستقبل الخارج من الدولاب بعاصفةٍ من التصفيق، في حين يقوم العارضون بإعطائه جائزةً، عبارة عن قطعةٍ من السُّكَّر. كان إيسايف وسيمتشينكو، وهما ينفذان هذا الأكشن البسيط جدًّا في جوهره، والمكوَّن من فَتْح وإغلاقِ أبواب الدولاب وإهداء الخارجين منه قِطعًا من السُّكَّر، يصيحان أولًا بكلمة «مُشِع»، ثم يختصرانها إلى «شِع» وأخيرًا الحرف الأخير «ع». لقد تولَّد هنا سِحر صوتي خلَّاب، غريب، غير واضح، ولكنْ على نحوٍ مميَّز، مصاحِب ليس فقط لهذا الأكشن باستخدام الدولاب؛ وإنما صاحَبَ أيضًا العروض الأخرى التي قدَّمها في الوقت نفسه عارضون آخَرون في هذا المنتزه، والذين راحوا يصيحون في الوقت نفسه بالكلمة نفسها «مُشِع»، وأيضًا باختصاراتها. وقد اقترح س. راكومبول، وهو أحد المشعوذين من جماعة بونيزوفسكي فكرةَ هذا السِّحر الصوتي الجماعي.

بعد أن قدَّما عروض الأكشن الأُولى في عام ١٩٨٧م مستخدِمَين الدولاب، راح إيسايف وسيمتشينكو، عندما توافرَت لهما الإمكانات، يفكِّران في إقامة شيء ما مشابِه في شوارع بطرسبورج وميادينها، وفي غيرها من أركان هذه المدينة. وفي سياق ذلك، فقَدْ عَقَدا آمالهما على المُشاهِد العابر تمامًا، المُشاهِد المار بالمصادفة في الطريق، والذي قد يتمكن من التوقف والمشاهدة، وأن يهتمَّ بهذا العرض غير العادي، وأن يُمضي بعضَ الوقت في المشاهدة ثم ليذهب إلى حال سبيله بعد ذلك. وتبعًا لإحساس إيسايف وسيمتشينكو، فإن الوقت الذي يستطيع خلاله عابر الطريق الفضولي بمحض المصادَفة أن يتحول إلى مُشاهِد، لا يزيد على عشرين دقيقة. ولمَّا كان البرفورمانس يستمرُّ وقتًا طويلًا، يصِل أحيانًا إلى بضع ساعات (وخاصة عندما يكون العرض في مبنًى كبير)، فإن قوام المشاهدين يتغير، بالتالي، عدَّة مرَّات.

وهذا ما حدَثَ في العيد الدوري في عام ١٩٨٩م، في قلعة بتروبافلوفسك، فقَدْ قرَّر إيسايف وسيمتشينكو وأصدقاؤهما في مسرح «نعم – لا» أن يحقِّقوا فكرةَ البناء الجماعي للمكعب البالغ من الارتفاع أربعةَ أمتار، والمصنوع من أشرطةٍ طبية مرِنة. أربعة رجال وأربع سيدات يقومون بشكلٍ شعائري باستخدام هذه الأشرطة في عمل أشكالٍ من النماذج الأصلية الهندسية: «في البداية مربع، ثم صليب، ثم يقومون بعد ذلك بعمل مكعب، يدلفون بداخله، وفي النهاية يقومون بتحطيمه. يستمرُّ هذا الأكشن بضعَ ساعات، أدرك الفنانون في سياقه أنَّ من المهم تحديد المكان، أيْ بدء العمل بالمكان بوصفه شخصيةً (كما نسميه الآن). في هذه الحالة، كان هذا المكعب الذي حدَّد المكان داخل المكعب وحوله أيضًا، وقد أصبح هذا المكان مكانًا نمتلكه.»١٣٤

وقد تم استكمال وتطوير فكرة المكعب، التي جرى تجربتها في قلعة بتروبافلوفسك في عرض البرفورمانس، الذي قدِّم في فيليكي أوستيوج. وفي هذه المرة، جرى تمثيل الموضوع بكامله، أي أنه جرى تبادُل عروض الأكشن المتنوِّعة بعضها مع بعض وفقًا للسيناريو الذي ابتكره الفنانون. لقد تمَّ تمثيل البرفورمانس، الذي استمر هنا بضعَ سنوات في الحقل. في البداية، تظهر أمام المشاهدين كتلةٌ من الورق هلامية. عندما يتمُّ قلْبُها، يظهر بداخلها مكعب. ينتصب المكعب في مركز صليبٍ ضخم، جرى تشكيله على الأرض بشرائط من الورق الأبيض، وقَدْ تمَّ نزعُ المكعب من فوق الصليب ونقْلُه جانبًا. أمَّا الصليب الورقي، فقَدْ تمَّ تحويله ليأخذ هيئةَ وحشٍ خرافي أو سمكة، وبعدها تم تثبيت «التمثال» بأربطةٍ من الجبس ووضعه في المكعب. يتمُّ بعد ذلك نزع الغلاف الورقي للوحش ليظهر في الداخل شكلٌ إنساني مثبَّت في حبالٍ ممتدة، وتمثَّل على قطعٍ من الحديد الزهر. يبدو صليلُ هذه القطع الحديدية كما لو كان تجسيدًا لصوت الأجراس التي اختفَت آنذاك من كنائس فيليكي أوستيوج.

كان الجمهور موجودًا هنا بمحض المصادفة؛ إذْ لم تكن هناك أيُّ إعلاناتٍ مسبقة للدعوة لمشاهدة هذا العرض في المدينة تمَّ تعليقها. لقد أراد الفنانان (إيسايف وسيمتشينكو) أنْ يجذبا اهتمام المارَّة العاديين والمشاهدين الكسالى. تجمَّع الناس، الذين على الرغم من تبديلهم (البعض يأتي والبعض يذهب، البعض يبدي اهتمامًا، والبعض الآخَر يبقى لوقتٍ طويل)؛ ومع ذلك، يظلُّ هناك جمهورٌ كبير كافٍ.

وفي ليننجراد جرى عرضُ نسخةٍ أخرى من البرفورمانس باستخدام المكعب والورق، وذلك في فناء المنزل رقم ۱۰ شارع بوشكينسكايا. وكانت الدولة قد أعطَت في عام ١٩٨٩م هذا البيت القديم، شبه المتهدِّم، كثير الغُرَف، إلى الفنانين والموسيقيين الطليعيين. وقد أُطلق على هذا البيت اسمُ مَركز الفنِّ الحديث، وفيه تمَّ تأسيس مسرح بونيزوفسكي «نعم – لا»، جنبًا إلى جنب مع الفِرَق السرِّية الأخرى والمتاحف والجاليريهات والمنتديات-المقاهي، في حين تسلَّم إيسايف وسيمتشينكو ورشةً فنية فيه. لم يعُدْ إيسايف وسيمتشينكو، وهما يواصلان تجاربهما في مجال تنشيط جذب المشاهِدين لتأمُّل عروض الأكشن، يكتفيان بمبدأ المصادَفة، وإنما سعيا بكلِّ الوسائل لتصعيب عملية مشاهدة ما يحدث. تم تغطية جزءٍ من الفناء المخصَّص للبرفورمانس، تم إعادة تغطية جوانبه وإحاطتها بستائرَ ورقيةٍ لا تصِلُ تمامًا إلى الأرض، وإنما تتوقف قبله ببضعة سنتيمترات. وحتى يتسنَّى رؤية ما يحدث بالداخل، كان من الضروري الجلوس في وضع القرفصاء، وهو ما فعله المشاهدون انطلاقًا من فضولهم الطبيعي.

قُبيل بدء البرفورمانس، كان فضاء الفناء مغطًّى بشرائطَ من الورق. وعلى ارتفاعاتٍ مختلفة امتدَّت من جدارٍ إلى جدار، ومن نافذةٍ إلى نافذة، تحركها الريح فتصدر حفيفًا. وفي وسط الفناء، فتاة معلَّقة ووجهها باتجاه السماء، يداها مشدودتان بالأحبال كأنها مصلوبةٌ، جسدها ملفوفٌ بإزارٍ أسْوَد يتأرجح، في حين وقَفَ المشاهدون وقد استندوا بظهورهم إلى جدران البيت، وقد جلَسَ بونيزوفسكي بشَعْره الأشيب على مقعدٍ متحرِّك يراقب ما يصنعه تلاميذه.

يتحول البرفورمانس إلى عددٍ من عروض الأكشن التي تعدُّ لتقديم المشهد (مثل هذه العروض التي يتمُّ فيها تحضير الفضاء المسرحي والأدوات، بل ملامح المؤدِّين أنفُسِهم افتُتحَت بها عروض البرفورمانس الأخرى، وأخيرًا بعض عروض المسرح الهندسي الروسي AXE). يعلِّق أربعةٌ من الشباب باقاتٍ وزجاجاتِ مياه على حبل. يضعون على الأرض أقنعةً وأجوِلة من البلاستيك بداخلها مسحوقٌ ما وغيره من الأشياء المُستخدَمة في المسرح، الضرورية للعرض. بعد ذلك، يبدأ هؤلاء الشباب في خلع ملابسهم؛ المعاطف والقمصان والبناطيل (يُلقون بكلِّ هذه الأشياء على شبكةٍ مُعلَّقة). يبقون في ملابسِ السباحة. يأخذ بعضهم في الرسم على أجساد بعض العارية، مُستخدِمين فُرشات رسمٍ صغيرة، على الجبهة، على الصدر، على الظَّهر، على الأكتاف، على الأقدام، يرسمون خطوطًا ودوائر وصلبانًا ومربعات وأقواسًا وغيرها من الأشكال الهندسية. بدَت عملية تبادُل وضْعِ المكياج التي استمرَّت لمدةٍ طويلة بتمهُّل بوصفها أكشنَ ذا طابعٍ طقوسي. بعد انتهاء هذه العملية، يصطفُّ العارضون في صفٍّ ويتحركون باتجاه عمق الفناء، حيث يقومون بتمزيق الأشرطة الورقية المعلَّقة وإلقائها على الأرض. وفي لحظةٍ ما يتوقف العارضون عن الأداء، ويقومون بإدخال الأجسام المرسومة في ملابسَ موحَّدة على صورةِ ثيابٍ فضفاضة من الورق الأبيض نفسه، الذي صُنعَت منه الأشرطة التي تبقَّت بعد تمزيقها. وبعد أن أخذوا القوائم العالية التي كانت مُسندةً إلى الجدران، خرجوا إلى منتصف الفناء حيث كانت الفتاة معلَّقةً، راحوا يربطون أولًا في مربعٍ واحد، ثم في مربعٍ آخَر. ثم وضعوا المربعَين في وضعٍ رأسي (واضعين أطرافَ القوائم السفلى في قصاعٍ بها سائلٌ أبيض)، ونتيجةً لذلك تكوَّن حول جسَدِ الفتاة مكعبٌ كبير. يقوم أحد العارضين بقلب إحدى الزجاجات المعلَّقة في الحبل ثم يصبُّ محتوياتها في تجويفٍ أسفل القناع المقلوب للوجه (يمسك به أحد الشريكين). وفي هذا التجويف أيضًا، تتم إضافة سائلٍ من جِوال ممزَّق من البلاستيك، بعدها يأخذ العارض الأول، بعد أن يغسل يدَيه القناعَ الذي امتلأ نصفه بالسائل من يدَي رفيقه ليسقط على الأرض، وينقلب السائل الذي ملأ القناع ليسيل على الأرض مكوِّنًا بقعةً مائية بيضاء عشوائيةَ الشكل.

الأكشن التالي يتمثَّل في صنعِ «تماثيل» لسمكةٍ خرافية ضخمة الحجم، تشبه إلى حدٍّ كبير «تمساحًا» ذا أربعةِ مخالبَ بارزةٍ مصنوعة من الشرائط الورقية المنزوعة، ومن الملابس الورقية التي خلعوها أيضًا (التي قاموا بتكويمها وتلطيخها وتلوينها والرسم عليها)، وبعد أن أنهوا «عجْنَ» هذه «الشخصية» انتقلوا إلى الفتاة المعلَّقة فوق الأرض داخلَ المكعب، فأخذوا في نزع الثوب الأحمر الذي يلفُّها طبقةً وراءَ الأخرى، وكذلك الأقمشة السوداء. ثم ربطوا الفتاة بشرائطَ ذهبيةٍ قاتمة من الرسغ إلى القبة. راحوا بعدها يدفعون «التمساح»، ثم ربطوا «التمساح» بالشرائح العليا، ثم رفعوها وأنزلوا الفتاة بحرصٍ على الأرض، ثم سحبوها خارج المكعب ووضعوها في وضعٍ رأسي، ثم فكُّوا عنها الأربطة، وأزالوا الأجزاءَ الزائدة من ثوبها الأحمر. مشَت الفتاة ببطء بعد أن تخلَّصَت من كل ما يعوقها نحو القصعة، حاملةً مِشعلًا، أخَذَتها، حمَلَتها نحوَ التمساح الورقي وأضرمَت فيه النار. قام الشباب/العارضون بأداء رقصةٍ شعائرية حول الوحش المُشتعِل وهُمْ يلوِّحون بالحبال التي اشتعلَت النيرانُ في أطرافها، وعندما وصلَت الشعلة إلى ذروتها من التوهُّج على سطح البيت، انفتحَت «المزاريب» المثبَتة في جوانبه، والتي صنعَت من البولي إيثيلين، ومن جميع الجوانب سقطَت تياراتُ المياه فوق الشعلة.

كانت جدران البيت مملوءةً بكل أشكال الصور، ومن بينها كانت صورةُ السمكة تحتلُّ جزءًا كبيرًا منها (هذه الصورة مأخوذةٌ من النموذج الأصلي الذي ظهَرَ في إعلانٍ صحفي قديم «كولا-دولتس»). وعلى التوِّ حصَلَ موضوعُ السمكة على استمرارٍ له في أكشن، تحت اسم «أطفال السمكة». ويتلخَّص هذا الموضوع في رسْمِ سمكةٍ ضخمة على سطح البيت، مع الأخذ في الحسبان أنَّ أكشن الرسم والنموذج التعبيري الموضوع لا يمكن رؤيته إلا من طائرة. لم يُجرِ إيسايف وسيمتشنكو بعد ذلك مثلَ هذه العروض المخصَّصة لغير العاديين من المُشاهِدين. على أنَّ موتيفة السمكة استمرَّت في رسومهم ولوحاتهم (التي أصبحا يصنعانها بعد أن امتلكا ورشةً فنية)، وقد ظهرَت هذه الموتيفة أيضًا، كما سنرى لاحقًا، في عددٍ من عروض البرفورمانس ومسرحيات المسرح الهندسي الروسي AXE.

لقد شارك ممثِّلو مسرح «نعم – لا» وكذلك أصدقاء إيسايف وسيمتشينكو ومعارفهما، وعددهم بين سبعة ممثِّلين وثمانية، في عروض البرفورمانس التي استمرَّ عرضها في فِناء هذا البيت الواقع في شارع بوشكينسكايا.

(١١-٢) عروض البرفورمانس على بسطة السُّلَّم

De Profundis

قدَّم إيسايف وسيمتشينكو عدَّة عروض برفورمانس على بسطة السُّلَّم أمام مَدْخل ورشتهما الفنية، حيث جلس المشاهدون على الدرَج المؤدي إلى الأدوار العليا والسفلى. وفي وقت العرض، كان بإمكان السكان المرور بجانبهم ذاهبين لقضاء حاجاتهم، ولم تسبِّب هذه الظروف أيَّ مضايقة للسكان وللمؤدين/المشغِّلين، ولا للمشاهِدين، اللهم إلا بعض المضايقات القليلة للسكان.

كان أحد عروض البرفورمانس يسمَّى «بوفا وكولا – دولتس»، وقد قام بتنفيذه اثنان؛ هما إيسايف وسيمتشينكو. فبعد أن ظهَرَا خارجَين من باب الورشة، أغرَقَا بسطةَ السُّلَّم؛ إيسايف من زجاجات لبن، وقد تدفقَت الخطوط البيضاء بشكلٍ لولبي. أمَّا سيمتشينكو، فقَدْ ألقى بسائلٍ أسْوَد، سال متفرِّقًا فوق سطح اللبن السائل. ثم قام كلاهما بإشعال كراتٍ قطنية مبلولة بالكحول، وأخذا في قذف الكتل المشتعلة على هذا «البحر» ذي اللونَين الأسود والأبيض، ثم غطياه بملاءةٍ من الورق ظهرَت عليها بالتوالي في أماكنَ متفرِّقة حروقٌ، وتشكَّلَت ثقوب، وتشرَّبت أماكنُ مختلفة من هذه الملاءة بالرطوبة، الأمر الذي منعها من الاشتعال التام، في حين تكوَّنَت على السطح فواصلُ مشوشة. في نهاية البرفورمانس، قام إيسايف وسيمتشينكو «بعجن» تمثالٍ على هيئة إنسان من بقايا الورق المحترِق، ألبساه قميصًا أبيضَ انتُزِعَ من أحد المشاركين، ثم دسَّا في جيبه شريطًا، قام المشارك الثاني بتصوير كلِّ عروض الأكشن بكاملها عليه.

نسخة أخرى من عرض البرفورمانس قدِّمَت على بسطة السُّلَّم. وقد بدأ هذا العرض على نحوٍ مشابِه للنسخة السابقة.

يقوم إيسايف وسيمتشينكو برشِّ مسحوق على الأرض من خلال غِربالٍ، يصبَّانِ في أركان البسطة وقودًا، ينثرون كُتلًا من القطن المشتعل مغموسةً بالكحول. وفي لحظةٍ ما، يتوقفان عن الحركة وسط هذا «المنظر» المشتعل (أحدهما واقفًا والثاني جالسًا على ركبتَيه). يُلقيان بعد ذلك على آثار الحريق ورقةً لينتهي هذا المشهد باشتعال السطح الورقي «بألوانٍ» نارية بجانب السِّناج المتخلِّف عنه. يقوم إيسايف بجَمْع الرماد وقَطْع الورق المحترق في طبقِ حساء. وبعد أن ينظِّف الأرض، يُعدُّ أدوات المسرح للأكشن التالي (قِطعًا مربَّعة من نسيجٍ أسود، بينها صينية عليها أكواب وقطعة ورقٍ وزجاجة). يضع إيسايف رفيقه على الأرض جاعلًا وجهه إلى أعلى. يلطخ قميصه الأبيض بالطين. يصبُّ عليه سائلًا أبيض. يجلس على مقعدٍ بالقرب منه ويوقف الأكشن الذي يؤديه رفيقه لبرهة.

يزيل السائل الأبيض من على صدره طبقةً وراء الأخرى. يقطع القميص الملطَّخ بالطين. يضع الخِرَق السوداءَ في نفس طبق الحساء، مالِئًا إيَّاه حتى حافته. يُزيل التمثال الصغير الذي يبدو على هيئة إنسانٍ أبيض. راح يدفع أعلى من ركبتَيه قليلًا تنورته الحمراء مقترِبًا من إيسايف، ثم يقوم بتلطيخ ورشِّ وغسْلِ قدمَيه بسائلٍ أبيض. بعد أن أنهى هذه العملية، وضع الصينية على ركبتَي شريكه. عابرًا خلف إيسايف، مدَّ يدَيه، وبحذرٍ أخَذَ يقطع لفافةَ الورق التي كانت موضوعةً على الصينية وأخرَجَ منها تمثالًا أبيضَ آخَر، يلقي به على الأرض عند أقدام إيسايف، يقوم بعدها برفْعِ قميصه ليُظهِر لنا أسفلَه تمثالًا ثالثًا مربوطًا إلى صدره، رأسه إلى أسفل، فيحرِّره هو أيضًا. وينتهي موضوعُ التماثيل بتدميرها؛ يُدقُّ تمثال في هاون إيسايف؛ أما التمثالان الآخَران، فيتمُّ ربطهما معًا ويقوم سيمتشينكو بحرقهما.

كان من الممكن أيضًا رؤيةُ سلسلةٍ من عروض البرفورمانس عند مَدْخل البيت الواقع في شارع بوشكينسكايا وقد قدِّمت باسم De Profundis (من العمق). وخلافًا لعرض «بوفا وكولا – دولتس»، فإن الفضاء المسرحي في هذه العروض حدَّده لا الخط الأفقي لبسطة السُّلَّم، وإنما الخط الرأسي لبئر السُّلَّم، بالإضافة إلى أنه قد جرى استخدام ارتفاعه كلِّه، والذي يصل إلى ما لا يقلُّ عن عشرين مترًا. كان المشاهدون يقفون على درجات السُّلَّم وعلى بسطات الطوابق الخمسة يشاهدون ما يحدث، البعض ينظر من أعلى إلى أسفل، والبعض الآخَر من أسفل إلى أعلى. والبعض ينظر أمامه مباشرة. ومن السقف تنظر العين الربانية. يمكن فهْمُ هذا البرفورمانس بوصفه دعاءً موجَّهًا إلى الإله الأعلى: «من قاع الحياة أُناديك.» ومتى يتسنَّى تنفيذ عروض أكشن فوق بئر السُّلَّم، أجاد إيسايف وسيمتشينكو تقنيات تسلُّق الجبال، ووضعا لذلك نظامًا متوازنًا.

في البداية يرى المشاهدون مقعدًا موضوعًا على حافة البسطة العليا، ويستند هذا المقعد إلى القائمين الخلفيين فقط، معلَّقًا فوق فراغٍ ارتفاعه عشرون مترًا. وعلى المقعد يجلس أحد العارضين فوق بئر السُّلَّم وقد فتَحَ كتابًا وراح يقرأ فيه مدةً طويلة. البطاقات المكتوب عليها عباراتٌ من هذا الكتاب؛ علِّقَت على حبالٍ بأسفل المقعد وباطن القارئ. الأكشن التالي: العارض ينزلق على درابزين الدور العلوي وقد ثبت حبلًا في حزامه؛ تمَّ إلقاؤه ليسقط حتى الطابق الأول، حيث ثبت في الحزام فتاةً كانت تقف في الأسفل. عندما بدأ العارض في الهبوط، بدأ الحبل في الوقت نفسه في رفع الفتاة طبقًا لمبدأ التوازن. وقد وصَلَ العارض والفتاة إلى المستوى نفسه في منتصف الارتفاع في بئر السُّلَّم وحدث بينهما اتصال. في النهاية، يتمُّ عرضٌ باستخدام أشياءَ ماديةٍ دون مشارَكة العارضين، تُستخدم فيه مائدةٌ كانت على البسطة السفلية، وعليها رسمُ طبيعةٍ صامتة مكوَّنة من فاكهةٍ وزجاجة «شمبانيا». تنطلق السدادة من الزجاجة في لحظةٍ ما بشكلٍ تلقائي لتصل إلى السقف. تبدأ المائدة في الطيران بنعومةٍ مثل طائرة، وعندما تأخذ في الهبوط عائدةً بعد فترة، يطير ريشٌ منثور ليحلِّق بامتداد بئر السُّلَّم، مثل «سقوط ثلجٍ» أبيضَ خيالي.

في المرة التالية، تتحول بئر المصعد إلى «معرض». فعلى امتدادٍ ارتفاعه البالغ عشرين مترًا قام الفنانان (إيسايف وسيمتشينكو) بتعليق لوحاتٍ مرسوم عليها أجزاءٌ متفرِّقة من الجسد الإنساني. فنرى على مستوى الطابق العلوي رسمَ رأس، وعلى الأسفل رسمَ يدَين، والمستوى الذي يليه بطنًا، وهَلُمَّ جَرًّا. يتلخص هذا البرفورمانس في أنَّ إيسايف وسيمتشينكو هبطا عبْرَ البئر من رسمِ جزءٍ من الجسد إلى رسمٍ آخَر، وعند كلِّ جزء من هذه الأجزاء قاما بأداء أكشن. وضعا على مستوى الطابق العلوي بين حافة البسطة ودرابزين البئر سلَّمًا. وعلى السلم، فوق هوة بئر المصعد، انبطح أحد العارضين ووجهه إلى أسفل، في حين قام آخَر بتمزيقِ قميصٍ على ظَهْره. وضَعَ كاساتِ هواء عليها. بعدها شدَّ زجاجةً مربوطة بحبل، أنزَلَها لتصطدم بحجرٍ (مربوط باللوحة المرسوم عليها رأس). أغرقَت الرغوة الشخص المنبطِح، انتشرَت عليه شظايا من الزجاج، منزلِقة على ظَهْره طائرة على الشريط المصنوع من مادة البولي إيثيلين الممتد في الأسفل. قدَّم إيسايف وسيمتشينكو عروض الأكشن الخارقة وهما يواصلان الهبوط إلى مستوى اللوحات التالية. وقد تشكَّلَت عروض الأكشن هذه مكوِّنة «موضوعًا» بصريًّا تشكيليًّا، لم يشترك في تشكيلها مؤلفون أو مشاهدون، وإنما تكوَّنَت بفضل قدرتها على التأثير وترك انطباعٍ قوي.

وهكذا، فعلى سبيل المثال، أصبح «الموضوع» في أحد عروض البرفورمانس هو تدمير الإنشاءات المقامة على المقاعد (التي وضعَت على نحوٍ «متوازِن» على حافة بسطاتِ كلِّ طابق من الطوابق) من تكوينات الطبيعة الصامتة من أكثر المواد والعناصر الغريبة، بما في ذلك المواد والعناصر السريعة الانهيار والقابلية للاشتعال. وقد سقطَت في بئر المصعد بقايا أعمال الطبيعة الصامتة المعلَّقة في الطوابق، حيث كوَّنَت في القاع تكوينًا يعدُّ في ذاته طبيعةً صامتة، تكوينًا عامًّا اتخذ شكله هذا بطريقةٍ تلقائية وعفوية، مع أنه مبرمَج على هذا النحو من قِبَل الفنانين.

وفي النسخة التالية من عرض De Profundis تمَّت تغطية بسطاتِ خمسة طوابق بستائرَ من خاماتٍ وألوان مختلفة من البولي إيثيلين والورق والمخمل والستائر المسرحية السوداء، وقد تناوَلَا استخدام كلٍّ منها بطريقةٍ مختلفة، ففتحا بعضها، وأشعلا البعض الآخَر، ومزَّقا وألقيا البعض.
كانت هناك نسخةٌ من هذا الأكشن استُخدمَت فيها عناصر الإنستاليشن؛ استخدم فيها الجليد أو السوائل المجمدة، على سبيل المثال: مكعَّب من الثلج يُضيء بداخله مصباح، أو قميص رجالي على جيبه صورةُ امرأةٍ مغطًّى بقشرة من الثلج. تبدأ العناصر في الذوبان، تسقط، تسيل «بالإضافة إلى أنه جرى صناعة قوائم-بطاقات: «حياتي صعبة بدونك»، «أين أجِدُك»؛ في حين تعبِّر الموضوعات نفسها عن صعوبةِ حياة الرجُل دون امرأة»، وفي واقع الأمر كشَفَ الفنانان خطةَ هذا البرفورمانس، كانت الفكرة «إلى أيِّ حدٍّ تصبح الحياة صعبةً دون عيون، دون معلِّم».١٣٥
اكتسب عرض De Profundis آفاقًا من وجهة نظر العمل المُطَّرد لإيسايف وسيمتشينكو بوصفهما منفِّذَين لمسرحيات المسرح الروسي الهندسي AXE، الذي قاما فيه بتقديم أكشن إعداد أنواعٍ مختلفة من «الطعام» و«المشروبات»؛ فقد حظي هذا الموضوع الذي بدأ هنا بعد ذلك، كما سنرى، بالتطور والاستمرارية.
وفي النهاية، جرى تأليف برفورمانس يقوم على أشعار بوشكين. وفي هذه الأشعار، حيث وصَفَ الشاعر عودةَ البطل الغنائي من أسفاره إلى البيت، اتَّضح أنَّ عدد كلمات القصيدة يتساوى مع عدد درجات السُّلَّم من الطابق الأول حتى الطابق الخامس. وانطلاقًا من هذا التوافق كتَبَ الفنانان على كلِّ درجةٍ من درجات السُّلَّم كلمةً من كلمات القصيدة. ومن ثَم فقَدْ أصبح فقط بإمكان هؤلاء المشاهدين، الذين استطاعوا الوصول إلى الطابق الأعلى أن يقرَءُوا قصيدةَ بوشكين كاملةً. أمَّا المشاهدون الآخَرون، فقَدْ قرَءُوا جزءًا منها فقط؛ فكلَّما توقَّف الشخص عند الأدوار السفلى، قرأ أقلَّ (فهذا يقرأ بضع أبيات، وذاك بيتًا واحدًا، والبعض لا يتمكن إلا من قراءة بضع كلمات). لم تكن قراءةُ نَص بوشكين وحدها تمثِّل أهميةً بالنسبة إلى الفنانين، وإنما أن يطَأه المشاهدون بأقدامهم، المشاهدون المعاصرون؛ فضلًا عن السكان، وهم يسيرون لقضاء حاجاتهم، أن يمشوا عليه بوقاحة، أن يدخلوا، وأن يقفوا فوقه. لقد كانت عروض الأكشن التي قام الممثلون بأدائها إذن مرتبطةً بالحركة الموجَّهة بشكلٍ يناقض صعود المشاهدين على درجات سُلَّم كلماتِ بوشكين، وتحديدًا إلى أسفل، باستخدام السُّلَّم أو عبْرَ بئر المصعد. على كلِّ بسطة وُضع إنستاليشن صغير مكوَّن من أشياء لونها أبيض. وهكذا نجد على إحدى البسطات قطعةَ سُكَّر مبلَّلة بالروم، عليها ثِقاب أشعَلَ به العارض هذه القطعة، التي بدأت في التدخين والذوبان. وعلى البسطة التالية، وضعَت قطعةُ خبز عليها قطعةٌ من الدهن تُؤكل جميعها. في الخاتمة، يزحف العارض ببطءٍ على جدارِ بئر السُّلَّم وهو يتلو عبْرَ الميكروفون قصيدةَ بوشكين كاملةً. وعلى ظَهره حقيبةٌ صغيرة لها ستارة، ومسرح يقف عليه شخصٌ ضئيلُ الحجم يحمل شمعةً في يدَيه. يمكن، إذا أردنا، اعتبار هذا العارض الهابط على جدار البئر وعلى ظهره إنستاليشن الحقيبة؛ تلميعًا مجازيًّا لوجود مسرح AXE الذي شيَّده في ذلك الوقت إيسايف وسيمتشينكو (المسرحية الأولى «كاتالوج البطل» المؤرخ عام ١٩٩٥م)، في حين بدأت عروض البرفورمانس من سلسلة De Profundis في عام ١٩٩٨م واستمرَّت حتى عام ٢٠٠٠م.

(١١-٣) عروض البرفورمانش في الغُرَف والقاعات

بعد أن بدأ نشاطهما في تقديم عروض الأكشن في الأماكن المكشوفة، وفي الشوارع والميادين والمتنزهات وعلى شاطئ النهر وفي أفنية المنازل، أصبح إيسايف وسيمتشينكو بعد ذلك ينظِّمان هذا العرض داخلَ الفراغات: في غرفةٍ ذات جدران عارية وأسقف مرتفعة، في قاعة «بورييه» في بطرسبورج، الملحَقة بمعرض «كريليا جيرويا» («أجنحة البطل») (۱۹۹۲م)؛ في قاعة «جاليري ۲۱»، «تشيخوف – ۱۲»، «تشايكا» («النورس») (١٩٩٦-١٩٩٧م)، وأخيرًا على خشبة المسرح الصغير في درذدن، التي قُدمَت له ليعرض عليها سلسلةَ عروض البرفورمانس المسمَّاة «AXE – بلاتفورما» (۱۹۹۷م).

على هذا النحو، بدَت عروض البرفورمانس الثلاثة التي عُرضت في مختلف السنوات في غرفةٍ ذات جدران عارية وأسقفٍ مرتفعة.

أحدهم، ويُدعَى X. Y.، اصطحب معه نصًّا صريحًا (مملوءًا بالعبارات والكلمات البذيئة، ولكنه في الوقت نفسه نصٌّ غنائي يتحدث عن العلاقة بين الرجُل والمرأة). في البداية، رقَدَ كلٌّ من إيسايف وسيمتشينكو على الأرض وسْطَ كومةٍ من الأوراق. راح الأول يقرأ بصوتٍ مرتفع النصَّ المكتوب على الورق، في حين راح الثاني يكرِّر وراءه بعض عباراتٍ وكلمات. قاما بإلقاء الأوراق التي قرآها جانبًا. وبعد أن نهضا توجَّه نحو المائدة. جلسا خلفها وراحا ينحنحان. جرى هذا الميني أكشن، مثله مثل العروض التي تلَتْه، خلف قماشةٍ من شريطٍ شفَّاف، يفصل المؤدِّين عن المشاهدين، الذين وقفوا بمحاذاة الجدار. وفي لحظةٍ ما، «رسم» إيسايف شقًّا مربعًا بواسطة موسى حلاقة في الشريط على هيئةِ نافذة. بعد ذلك ولوقتٍ طويل، وبشكلٍ مكثَّف، راح يبري القلم. قام سيمتشينكو وهو جالس في الجهة المواجِهة، بعمل أكشن تصفيف الشَّعر ووضْعِ المكياج. مسَحَ يدَيه بورقة، طبَّقها وألقى بها عبْر «النافذة» المشقوقة، ونحو أقدام المشاهدين. وبعد أن نهَضَ من مقعده، اقترَبَ من شريكه وانتزع عنه قبَّعته. جمَعَ شَعْره في كوماتٍ صغيرة، ربَطَ كلَّ كومة في أحد الحبال المدلاة من السقف. اتجه إيسايف «بتسريحته» (ذات «القرون» والشَّعر الممتد إلى أعلى) نحو الحبل الذي رُبط فيه «عنقودٌ» من أكياس من البولي إيثيلين، الواحد فوق الآخَر. بعد أن ملأ التجويف بسائلٍ بُني اللون، أضاف اللَّبن، ثم وضَعَ في التجويف سجائر يتصاعد منها الدخان، وضَعَ الطرف المشتعل منها إلى الخارج. تمَّ تثبيت القوائم في الستارة وقد كُتبت عليها مقاطع من كلمات، صور شفاهية مقتبَسة من النص الذي كان مستمرًّا («الحُب»، «الذهب»، «القلب»، «من الظَّهر»، «عصفور»، «في التابوت»، «إلى حيث توجَدِين»). خلَعَ سيمتشينكو ملابسه ووقَفَ عاريًا تمامًا وقد غطَّى مؤخِّرته بأحد الدفاتر، وراح يتصفَّح صفحاتٍ من «كتاب الحُب»، وقد أخذ يقلِّبه من أعلى إلى أسفل.

وبشكلٍ موازٍ مع عروض الأكشن التي قدَّمها إيسايف، وقَفَ سيمتشينكو بالقرب من منصةٍ موضوعة في الجزء الأيسر من الغرفة ثم أخَذَ يمزِّق كتابًا. انتزع صفحاته وألقى بها على الأرض. لطَّخ ما تبقى منها بالزيت. أشعل شموعًا بالقرب من المنصة، وبعد أن كتب شيئًا ما في الكتاب أعطاه لشريكه، ثم أخذ يقطع رغيفًا من الخبز الأسود إلى قِطَع، فتَّتها ثم ألقى بها.

احتلَّ الشريك الثالث مكانَ سيمتشينكو على المنصة، ثم أخَذَ يصوِّر وضعياتٍ لتماثيل إغريقيةٍ عاريًا تمامًا إلا من ملابس الاستحمام.

زوجان من الدُّمى، من الدمى الضئيلة، رجال ونساء، قام سيمتشينكو بتعليقهما بمحاذاة الشريط الشفاف، راحا يكرِّران بشكلٍ جروتسكي الانسجام النحتي. قام الزوج الأول بالأداء في وضعٍ رأسي، في حين قام الزوج الثاني بالأداء في وضعٍ أفقي. كانت التماثيل راقدةً، الواحد فوق الآخر على مسافة، بحيث لا يمسُّ منها الآخَر، وإنما يظلُّ كلُّ تمثالٍ على حِدَة، وقد راحوا يؤدُّون حركاتٍ مضحكةً إيروتيكية متشنِّجة باستخدام الجسد وأجزائه؛ كلٌّ بشكلٍ منفرد.

جلس إيسايف وسيمتشينكو خلف المائدة عند جهاز الحاكي يصبَّان البيرة في أكواب من البلاستيك، ريثما تقوم الدُّمى بعرض حركاتها الجسدية الجروتسكية. ثم وضعا الأكواب في حلقات على أطراف عصيٍّ طويلة ومدُّوها نحو المشاهدين. وبعد أن قدَّما واجبَ الضيافة إلى الراغبين، شربا ما تبقَّى من البيرة على أصواتِ أسطواناتٍ مشروخة.

وفي برفورمانس آخَر، تمَّ عرضه في الغرفة نفسها، كانت هناك ضرباتٌ ذات إيقاعٍ على آلة الطمطم بمصاحبة الموسيقى، أصوات ممتدَّة من حناجر وضربات الأحجار.

تمثَّل العنصر الرئيسي لعروض الأكشن في مكعَّبٍ غير مرتفع، موضوع في منتصف الغرفة. قام العارض بتغطيته بقماشٍ أسود. وفي الأركان رُفعَت أوعية على نيران، وفي مركز المكعب وُضعَت صينية وقد بُسطَت فوقها بدقَّة وعلى نحوٍ شعائري بطيء صفحاتٌ منتزَعَة من كتاب، على صفحاته نُثرَت قِطَع من رغيفِ خبز عليه، وبالقرب منه عملاتٌ بعضها من الفضة، وبعضها الآخَر من النحاس.

وفي الوقت نفسه، فرَشَ عارضان آخران ورقةً كبيرة على الأرض، رقدا فوقها، ثم قاما، وهما على هذا الوضع، بأداء دويتو موسيقي باستخدام التي البوق والمزمار؛ مواصِلَين العزفَ على آلاتهم الموسيقية، راحا يزحفان بالقرب من الورقة، الأمر الذي أدَّى إلى تكوُّن «تلٍّ» ورقي يتحرك مصدِرًا صوتًا.

وفي الوقت نفسه، وضع الشخص الذي قام بعمل عرض الأكشن على المكعب، وضع منبِّهًا مفكوكًا على الأرض، ثم أحضر جِوالًا مملوءًا بالتراب، شقَّه بسكين وراح ينثر كومةَ التراب فوق قِطَع الخبز. ساوَى السفوح ثم ضغَطَ عليها محدِثًا فيها ممرَّات، حوَّل الكومة وأقام مدينةً خيالية من المكعبات والمربعات والأسطوانات والمخروطات التي يستخدمها الأطفال. بعد أن أنهى أكشن «خَلْق العالَم»، غَرزَ في الكومة جذوةً فضيَّة أخذَت في الاشتعال لتطلق عمودًا من الدخان. بدأت «العاصفة الرملية»، نَثرَ العارض (من خلال منخلِ مَطْبخ) رملًا ناعمًا، نفَخَه بواسطة مجفِّف شَعر. عندما هدأت «العاصفة الرملية» صبَّ فوق الكومة سائلًا من زجاجة، وبعد ذلك تناوَلَ جرعةً من الماء في فمه ورفعها لتُحدِث آلافَ القطرات كأنها «المطر». تم تسجيل هذه الحادثة الطبيعية بواسطة آلة تصوير تمَّ ضبْطُ زرِّها آليًّا. وفي النهاية، قام العارض بأداء مشهدٍ آخَر؛ كسَرَ بيضةَ دجاجة على ثنيةِ صفحاتِ كتابٍ مفتوح ثم أغلقه بعدها بعنف (على غلاف الكتاب اسم «روسيا»)، ثم غَرَزه في قمَّة الكومة. النتيجة عالَمٌ غريب صُنع في سياق عمليةِ عروض الأكشن والتعرُّض لتأثير «الأحداث الطبيعية»، وصَلَ إلى نهايته بدرجةٍ كبيرة من التكوينات العجيبة، التي استطاع المُشاهِد أن يدرك مغزاها، كلٌّ على طريقته، وإن كان من الأفضل له ألَّا يحاول أبدًا أنْ يكتشف هذا المغزى.

وفي البرفورمانس الثالث، الذي جرى عرْضُه في الفرقة نفسها، كان العنصر الرئيسي للعرض صندوقًا كبيرًا يمثِّل «تابوتًا».

في البداية، وُضع التابوت في رُكنِ الغرفة إلى جوار الجدار. وقد جلس إيسايف بالقرب منه على مقعد دون حراك، في حين جلس سيمتشينكو في الطرَف المقابل من الغرفة، متخذًا الوضع نفسه. كلاهما، كالمعتاد، وضَعَ على وجهه مكياجًا ليبدو في صورة المهرِّج (الجزء الأوسط من الوجه باللون الأبيض، الجزء الأسفل والجبهة باللون البُني)، يرتديان قمصانًا وربطاتِ عنقٍ وستراتٍ بيضاء، غير أنَّ سيمتشينكو يرتدي «قبعةً» بارزة لها «قرون» (أو أذنَا «أرنبٍ») يمتدُّ منها باتجاه أذرُع النظَّارة بمحاذاة الخدَّين مداران معدنيان. في منتصف الحجرة تكوينٌ أُعدَّ خصوصًا للعرض: طرقات «متاهة» موضوعة على الأرض، مصنوعة من نشارة الخشب. وعلى نحوٍ مستقل: كتابان مفتوحان (وهي إحدى الأفكار الرئيسية، ليس فقط لعروض البرفورمانس الأُولى عند إيسايف وسيمتشينكو، وإنما في المسرحيات التالية التي قدمها المسرح الهندسي الروسي AXE)، مقبض، وصور فوتوغرافية.

أخَذَ سيمتشينكو يدخِّن سيجارةً وراء أخرى، ثم راح يضعها بين صفحات الكتب. فتَحَ الديكتافون الموجود داخل جيب مِعطفه، ليصوِّر موسيقى مُصاحِبة لعروض الأكشن التالية. يبدأ في الحركة في الطريق الخارجي «للمتاهة». ينضمُّ إليه إيسايف، يسيرا تارةً أحدهما وراء الآخَر، وتارةً في اتجاهاتٍ مختلفة، ببطءٍ وبسرعة، يلتقيان ويفترقان، ثم يلتقيان مرةً أخرى، وبعد أن يظهرا في المنتصف، يتوقَّف سيمتشينكو، يخلع حذاءه، يسقط منه على الأرض تمثالٌ أبيض صغير، يدور إيسايف حول شريكه ثم يشغل مكانه فوق التمثال الراقد، يشقُّ بسكينه طرَف مِعطف المطر الخاص به، حيث ينساب الماء ملوِّنًا بِركةً وسط الأرض، يتناول صليبًا خشبيًّا، ينشر السكين بالمنشار، يلفُّه بسترته، يجرف «المتاهة» المصنوعة من نشارة الخشب، من الأطراف إلى الوسط، يواصل الأكشن بعد أن يهبط على ركبتَيه ويستخدم مِعطفه كممسحة للأرض.

وعلى نحوٍ موازٍ، يجري عرض أكشن سيمتشينكو، الذي يستخدم فيه سُلَّمًا نقَّالًا يسنده إلى مختلف أجزاء الجدران (واضعًا قوائم السُّلَّم فوق البطاقات البيضاء، وهي عبارة عن رزمةٍ أخرجها من جيبه). يتسلَّق سيمتشينكو السُّلَّم، وفي كل مرة يجد كتابًا مفتوحًا. يتعامل معه بطرائقَ مختلفة، على سبيل المثال، يُلصق بالصفحات صفحاتٍ خضراءَ بواسطة شريطٍ لاصق، أو يدقُّ فيها مسامير. يطوف إيسايف في أنحاء الغرفة بالسُّلَّم ثم يعود إلى مركزها، حيث يرقد على طبقةٍ من نشارة الخشب وفوقه الصندوق الكبير الذي يمثِّل «التابوت». وفوق «التابوت» يتأرجح حجر. يفكُّ سيمتشينكو الصواميل المثبتة في قبعته ينزعها ويضعها في الصندوق. وعلى مقربةٍ يرفع الحجر، ويربط الحبلَ بشريحةٍ في المنتصف، ومن ناحيةِ طرَف الصندوق ينفصل الصندوق عن إيسايف الراقد على الأرض، يرتفع، يتوقَّف، ينثر سيمتشينكو قشًّا ثم يفترشه ويضع عليه صحفًا قديمة يصبُّ عليها بيرة، يتسلل بعدها إلى الصندوق ويتخذ هيئةَ «ميت». ينهض سيمتشينكو من هذا الوضع بأداء عددٍ من المَشاهد فيقرأ خطابًا بصوتٍ مرتفع، ويضع على بطنه عُلبًا طبية، وما إلى ذلك. وفي لحظةٍ ما، يتحول «التابوت» بالنسبة إلى «الميت» إلى أرجوحة، وعندما يقطع شريكه الحبل، يميل ثم يسقط. في نهاية العرض، يرفع سيمتشينكو «التابوت» على ظهره بألواحه المدقوقة. وبعد أن ينحني، يخرج به من الغرفة إلى حديقةٍ خضراء في فِناءٍ غمرَته الشمس.

قدَّم إيسايف وسيمتشينكو في معرضهما «بورييه» القِطَع التي ضمَّها — وفْقَ خطتهما — «كتالوج البطل». استهلَّ العرض بالإعلان من خلال بوق؛ «امرأة البطل»، و«عزلة البطل»، و«الحياة الجديدة للبطل»، و«موت البطل»؛ ثم قدَّم المؤدُّون الواحد تلوَ الآخَر القِطَع المُركَّبة على خلفية الشاشة الصافية. ومن بينها على سبيل المثال، صور السيدات، مع ذِكر الأسماء والتواريخ على مدى سنواتٍ مختلفة من القرن العشرين، أو السيجارة المشتعِلة المثبتة على عصًا ذات جناحَين يتحركان عندما يبدأ المؤدي التدخين، أو لافتات بلُغاتٍ مختلفة. كان النَّص يدلُّ على عناصرَ أساسية ومجازات شِعرية. وعند عرْضِ اللافتات، كان المؤدي ينطق أسماء رجالٍ من شعوبٍ مختلفة، وكان شريكه يغلق فمه بكمامة. كما قام بتركيب شريطٍ مطاطي على الكمامة، وكان يقوم بشدِّه. شدَّ الشريط من الفم، وعندئذٍ ساد الصمت. وفي المشهد التالي، كان المؤدي الجالس على المقعد ينفخ فقاقيعَ الصابون في حجمِ البطيخ من خلال قمعٍ من الصفيح. كان الشريك يسرِّح شَعره ويثبته بالخيوط المطاطية على سطحه حتى يصعب على مصدر الفقاقيع الخروج من هذه «الشبكة».

لم تأتِ كلُّ هذه المَشاهد ذات الإنستاليشن بالنتائج المرجوة، وشكَّلَت في قالبها الجديد فيما بعد مضمونَ العرض الأول للمسرح الهندسي الروسي الذي اكتسب أيضًا تسميةَ «كتالوج البطل». كان هذا العرض بمثابة نقطةِ انتقالِ إيسايف وسيمتشينكو من مجال الأكشن وعروض البرفورمانس غير المتكرِّرة إلى مسرح الفنان وإعداد العروض المخصَّصة لعرضها عدَّة مرَّات على المشاهدين.

تم إعداد مشروع «تشيخوف – اثنا عشر» «النورس» في الذكرى المئوية لتأليف المسرحية، وكان من المنتظَر أن يَشْهد كل شهرٍ من عام الذكرى عرضًا واحدًا أو أكشن ينشأ منه ويحدث معه. كان يتمُّ إعداد العرض والأكشن على أنها تجسيدٌ بصري لنَص المسرحية وللموتيفات وموضوعات والشخصيات الإحدى عشْرَة.

تم توظيف الثلج الجافِّ والشاشات في العرض المكرَّس ﻟ «نينا زاريتشنايا»، وجرى عرضٌ آخَر في «المعرض ۲۱» المنقسِم إلى جزأين غير متساويَين. كان يتمُّ فصْلُ ساحة العرض عن المشاهدين بستارٍ رمادي لا يصل إلى الأرض، وسورٍ غير مرتفع. ومن أجل رؤية ما يحدث، كان على المُشاهِد الجلوس في وضْعِ القرفصاء، أو أن يقف على أصابع قدمَيه. وكان يحدث التالي:

يقوم المؤدي بإخراج قِطَع مختلفة من الصندوق على كرسي في منتصف الجزء الأكبر ويستخدمها لبناء نموذجِ العالَم على مائدة. كان يخلق «الأرض» من التربة التي يعثر عليها، بصفته مبدعًا حقيقيًّا، في كل أجزاء جسمه من الرأس والبطن وحتى البنطلون، ثم يضع «شخصيات تشيخوف» عليها. كانت الصور الفوتوغرافية القديمة من بداية القرن العشرين تمثِّلها، ثم شيَّد النور الإلهي من خلال شموع الكنيسة المشتعلة المحيطة بالمجموعة. وعند نهاية مشهد الخلق، تبدأ الكوارث الطبيعية، ينثر المؤدي على العالَم الذي شيَّده دقيقًا بوصفه جليدًا، والمياه بوصفها «مطرًا»، ثم قام في نهاية المطاف بإشعاله وتدميره وتحويله إلى مزيجٍ تسوده الفوضى.

كانت الصورة المكبَّرة للعالَم تُنقل عبْر الشاشة التي شغلَت جزءًا صغيرًا من الفضاء المسرحي. كان المؤدي الثاني يرقد بجانب الشاشة الثانية، وكانت صورته بدورها تُبثُّ بالكاميرا على الجانب الخلفي من الصندوق الذي كان المؤدي الأول يقوم بإخراج القِطَع لبناء العالَم منه.

وفي الختام، يتَّحد الفضاءان الكبير والصغير، ويصبحان وحدةً واحدة، وينتقل المُشاهِد من فضاءٍ إلى آخَر، ثم إلى الخلف عن طريق الممرِّ المحيط.

قام المؤديان، ذلك الذي كان يقوم بالأكشن عند المائدة، والآخَر الذي كان يرقد على الأرض، قاما، على مدى العرض، بتلاوة نَص نينا زاريتشنايا المسجَّل على الدكتافون، وقد استمع إليه المؤديان بواسطة السماعات؛ هذه منهجية إعادة بثِّ النص بصورةٍ إباحية، كان الفنانان يطلقان عليه «الإيحاء الذاتي». «النَّص هو شيءٌ مادي بالنسبة إلينا.»١٣٦ وهو يعدُّ شيئًا مساويًا في القيمة لأدوات التعبير الأخرى: القِطَع وأسلوب الأداء والنار والمياه والدخان، إلخ؛ والخلفية الصوتية المثيرة للضجيج والموسيقية. كان ذلك وفقًا لمصطلحات الطليعية التشكيلية يعدُّ كذلك تركيبًا صوتيًّا وموسيقيًّا. وإذا كان أحد المؤدين يتلو النص بنفس ترتيب المسرحية، من جملة نينا الأولى («أنا لم أتأخر») حتى ألفاظها الأخيرة في الفصل الرابع، فزميله كان يفعل ذلك بالترتيب التنازلي. «هكذا، فقد جنَّت نينا في إحدى الغرفتين، وما زالت في حالةٍ طبيعية في الغرفة الأخرى. ويجتمع سير الأحداث عند الْتقاء النصَّين … كان من المهم تلاوة النص كلِّه … مع القيام بما كنا نقوم به في الوقت نفسه. كان زمن العرض (٤٠–٥٠ دقيقة) يعادل زمنَ تلاوة النَّص.»١٣٧

كان الإنستاليشن والبرفورمانس تحت عنوان «كوستيا الانتحار» يجسِّد قصة انتحار «تريبليف»، وقام الفنانون بعرض قِطَع مختلفة جدًّا وذات صلةٍ بهذا الموضوع، وهي السكاكين والأناشيط والسموم وسبعة أكواب مختلفة وكُئُوس وفناجين بها سوائلُ مختلفة (الشاي واللبن والنبيذ والمياه) كان بإمكان السموم أن تذوب بها، وخطابات بها أسباب الانتحار.

يتمثل العرض في تمثيل طرائق مختلفة للانتحار، وذلك مع قدرٍ من السخرية والعبث. ومثال على ذلك، عرض الإنسان الذي كان في الوقت نفسه يتناول السموم، ويضرب نفسه بالرصاص. ويغرق نفسه، وينتحر شنقًا.

شارك ممثلو فرقة «ديريفو» — الذين كانوا وقتئذٍ موجودين في ألمانيا — في مشروع «تشيخوف – اثنا عشر» «النورس». هكذا، قام اثنان منهما بأكشن «التقرير بالأنشوطة على العنق»، حيث طرح أحدهما بالكاميرا على الآخَر أسئلةَ «المراسل» السخيفة (مثل: «هل سبَقَ لك أن قمتَ بالسرقة في الطفولة؟») وكان الآخَر قبل أن يُجيب يضع رأسه في برميل المياه لأطول مدَّة ممكنة حتى كاد يختنق، وبعد رفع رأسه من المياه كان يجيب، ثم كان المشهد يتكرَّر مجددًا. كان المؤديان يتبادلان الأماكن في الجزء الثاني من الأكشن. وكان هذا «الحوار» الغريب يُبثُّ هنا أيضًا بالفيديو على الشاشة الكائنة في مكانٍ آخَر.

كان إيسايف وسيمتشينكو يؤلفان مثل هذه «الموضوعات» الفردية للشخصيات المسرحية من مُنطلَق أنَّ كل شخصيةٍ مسئُولة «عن نوعٍ معين من المعرفة وفرعٍ معين من الفن. هناك الشخصية المسئُولة عن العمارة، ونحن نؤكِّد ذلك بالنص. وهناك المسئُول عن الحركة وعن السينوجرافيا». وشخصية ثانوية مثل يعقوب، وهو عاملٌ له قولانِ فقط في المسرحية (أطولهما: «نحن، قسطنطين جافريليتش، سنذهب للعوم»)، وكانت تشكِّل «أساسًا ماديًّا للمسرحية».١٣٨ تم تأليف برفورمانس وإنستاليشن مدتهما ثلاثون دقيقة بهذا الشأن.

غُمرَت أرض صالة العرض بالحصب الذي وَطِئَته أحذية المشاهدين محدِثةً أصواتَ حفيف. وقد مثَّل الجانب الشفهي للعرض إلقاءً غنائيًّا بتألفٍ من تكرار لا ينتهي للجملة نفسها التي قالها ياكوف: «نحن، قسطنطين جافريليتش، سنذهب للعوم.» وكان فولكوف يقوم بالعزف. وكان يعزف بأوتارٍ معدنية قام المؤدون بسحبها من أسفل الحصب، ووضعوا من أسفلها مختلف المواد العفوية (علبًا خشبية، مقاعد، وغيرها)؛ وذلك لإحداث رنين.

كان الإنستاليشن يشكل صفائح الحديد النحاسية والمطلية بالزنك، وعليها عددٌ من الورقات التي تضمَّنَت كلَّ هوامش المسرحية المشيرة إلى الجوِّ المادي اليومي وتصرفات الشخصيات (مثل: «يستنشق التبغ»، و«ينظر إلى الساعة»، و«يدخن»، و«يُشعل الشمع»، إلخ). هناك بقعةٌ زيتية على إحدى الورقات، وكان حجمها يزيد أكثر فأكثر على مدى المعرض الذي استمر شهرًا كاملًا. والورقة الأخرى كانت عليها قطعة جبن شبه جافة، كانت تصغر تدريجيًّا يومًا بعد يوم لتنتشر حولها بقعٌ دهنية. كانت هناك سجائر على الورقة الثالثة (كان عددها يساوي عددَ السجائر التي دخنَتها شخصياتُ تشيخوف)، وكانت تشتعل وتتحول تدريجيًّا إلى عمودٍ من الرماد الذي كان حجمه يزيد دون أن يسقط لمدةٍ طويلة، وذلك لأسبابٍ غير واضحة. ثم يسقط في مصيدةٍ خاصة.

كان أحد عناصر الإنستاليشن مصنوعًا من حبوب الفاصوليا النامية. والإنستاليشن الآخَر كان يقدِّم للمشاهدين وعاءً بداخله حمض كلوريد، وشحم معفن تصدُر عنه رائحةٌ كريهة.

تم تصوير العرض تحت عنوان «اللعبة» على شريطٍ سينمائي من مقاس ثمانية ملِّيمترات، وهو عبارةٌ عن «باليه» يدور موضوعه حول ملاحظات تشيخوف تجاه تصرفات الشخصيات («يدخلون»، و«يغادرون»، و«يسيرون بسرعة»، و«يصافحون بشدَّة»، و«ينظرون إلى الخلف»، و«يهتزون»، و«يجلسون»، و«يسيرون بكسلٍ»، و«يهتزون»، و«يتمطون»، و«يهربون» …).

كان هناك أيضًا إنستاليشن الكتاب في وسط الصفيحة النحاسية، وكانت صفحات «النورس» مفتوحة. كان «البندول» يهبط إليها، وهو عبارة عن حبل بالحجر في وسطه والسجق في نهايته. وقد وُضع طبقان على جانبَي الصفيحة النحاسية، أحدهما بالكتشوب، والآخَر بالخردل السائل. كان السجق يتأرجح ﻛ «البندول»، ويلمس الكتشوب والخردل على التوالي، ثم يعبِّر فوق الكتاب ويترك بقعًا على نص الكتاب.

لم يتسنَّ تقديم كلِّ العروض الأحد عشر (وفقًا لعدد الشخصيات).١٣٩ كان على كلٍّ منهم أن يظهر منفردًا، وفي العرض الثاني عشر كان إيسايف وسيمتشينكو يرغبان في جمعهم في نوعٍ من «المشروع العملاق الشامل».١٤٠

(١١-٤) «بلاتفورما المسرح الهندسي الروسي»

المشروع التالي، وهو «بلاتفورما المسرح الهندسي الروسي»، تحقَّق كاملًا في مارس ۱۹۹۷م، وذلك بفضل مسرح «دريزدين» الذي وفَّر له خشبةَ المسرح. وجَّه إيسايف وسيمتشينكو الدعوة إلى ي. خاباروف وأ. جوكوفسكي وممثلي «ديريفو» للمشاركة في المشروع. ويعتبر أتباع المسرح الهندسي الروسي أنَّ فن فرقة أ. أداسينسكي قريبٌ إلى فنِّهم، إلا أنهم يدركون الاختلاف؛ حيث يتبع «ديريفو» المسرح التشكيلي … «في حين أنَّ مسرحنا بصري، أي مسرح لمثل هذه الصور.»١٤١

كان من المُنتظَر أن يستمرَّ المشروع سبعة أيام، تضمَّنَت الأمسيات الستُّ الأُولى عروضًا جديدة، وهي: «أربعة عناصر»، و«الصوت والصمت»، و«الصورة»، و«المرأة والرجل»، و«سينماتيك»، و«المقبلات المحفوظة». كانت تُقدَّم للمشاهدين الجالسين على خشبة المسرح على مدى حافة دائرة الدوران (وبداخل الدائرة في «الصورة» و«المقبلات المحفوظة») التي لم تكن تدور بواسطة آلية التدوير الكهربائية الميكانيكية، بل على يد المؤدِّين، أو بواسطة عصيٍّ طويلة، أو من خلال الانطلاق من الجدار بواسطة اليدَين والساقَين. كان العرض السابع ختاميًّا؛ إذْ كان يجمع بين موضوعات العروض الستة السابقة، وجلس المشاهدون في القاعة بدلًا من بلاتفورما المسرحية. وضعت سبع شاشات على خشبة المسرح، بثَّت ستٌّ منها تسجيلاتِ العروض السابقة، في حين خصِّصَت الشاشة السابعة للبثِّ الحي.

بحسب إيسايف وسيمتشينكو، فإن العرض الأول «أربعة عناصر» كان يمثِّل «ما نُطلق عليه المسرح الهندسي الروسي الجذري» (أي كل ما له علاقة بالنار والمياه، وكل الكوارث الطارئة؛ والتصوير هو مهنةٌ حرَّة).١٤٢ وبالفعل، فإن كلَّ تلك الوسائل التعبيرية التي قام أتباع المسرح الهندسي الروسي بانتقائها في أثناء عروض سانت بطرسبورج، قد عُرضَت الآن على المشاهدين الألمان، وذلك سواء بالنسبة إلى أسلوب أداء الكوارث والعرائس الصغيرة والأشياء المادية المختلفة من الحياة اليومية. شكَّلَت المَشاهد المتتالية المختلفة نوعًا من موضوعٍ تشكيلي عبثي ومتناقِض معًا، ولا يخضع للتعريف اللغوي. ومع ذلك، كان منطقيًّا، وكان يثير الاهتمام بفضلِ عنصر التمثيل الذاتي في «المَشاهد البصرية».

ظهَرَ شابٌّ وفتاة حليقَا الرأس أولًا (جوكوفسكي وخاباروفا). قامت الفتاة بإخراج الخرقة من حقيبة سفرٍ قديمة، وهزَّتها محدِثةً غبارًا. قام الشاب بمسح جانبَي حقيبة السفر بعناية. كان الدوران يأتي بالمؤدين التاليين، وهما إيسايف وسيمتشينكو، أولهما يرتدي مِعطفًا أسْوَد طويلًا، والآخَر على وجهه مكياج المهرِّج الأبيض والأشقر، ويرتدي الصِّدار وشريطَي الكمِّ وتنورةً حمراء وقبعة بها سجائر مشتعِلة. أمسك المؤدون نهاية شريط مطاطي به كرات بيضاء. وبعد تخفيف شدَّة الشريط، هبطَت الكرات إلى الأرض، وعند شدِّه، كانت تقفز وتصعد إلى أعلى. وفي لحظةٍ ما، كانا يمسكان الكرات في أيديهما ويضغطان عليها حتى تسيل المياه على الأرض. ثم أمسكا بأركان قطعة القماش وهزَّاها حتى خرجت منها الرمال، وفرشاها على الأرض، ووضعا الكرسي. جلس سيمتشينكو، ونكسه إيسايف على الأرض بالكرسي، وأصبح سيمتشينكو موضوعًا لأكشن زميله بعد أن رقد على الأرض وفتح يدَيه على الجانبَين، ورشَّ الأخير رمالًا من الكتاب المفتوح على صدره. ثم رفَعَ الجزء الأسفل من المِعطف، ورشَّ قِطع التربة على وجهه، وأسال الماء على صدره؛ من التربة التي كانت موجودة بأكياس بلاستيك مربوطة تحت المعطف. ثم قطَعَ تنورة سيمتشينكو الحمراء بالسكينة، وعثر تحتها على عروستَين صغيرتَين، ووضعهما على جانبَي المائدة. ثم رفَعَ سيمتشينكو بالكرسي إلى وضعِ الجلوس الطبيعي، وصَعدَ نفسه على الكرسي. صرخ إلى حدِّ أنَّ زميله خاف وحاوَلَ الفرار. أمسَكَ إيسايف حمَّالتَيه حتى لا يتسنَّى له إلا الجري بدون تقدُّم، أو التحرك من اليمين إلى اليسار.

وفي الموضوع التالي، يتأرجح إيسايف بواسطة «الأرجوحة» المعلَّقة فوق خشبة المسرح. ثم تنقطع الحبال التي كانت الأرجوحة معلَّقةً عليها واحدة تلوَ الأخرى وتسقط رأسًا إلى الأرض. وبدأت دائرة خشبة المسرح تتحرك ﻟ «يزحف» سيمتشينكو وهو يُمسك بيدَيه الحبل الذي شدَّه إلى الكواليس.

اختلط سَيْر حركة الفتاة والشاب مقتربَين ومبتعدَين أحدهما عن الآخَر من حينٍ إلى آخَر، وشدَّا وراءهما أحجار الشحذ الثقيلة، وقطعا الكيس الورقي الذي حمله إيسايف على صدره. سقَطَ الرمل من الكيس. أنشأ إيسايف التل، ووضع في قمته شخصَين عرائسيَّين أخذهما أخيرًا من تحت جيب زميله المقطوع. كان سيمتشينكو أحمر اللون، ورصَّ الرمل على الأرض. ثم بدأ يحرِّك العصا الطويلة حتى رفعها، وسالت منها المياه على الأرض. أصبحت العصا «آلةً موسيقية» مصدِرة لأصواتٍ بوقية ممتدة. هبط سيمتشينكو إلى «الجزيرة» الرملية، واشتعل «بحرٌ» من الأضواء حوله.

«بلاتفورما ٢» التي ظهرَت في الأمسية الثانية، تم توظيف الصوت فيها بوصفه أحد عناصر العرض. حاول إيسايف وسيمتشينكو في عدد من المَشاهد «رسْمَ» لحظة ميلاد الصوت. ومثال على ذلك: «أصدر صوتُ السوط في الهواء بواسطة عصوين. كانت الفكرة تتلخَّص في أنه عند إصدار مثل هذا الصوت، كان المصوِّر يسجله ويلعبه ﻛ «رابيد» ليتكرَّر الصوت بصفةٍ مستمرة. ثم خرج المؤدون بالكتب وبدَءُوا صفْقَها. كان هذا الصوت يسجَّل ويتكرَّر أيضًا ليتزامن مع الصوت السابق. وبعد مرور بعض الوقت، زادت هذه الأصوات لتتحوَّل إلى «سيمفونية». إلا أنَّ «هذه الفكرة لم تتحقَّق بالكامل آنذاك»،١٤٣ كما اعترف الفنانون.

كانت أغلبية الموضوعات مرتبطةً بعناصرَ صوتيةٍ مختلفة، كانت تؤدَّى بطرائق مختلفة. كان إيسايف وسيمتشينكو — على سبيل المثال — يسوطان الهواء بالعصا ﻛ «رفقة» للفتاة المرتدية للفستان الأسود، التي قامت بأداء جملةٍ موسيقية متكرِّرة بواسطة الكمان. المشهد السمعي البصري التالي، كان لإيسايف وسيمتشينكو، وهما يبتعدان أحدهما عن الآخَر، وكلٌّ منهما يمسك كتابًا في يدَيه. كانت أيديهما مربوطةً بالحبال، وكانت أصوات الأكشن المرتبطة بالكتاب (تغلق صفحاته وتفتح بالتتابُع، ويتمُّ تعديل وضع الصفحات)، تتوقف بعضها على بعض، فضلًا عن أنها كانت تزداد وتتضاعف.

ثم ظهَرَ أمام المشاهدين المشهدُ البصري «الخَلْق»، أي تأليف الموسيقى أو نظيرها اللفظي. جلس «المؤلف» سيمتشينكو على المائدة، وأمامه رزمة من الأوراق البيضاء، وهو يرسم بالقلم الرصاص على الورق دون أيِّ نتائج. ثم وضَعَ إصبعه في «الحبَّارة»، وهي فنجانٌ صغير يحتوي على الكحول، وأحضَرَها إلى الشمع المشتعِل. اشتعلت النيران وكأنها «نيران الوحي» المرغوب فيها. «كتب» السطور غير الواضحة بواسطة إصبعه المشتعلة، وهو في حالة الانفعال الإبداعي، ثم قام بإشعال إصبعَين أخريَين، ثم قبضة يده. أتَت النيران على رزمة الورق.

دوران القرص. يقوم إيسايف بنشر شيءٍ ما على المائدة بواسطة المنشار. وعند المائدة الأخرى، يقوم سيمتشينكو بدقِّ الكتاب المفتوح في غطاء الزجاجة، وذلك بواسطة المِطرقة. يقلِّب الصفحات، ويقوم بالرشِّ من الزجاجة ويضربها بالعصا وكأنه يصنع «كفتة». يقوم إيسايف بتزييت الصفحات.

بدأ الأكشن الذي أصبح نمطيًّا بالنسبة إلى فناني «المسرح الهندسي الروسي» في العروض اللاحقة، وهو أكشن «عمل الإنشاءات» على المائدة من العناصر الطبيعية والزجاجات وعناصر الغذاء، وكذلك شخوص عرائسية للعالَم الصغير وتلاعبات المشاغل في هذا العالَم، وكان إيسايف يقوم بدوره هنا. قدَّم سيمتشينكو مصاحبةً صوتية لأفعاله، وذلك بواسطة النقر بالطبل، والعزف على أكورديون صغير، وعلى الطبل بالعصيِّ الخشبية.

انتهَت «بلاتفورما ٢» بالمشهد نفسه الذي بدأت به: عازفة الكمان في الوسط (ترتدي الآن فستانًا أبيض)، وكان إيسايف وسيمتشينكو على الجانبَين يقدِّمان «خلفيةً صوتية» بواسطة نقْرِ الهواء.

وفي الأمسية الثالثة، تم تقديم العرض حول العلاقات بين الرجُل والمرأة.

المشهد الأساسي على المائدة. «الشخصيتان»: «هو» و«هي» وجهًا لوجه، أمام كلٍّ منهما عَصَوان.

ثم قاما في الوقت نفسه بوضع العصيِّ بشكلٍ عمودي، ووضعاها على هيئة الصليب عند العنق. ثم أمالا رأسَيهما إلى المائدة. بدأ المشغل عملية دمج المرأة والرجُل. أخذ العصا من المائدة ووضع طرفها عند جبهة المرأة والطرف الآخَر عند جبهة الرجُل. وقام بدمج نهايتَي أنفَيهما بواسطة العصا الثانية، والذقنَين بواسطة العصا الثالثة، والأكتاف بواسطة العصا الرابعة. وهكذا، فقد اتخذ دمج الشخصَين المنفصلَين بالمائدة طابعًا ملموسًا وبصريًّا، ويهبط المشغل إلى مقعده، ويتابع تطورات هذا الاتصال. أمسَكَ الرجُل والمرأة بنهايات الأصابع، قام الرجُل والمرأة بدفعها أحدهما إلى الآخَر ببطءٍ وحذر، وأنزلاها قليلًا، ورفعاها. وفي هذه اللحظة، عندما صعدَت العصيُّ، قام المشغل بسحبها وألقى بها إلى الوراء على خشبة المسرح. لم يبقَ لديه ولديها الآن سوى أربع عصيٍّ قصيرة. وهنا تتخذ الأحداث طابعًا مختلفًا؛ إذْ وقعَت «معركةٌ» درامية، ثم صَعدَ الرجُل والمرأة ورفعا العصيَّ فوقهما ووضعاها على مستطيلٍ عرضي، ألقى المشغل طبقتَين من الشريط الشفَّاف عليه. هبط «التركيب»، ولم يغطِّ المائدة فحسب، بل «الشخصيات» أيضًا. وبعد خروجهم من تحت الشريط بنجاح، فتحوا الزجاجات. فتح «هو» زجاجةَ «النبيذ»، وفتحَت «هي» زجاجةَ «اللبن»، وفتَحَ المشغل زجاجةَ «الشمبانيا». أسقطوا الزجاجات، وسالَت المشروبات البيضاء والحمراء على الشريط. ابتعد المؤدون إلى المكان الخلفي على خشبة المسرح، حيث أخذوا بعض الوقت للتدخين. دوران القرص عاد بهم إلى الموضع الأصلي على المائدة. وبدَءُوا لحْسَ بِرَك الخمر واللبن. سلَّمَ الرجُل المرأةَ المظروف الذي قامت بإخراج ورقةٍ منه عليها صورةُ المركبة العابرة للمحيطات. قامت بإرشاد المركبة الورقية في «بحر» النبيذ واللبن ببطء، وكانت النوارس العرائسية البيضاء تطير فوقها، وكان المشغل يقودها بواسطة الأسلاك. ضرَبَ الرجُل المركبة ﺑ «البروق» الورقية، وكأنه «زيوس» الأسطوري. المشغل اختفى أيضًا «على القاع» تحت سطح المائدة مع المركبة الغارقة.

يستبدل بمشهد كارثة المركبة مشهد خلق الجبل الرملي على يد الرجُل في وسط «البحر»؛ وضعَت المرأة وردةً بيضاء في فمها، ثم قادت طائرةً صغيرة فوق «المنظر الطبيعي» المخلوق على حافة الإيشارب الأبيض. اقتربت الطائرة من الرجُل المدخِّن ليلقي بالطائرة والإيشارب على الأرض.

بدأ الرجل والمرأة «تناوُلَ الطعام» مجدَّدًا، كانا يأكلان بواسطة الملاعق مزيجًا من اللبن والنبيذ المسكوب على المائدة. أحضرَت الموزة، وقامت بتجريدها من القشرة بهدوء وكأنها تقوم بشعائر. صعدَت واتجهَت إلى الرجُل الذي توقف مائلًا فوق المائدة. وعند اقترابها منه أنشبَت الموزةَ في ظَهْره.

بعد مرور عدد من السنوات دخل هذا المشهد الأساسي ﻟ «بلاتفورما ٣» عرض «الريش والزغب» عام ١٩٩٩م بعد أن تغيَّر قليلًا، وهو ما حدث أيضًا لعددٍ من مَشاهد العروض الأخرى. فكرة وأحداث «بلاتفورما ٥» و«المقبلات المحفوظة» تجسَّدَت في عرض Plague and Play عام ٢٠٠٢م، وفي مشروع يُطلق عليه «كفارديناليه براج» عام ٢٠٠٣م.

(١١-٥) «الكابينة البيضاء»

كان هذا العرض هو العملَ المسرحي الأول بالمعنى الكامل للكلمة من تأليف إيسايف وسيمتشينكو (أي المخصَّص للعروض المتعدِّدة على خشبة المسرح) نتيجةً لنشاطهما بوصفهما مؤدِّيَين ومبدِعَين للإنستاليشن. ويتذكر الفنانان أن «الفكرة الأصلية كانت تتلخَّص في الإنستاليشن المتعدِّد الوسائط، والمكوَّن من إسقاطَين بينهما المؤدون الأحياء».١٤٤ تمَّ عرض هذا التركيب في بطرسبورج أولًا، ثم على خشبة المسرح في ألمانيا، لتتحوَّل بعد ذلك إلى عرضٍ مسرحي، وترجع إلى عام ١٩٩٦م. إلى أن أُعيد شكلها النهائي فيما بعد عندما بدأ إيسايف وسيمتشينكو التعاونَ الدائم مع يانا تومينا بصفتها شريكتهما والمخرِجة المشارِكة لمعظم العروض، وحصَلَ المسرح الهندسي الروسي عنها على عددٍ من الجوائز في المهرجانات الدولية. نشأت تومينا أيضًا مع بونيزوفسكي، ثم درسَت بأكاديمية بطرسبورج للمسرح، حيث تعلمَت على يد مدرسة التمثيل الكلاسيكية والتقليدية، لم يمنعها ذلك من الاندماج في جماليات المسرح الهندسي الروسي بصورةٍ طبيعية. حدَثَ شيء من هذا النوع عندما تعاوَنَ ممثلو المسرح الدرامي والموسيقي العادي مع ر. ويلسون أو أ. فراير؛ إذ ازداد الفكر البصري الخاص بهذَين الفنانَين الكبيرَين حيويةً عندما قام بأدائه المؤدون المحترفون، ووجَدَ صدًى لديهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم اكتشفوا بداخلهم ملامحَ فرديةً لم يعلموا بها من قبلُ، سمحَت لهم بتجسيد التراكيب المسرحية لمسرح الفنان.
أصبحت تومينا خاصةً شخصيةً رئيسية في الشكل النهائي ﻟ «الكابينة البيضاء»، وكان إيسايف وسيمتشينكو شريكَيها اللَّذَين تتلخَّص مهمَّتهما في استفزاز البطلة عن طريق عمل «مواقف تكون التصرفات العادية فيها مجازيةً بصورةٍ مفرطة أو عبثية».١٤٥

بدأ العرض بخروج المرأة ببطء من داخل خشبة المسرح المظلِمة إلى الكرسي عند أضواء المسرح الأمامية. جلسَت موليةً ظَهْرها إلى المشاهدين. يظهر رجُل مُلتحٍ على اليمين في وسط دخان التبغ، وكان مرتديًا البنطلون الأحمر والسُّترة المكرمشة والقبعة الحمراء (إيسايف). يتصفح الكتاب بسرعةٍ وبعصبيةٍ من الصفحة الأُولى إلى الأخيرة، ثم العكس، أيْ من الصفحة الأخيرة إلى الأُولى. وعند العثور على الموضع المطلوب يضع فيه (عقب) السيجارة المشتعلة.

ظهَرَ الرجُل الملتحي الثاني (سيمتشينكو) على يسار خشبة المسرح. كانت أفعاله شبيهةً بلعب الأطفال عندما يشدُّ أحد اللاعبين الحبل على أصابعه، ويمسكها الآخَر في الوسط من الجانبين ويشدُّها إلى نفسه، ليكون بذلك تشكيلةً جديدة من الخطوط. ثم قام المشارك الأول بالعملية نفسها، إلخ؛ حتى اكتملَت كلُّ تشكيلات شدِّ الحبل. استخدم سيمتشينكو مضغ العلكة بدلًا من الحبل؛ إذْ مضغها ونعَّمها في فمه، وشدَّ الشريط الطويل إلى اليمين أولًا، ثم إلى اليسار، ويلمس عنق الزجاجة، وقام بعمل التشكيلات المتقاطعة. وعند قطع الشرائط، وضَعَها في فمه ومضَغَها مجددًا ونفَخَ فقاعةً كبيرة. وبعد الانتهاء من التلاعب بمضغ العلكة والزجاجات، قام بعرض «شعوذةٍ» أخرى؛ إذْ أزال الكرة الصوفية من القبعة ووضعها على الأرض، حيث تحركَت عبْرَ خشبة المسرح بطريقةٍ سحرية بدون مفعولٍ واضح.

«الموضوع البصري» التالي هو انتحار أقدَمَ إيسايف عليه بأسلوب «عرض التهريج» السوريالي الساخر الخاص بالمسرح الهندسي الروسي. صَعدَ على الكرسي الذي كان فوقه حبلٌ مربوط وفي نهايته الزجاجة المقلوبة. أخرج الخطَّاف من جيبه، وأدخله في غطاء الزجاجة، وربَطَ الأنشوطة بالخطاف. ثم خلَعَ القبعة، ولَبسَ الأنشوطةَ على عنقه، وقام بالخطوة «المُهلِكة» من الكرسي. خرَجَ الخطَّاف مع السدادة تحت وزن الجسم، وأُغرق بالخمر المنتحِر الفاشل الذي سقَطَ من الكرسي على الأرض. سال الخمر لمدَّةٍ طويلة على رأسه المنكَّس حتى بعد أن قام وجلس على الكرسي مضطربًا. ثم رمى الكرسي بعنف، واتجه إلى الفتاة (التي ظلَّت طول هذه المدة جالسةً في الجزء الأمامي من خشبة المسرح دون أن تتحرك وهي تتابع الأكشن المنفرد للشركاء). إلا أنه لم يتمكن من الاقتراب منها؛ إذْ أمسك الشريط المطاطي، صُلبَ المربوط خلفَ حزام بنطلونه. وكرَّر عدَّة مرَّات محاولةَ الجري والقفز حتى الفتاة، ولكنَّ الشريط عاد به مجددًا إلى الوراء. سدَّت الحبال، التي ملأ سيمتشينكو فضاءَ خشبة المسرح بها، الطرقَ. وكان يتحرك من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. تزامنَت تحركات سيمتشينكو مع تحركات إيسايف السابق وصفها. كانت تلك الحبال مربوطةً بالورقيات على جسم سيمتشينكو، وسقطَت على الأرض، الواحد تلوَ الآخَر.

وفي لحظةٍ ما بعد سلسلةٍ من المحاولات الفاشلة لعبور حواجز الحبال، جمَعَها إيسايف في قبضته وشدَّها وكأنها وترُ القوس الكبير، وأطلَقَ كتلةَ الورقيَّات التي ارتداها شريكه إلى قدَمي الفتاة. ثم انفصل عن الشريط المطاطي واقترب من الفتاة. رفَعَ يدَيها إلى أعلى جانبَين، وقام بدقِّ المسامير بين أصابع قدمَيها الحافيتَين؛ ليضعها بذلك في موضع «الصليب». ثم أنزل أمامها المِرآة المربعة المتحركة التي كان بإمكان المشاهدين أن يروا من خلالها ملامحَ وجهه التي كانت تعبِّر عن الخوف والرعب والألم والصوت الصامت والاحتقار والتأفُّف إزاء العجينة التي كان يطعمها بها بالملعقة.

أوقف سيمتشينكو «التعذيب» الذي تعرضَت له الفتاة على يد إيسايف؛ إذْ قطع الحبال التي كانت تُمسك يدَيها. ورفعها من الكرسي، ورقصا ودارا في رقصةٍ مبالَغ فيها، وقاما بالمناورات بين الحبال المشدودة على خشبة المسرح التي كان عليها كثيرٌ من الورق. واقتربا من المائدة، وطلبا تناوُل المشروبات معًا وقد تشابكَت أيديهما. إلا أنهما لم يتمكنا من ذلك، حيث شدَّ كلُّ واحد منهما اليدَ إلى نفسه دون أن يتمكن من الوصول بيده إلى الفم. وقفا إلى جانبَي المائدة المتقابلَين، ومالا واستندا بالأكواع إلى الغطاء، وبدأ سباق القوة بعد أن شبكا الأصابع.

وفي «المشهد البصري» التالي، جلست الفتاة حزينةً على المائدة بمفردها وأمامها زجاجةٌ تحرَّكَت على المائدة ببطء وبطريقةٍ غير مفهومة. وضعَتها الفتاة في الموضع السابق، ولكنَّ الزجاجة تحرَّكَت مجددًا. حضر إيسايف ووضَعَ الزجاجة تحت المائدة، وبدأ «المعاكسات» دون أن يخرج السيجارة من فمه، وعندما لمَسَ يدها وحاوَلَ تقبيلها، أبعدَت وجهه، وهنا سحَبَ الكرسي من تحتها غاضبًا؛ ردًّا على ذلك أمسكَت عنقه بشدَّة، وضغطَت على المائدة بوجهه. رقدَت على ظَهْره، والْتصقَت به في حنوٍّ، وتوقفَت في هذا الوضع دون أن تتحرك. ثم قاما ورقصا معًا رقصًا كوميديًّا وحميميًّا. انتهت «العاطفية» عندما ابتعدا كلٌّ منهما عن الآخَر. وأخرج حينئذٍ من (الجاكتة) المسدس الملفوف في منديلٍ أبيض. بدأت الفتاة تنظيفَ المائدة بالمنديل المرمي، ثم لاحظَت المسدس عند صدغها. أمسكَت يده ووضعَت ساقها على جنبه وأبعدَت اليد بالمسدس ليتَّجه إليها ويضطر شريكها إلى إبعاد أداة الموت.

وضَعَ سيمتشينكو اللمبة الكهربائية المضيئة على المائدة أمام الفتاة، وبدأت الفتاة تقوم بسلسلةٍ من الحركات العجيبة بها. دوَّرَت الكرةَ المضيئة على الحبل، فاخترقَت يدها ونفخَت في أصابعها، وحاولَت فكَّ اللمبة. وضعَتها تحت إبطها، وصرخَت، وأبعدَتها، ثم ضمَّتها إلى صدرها في نهاية المطاف، ولمسَت الجسم باللمبة الساخنة.

ومع استمرار أداء هذا التعذيب الذاتي، كان يحدث تغييرًا في الفضاء. شدَّ إيسايف الحبال المعلَّقة واحدًا تلوَ الآخَر، وسقطت قِطَع النسيج الأربع واحدة تلوَ الأخرى من الفضاء المسرحي. كانت القطعة الأمامية مصنوعةً من القماش التل الشفَّاف. والقطع الثلاث المتبقية، كانت مقطوعةً في الأماكن المخصَّصة للنوافذ. شكَّلَت القطع مجتمعةً «الكابينة البيضاء» وفقًا لعنوان العرض. تكوَّنَت «الكابينة» من ثلاثِ «علب أقلام» متوازية. انتهى مشهد اللمبة المضيئة بداخل «الكابينة»، حيث تابَعَ المشاهدون ما تعرضَت له الفتاة عبْرَ فتحات النوافذ. ظهَرَ مؤدُّو «المَشاهد البصرية» القادمة في إحدى «عُلب الأقلام»، وتحركوا فيها من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ليوجدوا — في كل مرة — بين طبقتَين أو عدَّة طبقات، صور إسقاطَين مختلفَين فأكثر. اللقطة الكبيرة على قطعة القماش الأمامية، ولقطات أصغر على الستارة المسدَلة على النافذة البعيدة. كانت تلك اللقطات من الأفلام القصيرة، التي قام إيسايف وسيمتشينكو بتصويرها، ليخلقا بذلك «سينما الفنان» بجانب مسرح الفنان.

طوِّر الموضوع البصري في بيئةٍ متعددة الوسائط للصور الإسقاطية النواحي الجديدة ﻟ «الاستفزاز» على يد فناني المسرح الهندسي الروسي. «الحركات المألوفة تصبح إمَّا مجازيةً بصورةٍ مفرطة، وإمَّا عبثيةً إلى حدٍّ كبير.» على حدِّ قول معدِّي العرض. ونتيجةً لذلك «ظهَرَ نوعٌ من الفنية المسرحية الداخلية التي قمنا بتوسيعها وتعميقها».١٤٦ بلغ تأثير العرض درجةً عالية إلى حدِّ أنه وُلدَت تداعيات ذاتُ طابع عام، ومنها على سبيل المثال: «هذا عرضٌ عن الموت: موت الثقافة، وموت البلاد، وموت الروح»،١٤٧ كما كتَبَ معلِّق صحيفة «جارديان»، وذلك على الرغم من غموض «الموضوع» من حيث منطق السرد.

بعد نهاية التلاعبات باللمبة واختفاء الفتاة، قام إيسايف وسيمتشينكو بأداء المشهد بالأقنعة؛ إذْ تحركا بداخل «علبة الأقلام» الخاصة بكلِّ واحدٍ منهما، والواضحة عبْر إطار «اللوحة». وأمسكا أمامهما أقنعةً ذات وجوهٍ مبتسمة. وعند إبعاد الأقنعة في لحظةٍ ما، ظهرَت وراءها أقنعةٌ أخرى مثلها، أو وجوه المؤدين الملتحين. نظَرَ شخصان حزينان من «الشاشة» الأمامية الشفافة إلى المشاهدين، وأغلقا عيونهما بأيديهما بحزن. الأداء في قالبِ الرسم البدائي قدَّم هذه الصور وكأنها خرجَت من لوحات إيسايف وسيمتشينكو. كانت تشبه المنظر العام للأشخاص على خشبة المسرح، وتزامنَت الدمعة التي خرجَت من إحدى العيون على اللوحات بطريقةٍ غير واضحة مع «المشهد البصري» الجديد في الفتحة السوداء للنافذة البعيدة. الفتاة — العارية في هذه المرة — قامت بالاغتسال وظَهْرها إلى المشاهدين. وفي العمق تبينَت عن بُعد صورةُ المنظر الطبيعي المقفر الحزين مع إنسانٍ منعزل صغير.

مرَّ إيسايف ببطء وهو يرفع الرُّكبة ويمسك العلَم الأخضر في يده. واتجه إليه في «علبة الأقلام» الأخرى سيمتشينكو، وذلك بالإيقاع نفسه وهو يمسك أيضًا بالعلَم الأخضر في يدَيه. أعطَته الفتاة باقة من الزهور، ضرَبَ نفسه بها وكأنها مِكنسة الحمَّام، ضرَبَ الصدر والساقَين والظَّهر. ثم استبدلها سيمتشينكو مع شريكه بالزجاجة، وأسال النبيذ الأحمر على العروسة المعلَّقة من الساقَين إلى أعلى.

كان «المشهد البصري» التالي هو عبور المؤدين الصعب والمستمر والمتكرِّر والمتزامِن. استند كلُّ واحد منهم إلى عصًا طويلة، واختبر بها التربة تحت قدمَيه في «علبة الأقلام» المنفصلة من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، وفي الاتجاه نفسه، وباتجاه أحدهما إلى الآخَر، وبالتتابع، ومعًا. تمَّت هذه الحركات بين طبقتَين من الإسقاط (من الأمام: الوجوه الكبيرة للناس، وأزيز الشطرنج والبوق الموسيقي، والبيوت، والكف التي تبينت من وراء الحافة الجانبية للشاشة وهبطَت من وراء الحافة العليا. وتضمَّنَت الستارة الخلفية لقطات اليد التي تمسك الشعلة المشتعلة، ثم القبضة)، وعند بداية لقطات الفيلم القديم التي ترسم المرأة التي لا تتحرك والرجُل الذي يدور حولها وهو يرفرف بيدَيه. وفي هذه اللحظة، يظهر ثلاثة من المؤدين معًا من وراء الإطار السُّفلي بكامل الطول لتبقى الأقنعة على عصيِّهم فقط.

التكوين التشكيلي للعرض وصَلَ إلى موضوع المواجَهة البدنية بين الشركاء؛ إذْ خلعوا الفانلات وبدَءُوا الصراع وهُمْ في سراويلهم. ضربوا صدرهم، واستعرضوا الصدر، وهاجموا بعضهم، وكأنهم ديوكٌ متصارعة. حاولَت الفتاة إيقافَ حماستهم عندما ظهرَت في نافذةِ «علبة الأقلام» البعيدة. قامت برشِّ الخمر على الشبَّان بعد أن شربتْه من الزجاجة. ساعَدَ ذلك في وقتٍ من الأوقات، ثم اشتبكَت «الديوك» مجددًا، ولم تنتهِ إلا عندما رشَّته على وجهَيهما معًا. رفَعَ إيسايف سيمتشينكو وأبعَدَه إلى خارج الكابينة.

ظهرَت على قطعة القماش الأمامية مجموعةٌ من صور شخصيات النبلاء المرتدية لأزياء نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هي ذكرى سريعة لهذا الزمن البعيد. قام ثلاثة من المؤدين بنقر الأطباق النحاسية بصوتٍ عالٍ عدَّة مرَّات في نوافذ «الكابينة البيضاء». دوَّى صوتُ المؤدية هنا لأول مرة؛ إذْ نطقَت قبل كلِّ طبلة: «واحد» – «اثنان» – «ثلاثة» – «أربعة». اختفَت الوجوه الإسقاطية من الماضي مع النقر الأخير. وضع إيسايف وسمتشينكو الأطباق النحاسية على رأسَيهما، ورمَيَاها بعد لحظة. واحتضنا وقبَّلا كلٌّ منهما الآخَر، ثم بدآ شدَّ مُضَغ العلكة بين أسنانهما. وفي أثناء هذه الأفعال، ظهرَت شريكتهما في الممرِّ الآخَر. جلسَت إلى الكرسي المغطَّى بالصحيفة في مواجهة المشاهدين. جلسَت بدون حَراكٍ لبعض الوقت وكأنها تنتظر شيئًا. صرخَت باليأس المتزايد: «تانيا!» «أنيا!» «شوركا!». وفي العمق اشتعلَت إسقاطات الوجوه المبتسمة للسيدات على الستار. ظهرَت السطور من الرسالة القديمة المكتوبة يدويًّا على الشاشة الأمامية الشفافة. صرخَت للمرة الأخيرة: «أولا! أولا!»، وبكَت وأغلقَت وجهها بالصحيفة المكرمشة وغادرت المكان. وبعد ذلك بقليل، وجدت نفسها في «علبة الأقلام» الأبعد وحاولَت دون جَدْوى أن تتغطَّى بالصحيفة من سيول «المطر» من عنق الزجاجات المثبتة على الخشبة المتأرجحة التي علَّقها سيمتشينكو فوق رأسها. قام إيسايف بأداء أكشن النار في أثناء وجود الفتاة تحت تيار «المطر». جلَسَ على الكرسي، وضَعَ على ركبتَيه حوضًا من الزنك، وقرأ الصحيفة الأخرى التي أخرجها من الحوض بعد أن وضعها هناك، وكانت تحرق يدَيه. ظهرَت نارٌ أخرى في الممرِّ البعيد، وهي عبارة عن كرةٍ مشتعلة على الحبل أخرجها سيمتشينكو. أدارها فوق رأس الفتاة التي ما زالَت واقفةً دون أن تتحرك. تابعَت تومينا دورانَ «الكوكب» فوقها بانبهارٍ، ثم فكَّت كتلةَ الصحيفة الرطبة وحاولَت بواسطتها «صيْدَ» الكرة المشتعلة.

بدأ الموضوع الثالث المتعلِّق بالانتحار، وقام إيسايف بأدائه. خرَجَ إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح وأخرَجَ من الظرف رسالةً وقرأها (هل هي الرسالة نفسها التي رآها المشاهدون في الإسقاط على الشاشة الأمامية؟)؛ شكَّلَت لقطاتٌ من أفلام فناني «المسرح الهندسي الروسي» خلفيةً عميقة لهذا «المشهد البصري» (الشجرة ومجموعة من الرجال والسيدات الجالسين تحتها مع رسائل في أيديهم). بعد القراءة قطَعَ إيسايف الرسالة إلى قِطَع صغيرة، وألقى بها إلى الأرض، وبدأ الانتحار الأخير، في هذه المرة ﺑ «قَطْع الشرايين»؛ إذْ قطَعَ بواسطة موسى الحلاقة كيسًا بلاستيكيًّا واحدًا ضمَّه إلى صدره أولًا، ثم الأكياس الثاني والثالث والرابع والخامس. وجدَت هذا الأكياس على أعضاء أخرى من الجسم (من العنق والبطن واليد والساق). النافورات التي كانت تملأ الأكياس بالمياه، تسبَّبَت في الانطباع بأنَّ الدم يسيل. تزامَنَ المشهد مع عبور سيمتشينكو عبْر «علب الأقلام» في اتجاهاتٍ مختلفة؛ إذْ حملا خشبةً طويلة عليها نيران مشتعلة مع خلفيةٍ موسيقية أثارَت جوًّا مقلقًا ودراميًّا على مدى العرض، وأسْهَم في ذلك غناءٌ مرتفع بصوتِ نساء.

ثم أدَّى إيسايف وسيمتشينكو مشهدًا آخَر مبالغًا فيه مع النيران؛ إذْ جلسا على مائدةٍ طويلة عليها عصًا مشتعلة بالنيران، ووضعا في فمهما لمباتٍ صغيرة وأخرجا نفَسَ دُخان السجائر عبْرَ مستطيلِ الفم المفتوح لتُطفأ واحدة تلوَ الأخرى. وفي الوقت نفسه، حاولا الغناءَ بأصواتهما المضطربة والمشوَّهة (بسبب اللمبات في الفم)، وكأنهما سكارى؛ كلمات الأغنية السوفيتية الشهيرة («لنتصافح مع البعض قبل طريقٍ طويل لسنواتٍ طويلة …»). وبعد نهاية الدور، فتحا زجاجات الجعة وشربا من عنق الزجاجة مباشرة، وأخرجا قطعةَ الخبز الأسْوَد من الكيس البلاستيك، وألقَيَا بقِطَع الخبز إلى الفتاة والمرآة المربعة المتأرجحة أمامهما (نفس المرأة المتأرجحة أمام وجه الفتاة في الجزء الأول من العرض، والآن أصبح الجزء الخلفي منها مستديرًا أمام الفتاة والمشاهدين). تضمنَت الشاشة الأمامية الشَّفَافية إسقاطَ اللولب الضخم الذي تم دورانه بسرعة في اتجاهَين مختلفَين، مما أثار انطباع «بوب آرت» على نحوٍ سينمائي. اللقطة الكبيرة: يدان في وضعَين وإشارتَين مختلفتَين. بعد نهاية هذا المشهد، ظهر بيت في قالب الصندوق على قطعة القماش التي تغطِّي نافذة الكابينة البيضاء، ومكتوب عليه — FINE — اقتربَت الفتاة منه، وفتحَت ضلفات النافذة وظهرَت عروسةٌ بيضاء بداخل الصندوق-المنزل، وأخذَت تتأرجح أكثرَ فأكثر إلى الخلف وإلى الأمام (موتيف العرض «خ. و.»). وهذه هي النقطة الأخيرة والختامية للموضوع البصري.

(١١-٦) «هباءً منثورًا»

تم العرض التالي للمسرح الهندسي الروسي بعد مرور ثلاث سنوات، أي في عام ١٩٩٩م، وذلك بعد أن عُرضَت «الكابينة البيضاء» في سانت بطرسبورج بنجاح وحصلَت على الجائزة الدولية الأُولى (وليست الأخيرة)، وهي جائزة النقَّاد في مهرجان «ونيدرام» في ألمانيا (۱۹۹۷م). علَّل مؤلفو العرض الموضوعات الحافزة لعملهم بالتالي: «بعد دعوة عروضنا إلى خشبة المسرح، أصبحت لدينا رغبةٌ في لعب المسرح، وأن تكون هناك شخصيات وموضوع، وذلك مع الاحتفاظ بجوٍّ غير جوِّ التمثيل والحضور الشخصي. أحضرنا إكسسوارات مختلفة، وحاولنا عملَ قصةٍ شعرية بالصور حول العلاقة بين الرجُل والمرأة، وذلك بواسطة إيقاع ظهور وتتابُع المَشاهد وبدون موضوعٍ ما. وبصورةٍ عامة، هناك موضوع، ولكنني لا أتخيل كيف يمكن سرده.»١٤٨
قول إيسايف إنه لا يتخيَّل كيف يسرد موضوعَ عرضه يؤكِّد مجددًا الطابع الخاص للموضوعات في مسرح الفنان بصورةٍ عامة. من الصعب إعادة سرد محتوى الموضوعات المسرحية وغيرها من أعمال مسرح الفنان؛ فهي في مضمونها الحقيقي قد حملَت طابعًا تشكيليًّا وبصريًّا، يصعب استيعابه كاملًا إلا من خلال الأداء. ينطبق ذلك أيضًا على تلك الحالات عندما قام ويلسون أو فرايسر بتقديم أعمال الدراما أو الأوبرا أمام المشاهدين، وقاما بعرض مَشاهد مسرحية تمَّ تأليفها وفقًا لقواعد الموضوع التشكيلي. وفي الوقت نفسه، احتفظا بالموضوع اللفظي أو الموسيقي للعمل الذي تحقَّق في مجموعة النوتات الصوتية لهذه الأعمال. أمَّا كانتور وشاين وموندزيك — وهم أساتذة مسرح الفنان الآخرون — فلَمْ يوظِّفوا أيَّ موضوعاتٍ درامية، بل ألَّفوها كموضوعاتٍ تشكيلية وبصرية بالكامل. هكذا عَملَ مؤلفو المسرح الهندسي الروسي بسانت بطرسبورج، الذين حاولوا الاحتفاظ بشخصياتهم كمؤدِّين على خشبة المسرح، وعلى القيام بتصرفاتٍ ما. إلا أنهم في أثناء انتقالهم إلى العروض ذات الطابع المسرحي في «الكابينة البيضاء» أولًا، ثم في «هباءً منثورًا» اصطدموا بأنهم بدَءُوا في تمثيل شخصيات وموضوع ما، مع أنهم لم يمثِّلوا إلا أنفسهم. لا مفرَّ من ذلك، ولكن الشخصيات والموضوع لم يتمَّ تبيُّنهم. هناك طريقةٌ واحدة فقط لسرد هذا الموضوع، وهي الوصف البصري لمَا يحدث على خشبة المسرح، وينبغي أن يكون الوصف مفصلًا بدون فراغات وحذوفات، ذلك ما حاوَلَ أن يفعله مؤلِّف الكتاب؛ فأيُّ فراغ وحذف يدمران هيكلَ عملٍ من أعمال مسرح الفنان التي من المنتظَر أن تجري أحداثها في إطارٍ زماني ومكاني. مع تطبيق ذلك فقط، هناك إمكانية تثبيت موضوعٍ تشكيلي للعرض، يصعب التعبير عنه بالألفاظ، خاصةً أنه يتمُّ بناؤه كالعادة لدى المسرح الهندسي الروسي من «مشاهد بصرية منفصلة»، وهي «اللقطات» والمواقف والأحداث التي قد تبدو مضطربةً وغير مرتبطةٍ بعضها ببعض في بعض الأحيان. ولكنها تثير في نهاية المطاف انطباعًا متكاملًا وانفعاليًّا لدى المشاهدين القادرين على استيعاب مثل هذا العرض.١٤٩
كيف كانت في هذه المرة «القصة الانفعالية بعض الشيء بين رجُلَين وحيدَين وامرأةٍ واحدة»،١٥٠ التي كان فيها امتدادٌ لموتيفات «الكابينة البيضاء» وعددٌ من العروض الأخرى؟ هي موضوعاتٌ عاطفية بالنسبة إلى فناني «المسرح الهندسي الروسي».

بدأ العرض باستهلالٍ قصير دام عدَّة ثوانٍ، وجرى بواسطة العرائس. انفتح الستار في الفضاء المُظلِم لترتفع الكرة البيضاء عليه. وعند ابتعادها إلى اليمين ظهرَت عروسةُ المرأة المسطحة، التي رفعَت يدَيها أعلى إلى جانبَين. ارتفع رجُلان على الجانبَين موجهَين أحدهما إلى الآخَر لعبات مسدسات المبارَزة. كان يجب في تلك اللحظة أن تحدُث طلقة الرصاص، ويسقط الستار ليكشف ثلاثة من المؤدين شدُّوا أزرارهم بشكلٍ مباغِت فجأةً. من الواضح أنهم لم يكونوا على استعداد للظهور أمام الجمهور. ارتدى الرجال السروال والفانلة، والمرأةُ المعطفَ الأحمر فوق القميص الداخلي. كانت أزياؤهم قد ظهرَت للتوِّ على الحبال في ذلك الحين، وهي بدلةٌ سوداء للرجال، وفستانٌ من طرازٍ قديم للمرأة. ارتدى سيمتشينكو البدلة بعد أن وضَعَ أزرار الأسطول على كتفيه (لتبقى في التركيب المكاني حتى نهاية العرض). المشارك الثالث إيسايف ارتدى مريول النبلاء، وأمسك المكنسة في يدَيه وقام بمسح الأرض على خشبة المسرح. اللقطة الأخيرة من الاستهلال: نظرَت تومينا إلى الساعة، وابتعدَت تدريجيًّا إلى داخل الفضاء، وجلَسَ سيمتشينكو على الكرسي بدون حركة مع حقيبة السفر على ركبتَيه، وتأمَّل في قاعة الجمهور، وفي اللحظة الأخيرة فقط نظَرَ إلى المرأة المُنصرِفة.

ساد الظلام خشبة المسرح. «لقطات» المَشاهد التالية كانت تتغيَّر وكأنها «ومضاتٌ» منفصلة. ظهَرَ جسَدَا تومينا وسيمتشينكو المضيئان بالتتابع في وقفاتٍ مختلفة ومَشاهد صغيرة، وذلك برفقة أصوات الناقوس المُقلِقة.

ظهرَت تومينا وهي تمسك في يدَيها قند الأطفال على العصا، ووضعَته في فمها. قامت بفكِّ اللفافة ونظرَت إليها باهتمام بالقرب من عينَيها، ورفعَته فوق رأسها، ليتسلَّط الضوء على وجهها عبْر هذه القطعة من الورق.

ثم ظهَرَ سيمتشينكو، وشرب من عنق زجاجةٍ صغيرة ورفَعَها ونظَرَ إليها بانتباهٍ حتى يعرف ما إذا كان بداخلها شيءٌ أو لا.

تسلَّط شعاع الضوء على تومينا مجددًا؛ إذْ قامت الآن بدور مسح النظَّارة بواسطة المنديل. ثم يرى المشاهدون يدَي سيمتشينكو وهي تمسك منديلًا في وسطه ثقبٌ نظَرَ المؤدي عبْرَه إلى السماء.

تبينَت شريكته الجالسة إلى الكرسي من الظلام. أخرجَت صورةً فوتوغرافية «بولارويد» من الشنطة، وكتبَت شيئًا عليها وتأمَّلَت في شيءٍ غير معروف.

في «اللقطة» اللاحقة، أخرج سيمتشينكو مائدةً عليها مظروف إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح. فتَحَ الظرف بالسكين. أخَذَ الرسالة وفتَحَها. وجَدَ ثقبَين في وسط الورقة. وضَعَ الورقتَين إحداهما فوق الأخرى، وكأنهما قناعٌ ذو فتحتَين للعيون. تسلَّل الضوء عبْرَها بقوة حتى أغلَقَ سيمتشينكو عينَيه بموسى السكين بعد أن أنزَلَ الرسالة.

في الختام رؤيتان مضطربتان ﻟ «هذا النوع من الشخصيات» قبل أن تجتمع في ميزانسين. أمسكَت تومينا بمرآةٍ صغيرة في يدها. تضمَّن الجانب الخلفي للمرآة صورةً لوجهها. ظهَرَ سيمتشينكو من الظلام، وهو يُمسك وردةً حمراء في فمه، ثم أخرَجَها، ورفَعَها أمامه، وتأمَّل فيها لمدَّةٍ طويلة.

حان موعد الدور الشخصي للمشارك الثالث، وهو إيسايف. ألقى الكشَّاف ضوءًا على جسده العاري. قام أولًا بطقسه التقليدي؛ إذْ أشعَلَ الكبريت ودخَّن السيجارة. ثم جلس القرفصاء أمام حقيبة فيبر حمراء موضوعةٍ على مقعد الكرسي. صوت من خارج اللقطة يغنِّي كلماتِ أغنيةٍ سوفيتية شهيرة («أين هذا الشارع، أين هذه الفتاة التي أحبُّها؟ الكرة الزرقاء تدور فوق الرأس؟»). مع مراعاة إيقاع الأغنية، قام إيسايف وفتَحَ غطاءَ الحقيبة، لتصدُر أصواتُ النَّقْر من داخلها، وكذلك ضوء أزرق. قام إيسايف ﺑ «الاغتسال» بتياراتِ الضوء. أخرَجَ قميصًا أبيض وكرافتة من الحقيبة وارتداهما. ثم أغلق الغطاء بحركةٍ شعائرية بطيئة. بعد لحظة، كان الظلام يسُود خشبةَ المسرح.

لحنٌ عاطفي، بدأ «المشهد البصري» الذي عُرضت روايته الأُولى منذ عامَين مع «بلاتفورما المسرح الهندسي الروسي». أُطلق عليه وقتئذٍ «الرجُل والمرأة»، ثم تطوَّر وعُرض الآن في شكلٍ مختلف.

اقترب سيمتشينكو من المائدة. جلَسَ بجانب القطاع العرضي الأول. ثم أخرَجَ مُضَغ العلكة من فمه، ووَضَعه في وسط الغطاء، وضرَبَه بكفِّه، ووضع علبةَ الجعة عليه. عثر على لعبةٍ ميكانيكية في جيب الجاكتة، وهي عبارة عن ولدٍ على الدرَّاجة، قام بتشغيلها وأطلقها على المائدة. لفَّ الولد حولَ العلبة حتى وصَلَ إليها، وعندما سحبها سيمتشينكو، واصَلَ طريقه إلى الحافة ليسقط على الأرض.

أتَت تومينا إلى المائدة، وجلسَت أمام القطاع العرضي. رفعَت اللعبة من الأرض، وأطلقَتها على المائدة مجددًا إلى شريكها الذي ما زال يشرب الجعة.

جلس الشريكان بدون حراك لمدةٍ ما؛ إذْ تناوَلَ هو الجعة، ووضعَت هي يدَيها على المائدة وتابعَته بتركيز. بعد نهاية الشرب، بدأ سيمتشينكو ينفخ على الفتاة، لتهتزَّ بسبب المفاجأة. أغلَقَ عينَيه بكفِّه، وهي الفمَ لتمسك نفْسَها حتى لا تصرخ. ثم رفعَت يدَيها أمامَها، ووجَّهَت كفَّيها إلى شريكها. ردَّ عليها بالحركة نفسها. عبَّر ميزانسين بصورة تشكيلية عن نوعٍ من الوفاق والتصالح المتبادَل، ليتوقفا عن الحركة حتى حضور إيسايف الذي أعطاهما إشارةً تدلُّ على هبوط أيديهما، ووضَعَ بحركاتٍ مستعجلة عصيًّا ضيِّقةً بيضاء على سطح المائدة: ستًّا منها طويلة تعادل المساحة بين سيمتشينكو وتومينا، وأربعًا منها أقصر. ثم دخَّن السيجارة التالية وبدأ أعمال الإنشاء من عصيٍّ طويلة، وقد وضع نهاياتها إلى النقاط الحساسة لدى الرجُل والمرأة الجالسَين، وهي نهايات الأصابع والكتف والصدر بالنسبة إلى المرأة، والجبهة والأنف والخد والأصابع بالنسبة إلى الرجُل. وعند تحقيق المنشأة من العصيِّ كاملة، اتخذَت «التيارات العصبية» القادمة من الرجُل والمرأة طابعًا بصريًّا. بدأت تومينا وسيمتشينكو «إعادتها إلى الحياة». أمسكا العصيَّ بنهايات أصابعهما، ورفعاها وأنزلاها تدريجيًّا وببطء، وقاما بتحريكها إلى اليمين وإلى اليسار، هو إليها وهي إليه. كان ذلك حوارًا صامتًا ودراماتيكيًّا ومتوترًا بالداخل. قطعه إيسايف الذي سحب العصيَّ من أيديهما ورماها، مدمرًا بذلك التوازن والتفاهم المحدودَين اللذين حقَّقهما الرجُل والمرأة.

والآن عبَّرت المرأة والرجُل، تومينا وسيمتشينكو، عن مرحلة المواجَهة الجديدة في العلاقات بينهما، وذلك بأخذ العصيِّ الأربع المتبقية على المائدة، ووضعها بالطول بعضها أمام بعض، وإجراء «المعركة» العنيفة بواسطتها. ضرب بالعصا صليبًا على صليب. تجمع العصوان في واحدةٍ طويلة ورفعاهما على بعضهما بصورةٍ مخيفة. شدَّا العصي. «كتبَا» بواسطتها «كلماتٍ» ما على المائدة. وألقيا بها على المائدة بصوتٍ عالٍ. واستخدماها كمجاديف ﻟ «جدف» سطح المائدة برفق، بمصاحبة أصوات الأمواج والنورس. المرحلة الأخيرة من المواجهة، رفعا العصا بحركةٍ حادة ولوَّحَا بها، وقاما مجددًا ﺑ «المبارزة»، ولكنْ في هذه المرة أقل عنفًا وأخف وأنعم وأكثر لعبًا. ثم قاما بإنشاء هيكلٍ مستطيل من أربع عصي. وضع إيسايف زجاجةً أمام كل شريك؛ زجاجة اللبن لها، والنبيذ الأحمر له. قام بربط الزجاجات بالحبل الذي وضَعَ عليه زجاجة فودكا ثالثة. ثم وضعها على المائدة. سال محتوى الزجاجات الثلاث على سطح الشريط في شكل بركةٍ فوضوية من ثلاثة ألوان.

حان موعد مجموعة أكشن فردية لتومينا. كانت في هذه المرة في منتصف المائدة، وقامت البطلة مجددًا بنفس تصرفات الاستهلال عندما ظهرَت في لقطاتٍ خاطفة. أخرجَت قطعة حلوى القند من الحقيبة وفتحَتها ووضعَتها في فمها، ونظرَت مركزةً إلى الغلاف، ثم ألقَت به إلى داخل الحقيبة. ارتدَت الإيشارب الأبيض الصغير على عنقها. رفعَت المرأة أمامها، وكانت على ظَهْرها صورةُ وجهها. قامت بطِلاء شفتَيها وتابعَت أشباح شركائها التي كانت تمرُّ وراء ظهرها في شبه الظلام المسرحي. أخرجَت المسدَّس الأسود من شنطتها، ووجَّهَته إلى صدغها، ولكنها أبعدَته ووجَّهَته إلى داخل خشبة المسرح. ولكنها فورًا تنازلَت عن فكرة إطلاق النار على ظالِميها. ضمَّت المسدس إلى صدرها مضطربةً وأخفَته مجددًا بداخل الحقيبة.

اجتمع الثلاثة على المائدة مجددًا؛ إلا أنَّ إيسايف تبادَلَ الآن الأماكن والأدوار مع سيمتشينكو، ليجلس بجانب القطاع العرضي الأول أمام الشريكة. ومنذ هذه اللحظة، جرى موضوع العلاقات بين الرجُل والمرأة بينه وبين تومينا، أما سيمتشينكو فقد قام بمهمَّة المشغل الوسيط.

أشعل إيسايف الكبريت، وقرَّب النار من السيجارة. صوت طلقة الرصاص في حقيبة الفتاة. اهتزَّ الرجلان، ونظرا إلى الجانبَين، وتأكَّد أنه ليس هناك أحدٌ تحت المائدة. الفتاة واصلَت وضْعَ المكياج على شفتَيها وكأنَّ شيئًا لم يحدث. ثم رفعَت أحمر الشفاه وتوقفت عن الحركة. نظر الرجلان إليها بتركيز. قام إيسايف من الكرسي قليلًا وقرَّب وجهه إليها. تحمَّلَت نظرته هذه أيضًا. وفجأةً وضع رأسه على المائدة في بِركةِ النبيذ واللبن والمياه، و«جرَّب» محتواها بلسانه. وقد نحا نحوَه تومينا وسيمتشينكو؛ إذْ تكرَّرَت انحناءاتهما و«تجاربهما» عدَّة مرَّات، حتى أعطى إيسايف مظروفًا لشريكته فوق المائدة. وعند فتْحِه عثرَت بداخله على سفينة المحيط الورقية وأوفدَته ﻟ «الملاحة» في «بحر» النبيذ واللبن والفودكا في اتجاه إيسايف. «ضرب» السفينة ﺑ «البروق» الورقية. بدأت العاصفة ﺑ «الغيوم» التي تشكَّلَت من البودرة التي نفخَتها تومينا من علبة البودرة. تمَّ — في الواقع — هنا أداءُ «المشهد البصري» نفسه الذي قدَّمه المسرح الهندسي الروسي لأول مرة في برفورمانس «الرجُل والمرأة» في «بلاتفورما» عام ١٩٩٧م. ولكنْ، في هذه المرة «غرق» سيمتشينكو الجالس في وسط المائدة، وهو يمسك في يدَيه دائرةَ الإنقاذ، عليها اسم السفينة «جلوريا». وبعد أن رشَّ إيسايف تلًّا من الرمل من المظروف الآخَر، ووضعَت تومينا ريشةَ المكياج فيها، سيمتشينكو «ارتفَعَ إلى سطح المياه»، وأعطى إيسايف ملعقةً خشبية ليغرف السوائل من المائدة ويلقي بها على التلِّ الرملي. عطَّلته تومينا عن هذا النشاط في لحظةٍ ما؛ إذْ قادَت طائرةً صغيرة في «السماء» على نهاية إيشاربها الشفَّاف. وعند اقتراب الطائرة منه، أبعَدَها إيسايف ﺑ «ذيلها» إلى ما وراء ظَهره، وواصَلَ العمل بالملعقة، بإلقاء السوائل إلى فمه، بدلًا من إلقائها على التلِّ الرملي. تضايقَت تومينا من سلوكه هذا، وأخرجَت من الحقيبة شيئًا ملفوفًا في المنديل الأبيض. ثم قامت واتجهَت إلى إيسايف وفتحَت المنديل. كانت بداخله موزةٌ. وضعَت المنديل على ظَهْر شريكها بعناية، وفجأةً وبكلِّ قوتها طعنَته بالموزة. سقطَت الملعقة من يدَي إيسايف بسبب المفاجأة. توقَّف «تناوُل الطعام».

حان دور العرض الانفرادي لسيمتشينكو، وهو «مونولوج» الوداع بعد الفراق مع المرأة المعشوقة. كتَبَ رسالة جالسًا على المائدة وقطَّعَها. شدَّ الحبل المؤدي إلى العُلَب على رأسه. تقلَّبَت العلب، لتسقط منها الرمالُ على المائدة. صنَعَ سيمتشينكو «راقصةَ باليه» من قِطَع الرسالة. ثبَّتَها على غطاء الزجاجة العائمة في كأس النبيذ الأحمر. شَربَ ما بداخل الكأس، ومسَكَ راقصةَ الباليه بشفتَيه، وصَعدَ إلى المائدة. ضَغطَ على الكأس بقَدَمه، وحاوَلَ الوصول إلى الأنشوطة المعلَّقة فوق رأسه، ولكنْ في اللحظة الأخيرة لفَّ نفسه بالستار، ليشكِّل بذلك «الشرنقة». اختفَى إيسايف بعد ذلك أيضًا في «الشرنقة». قُبيل الاختفاء، وضَعَ في يد تومينا المظروفَ المثبت على العصا، وبه رسالةٌ سبَقَ لسيمتشينكو أن كتَبَها تحت المطر الرملي.

نظرَت إلى المظروف لمدَّةٍ طويلة، وضمَّته إلى صدرها، ونظرَت إليه تحت الضوء. اتخذَت خطوةً حاسمة لتفتحه، ولكنَّها فجأةً قطعَته وكرمشَته ورَمَته. ظهَرَ حبلٌ مربوط بالعقد بالجزء المظلم بداخل خشبة المسرح. أمسَكَ إيسايف الحبلَ وفوقه أكياسٌ ورقية، دخن سيجارة، وأخرج السكين من جيبه، وقطَعَ الكيس العلوي. نزلَت الرمال منه. بعد ضربة السكين بالحبل سقَطَ إيسايف نفسه والكيس الثاني رأسًا على عقب على «البلانشيت».

حلَّت الموسيقى المرِحة مكانَ الموسيقى القَلِقة. بدأ إيسايف الرقص، وهو يُمسك الكيس في يدَيه. انضمَّ إليه سيمتشينكو الذي استبدل بالبدلة السوداء البنطلونَ الأحمر والطربوش. خرَقَ كيسَ إسايف بخنجر. سقَطَ تيارٌ من النشارة على الأرض، وقاما تحت هذا المطر بحركاتٍ غريبة، وألقى بها، وقفز وتزحلق وسقط. وبعد سقوطه عثر إيسايف على راقصةِ باليه عرائسية أخرى تحت النشارة. علَّقها على الحبل الممتد من مقدمة حذائه. ثم قام بإلقاء النشارة على راقصة الباليه المتَّزنة والمتأرجحة على الحبل، وزحف ببطء إلى ما وراء الكواليس معها راقدًا على ظَهْره.

تضمَّن الختام جزأين. في البداية — كما هو الأمر في الاستهلال — هبطَت الأكتاف ذات البدلة البحرية السوداء ومِعطف البطلة الأحمر. بعد ارتداء المعطف أخرجَت تومينا من جيبها دميةً على هيئة ملَّاح شجاع يرتدي قبعةً بدون حافة. وقفَت بجانب بدلة، وحملَت الملاح إلى وجهها لتصوِّر نفسها في ميزانسين كهذا. بعد ذلك، ثبتَت صورة «بولارويد» على البدلة وابتعدَت إلى داخل خشبة المسرح بحقيبتها.

رقص سيمتشينكو وحرَّك النشارة بالمكنسة مرتديًا الرداء الأحمر. كان ذلك «انقلابًا» آخَر؛ إذْ قام إيسايف بدورِ «عامِل نظافة» في الاستهلال. وفي لحظةٍ ما، حاوَلَ بلا نتيجة الوصولَ بالمكنسة إلى شيءٍ لا نعلمه فوقَ رأسه. ثم بدأ استخدام المكنسة ﻛ «آلةٍ بوقية» تُصدِر أصواتَ النداء الممتدة، وذلك في أوضاعٍ مختلفة تمامًا، أيْ واقفًا وراقدًا وجالسًا.

ساد الظلام على خشبة المسرح لبعض اللحظات. ثم ظهرَت الأيدي التي أشعلَت الثِّقاب والدائرة على قبعة إيسايف. غنَّى الصوت النسوي «أريا كارمن» من أوبرا «بيزيه». خلع إيسايف قبعةً بها الدائرة المشتعلة ووضَعَها على الأرض، حيث تحوَّلَت إلى «شعلة» جلَسَ حولها المؤدُّون الثلاثة. قاموا — لمدةٍ طويلة — بفرز صور «بولارويد» ﻟ «قصة حُب عاطفية» وأحرقوها.

هكذا انتهى هذا العرض برفقة «أريا كارمن» ومنظر الشعلة المنتهية. «لا تحدث النهاية السعيدة (هابي إند) المنتظَرة في الختام، إلا أنَّ الشخصيات اكتسبَت راحةً نفسية.»١٥١ كما لخَّص المعِدُّون والمؤدُّون هذا الوضع.

(١١-٧) «الإوزَّة الخضراء» و«قصَّة أم»

للتوِّ، وبعد العروض الأُولى للمسرح الهندسي الروسي «الكابينة البيضاء»، و«هباء منثورًا» في المهرجانات الأوروبية المختلفة، وفي أثناء جولاتهم الفنية، تلقَّى إيسايف وسيمتشيمكو دعوةً من مسرح تويهاوس في زالتسبورج للقيام بالعرض بالتعاون مع ممثلي الفرقة المحلية. هكذا ظهَرَ العرض «الإوزة الخضراء» المأخوذة عن هزليَّات الكاتب البولندي ك. إ. جالتشينسكي، وعرض آخَر بالمسرح نفسه بعد عامَين، وهو «قصة أم»، مأخوذ عن الكاتب ﻫ. ك. أندرسون. كانت هذه التجربة شائقةً جدًّا في مجال إعداد العروض برُوح مسرح الفنان وجماليات المسرح الهندسي الروسي. ولكنْ في هذه المرة، لم يقُمْ إيسايف وسيمتشينكو بأداء العرض، بل قام به ممثلون محترفون، وقد عُرض عليهم التمثيل الشائع بالنسبة إلى المسرح الهندسي الروسي مع استخدام الأشياء المادية وأساليب الأداء والعرائس، وقد قاموا به باحتراف، محافِظين على مهارات الفن الدرامي، ومثال على ذلك: تلاوة نَص المؤلف بعد ضبطه واختصاره وتركيبه. المسألة الجوهرية هي أنَّ إيسايف وسيمتشينكو ما زالا يدركان النَّص هنا على أنه «شيءٌ مادي» بمثابة الأشياء الملموسة وأساليب الأداء وعناصر الفضاء، إلا أنَّ الممثلين قاموا بتلاوته بأصواتهم.١٥٢

هكذا أكَّد مجيء إيسايف وسيمتشينكو إلى المسرح العادي إمكانية التعايش الخصب لجماليات نوعين — مختلفين على ما يبدو — من الإبداع المسرحي: مسرح الفنان من ناحية، والمسرح الدرامي من ناحيةٍ أخرى (وخاصة مسرح الأوبرا)؛ شأنهما في ذلك شأن زميلَيهما الكبيرَين ر. ويلسون وأ. فراير. إنَّ التجارب المسرحية التي أجراها فنانو المسرح الهندسي الروسي مع الفرقة النمساوية المتواضِعة والصغيرة المكوَّنة من أربعة ممثِّلين من الشباب؛ لا يجوز مقارنتها مع المشروعات العملاقة التي قام بها زميلاهما الكبيران في مسارح الدراما والأوبرا العالمية، ولكنَّها مهمةٌ ومعبِّرة جدًّا، والأهمُّ أنَّ لها أفقَ التطور، وخاصةً بالنسبة إلى الثقافة المسرحية الروسية؛ حيث إنَّ إنجازات واكتشافات نوعِ الإبداع الذي نتناوله هنا (مسرح الفنان) لم يصلْ بعدُ إلى خشبة المسرح الدرامي والأوبرا.

إذن، ما خلاصة تجربة عملِ أساتذة مسرح الفنان من وطننا مع ممثِّلي الدراما النمساويين؟

اقترح المسرح المادةَ الأدبية، وهي نصوص ك. إ. جالتشينسكي المكوَّنة من الهزليات والمقالات التي نشَرَها الكاتب في الأربعينيات والستينيات على صفحات الصحيفة الأدبية البولندية تحت عنوان «المسرح الصغير «الإوزة الخضراء»». قام إيسايف وسيمتشينكو بإعداد ثلاثِ كُتَل. كانت إحداها مخصَّصة لميلاد العالَم الأسطوري: خلق الأرض، وآدم، وحوَّاء، إلخ؛ والأخرى مخصَّصة بناءً على رغبة أحد الممثلين لأداء دور «هاملت» المطلق، والثالثة للنزاع بين أستاذ يخلق الممثلين «المثاليين» في شكلِ العرائس ومدير المسرح.

لم يكُن على إيسايف وسيمتشينكو أن يقوما بإخراج العرض فحسب، بل تصميم الديكور أيضًا. وكانت لهما بعض الخبرة في العمل في مجال السينوجرافيا. (لنذكِّر هنا أنَّ إيسايف استُدعي إلى «نعم – لا» بصفته فنَّانًا، وفي أثناء وجوده بجانب ب. يو. بونيزوفسكي شارَكَ في تأليف موضوعات العروض المختلفة، وإعداد الحلول السينوجرافية. ثم أعدَّ تصميم العروض للمخرِجين الآخرين أيضًا، ومنهم على سبيل المثال أ. موجوتشيه، و«الاقتصاد الطبيعي في شامبالا» ﻟ «أ. شيبينكو» على خشبة مسرح «البيت البلطيقي» عام ١٩٩٩م. وفي هذه الفترة، بدأ عروضه الخاصة في المسرح الهندسي الروسي. وفي كلِّ برفورمانس، وفي عروضهما على وجه الخصوص، لا يجوز الفصل بين التصميم السينوجرافي الفضائي الضوئي والمادي الأسلوبي والأزياء والأقنعة وبين الإخراج).

قد تكون هي المرة الأولى عندما أعدَّ إيسايف وسيمتشينكو النص بجدية. ولقد تمَّ إعداده حتى أصبح ممثِّلو مسرحٍ صغير ما أبطالًا للعرض، وهناك تعاملات ما بينهم وبين المدير. إنهم جسَّدوا أشياء وشخوصًا، وحلموا بشكسبير، وحاولوا أداء بعض موتيفات «هاملت». ولذلك قاموا بتلاوة جمل وكلماتِ تراجيديا شكسبير، فضلًا عن نصوص جاتشينسكي. وقاموا بتلاوة موضوعات «هاملت» التي استلهمها د. شوستاكوفيتش، وكذلك موتيفات مارسن الحداد. ولكنَّ إيقاعات السخرية والهزل كانت سائدةً، وردَّ الجمهور على الأحداث بالضحك، بل حتى الكركرة.

الستارة الشفافة هي أول ما رآه المشاهدون. وقد غطَّت وسط الفضاء المسرحي الذي ظهَرَ بشكلٍ غير واضح بما فيه من العناصر السينوجرافية. ظهَرَ المؤدون الواحد تلوَ الآخَر: ثلاث ممثلات، وممثِّل واحد. في البداية مرَّت الممثلة ذات الشَّعر الأشقر بالستار مرتديةً زيًّا عاديًّا. صوت عالٍ للكعوب. نظرَت إلى ما وراء الستار بفضول، واختفَت هناك. حضَرَ الممثل بعد فاصلٍ قصير مرتديًا أيضًا ملابسَ عادية وليست مسرحية، وهي قميصٌ أبيض وبنطلون بحمَّالات. ثم من ورائه ممثلة أخرى. الأخيرة هذه هي القائمة بدور المدير. مرُّوا عدَّةَ مرَّات، الواحد تلوَ الآخَر، من يسار الستار إلى يمينه، ومن اليمين إلى اليسار إلى وراء الستار. اجتمع الممثلون الأربعة في عمق الفضاء المسرحي، حيث كان عليهم أن يؤدوا عرضهم. نظروا إلى الأشياء المادية الكائنة هناك بارتباكٍ واهتمام، وهي أربعة كراسيَّ غريبة الشكل. تضمَّن الضلع العلوي لظَهْر أحد الكراسي بُوقًا ضخمًا ذا طرَف متَّسع مربع (ثم تحرَّك الطرَف المتَّسع ليتخذ وضعًا طوليًّا). الكرسي الآخَر ذو مقعدٍ عريض وطويل بشكلٍ مفرط. كان الكتاب مطروقًا فيه، وفي الجزء العلوي المرتفِع (قامة الإنسان) من الظَّهر في شكل السُّلَّم، كانت الضلفات تفتح لتكشف صورةَ شكسبير وكأسًا وزجاجةً مالَت من تلقاء نفسها و«ملأت» الكأس. الكرسي الثالث ذو الظَّهر في شكلِ المقصلة. والرابع ذو خزَّان في موضع المقعد.

بعد النظر ولمْسِ هذه الكراسي الغريبة، ابتعد الممثلون وتوقفوا. وفي لحظةٍ ما، ضرب جميعُهُم رُكَبَهم، وصعدوا، وتبادلوا الأماكن، وتوقفوا مجددًا للحظة. وقاموا بعَقْد الصفقة مرةً أخرى وتبادلوا الأماكن حتى جلس كلُّ واحد منهم على الكرسي المخصَّص له.

بعد نهاية أكشن الكراسي اتجهوا إلى المائدة الطويلة. فتح المدير أغطية المائدة الأربعة الواحد تلوَ الآخَر. ما تحته يشبه «التابوت» (موسيقى جنائزية)، وتوجد هناك إكسسوارات الملابس. أخرجوا ما هو ضروري لأداء الدور (القبعة والجاكتة والعصا بالنسبة إلى الرجُل، والجوانتي الأبيض بالنسبة إلى الشقراء، وقِدْر، وبدلة سوداء بالنسبة إلى المدير). عادوا إلى الكراسي، واحتلُّوا مقاعدهم، وبدَءُوا تلاوةَ نصٍّ ما، جميعهم بصوتٍ واحد ولكنْ على انفراد. قام كلُّ واحدٍ منهم بتلاوة ألفاظِ شخصيته، وقام بحركاته وإشاراته الشخصية. العرض الاستهلالي الذي قام به الممثلون أولًا، ثم الشخصيات (مع أربعة «مونولوجات» منفردة) أمام المشاهدين، انتهى بخروج الكراسي من خشبة المسرح وتمزيق الستائر التلِّية (من الأمام والوراء ومن الجانبَين)، وذلك برفقة فالس الفيينا. المدير هو آخِر مَن أنهى رقص الفالس مع الكرسي. وضَعَ الكرسي بجانب الكرسي الآخَر. وفي وسط الظلام السائد، وضع الشمعة المشتعلة بداخل البوق وتفوَّه ﺑ «هاملت»، ثم أطفأ النار التذكارية.

بدأ الموضوع البصري للعرض، الذي قام إيسايف وسيمتشينكو بتأليفه كهيكلٍ مميز للمسرح الهندسي الروسي. أتَت العروسة إلى مائدةٍ طويلة عليها الخيال الأسود للقبعة المنسية (إمَّا أوفيليا، وإمَّا الملكة على ما يبدو). الطرحة غطَّت الرأس والوجه تمامًا وكأنها شرنقة. جلست. وضعَت الفنجان أمامها، وأضافت إليه شيئًا. مالت إلى الفنجان في حركة الطقوس والصلاة، أطبقَت يدَيها المرتديتَين قفَّازًا أبيض، أبعدَت الطرحة (الشرنقة)، كشفَت وجهها، أخذَت الفنجان، رجَّت ما بداخله وشربَت قليلًا، وضعَت الفنجان على المائدة، انحنَت مرةً أخرى في حركةٍ طقوسية ثم انصرفت. ظهَرَ المدير أمام المائدة مع المشتعلة. رشَّ شيئًا من الكمِّ إلى داخل الفنجان الذي تركَته العروسة. شمَّ محتواه واختفى. الملك العجوز (والد هاملت) شَربَ من الفنجان مرتديًا الرداء الأحمر والتاج المائل إلى الجانب. وضَعَ يدَيه على صدره وبطنه مرعوبًا.

يدوِّي موتيف شوستاكوفيتش لهاملت. هاملت يعاني على المائدة أمام خلفيةِ الستار الأحمر كالدم (قامت الممثِّلة بتجسيده هنا). بكى بمرارة وقرَّب فنجان العروسة (أوفيليا وجيرترودا) من الفنجان الذي حدَثَ منه التسمُّم. قام بدمجهما وغطَّاهما بكفِّه وقلبهما، وأسال محتواهما إلى الأرض. كلُّ هذا وهو يتلو نصَّ مونولوج اليأس. ركع على ركبتَيه أمام الستار المعلَّق أمامه وكأنه «العمود» الأزرق. الْتصق بوجهه به. سمع الأصوات الكريهة بالنسبة إليه، وأغلق الجزء الأمامي من خشبة المسرح بالستار، ظهَرَ كلودي وجيرترودا في عمق خشبة المسرح برفقة الموسيقى المسلِّية. لعبَا بالعصا الطويلة أولًا؛ إذْ وقفا على بُعدٍ، أحدهما عن الآخَر، وأمسكا نهايتيها، ورفعاها وأنزلاها وحرَّكاها بطرائقَ مختلفة. أمسكاها بأسنانهما. ضمَّاها إلى صدرهما. اتَّجها كلٌّ منهما إلى الآخَر مع العصا، وحين وجدَت جيرترودا نفسها وراءَ ظَهْر شريكها قصمَت العصا نصفَين بحركةٍ حادة. أجرَيا «مبارزة» بنصفَي العصا. انتهى الصراع بدمج النصفَين مجددًا.

ظهَرَ الممثل الذي حمل فستانًا نسويًّا أصفر على العصا. خلَعَ الجاكتة وارتدى الفستان؛ أدخل يدَيه في الفتحتَين المخصَّصتَين للأكمام القصيرة، وأدخَلَ الرأس في الياقة. خلَعَ الحذاء مرتديًا الأزياءَ النسوية. أخَذَه في يدَيه ونظَرَ إليه ومسَحَه، ضمَّه إلى جبهته و«نطح» الستائر الجانبية بفرديته وكأنها «قرون». ثم ارتدى الجاكتة فوق الفستان بشكلٍ مقلوب ليغادر خشبة المسرح بهذا الشكل.

بدأ المشهد البصري» لمونولوج أوفيليا المجنونة. ظهَرَ الوجه في وسط الظلام، وهو يتلو النَّص ويضحك ويبكي. كان حوض المياه معلَّقًا على الحمَّالات على العنق أمام أوفيليا، وكان مصدرًا للضوء. نظرَت أوفيليا منبهرةً إلى سطح المياه. أنزلَت يدها إلى المياه. غسلَت شفتَيها وخدَّيها وجبهتها وذقنها. ظهَرَ وجهُ هاملت في الجزء الشمالي من خشبة المسرح لبعض اللحظات. أنزلَت المؤدية القائمة بدور أوفيليا الحوض إلى الأرض عند الكلمات الأخيرة لمونولوج هاملت. مسحَت الوجه الرطب بالمنديل، وارتدَت القفَّاز الأبيض. أخذَت العصا لتصبح من الآن فصاعدًا شخصيةً أخرى. رفعَت كرةً ثقيلة من الأرض، واتجهَت إلى الجزء الأيمن من خشبة المسرح، حيث جلس الممثل على كرسي ذي ظَهرٍ عالٍ. سبق له أن ارتدى الفستان النسوي والجاكتة بشكلٍ مقلوب. وضعَت الكرة في يدَيه. صفعَت خدَّه. حضرَت من الخلف. صعدَت عوارض الظَّهر. فتحَت ضلفات خشبة مسرح العرائس، وقالت له شيئًا عبْرَ هذه «النافذة». ردَّ بالإيجاب وهو يهزُّ رأسه. صَعدَ. علَّقَ الكرةَ على الحبل المعلَّق في عمق خشبة مسرح العرائس. أصبحَت الكرة بندولًا، ورأى المشاهدون كوبًا وزجاجةً مائلة إليه على خشبة المسرح.

خلع الجاكتة، ليبقى عليه الفستان. ثم قام الممثل والمدير بتجهيز خشبة المسرح ﻟ «المشهد البصري» التالي. فتحا الستار وأخرجا المائدة وجلسا بجانب القطاع العرضي. سلَّمَ المدير الكتابَ للممثل. قرأ بعضَ الجمل على خلفية الموسيقى المسلِّية، ووضَعَ اللافتات الورقية إلى المائدة. ظهرَت بقية الشخصيات. جلسَت الشخصية ذات التاج على رأسها والسيجارة في فمها في وسط المائدة. أخَذَ الكتاب. نظَرَ إلى قائمة الطعام، إلا أنه بدأ كرمشةَ اللافتات الورقية بدلًا من تناوُل الطعام، شأنه في ذلك شأن الباقين. ثم ألقَوا بها بعضهم إلى بعض. انتهَت «المعركة» بكسر المائدة إلى نصفَين وتحريكها حتى تتحوَّل من المستطيل إلى مربعٍ في وسطه تاج. ارتفَعَ سطح المائدة إلى الأعلى؛ إذْ رفَعَ الممثلون أجزاءها الأربعة بالتتابُع.

ثم جرى «المشهد البصري» الذي تناوَلَ الموضوع الأسطوري الخاص بإغراء الشيطان لآدم وحوَّاء. تحرَّك الممثلون حول المائدة ببطء ليميلوا برءوسهم فوق سطحه الخالي. بعد وقفةٍ من الصمت، اقتربوا من تجويفٍ في المائدة مملوء بالكتب. أنزلوا الرءوس الواحد تلوَ الآخَر إلى «مقبرة». ثم أمسَكَ كلُّ واحد منهم القناع المرسوم على الكارتون أمامه. قناع الشيطان فوق جسم الثعبان. وجه آدم وحواء من ألوان الرسم البدائي لإيسايف وسيمتشينكو. أفواه الممثلين المتحدِّثين ظهرَت عبْرَ الفتحات. وضعَت حواء تفاحًا أخضر في فمها. هبطَت الأقنعة ببطء في لحظةٍ ما. رأى المشاهدون وجوهَ الممثلين. أمسكوا الأقنعة أمامهم الآن في وضعٍ عرضي، وعليها كُتُب الكونِ المفتوحة. إنها الكتب نفسها التي مالوا إليها في بداية «المشهد البصري» عندما أنزلوا رءوسهم إلى تجويفٍ على المائدة. اكتشفوا القَطْع في الصفحات، وغطَّوها بأيديهم. ثم أنزلوا الكتب وتغطَّوا بها وكأنها أوراق التين. وفي هذا الوضع غادروا خشبة المسرح بخطواتٍ صغيرة يصاحبهم ضحكُ الجمهور.

لم تبقَ على خشبة المسرح سوى مؤديةٍ شقراء واحدة، قائمة بدور جيرترودا. ضربَت خشبة الطبيخ المستديرة بالسكينة. قطعَت جزءًا من شَعرها، من رأسها. واصلَت ضرْبَ الخشبة بالسكينة بقوةٍ متزايدة. وفي لحظةٍ ما، قامت مع هاملت، ثم بمفردها، بأكشن بالأجزاء الأربعة من غطاء المائدة (رفعَتها في شكل البيوت من الكوتشينة، وأنزلَتها ورفعَتها وأنزلَتها مجددًا). ثم قامت بدمج نصفَي المائدة ورقدَت على المائدة رأسًا إلى الأسفل بعد أن ارتدَت القفَّاز الأبيض.

ظهرَت أربعةُ ممرَّاتٍ طولية مستطيلة بالداخل. كان كلاودي يتحرك وراءها، وهو يحاول الهروب من هاملت الذي وجَّه المسدس إليه. اقترب هاملت من جيرمترودا الراقدة على المائدة. غطَّاها باللافتات الورقية. عثر على السكينة على الأرض، ونظَرَ إليها لمدَّةٍ طويلة، ليُخفي السكينة والمسدس في جيبه.

انضمَّت جيرترودا إلى الممثلين الثلاث المتبقِّين، ليبدَءُوا التمثيل بالقِطَع الورقية. دفعوها إلى فوق. الستار الشفاف أحدَثَ انطباعًا بأنَّ الأوراق تحلِّق وتدور من تلقاء نفسها في الهواء.

خرج هاملت إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح، وأخرج قِطَع الورقِ واحدة تلوَ الأخرى من عبِّه وفتحها. قرأ جمل النَّص العبثية من وجهة نظره وهو يغرز بنهاية العصا في جمل النص التي تبدو له شائنةً وخرقاء. رد الجمهور ضحكًا على تصرفاته وألفاظه. بعد نهاية التلاوة، عاد بقِطَع الورق إلى الجاكتة مجددًا وقفَزَ ولوَّح بيده وانصرَفَ بسخرية ليعود بعد لحظاتٍ إلى المائدة الممتدة من جديد بالداخل. رفَعَ الستار التل المعلَّق فوق سطح المائدة قليلًا ليضع حافته على الأيدي الممتدة للسيدات الضاحكات، ووقف بجانبهنَّ.

اختفى الممثلون وراء الستار، ليشهد الجمهور الأكشن على سطح المائدة بمشاركة الزجاجة وأربع كُئُوس. تحرَّكَت الزجاجة ببطء لتقترب من الكأس الأولى وتميل إليها. لم تصبَّ فيها شيئًا، بل لمسَتها باحتراسٍ وحميمية. تكرَّر هذا ثلاثَ مرَّات، ثم اقتربَت من حافة المائدة وتوقفَت. الآن انتعشَت الكُئُوس؛ إذْ مالت كلُّ واحدة منها إلى اليمين أولًا ثم إلى اليسار. وذلك برفقة الغناء النسوي الهادئ. تحركَت على المائدة إلى الخلف وإلى الأمام. اقتربَت من بعضها لتقرع ثم تعود إلى مواضعها. وفي هذه اللحظة، ظهرَت وجوه الممثلين من وراء الستار لتسقط الكُئُوس المرعوبة واحدة تلوَ الأخرى، ثم سقطَت الزجاجة. وسُمع صوت الرعد، وساد الظلام على خشبة المسرح. وعند عودة الضوء إلى خشبة المسرح، كانت المائدة خاليةً من أيِّ شيء.

صوتُ أغنية ألمانية تحظَى بشعبية. خرجَت ممثلةٌ مرتديةً الصِّدار الأحمر، وبدأت اللعبَ بالشخوص العرائسية على المائدة، والبشرية في عمق خشبة المسرح. وعندما رفعَت يدَي العروسة في وسط المائدة، اتخذَت إحدى المؤديات بالداخل الوضعَ نفسه والحركةَ نفسها. ثم أحضرَت المؤدية العروسةَ الثانية ووضعَتها في وضعِ مدِّ الأيدي إلى الأمام، ثم الثالثة في موضع هبوط الأيدي إلى الأسفل. قامت بترتيب العرائس لتلعب بها وكأنَّها بلياردو؛ إذْ لفَّت حول المائدة لتحركها عصا البلياردو لتجتمع في الوسط، ثم ضربَتها ضربةً ماهرة واحدة. كرَّر الممثلون الموجودون خلف المائدة لعبةَ البلياردو هذه وكأنَّهم المِرآة؛ إذْ رفعوا أيديهم وسقطوا وقاموا. بعد نهاية الدور، تركَت «المؤدية» الراضية عصا البلياردو. والآن قامت العرائس في يدَيها والممثِّلون في عمقِ خشبة المسرح بأداء «الرقص» على المائدة وفوقها، وذلك بصورةٍ متزامنة.

جاء دور «المَشاهد البصرية» الفردية. قامت «مؤدية العرائس» بأداء المشهد الأول والأقصر منها. وقفَت في مواجهة المشاهِدين مبتسمةً والْتفتَت إلى رأس شخصيةٍ عرائسية أخرى، وقالت لها شيئًا. ثم أخرجَت العروسة وانصرفَت وهي تُمسكها أمامها. يدوِّي موتيف عاطفي «بيسامي موتشو» بين الستائر التلِّية من النواحي الثلاث، وقامت الفتاة المرتدية الشالَ بالأكشن في وسط بلانشيت الدائرة الضوئية. لوَّحت بالشال بسعادة للشاب الدائر في الجزء الأمامي من خشبة المسرح وهو يمسك زهرة، ثم وراء الستار الخلفي، ثم مجددًا في الجزء الأمامي من خشبة المسرح دون أن يتمكن من الاقتراب من الفتاة. مدَّت يدَيها بالقفَّاز الأبيض إليه بلا نتيجة. حركة الاضطراب. أمالت رأسها بحزنٍ. ضمَّت الشال إلى عينَيها لتنصرف دون أن تنتظره. ما زال الفارس يبذل أقصى جهوده للقيام بحركاتِ الدوران.

ثم قام بأداء المونولوجات الفردية. رقَدَ الفارس الذي خلَّفه الحظُّ على مائدةٍ طويلة. عاد الوعي إليه وقام. خلع الجاكتة والقبعة ليبقى مرتديًا قميصًا أبيض وبابيونًا حول رقبته. أمسَكَ الوردة وبدأ إبداعه بانفعال، أي «تلحين» الموسيقى التي استُمعت فوق خشبة المسرح كنغمة «باخ». «سجَّل» الجمل الموسيقية (أو الشطرات الشعرية) التي يبدو أنها وُلدَت في رُوحه على سطح المائدة، مسرعًا بساق الزهرة أولًا ثم بالبرعمة. كتَبَ على طول المائدة بكاملها وهو يتحرك بسرعة وحماسة، ليواصل «الكتابة» في الهواء، ثم على سطح المائدة مجددًا، ولكنْ في هذه المرة راقدًا وزاحفًا من مكان إلى آخر بعد انقلاب المائدة تعامديًّا إلى المشاهدين؛ ليصعد إليها ويتحرك على سطحها ويكتب بالعرض. قام وبدأ كتابة «علامات النوتات» غير المنظورة (وربما ألفاظ النص الشِّعري أو لمسات الريشة الجميلة) على نفسه؛ على الرأس والوجه والعنق والصدر والأيدي والساقَين. كتَبَ على كامل جسمه ليقف على رُكبتَيه ويضع «النقطة الأخيرة»، وهي «لمسة الريشة الأخيرة». سقط مرهَقًا على المائدة رأسًا إلى الأسفل.

حضَرَ شخصان إلى المائدة ببطء. لمسَا سطح المائدة بأصابعهما، وهما يتلُوَان بصوتٍ مسموع السطورَ المكتوبة عليه. ضَحكَا واضطرَبَا. وضَعَ المبدِع على ظَهْره وأجرَيَا عمليةً «جراحية» عليه؛ إذْ فتَحَا القميص وأخرَجَا «القلب» من الداخل. قاما بإلقاء نظراتٍ محبطة إليه ليُلقيا بهذه القطعة الحمراء كالدم إلى ما وراء الستار، قاما بوضع المائدة في شكل المربع، ثم انصرفا. قام المبدِع وارتدى الجاكتة والقبعة متخذًا بذلك شكل المدير، وقرأ السطور المكتوبة غير المنظورة، وذلك برفقة التعليقات الساخرة. ثم ذهَبَ تحت المائدة حيث وُجِد حتى في أثناء المونولوج البصري الفردي التالي، والذي قام بأدائه هاملت برفقة أصوات المسيرة الجنائزية.

قام بتلاوة نَص بطل شكسبير راكعًا على ركبتَيه على المائدة، وهو يتلو نَص الورقة التي أخرجها من الصندوق. قرأ الورقة ثم أشعلها. عاد بالورقة المشتعلة إلى الصندوق. أغلق الغطاء. رفع الصندوق أمامه، ووجهه خلفًا إلى المشاهدين؛ لينظر قناعُ الجمجمة إلى المشاهِدين بعيونه السوداء والمُصدِرة للدُّخان. رفَعَ القناع المُصدِر للدخان أمامه. على الرغم من شكله المُخيف (وموسيقى جنائزية) ضحِكَ الجمهور ردًّا على ذلك. استدار هاملت بظَهْره ببطءٍ ورأى المشاهدون شخصًا عرائسيًّا على نعلِ حذائه. شدَّ هاملت الذراع، ليرفع الشخص يدَيه ويفتح فمه وينطق الكلمات بصوتٍ ذي صأصأة. الْتف الممثل وقال شيئًا مضحِكًا بصوته. قام حتى كسَرَ العروسة بالضغط بها على سطح المائدة. ارتدى هاملت القبعة، وانصرف إلى الداخل ببطء. قناع الجمجمة ما زال على المائدة التي تحوَّلت من المربع إلى المستطيل بدون أيِّ عواملَ خارجية من تلقاء نفسها، وكأنَّ ذلك حدَثَ تحت تأثير قوةٍ غير معروفة. رقَدَ القناع عند الحافة الأمامية ونظَرَ بعيونه الخالية إلى قاعة المشاهدين.

أدار المدير المجموعة المسرحية التي ألَّفها إيسايف وسيمتشينكو، واتَّخذ حسبَ سَيْر الأحداث قرارًا بإغلاق المسرح وتصفية الفرقة. ومن أجل القيام بهذا الأكشن، أحضر كرسيَّ المقصلة ووضعه على غطاء المائدة. أدخل حافة الستار عبْرَ الظَّهر. لفَّ القطعة ووضَعَ «رأس» المحكوم عليه بالإعدام إلى «المقصلة». بعد نُطق الحُكم شدَّ الحبل. سقط سكين المصقلة لتتمَّ عملية «الإعدام». تسمَّر في وضعِ الحزن لِلَحظة والرأس مائل، رمى المدير القبعةَ وبدأ الرقص. انضمَّ إليه الممثلون ووقفوا أزواجًا على جانبَي المائدة مستندين إلى كفوفهم ومائلين برءوسهم. انقطعَت الموسيقى المسلِّية ليسُود الصمت. قام كلُّ واحد منهم بتلاوة الألفاظ النهائية لنصِّه. سلَّمَ المدير الكتابَ الصغير المفتوح للممثِّل الواقف أمامه، الذي نظَرَ إليه بدوره وأعطاه للمؤدية الثالثة التي أعطَته للرابعة، التي لفَّت الصفحات في شكلِ الكعب ووضعَته إلى المائدة بجانب قناع الجمجمة. وعند إبعاد القناع بعد لحظةٍ، بدأ الكعب يتحرك ببطء على المائدة ليصل إلى حافتها ويسقط إلى الأرض. كان المدير قد رقد في هذه اللحظة في عمق «المقبرة» في وسط المائدة تحت غطاءٍ من صوف مخطَّط بعد أن وضع ساقًا فوق الأخرى، وبيتًا صغيرًا على صدره. قام الممثلان القائمان بدور هاملت وأوفيليا بالأكشن العاطفي الأخير، وذلك على خلفية الكورال النسوي. ملآ الحوض في مقعد الكرسي بالمياه، وضعا «معًا» أيدِيَهما في «الحوض» وقرَّباه من وجْهَيهما وعنقَيهما ورأسَيهما، وفي حركة شعائرية كما لو كان يغمرهما ضوءٌ فوق الطبيعي، بدأ الاغتسال بها ثم بشريكها الغيبي. ألقى لمسةً حميمة على شريكته، لترد على ذلك بالطريقة نفسها. أنزلَت رأسها إلى كتفه. مالت إلى المياه باكيةً في موضع المعاناة. ومال هو فوقها. أبعدَته يائسةً ليسيرا في اتجاهَين مختلفَين.

ظهرَت المؤدية الرابعة بالداخل واقفةً بدون حراك. رفعَت يدها اليمنى في القفاز الأبيض ووجَّهَت أشعة الشمس بواسطة المِرآة إلى المشاهدين. وذلك على خلفية الجمل الختامية المرِحة والحزينة لنصِّه. وعند نزول المرآة ساد الظلام على خشبة المسرح.

إنَّ تجربة دمج عناصر شعرية المسرح الهندسي الروسي مع فن الأداء لدى ممثلي الدراما؛ نجحَت إلى حدِّ أنه بعد مرور عامَين استدعى المسرح نفسه إيسايف وسيمتشينكو لإخراج عرضٍ آخَر، تمَّ اختيار حكاية «قصة أم» ﻟ «ﻫ. ك. أندرسون». كان من المنتظَر في البداية أن تقوم العرائس بالتمثيل، ويخاطب العرض المشاهدين الأطفال. لكنَّ هذه الفكرة تغيرَت فيما بعد؛ إذْ خاطب العرض المشاهدين الكبار، وتضمَّن ثلاثة ممثِّلين فقط: الرجل الذي يمثِّل في آن الموت وشجرة الشوك والبستاني، وامرأتَين إحداهما البطلة الدرامية لحكاية أندرسون، وهي الأم التي تبحث عن الطفل الذي أخذه الموت، والأخرى الراوية ومؤدية العرائس المجنونة القريبة من البطلة الرئيسية، والتي توحَّدَت معها في ختام المسرحية في معاناةٍ مشتركة.

في عمق الفضاء المحيط بالجدار من الورق المكرمَش، توجد الأمُّ بجانب المهد (يصوِّره كيسٌ ضخم معلَّق على الحبل). يتقرَّر المصير التعيس لابنها المريض المسكين. حضر الموت (الرجُل المرتدي القبعة السوداء والبنطلون والصِّدار والقميص الأبيض والكرافتة) إلى السُّلَّم في الجزء الأيمن من خشبة المسرح دون أن يستند إلى أيِّ شيء. بعد أن وضع الموتُ الكتابَ (أعمال أندرسون) إلى الأرض، بدأ الموت الصعودَ من درَج السُّلَّم إلى الآخَر. وصَلَ إلى القمة ورفع الوجه المضيء بضوء المكان إلى السماء. بدأ حوارًا غير مسموع مع الإله. أمَرَ الإله بأخذ الرضيع الميت من الأم. أنزل على الحبل عنصرَ الملابس الناقص وهو الحذاء حتى يتسنَّى للموت التوجُّه لتنفيذ الأمر. بعد النزول ارتدى الموت الحذاء وبدأ ضربَ الأرض بالأقدام. سقطَت الأجزاء البيضاء لجسم الشخص العرائسي من السماء إلى الأرض. ترك الموت مكانه على خشبة المسرح للمساعِدة وهي الراوية.

كانت مرتديةً قبعةً ضيِّقة صغيرة غريبة، مما جعلها شبيهةً بفتاةٍ ريفية حمقاء، وعلى ظَهْرها سلَّم مثل السُّلَّم الكائن بالجزء الأيمن من خشبة المسرح ولكنْ أصغر حجمًا، وهو الطريق إلى الإله. تجسَّد الإله في شكل العروسة المربوطة بقمَّة السلَّم أعلى، فوق رأسها. قامت برفع اليد الإلهية وإنزالها بواسطة عصًا طويلة. ثم قامت بجمع أجزاء الشخص العرائسي من الأرض بواسطة الطرَف السفلي للعصا. قامت بتجميع عروسةٍ منها وأخذَتها معها.

ظهر الممثِّل في وسط الساحة المسرحية مرةً أخرى ليمثِّل الموت. ارتدى المعطف؛ إذْ كانت الأحداث تجري في الشتاء وفقًا لموضوع أندرسون. بدأ «الحوار» التشكيلي غير المسموع الصامت مع الأم، ووجهت الأم «مهدها» في الاتجاه نفسه الذي مال إليه الموت. نعسَت لبعض الوقت وتركَت الأيدي الضعيفة «المهدَ» الذي شدَّه الموتُ إليه وضرَبَ الحبل بالسكين ليسقط «المهد». ساد الظلام خشبة المسرح.

عند عودة الضوء رأى المشاهدون الأمَّ الجارية إلى «المهد» على الأرض، وحاولَت رفْعَ الكيس ولمسَته وهزَّته ولفَّته. ألقَت بنفسها في اتجاهاتٍ مختلفة. عادت إلى الورق على الأرض وزحفَت عليه، ونظرَت إلى كلِّ قطعة، ولكنَّ الطفل اختفى.

استدار الموت الذي ما زال طولَ هذه المدة في الجزء الداخلي من خشبة المسرح ظَهرًا إلى الأم، لينطلق الملاك الصغير من قبَّعتها. رفرَفَ بجناحَيه الأسودَين ليطير حول الأم الباكية الواقفة على ركبتَيها، والتي لم تلاحظ روحَ ابنها الملائكية الطائرة. استعدَّت للمغادرة للبحث عنه. فتحَت أزرار فستانها المنزلي ببطء وخلعَته وقلَّبته، وارتدَته مجددًا ليتحول الفستان إلى الزيِّ الخارجي.

ظهرَت الراوية وفي يدها الحقيبة. رأت الملاك الطائر، توقَّفَت. نظرَت إليه باهتمامٍ. لمسَته بإصبعها في حذرٍ. خلعَت الحبال منه. أمسكَت بالجسم المهتزِّ في يدها ونظرَت إليه باهتمام، ثم أوقفَت حركة الجناحَين وأنزلَت «اللعبة» الميتة إلى الأرض. ارتدَت الأزياء الشتوية (قبعة محبوكة ثانية على الرأس والجاكتة الدافئة)، واتجهَت في هذا الشكل وفي يدها الحقيبة إلى الكرسي الذي اخترعَه، وقام بتصميمه فنانو المسرح الهندسي الروسي، الظَّهر ذو قمَّة في شكل المثلث وفتحة مستطيلة في الوسط. مقعدان مختلفان في الشكل. احتلَّ الموت المقعد على اليسار، ووضعَت الراوية الحقيبةَ إلى المقعد على اليمين. رفعَت الغطاء ليتحوَّل الجزء الداخلي من الحقيبة إلى ساحة عرضِ مسرح العرائس. قامت بإنشاء الميزانسين عليها؛ الأم التي تدفع المهد. ربطَت الراوية ثِقلًا بالحبل. توقفَت حركة المهد؛ لأنَّ الأم نامت في هذه اللحظة، وقام الموت بلصق عينَيها بمُضَغ العلكة، وأعطى المقصَّ للراوية حتى تقطع الحبل. انطلَقَ المهد إلى فوق وكأنه لولب. عروسة الطفل «قذفَت نفسها» منه، وأمسكها وأخذها الموت. انفعلَت الراوية بهذا الختام، وكان يبدو أنها جرَت وراءه. وفي هذه اللحظة تحديدًا، حسب فكرة الفنانين، استيقظَت غريزة الأمومة لديها؛ لكنَّ انفعالات الراوية ظهرَت في شكل جنوني وقبيح، وحتى عبثي، وذلك على خلاف الأم الحقيقية الدرامية والعاطفية. في هذا الإطار، بقيَت الراوية مساعِدةً للموت، ونفَّذَت كلَّ أوامره. فعندما لحقَت بالموت الذي خطف الطفل، أوقَفَ الأخير انفعالاتها بمدِّ مجموعةٍ من الكتب إليها (أعمال أندرسون) لتنسى الراوية حماستها فورًا وترتب الكتب على الأرض. حضرَت الأم إلى نقطة الانطلاق في «طريقها»؛ إذْ كانت المسافة بين الكتب «الأحجار» أطول من خطوتها، فقرِّب الموت «الأحجار». ثم أعطى الأم العصا لتشكِّل «الغابة» وهي مطروقةٌ في «الأحجار».

الظلام التام في الفضاء المسرحي يرمز إلى الليل. لمبةٌ ضئيلة واحدة فقط معلَّقة على ذراع الشرائح الضيقة، ولها اتصال بالسُّلم، وهو شيء مادي آخَر أعدَّه الفنان ويشبه قدَمَ حشَرةٍ كبيرة. دوران الشيء المادي باللمبة من السُّلَّم على يد الراوية. ظلال متخيلة «للأشجار» وشبح الموت يزحف على مؤخرة الحذاء. حاولَت الأم أن تلحق به بلا نتيجة.

تعبَت الراوية ورقدَت للنوم على أرض «الغابة». إلا أن الكلب نبح عندما وضعَت رأسها على الوسادة. قامت الراوية ورمَت الوسادة النابحة. رقدَت إلى الأخرى التي أصدرَت بدورها أصواتَ نعيبِ الغراب الزاغ العالي، تسبَّبَت باقي الوسادات أيضًا في مفاجآتٍ متشابهة، وهي مواء القطط والسعال، وضربات المنبه العالية، أو صوت العاصفة الفظيع.

وفي هذا الوقت، قامت الأم بأداء الأكشن في يسار خشبة المسرح. جلسَت على المقعد الخلفي بالعكس؛ بحيث يصبح الظَّهر ذو الفتحة المستطيلة أمامها. مدَّت الفتحة إلى المقعد الأمامي وكأنه نَطْع، وكشطَتها. سقطَت النشارة إلى يدها عبْر الورقة التي تغطِّي «النطع»، والتي اهتزَّت وقفزَت بسبب صوت الموسيقى من الأسفل. رسمَت الأم الدوائر السحرية من النشارة بأصابعها. لمسَتها بكفِّها. حاولَت جمعها وتهدِئة «الرقص» بلا نهاية. ازداد صوتُ الموسيقى أكثرَ فأكثر. انقطعَت الورقة لتصعد نافورة من النشارة القادمة من مكبِّر الصوت الكائن تحت المقعد. «أغلقت» الراوية النافورة بجلوسها عليها.

الأم موجودة في «غابةِ صنوبر مُظلِمة» (اشتعلَت النيران في قمَّة العصا؛ «الأشجار»، كأنها سماءٌ بها نجوم) حيث «وقفَت الشجرة الشائكة» حسب نصِّ أندرسون. بدأ ثنائي البطلة مع الشجرة الشائكة، وحَمَل طابعًا دراميًّا وعاطفيًّا وجنسيًّا معًا. قام بأداء دور الشجرة الشائكة الممثِّل نفسه الذي قام بدور الموت. بدأ الرقص مع الأمِّ التي احتضنَت شريكها وحرَّكَت أصابعها على أوتار «القيثارة» المثبتة على ظَهْرها. «القيثارة» عبارةٌ عن مضربٍ بدون الجزء الأعلى منه. اشتعل إطار المضرب وكأن «الأشواك» النارية أحاطَت به. وبرزَت استعارةٌ مسرحية واضحة، وهي تجسيد نَص أندرسون: «ضمَّته إلى صدرها بشدَّة. دخلَت الأشواك في جسدها بحدَّة.» «الشجرة الشوكية» فتحَت الفستان على ظَهْر الأم. أخرج ما كان تحته من النشارة والأوراق والزهور الجافة. أنزل الأمَ إلى الكرسي ورفَعَ طرَف ثوبها لتظهر بالأسفل بين ساقَيها خشبة المسرح المضاءة بضوءٍ ناصع، و«بلانشيت» مسرح آخَر صغير.

كرَّرَت الراوية موضوعَ الرقص مع الشجرة الشائكة، الذي قام به الممثلون، وذلك في صندوقِ «مسرح الرسوم» الذي أمسكَته بين يدَيها. وبداخل الصندوق شخصٌ عرائسي رجالي، وتتراءى أشواك. غطَّى خشبة المسرح مسطحٌ عليه صورة الأم. قطعَت الأشواكُ هذه الصورةَ والورق. وفقًا لأندرسون («اخضرَّت الشجرة وأزهرَت على الرغم من برودة الليل») الممثل القائم بدور «الشجرة» أخرَجَ من صندوق الراوية لفافةً ورقية، ووضَعَها على «بلانشيت» خشبة مسرح العرائس أمام الأم. فكَّتْها بحذرٍ، عثرَت بداخلها على وردة («ثمار» رقصة الحُب). ظهَرَ شبح الطفل المخطوف على الورقة على الشاشة المضيئة. رسمَت جسده ببطءٍ بواسطة لمساتِ نهاياتِ أصابعها الخفيفة، ولمَسَت الأيدي المرفوعة والرأس وقبَّلته. ثم حدَثَ لقاء الأم مع البحيرة المجمَّدة. حسب الموضوع، بكَت بدون تردُّد حتى تنقلها البحيرة إلى الضفَّة الأخرى إلى العالَم غير المرئي لحديقة الفردوس، حيث من المحتمَل أن توجد رُوح طفلها في دفيئة الموت.

يمثِّل حوض السمك البحيرةَ في العرض. أخرجَته الراوية وملأه الموتُ بالمياه من البرَّاد. النصف الأيمن من الكرسي أصبح «مِشنقة». جلسَت الأم تحتها بدون حراك. كان الحبل معلَّقًا أمام وجهها، وكان يهتزُّ قليلًا بسبب النَّفَس. جلَسَ الموت هنا أيضًا على يسار الكرسي. قرأ كتابًا يتضمَّن نَص أندرسون، وفي الوقت نفسه استخدَمَ الصحيفة لإبعاد الذبابة المزعِجة (تحول الشتاء إلى الصيف)، وهو ينقر رأس الراوية التي قامت بتغسيلِ قدمَي الموت في حوض السمك. وفي لحظةٍ ما تضايقَت الراوية من الضربات، وقامت وردَّت بالضرب ليضربا كلٌّ منهما الآخَر لوقت. ثم أخرجَت الراوية بيضَ الدجاج، ونظَّفَته من القشر، وقطعَته بالمناصَفة. وضعَت حدقاتِ العين «الصفراء» («عيون الأم» حسب نَص أندرسون) في القناع الشفَّاف الذي ظهَرَ فوق ظَهْر الكرسي، ومثل «البحيرة». وفي الوقت نفسه، ارتدَت مؤدِّية دورِ الأم القبَّعة لتسيل «الدموع» التي لا عزاءَ فيها من الزجاجة الراقدة عليها إلى وجهها وعنقها وكامل جسدها. جرى القربان برفقة موسيقى الأسطوانات الرومانسية القديمة بواسطة الدوران على قرصِ الحاكي الواقف تحت المِشنقة حيث جلسَت الأم منذ قليل.

بدأ الجليد يتساقط. رقصَت الأم الفالس الحزين وسط «الأشجار». قام شخص الموت العرائسي بتقليدها بعد أن ربطَته الراوية بحبلِ المشنقة حتى لمسَت أقدام العروسة دائرةَ القرص الأحمر للأسطوانة ودارَت معها. وفي لحظةٍ ما توقَّف الحاكي، وحلَّ الصرير محلَّ الموسيقى. ازداد الصرير وتحوَّل إلى صوتِ العاصفة.

ثم بدأ موتيف «حديقة»، وهو مَسْكن الموت، حيث أقامت أرواحُ الموتى. وقَفَ الموت بالحقيبة في يدَيه أمام الجدران المسلَّط عليه الضوء الأخضر وبه ثلاثُ نوافذَ مستطيلةٍ سوداء، وعلى رأسه قبعتان واحدة فوق الأخرى. سقطَت كرتان من اللون الأحمر منهما. فُتحَت الحقيبة. بداخلها شخصان عرائسيان للأطفال، شبيهان بما رأته الأم منذ وقتٍ مضى على الشاشة المضيئة. شدَّ الموت الخيوط من الكرتَين إلى الجدار والنوافذ السوداء. أنزل نهايات الخيوط إلى النوافذ لتستمر الخيوط في الشدِّ من تلقاء نفسها. بعد فكِّ الكرات بكاملها اتضح أن الخيوط كانت تحيط بالشخوص العرائسية. اقتربَت الشخوصُ من الجدار لتعلَّق تحت النافذة الخاصة بها؛ ظهَرَ في النوافذ وجهَا المؤديتَين القائمتَين بدور الأم في شكلها الجنوني والراوية، عندما خرجَت السيدات من وراء الجدار إلى الأمام، عادت الشخوص العرائسية إلى النوافذ. نظرَت الأم والراوية إلى النوافذ السوداء الفارغة باضطراب. بدأتا التحرُّكَ بجانب الجدار وضرْبَه بالسكين، وعملَ نوافذَ جديدةٍ، ولكنَّها كانت فارغةً أيضًا.

اقترح الموت الاختيار؛ إذْ عرض اثنتَين من عرائس الرضيع بعد أن أمسك العرائس (المصنوعة من مادة الفوم) في كفَّيها، ولعب بهما برفقة الموسيقى وكأنه مشعوذ السيرك. ألقى بهما إلى الأرض، وعندما اتَّجهَت السيدات إلى العروستَين أمسكهما مجددًا في قبضة اليد واقترح عليهنَّ التخمين: أين الطفل؟ ثم أخفى العروستَين تحت القبعتَين ولعب بهما على الأرض وكأنه نصَّاب من الشارع. «تعاطف» في نهاية المطاف وأخرج إحدى العروستَين وتركها على الأرض وغادَرَ ومعه الأخرى. ولكنَّ المرأتَين دعتَا الموت للعودة: هذا ليس ابني. وعرَضَ عليهما الموتُ عروسةً أخرى.

– هذا ليس ابني.

وحينئذٍ وضع الموت نهايات الخيط الأحمر في أيدي المرأتَين اللَّتين لم تقوما بالاختيار. اقتربَت المرأتان إحداهما من الأخرى بواسطة الخيط بعد أن اشتركَت في مصيرٍ واحد إلى الأبد، ووقفتا بجانب السُّلَّم المؤدي إلى السماء؛ إلى الله. بدأتا في الوقت نفسه صعودَ السُّلَّم من الجانبَين ببطء. توقَّفَت الأم المجنونة (الراوية) في الوسط، في حين واصلَت الأم الدرامية حتى النهاية، حيث تسمَّرت في وقفةٍ طويلة وهي تبتهل إلى الله: «لا تسمعني عندما أطالبك بشيء لا يتناسب مع إرادتك الحسنة! لا تسمعني! لا تسمعني!»

هذه الجملة «لا تسمعني!» كان يجب أن تصبح عنوانًا للعرض؛ إذْ جسَّدت جوهر نهاية موضوع أندرسون، كما أدركه ونفَّذه إيسايف وسيمتشينكو، ليكرِّرا بذلك الميزانسين البدائي للحديث بين الموت والله.

انتهى العرض بحركة الجدار الخلفي (جدران الموت والحياة) في اتجاه الجمهور. أُغلقَت النوافذ المستطيلة السوداء، واحدة تلوَ الأخرى. تحوَّل الجدار إلى الستار عندما اقترب من الجمهور. وسرعان ما أصبح الستار شفَّافًا لتظهر وراءه صفوفٌ من عرائس الأطفال المعلَّقة على الخيوط في العالَم الغيبي المتَّشح باللون الأحمر. أخذ الموت هؤلاء الأطفال إلى الجنة.

(١١-٨) Sine Loco

يرجع هذا المشروع إلى عام ٢٠٠١م، وهو عرض الرحلة، كما أطلق إيسايف وسيمتشينكو على هذا النوع من العروض، وجرى في مدينة إيرلانجين الألمانية على أعلى مستوى عدَّة مرَّات. شارك في المشروع الممثلون الرُّوس المقيمون في ألمانيا. المسرح الهندسي الروسي قدَّم لأول مرة عرضًا مأخوذًا عن موضوعٍ أدبي استعاره من الأساطير الإغريقية. رأي المشاهدون لأول مرة برنامجًا تضمَّن شرحَ كلِّ «مشهد بصري» من الموضوع. لنذكُرْ تعليقَ إيسايف للعرض السابق «هباء منثورًا» الذي ورَدَ سابقًا: «هناك موضوع، ولكنني لا أتخيَّل كيف أسرده.» في نهاية المطاف، قام إيسايف وسيمتشينكو، وبخاصة الممثلون، لأول مرة بتمثيل شخصياتٍ محدَّدة لها أصلٌ أسطوري واضح، مع أنهم ما زالوا «مشغلي» الأشياء المادية والأساليب والفضاء، كما هو المعتاد في المسرح الهندسي الروسي، مثل سيمتشينكو ديدال وإيسايف بوسيدون والممثلين الألمان الحليقي الرُّءُوس مينوتافر وتيزيه وإيكار وإحدى الممثلات باسيفيا، والثلاث الأخريات أريادنا في أشكالها المختلفة.

مرَّت الفكرة كالتالي: أردنا أن نعمل شيئًا في أسلوب المتاهة أو عن المتاهة.

ظهر الشكل الفضائي لهذا عندما عثروا على مكانٍ لأداء العرض. اقترح الألمان ثلاثة اختيارات: خشبة المسرح الدرامي العادي، ونادي الشباب، والمصنع المهجور الذي استقرُّوا عليه في نهاية المطاف فقط بسبب أنه كان خاليًا. سمح ذلك بإعداد المسرحية دون تعطيلِ أحد، وبصورة متصلة ليلًا ونهارًا. رأى إيسايف وسيمتشينكو «عمارة» خطِّ الإنتاج المنقسم بالأعمدة إلى ١٤ جزءًا، وقرَّرَا الانتفاع به. اخترعا «المشهد البصري» لكل جزء، وأعدَّا رصيفًا متحركًا للجمهور ليقوما بواسطته ﺑ «الرحلة» وفقًا للموضوع الإغريقي. هكذا قام إيسايف وسيمتشينكو في عرض Sine Loco (عبارةٌ لاتينية تعني «بدون مكان») بتطبيق مبدأ استيعاب العرض الشائع بالنسبة إلى فنِّ المعارض، مما يقتضي التحرك بين المعروضات، وليس المسرح، حيث موقع المشاهدين لا يتغير بالنسبة إلى مُشاهِد.١٥٣

بدأ العرض بالاستهلال المكوَّن من جزأين. أجرى ديدال سيمتشينكو التجارب «ورشة الحِدادة» الخاصة به؛ دوران عجلة الشحذ والشرارة، وانصهار القصدير، ودوران العجلة الحديدية الضخمة والطبلة. رسَمَ ديدار ملامحَ المتاهة التي اخترعها على سطح الشاشة الزجاجية.

تحرَّك رصيف المشاهدين تدريجيًّا إلى اليسار ليقف أمام الكابينة ذات المستويَين، والمخصَّصة لأداء أكشن ميلاد الشخص الذي كان عليه حسب الأسطورة أن يقيم في المتاهة، وهو مينوتافر. دخلَت ديدال باسيفيا (المرتدية التنورة الحمراء، وذات الشَّعر والصدر الملوَّن بالطين الأحمر) إلى الجزء الداخلي من الكابينة. وأخذ إيسايف لفافةَ القصدير في شكل السمكة إلى الدور الثاني إلى قدمَي باسيدون. ألقى باسيدون «مطر» الريش الأبيض على باسيفيا، وذلك عبْرَ القضبان. ثم ضغَطَ بقدمَيه على الأكياس البلاستيك المملوءة بالمياه، وقطعها بيدَيه حتى تتساقط المياه عليها. في نهاية المطاف أنزل «ثمار حبِّهما» إليها، وهي عبارة عن سمكةٍ قبيحة؛ لتبتعد عنها مرعوبةً (ميلاد «طفل الحُب» في شكل السمكة يرجع إلى أن أباه إله البحر. كان ذلك أيضًا امتدادًا لإحدى موتيفات المسرح الهندسي الروسي البصرية من عروض الفناء والسُّلَّم؛ حيث وردت السمكة من الإعلان التجاري القديم ﻟ «كولا دولتس»).

وفي القسم التالي مثل الشاب المرتدي القميص الأبيض والقبعة السوداء مينوتافر. أخوه الكلالة ابن باسيدون تيزيه ارتدى الأزياء نفسها أيضًا. كانت المائدة تفصل بينهما. كان يتصارعان وهما يتحركان بصورةٍ متزامنة، ويكرِّران إشارات وحركات أحدهما للآخَر وكأنهما المرآة. وفي لحظةِ الذروة بدأ رفع المائدة وإنزالها ببطء أولًا، ثم أسرع فأسرع حتى يصعد الشريط المغطِّي المائدةَ ويرفرف. شريط الجدران الشفافة تحرك أيضًا. شاهدَت السيدات الثلاث (أشكال أريادنا) عبْرَ الفتحة المستطيلة في الجدار الخلفي العاصفة الكونية.

بنى إيسايف وسيمتشينكو «معركة كريت وأثينا» بشكلٍ مختلف عن المشهد السابق؛ إذْ جرَت في «العالَم الصغير» على سطح الغطاء الزجاجي للمائدة الذي أنزل ديدال المسحوق الأبيض عليه (ليغطِّي بذلك ظلال المتاهة على الأرض)، ثم ترك مكانه لابنه ليسيل الزيت الأحمر من لون الدم على مدى المحيط. عائلتا أثينا وكريت المعاديتان وقفوا ثلاثةً أمام ثلاثة على جانبَي المائدة، ولعبوا «دور الشطرنج»، وهم يرتدون القبَّعات والأزياء الحمراء. حركوا «قِطعًا» حجرية وعلى رأسها الشموع المشتعلة في اتجاهاتٍ مختلفة حتى أسقط ديدال دلو المياه إلى «ساحة القتال».

ثم أتى المشاهدون إلى قسم مشهد اللقاء الأول بين أريادنا وتيزيه. البطلة المرتدية الطرحة والفستان الأبيض جلسَت على الكرسي وسط المياه وتحت المطر المتساقط قليلًا، وحركَت إصبعها بين صفحات الكتاب. هبط تيزيه إلى المائدة المتأرجِحة. مدَّت أريادنا الكتاب إليه، فجاء الرد بأن وضع إصبعه إلى الشفتَين وهو يدعو إلى الصمت.

ثم ظهرَت الأشكال الثلاثة لأريادنا، الواحد تلوَ الآخر، أمام المشاهدين. جسَّدت المؤديات تشكيليًّا الحالاتِ المختلفةَ للبطل، وذلك عن طريق القيام بالأكشن باللمبات الكهربائية المضيئة في الجزء المتوسط والبعيد والأمامي من فضاء القسم. أريادنا الأُولى حاولَت «كسْرَ» اللمبة المتأرجحة فوقها بصفقات الكفِّ على الكف الحادَّة، والصفقة الأخيرة حقَّقَت الهدف. والثانية سحبَت من اللمبة طبقاتِ المناديل الورقية وعلَّقَتها على الحبل الخفي. أكلَت الثالثة العنب بشهوةٍ، واعتصرَته إلى جبهتها، ووجهها، وشَعرها، وصدرها، وملأت منها الكأس بالعصير، حيث وضعت اللمبة المشتعلة. انتهى المشهد بمرور تيزيه ببطء في الجزء الأمامي من خشبة المسرح بجانب الحبل الساخن الذي قاد عليه سفينةً صغيرة مُصدِرة للدخان وهي تحترق كاملةً.

في المشهد السادس، كشف ديدال سرَّ المتاهة لأريادنا. بدأ هذا الأكشن بأنَّ إيسايف القائم بدور ديدال هنا أعدَّ المائدة لعمل «مكياج» البطلة. ملأ أحد ثقوب المائدة بالمياه، والآخَر بالتربة السوداء، والثالث بالدقيق، حيث كسَرَ بيض الدجاج وقام بخلط المحتوى. ثم وضع وجه الفتاة بالتتابع في المياه، ثم في خليط الدقيق، ثم في التربة السوداء، وذلك مع السيجارة في فمه. قام ديدال بالعمليات التالية، وهي: مدَّ يده عبْرَ الدائرة المشتعلة، ثم أخرَجَ الزجاجة من المائدة، وملأ الكوب بالنبيذ، وأعطاه لأريادنا. سقَت أريادنا حبيبها وأعطَته الدائرة المشتعلة. صَعدَ الجدار الخلفي. ظهرَت المتاهة أمام المُشاهِد، ولكنْ في هذه المرة بكامل حجمها في عمق الفضاء وليست مرسومة. قامت أريادنا بوضع الكوب بالقرب من فم تيزيه، الذي كان طوال الوقت يراقب ما يحدث عبْرَ نافذةٍ موجودة في الجدار الخلفي. وبعد أن ارتوى ظمأ العاشقين، أعطَت له أرياندا الدائرة المشتعلة وانصرفَت إلى الجدار الخلفي. تتكشَّف المتاهة أمام نظَرِ المشاهدين في هذه المرة ليس على شكل رسْمٍ، ولكنْ منبسطة بعرض الفضاء وعمقه. دفَعَ تيزيه الدائرة المشتعلة إلى الأمام بواسطة العصا الحديدية. وقَفَ مينوتافر في وسط المتاهة في وضعِ «الصَّلب». أمسك العارضة الخشبية الطويلة والثقيلة على كتفَيه ويدَيه المفتوحتَين. قطَعَ طريقًا طويلًا في المتاهة واقترب من أخيه، ثم وضَعَ تيزيه الدائرة المشتعلة على العارضة، ثم أنزل مينوتافر إلى الأرض بعناية.

رأى المشاهدون حظيرةَ الحيوانات عند وصولهم إلى القسم التالي. تضمَّن المستوى العلوي مشهد الكواليس القطيفية الخمرية ومؤخرة الحذاء. كان المستوى السفلي مغلقًا بالضلفات. ظهرَت أريادنا بالداخل عندما فتَحَها ديدال. كانت تجلس على المائدة أمام الكتاب المفتوح، وهي تقوم بعمل المكياج «في انتظار الحل». حاولَت «تعديل النص» بواسطة قلم العيون في صفحة الكتاب، وهي تقوم بتلاوة النص. إنها اللحظة الأُولى والوحيدة في العرض الذي تُرافِق فيه ألفاظ الأسطورة باللغة الألمانية الأحداث. قام ديدال بالترجمة الفورية إلى اللغة الروسية. ثم بدأ اللعب بالعرائس في المستوى الثاني. وضَعَ عروسة أريادنا وأمامها تيزيه وأمامهما مصفاة المطبخ ذات الأجنحة في عنق الإبريق بعد أن فتَحَ غطاء العنبر وأنزَلَ العروس التي تمثِّل تيزيه إلى فضاء المستوى الأول. الممثلة القائمة بدور أريادنا نظرَت بابتسامة إلى عروس حبيبها وقامت بتلاوة النص (قصة لقاء باسيفايا وباسيدون). استمرَّت التلاوة حتى بعد أن أغلق ديدال ضلفات المستوى السفلي. وعند فتح الضلفات مجددًا كانت خشبة مسرح المستوى السفلي خاليةً. وضَعَ ديدال علبة الخيار المخلَّل إلى الأرض ووضع بجانبها ١٦ من المخبوزات المجفَّفة (استعارة العطاء الأثيني لمينوتافر، وهو تقديم ٨ شبَّان و۸ فتيات كقربان لمتاهة كريت).

جرى قتل مينوتافر مثل تقطيع السمك بأدواتٍ مطبخية كانت مثبتةً على رأسَي شابَّين وكأنها منقار لطيورٍ خيالية. مال الشابَّان بالتتابُع ثم معًا بالمنقار إلى المائدة ليضربا السمكة حتى قطعاها إلى أجزاء.

انتقل رصيف المشاهدين إلى القسم العاشر. به غرفة مملوءة بالدماء، وقام ديدال بالعبور ببطء عبْرَ مجموعةٍ من الرجال والسيدات الواقفين بدون حراك في مواضعَ مختلفة. تاج ورقي على رأس ديدال، وفي يده باقة الورد الحمراء. ضرب ظهر تيزيه بالباقة، وهو واقف في الفتحة المؤدية إلى القسم الحادي عشر التالي إلى فضاء حلم أريادنا، وهو الحديقة المزدهرة، حيث تمَّ اللقاء الأخير مع حبيبها. اقترب تيزيه وأريادنا أحدهما من الآخَر في بطء وهما يمسكان على العصيِّ دبلتَي الخطوبة في أيديهما. وعند وصولهما أحدهما إلى الآخَر ارتدَت الفتاة دبلةَ الخطوبة، وردًّا على ذلك لمَسَ تيزيه وجهها وعنقها وصدرها بحميمية ثم انصرف ليتركها في موضع الانتظار.

«غادَرَ تيزيه إلى الأبد»، كما علَّق مُعِدُّو العرضِ على هذه اللحظة في البرنامج، وأُطلق على المشهد التالي «نهاية أريادنا»، الذي قدَّم للمشاهدين ثلاثة احتمالات مختلفة لمصير البطلة؛ الاحتمال الأول: راهبة وحيدة نظرَت بحزنها إلى انعكاسها في المرآة وبكَت بدموعٍ سوداء ساقطة إلى الأرض بصوت عالٍ. الاحتمال الثاني: حبيبة ديونيس في مواضع متحرِّرة على سريره. الاحتمال الثالث: أريادنا تشرب كأس السُّم وتُشعل الشاشةَ الورقية بينها وبين المشاهِدين و«تحترق».

أنهى إيكار بالأجنحة الخشبية الضيقة الغريبة على كتفَيه الرحلةَ البصرية في الموضوع الأسطوري للمسرح الهندسي الروسي. صَعدَ إيكار السُّلَّم إلى فوق وقفَزَ إلى الظلام تنفيذًا لإشارة ديدال.

عاد المشاهدون مشيًا على الأقدام في الاتجاه المعاكِس لحركة الرصيف. سنحَت لهم الفرصة لرؤية كل الأقسام مرةً أخرى، والتي تحولَت بدون المؤدين إلى أعمال الإبداع البصري الخالص، أي إنستاليشن مادي معبِّر.

تحدَّث إيسايف وسيمتشينكو عن أداء Sine Loco في ألمانيا: «انتهى العرض عند وصول البلاتفورما إلى النهاية. سقطَت الجدران ورأى المشاهدون الممثِّلين المستعدِّين لتحية الجمهور. بعد العرض، اتخذ كلُّ قسم شكلَ الإنستاليشن من المواد، وخاصةً بعد إجراء بعض التعديلات، وتجهيز إضاءةٍ خاصة قُبيل مرور المشاهدين. عودة المشاهدين مشيًا على الأقدام استغرقَت نحو أربعين دقيقةً لينظروا بتركيز إلى الإنستاليشن.»١٥٤
بعد Sine Loco – على وجه الخصوص – بدأت الصحف الأجنبية في القول بأن: «المسرح الهندسي الروسي هو بوب ويلسون الروسي، إلا أنه رخيص.» ممَّا يعدُّ بمثابة اعتراف من النقاد بالتشابه النوعي بين هاتَين الظاهرتَين المختلفتَين في الفن الحديث على ما يبدو. هذا التقارب يعود إلى كونهما ظاهرتَي الإبداع المسرحي الخاص، وهو مسرح الفنان موضوع هذا الكتاب.

(١١-٩) Plug-and-Play وعروض النوادي الأخرى

تزامنًا مع إعداد العروض التي قاموا بها بنجاح في المهرجانات الدولية، واصَلَ فنانو المسرح الهندسي الروسي البرفورمانس في مباني عددٍ من النوادي المختلفة في إطار برنامج «القناع الذهبي»؛ ومنها Plug-and-Play («قمْ بالتشغيل والْعَبْ») الذي أُعدَّ كما اعترف الفنانون ﻟ «تحسين ظروفهم المعيشية». كل «برفورمانس في النادي» جرى بشكلٍ مختلف قليلًا مع اختلاف الأعمال والملاعيب. جلس المشاهدون حول الموائد بجانب منصة البار، وانتقلوا من مكانٍ إلى آخَر، ورقصوا ودخَّنوا وتناولوا المشروبات. يمكن القول إنَّ إيسايف وسيمتشينكو لم يغيِّرا جوَّ النادي المسائي فحسب، بل على العكس، بل اعتمَدَا عليه. بالإضافة إلى ذلك، اقترحا السلوك المتحرِّر قُبيل البداية، مما يتمثل في التحدث والسير على الأقدام والشرب وعدم إغلاق الهواتف النقَّالة وأجهزة النداء «البيجر».
اعتمد البرفورمانس على المزيج المسلِّي والمتناقِض لاثنَين من الأكشن لا علاقة لأحدهما بالآخَر، ولكنهما أُدِّيا بصورةٍ متزامنة؛ أحد المشاركين رسَمَ صورةً ما على الجدار الخلفي بواسطة الطباشير، وقام الثاني بتجاربَ مختلفة وتلاعباتٍ خيالية ذات طابع غذائي وخيميائي وبدني. وتقول هوامش المسرح الهندسي الروسي: «في أثناء هذا الملهى ما بعد الصناعي، كان الباحثان يتبادلان الأماكن ويُجريان تجاربَ علميةً وهميةً، فضلًا عن عمل لوحةٍ جميلة ضخمة. اختبرا مدى مقاومتهما للنار والضربات؛ إذْ لعبا بالمثقاب والكهرباء، وقاما بالغناء والرقص، وذلك برفقة المسجلات المختارة (دي جي). المُشاهِد إذا كان حظُّه سعيدًا، فلن يتمكن من الرقص فحسب، بل سيحصل على لمبةٍ مسكرة أو طماطم متعفِّنة حتى يلقي بها إلى خشبة المسرح.»١٥٥

وقَفَ رجلان ملتحيان مرتديان القبعة في الجزء من فضاء النادي المخصَّص لبرفورمانس. كان وجهاهما ملوَّنَين وكأنهما مهرِّجان، ودخَّنا السجائر. أمسكا أكواب النبيذ في أيديهما. وضعا المسحوق الأبيض في النبيذ، وقاما بخلطه باللمبة الكهربائية المضيئة أولًا ثم بالملاعق. قرعا كأسَيهما وشربا واحتضَنَ كلٌّ منهما الآخَر. «شخطا» عود الولاعة بكتفيهما وأكمامهما، ثم انفصلا أحدهما عن الآخَر ودارا مرفْرِفَين بالأيدي المشتعلة وكأنها الأجنحة. وفي أثناء القفز ألقَيا بالأكياس البلاستيكية المعلَّقة على الخيوط إلى الأرض، وأخرجا منها الليمون للكوكتيل.

بدأ الرسم، أو استكملا الرسمَ بمعنًى أصحَّ، وذلك بواسطة الطباشير على السطح الأسْوَد للباب الخلفي (إنها «صورُ الرسَّام بريشته» بأسلوبٍ بدائي مبالَغ فيه، بالإضافة إلى موتيفاتٍ بصرية أخرى من الرسم والمسرح الخاص بهما: السمكة والقناع وزجاجة ضخمة عليها ملصق «فارغ» … إلخ). بعد مرور بعض الوقت انفصلا. واصَلَ سيمتشينكو الرسم. بدأ إيسايف تجاربه الغذائية والخيميائية على المائدة التي عليها موقدٌ كهربائي، وكتاب مفتوح ذو شمعٍ في أركانه.

تمهيدًا لطبخ الغذاء، أيْ شيِّ اللحم، قام إيسايف بمجموعةٍ من الأكشن التمهيدية. صَعدَ إلى الكرسيِّ ورفَعَ ساقه إلى غطاء المائدة، وقَطعَ جزءًا من نعالِ الأحذية الواحد ثم الآخَر بواسطة سكينٍ طويل. وضع الأوراق إلى المائدة. رشَّ عليها رملًا من الكيس المعلَّق على صدره. أخذ كتابًا آخر وفتَحَه، عرض الصفحات على المشاهدين وعليها قِطَع الزبدة. أشعَلَ الشمع على الكتاب الأول، ووضع المِشواة على الموقد الكهربائي. اقتطع الزبدة من صفحات الكتاب الثاني. رشَّ الدقيق إلى صفحات الكتاب الأول عبْرَ المصفاة ليُطفئ بذلك الشمع. صَعدَ إلى الكرسي مجدَّدًا، ووضَعَ ساقه بجانب الكتاب حيث الزبدة، ورفَعَ بنطلونه قليلًا. قطَّعَ الطماطم المثبتة على قدمه ليسيل العصير الأحمر إلى الصفحات الزبدية. بدأ تجهيز الكفتة. دقَّ بالمنشاب على صدره، إذ كان اللحم مثبتًا على الجسم تحت الجاكتة. وضعه في الدقيق على صفحات الكتاب الأول، وعصير الطماطم على الكتاب الثاني، ووضعه على المشواة المثيرة للضجيج.

بعد نهاية هذا الجزء من الأكشن، انتقل إلى مائدةٍ أخرى عليها فرن حديدي مدوَّر. فتح الباب. أخرج الطوب الساخن بواسطة السلك. وضع الكَسَرُولة على الطوب الذي يصدُر عنه الدخان. قام بكسر بيض الدجاج بأن أطلق رصاصةً من مسدسه إلى كل بيضة ووضعها في الكَسَرُولة. قام ﺑ «طلقة التأكُّد» الأخيرة بداخل الكَسَرُولة. ثم أسال زجاجتَين من الجعة. وضع البوفتيك المشوي على صفحات الكتاب الزبدية. وضَعَ ما أخرجه من الفرن المشتعل إلى الحلَّة المغلية. أسال اللبن من زجاجاتِ تغذية الأطفال المربوطة على صدره. أسال الدهون المغليَّة من المشواة. أخَذَ قطعةَ بوفتيك أخرى من الكتاب وأعطاه إلى «دي جي» الذي كان طوال هذه الفترة يقوم بتلاعباتٍ ماهرة بالأجهزة الموسيقية، ليخلق بذلك خلفيةَ الإيقاع الصوتي الديناميكي لأكشن قام المؤدون به.

تبادَلَ المؤدون الأماكن. استكمَلَ إيسايف رسم المجموعة التشكيلية. اتجه سيمتشينكو إلى المائدة حيث قام بمجموعة من الأكشن الخاصة به. داس على القبعة بقدمَيه وألقى بها إلى حوض السمك. أخرج منه زجاجة بلاستيك للمياه المعدنية سعتها لتران. ثم خلَعَ الجاكتة ووضعها إلى المائدة بطانتها إلى الأعلى، ووضع الزجاجة وضربها بالسكين عدةَ مرَّات بقوة. سالت المياه في اتجاهاتٍ مختلفة. شرب السوائل المتبقية ووضَعَ الزجاجة المشروخة إلى داخل الجاكتة، ووضَعَ «الشيء المادي» إلى داخل حوض السمك.

ثم بدأ الأكشن بأربعة كراسي استخدمها لطهوِ «وجبة غذاء» على بنطلونه. وضع الدقيق على مقعدِ أحد الكراسي بعد أن وضع على المقعد الثاني طبَقًا به زيت عبَّاد الشمس، وأسال على المقعد الثالث عصيرَ فواكه معلبًا، ووضَعَ على المقعد الرابع تورتة بها شموع مشتعِلة. جلس إلى كلِّ كرسي بالتتابُع (إلى العصير أولًا، ثم إلى الدقيق، ثم الزيت، وأخيرًا التورتة بالشمع). ونتيجةً لذلك تكوَّنَت «مجموعةُ وجبات» معبِّرة على البنطلون، إلا أنها كانت غيرَ قابلةٍ للأكل.

ثم ارتدى الخشبة المقسَّمة على صدره، ووضَعَ عليها كفَّ يده اليسرى المغطاة بالقماش الأسْوَد حتى ظهرَت أصابعه المنشورة. دقَّ المسامير بينها. بعد الانتهاء من التعذيب الذاتي، شدَّ يده «المطروقة» ليُبقي غطاءها الأسود فقط على الخشبة. خلع الصِّدار وارتدى قميصًا أبيض وربطةَ عنق. وضَعَ شريطًا شفافًا تحت ربطة عنق، ثم وضع رنجة إلى ربطة عنق ووضعها مع القميص إلى حلَّة بها سوائل إيسايف المغليَّة. أخرجها بعد لحظةٍ ولفَّها بورقٍ مفضَّض ووضعها داخل الفرن. بدأ عملية «طهو» متشابِهة بالصِّدار الذي لفَّه ووضعه في برطمان النبيذ الأحمر، يسع لثلاثة لترات. خلع الحذاء ووضعه فوق المائدة (بعد طقوس النار)، وقام بإعدامها الشعائري بواسطة الفأس الصغير في منصة الإعدام هذه. البنطلون هو الزيُّ الأخير الذي تعرض لعملية «الطهو»؛ إذْ ألقى به إلى حوض السَّمَك ثم خرج من هناك وأخذ حمَّامًا بواسطة المياه السائلة من زجاجة اللبن الضخمة.

ارتدى الملابس الجافة ثم حلَّ سيمتشينكو محلَّ إيسايف بصفته رسَّامًا، وانتقل الأخير إلى يمين خشبة المسرح، حيث أنزل الشاشة شبه الشفَّافة الأُولى، ثم الثانية الأكثرَ عَرضًا. ظهرَت على الشاشة لقطاتُ مَشاهد أفلامِ «الرقص» بالمسرح الهندسي الروسي.

قام سيمتشينكو أيضًا بالأكشن باللمبات الكهربائية. تدلَّت خمس لمبات مضيئة على الخشبة وكأنها شخصيات «عرضٍ» لعرائس ما (أو بمعنًى أصح العرض الذي تقوم به الأشياء المادية). لفَّ سيمتشينكو إحدى اللمبات بالورق وربطها بالحبل والأربطة. غطَّى الأخرى بالحبر الأسود السائل من فمه. أسال الكحول على الثالثة وأشعلها. دقَّ المسمار في الرابعة. وضَعَ نصف الزجاجة البلاستيك على الخامسة، وأشعل النيران بداخلها.

اختلفَت هذه العمليات الغذائية والخيميائية في كل العروض، وأُضيفت إليها عملياتٌ جديدة، كما سبق أن أشرنا. ومثال ذلك: الاشتعال الذاتي للكتب عند فتحها، أو نزول المياه من الكتب. لنذكُر هنا لعبةَ نزول المايونيز من مقدمة الحذاء المقطوع، أو قطع الجَزر في الكَسَرُولة، المبالَغ فيه بسخرية، والذي كان مثبَّتًا على رأس إيسايف، والشحم بين قدَمي المؤدي الذي خلَعَ البنطلون. في أحد العروض، وضع سيمتشينكو نفسه البرطمانَ الطبي على الجبهة، وفي العرض الآخر كُتِب بواسطة الأصابع المشتعلة، أو اشتعَلَ من تلقاء نفسه، أو انفجرَت كلُّ الأشياء المادية الكائنة على المائدة: علبة الجعة، والشمعة المشتعلة، والفطيرة، والتفاحة، والبرتقالة.

في نهاية العرض، اقترح إيسايف وسيمتشينكو على المشاهِدين أن يجرِّبوا ما أعدَّاه في أثناء البرفورمانس؛ إذ اقترحَا لَحْس اللمبة المسكرة، أو تناول المشروب المؤلف بطريقةٍ خيميائية من أكواب بلاستيك قاما بوضعها في الخواتم في نهايات العصي الطويلة ومداها إلى مَن يرغب. كان هناك عددٌ كافٍ من الراغبين؛ لأنه على الرغم من غرابة العمليات التي قام بها المؤدون، فإنها كانت مثيرةً للثقة والرغبة في المشاركة في لُعبتهم المسلية.

شعَرَ المشاهدون بالمشاركة في الأحداث عندما قام إيسايف وسيمتشينكو بعددٍ من العمليات المطبخية أمامهم دون الدعوة إلى المشاركة. حدَثَ هذا في براغ، في ۲۰۰۳م، في أثناء مهرجان السينوجرافيا العالمي، حيث دعا فنانو المسرح الهندسي الروسي غيرهم من المؤدين من البلاد الأخرى، وقدَّموا فنَّهم في برنامج تفاعلي خاص تحت عنوان «قلب المهرجان». قاموا بتنظيم «بار خيميائي» («له شكل عنيف ومحافظ للبيئة وصناعي وعلمي»).١٥٦ جرَت عروض البرفورمانس القصيرة الخاصة بطهْوِ «المأكولات المختلفة» وراءه وبجانبه على مدى فترةِ عمل المعرض. وفي المساء قاموا بتقديم برفورمانس كبير في هذا الشأن، وهو Plague-and-Play للملاهي، ولكنْ في هذه المرة في فضاء الهيكل المكوَّن من المواسير الحديدية وعدَّة طوابق. بني هذا الهيكل في وسط قاعة براغ للمعارض، وقدَّم مؤدُّو الدول الأخرى الأكشن في باقي أجزائها، وكانت موضوعاتهم مختلفةً عن المسرح الهندسي الروسي.

ومن أجل برفورمانس الطهو المسائي الكبير؛ وضَعَ إيسايف وسيمتشينكو مائدةً طويلة بجوار منصات «البار الخيميائي». جلَسَ سبعة أشخاص إلى جانبٍ منها (الممثلون الشبَّان: ستُّ فتيات، وشابٌّ واحد)، هم «ضيوف» المائدة، وفي بعض اللحظات مساعِدو فناني المسرح الهندسي الروسي والأشياء المادية للأكشن. وعلى الجانب الآخَر من المائدة، جلَسَ المشاهِدون على المقاعد. كان بإمكانهم أيضًا أن يشعروا بأنهم «ضيوف» هذه «المأدبة»، ولكنهم لم يشاركوا فيها بصورةٍ مباشرة، بل تابعوها.

يتلخص البرفورمانس في أن اثنَين من الطباخين، وهما إيسايف وسيمتشينكو، عملا وراء منصة البار الخيميائي، أعدَّا مأكولات مختلفة على كل مستويات الهيكل. حمل الضيوف «الممثلون» هذه المأكولات وقاموا بتوزيعها وترتيبها ووضعها في أطباق الزملاء الجالسين حول المائدة. هكذا تكوَّن «الموضوع» من سلسلةٍ من الأعمال، التي تمَّ إعدادها كالعادة بذكاء ومبالغات وتسلية.

في بداية العرض، رأى المشاهدون ستَّ فتيات وشابًّا واحدًا يجلسون حول المائدة. طبقٌ فارغ أمام كلِّ واحد منهم. أبعد قليلًا، المنصة الطويلة ﻟ «البار الخيميائي»، وراءها أصحاب «البار الخيميائي»: إيسايف، وسيمتشينكو. قاما بتلاوةِ نَص التعليق بالروسية والإنجليزية والألمانية. صبَّ إيسايف في الكُئوس والأكواب والفناجين والأوعية الأخرى النبيذ. شربها سيمتشينكو واحدة تلوَ الأخرى، وهو يسكبها على صدره.

استُدعيت «الضيفة الأولى» من المائدة. تمَّ اصطحابها إلى المستوى الثاني. ضُربَت المائدة بالحبال ووُضع الكرسي عليها لتجلس الضيفة عليه، وقاما ﺑ «غسل» ساقَيها باللبن من الزجاجة. ثم وضَعَا الفتاة إلى الخشبة، وأخرجا المنشار؛ قطَعَا الخشبة قطعةً قطعة لتسقط إلى الحوض بصوت عالٍ. رفعا الحوض إلى مستوى صدر الفتاة لتسقط منه قِطَع الخبز الذي أمسكاه بالطُّول أمام وجه «الضيفة» مع الخشبة، وكأنه «قناع» خاص بها. عند نهاية الأكشن، هبطت «الضيفة» بالحوض إلى المائدة، حيث قامت بترتيب قِطَع الخبز بجانب أطباق زملائها.

وفي ذلك الحين، استدعى «الطبَّاخان» «الضيفةَ الثانية»، واصطحباها إلى ما وراء منصة البار، وجعلاها تضرب الكستليتة. صعد سيمتشينكو إلى قمة الهيكل حيث ألقى بالبيض والدقيق والتوابل والملح إلى قطع اللحم من ارتفاعِ عشرة أمتار. وقف إيسايف ومعه الكسترولة على بُرج آخَر، ووضَعَ الكفتة بها. كان سيمتشينكو يقوم بإرسال الكفتة إليه بواسطة الخشبة على الحبل. عند استواء اللحم، حملَته «الضيفة» إلى المائدة ووضعَته في الأطباق.

مهمَّة المساعدة الثالثة ﻟ «الطباخين» تتمثَّل في صيد الزجاجات الطائرة من منصة البار الخلفية إلى الأمامية؛ نتيجةً لضربات الخشبات المُتأرجِحة. لعبة السيرك لا علاقةَ مباشرة لها بعملية الطبيخ على ما يبدو. إلا أنها تتناسب تمامًا مع أسلوب التهريج وتصرفات «الطباخين». قام سيمتشينكو بلعبة الزجاجات الطائرة. وإيسايف لم يضيِّع وقته، بل واصَلَ طهو الوجبة التالية وراء المنصة الأمامية؛ قطَعَ شيئًا وبشَرَه بالمِبشرة وعصره وملأ الوعاء الزجاجي. حملَت «الضيفة» ما طبخه إلى المائدة؛ إلى زملائها.

المساعِد الرابع «للطباخين» هو شاب، أمسك أرجُل الكرسي على يدَيه المرفوعتَين. سقطت إلى المائدة عناصرُ السَّلَطة التي قطَّعها إيسايف فوق البُرج. الخيار الطويل هو آخِر ما قطَّعَه عندما أمسَكَه بين ساقَيه. ثم نزل ووضَعَ الطبق تحت المائدة حيث قام بجمع مزيج الخضراوات، وهو نتيجة للطهو بهذه الطريقة المبتكَرة بدون لمسات «الطبَّاخ». حمَلَ «الضيف» السَّلَطة إلى مائدة المأدبة ووضعها في الأطباق.

ثم استُدعيَت فتاةٌ مرتدية فستانًا لبنيًّا وقبعةً مستديرة محبوكة. عمل سيمتشينكو معها وارتدَت بمساعدته المريلة، وأجلسها على غطاء المائدة. خلعت القبعة المستديرة، وارتدت خوذةً حديدية للحماية. أعطاها الزجاجة وطلب صبَّ النبيذ في الكوب، حيث وضع نهايات المريلة التي شدَّتها أمامها. قامت بتلاوةِ قصيدة أطفال عن رجُلٍ سكران باللغة الروسية (هي المرة الوحيدة على مدى البرفورمانس التي تحدَّثت فيها «الضيفة»)، وقامت بصيد التفاح الذي كان يسقط بسبب أنَّ المشاهِدين قاموا بناءً على أمرٍ من المؤدِّين بشدِّ الحبال التي كان التفاح مثبتًا عليها.

شاركَت «الضيفة» السادسة في طهي «الحساء» أو «الكوكتيل»، وهي تُسهم في الوقت نفسه في أكشن آخَر يصعُب شرحه؛ السقوط المتكرِّر لصندوقٍ خشبي خالٍ، من ارتفاع عالٍ، إلى المائدة؛ أو تأرجُح الصفائح الحديدية فوق المنصة. ثم ملأت الأطباق به، بواسطة ملعقةٍ كبيرة. وأخيرًا، قامت «الضيفة» السابعة والأخيرة بصعود السُّلَّم إلى قمَّة الهيكل، وفي هذه الأثناء سمحَت لأحد «الطبَّاخين» بخروج السُّكَّر من الكِيس المثبَّت على ظَهْرها بعد قَطْعه. هبطَت من ارتفاع عالٍ معلقةٌ على حبل السيرك وسط صفحات الصحف. وصلَت إلى الأرض ومرَّت بمائدةِ المأدبة، وملأت الأطباق ووزعَت المناديل الورقية وحلَّت مكانها.

لم يبقَ سوى توزيع كُئوس النبيذ، وقام «الطبَّاخان» بذلك، ثم انضمَّا إلى «الضيوف» حول المائدة. انتهى البرفورمانس بذلك. ثم جرَت المأدبة التي جمعَت المؤدِّين والمشاهدين، مما يتناسب مع رُوح وجوهر وتقاليد مهرجان براغ، وهو الاحتفال الدولي الضخم للفن المسرحي من كلِّ بلاد العالَم.

بعد مرور عامٍ واحد، اخترع إيسايف وسيمتشينكو برفورمانس «نوادٍ» آخَر، وهو كباريه كهربائي GLORIA TRANZIT.
قام بأداء أدوار الشخصيات الثلاث إيسايف وسيمتشينكو ودي جي سيزينتسيف، كما هو الوضع في Plague-and-Play؛ قام كلُّ واحد منهم بأداء دورِه بصورةٍ متزامنة، وقدَّم عرضه. لم يجتمعوا معًا في الأكشن العام إلا في النهاية عندما اجتذبوا الجمهور في العرض. إنه أحد أشكال هذا البرفورمانس الذي عُرض في الثامن والعشرين من أبريل ٢٠٠٤م في نادي موسكو، في شارع م. جروزينسكايا، ١٥.

اتخذَت خشبة المسرح المجهزة للعرض الشكلَ التالي: جهاز التحكم عن بُعد وآلات النقر الخاصة بدي جي على يسار المنصة القصيرة. مجموعة من الأكياس البلاستيك المملوءة والفارغة تحت المنصة. على اليمين مكان لسيمتشينكو؛ مائدتان إحداهما بجانب الأخرى وعليهما أشياء مادية مختلفة (البرَّادات وعُلب المايونيز والغلَّاية والشمعة) مخصَّصة لعملياته وحِيَله وأفعاله. رأى المشاهدون ما قام به المؤدي على شاشة خاصة، حيث تمَّ إسقاط اللقطات الكبيرة لمَا حدث على المائدة.

وسط الفضاء وعمقه حيث كانت ثماني لفافاتٍ من ورق التواليت معلَّقة، تم تسليمهما لتصبح تحت تصرُّف إيسايف.

بدأ البرفورمانس بأنْ أجرى مشغل الدي جي اتصالًا هاتفيًّا طويلًا بشخصٍ ما بجانب جهاز التحكم عن بُعد. ثم تلخصَت مهمَّته في توفير الخلفية الموسيقية والإيقاعية لأعمال إيسايف وسيمتشينكو، إلا أنها تضمنَت الخروج لعدَّة مرَّات بالميكروفون إلى الأمام، وتلاوة «رباعيات الوعظ الاثنتي عَشْرة» ﻟ أ. س. بوشكين. طُبعَت الرباعيات على الكروت. استهلَّ سيمتشينكو الأكشن الخاص به باستخدامها؛ إذْ وضعها أمام الكشَّاف، ليتم إسقاط النص المكتوب على الشاشة. حملَت هذه الموازنات اللفظية الشفاهية معنًى متناجيًا، وأُدرجَت في بناء العرض دون أن تحمل معنًى دلاليًّا، وبدرجة ما كانت قِطعًا بصرية، مثل الأشياء المادية والأساليب التي وظَّفها المؤدون.

في البداية، جلس سيمتشينكو إلى ضفَّة «البحيرة» التي مثَّلتها المرأة المدورة الراقدة على المائدة، والعروسة التي انعكسَت في المرآة، لتصبح بذلك أول لقطة تظهر على الشاشة؛ ثم لقطة الخرقة البيضاء، التي وضَعَ سيمتشينكو عبوةَ «لبن أوستانكينسكي» عليها، ثم لعبة الإنسان الآلي المتحرك على المائدة، والقبعة المملوءة بالشمع، وشخصان عرائسيان، ومنبه ضربه المؤدي وكسَرَه. بعد إسقاط جُمَل نَص الكارت التالي إلى الشاشة، رأى المشاهدون المياه المغلية في برطمان زجاجي كبير وضع سيمتشينكو فيه مسحوقًا، وملأه بالدهانات الزرقاء والبنيَّة. لقطة نص «النبوءة الصادقة» («سأل الأسد الحمار: «هل ستنتهي علَّتي؟»/ردَّ الحمار: أيها الملك الأقوى في العالَم! عندما ستموت ستبقى على قيد الحياة كما كنت.» اثنان في اثنَين تساوي أربعة) استهلَّ أكشن سيمتشينكو الجالس على الكرسي. قام باستعراض ربطة على ساقه مكتوب عليها «على قيد الحياة»، وعند سَحْبها كان يمكن أن تقرأ كلمة «ستموت» على الساق. رفع القميص، وكان مكتوبًا على البطن «صديق – عدو»، وعلى اليد «حمار – أسد». بعد الانتهاء من «فن الكتابة على الجسم» واصلوا الحِيَل في الفضاء الصغير من المائدة. أشعل الشموع التي انطفأت في الكوب الزجاجي بعد تلاوة وإسقاطِ نَص «الانتقام» («لسع النخل جبهة الدبِّ/رغب أن ينتقم ممَّن اعتدى على الخلايا/ ماذا بعدُ؟ توفيَت نفسها إذْ فقدَت الزبان/ما مصير مَن يرغب في الانتقام؟ إنه التابوت»). وضَعَ المايونيز والدقيق والكاتشب إلى صفحات الكتاب المفتوح، وقطَعَ وكرمش الصفحات وألقى بها إلى المكعب الزجاجي، ودقَّ المسامير الضخمة في الصفحتَين التاليتَين. ابتعَدَ عن المائدة لبعض الوقت؛ حتى يساعد إيسايف الذي انشغل بملء الأكياس البلاستيك الفارغة بالورق. بعد العودة إلى «المعمل»، أصبح سيمتشينكو مجددًا «مشغلًا» خالقًا ﻟ «عالَم صغير». رتَّب الشخوص العرائسية على المائدة، ووضَعَ الأصغر منها في برطمانات. قطَعَ الأكياس البلاستيك المملوءة بالتربة والمعلَّقة على الحبل لتتساقط التربة على أقدام الشخوص. وفي الختام، أسقط العرائس واحدة تلوَ الأخرى إلى المائدة، وأبعَدَ عُلَب المايونيز ووضَعَ الكارت التالي: «القوة والضعف» («النسر يضرب الصقر والصقر يضرب الإوزَّ/تخاف الأسماك من التمساح/يموت النمر على يد الذئب ويأكل القط الفئران. القوة تتفوق دائمًا على الضَّعف»). جلس إلى الكرسي. والآن رأي المشاهدون وجْهَه ذا الأنف الأحمر ككرة المهرِّج المصنوع من غطاءِ زجاجةِ «كوكا كولا». رأسه مربوط بالحبال. تتأرجح الخيوط المثبتة على الشفتَين وإطار النظَّارة. شفاه سوداء على الجبهة. كارت «القشَّة» أمام الكشَّاف، وبالتالي على الشاشة («أحبَّت القشة القفز منذ صغرها/وحتى عندما كبرَت ما زالت تقفز عبْرَ الإطار/ما النتيجة؟ كسر الساقين/أيها الشاعر! حافظْ على نفسك في الشيخوخة»). وضَعَ سيمتشينكو الورقة الزرقاء على وجهه. قطَعَ بأسنانه الثقوب لعينَيه في الورقة، ووضَعَ فوقها طبقةً من الورق الأبيض. ظهَرَ نَص بطاقة «المصير المشترك» على الشاشة («كانت هناك زهرةٌ جميلة وسط الجودار/نمَت في الربيع وازدهرَت في الصيف/وفي نهاية المطاف ذبلَت في أيام الخريف الغائمة/إنه مصير الكائنات الحية!»). اللقطات الأخيرة والموضوع البصري الأخير ﻟ «العالم الصغير» هو عيون الدجاج: عين واحدة في الكأس، والأخرى على المائدة، وكسَرَ المؤدي الثالثة في الكأس، ووضَعَ الرابعة فوق التفاحة وقشَّرها، ثم قطَعَ العين والتفاحة ودهَنَ الجوهر الأبيض باللون الأحمر.

وفي ذلك الحين، عمل إيسايف في «العالَم الكبير» من فضاء خشبة المسرح. وضَعَ الكوب تحت كيسِ البلاستيك الكبير المملوء بالسوائل؛ أملًا في أن يملأه بشيء. نظرًا إلى عدم تحقيق النتيجة، أخرج الورود البيضاء الملفوفة في الصحيفة، وبدأ مسْحَ الأرض بها؛ حتى تدهورَت الباقة تمامًا وتحوَّلَت إلى سيقان خاليةٍ من الزهور. ثم شدَّ خطوط ورقِ التواليت إلى الأرض من اللفافات الطويلة الثماني المعلَّقة فوق خشبة المسرح. قام بجمع نهاياتها في شكل كرة. وضعها في حوض السمك الزجاجي أعمق وأعمق حتى امتلأ الحوض بكامله بالورق. تغيَّر لون المياه إلى البنفسجي. ثم شدَّ قِطَع القماش الخمس بواسطة أسنانه من تحت الأرض في الجزء الأمامي من خشبة المسرح إلى الداخل، ورقص وسطها. قام بلعبته الأخرى الخاصة؛ إذْ مال فوق حوض السَّمَك وقطَعَ أجزاء «اللسان» الأحمر الخارج من فمه جزءًا بعد جزء، وذلك بواسطة السكين. ثم خفق الرغوة في المياه بواسطة إطار خشبي ونفخ فقاقيع الصابون. قبيل نهاية العرض، رسم مجموعةً تجريدية على الشاشة الشفَّافة، وهو يقف وراءها. ساعَدَه سيمتشينكو في الرسم بعد أن ترك «عالَمَه الصغير». انتهى البرفورمانس بأنَّ المؤدين الثلاثة استهلُّوا الأكشن الأخير بإسقاط نَص «المشاجرة بدون ضرر» («اختلفَت الكلاب بسبب العظم/ولكنها هدأت بعد المشاجرة/واتجهَت إلى منازلها/إذن هناك مشاجرات بدون ضرب»)، وألقَوا بعضهم إلى بعضهم وإلى الجمهور بالأكياس المملوءة بالورق. على الشاشة لقطةٌ تتضمَّن نص البطاقة الثانية عشرة «قانون الطبيعة» («رائحة البنفسج في الهواء/كان الذئب عنيفًا وسط الشعب المتنزه/كان متعطشًا إلى الدماء، والبنفسج لطيفًا/كلُّ واحد له طبيعته الخاصة»).

(١١-١٠) «الزفاف المبتلُّ»

وفي العام نفسه ٢٠٠١م، وهو العام الذي قام إيسايف وسيمتشينكو فيه بأداء Sine Loco في ألمانيا، اخترعا عرضًا آخَر، وهو «الزفاف المبتلُّ». وقاما بعرضه أولًا في الشارع١٥٧ (في حديقة «إرميتاج» في موسكو في أثناء الأولمبياد المسرحي العالمي، وفي بطرسبورج أمام قلعة بتروبافلوفسكايا). ثم قاما بإعداد مسرحية للأماكن المغلقة. دخلَت هذه المسرحية «الزفاف المبتل» ضمن برنامج مهرجان «القناع الذهبي» لعام ٢٠٠٤م، وتمَّ أداؤها على خشبة مسرح مركز ميرخولد». شارك فيها الممثلون، كما هو الأمر في Sine Loco، وتحديدًا: ألكسي ماركوشيف من «ديريفو»، والألمانية باربارا سيفورت (أو يانا تومينا)، وقد قاما بدورَي العريس والعروسة؛ ليقوم إيسايف وسيمتشينكو — كالمعتاد — بدور «المشغِّلَين». ولكنَّهما في هذه المرة تحكَّما في شخصيتَين إنسانيتَين، وليس في الأشياء المادية والإكسسوارات والأساليب. موضوع العرض: العلاقات بين الرجُل والمرأة. وبهذا المعنى استوعب «الزفاف المبتل» كنوعٍ من الاكتمال لعرضِ «هباء منثورًا».

بدأ العرض بأنْ قام إيسايف وسيمتشينكو بمجموعة من الأكشن تمهيدًا لخروج الممثلين إلى خشبة المسرح، وضربَا الأرض بالسوط. كما ضربا المائدة التي عليها الزجاجات، والأكواب التي يصدُر عنها دخان العطور الشرقية. بعد «تقديس» خشبة المسرح والأشياء المادية، بدأ الممثلون الاستعدادات للأحداث. قاد إيسايف شيئًا ماديًّا متحركًا على العصا الطويلة في شكل طرطورٍ ورقي يبلغ طوله ثلاثة أمتار. وعند رفْع الطرطور، ظهرَت العروس بالداخل مرتديةً ملابسَ يوميةً متواضعة؛ الفستان الأسْوَد، وقبعة مستديرة. أخذها إيسايف إلى كابينة بدون جدران ومغلقة بالزجاج من الأمام. لم يظهر وجه الممثلة؛ إذْ كان الزجاج مدهونًا بالدهانات البيضاء. ركز المشاهدون على يدَيها وحركاتها. قامت بإعداد «الإنستاليشن» من قِطَع القماش و«غسَلَتها» في الجردل ومسحَتها وعلَّقَتها على الحبل لتمتدَّ عبْر خشبة المسرح، وتلتفَّ حول العجلة المحرِّكة للحبل، وتعود إلى الكابينة. ثم مسحَت العروس قِطَع الزجاج وظهرَت كاملة. وفي هذا الوقت، قام إيسايف بممارسة «السِّحر» حولها؛ ليقرب الكبريت المشتعل من وجهها. أطفأ النار بواسطة الزجاج. نفَخَ «التلك» إليه عبْر الغليون الأسْوَد. ألقى بالرمل إلى كفَّي العروسة الممتدتَين، لتترك الكابينة وتتَّجه إلى العريس الذي قام سيمتشينكو بتجهيزه.

كلُّ ما عمل معه سيمتشينكو جرى بالتوازي مع أكشن إيسايف إزاء العروسة. ظهَرَ العريس فجأةً من صندوقٍ كبير مغطًّى بأوراق الشجر والقشرة الجافة. أسال سيمتشينكو عليها النبيذ واللبن. بدأت أوراق الشجر تتحرك، ليُخرِج الحبلُ العروسَ العاريَ منها، وعليه ارتداء الضلوع. كان العريس مائلًا ومعلَّقًا على أعقابه، وحليق الرأس، محركًا يدَيه. تحرَّكَ في محاولةِ الوصول إلى وضعِ الوقوف. بعد صعودِ الكوبري، أمسَكَ سيمتشينكو حزام العريس وشدَّه إلى أعلى ووضعه على قدمَيه. بعد التخلص من الحبل، حاوَلَ العريس الفرار من «مشغِّله»، ولكنَّه أمسكه مجددًا وعاد به. وضعه تحت «الدشِّ» الذي سقطت منه النشارة والفاصوليا والأرز وحبوب البنِّ بدلًا من المياه. استكمل العريس الاغتسال في الحوض؛ إذْ ألقى سيمتشينكو بالنشارة على ظَهْره ورأسه وكتفَيه ورقبته ويدَيه، وأزال النشارة بواسطة أعمدة من الدخان الأبيض. ارتدى العريس البدلةَ السوداء فوق جسده العاري. وضَعَ سيمتشينكو الرمل في كفَّي العريس بعد أن قدَّم له النبيذ، ثم أخذه إلى أسفل خشبة المسرح.

حمل العريس والعروس الرملَ في أيديهما ودارا حول الفضاء المسرحي ببطء في اتجاهاتٍ مختلفة دون أن يلتقيا. احتلَّا موضعَ المواجَهة؛ هو على اليسار، وهي على اليمين. ألقَيا بالنشارة والرمل على الكتب. وضَعَ المشغلان في أيديهما العصيَّ، التي كانت مربوطةً بنهايات الحبل الطويل. هذا الحبل الممتدُّ عبْرَ كامل خشبة المسرح؛ ربَطَ بين العريس والعروس المبتعدَين أحدهما عن الآخَر في الأكشن المشترك الأول لهما (يطلق عليه «التوقيع على عَقْد الزواج»). تلخَّص الأكشن في تمثيل ميزانسين شخصَين عرائسيَّين بواسطة مد ورفع وهبوطِ الحبل الذي يجمع بينهما. حافظَت المرأة على التوازن على الحبل برشاقة. وقَفَ الرجُل تحته على الأرض. كان مصنوعًا من صندوق السجائر، وكان يستوعب كإنسانٍ آلي ذي ساقَين مائلَين قليلًا ورأسٍ مربَّع. هبط الإنسان الآلي على رُكبتَيه. سحَبَ الرأس إلى الداخل. افتتح الضُّلَف. ظهرَت العيون المضيئة بداخل الصندوق. توازُن المرأة ودورانها كان نتيجةً لتحرُّك الحبل بمعرفة العريس والعروس بصورةٍ غير متعمَّدة على ما يبدو؛ إذْ إنهما قاما في الوقت نفسه بأكشنَ آخَر بواسطة العصي، وهو خلطُ محتوى الأوعية الواقفة أمامهما.

وفي ذلك الحين، استعدَّ المشغلان للحدث الخاص بأهمِّ قطعةٍ في العرض، وهي حوضٌ مربَّع كبير مملوء بالمياه. قاما بسحبِ قِطَع القماش من سطح المياه واحدةً تلوَ الأخرى، ووضعاها إلى البلانشيت على يسار الحوض وعلى يمينه وأمامه، ورفعا قطعة القماش الأكبر إلى أعلى. بعد نهاية هذا الإجراء، اقتربا من العريس والعروسة. وضعا تفاحةً خضراء أمام كلٍّ منهما، ليضرباها بمطرقةٍ خشبية بقوة. ثم اتجه المؤدون الأربعة (الممثلان والمشغلان) إلى الحوض. وقَفُوا في الأركان. أسقطوا أوعيةَ المياه إلى الحوض. أخذوا المكانس والجواريف، وتحركوا حول الجوانب، وهم يقومون ﺑ «مسح» سطح المياه بصورةٍ شعائرية. وفي الوقت نفسه، جرَت أربعة من أكشن من تلقاء نفسها على جوانب الحوض، وذلك بدون مشاركة المؤدِّين، بل فقط بواسطة الأشياء المادية والأساليب، وشكَّلَت مقاعد الكراسي الأربعة مقاعدَ لها. على أحد الكراسي، هبطت كرةٌ معدنية إلى حوض المياه ببطء، لتصعد وتهبط مجددًا، وسالت المياه منه كلَّ مرةٍ صَعدَ فيها. كتاب مفتوح على كرسي آخَر، به مسامير دخلَت الصفحات نتيجةً لضربات المطرقة التي تسقط من فوق. فستان الزفاف على الكرسي الثالث؛ كرمش الفستان وتمَّ الضغط عليه في المقعد عدةَ مرَّات، بواسطة ماكينة طرد الأتربة التي كانت تسقط عليه. وأخيرًا الكرسي الرابع؛ منشار المعادن في وضعٍ طولي يقطع شيئًا ماديًّا تحرَّك من الأعلى إلى الأسفل. ارتبطَت القطع الأربع بالحبال المثبت بها أدواتُ الحفر الخاصة بالمؤدين.

جلس العريس والعروس القرفصاء على ضفَّتي البركة، ووجَّه كلٌّ منهما إلى الآخَر «سفينة صغيرة» بها صندوق السَّمَك. تحرَّكَت «السفينة الصغيرة» بين العريس والعروس في الاتجاهَين. كان ذلك — في الواقع — الحوار العاطفي الوحيد بينهما على مدى العرض، قدِّم بشكل تشكيلي وإيقاعي. ثم بدأت المرحلة الدرامية للعلاقات والمواقف، وجرَت في وسط الحوض، حيث وضع إيسايف وسيمتشينكو مباشرةً مائدةً بالزجاجات في المياه، وأنزلا فوقها صورةَ المكعَّب الخشبي الكبير. ومنذ هذه اللحظة حتى النهاية، أحاط المكعب بفضاء وجود العريس والعروس وكل ما قاما به من الأكشن فيما بعد. والآن، اتجه كلُّ واحد منهما إلى المائدة ومعه الكرسي الخاص به. كأس النبيذ على كل مقعد. أمالا الكرسيَّين حتى يشربا النبيذ.

اختفى فضاء المكعَّب في الدخان الأبيض لبعض الوقت. وحين انقشع الدخان، ظهَرَ العريس والعروس أمام المشاهدين جالسَين أحدهما أمام الآخَر، وهما ينظران كلٌّ منهما إلى الآخَر بتركيز. ثم قاما بصورةٍ مفاجئة، وتحركا حول المائدة، وتبادلا مكانَيهما ونظرا مجددًا كلٌّ منهما إلى الآخَر. كتب العريس على المائدة الكلمات الموجَّهة إلى العروس بواسطة الطباشير. ألقى بالطباشير إلى المياه عندما وصلَت الجملة إلى حافة المائدة. قامت العروس برشِّ الكلمات المكتوبة بالدقيق، وقام العريس برشِّها بالرمل. أسقطَت العروس زجاجة النبيذ الأحمر ليسيل إلى حافة المائدة حيث جلس العريس. ملأ الكأس وشَربَ ودخَّن. ألقى بالكبريت المشتعِل إلى المائدة. اشتعلَت النيران. خلعَت العروس الجاكتة التي سبق لها أن لبسَتها فوق فستان الزفاف، ووضعَته في المياه وبدأت ضربَ النيران بقوة. سقَطَ العريس بالكرسي إلى البركة نتيجةً لكلِّ ضربة.

بعد إطفاء النيران، خرجَت العروس من البركة، وجلسَت إلى مائدة أخرى (كائنة بالجزء الداخلي من خشبة المسرح خارج الحوض) وبدأت إعداد العجينة. وفي ذلك الحين، حاوَلَ العريس الفرار، ولكنْ لاحَقَه المشغِّلان وضرَبَا ظَهْره بقطعةٍ مبلولة من القماش، وأسقطاه إلى المياه، وأمسكا يدَيه وساقَيه، وعلى الرغم من المقاومة اليائسة وضَعَاه إلى المائدة. نزَعَا ملابسه ليبقى المايوه فقط. أسقطاه على ظَهْره، ووضعا على صدره صندوقًا يحتوي على سمكة. قطعاها بواسطة منشار المعادن، ثم أخرجا السمكة الباردة من الصندوق ووضعاها إلى صدر العريس العاري. أسال إيسايف الشامبانيا على السمكة. وقد صاحَبَ ذلك عزفُ سيمتشينكو مستخدِمًا الهارمونيكا. ثم ترك المشغِّلان العريس منفردًا؛ ليعيش حالته الراهنة.

وقف العريس على قدمَيه بصعوبة، ولَمسَ كتفه ورقبته ويدَيه ورأسه وصدره بالسمكة الزلقة. بعد الانتهاء من التعذيب الذاتي، قام بقطع السمكة وإخراج محتوياتها. استوعَبَ هذا الحدَثَ كتعبيرٍ عن التعذيب الذاتي الذي يعانيه. أدخَلَ أصابعه إلى البطن المفتوح وأخرج النظَّارة، ولبسها متجاهلًا أمعاء السمكة المعلَّقة عليها. قطَّع السمكة أكثرَ فأكثر، وعثر بداخلها على ورقةٍ مكرمشة، وفتَحَها وقرأها ليلفَّ السمكة بها بعد ذلك.

اقتربَت العروس في هذه اللحظة، وهي تمسك بدلةَ زفافٍ بيضاءَ في يدَيها. ارتداها العريس بمساعدتها ونزل من المائدة. أمسك يدها ليسيرا في نهاية المطاف في توافُق ببطء إلى حافة البِركة، حيث انتظرهما إيسايف رافعًا يدَيه. لم يتبيَّن إذا ما كانت هذه الحركة تدلُّ على الترحيب بالعريس والعروس أم للوصول إلى هيكل المكعب الهابط. كان المكعب الآن يسير وراء شخصيتَي العريس والعروس المتمازِجتَين البيضاوَين عبْرَ خشبة المسرح (قام المشغلان بتغييرِ وضع؛ من ضلعٍ إلى آخَر)، وكأنه فضاؤهما العاطفي. غادَرَ العريس والعروس عبْرَ الفتحة بالداخل، وكان هناك عالَم آخَر وراء هذه الفتحة. «اللقطة» البصرية الوحيدة للعرض: العرائس التي تنوب عن العريس والعروس ظهرَت مضيئةً وسط الظلام السائد على خشبة المسرح، وهما الإنسان الآلي وتمثالٌ صغير نسوي أبيض. المكعَّب الهيكلي ابتعَدَ عنهما ببطء، شأنه في ذلك شأن المكعَّب من خشبة المسرح، إلا أنه عرائسيٌّ وصغير.

(١١-١١) Mr. Carmen

إذا كان إيسايف وسيمتشينكو قد قاما في المقام الأول في العروض السابقة، وخاصة برفورمانس النوادي، بدور المشغِّلَين، ففي عملهما الجديد قاما بدور آخَر؛ إذْ قاما هنا بمهمة الممثِّلَين بدرجةٍ أكبر. إلا أنهما في هذه المرة أيضًا لم يحاولا تمثيل شخصيتَي كارمان وخوزي، بل قاما بالنيابة عنهما بأعمالٍ ما في رُوح جماليات المسرح الهندسي الروسي. ومع ذلك، فإن ما قاما به والأهم هو كيف اتخذ طابعًا دراميًّا فعلًا، ممَّا تطلَّب عطاءً عاطفيًّا وروحيًّا تامًّا من المؤدِّين. قاما بأداء موضوع المواجهات والنزاع الذي لا حلَّ له، والتسوية المأساوية للعلاقات بين الرجُل والمرأة؛ خوزي وكارمن. بُني الموضوع على تنوُّع الأكشن الوحيد الذي قام به بصورةٍ متكررة بالتتابع كلٌّ من المؤدِّين. تلخَّص الأكشن في كتابة الأسماء بطرائقَ مختلفة: كتب سيمتشينكو القائم بدور خوزيه «كارمن»، وكتب إيسايف القائم بدور كارمن «خوزيه». كان ذلك «مصارعة الثيران»، حيث اشتبك الاسمان في المواجَهة. جرَت كتابة الأسماء بتوتُّر متزايد.

المكان الضيق في وسط الفضاء المسرحي هو أول ما رآه المشاهدون بعد دخولهم القاعة. جلس شخصان ملتحيان مرتديان القبعة السوداء على كراسيَّ قصيرة بلا مَسْند. كانت قبعة سيمتشينكو — خوزيه — ذات جوانب مسطحة، وقبعة إيسايف — كارمن — ذات جوانب موجَّهة إلى الأعلى. رأساهما وأكتافهما فقط كانت واضحة، لأنَّ الجسم والأقدام كانت مغطَّاة بجدارٍ عليه صورةُ أقدام الرجُل والمرأة (في رُوح من أسلوب الرسم البدائي لمؤسِّسي المسرح الهندسي الروسي).

المراوح هي فقط التي أشارت إلى الأصول «الإسبانية» للشخصيتَين؛ حيث — من حين إلى آخَر — كان يقوم إيسايف وسيمتشينكو بتهوية أنفُسِهما. نظَرَ سيمتشينكو إلى المشاهدين الداخلين والجالسين إلى مقاعدهم عبْرَ نظَّارة مكبِّرة. تأمل إيسايف في الصور. ومن بين المشاهدين والصور، قام باختيار «الشخصيات» المحتمَلة للعرض، والتي يمكنها أن تحمل أسماء أبطال العرض، وفي لحظةٍ ما قاما من الكرسي، ووضعا شمعتَين عاليتَين مشتعلتَين إلى ضلع الجدار، ورفعاه وحملاه إلى الجزء الأمامي من خشبة المسرح. فتحا الجوانب ووضعاها بين الأجزاء الأخرى من الجدار؛ ليمتد نتيجةً لذلك على كامل عرض خشبة المسرح. تكوَّن ما يُشبه الملعب أو الحلبة؛ ومدَّا الحبل حولها. وضَعَا هناك الشخصَين العرائسيَّين لخوزيه وكارمن على بُعد أحدهما عن الآخَر. وفي أثناء العرض، وبالتزامن مع «مصارعة الثيران»، سيمتشينكو (خوزيه) وإيسايف (كارمن)، تحرك الشخصان حول الحلبة إلى الأمام وعلى الجانب وإلى الوراء وإلى الأمام مجددًا، وهكذا بلا نهاية، وكأنهما يطارد كلٌّ منهما الآخَر.

بدأ خوزيه (سيمتشينكو) «مصارعة الثيران». كان يدور في شِبه الظلام، وكتب أحرف كلمة «كارمن» على الأرض بواسطة دُمية الموت. ظهرَت الكلمة نتيجةً لتسليط الضوء عليها. ثم أُلقي ضوء الأشعة إلى إيسايف الجالس بجانب الجدار. كان يتصفح الكتاب، وهو يضع العصا في فنجان القهوة وكأنه محبرة، وكتَبَ كلمة «كارمن»، ووضع خطًّا تحت «خوزيه». قام سيمتشينكو (خوزيه) بقطْعِ هذه الصفحات. جمع إيسايف (كارمن) هذه القطع المقطوعة وهزَّها في علبةٍ خاصة، وأخرجها منها على الخيط. تشكلَت مجددًا كلمة «خوزيه».

ردًّا على ذلك، كتَبَ سيمتشينكو (خوزيه) كلمته «كارمن»، والدهانات تسيل إلى الشريط الأسْوَد من البولي إيثيلين. ثم كتَبَ إيسايف (كارمن) كلمةَ «خوزيه» على الورقة بالشكولاتة المخفوقة بالزبدة من العلبة، ثم قام بجمع أحرُف الشوكولاتة وأكَلَها بسرورٍ؛ أكَلَ حرفَ J أولًا، ثم O وS وE. رسَمَ سيمتشينكو «كارمن» في الهواء بواسطة دخان التبغ الصادر من السيجارة المثبتة على العصا الطويلة. قام منافِسه فورًا بإزالة أحرُف الدخان. وانتقامًا، قام سيمتشينكو بالقضاء على صفحةٍ عليها بواقي «خوزيه» من الشكولاتة، وقطَّعها وكرْمَشها وألقى بها إلى قدَمَي إيسايف (كارمن). ابتعد عن وسط خشبة المسرح، وفتَحَ ورقةً كبيرة ووضعها إلى الأرض، وأخرج وردةً من العلبة، وأمسك الزهرة بين أصابع القدَم الحافي، وكتَبَ الحروف الكبيرة البنفسجية C وA وR وM وE وN على سطح الورقة بواسطة البرعمة.
حلَّ محلَّه إيسايف (كارمن)؛ ليكتب الشكل البصري التالي لكلمة «خوزيه»، وهو يدور في رقصٍ خفيف رشيق، متحركًا حسب خطِّ سيرٍ يُقرأ كأحرُف هذا الاسم. ثم ألقى بالملح من الزجاجة إلى الأرض وكتَبَ مجددًا «خوزيه». قام سيمتشينكو (خوزيه) بأكشن درامي في أسلوب Body Art ردًّا على لعب شريكه غير المتكلف بالرمل والزجاجات والأكواب (وظهرَت في قاعها الأحرُف نفسها J O S E). تسلَّط شعاع الضوء من عمق الفضاء الغارق في الظلام إلى الركبة العارية المربوطة بالرباط المكتوب عليه 1 C. الخيال اختفي. بعد لحظةٍ ظهَرَ المرفق المربوط وعليه العلامة 2 A، ثم اليد: 3 R، ثم الساق العارية: 4 M، والقدَم 5 E، والظَّهر: 6 M. اليد هي آخِر ما رآه المشاهِدون/أخذَت اللفافةَ من الأرض وفتحَتها. كان بداخلها برتقال وأرقام على الورق: 1, 2, 3, 4, 5, 6.

سُمع صوت ضربات المطرقة من الحافة اليمنى لخشبة المسرح؛ إذْ كان إيسايف يصنع الشيء المادي لإنستاليشن: أدخل المسامير الطويلة في خشبةٍ عليها صورة المرأة ولفَّها بالخيط الأحمر بطريقةٍ تجسِّد نفس الكلمة «خوزيه».

بعد سلسلة من المبارزات والمواجهات، اتَّحد إيسايف وسيمتشينكو لأول مرة، ومثَّلا اللقاء العاطفي للشخصيتَين. وقالت يانا تومينا التي شاركَت في إخراج العرض: «أردنا أن نخالف في هذه اللحظة القانون الذي قمنا بإدخاله، ولو لمدَّة خمس دقائق، إذ أردنا صُنع وقفةٍ موسيقية. وحدث تبادُل الأدوار هنا.»١٥٨ وأضافت: «لم يستمرَّ التوافق بينهما طويلًا.» لأنَّ هذا الفاصل العاطفي المفاجئ بالنسبة إلى المُشاهد إلى حدٍّ كبير، قد صنع الجزء الختامي للعرض المملوء بالدرامية والنهاية الحزينة التي لا مفرَّ منها.

كان سيمتشينكو يقوم بتجسيد حركة شخصيته على الجدار بواسطة ساقَي الجندي العرائسي. انضمَّ إليه إيسايف وحرَّك ساقَي المرأة. ثم أصبحَت علاقتهما أكثرَ هزلًا. اقتربَت ساقه من ساقها، وتبادَلَا الأماكن، وتأرجَحا وابتعدا أحدهما عن الآخَر ثم اقتربا مجددًا. أخذ سيمتشينكو (خوزيه) ساق المرأة. قطع بأسنانه كعبَ الحذاء وملأ حذاء الجندي من ساق المرأة وكأنه زجاجة، وحمله إلى إيسايف (كارمن) وأعطاه اللانشون على العصا. استمرَّ التحرك العاطفي لساقَي الرجُل والمرأة على الجدار في وِفاق وعلامات الحميمية إلى أن ألقى إيسايف بحذائه وبدأ بكلِّ قواه في النفخ في لعبة الغليون. ازدادت قوة الأصوات العالية. لم يصدرها البوقُ الآن، بل أتَت من كل مكان؛ من الأعلى ومن الجانبَين، وحتى نفخ إيسايف من الزجاجة. تحوَّلَت إلى إشارة مجموعةٍ من الجنود الجُدد، وتبادَلَت بقرع الطبل الذي خرَجَ سيمتشينكو برفقته إلى وسط خشبة المسرح. رفرَفَ بعلمَين من اللون الأبيض وكأنه يعمل إشارات المراكب، وكتَبَ في الهواء: «كارمن». استُوعِبَت الكلمة هنا كإشارةٍ يائسة للأمل الأخير لمَن مصيره الموت: «أنقذوا أرواحنا.» وعند هبوط العلمَين إلى الأسفل، «غرزَت» مقابضهما في الصدر والبطن.

واصَلَ إيسايف السلسلة النهائية من المواجهة بين الأسماء التي بدأها سيمتشينكو. دعا شريكه بصورةٍ درامية إلى حبيبته كارمن، ليردَّ على ذلك بتمثيلٍ يتسم بسخرية: تجرَّع نبيذًا من الزجاجة ورشَّه إلى الهواء ليشكِّل الرشاش المضيء بصورةٍ خاصة كلمةَ «خوزيه» مجددًا. أفرغ سيمتشينكو زجاجته في طاسة. وضَعَ قطعة القماش في النبيذ، وغسَلَ الأرض حتى شكَّلَت الآثار المبلولة الأحرُفَ c وa وr وm وe وn. بعد كتابة الاسم الذي عذَّب رُوحه، ضمَّ قطعة القماش إلى صدره ووجْهِه ورأسِه، ليسيل رذاذ الماء على جسده وكأنها سيولُ الدموع.

رقد إيسايف إلى «الأحرف» المبلولة ومسحها، وهو يزحف، ويتأرجح، ويدور؛ ونتيجةً لهذه الحركات تحوَّلَت كلمة «كارمن» في لحظةٍ ما إلى «خوزيه»، لتختفي عندما جفَّت الأرض.

ردُّ فعل خوزيه (سيمتشينكو) اليائس كان حاسمًا وعنيفًا؛ رسَمَ القلب بالطباشير الأحمر على السبورة السوداء، وضرَبَه بالخنجر وخربَشَ «كارمن»، التي سرعان ما أصبحَت موضوعَ هجوم إيسايف. وضرَبَ صورة القلب بالخنجر أيضًا. ثم سحَبَ الخشبة من يدَي سيمتشينكو وقطعها بمنشار المعادن. ضرَبَ بالخنجر مجددًا وقطع بالمنشار مجددًا. سقطَت النشارة من الأعلى لتكتب كلمة «خوزيه» لآخِر مرة على الأرض.

جلس سيمتشينكو بجانب الجدار؛ ليكتب «كارمن» للمرة الأخيرة أيضًا. عصَرَ برتقالة في كوب، وابتلَّ القلم، وبدأ كتابةَ الأحرُف. سقَطَ القلم من يدَيه وبدأ يتحرك بصورةٍ خيالية على الورقة بسرعةٍ متزايدة. ولم يبقَ له سوى أن يتابع في دهشةٍ «رقصته».

جاءت اللحظة التي الْتقى فيها إيسايف وسيمتشينكو في الفضاء المسرحي للمرة الثانية، وذلك بعد فاصلِ العواطف. ولكنْ على خلاف التوافق العاطفي للِّقاء السابق، كانت تلك مواجهةً لا من أجل الحياة؛ بل الموت. دارا على خشبة المسرح مهدِّدَين أحدهما الآخَر بالسكين، وهما يتبادلان الأماكن، وهما على الاستعداد للضربات الحاسمة حتى الموت دون أن يقوما بها. ثم ابتعد كلٌّ منهما عن الآخَر وأنهيَا الموضوعات الدرامية الشخصية بمفردهما بالمونولوجات التشكيلية عن اليأس وخيبة الأمل.

أولًا: العرض الشخصي النهائي لإيسايف (كارمن). جلس في وسط الجدار. حاوَلَ الكتابة بلا نتيجة؛ إذْ لم يتحرك القلم على الورقة. خلَعَ القبعة (لأول مرة في أثناء العرض)، ليظهر رأسه المدهون باللون الأحمر الساطع. أخرَجَ حلقةَ الغجر من العلبة وثبَّتها على أذنه. وضَعَ أحمر الشفاه وهو ينظُر في المرآة. وهكذا أعطى لوجهه الملتحي ملامحَ البطلة التي يمثِّلها، إلا أنها في هذه المرة، كانت كلُّ هذه الأعمال خالية من نصيبها من السخرية في كل لحظات العرض، وعلى العكس، اتسمَت بقضاءٍ درامي محتوم. وضَعَ الوردة الحمراء إلى الورقة وقطَعَ البرعمة إلى أجزاءٍ صغيرة، وحوَّل الزهرة إلى «تبغ» (أي قام بالعملية الشبيهة لمَا كانت تقوم به البطلة يوميًّا في المصنع، حسب ميريميه). لفَّ السيجارة ودخَّن. سعل لمدَّةٍ طويلة بسبب دخان «التبغ» المصنوع من أوراق الوردة. انسكبَت الدموع من عيون الغجرية الملتحية بسبب السعال، أو لسبب آخَر أهمَّ من ذلك.

حان دور المونولوج الختامي لسيمتشينكو (خوزيه). وقف في وسط خشبة المسرح، وأمسك نهاية الحبل الممتد من الخنجر في الجدار الأيمن بحدَّة إلى الخارج. أدخَلَ الخاتم في الحبل، وبدأ الخاتم في الحركة من تلقاءِ نفسه في اتجاه موسَى الخنجر. اقترب منه وأدخل نفسه عليه، ثم بدأ الخنجر «وعليه الخاتم» في الحركة على الحبل إلى وسط خشبة المسرح في اتجاه سيمتشينكو (خوزيه). دخل بصورةٍ عابرة في قلبه، ثم واصَلَ الحركة إلى اليمين برفقة الشريط الأحمر للدم المأخوذ من الصدر.

انتهى العرض بالختام العرائسي. رقد إيسايف وسيمتشينكو على الأرض مدخنَين السجائر، وهم يربطان العرائس الخشبية لخوزيه وكارمن ببكرتَي الخيوط الحمراء اللتين كانتا تقتربان إحداهما من الأخرى (وهي العرائس نفسها التي كانت تطارد بعضها بعضًا في أثناء العرض). توقَّف المشاهدون في توتُّر منتظِرين ماذا سيحدث: هل سيلتقيان في نهاية المطاف؟ إلا أنَّه، وعند اقترابهما أحدهما من الآخَر، فإنهما لم يندمجا، بل مرَّ كلٌّ منهما بالآخَر. وحسب صيغة مؤسِّسي المسرح؛ فإنهما «ربما على هذا النحو لن يلتقيا أبدًا».١٥٩
أُعدَّ عرض Mr. Carmen بناءً على طلب مهرجان العرائس الدولي، وعُرض لأول مرة في نوفمبر ٢٠٠٣م، في مسرح «بودريير» بمدينة نيوشاتيل السويسرية، ثم عُرض في باريس، حيث اهتمَّ المشاهدون الفرنسيون بالصيغة المسرحية غير العادية إلى هذا الحدِّ لعملهم الكلاسيكي، والتي رُويت بالوسائط التشكيلية لمسرح الفنان الروسي. وفي الحادي عشر من مايو ٢٠٠٤م، قدِّم العرض في متحف ف. م. دوستويفسكي في سانت بطرسبورج. وفي خريف ٢٠٠٤م، قدِّم في موسكو، في إطار مهرجان NET؛ وفي ربيع ٢٠٠٥م، في مهرجان «القناع الذهبي».
١  يتذكَّر الفنان قائلًا: «لقد اكتسبَت الفكرة السينوجرافية شكلًا واضحًا، عندما رأيت المسودات الأولى للمؤلف الموسيقي. لقد حكى لويدجي نونو، وإن شئنا الدقة، رسم للمخرِج لوبيموف ولي مضمونَ الموسيقى وموضوعها، وكذلك تطوُّر مفهومِ عرضه المسرحي. كان الأمر المميِّز له يتلخَّص في بناء الموسيقى ورسْمِها، وتحديدِ مغزى المعالجات التشكيلية والتحولات المكانية. وفي الحقيقة برزَت أوبراته أمام الفنان كبديلٍ؛ إمَّا تصميم خشبة المسرح، وإمَّا البحث عن معادِل تشكيلي للموسيقى. أظنُّ أنه لا داعيَ لأنْ أقول إنني اخترتُ الحل الثاني.»
Al Gran Sole Carico D’amore. Milano, 1974. P. 53.
٢  بيمن: بطريرك موسكو، وسائر روسيا منذ عام ١٩٧١م. (المترجم)
٣  المقصود بطرس الأكبر (١٦٧٢–١٧٢٥م): قيصر روسيا منذ ١٦٨٢م، أول إمبراطور لروسيا منذ عام ۱۷۲۱م، مؤسِّس روسيا الحديثة. (المترجم)
٤  ت. سيلفينسكايا، دانييل ليدر، مجلة تياتر (المسرح)، ١٩٧٤م، العدد رقم ۷، ص٦٥.
٥  بريبباد: مدينة في أوكرانيا تقع بالقرب من مدينة تشيرنوبل التي وقَعَ فيها انفجارُ المُفاعِل النووي وقد أُضيرَت بشدَّة من جرَّاء هذا الانفجار. (المترجم)
٦  على الرغم من التقدير الرفيع الذي أبداه ل. خايفيتس لمعالجة الفنان؛ فقد اعترف مع ذلك «بأنه لم يستطِع أن يقود المسرحيةَ نفسها … إلى المستوى الذي قدَّمها به دانييل دانيلوفيتش لعددٍ من الأسباب. لم أضَعْ رسم المسرحية، وعلى الأخصِّ امتلاؤها الداخلي، في داخل الرسم الصارم والضخم للفضاء، وكذلك بدَت لي المهامُّ الرئيسية خارج السيطرة …» ل. خايفيتس، عن أ. أ. ليدر، مسودة، أرشيف مؤلف الكتاب.
٧  د. ليدر، تأمُّلات فنَّان، مجلة فناني المسرح والسينما السوفيت، العدد رقم ٧٩، جمع وتصنيف: ف. ن. كوليشوف، موسكو، ۱۹۸۱م، ص١٩٥ و۱۹۸.
٨  م. زخاروف، تماسٌّ مع المكان، الفنان وخشبة المسرح، مجموعة جمْع وتصنيف ف. ن. كولشيوف. موسكو، ۱۹۸۸م، ص۱۸.
٩  هذا العمل مأخوذٌ عن رواية دستويفسكي الشهيرة «المقامر» (١٨٦٦م). (المترجم)
١٠  تشيتشيكوف: بطل رواية «الأنفُس الميتة» (١٨٤٢م) للكاتب الروسي نيكولاي جوجول (۱۸۰۹–١٨٥٢م). (المترجم)
١١  كوروبتشيك: أحد أبطال «الأنفُس الميتة» لجوجول. (المترجم)
١٢  العجلة الحمراء: رواية ملحمية للكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين (۱۹۱۸–۲۰۰۸م) يحكي فيها تاريخ روسيا. (المترجم)
١٣  الاستشهاد من مخطوطة: آلبرت بوروف، عن سيرجي بارخين، أرشيف مؤلف الكتاب.
١٤  بييرو ديلا فرانشيسكا Piero Della Francesca (نحو: ١٤٢٠–١٤٩٢م) رسَّام إيطالي يمثِّل عصر النهضة المبكِّر، تتميز أعماله بالضخامة والأبَّهة ودقَّة الشكل والنِّسب والوضوح العقلاني في بناء المنظور. له عدد من البحوث في الرياضيات. (المترجم)
١٥  المرجع السابق.
١٦  ف. كوليشوف، سيرجي بارخين. فنَّانو المسرح والسينما والسوفيت، العدد رقم ٧٥، موسكو، ۱۹۷۷م، ص٤٦.
١٧  الميدوزا: إحدى أخواتٍ ثلاث في الميثولوجيا الإغريقية مكسوَّات الرأسِ بالأفاعي بدلًا من الشَّعر كل مَن ينظر إليهنَّ يتحول إلى حجر. (المترجم)
١٨  من محاورات مؤلف الكتاب مع س. بارخين، ۱۹۸۰م، مخطوط.
١٩  من محاوراتِ مؤلف الكتاب مع س. بارخين، ٣١ / ١٠ / ٢٠٠٥م، مخطوط، أرشيف مؤلف الكتاب.
٢٠  المرجع السابق.
٢١  جوجوتشا، جوشا، جوجا: أسماء التدليل لجيورجي. (المترجم)
٢٢  نيزافيسيمايا جازيتا (الصحيفة المستقلَّة)، ١٩٩٤م، ٨ أبريل، ص٧.
٢٣  قام بارخين عند إخراجه لمسرحية «النورس» في مدينة إيفانوف عام ١٩٧٥م بتنفيذ فكرة الميكروفونات. صنَعَ الفنان حذاءً خاصًّا يصوِّر أصواتًا مختلفة، ولكلِّ شخصية صوتٌ خاص، يتضاعف هذا الصوت عدَّة مرَّات بواسطة الميكروفونات. ومن ثَم، فإنَّ حركة انتقال الممثلين على خشبة المسرح (التي كان لها بالإضافة إلى ذلك تغطيةٌ معدنية) كانت تخلق تكويناتٍ بصريةً تشكيلية، فضلًا عن تكويناتٍ من الضجيج من كلِّ لون ممكن؛ من الكوميدي إلى الدرامي الحاد.
٢٤  انظر حول هذا الموضوع في كتابي: روبرت ويلسون، مسرح الفنان موسكو، ۲۰۰۳م، ص۲۹–۳۳ وغيرها.
٢٥  Simultané : نوعٌ من التصميم المسرحي في مسارح العصور الوسطى، يتمُّ فيه وضعُ جميع الديكورات الضرورية لمسيرة الحدث على خشبة المسرح في آنٍ في خط مستقيم. (المترجم)
٢٦  أرل: مدينة فرنسية على نهر الرون. (المترجم)
٢٧  الحديث يدور هنا حول إخراج «الأوبرا الجديدة» في عام ١٩٩٦م.
٢٨  من محاورات مؤلِّف الكتاب مع س. بارخين، ٣١ / ١٠ / ٢٠٠٥م.
٢٩  إيفان تورجينيف (۱۸۱۸–۱۸۸۳م): روائي وقصاص روسي، صاحب «مذكرات صياد»، «عش النبلاء»، «رودين»، «الآباء والبنون»، «آسيا»، «مياه الربيع»، «الدخان». تُرجمت معظم أعماله إلى العربية. (المترجم)
٣٠  جي دي موباسان (١٨٥٠–۱۸۹۳م): كاتب وروائي فرنسي، له مجموعة «الحياة»، «صديقي العزيز»، «بيير وجان»، «مدموازيل فيفي»، تُرجمت له كثيرٌ من أعماله إلى العربية. (المترجم)
٣١  بتروف فودكين (۱۸۷۸–۱۹۳۹م): رسَّام سوفيتي شهير، انتقل من رسْم الموضوعات الرمزية وأعمال الديكور إلى اللوحات الرومانسية الحماسية على موضوعات الثورة. رسَمَ لوحات للطبيعة الصامتة والوجوه. (المترجم)
٣٢  إسحاق ليفيتان (١٨٦٠–١٩٠٠م): من أشْهَر رسَّامي المناظر الطبيعية الرُّوس، من أشهر أعماله «مارس»، «البحيرة الروسية». (المترجم)
٣٣  بول كلي (Klee) (۱۸۷۹–١٩٤٠م): رسَّام سويسري، جرافيكي، أحد زعماء الاتجاه التأثيري في الفن. عضو جماعة «الفارس الأزرق». كان ميَّالًا إلى الفنِّ التجريدي. (المترجم)
٣٤  الحديث يدور هنا عن الدراما المستقبلية التي كتبها ف. ديبور باسم «جرائم قتل وانتحار أكروباتية» (نُشرت في نفس عددِ مجلة «الحياة المسرحية»)، وكذلك عن مسرحيات ديبور الأخرى: «مغامرة كهربائية»، و«اللص الآلي»؛ التي قرأها س. بارخين مخطوطةً على الآلة الكاتبة.
٣٥  مجلة «الحياة المسرحية»، ١٩٩٤م، العدد رقم ۱۰، ص١٥.
٣٦  كوربوزيه (Le Corbusier) (۱۸۸۷–١٩٦٥م): معماري فرنسي رأى أنَّ أساس تجديد العمارة يكمن في استخدام التقنية الحديثة وفي تسلسُل البناء الصناعي المعماري. سعى إلى إبدال وظيفة العمارة جماليًّا. أحد مؤسِّسي العقلانية والوظيفية في العمارة الحديثة. (المترجم)
٣٧  من محاورات مؤلف الكتاب مع س. بارخين، ٣١ / ١٠ / ٢٠٠٥م.
٣٨  أوسيب ماندلشتام (۱۸۹۱–۱۹۳۸م) شاعرٌ روسي سوفيتي. أحد ممثِّلي مدرسة الذرويين في الشِّعر. يمتلئ شِعره بالنماذج الثقافية والتاريخية. (المترجم)
٣٩  بورجومي: نبعٌ للمياه المعدنية في جورجيا. (المترجم)
٤٠  يتذكر أ. جليبوف كيف راح هذا الفنان يعمل، ولو بطريقةٍ مدرسية، طلَّابية، في إخراج أول مسرحيةٍ له في حياته العملية من مسرحيات «مسرح الفنان» بقوله: «لقد أخذ بِيَدِنا إلى النظام كلِّه؛ كيف يمكن صُنع هذا الأمر. لقد عرفنا ذلك بشكلٍ افتراضي فقط. ولكنْ، لعلَّنا عرفناه على نحوٍ غير عميق بدرجةٍ كافية، لا كما يحدث مع الممثلين. لكن بالنسبة إلينا كان الأمر واضحًا بدرجةٍ كافية تمامًا، لقد حكى لنا كيف يتمُّ بناء العمل على نحوٍ تقريبي، وكيف يجري هدمه على خشبة المسرح. وقد سار العمل على النحو التالي: رسَمَ لنا المهمَّة؛ كان علينا أن نبتكر هذا الجزء من المشهد. جاء إلينا نحوَ الساعة الثانية عشرة ظهرًا، كلَّفنا بالمهمَّة: «علينا اليوم أن نُنجز هذا الجزء. أن نتعامل معه، أن نتناوله بوصفنا فنانين وممثِّلين ومخرِجين في آنٍ.» عملنا معه حتى الثانية، الثالثة، ثم غادَرَ المكان، بقينا وحدنا، واستمرَّ العمل حتى منتصف الليل، جلسنا في حلقةٍ، ثم قرَّرنا ما يلي: لنفترضْ أنَّ ملكة شيماخان سوف تظهر على النحو التالي. هل النص موجود؟ موجود؛ إذن لنبدأ العمل. وفي هذه اللحظة، رحنا ننفِّذ ما ابتكرناه. وفي اليوم التالي، حضر إلينا كاما ميرونوفيتش، وبدأنا معه البروفات.»
٤١  شيماخان: مملكةٌ قديمة في أذربيجان. (المترجم)
٤٢  المرجع السابق.
٤٣  حديث مع د. كريموف في ٤ / ١٢ / ٢٠٠٥م، سجَّله مؤلِّف الكتاب.
٤٤  المرجع السابق.
٤٥  المرجع السابق.
٤٦  عن سؤال: «من أين جاء رسمُ المسرحية؟» أجاب كريموف على مُحاوِره الناقد ي. فريدشتاين: «هكذا يتحدث الأطفال، عندما لا تكون لديهم القدرة بعدُ على القراءة، وإنما يدركون الأشياء بالسمع. أمَّا عن كلمة سيرفانتس، فهذا إسهامنا في مفردات الأطفال.»
٤٧  على النحو التالي، كان تفسير كريموف لهذا المشهد من وِجهةِ نظَرِ قراءةٍ معاصرة لموضوعٍ كلاسيكي: «سألني تلاميذي: لماذا يجري قتل البطل في بداية المسرحية؟ إنه لم يفعل أيَّ شيء بعدُ … فأجبتُ: الآن لا يجب فِعلُ أيِّ شيء … إنهم يقتلون الإنسان لمجرَّد أنه يتميَّز … أمَّا ما عدا ذلك، فيحدُث على المستوى البيولوجي تقريبًا.» وأضاف قائلًا: «الأقزام لا يحبُّون طويلَ القامة. وعندما يرونه، يتحوَّل مجتمعهم المهذَّب كوميضِ البرق إلى جمهورٍ يزأر ويقهقه ويصفق، وهم يهدفون من وراء ذلك إلى إخضاعه.»
٤٨  «شكولاروسكفا ساموزفنستفا» تعني حرفيًّا «مدرسة الاحتيال الروسية». (المترجم)
٤٩  من حديث مؤلِّف الكتاب مع ف. جاكيفيتش في ١٠ / ١١ / ٢٠٠٥م، مخطوط.
٥٠  RIM. ١٥، مخطوط، ص٣، أرشيف ف. جاكيفيتش.
٥١  وبالإضافة إلى ذلك، فإن عرْضَ هذا «الضجيج الصوتي» تحديدًا، في شكل إخراج صوتي، امتدَّ على مدى ساعتَين من إذاعة «إيخو موسكفي» (صدى موسكو) في برنامج «باسيفيك شو» الذي أذيع ليلة الخامس عشر من فبراير ۱۹۹۲م قُبيل افتتاح العرض الأول للمسرحية، وسبب أول فضيحة؛ فقد كانت المفردات البذيئة والنص الفاحش الصادم للمسرحية أمرًا غير متوقع، إلى حدِّ أن إدارة الإذاعة اتخذَت قرارًا غير مسبوق آنذاك يقضي بوقف الإرسال لمُدةٍ ما.
٥٢  «الشيء والإنسان يتطابقان في مسرحنا، فالأشياء ليست أقلَّ أهميةً من الممثلين ومن البشر.» على هذا النحو يشرح جاكيفيتش، أحد مؤسِّسي مبادئ مسرح الفنان، المسرح الخاص به في حديثٍ له مع الناقد ر. دولجانسكي، جاك. «الفراغ يحيط بنا»، أدار الحوار رومان دولجانسكي. مجلة تياتر (المسرح)، عام ۲۰۰۰م، العدد رقم ۲، ص۱۱۱.
٥٣  ف. جاكيفيتش، ملحوظات على هوامش مخطوط كتاب.
٥٤  كان الظِّل الأسود للدب مرسومًا على راياتٍ بيضاء، يهتز على قراءة أبجدية د. أ. بريجوف: «الجميع تلاشوا على أ … ب … ج … وفي الوقت نفسه، كان هناك ظلٌّ واحد على الراية الأُولى، وعلى الثانية ظِلَّان، وعلى الثالثة أربعة، وهكذا يسير الأمر في متواليةٍ هندسية مع تصغير الظِّل وتحويل العلَم الأبيض إلى أسْوَد في استمرار للمفهوم: على الراية السوداء ظِل أبيض لدُبٍّ يتخذ خطوات مع كلِّ علَمٍ تالٍ نحوَ التَّماس، وفي النهاية يختفي من العلَم. يُعدُّ الدبُّ رمزًا، علامة مسجَّلة ﻟ «المدرسة …»، ورمزًا مقدَّسًا (طوطمًا). بالنسبة إلى أصبح اختيار هذه الشخصية الرمزية أمرًا لا يمثِّل تطابُقًا مع كل روسي في عيون الأجنبي، وإنما هو في الواقع موتيفات سلوكية لهذا الحيوان، الميل إلى الوحدة والعزلة والقوة.» ف. جاكيفيتش، ملحوظات على هوامش مخطوط كتاب.
٥٥  قدَّم العون في إعداد هذا التكوين جاكيفيتش دي جييم، الذي عمل في «راديو سيم» لمدة عامَين بالتعاون مع مخرِج الصوت ي. دروزدوفسكي.
٥٦  هذه المادة عبارةٌ عن عشرة أطنان من فتاتٍ بيضاء تصنع منها رزمُ السيلوفان.
٥٧  من حديثِ مؤلِّف الكتاب مع ف. جاكيفيتش في ١٠ / ١١ / ٢٠٠٥م.
٥٨  «أصبحت هذه الأغنية نقطة الانطلاق في فهْمِ كيف يجب صنع «المعطف». وتحمل المشاهد الموسيقية في «المعطف» ظلًّا واضحًا من ظلال موسيقى البلوز [أغاني الزنوج الأمريكية العالمية. (المترجم)]، ومن الضروري أن تجري الحركة على خلفية هذا اللَّحن بدقةٍ تامة، وإلَّا فإنَّ أيَّ نشاز فيها سوف يبدو مثلَ بُقعةٍ قذرة في غير مكانها!» ف. جاكيفيتش.
٥٩  يقول جاكيفيتش: «كنت أودُّ بشدة أن أصل إلى أن يشعر الناس، عندما تجور الأحداث على القمر، بأنهم في حالة انعدام الوزن.» من حديث مؤلف الكتاب مع جاكيفيتش في ١٠ / ١١ / ٢٠٠٥م، مخطوط.
٦٠  إيليا كاباكوف، بوريس جرويس، المحاورات (۱۹۹۰–١٩٩٤م)، موسكو ۱۹۹۹م، ص۱۹۰.
٦١  لقد تصوَّر الفنان نفسه هذا الاتجاه العام للفنِّ البصري في الانتقال من الصور إلى الإنستاليشن بوصفه «عمليةً بنائية جديدة»، ويرى الفنان أنَّ جوهر هذه العملية يتلخص في أنه «في سياقها تكون الحركةُ موجِعةً لا باتجاه فضاء خيالي يقع «خلف الصورة»، وإنما في هذا الاتجاه حيث الفضاء الواقع «أمام الصورة» … يتحول المُشاهِد داخل الإنستاليشن الذي يستغرقه تمامًا، وعندما يتحرَّر منه، لا يتحرَّر منه على نحوٍ تام، مثلما يحدث مع الصورة التقليدية … فالفنان والمُشاهِد هنا يتعايشان في فضاءٍ واحد، كما يتعايشان في الحياة نفسها.» إيليا كاباكوف، بوريس جرويس، المحاورات … ص٨٢-٨٣.
٦٢  أ. ج. رابابورت، «حِبال» إيليا كاباكوف. مجلة المعرفة الفنية السوفيتية، العدد رقم ٢٦، موسكو، ۱۹۹۰م، ص٣٢-٣٣.
٦٣  إيليا كاباكوف، ألبوم أمي، باريس، ١٩٩٥م، ص٢٥٢.
٦٤  «ضمَّن الفنان نفسه ثلاثَ أفكار في مفهوم «قمامة»؛ أولًا: بوصفها نموذجًا دقيقًا للواقع المعاصر. فهذا الواقع بكامله يعدُّ كومةً ضخمة من القمامة. ثانيًا: هي بالنسبة إلى أرشيف الذكريات؛ لأنَّ كل شيء يتمُّ التخلص منه يرتبط دائمًا بجزء محدَّد ما من الحياة. وثالثا: أتصور أن ثقافتنا بكاملها، قمامة، فهي تعاني النقصانَ وعدم الاكتمال من حيث الشكل، وتفتقد إلى التأمل والنظام». إيليا كاباكوف، بوريس جرويس، المحاورات … ص١٠٥.
٦٥  يقول الفنان: «إنَّ الشقة المشتركة تعدُّ مجازًا جيدًا للحياة السوفيتية؛ لأن الحياة فيها مستحيلة، كما أن الحياة بدونها غير ممكنة، فالخروج من الشقة المشتركة في الواقع غير ممكن … وفي الشقة المشتركة يفقد الإنسان تمامًا خصوصيته، فهو طوال الوقت مراقَب من جانب كل مَن يسكنون معه في هذه الشقة ذات النظام التراتبي الموضوع وفقَ تصوُّرٍ دقيق لمَا ينبغي أن يعيش المرء بمقتضاه. إن الفكرة من وراء العيش المشترك هي في الواقع فكرةٌ شمولية؛ لأنها تنفي عدم المشاركة فيها …» المرجع السابق، ص٩٢-٩٣.
٦٦  الشقق المشتركة: نظام تعيش الأُسر السوفيتية بمقتضاه في شققٍ مشتركة. انتشر بشكلٍ واضح في الفترة الستالينية. (المترجم)
٦٧  إيليا كاباكوف، ألبوم أمي … ص٢٥٦.
٦٨  السماور: إناء لإعداد الشاي. (المترجم)
٦٩  مجموعة غير دورية من الدراسات الأدبية والتاريخية وغيرها. (المترجم)
٧٠  فينيتشكا: اسم التدليل لفينيدكت. (المترجم)
٧١  ب ميسيرير، عن نفسي، تسجيل أدبي أجراه ف. بيرنركين، ديسمبر ۲۰۰۲م–فبراير ۲۰۰۳م، مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
٧٢  ناتاليا أبالكوفا، أناتولي جيجالوف: TOTART. الروليت الروسي، موسكو، ۱۹۹۸م، ص۱۰۹.
٧٣  الاستشهاد من كتاب: الطقس، المسرح، البرفورمانس. مواد مكتوبة بطريقة الاختزال، تابعة لمعمل مخرجي وفناني مسارح العرائس بقيادة إ. أوفاروفا. موسكو، ۱۹۹۹م، ص۷۱.
٧٤  المرجع السابق، ص٧٤.
٧٥  مطوية: برفورمانس تيموفي كوستين. موسكو، ۱۹۹۸م.
٧٦  مارينا برتشيخينا. اللمس، التقاطع، التغليف. نشرة صحفية، تسارسكوي سيلو، القصر الغربي، ١٩٩٧-١٩٩٨م.
٧٧  ريما وفاليري جيرلوفينا. مقتطف من كتاب «ساميزدات [نشر ذاتي، يقوم به المؤلف. (المترجم)] مفاهيمي». مجلة فن الديكور، ۱۹۹۱م، العدد رقم ٥، ص۸.
٧٨  ن. بانتيكوف، قصة حول أكشن لبانتيكوف. قام بتسجيله بنفسه على مدى عدَّة سنوات. رحلة إلى الضاحية، موسكو، ۱۹۹۸م، ص٧٣٦.
٧٩  رحلة إلى الضاحية، ص٤٥٣.
٨٠  الشامانية: دينٌ بدائي من أديان شمالَي آسيا وأوروبا، يتميز بالاعتقاد بوجود عالم محجوب، هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلف، وبأنَّ هذا العالَم لا يستجيب إلا للشامان (الكاهن القادر على العلاج بالسحر وكشف المخبَّأ والسيطرة على الأحداث). (المترجم)
٨١  ناتاليا أبالكوفا، أناتولي جيجالوف: TOTART الروليت الروسي، موسكو، ۱۹۹۸م، ص٥٢.
٨٢  آنا أليتشوك، فينوجرادوف: سِحر أم برفورمانس؟ … مجلة فن الديكور، ۱۹۹۷م، العدد رقم ٥، ص۲۳.
٨٣  ماريا خالتونين: راهب من بيلاروسيا. المرجع السابق، ص٢٦.
٨٤  شارع تفير: أحد أكبر الشوارع التجارية في موسكو، وكان يسمَّى في الفترة السوفيتية بشارع جوركي. (المترجم)
٨٥  د. أ. بريجوف: تؤمن أو لا تؤمن، العالَم موجود! أبطال الثقافة في القرن الحادي والعشرين، أو «البحث عن سندريلا»، موسكو، ۱۹۹۹م، ص٦٢.
٨٦  يقول الفنان: «يبدو أننا جميعًا نعاني وضْعَ هذا الكلب. فنحن كائنات بلا ثقافة، وبلا تقاليد، وبلا أيِّ آلياتٍ اجتماعية أو علاقات تقوم على تنظيم حياتنا. نحن مضطرون إلى الاعتماد على الاستجابة للحياة؛ على القوة والطاقة والرائحة والإحساس والحدس … إن أكثر الأوضاع الملائمة لنا هي أن نخضع ببساطة لطبيعتنا الحيوانية، أن نتصرف هكذا ببساطة بوصفنا كيانًا بيولوجيًّا ما … لديَّ إحساس أن عليَّ أن أقدِّم صورة ما لعصري أو قوة اجتماعية موجَّهة، أن أقدِّم ما يهم المجتمع بصفةٍ دائمة، المجتمع الذي يمكن أن أسميه مجتمعًا روسيًّا، أو ذلك الذي يعيش على الطريقة الروسية أو المجتمع الإمبراطوري؛ لا يهم. هذه التجربة ليست تجربةً اجتماعية أو سياسية، وإنما هي مسألة تتعلَّق بالهوية البيولوجية.» الاستشهاد من كتاب: الطقس، المسرح، البرفورمانس … ص۸۲.
٨٧  ريما وفاليري جيرلوفين، مقتطف من كتاب «ساميزدات مفاهيمي». مجلة فن الديكور، ١٩٩١م، العدد رقم ٥، ص۸.
٨٨  ناتاليا أيالكوفا، أناتولي جيجالدف: TOTART، ص٤٧.
٨٩  يشرح أ. جيجالدف هذا المبدأ بقوله: «إن كثيرًا من عروض البرفورمانس التي نقدِّمها مبنية على العناصر المتكرِّرة بلا نهاية، وهذه العناصر تخلق فضاءً خاصا، أو — إن شئتم — فضاء افتراضيًّا؛ فمن ناحية، هو فضاءٌ محدود هنا والآن، وهو فضاء مبتذَل تقريبًا من ناحية حركته العادية؛ إذ إنه مأخوذ من الحياة اليومية. ومن ناحية أخرى، يكون هذا الفضاء مختلفًا، وله القدرة على أن يكون لحوحًا ومفروضًا، وذلك بفضل ما في الامتداد الزمني من سحر، وانتزاعه من السياق اليومي المعتاد.» ن. أبالكوفا، أ. جيجالوف: TOTART، ص٣٤٧.
٩٠  المرجع السابق، ص١٦١.
٩١  المرجع السابق، ص١٨٠.
٩٢  م. ك: جماعة «موخامور» (عش الغراب). مجلة فن الديكور، ۱۹۹۱م، العدد رقم ٥، ص۲۸.
٩٣  ي. بوبرينسكايا: من تاريخ الاتجاه الفكري في موسكو (العروض الجماعية). في كتاب: رحلة من موسكو إلى موسكو. موسكو، ۱۹۹۹م، ص۱۳، و۱۸۹، و۱۹۰.
٩٤  الحدث هو أهمُّ جزءٍ في عرض الأكشن الفني. حديثٌ مع أندريه موناستيرسكي في صحيفة نيزافيسيمايا جازيتا EX LIBRIS، ١٦ / ٤ / ۱۹۹٨م، ص۱.
٩٥  رحلات إلى الضاحية … ص۲۳.
٩٦  صرَّح موناستيرسكي قائلًا: «يخيَّل إلينا أنَّ الاندماج المادي والمعنوي للمشاهدين في العرض أمرٌ مهم، بل ضروري للسفر إلى الضاحية. الأمر على العكس من ذلك، فعند السفر إلى الضاحية يتحول إلى المسرح الموجود في الطبيعة» (كما حدث في مسرحية «الطلقة»، وذلك في سياق الأهمية التامة المؤكَّدة لسلسلة العروض البصرية التشكيلية والديناميكية والموسيقية (المصدر السابق، ص۲۲۳)). وبالنسبة إلى إشكالية هذا الكتاب؛ نلفتُ الانتباه إلى أنه من النادر، بالنسبة إلى تجربة مسرح KD الذي يمثِّل نموذجًا ﻟ «مسرح في الطبيعة»، أن نجد أنَّ برفورمانس «الطلقة» مبنيٌّ أيضًا على تمثيل عرض المؤدِّين باستخدام موادَّ مختلفة، أي — بلغة المسرح — باستخدام عناصر السينوجرافيا: ترفرف الستارة البنفسجية في الهواء، تدقُّ مواسير من البلاستيك في الأرض، وفي نهايتها سلك مرِن، وهناك على المواسير صورٌ جانبية لوجوهٍ بشرية مقوَّسة، وحوش وطيور مقدَّسة تتحوَّل إلى سباط. في تلك اللحظة، وبناءً على طلقة إشارة ينطلق فيها سهمٌ ذو نهايةٍ مضيئة من قوس، وتنقطع زوايا أكياس حمراء ليسقط منها على الأرض جريش الدخن. تتحول هذه الأكياس إلى أعلام عليها صُلبان مالطية. بعد انتهاء الجزء البصري من هذه المسرحية، يبدأ الفصل الموسيقي الذي يمتد ٤٥ دقيقةً ﻟ «مثلث موسيقي» تَقدُمه صافراتٌ (صادرة عن أطراف خشبة المسرح، حيث يجلس في حُفر كلٌّ من س. ليثوف وأ. موناستيرسكي)؛ ومن أجهزة تسجيل موضوعةٍ مباشرة أمام المشاهدين بوصفها «رأس» هذا «المثلث»، تُعيد أصوات الحاكي، ثم يُسمع صوتُ تغريد طيور.
٩٧  الاستشهاد من كتاب ي. بوبرينسكايا: النزعة إلى المفهوم Conceptualism. موسكو، ١٩٩٤م، (في الجزء المصور من الكتاب).
٩٨  المرجع السابق.
٩٩  المرجع السابق.
١٠٠  رحلات إلى الضاحية، ص١٠.
١٠١  يحدِّد أ. موناستيرسكي المغزى من عروض الأكشن في سياق الجماليات المفاهيمية التي قام بإعدادها، والخاصة ﺑ «الشعر البسيط»، على النحو التالي: «مخروط الريح» ينظِّم الزمن الخالص لدوران عنصر مضمون الأكشن … «الريح تدور إلى هنا» سقوط العنصر. «القبعة» تصنع جماليات «الارتفاع إلى على». في كتاب: رحلات إلى الضاحية، ص١٨٦.
١٠٢  المرجع السابق، ص۲۲ و۲۳.
١٠٣  المرجع السابق، ص۲۳۷.
١٠٤  يعلِّق أ. موناستيرسكي على تنوُّع المغزى في هذه اللحظة من الأكشن بقوله: «إن هذا الصوت يمكن فهْمُه بصفته صوتًا «ينطلق» من تحت الأرض، وبوصفه إشارةً من نوعٍ خاص لبداية «الشروق»، وفي الوقت نفسه، هو صوتٌ يسحب هذا الشروق ويُنزله تحت الأرض إلى «العالَم السُّفلي»» (المرجع السابق، ص٢٣٨).
١٠٥  يواصل أ. موناستيرسكي تعليقه قائلًا: «بقدْرِ اقترابه من الموسيقى، فإن مُشاهِدنا-الرحَّالة، الذي اختبأ في الغابة يبدو — بعض الوقت — كما لو كان يسقط من مكانٍ قفر، نحو الأسواق والمواقف، إلى وسطٍ مملوء بالحياة، حيث يمتدُّ الارتجال» (المرجع السابق، ص۲۳۸).
١٠٦  على النحو التالي، قام الفنانون أنفسهم بتفسير المعاني المتعدِّدة لمغزى مفهوم هذا الأكشن: «(١) «القضية المشتركة» («الجماعة» وهي أحد أهم عناصر ما يسمى ﺑ «الفكرة الروسية»)/خلق فضاء «مثالي» جديد (المكعب؛ إسقاط ضوئي ثلاثي للمربع، للفكرة الأفلاطونية «الإيدوس»). (٢) الفضاء الداخلي للمكعب بعد تغطيته بالأشرطة يجعله منيعًا، «مقدسًا»، «محرمًا»، «فكرة خالصة» … إنَّ فعل التغطية نفسه بالشرائط له ثلاثة جوانب كحدٍّ أدنى: «براءة» المكان والزمان والمشاركين أنفسهم بوصف هذا الفعل عملية شِبه تأميلية، تعاملًا مع «الفكرة الروسية» المتحفظة في «ظروفٍ تاريخية واقعية»، «الآن وهنا». وفي الوقت نفسه، فإن هذه الظروف والوسائل لا تتطابق والأهداف الرفيعة والمهمَّة الكبرى، باختصار … الطريق من أفلاطون إلى أفلاطون (المثالية – الواقعية – اليوتوبيا – ونقيض اليوتوبيا – واليوتوبيا الجديدة). والنتيجة الحتمية هي انتصار الحياة. العودة إلى حالة الانطلاق (لا إلى حالة التراجع) عبْر تدمير ما بُني في مجهودات شاقة وفقدان المكان والبناء، بمعنى، البعث-الشفاء من خلال الهدم (تمزيق الأشرطة). (۳) تأمُّل المكان الذي وُضع (قبل إزالته) في مختلف مراحله الضوئية؛ نشاط الإبداع المتجدِّد. (٤) تجاوُز العزلة وتمزيق سطح المكعب. (٥) طي سطح المكعب وتحويله إلى كرة. (٦) تأمُّل الكرة داخل المندالة [رمز الكون عند الهندوس والبوذيين، وبخاصة: دائرة تطوق مربعًا، وعلى كل من جانبها رسم إله. (المترجم)]» (ناتاليا أبالكوفا، أناتولي جيجالوف: Totart، ص٥٠).
١٠٧  الاستشهاد من كتاب ف. ف. كاليتشوك: الحركية. موسكو، ١٩٩٤م، ص٨٦.
١٠٨  الإنشاءات الذاتية الشَّد تعني وضْع تصميمات لأشياء وأجزاء من ملابس، تعتمد في بسطها وثبات شكلها على استخدام أسلاك أو سنانير تريكو، مثل التي تُستخدم في المظلَّات لتظلَّ مفرودة، وكذلك أسفل التنورات لتحافظ على اتساعها. (المترجم)
١٠٩  ماليفيتش، كازيمير سيفيريانوفيتش (۱۸۷۸–١٩٣٥م): مؤسِّس السوبرماتيزم والمربَّع الأسْوَد. لمزيد من المعلومات، راجع الجزء الأول من الكتاب صفحة ٣٥١. (المترجم)
١١٠  تتميز عروض البرفورمانس هذه عن مثيلاتها من عروض الأكشن «الطليعية التشكيلية» بأنها لا تُعرض مرةً واحدة، وإنما عدَّة مرات، أي بوصفها عملًا من أعمال الإبداع المسرحي، شكله الخاص هو مسرح الفنان.
١١١  ف. كاليتشوك، أ. كاليتشوك. مسرح فيتشيسلان كاليتشوك الشامل؛ الطقس، المسرح، البرفورمانس؛ موسكو، ۱۹۹۹م، ص٥٧-٥٨.
١١٢  المرجع السابق.
١١٣  ف. كاليتشوك، أ. كاليتشوك. مسرح فيتشيسلاف كاليتشوك الشامل، ص٥۷.
١١٤  حديث مؤلِّف الكتاب مع أ. كاليتشوك في ١٨ / ١١ / ٢٠٠٥م. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١١٥  جزء غير منشور من نَص ف. وأ. كاليتشوك. مسرح فيتشيسلاف كاليتشوك الشامل. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١١٦  التنفيذ الفعلي لهذه الفكرة طبِّق في كلِّ فصول مسرحياته، والقضية ذات أهميةٍ تنظيمية استثنائية؛ تلزمنا خشبة مسرحٍ ذات عمقٍ كبير.
١١٧  قدِّم هذا العرض في مهرجان «الترناتيف» الذي أُقيم في موسكو (۱۹۹۷م)، ومهرجان الفنون التجريبية وعروض البرفورمانس في بطرسبورج (۱۹۹۸م)، وفي المهرجان الأوروبي الأول للرقص الحديث في موسكو عام ٢٠٠٠م، وغيرها من المهرجانات. ولدَت الفكرة بتأثير العمل البصري ﻟ ف. كاليتشوك عام ١٩٧٦م المسمَّى ﺑ «المربَّع الرَّمادي».
١١٨  جزء غير منشور من نص ف. وأ. كاليتشوك. مسرح فيتشيسلاف كاليتشوك الشامل.
١١٩  جزء غير منشور من نَص ف. وأ. كاليتشوك، مسرح فيتشيسلاف كاليتشوك.
١٢٠  المرجع السابق.
١٢١  حديثُ مؤلِّف الكتاب مع أ. كاليتشوك في ٨ / ١١ / ٢٠٠٥م.
١٢٢  جزء غير منشور من نَص ف. وأ. كاليتشوك، مسرح فيتشيسلاف كاليتشوك الشامل.
١٢٣  انظر كيف تحقَّق هذا المبدأ هنا (والذي قام ف. كاليتشوك بابتكاره وتجربته في تكويناتٍ تعبيرية): «قمتُ بتسجيل النَّص على جهاز التسجيل. وبعد ذلك قاموا بتقطيعه في الكمبيوتر إلى حروفٍ صوتية وساكنة … في الجزء الأول نُطقَت الحروف الصوتية والحروف الساكنة، كلٌّ على حِدة. في الجزء الثاني نُطِقَت المقاطع من آخِرها إلى أولها، ثم أُعيد تنسيقها من اليمين إلى اليسار. ولكنكم في البداية استمعتم كيف أُذيع النص بشكلٍ طبيعي، ثم جرى تفكيكه بعد ذلك، ومن جديدٍ جرى إنشاؤه بعد ذلك، ومن خلال التحويل الميكانيكي فقط، وفي النهاية استمعتم من جديد إلى هذا النص. النص في منتصفه لم يكن من الممكن فهْمُه، مع أنَّ مغزاه ظلَّ موجودًا، لأن شيئًا لم يطرأ عليه تغيير، باستثناء تغيير مواقع أجزائه، أي حدث تشفير للمغزى المقدَّس.» حديث مؤلِّف الكتاب مع أ. كاليتشوك في ٨ / ١١ / ٢٠٠٥م.
١٢٤  بالقرب من «الممر الافتراضي» الروسي، عُرضَت في المعرض النسخةُ الألمانية لمشاركة المشاهدين في عرض الأكشن-الإنستاليشن للمخرِج خيرفينج فايزر على موضوع الحرب، وقد جمعه من حُطام كمبيوتر، انفجر في أماكن متعددة، تصدع، تناثر بسبب ضغط المشاهدين حوله على أزراره.
١٢٥  حديث مؤلِّف الكتاب مع أ. كاليتشوك في ١٨ / ١١ / ٢٠٠٥م.
١٢٦  تقول الفنانة: «طلبتُ عملَ رسمٍ كبير للناس لكي أعلِّقه خلف أناسٍ حقيقيين ولكي تبدو الشخوص على خلفية هذه «الرسوم الكبيرة» صغيرة.» المرجع السابق.
١٢٧  في هذه البدلة وما تلاها، يظهر اهتمام أ. كاليتشوك بالفن الشرقي. «اليابان وماليفيتش، شيئان متقاطعان»، مثل التقاطع بين «الفولكلور الروسي والمغزى الدلالي له» (المرجع السابق).
١٢٨  «المعيَّنات تبدو مثل نجمةِ بيت لحم بمصاحبةِ غناء أغنيةِ عيد الميلاد، مثل ظهورٍ ما لطاقة كونية» (المرجع السابق).
١٢٩  تعبير «هندسي»، كما يحكي الفنانون، «ظهَرَ بسبب أننا نعتبر أننا نشتغل بالآلة في المسرح»، نوزِّع الديكور بشكلٍ صحيح، نصنع السينوجرافيا بحيث يتحرك كلُّ شيء في الاتجاه المطلوب وأنْ يتمَّ تغييره بالإيقاع المطلوب. وحيث إننا لا نعمل في مسارحَ أكاديميةٍ؛ فإن مفهوم «النزعة الهندسية» بالنسبة إلينا يعني هذا العمل، الذي يسمح لنا بأن نحرِّك الديكور، وأن نصنع السينوجرافيا، كما سنرى لاحقًا. بعد ذلك، يأتي تعبير «مهندس الأنفس البشرية»، عمومًا قد ظهَرَ هذا التعبير في أثناء العمل من تلقاء نفسه. وفي سياق ذلك، التوظيف الذاتي الذي صكَّه إيسايف وسيمتشينكو لعروضهما، بوصفها عروضًا «هندسية» (بالإضافة إلى فكِّ شفرتها: «نحن نوزِّع الديكور بشكلٍ صحيح، ونضع السينوجرافيا»). كما سنرى لاحقًا، غير صحيحٍ أبدًا، ولا يُعطى المضمون لمَا يفعلانه، نحن بالأحرى نأخذه كمعلوماتٍ، ولن ننظر إلى الأمر بحثًا عن مغزًى جمالي أوسع. لقد كانت لديهما تنويعاتٌ أخرى: «مسرح سان بطرسبورج المدمج»، «المسرح الأول المتسامح». وفي أحد الأحاديث التي أدلى بها إيسايف استخدم مصطلحًا آخَر هو «المسرح البصري». وعلى نحو عفوي ظهرَت الكلمة الثانية من اسم مسرح AXE: «كنا نجلس في صالونِ الطائرة في الصفِّ الأخير. وهناك كانت الحروف AXE مكتوبة في كلِّ مكان وأسفلها مِطرقة. في هذا الوقت كنا نصوِّر فيلمًا، وكانت هناك فكرة أن نستخدم مِطرقة في كلِّ لقطة، لا مِطرقة تحديدًا؛ وإنما أداة تقطيع الكرنب، التي تشبه تلك الأداةَ المصرية، المِطرقة المقدَّسة، ذات الحدَّين، لقد لفَتَ انتباهنا هذا الشكل الذي يعدُّ قاتلًا، وفي الوقت نفسه تشبه القمر وما إلى ذلك. لقد تصورنا أنَّ هذه الأداة نموذجٌ لانتقال علامة الموضوع المقدَّس إلى شيء يومي، يومي بامتياز، لتقطيع الكرنب. وبشكلٍ ما، استخدمنا كلمة AXE بدلًا من كلمة مطرقة. وبالإضافة إلى ذلك، ففي كلمة AXE كان يهمُّنا أنَّ حرف A هو مثلث، وأن X هو الصليب الإنجليزي، وأن E هو المربع. وهكذا تمَّ التعديل.» من حديث مؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو في ٧ مارس ٢٠٠٤م. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١٣٠  موقع مسرح AXE على شبكة الإنترنت: www.akhe.ru File Akhe Group.
١٣١  المرجع السابق.
١٣٢  في الكتاب الوحيد الذي كتَبَه ب. بونيزوفسكي إبَّان حياته، شرَحَ على النحو التالي بعضَ مبادئ مفهومِ مسرحه، تلك المبادئ التي قام بتطبيقها تلميذاه إيسايف وسيمتشينكو في المسرحيات التي قدَّماها على مسرح الفنان الخاص بهما. «يلزمنا ممثِّل … مؤلف»، «ظاهرة الشيء … لغة فوق قومية، اللعب بها بمثابة مَخرج إلى النموذج الأصلي، إلى السِّحر، إلى الشعائرية»، «الدمية هي نموذجُ مرضٍ للشيء. إذا كانت الدمية تهمُّ الممثل الدرامي، تجذب انتباهه، فإنها تكون شريكةً له. في الارتجال بمصاحبة الدمية ضمان لدورها»، «الفنانون لدينا عمَّال مختبر للنص غير المسرحي. عروض البرفورمانس التي يقدِّمها الممثلون تهزُّ مشاعر المُشاهِد. إنها تستفزُّ الممثل بلغةٍ مباشرة. مع وجود الشيء الذي يعمل كثقافةٍ وسيطة.» موريس بونيزوفسكي، العرض الأول للإيثار، أو الشك في العرض الأول. الأرض الخفية، التقويم الأدبي الفني، موسكو، بطرسبورج، ۱۹۹۱م، ص٣٠٥-٣٠٦. معبِّرًا عن هذه وغيرها من المبادئ (مطورًا إياها في مشروعاته، سواء الافتراضية أو بعضها ممَّا نفِّذ)، لم يفكر بونيزوفسكي في أيِّ مسرح من مسارح الفنان؛ لقد قام بتجريب إعادة صياغة المسرح الدرامي العادي واستخدام أحْدَث الاكتشافات وبشكلٍ قانوني في اتجاه مسرح الفنان، والذي كان من نتيجته أن راح تلاميذه يصنعون هذا المسرح بعد أن أسَّسوا جماعتهم المسمَّاة AXE.
١٣٣  من حديث مؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٣٤  المرجع السابق.
١٣٥  المرجع السابق.
١٣٦  المرجع السابق.
١٣٧  المرجع السابق.
١٣٨  المرجع السابق.
١٣٩  نفِّذ المشروع بدعمٍ من صندوق سوروس، ولكنْ في وقتٍ ما حدث خطأ، وتعرَّض البنك الذي كانت فيه الأموال المخصَّصة لهذا المشروع للإفلاس.
١٤٠  من حديثٍ لمؤلف الكتاب مع م. غيسايف وب. شيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٤١  من حديث ﻟ م. إيسايف مع مارينا ديمتريفنا، مراسل صحيفة «في القاع». «في القاع»، ١٩٩٦م، العدد رقم ٣١.
١٤٢  من حديثٍ لمؤلف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٤٣  المرجع السابق.
١٤٤  الحاشية التفسيرية لمسرحية «الكابينة البيضاء»، مواد مسرح AXE. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١٤٥  من حديث مؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٤٦  المرجع السابق.
١٤٧  Lyn Gardner. White Cabin. The Guardian/Tuesday. August. 12. 2003.
١٤٨  من حديث مؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٤٩  وبالمناسبة فقَدْ كتبَت الناقدة ت. جاكوفسكايا بخصوص مسرحية «هباء منثورًا»: «بطريقةٍ سحرية ينفُذ موكب المهرِّجين بلونَيه الأبيض والأشقر تحت القشرة، ومن هناك تنهمر موجةٌ من التداعيات الشخصية، من المستحيل أن نفكِّر عندئذٍ أن تثرثر بأنها مع جارك.» ويعدُّ النص الذي كتبَته حول هذه المسرحية، واحدًا من أكثر النصوص التي كُتبت عن AXE وضوحًا ونفاذًا؛ فبعد أن شاهدَت الناقدة مسرحية «هباء منثورًا» في نسخة ۲۰۰۱م، والتي عُرضَت في مهرجان «فريندج» في أدنبرة (ونالت فيه جائزة)، وانطلاقًا من معايير الدراسات المسرحية، شرحَت هذا الموضوع التشكيلي بوصفه «قصةَ حُب وخيانة وكراهية وفراق وانفصال ومحاولات عبثية للعودة إلى الربوع الأُولى، والخسارة الأسى الأخير». ثم استشهدَت بتصوُّر من نوعٍ آخر مختلف قليلًا من الدراسات الفنية التي تقاسمَتها بناءً على طلبها مع الخبير الإنجليزي الشهير في الإبداع المسرحي جوليان سبولدنج: «الأمر يبدو كحديثٍ حول لوحة، هنا الكلمات تكون مثل نفايةٍ زائدة على الحاجة … إنَّ هذا المكان الذي وصلوا إليه جميل جدًّا. هذا الجزء الموجود تحت الأرض خارج تصوُّر الأغلبية؛ هو شيء ما عميق داخل نفوسنا حيث تتورم تجمعات الطاقة، وتقوم الكائنات العمياء بأداء رقصةِ الحُب الأرضية. إذا ما تسنَّى لك الذهاب إلى هناك ذات مرة، فسوف تجد الكوب والملعقة والمقعد والمائدة والشَّعر فوق أيِّ رأس. يغنُّون جميعهم أغنيةً لا نعرفها، ولكننا نعرف أنَّ هذه الأغنية أغنيةٌ حقيقية.
إن هذا المسرح هو الذي يفحص أعماق النفس واتساعها بطريقةٍ لم نكن نراها من قبل. إنه مسرح ما بعد سوريالي، ما بعد دادي، ما بعد حداثي، ما بعد ارتجالي، ما بعد الكلام. إنَّ مسرح AXE يصنع صورًا متحركة صامتة. لا أعرف كيف أعبِّر أكثرَ من هذا …» تاتيانا جاكوفسكايا، الباليه اللاكلاسيكي، والمسرح اللادرامي. مجلة المسرح البطرسبورجي، ۲۰۰۱م، العدد رقم ٢٦، ص۸۷ و۸۹.
١٥٠  الحاشية التفسيرية لمسرحية «هباء منثورًا»، مواد مسرح AXE. مخطوط أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١٥١  الحاشية التفسيرية لمسرحية «هباء منثورًا».
١٥٢  من حديثٍ لمؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٥٣  تم التفكير في نسخةٍ أخرى: إجلاس المشاهدين على المدرج في شكل هرمٍ ناقص؛ بحيث ينظر الجالسين على كلِّ جانب من جوانبه إلى ناحيته، ويرى مختلف «اللوحات البصرية» في آنٍ. وحتى يمكن للمؤدِّين تبادُل الأماكن، ويمكنهم خلط «اللوحات البصرية» بطريقةٍ تتميز بالمفارقة.
١٥٤  من حديث لمؤلِّف الكتاب مع م. إيسايف وب. سيمتشينكو، في ٧ مارس ٢٠٠٤م.
١٥٥  الحاشية التفسيرية لمسرحية Plug-and-Play. مواد مسرح AXE. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
في بطاقةٍ مطبوعة خصوصًا لدعوة المشاهِدين إلى هذا البرفورمانس «المنتدى» (الذي عُرض في موسكو في الخامس من مارس ٢٠٠٤م في نادي «مشروع OGE»، والسادس من مارس في نادي برستسكايا)، قام إيسايف وسيمتشينكو بإحصاء كلِّ الأشياء التي يمكن رؤيتها، وكلِّ ما استُخدم في عروض الأكشن. يستحقُّ هذا الحساب أن نورده هنا كاملًا، ليس فقط لأنه يكشف «المطبخ» الفني لمسرح AXE؛ وإنما لأنه يعكس بشكلٍ متميز جماليات هذا المسرح والوسائل التعبيرية الخاصة به. وهكذا كانت العناصر المكونة للعرض المقدَّم على النحو التالي: «ممثلان من بطرسبورج، مشغل أسطوانات DJ، مائدتان، مقعدان، لتر جواش أبيض، نصف لتر جواش أسود، طائرة ملوَّنة، ٢٥ لمبة بنيَّة من ٦٠ إلى ١٠٠ وات، أربع بطاريات AA، لتر لبن، ٠٫٧ لتر نبيذ أحمر، فودكا، موزتان، خمس تفاحات، كيلوجرام ليمون، ثلاث بصلات، قطعة سجق، ۳۰۰ جرام شحم، كعكة، برطمان مايونيز، كيلوجرام سكر، سمكة مدخنة، ثلاثة كيلوجرامات من الثلج، خمسة كيلوجرامات فلفل بلغاري، كرياج طوله ٥ أمتار، سير شاحن، مِطرقة، ركاب، خمسة أكواب، تليفزيون، ۲۰ بروجيكتور، جهازا CD، لوحة ﻟﻠ DJ، Sub-bass، سمَّاعات، طقم طبول». بالطبع، فإن هذه القائمة يمكن تنويعها عند تقديم كلِّ عرض من عروض البرفورمانس في بعض التفاصيل، بعضها يُغيَّر، وبعضها الآخَر يضاف، وذلك تبعًا لمَا يستجدُّ من أفكار، والحقيقة أنَّ أفكار هؤلاء الفنَّانين هي مَعينٌ لا ينضب.
١٥٦  الحاشية التفسيرية لمسرحية Tower of Taste. كتالوج، كوادرينالي، براج، ۲۰۰۳م، ص۳۰۰.
١٥٧  انظر ما كتبه مؤلِّفو المسرحية عن النسخة الأُولى من «الزفاف المبتل»: «مسرحية من مسرحيات الشارع، الذي يصبح الإنستاليشن الهندسي فيها وسطًا من الأشياء التقليدية؛ أمَّا هواجس المدينة، فتصبح دافعًا لتقليد الطقس. هنا تختلط الأشياء على نحوٍ عضوي؛ الخمر بالأسيتون، العجين بالتراب، رقص بوتو ومقاعد تونيت. الحاشية التفسيرية لمسرحية «الزفاف المبتلُّ».
١٥٨  من حديث مؤلِّف الكتاب مع يانا تومينا، في ٢٣ / ۷ / ٢٠٠٤م. مخطوط، أرشيف مؤلِّف الكتاب.
١٥٩  المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥