حقوق المرأة في الإسلام
قال المؤلف حفظه الله:
عندما خطتْ مسألة المرأة خطوة شاسعة إلى الأمام واتسع ميدان البحث بشأنها بين الشعوب المتمدنة، وأخذ يشغل أفكار وعقول أصحاب المدارك السامية الذين استنارت عقولهم بنبراس العلم وامتلأت أفئدتهم بحب الفضيلة، ثم إنه عندما اضطرمت نيران المزاحمة في سبيل الحياة في أوروبا وأميركا، وفقد من بين الناس أساس السيادة العائلية الذي أضاعت به المرأة حق حمايتها الطبيعية واهتمام الرجال بها، الذين هم رؤساء العائلات ويتحتم عليهم شرعًا إعداد جميع وسائل الراحة ومواد المعيشة للعائلة؛ كل ذلك حدَا بالمرأة إلى ضرورة الاهتمام بنفسها وتحصيل ما يلزم للقيام بأودها من طعام ولباس وغير ذلك، وقد فتح لها ذلك بابًا واسعًا للخوض في ميدان متاعب الحياة وأشغالها، وهي أمور كانت قبل ذلك محتكرة من الرجال دون النساء. ثم إنه أخيرًا عندما ارتقت بين الناس صفات العدل والإنصاف وأشرق نور العلم ودخلت أشعته العقول، علم الناس أن توالي الأجيال أوجد نظامًا خارجًا عن حدود العدالة خوَّل للقوي (الرجل) استعباد الضعيف (المرأة) وقد أحدثت معرفة ذلك انفجارًا هائلًا في أوروبا وأميركا عادت عاقبته بالفائدة الجزيلة للمرأة، فأخذت حقوقها بعد ذلك تتدرج في التوسع يومًا فيومًا حتى أصبحت مساوية لحقوق الرجال من جميع وجوهها في بعض البلاد المتمدنة.
والواقف على أعمال المصلح الهندي الشهير (ما لا باري) يرقص فؤاده طربًا وتمتلئ جوارحه سرورًا؛ إذ تتمثل لديه أعمال المصلحين الكبار ويرى بأجلى بيان أن إرادة الرجل الواحد إذا اتجهت لغاية نبيلة ومقصد شريف، وتعززت بالاعتقاد المتين بقداسة وعدالة العمل المشروع به، تذلل المصاعب التي تتجلى للشارع في العمل جسيمة لا ترام وتحول الصعب سهلًا، وبين هذا وذاك فإن حالة المرأة المسلمة مع ما هي عليه من الجهل المطبق وحرج المركز لم تصادف إلى يومنا هذا رجلًا شديد العارضة ومصلحًا ذا عزم ثابت وإرادة لا تتزعزع، يدعو المسلمين إلى إصلاح حالة المرأة ويكون لقوله تأثير شديد في النفوس. أجل إننا لا ننكر بأنه ظهرت بين العثمانيين والمصريين أصوات نادت بالدعوة إلى الأخذ بناصر المرأة، وصرحت تلك الأصوات الجريئة الجسورة بخطارة حالة المرأة المسلمة التي جرت أضرارًا جسيمة على العائلة والهيئة الاجتماعية الإسلامية، وإن الضرورة وظروف الأحوال تحتم وجوب تحسين نظام معيشة المرأة بين المسلمين وتحرير المرأة من تلك القيود المقيدة لمواهبها العقلية والجسدية، ولكنه من جهة أخرى فإننا نرى تلك الأصوات لا تزال ضعيفة خافتة مزعزعة، وإذا نادت فإنما تنادي بمزيد الحذر والتلميح، ولذلك فلم يكن لها تأثير شديد على المسلمين، ولم تجد بينهم آذانًا مصغية ولا قلوبًا واعية.
وللإجابة على هذه الأسئلة يوجد رأيان: أن سواد الناس الأعظم — الذي يسلم بداهة بالأمور دون بحث بأسبابها ونتائجها، وذلك بالنظر لاستيلاء العقائد الفاسدة على عقولهم ورسوخها في أذهانهم، سواء كان في أوروبا أو روسيا على الخصوص — يعتقدون اعتقادًا متينًا بأن الذنب على الإسلام في جميع ما يجري في البلاد الإسلامية، ولولا وجوده لكانت الحال هناك على غير ما هي عليه الآن، والمعتقدون بهذا الاعتقاد يرون أن المسلمين ما داموا مسلمين لا يستطيعون الإقبال على المدنية الأدبية العمومية، ثم إنهم — أي الغربيين — يزعمون أن الشر جميعه متمثل في الإسلام ويتصورون أن أعظم وسيلة تنقذهم منه هي ملاشاة نفس الدين ومحقه من وجه الأرض، وهذه الأفكار رسخت في العقول منذ أجيال عديدة سالفة من جراء الخصام والشقاق والنزاع العنيف بين الغرب والشرق في أثناء قرون مديدة بسبب اختلاف الإسلام والمسيحية، الأمر الذي يظهر للرجل الساذج الذي لم يعتد التفكر والتروي والتأمل بأن هاتين الديانتين على طرفي نقيض في الجوهر والمعتقدات ولا يمكن التوفيق بينهما. وأخيرًا إن هذا الاعتقاد ساد مدة طويلة بين أهل الغرب؛ يدلنا على ذلك دلالة واضحة الآداب البيزنطية والآطينية المضادة للإسلام، ومن أراد زيادة إيضاح عليه أن يقف على مؤلفات ومخلفات العصور الوسطى لا سيما الفترة التي حدثت فيها الحروب الصليبية.
ومما مر يتضح للقارئ أن العقول النيرة كانت منغمسة بمثل هذه الاعتقادات الفاسدة والمفتريات الباطلة البعيدة عن الحقيقة بعد السماء عن الماء، وقد أجمعوا عليها كلهم، حتى إنه لو قام بينهم في مثل ذلك الوقت رجل كشف الله له عن نور الحقيقة وجاهر بها لكنت ترى الناس يصبون عليه صواعق سخطهم ونقمتهم، فقد كادوا يحرقون دانتي في النار لأنه عدَّ محمدًا في (روايته الإلهية) بين الرجال العقلاء ذوي المدارك السامية المصلحين، فاضطر لكي ينجو من سخط الشعب الذي تهدده بالقتل أن يضعه في عداد الرجال الأشرار الذين عاثوا في الأرض فسادًا وبثوا بذور الشقاق والنفاق والخصام بين معاصريهم مثل «فرا دالتشينو» و«برتران دي بورن» وغيرهما الذين هم في عرف الشعب من سكان جهنم.
إن بيبلياندر وهوتينجر وماراجي وغيرهم أخذوا يدرسون القرآن درسًا مدققًا على قصد تقويض أركانه، وأما ليبينتس وشكسبير فإنهما تكلما كثيرًا على نبي المسلمين بقصد إضحاك الجمهور وتسليتهم، وأما فولتير فإنه التمس الغفران من البابا بواسطة تقديمه له رسالة الطعن المشهورة التي عنوانها «محمد» وقد نسب بها إلى النبي محمد أمورًا منكرة لم تخطر بباله، ومنافية على خط مستقيم لروح تعليمه ومباديه، وقد ضمنها بهذين البيتين فنذكرهما بالحروف وهما:
ولم يقفوا عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى مطابقة مبنية على العلم والتحقيق والكتابات الماضية، وأبدوا في خلال ذلك ملاحظاتهم على الأدوار العديدة التي تقلبت فيها الأديان منذ ظهورها وما تحملته من الانقلاب والتغيير، ولم يميلوا في عملهم هذا ودرسهم مع الأهواء، بل دونوا الحقيقة مجردة من كل غرض فاسد وميل منحرف، وهذا يناقض حالة العلماء في الأجيال الماضية الذين غشى التعصب الديني أبصارهم وأسدل حجابًا كثيفًا على أفكارهم؛ فأعماهم عن المجاهرة بالحقيقة وقادهم إلى الابتعاد عن جادة الحق والإنصاف، وقد تبعهم في ذلك سواد الناس الأعظم الذين لزعمهم بأنهم حاملو الحق فإنهم لا يستطيعون احتمال معتقدات غيرهم من الناس والوقوف حيالها موقف السكينة والرضى، بل يسفهونها ويذهبون في انتقادها كل مذهب.
ولو قابلنا حالة الديانة المسيحية بحالتها في القرون الوسطى وفي أيام الإصلاح وأيامنا الحاضرة، لظهرت لنا بأجلى بيان تلك الأدوار المختلفة التي كابدتها وما دخل عليها من التغيير والفساد والتفاسير المتناقضة المتباينة، مع أنها ديانة مبنية على أساس متين واضح، ومثل ذلك جرى للديانة الإسلامية بقطع النظر عما دخل عليها من البدع والتفاسير التي لا تطابق حقيقة جوهرها وليست منها في شيء. وقد حدث نفس هذا الأمر للمرأة المسلمة، فإن حالتها اليوم في الهيئة الاجتماعية الإسلامية على عكس ما وضعه لها الإسلام وما كانت عليه في بدء ظهوره.
وينبغي لنا قبل التكلم عن حالة المرأة في الإسلام وما وضعه لها من الحقوق أن نرجع بنظرة إلى الوراء لنقف أولًا على أحوال العرب وطرق معيشتهم في الزمن السابق للإسلام، ونعرف من ذلك حالة المرأة في ذلك الوقت بين العرب وبين الشعوب المجاورين لهم، وبناء على ذلك نستطيع إصدار حكم حقيقي مطابق للواقع ومبني على العقل الراجح المتثبت من الأمر، فنقف بعد ذلك الحكم على الدور الذي لعبه الإسلام في تحريك مسألة المرأة وما صنعه محمد للمرأة عمومًا وللعربية خصوصًا.
غير أن أكثر الباحثين ينبذون هذا الرأي ولا يتمسكون به، ولذلك تكون نتيجة أبحاثهم فاسدة سطحية غير مبنية على الحقيقة والعلم الصحيح، والعاقل لا يعول على مثل هذه الأحكام، وأمثال هؤلاء الباحثين يستنتجون أن ما قاد المرأة المسلمة إلى ما هي عليه في عصرنا الحالي من الانحطاط غير الدين الإسلامي، فيحكمون عليه حكمًا سطحيًّا جائرًا، وينسبون إليه أمورًا ما أنزل الله بها من سلطان كما كانوا يحكمون عليه في القرون الوسطى.
ونحن الآن نترك البحث فيما وصلت إليه حالة المسلمين، ونأخذ بتلابيب مسألة المرأة وعلاقة الإسلام بها من الوجهة العملية، أو بعبارة أوضح نبحث فيما جاء في الديانة الإسلامية من التعليم بخصوص المرأة ونعرِّف القارئ بالحالة التي وجد فيها محمد المرأة في البلاد العربية خصوصًا والشرق عمومًا، ثم ننتقل بعد ذلك إلى البحث فيما صنعه محمد للمرأة أو فيما حاول صنعه لها على الأقل. وأظن أن هذه الطريقة تؤدي إلى إمكان معرفة ما ستئول إليه حالة المرأة المسلمة في المستقبل عندما يفتح الله بصيرة المسلمين ويكشف لهم عن نور الحقيقة، فيدركون جوهر دينهم ويفهمونه فهمًا حقيقيًّا كما هو. ومن جهة أخرى أرجو أن أدحض تلك المثالب التي ينسبها للإسلام أولئك العلماء والباحثون المجردون عن الإنصاف الذين يستسلمون للأغراض والأهواء النفسانية، فيصدرون أحكامًا سطحية تكذبها الحقيقة الراهنة كاتهامهم الإسلام مثلًا بإحداث أمر تعدد الزوجات.
في واقعة أحُد التي وقعت بين أهل مكة وصحابة النبي محمد أهل المدينة خرجت نساء المكيِّين إلى ساحة القتال وراء أزواجهن وكانت ترأسهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وقد قامت في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضهن، فقالت هند فيما تقول:
وتقول أيضًا:
أما النبي محمد فإنه نادى في بدء ظهوره بضرورة إزالة تلك العادات الهمجية البربرية المتبعة مع النساء، وكان يتأثر أشد التأثر لحالة المرأة وما هي عليه من الانحطاط والامتهان، ولم يكن فؤاده الرقيق يتألم ويتأثر أيضًا لشيء مثلما يتأثر مما كان يراه في حالة المرأة السيئة المتروكة دون أقل اهتمام وليس لها عضد أو نصير، وكذلك كان يتألم لرؤيته الأطفال والأولاد الذين يتركهم والدوهم ومثل ذلك الغرباء الذين لا مأوى لهم. والمطلع على ما ورد في القرآن الكريم من الآيات البينات بشأن النساء والأيتام والغرباء لا يفتأ حتى يتقطع فؤاده ألمًا وجزعًا لما تضمنته تلك الآيات من الكلام المؤثر الشديد اللهجة.
وقد خصصت في القرآن سورة طويلة للنساء معروفة بهذا الاسم، وهي تدل دلالة واضحة على الأهمية الكبرى التي أظهرها محمد بشأن مسألة المرأة، وتبتدئ تلك السورة بآية لم يكن ينتظر سماعها رجال العرب وعدوا ذكرها جرأة عظمى وهي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ. إن كلمات هذه الآية اشتم منها العرب الوثنيون رائحة الاضطراب والثورة المقصود بها القضاء على سننهم وتقاليدهم وعاداتهم وأخلاقهم وأفكارهم وأفهامهم، ولكن إذا نظرنا إلى كلمات تلك الآية من وجهة أخرى نجد أنها توجه إلى العرب عبارات التوبيخ والملام المملوءة بالعار بالشنار، وتفهمهم أن الرجل والمرأة مخلوقان من نفس واحدة وأنهم متساويان في كل شيء ومسئولان أمام الله على السواء عما يفعلانه. وبعد ذلك يقص القرآن كيف خلق الله آدم وحواء وأورد تلك القصة كما جاءت في التوراة بتغيير طفيف لا يذكر، ونحن لا نتمسك كثيرًا بآيات هذه السورة التي نزلت خاصة للمرأة لأنها لم تجئ مترادفة، بل تخللتها آيات كثيرة خاصة بالتعليم عن القداسة والأعمال الطيبات وإغاثة الملهوف وحماية الغرباء والرفق بالأيتام وغير ذلك.
وعدا ذلك فقد وصلت إلينا جملة أحاديث نبوية تتضمن الكلام بخصوص المرأة ورفع منزلتها في عيون العرب، ففي أحدها جاء ما مضمونه (أن ولادة البنت علامة من علامات نعم الله ومراحمه).
ووردت أيضًا أحاديث أخرى بشأن الأولاد الذين يموتون كيف أنهم يشفعون بوالديهم ويكونون وسيلة لإدخالهم الجنة، فنذكر بعضها إتمامًا للفائدة:
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي إمامة أن رسول الله ﷺ قال: «ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش شافعين ومشفعين.»
وروى أبو النضر السلمي أن رسول الله ﷺ قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنة من النار.»
ومنها أيضًا:
ثم إن الشريعة السمحاء خولت المرأة المتزوجة جميع الحقوق المدنية، فهي تدبر شئونها وممتلكاتها بنفسها مستقلة بذلك عن زوجها الذي لا يحق له أن يلزمها بعمل أمر من الأمور قط عدا إرضاع أطفالها، وإنما هي مرغمة لزوجها بالعفة المطلقة والطاعة ضمن حدود معلومة، وإذا شاءت إرادتها الاعتناء بتدبير شئون منزل زوجها وممتلكاته فإنما تأتي ذلك مخيرة يدفعها إلى ذلك حبها الحقيقي له. ثم إن كل خصام يحدث بينهما ينبغي أن يُنظر ويحل بواسطة مؤتمر عائلي مؤلف من حَكَم من أهله وحكم من أهلها، قال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا. والشريعة السمحاء خولت للنساء حق الإرث عن أزواجهن وأولادهن، وأمرت الشريعة أيضًا بأن يكون عقد الزواج مبنيًّا على الحب الحقيقي فقال جل شأنه: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ، وهو مؤسس على فروض شرعية مقدسة تجعله محترمًا معلومًا لدى الجميع، وقد جاء في القرآن الكريم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً. أجل إنه يسوغ نقض عقد الزواج لأن الشريعة أباحت الطلاق وإنما ضمن حدود معلومة حيث ينبغي أن يكون مبنيًّا على أسباب شرعية، ويتحتم على الرجل في جميع أحوال الطلاق (ما عدا طلاقه زوجته بسبب خيانتها وعدم صون عرضها) أن يدفع لها نفقة العدة لمدة ثلاثة أشهر على الأقل، وأباحت الشريعة للمرأة المطلقة أن تبقي لديها أولادها الصغار، وفي مثل هذه الحالة حتمت على الرجل أن يدفع لها نفقة لتنفقها على تربية الأولاد. قدمنا أن الشريعة أباحت الطلاق ولكنها من جهة أخرى حقرته وأبغضته، فقد جاء في الحديث الشريف: «أبغض الحلال عند الله الطلاق.»
ثم إن الشريعة حتمت على الأزواج أن يعيشوا مع زوجاتهن على أتم وفاق ووئام، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا. ثم إنه يتحتم على الأزواج أن يتساهلوا مع زوجاتهن ويصفحوا عن الزوجة التي تسقط في الضلال وتمزق شعار طهارتها وعفتها.
ثم أوضحت الشريعة أيضًا بأنه لا يجوز إدانة الزوجة بالزنا لمجرد الشك أو النميمة أو السماع، وإنما ينبغي أن ينظر قضية إدانة الزوجة بالزنا مجلسٌ عائلي يتثبت من الأمر بشهادة أربعة شهداء عدول مشهود لهم بطهارة الذمة والأمانة وعدم الميل لغرض من أغراض القضية المرفوعة، وقبل إصدار الحكم يدعوها المجلس إلى التوبة والرجوع عن غيها وضلالها، قال الله في كتابه العزيز: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا.
ولننتقل الآن إلى الكلام على تعدد الزوجات، فقد سبق لنا القول بأنه عند ظهور النبي كان أمر تعدد الزوجات منتشرًا انتشارًا هائلًا في البلاد العربية والبلاد المجاورة لها، ولم يكن في الإمكان إزالة هذه العادة التي رسخت في أفئدة القوم منذ أجيال عديدة، ويظهر أن تلك العادة كانت من مطالب الحياة الضرورية لأهل الشرق ولا يمكنهم أن يستغنوا عنها أو يعيشوا بدونها، وينسبون أسباب انتشارها بين الشرقيين إلى المناخ وتركيب بنية أجسامهم. ولكن مع ذلك فقد أصلح الإسلام هذه العادة وصنع كثيرًا للشرق بشأنها، فقد عين أولًا بأن عدد الزوجات الشرعيات ينبغي أن يكون أربعة، وحصر هذا التعيين ضمن حدود معلومة يصعب على الإنسان تعديها أو القيام بما جاء فيها، ولذلك فإذا تأملناها فإننا نجدها تفضي إلى الزواج بواحدة، ورأس هذه الحدود أنه يتحتم على الرجل أن يعدل بين جميع زوجاته، ونحن إيضاحًا لذلك نكتفي بإيراد مجمل أقوال المفسرين لكلمة «العدل» كالإمام فخر الرازي والملَّا فتح الله وغيرهما: ينبغي على الرجل أن يطلق العدل ليس فقط على علاقاته الخارجية مع زوجاته، أي الإنفاق عليهن على السواء، كلا بل يجب على الرجل أن يعدل في محبته بين نسائه، وهل هذا أمر مستطاع يا ترى؟ وقد أجاب القرآن الشريف على هذا السؤال بقوله تعالى: وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا. ولذلك كان العدل بين النساء من رابع المستحيلات يؤدي بالذين يتزوجون بأكثر من واحدة إلى ارتكاب الخطيئة وتعدي حدود الله، فما العمل أيضًا لقاء هذا الأمر؟ وعلى هذا السؤال أيضًا يجيب القرآن الكريم بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا.
إن الآيات التي أوردناها تدل دلالة واضحة على أن الإسلام مؤيد للزواج بواحدة، وهذا أمر مما لا ريب فيه، وأنه سيأتي يوم عندما يدرك المسلمون فيه روح دينهم وجوهره سينبذون عادة تعدد الزوجات ويقبلون من نفوسهم على أمر الاكتفاء بزوجة واحدة، ولذلك فيخطئ كتاب الأوروبيين خطأً جسيمًا باتهامهم القرآن ومحمدًا بعداء نصف الجنس البشري — أي المرأة — ويخطئون أيضًا بنسبتهم جمود المسلمين ونقائصهم إلى الدين، مع أنهم لو أنصفوا ونطقوا بالحقيقة المجردة عن كل غرض سيئ لرأوا أن هذه النقائص وجدت من نفسها في العالم وأن دين أولئك الكتاب — أي النصرانية — يقاومها مقاومة عنيفة متواصلة.
أما القرآن فقد قام بعمل خطير جدًّا، فإنه رفع شأن المرأة وأعلى منزلتها وخولها حقوقًا لم يسمع بمثلها في الشرق مطلقًا، فإنه جعلها أمًّا وزوجة بعد أن كانت أمَة ليس لها كرامة أو مقام معروف. وقد أدركت النساء مقدار الحقوق التي خولتها إياها الشريعة الغراء، فتمسكت بها وحافظت عليها ودافعت عنها دفاعًا شديدًا ولم تخش بسببها بأس أحدٍ، يدلنا على ذلك الرواية الآتية التي رواها الملَّا فتح الله في تفسيره القرآن العزيز حيث جاء فيه ما نصه: «بعد وفاة النبي وقف ذات يوم الإمام عمر في المسجد يخطب في الناس، وأظهر في خلال خطبته أنه يروم إبطال عادة دفع المهر للزوجة، فقامت إحدى النساء الحاضرات في المسجد وخاطبت الخليفة بصوت جهوري قائلة: «يا أمير المؤمنين إنك لا تستطيع أن تحرمنا ما أنعم به علينا الله ورسوله» فرجع الخليفة عن عزمه.»
وما أجهل وأظلم أولئك الذين يتهمون النبي محمدًا بإحداثه الحجاب وأمره به لأتباعه، فالحجاب وجد في الشرق قبل النبي بمدة طويلة، ومحمد لم يأمر به ولم يضعه على طريقته المتعارفة اليوم بين المسلمين، والحجاب أيضًا لم يكن معروفًا عند العرب الأحرار، والتاريخ يدلنا دلالة واضحة لا تدع شكًّا في نفس مرتاب على أن نساء النبي ونساء خلفائه كُن يتبعن أزواجهن في أسفارهم وغزواتهم، وعائشة زوجة النبي قادت الجنود بعد وفاته. وقد انتشر الحجاب بين العرب بعد وفاة النبي بمدة طويلة عندما اختلطوا بالشعوب الأخرى في أثناء فتوحاتهم، وأخذت أخلاقهم وعاداتهم بعد ذلك تفسد رويدًا رويدًا بسبب ذلك الاختلاط وما جنوه من الثروة الواسعة التي قادتهم إلى معيشة البذخ والترف.
وقد استحسن العرب الحجاب عند الأمم التي خالطوها فأخذوه عنها وعملوا به فحجبوا نساءهم، ولكنهم بالغوا في ذلك كل المبالغة وألبسوه لباس الدين ولم يراعوا سوء عاقبته على المرأة، واستندوا في إحداث هذه العادة على آيتين وردتا في القرآن الكريم وقد اتخذهما الجهلة والمدَّعون بالعلم إلى يومنا هذا سلاحًا حادًّا يحاربون به أولئك المجاهدين في سبيل إطلاق حرية المرأة من سجنها الأبدي، فإحدى الآيتين نزلت بشأن زينة النساء قال الله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، والآية الثانية هي آية الحجاب.
ومما لا مراء فيه هوان عرب البادية في زمن النبي، حتى في عصرنا الحالي لم يكونوا متفننين في استنباط الأزياء المختلفة المتعارفة الآن بين الناس، فكان هؤلاء المتوحشون يحضرون إلى مجلس النبي زرافات رجالًا ونساء وهم نصف عراة تقريبًا، وكانوا يخاطبونه بجرأة قائلين: حدثنا يا محمد عن ربك. وكانت مثل هذه العبارات تؤثر في نفس النبي تأثيرًا شديدًا، ولكن لم يكن له مفر من محادثتهم لأن دعوته كانت تحتم عليه المداخلة في جميع شئون العرب حتى الطفيفة منها، فكان يضطر في مثل هذه الحالة أن يتجه إلى السماء ملتمسًا الآيات من لدن ربه، فنزلت الآية بشأن الزينة وهي: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ.
فأخذ العرب بعد ذلك يغطون نصف جسمهم الأسفل وبقي النصف الأعلى مكشوفًا أي الصدر والعنق والرأس، فاضطر أيضًا النبي أن يتجه ثانية إلى السماء فنزلت عليه آية الحجاب وهي: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ، فأخذت النساء بعد ذلك يحجبن رءوسهن وأسدلن الحجاب على صدورهن وأعناقهن تخلصًا من شمس بلاد العرب المحرقة.
قالت الكاتبة التركية الشهيرة في كتابها المسمى (نساء المسلمات المشهورات): «إن الأعمال العظيمة لا تستطيع مرور الأيام أن تقضي على شهرتها ونفعها، ولذلك فلا يستطيع أحد مهما اختلفت مبادئه وفسدت أهواؤه أن ينسب إلى النبي شيئًا لا سيما في ما فعله للمرأة.» وأردفت كلامها بقولها: «والتاريخ أعدل شاهد يشهد لنا بأن النساء على عهد النبي وخلفائه كن يحضرن مجالس الرجال بكل حرية ويختلطن بهم ويقابلن الضيوف من الجنسين ويخرجن معهم للتنزه في الشوارع، وكن يأتين المساجد وجميع الأندية العامة.»
ومما يروى عن عائشة — رضي الله عنها — أنها قالت: «إن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله ﷺ وعليها ثياب رقاق فقال لها: يا أسماء، المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه.» وفي رواية أخرى أن فاطمة ابنة النبي جاءت إلى الخليفة أبي بكر بعد وفاة والدها واعترضت على كلامه السابق.
ثم إننا نعتقد اعتقادًا متينًا بأن ما أوردناه من الأدلة الساطعة كاف لدحض آراء أولئك المدعين بالعلم الذين ذهبوا في تأويل كلام الله العزيز كل مذهب حسبما أملته عليهم أهواؤهم وأغراضهم الفاسدة، فنشروا بين الناس على توالي الأعوام اعتقادًا رسخ في القلوب رسوخ الجبال الرواسي: وهو أن الإسلام أحدث أمر الحجاب على الطريقة التي هو عليها الآن، وقد أفضى ذلك إلى الاعتقاد بأن محمدًا والقرآن من أشد أعداء الجنس اللطيف الألداء، وهو أمر بعيد عن الحقيقة بُعد الماء عن السماء، ومحمد براء من هذا الافتراء. وإننا سنوضح للقراء فيما بعد طريقة انتشار الحجاب بين المسلمين ووصوله إلى الحد الذي نراه اليوم بيننا.
وقد شعرت نساء العرب بعلو المنزلة التي رفعهن إليها النبي محمد فقدرنها حق قدرها وانعطفن إليه كل الانعطاف وتعلقن به تعلقًا شديدًا، وقد قال أرنست رنان: «إن النبي محمدًا كان يرتاح ارتياحًا شديدًا لانعطاف النساء إليه ويتأسى به عما كان يلحقه من الإهانات العديدة في بدء دعوته، فقد أبصرته النساء مطرودًا مهانًا فتبعنه وخدمنه وتعلقن به تعلقًا شديدًا. وقد اشتهرت في صدر الإسلام عدة من النساء الفاضلات، فبعد عمر وعلي أشهر خلفاء صدر الإسلام قامت امرأتان لا ينكر جهادهما وأعمالهما الخطيرة أحدٌ، وهما عائشة وفاطمة. ثم إن شعار القداسة كان يخفق مشرقًا حول خديجة، وقد عدت العبدة بلال أيضًا بين كواكب ذلك العصر الذهبي. ا.ﻫ.»
ثم إننا نقسم تاريخ المرأة بين المسلمين إلى أربعة أدوار عامة: الدور الأول من عهد النبي إلى الخلافة الأموية، والثاني من الخلافة الأموية إلى السلطنة التركية، والثالث تاريخها في السلطنة التركية، والدور الرابع سقوط المرأة النهائي. ففي الدور الأول اتصفت المرأة بالأخلاق الحميدة والطباع القويمة والسيرة الحسنة والإقدام على الأعمال الخطيرة والاستشهاد في سبيل الدين والدعوة إليه والميل إلى الشِّعر وجودته، ثم إن نساء هذا الدور من حيث ارتقاء الشعور وسمو الأخلاق والإقدام على الأعمال المجيدة يشبهن نساء صدر الديانة النصرانية اللاتي اشتهرن بالتدين الزائد وترقية نظام المعيشة العائلي وصنع البر والإحسان والاستعداد التام في كل آونة لاحتمال كل شيء في سبيل الدين.
فقد اشتهرت خديجة بثروتها الواسعة واسمها الرفيع ومنزلتها السامية وعيشتها الراقية، ومع ذلك فقد تزوجت بالرغم عن إرادة أقاربها الأقوياء الأشداء بذلك الرجل الأمي الذي لم يحرز شهرة تُذكر، الخاضع للشياطين والأبالسة (كما اتهموه)، ذلك الرجل الوضيع والمصلح الجريء الذي تجرأ أن يقلب شئون البلاد العربية وأحوالها الماضية والحاضرة ويغيرها تغييرًا عظيمًا، الأمر الذي لم يكن يخطر على بال أحد. ومما لا مراء فيه هو أن خديجة لعبت دورًا مهمًّا في جميع أدوار حياة النبي لما كان لها عليه من التأثير الحسن. ثم إن الضرورة التي تدعونا إلى درس الحوادث الماضية للوقوف على حقيقتها قد أوجدت لنا سؤالًا لا بد منه، وهو: ماذا كان يحدث للإسلام لو لم توجد هذه الفاضلة التي أنارت فجر دعوة النبي محمد؟ فكم من مرة عاد إليها مضطربًا تعبًا مهانًا مستهزَأً به وقد صغرت نفسه وأُنهك جسده وفؤادُه يكاد يتمزق حزنًا لعدم تصديق الناس دعوته!
ولما ابتدأ الوحي يبدو للنبي ﷺ بواسطة جبريل كان متخوفًا من ذلك، وأخبر خديجة فقالت: «أبشر فلن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق»، ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع أهل التوراة والإنجيل فأعلمته بشأنه، وسألته خديجة بعد ذلك قائلة: يا ابن العم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاء؟ قال: نعم. فجاءه جبرائيل فأعلمها، فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى. ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول على فخذي اليمنى. ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. فألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ فقال: لا. قالت: يا ابن العم اثبت وأبشر فإنه ملَك وما هو بشيطان، فكانت خديجة أول من آمن به وصدقه. وبقيت خديجة مع النبي ﷺ ٢٤ سنة وأشهرًا ولم يتزوج عليها، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل بخمسة وخمسين يومًا، وعمرها خمس وستون سنة، ودفنت بالحجون، وحزن النبي عليها ونزل في حفرتها وعظمت عليه المصيبة بوفاة أبي طالب ثم وفاتها، وكانا من أشد المعضدين له، وروي عن النبي أنه قال: «أفضل نساء الجنة خديجة وفاطمة ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون.» وروى بعض الثقات أن معاوية اشترى المنزل الذي كانت فيه خديجة وجعله مسجدًا.
وقال ابن الوردي: لما بُعث النبي ﷺ دخل على خديجة فحكى لها ما رأى، فقالت: أبشر فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم أتت خديجةُ ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخًا كبيرًا، وكان قد عمي وتنصَّر في الجاهليه وكتب في التوراة والإنجيل، فلما ذكرت خديجة أمر جبريل وما رأى ميسرة فقال ورقة: إنه ليأتيه الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعًا حين يخرجه قومه. فأخبرت النبي بذلك فقال ﷺ: أومخرجيَّ هم؟ فقالت: سألتُه عن ذلك قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جاء به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومه أنصره نصرًا مؤزرًا في ذلك وإن رأيت أن ترسليه لي فأخبِره عن ذلك وقال أبياتًا منها:
ولما اشتد إيذاء قريش لأصحاب رسول الله ﷺ أذن رسول الله لمن ليس له عشيرة تحميه في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأول من خرج اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة منهم: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، والزبير بن العوام، وعثمان بن مطعون، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عون، وركبوا البحر وتوجهوا إلى النجاشي وأقاموا عنده، ثم خرج جعفر بن أبي طالب مهاجرًا، وتتابع المسلمون أولًا فأولًا، فكان من هاجر من المسلمين إلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلًا وثماني عشرة من نسوة سوى الصغار ومن ولد بها، فأرسلت قريش في طلبهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأرسلوا معهما هدية من الأدم إلى النجاشي، فوصلا وطلبا من النجاشي المهاجرين فلم يجبهما النجاشي وقال عمرو بن العاص: سلهم عما يقولون في عيسى فسألهم النجاشي فقالوا: ما قاله الله تعالى من أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء، فلم ينكر النجاشي ذلك، فأقام المهاجرون في جوار النجاشي آمنين ورجع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة خائبين بعد أن رد النجاشي عليهما الهدية. ولما رأت قريش ذلك وأن الإسلام قد جعل يفشو في القبائل تعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وتركوها في جوف الكعبة توكيدًا على نفوسهم، وانحازت بنو هاشم — كافرهم ومسلمهم — إلى أبي طالب ودخلوا معه في شعبه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش مظاهرًا لهم، وكانت امرأته أم جميل بنت حرب — وهي أخت أبي سفيان — على رأيه في عداوة رسول الله ﷺ، وهي التي سماها الله تعالى: حمالة الحطب؛ لأنها كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق رسول الله ﷺ ا.ﻫ.
ولما عاد المهاجرون إلى المدينة بعد أن أقاموا مدة طويلة في بلاد الحبشة كانت أم حبيبة تلازم النبي، وروى ابن هشام أن قد خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله ﷺ وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ﷺ. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، وخرج.
وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، كانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام رجلًا من قومه من بني عدي بن كعب قد أسلم، وكان أيضًا يستخفي بإسلامه فرقًا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرأها القرآن، فخرج عمر يومًا متوشحًا سيفه يريد رسول الله ﷺ ورهطًا من أصحابه وقد ذكروا له: أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله ﷺ عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله ﷺ بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة. فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما.
قال: فرجع عمر عامدًا أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها «طه» يقرأهما إياها، فلما سمعوا حس عمرَ تغيب خبابٌ في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعتُ؟ قالا له: ما سمعت شيئًا. قال: بلى والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك.
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا أنظُر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبًا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافي وحلف بآلهته لَيردنَّها إذا قرأها إليها. فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخي إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه»، فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام وبعمر بن الخطاب)، فالله الله يا عمر. فقال له عمر عند ذلك: فدُلَّني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو بدار عند الصفا. فقصده عمر وهو متوشح بسيفه، فاستأذن في الدخول فأذن له رسول الله ﷺ، فلما دخل نهض إليه رسول الله ﷺ وأخذ بمجمع ردائه وجبذه جبذة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب وما تزال حتى تنزل بك القارعة. فقال عمر: يا رسول الله جئت لأومن بالله وبرسوله. فكبر رسول الله ﷺ وتم إسلام عمر.
ولا يخفى أن الإسلام في بدء ظهوره (كالديانة النصرانية في أول انتشارها) كان شديد المعارضة والمقاومة لأحوال الوثنيين ومعيشتهم البالغة أقصى درجات الفساد والتبذير والبذخ، ومعلوم أيضًا أن العرب بعد ظهور دعوة النبي ازدادوا تعلقًا بعبادة الأصنام ودافعوا عنها ما استطاعوا إلى الدفاع سبيلًا، لا سيما أهل مكة وقبيلة قريش منهم خصوصًا، وقاوموا النبي مقاومة شديدة لأنه عاب دينهم وسب آلهتهم وصمم على القضاء عليها القضاء المبرم. وأما أهل المدينة فانقادوا إلى الإسلام وصدقوا ما جاء به، فارعووا عن غيهم وثابوا إلى الهدى ورجعوا عن ضلالهم. وكان لفاطمة تأثير شديد على أهل المدينة وأخلاقهم وعاداتهم، فعضدت والدها في دعوته. واشتهرت نساء المدينة في ذلك الوقت بالطهارة والعفة والاستقامة وحسن السيرة وجودة السريرة، فضارعن بجدهن ونشاطهن وقيامهن بالأعمال المجيدة وتربية أولادهن على المبادئ القويمة نساء الرومان والمرأة الإنكليزية الجديدة في عصرنا الحالي، فكن — أي نساء المدينة — يتوافدن زرافات زرافات لسماع خطب الخلفاء وتلامذتهم، وانصببن على درس التوحيد والشريعة، وكثيرات منهن كن يثقفن أولادهن دون الاحتياج إلى مساعدة أحد ويدرسنهم العلوم ويرضعنهم المعارف منذ نعومة أظفارهم، وقد اشتهرت بينهن شهرة عظيمة رابعة ريا أم أحد رجال صدر الإسلام العظام. ا.ﻫ.
(المعرب) رأيت من باب ذكر الحقائق التاريخية أن أزيد القراء تعريفًا بتاريخ فاطمة — عليها السلام — مما اقتبسته من التواريخ الإسلامية فأقول: ولدت فاطمة قبل ما تبني قريش الكعبة بخمس سنين، وهي أصغر بنات الرسول ﷺ، وأمها خديجة بنت خويلد، وكان النبي إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة، تزوجها علي بن أبي طالب — عليهما السلام — في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة. روي عن أنس أنه قال: كنت عند رسول الله ﷺ فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: يا أنس، أتدري ما جاءني به جبريل من صاحب العرش عز وجل وعلا؟ قلت: بأبي أنت وأمي ما جاءك به جبريل؟ قال لي: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تزوج فاطمة من علي، فانطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار. قال: فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مجالسهم قال ﷺ: «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد ﷺ، إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبًا لاحقًا وأمرًا مفترضًا وحكمًا عادلًا وخيرًا جامعًا، أوشج بها الأرحام وألزمها الأنام، فقال الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، وأمر الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمئة مثقال فضة، إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.» قال: وكان علي — عليه السلام — غائبًا في حاجة لرسول الله ﷺ قد بعثه فيها، ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا، فقال: انتهبوا، فبينما نحن كذلك إذ أقبل علي فتبسم إليه رسول الله ﷺ، وقال: يا علي، إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة وإني زوجتكما على أربعمئة مثقال فضة. فقال عليٌّ: رضيت يا رسول الله. ثم إن عليًّا خرَّ ساجدًا لله، فلما رفع رأسه قال الرسول ﷺ: «بارك الله لكما وعليكما وأسعد جدكما وأخرج منكما الكثير الطيب.» قال أنس: والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.
وعن عليٍّ — عليه السلام — قال: إن فاطمة بنت رسول الله صارت إلى قبر أبيها بعد موته ووقفت عليه وبكت، ثم أخذت من تراب القبر فجعلته على عينها ووجهها، ثم أنشدت تقول:
ولها — عليها السلام — ترثي والدها ﷺ:
توفيت — عليها السلام — ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة وهي بنت ثمان وعشرين سنة، ودفنت بالبقيع ليلًا وصلى عليها عليٌّ — عليه السلام — وقيل: صلى عليها ونزل في قبرها هو والفضل بن عباس، وقيل: لبثت فاطمة بعد وفاة النبي — عليه السلام — ثلاثة أشهر، وقال عروة بن الزبير وعائشة: لبثت ستة أشهر، ومثله عن ابن شهاب الزهري.
روي أن عليًّا — عليه السلام — لما ماتت فاطمة وفرغ من جهازها ومن دفنها رجع إلى البيت فاستوحش فيه وجزع عليها جزعًا شديدًا ثم أنشأ يقول:
وكان يزور قبرها كل يوم، فأقبل ذات يوم فانكب على القبر وبكى بكاء مرًّا وأنشأ يقول:
فأجابه هاتف يقول:
وقد بلغت المرأة المسلمة في دور ارتقائها الثاني، أي في عهد الأمويين والعباسيين، شأوَ النجاح والتقدم، فأحرزت شهرة واسعة في الأعمال المجيدة وصُنع البر والخيرات الجزيلة، واتسعت دائرة عقلها: ففي أيام الدولة الأموية زاحمت الرجال في طلب جميع العلوم والمعارف وأصبحت لا تختلف عنهم في شيء مطلقًا، فانكبت على طلب الشريعة والفقه والحديث والشعر والأدب والبيان والخط، وبوجه الإجمال فإنها أحاطت بجميع فروع العلوم فأتقنتها أيما إتقان. وفي عهد هشام والوليد لم تكن النساء تختلف في شيء عن الرجال، وهذا تاريخ ابن خلكان الكاتب العربي الشهير الذي هو عبارة عن أنسيلكو بيديا مملوء بذكر عدد وافر من النساء النابغات الفاضلات وبينهن كثير من نساء الطبقة السفلى اللاتي اشتهرن بجودة الشعر وحفظ الأنساب وغير ذلك، وفي هذا العصر الزاهر كانت في مقدمة النساء شهرة سكينة ابنة الإمام حسين وحفيدة فاطمة ابنة النبي ﷺ، قال ابن خلكان: «إن سكينة كانت سيدة نساء عصرها ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقًا.» وقال أحد الكتاب على عهد الخلفاء المدعو دي سلان: «إن سكينة كانت أشهر نساء عصرها وأعلاهن مقامًا وأوفرهن ذكاء وعقلًا وأدبًا وإحداهن جنانًا، فأحرزت قصب السبق في مضمار الأدب والتف حولها الشعراء والأدباء.»
وقال عنها الموسيو بيرون المستشرق الفرنسي الشهير: إنها كانت «سيدة سيدات عصرها وأجملهن وأظرفهن وأسماهن صفات وأخلاقًا.»
ويظهر أنه كان لها تأثير شديد على جميع معاصريها ومعاصراتها الذين كانوا يحذون حذوها في جميع ما تضعه من العادات، حتى إنها تفننت في اختراع الأزياء، فهي واضعة الطرة السكينية المنسوبة إليها والمعروفة باسمها بين النساء إلى يومنا هذا. قال ابن مصعب: «وكانت سكينة أحسن النساء شعرًا وكانت تصفف جمتها تصفيفًا لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك وانتشر بين النساء.» بيد أن شهرة سكينة لم تقتصر على الأزياء، بل إنها اكتسبت الشهرة بما كانت عليه من الأدب الرائع والمعارف الواسعة وحسن المحاضرة، حتى أصبح منزلها كعبة القصاد من المتشرعين والشعراء والعلماء، وحذا حذوها في ذلك كثير من نساء الطبقة العليا من مسلمي ذلك العصر الزاهر اللاتي كن يبذلن الوسع في استدعاء الشعراء إلى مجالستهن. وكانت سكينة تستقبل الزائرين وهي محاطة بجوارها الذين كانوا يتوافدون على منزلها في جميع أنحاء الخلافة بقصد محاضرتها أو التماسًا لصلاتها أو طلبًا لمساعدتها، وكانت تزين المجلس بحسن أدبها ووفرة ذكائها والأسئلة العديدة التي كانت تطرحها على الأدباء والشعراء الذين كانوا يحسبون لها حسابًا؛ لأنها كانت منتقدة ولم تكن تخشى في ذلك لومة لائم.
ثم إنه معلوم من التاريخ بأنه كانت عداوةٌ بين الخلفاء الأمويين الذين حكموا في دمشق وبين الهاشميين الذين كانت تنسب إليهم سكينة، وكانوا — أي الحكام — يحاولون إيجاد شيء يعيبون به سكينة ليحطوا من منزلها ويذهبوا بواسع شهرتها، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا. وكانت لها صداقة شديدة مع زوجة الخليفة الوليد الملقبة بأم البنين التي كانت تحترمها احترامًا شديدًا نظرًا لآدابها ووفرة معارفها. ومن نوادر سكينة مع الشعراء وغيرهم من ذلك أنها وقفت على عروة بن أذينة وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة، فقالت له: أنت القائل:
فقال: نعم. فقالت: وأنت القائل:
قال: نعم. فالتفتت إلى جوار كن حولها وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم قط.
وكانت سكينة تحب الهزل واللهو والطرب وهي من الحذق على جانب عظيم. حكي أنها حضرت مأتمًا فيه بنت عثمان بن عفان فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد. فسكتت سكينة حتى إذا أذن المؤذن وقال: أشهد أن محمدًا رسول الله قالت لها سكينة: هذا أبي أم أبوك؟ فقالت بنت عثمان: لا أفخر عليكم أبدًا.
وكانت سكينة عفيفة تجالس الأجلة من قريش وتجمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزاحة، وقيل: إنه اجتمع في ضيافة سكينة يومًا جرير والفرزدق وكثير عزة وجميل صاحب بثينة ونضيب، فمكثوا أيامًا ثم أذنت لهم فدخلوا، فقعدت بحيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم، ثم خرجت جارية لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال لها: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء السر، خذ هذا الألف دينار والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت: أيكم جرير؟ قال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
قال: نعم. قالت: أولَا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف، خذ هذا الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: أيكم كثير؟ قال: أنا. قالت: أنت القائل:
قال: نعم. قالت: ملحت وشكلت، خذ هذه الثلاثة آلاف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها ثم خرجت فقالت: أيكم نصيب؟ قال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
فقال: نعم. فقالت: ربيتنا صغارًا ومدحتنا كبارًا، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت: يا جميل مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: والله ما زلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف والحق بأهلك.
وقال ابن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد عن أبي عبد الله الزبيري، قال: اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية نصيب وراوية الأحوص، فافتخر كل رجل منهم بصاحبه، وقال صاحبي: أشعِر. فحكَّموا سكينة بنت الحسين بن علي — عليهما السلام — لما يعرفونه من عقلها وبصرها بالشعر، فخرجوا يتهادون إليها حتى استأذنوا عليها، فأذنت لهم، فذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك الذي يقول:
وأي ساعة أحلى من الطروق قبح الله صاحبك وقبح شعره، ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
فليس شيء أقر لعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح الله صاحبك وقبح شعره. ثم قالت لرواية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فما أرى بصاحبك من هوى إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبك وقبح شعره. ثم قالت لرواية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
فما أرى له همة إلا فيمن يتعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره، ألا قال:
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
قال: نعم. قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: تعانقا؟ قال إسحاق في خبره: فلم تثن على أحد منهم في ذلك اليوم ولم تقدمه. وذكر الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم، إلا جميلًا فإنه خالف هذه الرواية وقال: فقالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
أما رابعة فهي ابنة إسماعيل البصرية العدوية مولاة آل عتيك، كانت — رضي الله عنها — كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانًا، وكانت تقول: «استغفارنا يحتاج إلى استغفار»، وكانت ترد ما أعطاه الناس لها وتقول: «ما لي حاجة بالدنيا»، وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنها الخلال البالي تكاد تسقط إذا مشت، وكان كفنها لم يزل موضوعًا أمامها، وكان موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها، وقال عنها ابن خلكان في ترجمتها: إنها كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة. ومن وصاياها المأثورة: «اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم»، وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهرورديُّ في كتاب عوارف المعارف هذين البيتين:
كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكانت تقوم من مرقدها فزعة وتقول: «يا نفس كم تنامين وإلى كم تنامين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور»، وكان ذلك دأبها دهرها حتى ماتت. ولما حضرتها الوفاة دعت خادمتها عبدة بنت أبي شوال وقالت لها: «يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدًا وكفنيني في جبتي هذه»، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت عبدة: فكفنتها في تلك الجبة وفي خمار من صوف كانت تلبسه.
وكان حسن البصري توفيت زوجته فأراد زوجة، فقيل له عن رابعة العدوية، فأرسل إليها يخطبها، فردته وقالت:
وكانت تقول مرة: «إلهي، ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك بل حبًّا لك وقصد لقاء وجهك»، وتنشد:
ولننتقل الآن إلى الكلام على حالة المرأة في زمن الدولة العباسية التي قامت على إثر الدولة الأموية، فعلى عهد العباسيين أزهرت المعارف وأشرق نور العلم وبلغت المدنية العربية أقصى درجات الرقي وارتقت إلى أوج الكمال، ولكنها أخذت بعد ذلك تتدرج في الانحطاط حتى إنها تدهورت فجأة إلى حضيض السقوط والانحلال، وذلك على إثر هجوم القبائل التترية البربرية وخروجها من الشرق واكتساحها غرب آسيا وفي مقدمتها جنكزخان الفاتح العظيم.
ففي عهد الدولة العباسية لبثت النساء تلعب دورًا مهمًّا في الهيئة الاجتماعية، فكن يدرسن الفقه والتوحيد ويلقين الدروس في المدارس والبيوت. ومما يجدر التصريح به هو أن الإمام الشافعي أحد مشاهير ذلك العصر، أخذ العلم عن المرأة ثم وضع طريقته المعروفة التي هي أكثر الطرق شيوعًا بين المسلمين السنيين.
غير أننا إذا أمعنا النظر في حالة المسلمة في ذلك العهد وتعمقنا في البحث عن عيشتها الداخلية وأطوارها، نرى أن سوس الفساد أخذ يظهر في جسم ارتقائها فقاده إلى الانحلال التدريجي، فكما أن المدنية العربية بلغت على عهد العباسيين أوج الكمال ثم سقطت فجأة وانعكست، وكذلك المرأة فإنها أحرزت نصيبًا وافرًا من العلوم والآداب والتهذيب، ولكنها أخذت بعد ذلك تتدرج في الانحلال شيئًا فشيئًا، وقد حدث ذلك على إثر الثروة الواسعة التي أحرزها العباسيون بسرعة، وقد دلت شواهد عديدة على أن الغنى الفجائي يفضي بصاحبه إلى فساد الأخلاق والجنوح إلى الراحة والتبذير في المعيشة والإقلاع عن الجد والنشاط.
وقد أثر هذا الانقلاب تأثيرًا شديدًا على الدولة العباسية وأصاب المرأة منه سهمٌ صائبٌ خرق جسم كمالها وأدى بها إلى الانحلال كما قدمنا، وقد كان للفرس والسوريين اليد الطولى في هذا الانحلال وذلك الانقلاب؛ إذ لا يخفى على الناقد البصير أن الفرس لعبوا دورًا مهمًّا في الخلافة العباسية فكانوا أصحاب الحول والطول والسيادة المطلقة، ومن الأقوال المأثورة بهذا الشأن: «إن دولة الفرس كانت دائمًا أبدًا تستعبد فاتحيها.» وهذا التاريخ الموجود بين أيدينا يدلنا دلالة واضحة على أن الملك إسكندر العظيم وخلفاءه السلجوقيين الذين مدوا لواء سلطتهم فوق ربع القسم الغربي من مملكة الفرس لم يغيروا شيئًا من عادات البلاد وأخلاق أهاليها، بل أبقوا القديم على قدمه وساروا في أحكامهم وأعمالهم على منهج ملوك الفرس، ونسج على منوالهم في ذلك الخلفاءُ العباسيون الذين أخذوا قادة جنودهم من مرازبة الفرس، وهؤلاء بثوا في الجنود — بحكم الطبيعة — روح العادات والأميال الفارسية، ثم إن رجال البرامكة الفرس تربعوا في دست الوزارة واصطفى منهم الخلفاء أعز أخصائهم والمقربين إليهم. والواقف على أعمال البرامكة يرى أن جميع الأحكام كانت بيدهم يديرونها كيفما شاءوا، قال المسعودي المؤرخ المشهور: «ولما أفضت الخلافة إلى الرشيد دعا بيحيى بن خالد فقال له: يا أبت، أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر. ودفع خاتمه إليه»، وفي ذلك يقول الموصلي:
ثم إن مدينة بغداد بنيت على طراز مدينة المدائن، وأكثر قصور بغداد الشامخة بنيت على مثال قصور أمهات المدن الفارسية، وجلبت جميع مواد بنائها وزخارفها من آثار قصور الفرس المتهدمة. وقد انتشرت في أيام الدولة العباسية اللغة الفارسية، وكان الخلفاء يتنافسون بإدخال الموسيقى والعادات والآداب الفارسية إلى قصورهم، وساروا في نظامها فنبذوا العادات العربية واحتقروها احتقارًا وكرهوها كراهة شديدة، ونقول بوجه الاختصار إن الفرس انتقموا من العرب لأنهم أخضعوهم واكتسحوا بلادهم وسلبوا مجدهم وأذهبوا سطوتهم وحرموهم استقلالهم، فإنهم — أي الفرس — أفسدوا الإسلام بإدخالهم عليه الطريقة الشيعية وكثيرًا من العقائد الفاسدة، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد بل إنهم تجاوزوه إلى إفساد عادات العرب أولئك الأقوام المعبر عنهم بسكان القفار أو بنصف متوحشين، الذين أخضعوا لسلطتهم نصف العالم المعروف في ذلك الزمان. وقد لبثت سيادة الفرس مبسوطة زمنًا طويلًا، فإن الساسانيين منهم أخضعوا لسلطتهم الخلفاء العباسيين كهارون الرشيد والمهدي وغيرهما من الخلفاء العلويين، وهذا التيار الشديد جذب بقوته المرأة المسلمة التي سلبها دون أن تشعر تلك الأوصاف الحميدة التي اتصفت بها وأعلت منزلتها ثم قذف بها إلى أدنى دركات السقوط والانحلال، وقد سبق لنا القول بأن أمر تعدد الزوجات والحجاب وُجدا عند الفرس من أقدم الأزمان، وقد أيدتهما تقاليدهم القديمة وأمرت بها كتبهم المقدسة.
وفي عهد الدولة العباسية قامت النساء بتربية البنات وتثقيف المرأة وإرضاعها لبان الآداب والمعارف، فكان الناس لا يأخذون مدرِّسة أو مهذبة لبناتهم إلا من النساء اللاتي أحرزن نصيبًا وافرًا من العلوم والفن الكتب الجليلة الفائدة، وكان المتمولون من العباسيين والسراة يتزاحمون مزاحمة شديدة على أمثال أولئك النساء ويبذلون النفس والنفيس في سبيل الحصول عليهن للقيام بتعليم وتهذيب بناتهم، فكانوا يقدرون أعمالهن حق قدرها ويبدون لهن جميع أنواع الإكرام والاحترام.
وكانت المدرسات يعلمن بنات الأشراف والأعيان في بادئ الأمر القراءة والكتابة وفن الموسيقى والآداب الاجتماعية، حتى إذا برعن فيها يتفرغن إلى إيقافهن على أسرار اللغة العربية بفروعها كالبيان والمعاني والبديع وقرض الشعر والمنطق وغيرها من العلوم العالية، وكثيرًا ما كانوا يقيمون الاحتفالات لامتحان البنات اللاتي يتخرجن في العلوم على أيدي النساء، وكان يقوم بامتحانهن العلماء والقضاة، فيلقون عليهن الأسئلة العديدة بالعلوم والحساب ويناقشونهن بمواضيع مختلفة، وكانت أمثال هؤلاء الفتيات إذا كبرن وتزوجن وأصبحن مستقلات بأنفسهن ينشئن في منازلهن قاعات فسيحة يستدعين إليها الشعراء والعلماء والأدباء، وكن يتزاحمن في ذلك مزاحمة شديدة ويتنافسن منافسة عظمى عادت عليهن بالشهرة الواسعة والصيت المجيد، وبذلك نسجن على منوال نساء الغرب النابغات في هذا العصر، ثم تحولت كل قاعة من تلك القاعات إلى مدرسة جامعة كان يقصدها كل يوم عدد وافر من الشعراء والأدباء والظرفاء للمناقشة في العلوم المختلفة. وقد طرأ على أثر ذلك بعض الانقلاب في معيشة المرأة المسلمة حيث أصبحت تتحمل مشقات وأتعابًا شديدة لدى مقابلتها الوافدين على قاعتها عدا ما يستغرقه ذلك من الزمن. وقالت فاطمة علية الكاتبة التركية الشهيرة بهذا الشأن: «بلغ التفنن في الملابس مبلغًا عظيمًا وبذلت المرأة وسعها في استنباط الأزياء الجديدة حتى كانت تكلفها الحلل التي ترتديها عند مقابلة زائريها المبالغ الباهظة.»
وذكر مصعب الزبيري قال: كانت أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي عند عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك فهلك عنها، ثم كانت عند هشام فهلك عنها، فبينا هي ذات يوم إذ مر بها أبو العباس السفاح، وكان جميلًا وسيمًا، فسألت عنه فنُسب لها، فأرسلت له مولاة لها تعرض عليه أن يتزوجها وقالت لها: «قولي له هذه سبعمئة دينار أوجه بها إليك»، وكان معها مال عظيم وجوهر وحشم، فأتته المولاة فعرضت عليه ذلك فقال: أنا مملق لا مال عندي، فدفعت إليه المال فأنعم لها به وأقبل إلى أخيها فسأله التزويج فزوجه إياها فأصدقها خمسمئة دينار وأهدى مئتي دينار ودخل عليها من ليلته، وحظيت عنده وحلف أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فولدت منه محمدًا وريطة وغلبت عليه غلبة شديدة حتى ما كان يقطع أمرًا إلا بمشورتها وبتأميرها، حتى أفضت الخلافة إليه فلم يكن يدنو إلى النساء غيرها لا إلى حرة ولا إلى أمة، ووفى لها بما حلف أن لا يغيرها.
ومن نساء العباسيين الشهيرات الملكة خيزران زوجة المهدي، فإنها تداخلت في الأحكام، وقد اتفق جميع المؤرخين على أن جميع الأعمال المجيدة والأفعال الحميدة التي اصطنعها المهدي وإنشاءه معاهد العلم التي أكسبته الشهرة الواسعة، جميعها منسوبة إلى ثأثير زوجته خيزران عليه وتحريضها إياه على القيام بها، وكانت تستقبل في دار الخلافة جميع العمال والحكام والعلماء والشعراء، وقد تعلق بها الناس تعلقًا شديدًا وأنزلوها من سويداء قلوبهم منزلة سامية، وذلك بالنظر لما كانت تصطنعه من أعمال البر كإغاثة الملهوف ومساعدة المعوزين وكثرة صدقاتها، وقد قدمها الخليفة المهدي على جميع نسائه لما لها من الأدب واللطف، وقد أخذت بقلبه مكانة عظمى وولدت له موسى الهادي وهارون الرشيد، وقد تقدمت أيضًا في خلافة ولدها موسى الهادي حتى إنها شاركته في الأحكام من كثرة تداخلها معه في أمور المملكة، قال المؤرخ المسعودي: وكان الهادي كثير الطاعة لأمه الخيزران مجيبًا لها فيما تسأل من الحوائج للناس، فكانت المواكب لا تخلو من بابها، ففي ذلك يقول أبو المعافى:
ومن نساء الإسلام اللاتي اشتهرن في الخلافة العباسية زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسي وعلية ابنة المهدي العباسية، أما زبيدة فهي زوجة الخليفة هارون الرشيد وابنة عمه، ويكفي لشهرتها الفصول العديدة المخصصة لها في كتاب ألف ليلة وليلة، وقد اعتنى الكتاب الشرقيون والغربيون بدرس تاريخها والتنقيب عن أعمالها ووضعوا في ترجمة حالها الكتب الضخمة، ونحن نقتصر على ذكر أهم الأعمال التي عملتها.
لم يمض على زواجها ردح من الزمان حتى التف حولها عدد عديد من العلماء والمغنين والكتاب والأدباء الذين لقبوها «سيدة» لكثرة عطائها وشدة اعتنائها بهم، وقد زادت في رونق مدينة بغداد وعظمتها فأنشأت الملاجئ للغرباء والتكايا للفقراء وشادت الحمامات الكثيرة وأباحت الدخول إليها لمن شاء، وأقامت المساجد الكثيرة والأروقة وغير ذلك من المباني الفخيمة، ولم تقتصر أعمالها على مدينة دار السلام، بل كانت ترمم وتعمر التكايا والمساجد المتداعية إلى الخراب في جميع أنحاء الخلافة الواسعة، وقد خلدت لها الذكر المجيد بجرها الماء إلى مكة المكرمة وتسمى إلى اليوم عين زبيدة، فقال ابن الجوزي بهذا الصدد: إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وإنها أسالت المياه عشرة أميال بحط الجبال ونحت الصخور حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: اعملها ولو كلفت مشربة الفأس دينارًا. وكان لها مئة جارية يحفظن القرآن ولكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن. وتزوج بها الرشيد سنة ١٦٥ هجرية وكان يحبها كثيرًا ويكرمها غاية الإكرام، وكانت شديدة البر به والاحتفاظ على رضاه، ولم يكن يمنع عنها شيئًا من كل ما تطلبه من نفقة وما يتعلق بها وبغيرها مما يسرها وينفعها.
وكانت هي ذات معروف وخير وفضل ونفقة واسعة على البر وأصحاب الحاجات، وقد طبقت شهرتها الخافقين فكانت عريقة في الشرف، فإنها جمعت شرف الخلافة من أطرافها: فأبوها ابن خليفة وعمها المهدي خليفة وزوجها أشهر الخلفاء وابنها خليفة أيضًا، وجاء في دائرة المعارف بشأنها ما يأتي: وأما حجة زبيدة المشهورة فقيل أنفقت فيها في بناء المساجد والصدقات ألف ألف وسبعمئة ألف دينار، ولها آثار كثيرة من مثل ذلك تدعى الزبيدية نسبة إليها، منها بركة في طريق مكة بين المغيتة والعذيب بها قصر ومسجد عمرتها من مالها ومحلات ببغداد مشهورة أيضًا باسمها. ولكثرة مالها وسعة نفقتها ضرب المثل الحريري بقوله: «لو حبتك شيرين بجمالها وزبيدة بمالها.» وقد كثرت عنها الحكايات والروايات الخرافية، قال محمد بن الفضل: وكان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة مئة ألف دينار جددًا وألف ألف درهم، فكانت تعطي أبا العتاهية منها مئة دينار وألف درهم، فأغفلته سنة، فرفع رقعة إلى محمد بن الفضل وقال له: ضعها بين يديها، فوضعها وكان فيها:
فقالت: إنا والله أغفلناه، فوجهت إليه بوظيفة على يدي ابن الفضل المذكور، وكانت وفاتها ببغداد في جمادى الأولى سنة ٣١٦ هجرية، رحمها الله تعالى.
أما علية ابنة المهدي المعروفة بالعباسة، فهي أخت هارون الرشيد، كانت من أحسن نساء زمانها وجهًا وأظرفهن خلقًا وأوفرهن عقلًا، ذات صيانة وأدب بارع، وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها، وكانت شاعرة تحسن الغناء وتوقيع الألحان، ولها ديوان شعر، وكان الرشيد لا يستطيع مفارقتها ساعة واحدة، وكانت تحضر مع زبيدة في مجلس الرشيد أثناء مقابلاته الرسمية ومحاضرته العلماء والأدباء.
وقد قدمنا سابقًا أن الفرس لعبوا دورًا مهمًّا في الخلافة العباسية حيث احتكروا فيها لنفوسهم المناصب السامية، وبذلوا وسعهم في إدخال جميع أخلاق وعادات الفرس إلى البلاد. وقد نبغت الدولة الساسانية وأخصها الأسرة البرمكية التي علا شأنها في أيام هارون الرشيد، الذي أطلق لهم العنان وخولهم السلطة المطلقة في البلاد، وذكر جمال الدين الأتابكي في تاريخه النجوم الزاهرة أن الرشيد قال ليحيى: «قد قلدتك أمور الرعية وأخرجتها من عنقي فولِّ مَن رأيت وافعل ما تراه وسلم إليه خاتم الخلافة.» ثم إن الرشيد عهد بقيادة الجنود العامة إلى جعفر البرمكي نجل كبير وزرائه، الذي تعلق قلبه بحب العباسة وصادف منها مثل ذلك، فتشاكيا الهوى وتبادلا عبارات الوجد والنوى، وقد اختلف المؤرخون في هذه الرواية اختلافًا بينًا بحيث يضل معه الإنسان عن الحقيقة، فنذكرها نحن نقلًا عن المسعودي حيث قال: «قال الرشيد لجعفر بن يحيى: ويحك يا جعفر، ليس في الأرض طلعة أنا بها آنس ولا إليها أميل وأنا بها أشد استماعًا وأنسًا مني برؤيتك، وإن للعباسة أختي مني موقعًا ليس بدون ذلك، وقد نظرت في أمري معكما فوجدتني لا أصبر عنك ولا عنها، ورأيتني ناقص الحظ والسرور منك يوم أكون معها، وكذلك حكمي في يوم كوني معك دونها، وقد رأيت شيئًا يجتمع به السرور وتتكاثف لي به اللذة والأنس. فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين وعزم لك على الرشد في أمورك كلها. قال له الرشيد: قد زوجتكما تزويجًا تملك به مجالستها والنظر إليها والاجتماع بها في مجلس أنا معكما فيه.
فزوجه الرشيد بعد امتناع كان من جعفر إليه في ذلك، وأتي فأشهد له من حضره من خدمه وخاصة مواليه، وأخذ الرشيد عليه عهد الله ومواثيقه وغليظ أيمانه أنه لا يخلو بها ولا يجلس معها ولا يظله وإياها سقف بيت إلا وأمير المؤمنين الرشيد ثالثهما، فحلف له جعفر على ذلك ورضي به وألزمه نفسه، وكانوا يجتمعون على هذه الحالة التي وصفنا وجعفر في ذلك صارف بصره عنها مزور بوجهه هيبة لأمير المؤمنين ووفاء بعهده وأيمانه ومواثيقه على ما وافقه الرشيد عليه. وعلقته العباسة واستمالت أم جعفر بالهدايا من نفيس الجواهر والمال الكثير، فأدخلتها عليه ذات ليلة وهو سكران، فلما قضى إليه حاجته قالت له: كيف رأيت حيل بنات الملوك؟ قال: وأي بنات الملوك تعنين، وهو يرى أنها من بنات الملوك؟ فقالت: أنا مولاتك العباسة بنت المهدي. فوثب فزعًا قد زال عنه سكره وفارقه عقله، فأقبل عليها وقال: لقد بعتني بالثمن الرخيص وحملتني على المركب الوعر وانظري ما يئول إليه حالي، وانصرفت مشتملة منه على حمل، ثم ولدت غلامًا فوكلت به خادمًا من خدمها يقال له رياش، وحاضنة تسمى برة، فلما خافت ظهور الخبر وانتشاره وجهت الصبي والخادم والحاضنة إلى مكة وأمرتها بتربيته» (انتهى بتصرف).
قال المؤلف: وقد انتقد المؤرخون هذه النقطة من تاريخ هارون الرشيد وأمر تزويجه لهما ذلك الزواج على الطريقة التي ذكرناها آنفًا، فكانا يجتمعان كل يوم وينظران بعضهما حتى بلغ منهما الحب مبلغًا وافرًا، وكانت نفساهما تضربان على وتر واحد، وقال بعض المؤرخين: إن الرشيد لحظ ذلك منهما، وكان يجد لذة خاصة فيما يكابدانه من لواعج الغرام. وأما عرسهما فقد وصفه المؤرخون وصفًا فخيمًا يقف مطالعه عنده وقفة الذهول والدهش، ولم تزل تضرب الأمثال بفخامته إلى يومنا هذا، غير أن الحبيبين لم يستطيعا صبرًا، فاجتمعا وتواصلا وكان من أمرهما ما كان، وأخيرًا أوصلت الألسنة النمامة ذلك الخبر إلى الرشيد الذي عندما حققه استشاط غيظًا وأضاع رشده، فأمر بقتل جعفر واعتقل أباه في السجن ومزق شمل البرامكة بعد أن قتل منهم خلقًا كثيرًا، وقد ضربت الأمثال في الشرق بنكبة البرامكة واتخذها الشعراء موعظة يعظون بها أولئك الناس الذين يفترون بهذه الدنيا الزائلة ويأمنون شر غوائلها، فمن ذلك ما قاله الرقاشي:
وقال أبو العتاهية:
وقال المنذر بن المغيرة:
واشتهرت أيضًا في الخلافة العباسية قطر الندى زوجة الخليفة المعتضد، فإنها أنشأت في قصرها حلقة كانت تجتمع فيها الأديبات الفاضلات ونوابغ النساء؛ حيث كن يتناقشن في المواضيع العلمية المختلفة، ويتطارحن الأسئلة العديدة. ولما توفى زوجها وأفضت الخلافة بعده إلى ابنها المقتدر الحديث السن تداخلت في الأحكام وأصبح أمر العقد والحل بيدها، فكانت تقابل بنفسها بحضور الوزراء وأرباب المناصب سفراء الدول الأجانب، وقد كتب عنها المؤرخ العربي السيوطي، المشهور بالتدين والتعبد الذي كتب حوادث القرن السادس عشر ما يأتي: «وفي عام ٣٠٦ هجرية (الموافقة سنة ٩١٨ مسيحية) أنشأت أم المقتدر مستشفى وخصصت لنفقته السنوية سبعة آلاف دينار، وفي هذه الأثناء صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها. ا.ﻫ.»
هي السيدة نفيسة ابنة أبي محمد الحسن ابنة زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهم أجمعين — دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق — رضي الله عنه — وقيل: دخلت مع أبيها الحسن، وإن قبره بمصر ولكنه غير مشهور، وإنه كان واليًّا على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور. وكانت نفيسة من النساء الصالحات التقيات، ويروى أن الإمام الشافعي — رضي الله عنه — لما دخل مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث، وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم، وهو إلى الآن باق كما كان، ولما توفى الإمام الشافعي — رضي الله عنه — أدخلت جنازته إليها وصلتْ عليه في دارها، وكانت في موضع مشهدها اليوم ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومئتين. ولما ماتت عزم زوجها المؤتمن إسحاق جعفر الصادق على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، فدفنت في الموضع المعروف بها الآن بين القاهرة ومصر عند المشاهد، وهذا الموضع يعرف يوم ذاك بدرب السباع، فخرب الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد وقبرها معروف بإجابة الدعاء عنده.
وقال المقريزي: وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه، فيقال إنها حجت ثلاثين حجة، وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار، فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون. وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وذكر أن الإمام الشافعي — رضي الله عنه — زارها وقال لها: ادعي لي، وكان صحبته عبد الله بن الحكم. وقيل إنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعي، ويقال إنها حفرت قبرها وقرأت فيه مئة وسبعين ختمة، وإنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل للهۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، ففاضت نفسها مع قوله: «الرحمة»، وقال مثل ذلك الشيخ محمد الصبان في كتابه إسعاف الراغبين، وقال السخاوي في كتاب المزارات: إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة، وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس فزارت قبر الخليل إبراهيم، وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومئة، وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم، تلقاها الرجال والنساء بالهوادج من العريش، ونزلت أولًا عند كبير التجار بمصر وهو جمال الدين عبد الله بن الجصاص وكان من أصحاب المعروف والبر، فأقامت عنده شهورًا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرك، ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم، وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم، وقيل إن الحنفي كان يقول عند زيارتها: «السلام والتحية والإكرام من العلي الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة وابنة علم العشرة الإمام حيدرة، السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم أخي الإمام الحسين سيد الشهداء المظلوم، السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء وسلالة خديجة الكبرى، رضي الله تبارك وتعالى عنك وعن جدك وأبيك، وحشرنا في زمرة والديك وزائريك، اللهم بما كان بينك وبين جدها ليلة المعراج اجعل لنا من همنا الذي نزل بنا انفراج، واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.» وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها:
وكان بعضهم يقول أيضًا:
وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركًا بمقامها المنيف، فمنهم ذات الحجاب المنيع والقدر الرفيع والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، أنشأت رباطًا بجوارها والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة وشيد بناءه، ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس المعروف بالأسمر أمر السلطان الناصر أن يدفن بالمشهد النفيسي، فدفن هناك وأقيمت عليه قبة.
وبالإجمال فإن المرأة في زمن الخلافة العباسية وغيرها لم تكن تمتاز في شيء عن الرجال، فكانت متمتعة بالحرية المطلقة ولم يطالب أحد بالضغط عليها. قال الأمير أسامة في بعض مذكراته: إن والدته وشقيقته كانتا تسيران إلى جنبه كتفًا لكتف وهما مدججتان بالسلاح وتعضدانه في الإغارة على الصليبيين، وفي أيام خلافة المنصور كانت بين جنود الحملة التي أرسلها على القسطنطينية ابنتا عمه اللتان حملتا السلاح كبقية أفراد الجنود.
ولكن بمزيد الأسف نقول إنه كلما كان يزداد تأثير رجال الفرس في الخلافة العباسية كانت حالة المرأة تزداد تعاسة، وأصبح مؤرخو ذلك العصر لا يذكرون نوابغ النساء إلا نادرًا، وقد أخذ الحجاب يتكاثف شيئًا فشيئًا حتى أصبح لا يمكن الوصول إليه، وحلت دولة الأغوات المنكودة التعيسة وسادت مملكة الحرم وانتشرت الفتن واستغلبت على النساء الزينة والتضمخ بالعطر وتزجيج الحواجب وزاد الضغط على المرأة، فبعد أن كانت تثقف عقلها بالعلوم والآداب، وبعد أن كان شخصها محطًّا للاحترام والإكرام والتأثير الحسن على الوسط الموجودة فيه، خضعت بكليتها لعيشة «الحرم» التي قادتها إلى الخمول والجمود والكسل وجرت عليها الويل والثبور وعظائم الأمور.
ويظهر أن الطبيعة مالت إلى جهة المرأة وأخذت تدافع عنها وتحميها، فانتقمت لها من المسلمين وأخذت بثأرها منهم. إن تلك الحالة التي أفضت إليها المسلمة هي أظلم نقطة في تاريخها وأشدها تعاسة ونكدًا؛ لأنها لم تقتصر على إفساد أخلاقها، بل أخضعتها خضوعًا أعمى لسلطان الحرم السافل وبثَّ في نفسها روح النميمة وضروب النفاق والشقاق، وسادت — كما قدمنا — عليها دولة الأغوات الذين ارتفع شأنهم وكثرت مداخلتهم في أعمال الخلافة، وانتشرت على إثر ذلك الويلات كالتسميم والطعن بالخناجر وأنواع قتل النفوس البريئة سرًّا، وكثرت أيضًا ثورات رجال القصور، وطغت الجندية واستبدت بما لها من القوة وشدة البطش. وقد تطرق روح هذا الفساد إلى الأدب والفلسفة حتى قضي عليهما القضاء المبرم، فساد التكهن على الفلسفة الحقيقية المبنية على العلم الراجح والثقة الوطيدة بها، وانتشرت بين الناس أيضًا العقائد الفاسدة القائلة بالتجلي ومواصلة الأرواح، وتحولت الآداب إلى خرافات فاسدة، فأصبح ذلك العقل الضعيف المظلم يسعى إلى الحقيقة الضائعة بواسطة الخرافات والرموز الخالية عن المعنى والمبنى وغير ذلك من ضروب الجهل والإجراءات الدنيئة، كما نرى ذلك بأجلى بيان بين المدعين بالعلم وفقهاء هذا العصر. وإنما لبثت التقاليد القائلة بإطلاق حرية المرأة محفوظة بين أولئك الأقوام الذين لم تضغط عليهم قوة التأثير الفارسي الجائح، ونعني بهم أقوام التتر الترك وعرب الأندلس.
أما المرأة التترية التركية فإنها كانت قبل ظهور الإسلام متمتعة بالحرية المطلقة، الأمر الذي كان لا بد منه لقوم رحَّل يسكنون الخيام ويتنقلون دائمًا من جهة إلى أخرى، ويكونون في تنقلاتهم هذه معرضين في كل دقيقة لطوارق الحدثان المختلفة، وكانت المرأة بينهم عضد الرجل القوي ورفيقته الأمينة تقاسمه السراء والضراء، وبناء على ذلك كانت تتمتع بجميع حقوق الرجال. وإذا ألقينا اليوم نظرة على المرأة التترية التركية نراها بين سكان الحضر منهم أو المتمدنين مستعبدة استعباد الرقيق ومضغوطًا على حريتها ضغطًا شديدًا، بينما نراها متمتعة بالحرية بين أقوام التتر الرحل لا تعرف معنى لحجاب النساء وسجنهن، وقد جاء الإسلام مؤيدًا لتلك الحالة التي وجدت فيها المرأة التترية قبل ظهوره؛ حيث لبثت على حالتها تتمتع بجميع ضروب الحرية إلى أن اختلط التتر بالفرس الذين أفسدوا أخلاقهم واقتبس الأولون عنهم عادة حجاب المرأة.
وتأييدًا لكلامنا نوجه التفات القارئ إلى مطالعة رحلة ابن بطوطة المولود في طنجة الرحالة العربي الشهير الذي ساح في آسيا في أوائل القرن الثالث عشر وزار السلطان أوزبيك خان في مدينة استرخان، ولدى الوقوف عليها يقف القارئ وقفة الذهول والاندهاش لدى اطلاعه على ما كان للمرأة المسلمة من المنزلة السامية وما كانت تتمتع به من الإكرام والاحترام والحرية المطلقة بين تتر ذلك العصر.
وقد رأينا أن نكفي القارئ مئونة البحث والتنقيب، فننقل له وصف ابن بطوطة لحالة المرأة في ذلك الزمان فقال: أما السلطان المعظم محمد أوزبيك خان فهو سلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان قاهرًا لأعداء الله، ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب مزينة بديعة، وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب وفي وسطها سرير من خشب مكسو بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورءوسها مرصعة بالجواهر، ويقعد السلطان على السرير وعلى يمينه الخاتون طيطغلي وتليها الخاتون كبك وعلى يساره الخاتون بيلون وتليها الخاتون أردجي، ويقف عند أسفل السرير عن اليمين ولد السلطان تين بك وعن الشمال ولده الثاني جان بك، وتجلس بين يديه ابنته أيت كججك، وإذا أتت إحداهن قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير. وأما طيطغلي وهي الملكة وأحظاهن عنده، فإنه يستقبلها إلى باب القبة فيسلم عليها ويأخذ بيدها، فإذا صعدت على السرير وجلست حينئذ يجلس السلطان، وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب. ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء فتنصب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال، وكل إنسان منهم إذا أتى مجلس السلطان يأتي معه غلام بكرسيه. ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمه وإخوته وأقاربه ويقف في مقابلتهم عند باب القبة أولاد الأمراء الكبار ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وشمال، ثم يدخل الناس للسلام الأمثل فالأمثل ثلاثة ثلاثة فيسلمون وينصرفون فيجلسون على بُعد. فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين، ثم ينصرف سائرهن فيتبعنها إلى محلتها، فإذا دخلت إليها انصرفت كل واحدة إلى محلتها راكبة عربتها، ومع كل واحدة نحو خمسين جارية راكبات على الخيل، وأمام العربة نحو عشرين من قواعد النساء راكبات على الخيل فيما بين الفتيان والعربة، وخلف الجميع نحو مئة مملوك من الصبيان، وأمام الفتيان نحو مئة من المماليك الكبار ركبانًا ومثلهم مشاة بأيديهم القضبان والسيوف مشدودة على أوساطهم وهم بين الفرسان والفتيان، وهكذا ترتيب كل خاتون منهن في انصرافها ومجيئها.
إلى أن قال: وكل خاتون منهن تركب في عربة، وللبيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع، وتكون الخيل التي تجر عربتها مجللة بأثواب الحرير المذهب، وحذيم العربة الذي يركب أحد الخيل فتى يدعى القشي، والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون (بضم الكاف والجيم) ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ست من الجواري الصغار يقال لهن البنات فائقات الجمال متناهيات الكمال، ومن ورائها ثنتان منهن تستند إليهن، وعلى رأس الخاتون البغطاق، وهو مثل التاج الصغير مكلل بالجواهر، وبأعلاها ريش الطواويس، وعليها ثياب حرير مرصعة بالجوهر، وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير مزركشة الحواشي بالذهب والجوهر، وعلى رأس كل واحدة من البنات (الكلا) وهو شبه الأقروف، وفي أعلى دائرة ذهب مرصعة بالجوهر وريش الطواويس من فوقها، وعلى كل واحدة ثوب من حرير مذهب يسمى النخ، ويكون بين الخاتون ١٠ أو ١٥ من الفتيان الروميين والهنديين وقد لبسوا ثياب الحرير المذهب المرصعة بالجوهر وبيد كل واحدة عمود ذهب أو فضة أو يكون من عود ملبس بهما. وخلف عربة الخاتون نحو مئة عربة، في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار، ثيابهن من الحرير وعلى رءوسهن الكلا، وخلف هذه العربات نحو ٣٠٠ عربة تجرها الجمال والبقر، تحمل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها، ومع كل عربة غلام موكل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرناها؛ فإن العادة عندهم أنه لا يدخل بين الجواري من الغلمان إلا من كان له بينهن زوجة، وكل خاتون فهي على هذا الترتيب.
وقال الرحالة أيضًا: ثم زرت كبك خاتون زوجة السلطان أوزبك، دخلنا عليها فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم، وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يطرزن ثيابًا، فسلمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام، وقرأ قارئونا فاستحسنته وأمرت بالقمز فأحضر وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة، وانصرفنا عنها وقد أجزلت لنا العطاء، وهكذا عادتها فإنها تكرم كل من تسمع أنه غريب، ولها مآثر حسنة وخيرات واسعة ومبرات على الفقراء والمساكين لم يسبقها عليها أحد من نساء زمانها.
ثم زرت الملكة بيلون حسب عادة تلك الديار أنه متى زار أحد الملك يلزم أن يزور أزواجه وعائلته وأكابر مملكته، فدخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع قوائمه فضة وبين يديها نحو مئة جارية روميات وتركيات ونوبيات منهن قائمات وقاعدات، والفتيان على رأسها والحجاب بين يديها من رجال الروم، فسألت عن حالنا ومقدمنا وعن بعد أوطاننا، وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان في يدها رقة منها وشفقة، وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها، ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا وترددوا علينا وطالبونا بحوائجكم، وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في إثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثًا من جياد الخيل وعشرة من سواها.
ثم زرت الملكة أردجي، وهي من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل وأشفقهن، وهي التي بعثت إليَّ لما رأت بيتي على التل عند جوار المحلة، ولما دخلنا عليها رأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه. وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها، ودعت بالشراب فشرب أصحابنا، وسألت عن حالنا فأجبناها وانصرفنا من عندها ونحن شاكرون معروفها. ولها مآثر وخيرات دارَّة على مساجد وتكايا ومدارس في بلادها.
ثم زرت أيت كُجُجُك (بضم الكاف والجيمين)، فلما دخلنا عليها أمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة الطلبة والمشايخ والفقراء، ورأينا منها من المكارم وحسن الأخلاق ما لم نره من سواها، وأجزلت لنا الإحسان وأفضلت، وأما معارفها وعلومها وكرمها فلم يضاهها أحد فيه سواها من نساء زمانها. ا.ﻫ.
ولذلك فلا عجب إذا كنا نشاهد في ذلك العصر أن المرأة أصبحت بين الشعوب الإسلامية آلة لإفساد وانقسام العائلات والإسلام، ونراها في الوقت نفسه على خلاف ذلك بين الأتراك الذين مع أنهم كانوا على جانب عظيم من الهمجية وخشونة الطباع وقساوة الأخلاق، فإنهم أظهروا ميلًا شديدًا للعلم وأناروا عالم الأدب بمصابيح ساطعة، فإن جميع أبناء تمرلنك القاسي الطباع صاحب السطوة والاسم المخيف كانوا بدورًا ساطعات في سماء الأدب والعلوم؛ فقد أنشأوا المدارس في كل مكان وشادوا مكاتب المطالعة وأسسوا المستشفيات وأكرموا العلماء واحتفوا بالأدباء. وأما النساء التتريات التركيات فإنهن اشتهرن منذ زمن بعيد حتى في عهد مجد الخلافة العباسية وارتفاع شأن المدنية العربية، فكن يدهشن العرب بما أوتينه من المواهب السامية. وفي ذلك العصر لم يكن يعرف العرب شيئًا من أحوال التتر الأتراك، بل كانت منتشرة بينهم الخرافات والإشاعات الباطلة عنهم من أنهم برابرة متوحشون، وذلك لما كان يقع بينهم وبين جنود العرب من المناوشات والوقائع في جهات أوكسوس.
وكان العرب يأسرون كثيرًا من بنات التتر ويبيعونهن في أسواق بغداد ودمشق، وكان الراغبون في مشتراهن يبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة؛ لما كانت عليه التتريات من بضاضة البشرة وما اتصفن به من الأوصاف الأخرى، وكانوا يعتنون أشد الاعتناء بتعليمهن اللغة العربية وفن الغناء والتوقيع على آلات الطرب وعلم الأنساب والحساب وغير ذلك من الفنون والآداب. وكانت الفتيات على جانب عظيم من الذكاء وحدة الجنان، فكن يبرعن بسرعة في جميع تلك الفنون والعلوم، فأحرزن بذلك منزلة سامية في بيوت المتمولين والسراة، حتى إن بعض الخلفاء اتخذ منهن زوجات، والتاريخ يدلنا على أن هارون الرشيد وابنه المأمون وغيرهم من الخلفاء العباسيين كان دمهم ممزوجًا بالدم التتري التركي؛ فإن خيزران زوجة المهدي وأم الهادي والرشيد كانت تترية ونالت شهرة واسعة، حتى إنها لقبت بالأميرة ووالدة السلطان وذكر اسمها في قصائد الشعراء إلى جانب اسم الخليفة. وبعد هجوم التتر على غربي آسيا لبثت التتريات تلعب دورًا مهمًّا في مصر بين المماليك وفي آسيا الصغرى بين السلجوقيين وفي بلاد الفرس بين الأتابكيين وفي الهند أيضًا.
وأما في سوريا فإن خديجة زوجة السلطان صلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية أنشأت في جميع أنحاء سلطنة زوجها الكليات والمدارس، وقد سميت باسمها إحدى المدارس التي أنشأتها في دمشق، ولها مآثر عديدة ومبرات كثيرة وشهرة واسعة، فلقبها معاصروها بست الشام.
ومنهن طرخان خاتون زوجة السلطان ملكشاه ووالدة السلطان محمود بن ملكشاه، كانت تدير أملاكها بنفسها واتخذت لها المستشارين والوزراء، وكان لها تأثير شديد في بلاد فارس حتى إنها أصلحت كثيرًا من عادات البلاد وأخلاق أهلها. وقد كانت من النساء العاقلات المتدينات والحكيمات المدبرات، شهدت لها التواريخ وألسنة الأقلام بالحكمة والتدبير وعلو الهمة والإقدام، وكانت مطاعة في أوامرها مسموعة الكلمة عند أمراء المملكة محبوبة لديهم، وكانت تبذل لهم العطايا والإقطاعات، وكان زوجها لا يرد لها طلبًا وهي المالكة والمشاركة له في الملك.
وكانت من حسن سياستها وتدبيرها توصلت لأن تصاهر الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي، وذلك من كثرة ترددها على حريم الخلافة ومعها ابنتها خاتون، وهي كانت من الجمال على جانب عظيم، وصفوها للمقتدي فأحبها على الوصف وأراد الاقتران بها، فأرسل الوزير فخر الدولة أبا نصر جهير إلى السلطان ملكشاه يخطب ابنته، ولما سافر فخر الدولة إلى أصبهان ووصل إلى السلطان يخطب منه ابنته للخليفة فقال له: إن ذلك مما يزيدني شرفًا، ولكن الأمر في ذلك إلى والدتها طرخان خاتون فيجب أن تذهب إليها. وأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى طرخان خاتون ويتكلم معها في هذا المعنى، فمضيا إليها فخاطبها فقالت: إن ملك غزنة وملوك الخانية وما وراء النهر طلبوها وخطبوها لأولادهم وبذلوا أربعمئة ألف دينار، فلم أرضَ، فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم. فبلغ الخبر أرسلان والدة الخليفة، فتأثرت من ذلك وأرسلت إلى طرخان تقول: إن ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة لم يحصل لأحد غيرها وكلهم عبيده وخدمه، ومثل الخليفة لا يطلب منه مال، فأجابت إلى ذلك وشرطت أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار وأنه لا يبقى له سرية ولا زوجة غيرها ولا يكون إلا مبيته عندها، فأجيبت إلى ذلك فأعطى السلطان يده، فعاد فخر الدولة إلى بغداد وفي محرم نقل جهازها إلى دار الخليفة على مئة وثلاثين جملًا مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال من الذهب والفضة وثلاث عماريات، وعلى أربعة وستين بغلًا مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقًا من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسًا من الخيل الرائعة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر ومن عظيم أكسير الذهب، وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كواهرئين والأمير برسق وغيرهما ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان خرج من بغداد متصيدًا ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى طرخان خاتون وبين يديه نحو الثلاثمئة موكبية ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم غرفة إلا وقد شعلت فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك، وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها، وقال الوزير لما وصل لطرخان خاتون: إن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة وحضر نظام الملك فمن دونه دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل شيء كثير، وجاء نساء الأمراء والكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشموع الموكبيات والمشاعل ويحمل ذلك جميعه الفرسان، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مئة جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وقد سارت إلى دار الخلافة وكانت ليلتهم مشهودة لم ير ببغداد مثلها، فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطنة وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى طرخان خاتون وإلى جميع الخواتين وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.
وبعدما مكثت خاتون مدة في دار الخلافة وولدت منه ولدًا لم يطب لها المقام معه، فأخبرت والدتها بذلك وهي أرسلت إلى الخليفة تطلب ابنتها طلبًا لا بد منه، وسبب ذلك أن الخليفة أكثر الإطراح لها والإعراض عنها، فأذن لها في المسير فسارت في ربيع الأول سنة ٤٨٢ وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى مع محفتها سعد الدولة كواهرئين وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد وسارت الخاتون إلى أصبهان فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد وبعسكر السلطان، وسار ملكشاه بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٨٥، واتفق أن السلطان خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضًا وأنشب الموت أظفاره فيه، ولما توفي سترت زوجته طرخان خاتون موته وكتمته وأعادت جعفر بن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله وسارت إلى بغداد والسلطان معها محمولًا وبذلت الأموال للأمراء سرًّا واستحلفتهم لابنها محمود وكان تاج الملك يتولى لها ذلك، وأرسلت قوام الدولة إلى أصبهان بخاتم السلطان فاستنزل مستحفظ القلعة وتسلمها وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد ولم يلطم على وجهه، وكان مولده سنة ٤٧٦ وكان من أحسن الناس صورة ومعنى وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام من أقصى بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل وعدل مطرد، وما ذلك إلا باتحاده مع طرخان خاتون وعدم إتيانه أمرًا إلا برأيها ومشورتها حتى دانت لهما العباد وذلت لسلطانهما البلاد، وبعد وفاة زوجها ظهرت حكمتها وحسن تدبيرها فإنها بذلت المساعي العديدة في سبيل تمليك ابنها، وقد حدثت بينها وبين بركيارق كبير أولاد السلطان الذي كان مطالبًا بالملك وقائع كثيرة، وقد تغلبت عليه في أكثرها وحفظت الملك لابنها وبقيت في عز ورفعة ومنعة لم يقدر عليها أحد من الملوك والسلاطين وذلك بالنظر لحكمتها وحسن إدارتها، فإن جميع الأمراء كانت تحبها وتسعى في خدمتها، وكان لها جملة آثار مثل بناء مساجد وأضرحة ومدارس وبيمارستانات وخلاف ذلك في جميع أنحاء المملكة، وقد توفيت في رمضان سنة ٤٨٧ بأصبهان، فأسف الناس عليها أسفًا شديدًا — رحمها الله.
ومنهن الأميرة المسماة طرخان أيضًا زوجة أتابك سعد، فإنها بعد وفاة زوجها خلفته على المملكة وقد عضدت العلماء وأحيت العلوم والفنون، وكان لها ناد لم يؤمه إلا الأفاضل ومجلس لا يجتمع فيه إلا كل عاقل، وكان قصرها الفخيم عبارة عن دار للعلوم والمعارف، مع أن الجهل كان قد رفع لواءه في عصرها في ربوع آسيا الغربية على إثر هجوم القبائل المختلفة عليها، وفوق هذا وذاك فإنها لم تكن أول وآخر امرأة نبغت في مملكة فارس الإسلامية؛ فإن علماء خاتون من الأسرة الأتابكية قد تملكت في مدينة شيراز، وزينت هذه المدينة بالقصور الشامخة والأبنية الفخيمة ذات الرونق والبهاء، وقد وصفها المؤرخون بأنها كانت على جانب عظيم من التدين محِبة للشعراء والعلماء الذين كانوا لا يخلون يومًا واحدًا من قصرها وكانوا بالاشتراك معها يعقدون الحفلات الأدبية والدينية.
وقد لعبت المرأة في مصر دورًا مهمًّا وكان لها تأثير شديد على الهيئة الاجتماعية الموجودة فيها، وقد أسست إحدى النساء جامعة كبرى للعلوم دعيت باسمها وسميت «دار الحكمة» كان يدرس فيها عدا العلوم المختلفة الفلسفة والفقه والتوحيد، وقد تخرج منها امرأتان تملكتا فيما بعد في مصر وهما: ست الملك، وشجرة الدر.
كانت شجرة الدر تاسع من تولى السلطنة بمصر من جماعة بني أيوب، وقع الاتفاق على سلطنتها فتسلطنت في ثاني شهر صفر سنة ثمان وأربعين وستمئة، وقبل لها الأمراء الأرض من وراء حجاب، فلما تم أمرها في السلطنة فرقت الوظائف السنية على الأمراء وفرقت الإقطاعات الثقال على المماليك البحرية، وأغدقت عليهم بالأموال والخيول وأرضتهم بكل ما يمكن، وساست الرعية في أيامها أحسن سياسة وكانت الناس عنها راضية، وكان الأمير عز الدين أيبك التركماني مدبر المملكة، وكان لا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورتها فيما تريد، وكانت تكتب على المراسيم في العلامة بخطها «والدة خليل» فلما كان يوم الجمعة خطب باسم شجرة الدر على منابر مصر فكانت الخطباء تقول بعد الدعاء للخليفة: «واحفظ اللهم الجبهة الصالحية ملكة المسلمين عصمت الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل والستر الجليل والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب»، وكانت تدبر أمور المملكة في حياة أستاذها الملك الصالح، وكانت ذات عقل وحزم ومعرفة تامة بأحوال المملكة فسلطنوها لحسن تدبيرها للأمور وسياستها للرعية، ومن مآثرها الجامع الذي بنته بخط الخليفة بمصر بقرب مشهد السيدة سكينة ودفنت فيه بعد موتها وهو مقام الشعائر لغاية الآن، ولها جملة مآثر ومبان خيرية بمصر وخلافها من البلاد التي تملكت عليها.
وأما على عهد المماليك فقد لعبت المرأة أيضًا دورًا شديد الأهمية، فقد نسجت على منوال نساء بغداد، فإن نساء القاهرة كن يقمن في مجالسهن الحفلات الأدبية والموسيقية، وكانت النساء تجتمع فيها بشعراء وأدباء ذلك العصر.
ولننتقل الآن بالقارئ الكريم إلى الكلام على حالة المرأة في الهند الإسلامية ونرى ما أحرزته من الأهمية السامية والمقام الرفيع، فمنهن مهر النساء الذائعة الصيت التي طارت شهرتها حتى بلغت أوروبا، وقد وضع المؤلف الروائي الموسيو مور بشأنها رواية بديعة مثلت في أوبرا (لالا روك)، وكانت مهر النساء واقفة وقوفًا تامًّا على الآداب الفارسية والعربية، وكانت تحسن توقيع الألحان على الآلات الموسيقية وكانت تؤثر تأثيرًا شديدًا على سامعيها.
ومنهن الملكة نور جهان ابنة أحد عامة رجال الفرس الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للملك مغول أكبر الأعظم، ثم تزوجها ابن هذا الملك المدعو داهنكير ولقبت نور جهان، ثم إنه بمساعيها اتخذ زوجها الملك إياها وإخوتها وزراء فكانوا له عضدًا قويًّا في تدبير شئون المملكة، وأحد إخوتها هو آصاف الحكيم الذي تضرب الأمثال بحكمته وسداد آرائه وحدة جناته وتوقد فكره، ولكن في الحقيقة ونفس الواقع كانت نور جهان هي المدبرة العاملة للملكة، فإنها كانت تأمر بالخطبة في المساجد كل يوم وتضع الضرائب وتنظر في أحوال المملكة اليومية، وكانت تقابل الموظفين وأرباب الدولة، وقد كتب اسمها على النقود إلى جانب اسم زوجها، وكانت تساعد المحتاجين وتزوج الأيتام وتدفع عنهم المهر وتغيث الملهوفين وتمد الطرق العامة وتزين المدن بالمباني الفخيمة وتنشئ المدارس والمستشفيات والتكايا، وأعظم ما قامت به هو إصدارها الأوامر الصارمة للهنود تمنعهم فيها من تقديم الضحايا البشرية ودفن نسائهم وهن حيات مع أزواجهن الموتى، وهي أول من أنشأت معرضًا خيريًّا دعته «سوق الشفقة» فكانت تجتمع الأميرات وعقائل السراة والأعيان في قصرها كل عام في يوم النيروز الذي يقع في اليوم التاسع من شهر مارت ويعرضن الأشغال اليدوية الثمينة المحكمة الصنع، وكان يسوغ لكل واحد زيارة المعرض ويبتاع ما يشاء ابتياعه وعند نهاية المعرض كانت توزع إيراده الوافر على فقراء المملكة.
ومنهن خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر بن السلطان صلاح الدين البنجالي وقد تملكت في سنة ٧٤٠ للهجرة، وكانت متزوجة بالخطيب جمال الدين فصار وزيرًا غالبًا على الأمر وعين ولده محمدًا للخطابة عوضًا عنه، ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة، وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم، ويذكرها الخطيب يوم الجمعة وغيرها فيقول: «اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين وجعلتها رحمة لكافة المسلمين ألا وهي السلطانة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين.»
وأما ما يقال عن الأندلس التي لم يكن للفرس والسوريين تأثير فيها فإن المرأة لبثت فيها تلعب دورًا مهمًّا إلى انقراض حكم العرب في تلك البلاد الزاهرة، وكانت مساوية للرجل في جميع الحقوق لا تفرق عنه في شيء، وقد اشتهرت النساء أولًا في مدينة قرطبة على زمن الخليفتين عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني، ثم زادت شهرتهن في مدينة غرناطة على عهد بني نصر.
إن الخليفة عبد الرحمن أقام لزوجته المحبوبة تمثالًا عظيمًا على أبواب قصر الحمراء كان مثالًا ناطقًا بارتقاء وإحكام صناعة البناء والنقش إلى الدرجة القصوى، وكانت مدينة قرطبة وسائر مدائن الأندلس مديونة لهذه الملكة بقصر الزهراء الذي هو آية في الفخامة والإبداع، وكان لها اليد الطولى في إنشائه.
أما الخليفة الحكم الثاني الذي أحرز نصيبًا وافرًا من العلوم والآداب فإنه اتخذ لنفسه كاتبة لأسراره زوجة أحد وزرائه، وعدد النساء اللاتي اشتهرن في الأندلس كثير فلا نستطيع حصره، ولكن ما لا يؤخذ كله فلا يترك جله، فإننا نذكر بعضًا من نابغاتهن:
فمنهن ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر لدين الله الأموي، كانت واحدة زمانها حسنة المحاورة مشهورة بالصيانة والعفاف أديبة شاعرة جزلة القول، وكانت تناضل الشعراء وتجادل الأدباء، وعمرت عمرًا طويلًا ولم تتزوج، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر وفناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، وعلى سهولة حجابها وكثرة منتابها تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وكان لها صنعة في الغناء، ومن أخبارها مع أبي الوليد بن زيدون كما قاله الفتح ابن خاقان في القلائد أن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم، فلما عيل صبره فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها ويتسلى برؤية موافيها، فكتب إليها منها يقول:
إلى أن قال:
وقال في الآخر:
وكانت ولادة معجبة بنفسها مفتخرة على بنات جنسها، ومن زيادة إعجابها كتبت بالذهب على الطراز الأيمن من عصابتها:
وكتبت على الطراز الأيسر:
وكانت قد طالت المدة على مقابلتها لابن زيدون فهاج بها الشوق والغرام وتضاعف عندها الوجد والهيام، فكتبت إليه قائلة:
ومن كلام ابن زيدون فيها قصيدته المشهورة التي منها:
ولولادة حكايات ونوادر كثيرة مع الأدباء والشعراء وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين وقيل أربعة وثمانين وأربعمئة، رحمها الله تعالى.
ومنهن أم سلمة التي كانت تلقي دروسًا في التوحيد والفقه. ومنهن حسانة النميرية ابنة أبي الحسين الشاعر الأندلسي كانت أحسن نساء زمانها وأفصحهن مقالًا وأجملهن فعالًا، تأدبت وتعلمت الشعر من أبيها، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم أمير الأندلس — وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج — بهذه الأبيات:
فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه وأمر لها بإجراء مرتب وكتب إلى عامله على البيرة فجهزها بأحسن جهاز، ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرحمن متشكية من عامله جابر بن لبيد والي البيرة وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلتها إليه وهو في حال طرب وسرور، فانتسبت إليه فعرفها وعرف أباها ثم أنشدت:
ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها فرَقَّ لها وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينه وقال: تعدى ابن لبيد طوره حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي فقد عزلته لك ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم، فقبلت يده وأمر لها بجائزة فانصرفت وهي مشهورة بالأدب والحكم والجود والكرم.
ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجازية، كانت شاعرة لبيبة فصيحة أديبة ذات حسن وجمال وأدب وكمال، لها قصائد طنانة وموشحات رنانة، ذكرها صاحب المغرب وقال إنها من أهل المئة الخامسة فمن شعرها قولها:
وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه:
وتوفيت في بلدها وادي الحجارة بالأندلس.
ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن غلبون الكاتب، سكنت بلنسية وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة ولكنها فاقته في ذلك وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما، وقد قرأ عليها أبو داود سليمان الكتابين المذكورين وأخذ عنها العروض. توفيت بدانية بعد سيدها في عدد الخمسين والأربعمئة وقد تركت لها ذكرًا جميلًا وفخرًا طويلًا تتحدث به الأجيال من بعدها، رحمها الله تعالى.
وعلاوة على ما ذكرنا كانت الأندلسيات مطلقات الحرية يختلطن مع الرجال، وكن يحضرن الاحتفالات الرسمية في الأعياد وغيرها ويشهدن التمرينات والألعاب العسكرية، وكن يحضرن الصلاة في المساجد، وكانت نفوس الشعراء ترتاح إلى وجودهن إذ كن كزهر الربيع الزاهر في الرياض الفيحاء، وكان قادة العرب يسيرون إلى القتال باسم الله متحمسين بذكر معشوقاتهم، وكان كل قائد ينقش على سلاحه أو عمامته رسم خليلته التي كانت تحرضه على الإقدام والاستبسال، فكان يقتحم المخاطر ويعرض نفسه للمهالك في سبيل الحصول على الشهرة إرضاء لها. ولم يقتصر تأثير المرأة في الأندلس على الرجال من هذه الوجهة فقط، بل كانت لها اليد الطولى والقدح المعلى في انتشار المعارف وارتفاع شأن الأدب.
وبعد أن سقطت دولة العرب الإسلامية في الأندلس وفسدت أخلاق التتر الأتراك المسلمين لدى اختلاطهم بالفرس والسوريين وتأثير هؤلاء عليهم، أخذ يقل عدد النساء النابغات شيئًا فشيئًا، وفقدت حرية المرأة وأصبحت كأنها لم تكن، ورسخت بين المسلمين أقدام سيادة الأغوات والحرم، تلك السيادة الجائحة التي قادت المسلمين إلى الانحطاط والخمول والجمود والانقسام.
وأما العيشة العائلية بين طبقة المسلمين العليا فهي معلومة لا تحتاج إلى التعريف بها، ونرى السكوت عنها أولى لأن الفؤاد يرتعش لدى ذكرها جزعًا وترتعد الجوارح فزعًا. وماذا يستطيع الإنسان أن يقول عن أمه وأخته اللتين قد حكم عليهما بالحياة المظلمة الدائمة التي تقتل منهما الجسد والنفس معًا، وليس خلاص للمسلمين من حالتهم الأدبية والمادية حتى والسياسية أيضًا إلا بحل مسألتين مهمتين وهما: مسألة المرأة، وإصلاح اللغة، فإذا أوجدنا لنا زوجات وأمهات عاقلات متعلمات مدركات إذ ذاك تستطيع المسلمة أن تدبر شئونها وتقوم بالواجبات المفروضة عليها، وبناء على ذلك تستطيع تربية أولادها وتثقيف أخلاقهم وتبث في نفوسهم منذ نعومة أظفارهم روح الشهامة والمبادئ القويمة والصفات المجيدة التي لا غنى عنها في هذا المجتمع الإنساني، وحينئذ لا يكون أولادها عالة على الهيئة الاجتماعية ولا أعضاء أشلاء في جسمها. إن عيشتها الحالية داخل جدران البيوت وانحصارها في غرف الحرم تؤثر تأثيرًا سيئًا على قواها البدنية وتضعف نمو جسدها، الأمر الذي يفضي على تواتر الأعوام إلى فساد النسل وانحلاله.
ثم إن صعوبة اللغة وطريقة تعليمها تقف سدًّا منيعًا في طريق استنارة عقول المسلمين بنبراس العلوم والمعارف، فالمرأة واللغة هما عدوان لدودان للعالم الإسلامي، وهما داؤه العضال الذي تعسر شفاؤه ويقوده بالتدريج إلى الهلاك والاضمحلال، غير أنه في هذه الأيام المتأخرة أخذ المسلمون يوجهون التفاتهم إلى هاتين المسألتين، ومع ذلك فإن السعي الذي بذل في الأستانة والقاهرة وبومباي وكلكوتا بشأن إنشاء المدارس للجنسين وإصلاح اللغة وطريقة التعليم لم يأت بالفائدة المطلوبة، ولم يجد العلاج الشافي لذلك المرض العضال الذي سبق ذكره آنفًا، وينبغي لإيقاظ العالم الإسلامي من سبات نومه العميق وانتظامه في سلك الشعوب المتمدنة انقلاب عظيم وهيجان شديد، وينبغي أن يصل المسلمون إلى دور الإصلاح، ولا يتأتى لهم ذلك إلا إذا ظهر بينهم رجل ذو حزم وعزم وإقدام، ومثل هذا المصلح المنتظر يجد في الإسلام كما قدمنا سابقًا وفي تاريخه وأحاديثه تربة جيدة تصلح لغرس بذور الإصلاح.
ونعيد القول بأن القرآن الكريم والشريعة المطهرة لا يناقضان العلم والإقبال على النجاح والفلاح، غير أن حملتهما — ونعني بهم المشائخ والعلماء — قد ألبسوهما حلة توافق أغراضهم ومآربهم، وقد أدى ذلك إلى اعتقاد الناس بأن القرآن والشريعة والمدنية والعلم على طرفي نقيض.
إن مصلح مصر المغفور له محمد علي قد أدرك هذا الأمر ببصيرته النيرة وفكره الثاقب، فدعا إليه علماء مصر ومشائخها وأحاطهم بنطاق مثلث من جنوده المخلصين وأمرهم متهددًا إياهم أن يوقعوا على الإصلاحات التي عزم على إجرائها.
إن الديانة الإسلامية ديانة حية تبث في نفوس تابعيها روح النشاط والإقدام على الأعمال الخطيرة، وتعليمها مملوء بالشواهد العديدة القائلة بالعمل والجد والكد وخوض عباب مضمار الحياة وليس فيه أثر للضغط على قوى الإنسان العاملة، فقد قال الرسول ﷺ: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لأخراك كأنك تموت غدًا»، وقال أيضًا: «اعقلها وتوكل» رواه الترمذي فقال: إن رجلًا قال يا رسول الله أعقل ناقتي وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال له رسول الله ﷺ: «اعقلها وتوكل.»
(المعرب) يظهر أن مبادئ المؤلف وأفكاره تطابق كل المطابقة لمبادئ فقيد الإسلام وفيلسوف الشرق المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية القائل — رحمه الله — وهو في مرض الموت:
خاتمة الكتاب (للمعرب)
أرسلت كتابًا لحضرة الكاتب البليغ عزتلو أحمد بك أجايف مؤلف هذا الكتاب أستميحه إذنًا بالتوسع في الكلام على النساء الشهيرات الوارد ذكرهن في الكتاب، وقد قمت بهذا الأمر وأشرت إلى ذلك في حينه، وإنما فاتني ذكر ترجمة بعضهن؛ فرأيت إتمامًا للفائدة أن أختم الكتاب بذلك وأزيد عليه ترجمة بعض النساء المصريات، فمنهن حضرة الكاتبة التركية الشهيرة فاطمة علية وقد ورد ذكرها مرارًا عديدة:
هي ابنة العلامة المفضال المؤرخ الشهير جودت باشا ناظر العدلية العثمانية سابقًا، ولدت فاطمة علية في الأستانة العلية ليلة ثلاثاء السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ١٢٧٩ هجرية (الموافق ٩ أكتوبر سنة ١٨٦٢ ميلادية)، فلما تولى والدها ولاية حلب الشهباء سنة ١٢٨٢ كان عمرها ثلاث سنوات، وقد أحبها حبًّا شديدًا لما ظهر عليها من أمارات النجابة والذكاء وحدة الجنان، فصحبها معه ومكثت عنده مدة ولايته وهي سنتان.
ولما رجع إلى الأستانة العلية استحضر لها معلمين ومعلمات لإرضاعها لبان العلوم والآداب منذ نعومة أظفارها، وقد تقلب والدها في جملة وظائف مهمة في الدولة العثمانية، ولما بلغت من العمر أربع عشرة سنة تعين والدها واليًا على ولاية يانيه وكان ذلك عام ١٢٩٢ هجرية فذهبت معه، غير أنه لم يمكث كثيرًا ورجع إلى الأستانة، وكانت أينما سارت وحلت تشتغل بالعلوم والمعارف، وفي سنة ١٢٩٥ تعين والدها واليًا على ولاية سورية فصحبته إليها وأقامت في دمشق، ثم أقامت شتاء في بيروت ورجعت برجوع والدها إلى الأستانة.
وكان أول ما اشتغلت به من العلوم من سن الطفولية تعلُّم أصول القراءة والكتابة التركية، وتلقت دروس العربية والفارسية من عدة معلمين خصوصيين مختلفي الطبقات، ثم اشتغلت بتحصيل اللغة الفرنساوية فأتقنتها على يدي آنسة باريسية، ولما كانت في سوريا تقدمت في تحصيل اللغة العربية بجميع فروعها وفنونها من بديع وعروض ونحو وبيان وخلافه.
وقد أخذت عن والدها علم التوحيد والمنطق والرياضة والهندسة وبرعت فيها براعة عظيمة، وأما علم الموسيقى فإنها أخذته بكامل أنواعه وفروعه عن ماهرين فيه من ترك وعرب وفرس وإفرنج، فوقفت على جميع أسراره وفاقت أهل زمانها فيه، ومع تفرغها لجميع هذه العلوم فإنها وجهت التفاتها للأعمال المنزلية والأشغال اليدوية، فأحرزت منها نصيبًا وافرًا، وقد اشتهرت المؤلفة بسلاسة العبارة وأسلوب الكتابة، فإنها سارت في ذلك على منهج جديد لم يسبقها إليه أحد، ولكنها لم تستطع في بادئ الأمر نشر مبتكرات أفكارها لاشتغالها بتربية الأولاد وغير ذلك من الشئون المنزلية، بيد أنه لما ارتقت الأفكار وأشرق نور العلم في الأستانة العلية، وابتدأ بعض المخدوات العثمانيات في نشر الآثار الأدبية وتأليف الكتب أخذت صاحبة الترجمة تسابقهن في ميدان الآداب؛ فعربت رواية (دولانته) عن اللغة الفرنسية إلى التركية وسمتها باسم «مرام»، فأبدعت فيها كل الإبداع وأجادت في أسلوبها، ولكنها ضنت بذكر اسمها فأخفته صونًا واحتجابًا، وانتظرت أقوال أدباء العصر عنها، ولكن تلقاها الأدباء بمزيد الاستحسان لما كانت عليه من الإنشاء الجديد الذي لم ينسج على منواله كاتب تركي، وقدرها الكاتب الشهير أحمد مدحت أفندي محرر جريدة ترجمان حقيقت حق قدرها وكتب عنها جملة فصول شائقة وقد شجعها بذلك إلى خدمة العلوم والآداب.
وقد كثر اللغط بين أدباء الأتراك بشأن هذه الرواية وبذلوا الوسع لمعرفة ناسج بردها، فأماط لهم مدحت أفندي النقاب وأخذت على إثر ذلك تنشر المقالات الرنانة باسمها في جريدة ترجمان حقيقت، وقد ناضلت الأدباء وناقشت الكتاب فذاع صيتها وعظم اسمها حتى أضحى لا يذكر إلا مقرونًا بالاحترام والإعجاب، وبلغت شهرتها أوروبا فقصد زيارتها كثير من كاتبات الغرب حيث كن يذاكرنها في العلوم والمعارف فيعجبن إعجابًا شديدًا بما أوتيته من الفطنة والذكاء وسمو المدارك.
وقد جرت بينها وبين ثلاثة من سيدات الإفرنج السائحات محاورات مهمة كتبتها في رسالة على حدة وسمتها (نساء الإسلام)، وقد نشرتها برمتها جريدة ترجمان حقيقت سنة ١٨٩٢ ميلادية، فعربتها عنها جريدة ثمرات الفنون العربية التي تطبع في بيروت، وقد ترجمت تلك الرسالة إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية فصادفت استحسانًا عظيمًا، وكان بودنا نقلها برمتها ولكن ضيق المقام حال دون ذلك، ثم وضعت صاحبة الترجمة رواية باللغة التركية دعتها (محاضرات) أدهشت قراءها بطلاوة أسلوبها وعذوبة عباراتها، ولم تزل للآن مقيمة في الأستانة العلية تشتغل بالآداب والعلوم وتضع المؤلفات المفيدة، وقد قامت حضرتها بخدمات جليلة لبنات جنسها أكثر الله من أمثالها بين نساء الشرق.
ومن نابغات مصر في هذا العصر الكاتبة الأديبة والشاعرة اللبيبة المرحومة عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور، ولدت — رحمها الله — سنة ١٢٥٦ بمدينة القاهرة وقد تعلقت بالعلم منذ نعومة أظفارها، وأخذت النحو والعروض عن أساتذة أفاضل بين يدي أبويها وكانت تكتب الخط الجيد وبرعت في الفقه وغيره من العلوم الدينية، ثم إنها تعلمت اللغة الفارسية وكانت تقضي أكثر أوقات فراغها بمطالعة الدواوين الشعرية وكتب الأدب، وفي عام ١٢٧١ هجرية تزوجت بالسيد الشريف محمود بك الإسلامبولي كاتب ديوان همايوني بالأستانة العلية، وبعد زواجها اقتصرت عن المطالعة وإنشاء الأشعار حيث وجهت التفاتها إلى تدبير المنزل وتربية أولادها، وبعد وفاة والدها وزوجها أصبحت حاكمة لنفسها فعادت إلى طلب العلم لا سيما النحو والعروض فوقفت على أسرار بحوره، وقد كان لها الباع الطولى والقدح المعلى في قرض الشعر، فنظمت القصائد الرنانة فذاع صيتها وأحرزت منزلة سامية في عالم الأدب، ولها ديوان شعر اسمه «حلبة الطراز» يغني اسمه عن ذكره، وديوان آخر باللغة التركية سمته شكوفه، وألفت كتابًا جليل الفائدة اسمه «نتائج الأحوال» ونشرت عدا ذلك مقالات عديدة في جريدة الآداب كان لها حسن الوقع في نفوس قارئيها، وقد راسلت حضرة الشاعرة الشهيرة السيدة وردة اليازجي ومن بديع شعرها قولها من قصيدة طويلة:
إلى أن قالت:
وقولها في الختام:
ومن قولها في الغزل:
ومما كتبته في صدر جواب:
ولبثت إلى آخر حياتها زهرة يانعة في روض الأدب طارت شهرتها في الآفاق وتحدث بأدبها وشعرها الركبان، رحمها الله تعالى.
ومن أديبات هذه الأيام في مصر حضرة الأديبة والشاعرة الفاضلة زينب فواز أفندي، ولدت في قرية تبنين إحدى قرى ولاية بيروت ضمن قائمقامية صيدا وذلك سنة ١٨٦٠ في خلال الثورة الشهيرة في ذاك العام.
ولما بلغت صاحبة الترجمة أشدها نزحت إلى القطر المصري واستوطنت الإسكندرية فدرست فيها القراءة والكتابة على يدي أحد الأساتذة المتخرجين من جامع الشيخ محمد شلبي، ثم تولى تدريسها الأستاذ الفاضل الشيخ محي الدين النبهاني، فأخذت عنه الإنشاء والنحو ثم درست الصرف والبيان والعروض والتاريخ على فريد عصره ووحيد دهره الأستاذ الفاضل المرحوم حسن حسني باشا الطويراني صاحب جريدة النيل، وقد نبغت في كل العلوم التي تلقنتها، ويدلنا على ذلك التآليف الجليلة التي ألفتها الشاهدة على ما لصاحبة الترجمة من الباع الطويل في فنون الأدب، ولها مقالات عديدة نشرتها في الجرائد دفاعًا عن بنات جنسها، وناظرت في هذا الموضوع الأدباء وكبار الكتاب، وأما تآليفها المطبوعة فهي:
كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور وقد صدرته بهذين البيتين:
ورواية حسن العواقب، ورواية الهوى والوفاء، وكتاب الرسائل الزينبية، وتطبع الآن رواية الملك قورش، ولها كتب أخرى لم يتسن لها طبعها للآن: وهي كتاب مدارك الكمال في تراجم الرجال، وكتاب الجوهر النضيد في مآثر الملك الحميد، وديوان شعر طويل جدًّا، ولم تزل إلى يومنا هذا مثالًا للفضل والنبل تضع التأليف تلو التأليف أمد الله في عمرها وكثر من أمثالها.
القرآن الشريف | تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي |
سيرة ابن هشام | الوسائل إلى معرفة الأوائل له أيضًا |
السيرة الحلبية | أعلام الناس للأتليدي |
صحيح البخاري | العقد الفريد |
الجامع الصغير | الأغاني |
مشاهير الإسلام | الدر المنثور لزينب فواز |
مروج الذهب للمسعودي | تاريخ ابن الجوزي |
الأوراق في أخبار آل عباس | المكتبة الأندلسية |
وفيات الأعيان لابن خلكان | الجلد عند فقد الولد للسيوطي |
حضارة الإسلام في دار السلام | ابن إياس |
تاريخ الأمم والملوك للطبري | الإحاطة في أخبار غرناطه |
النجوم الزاهرة لجمال الدين الأتابكي | تاريخ الحروب الصليبية |
المختصر المحتاج إليه من تاريخ بغداد | رحلة ابن بطوطة |
كنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين | ابن الأثير |
ابن خلدون | دائرة المعارف |