فراسة المهن والصناعات
إذا صح أن الخلق الظاهر يدل على الخلق الباطن وكان بين الخلقين تناسب ثابت كما هو مقتضى علم الفراسة، وجب أن تكون ظواهر أهل المهنة الواحدة أو الصناعة الواحدة متشابهة؛ لأن بواطنهم متشابهة؛ لانشغالهم في أشغال متشابهة في مهنة واحدة، فالكتَّاب يجب أن يشبه بعضهم بعضًا بما يشتركون فيه من الظواهر الدالة على ملكة الكتابة، ومثل ذلك القواد والمكتشفون وغيرهم.
ولكنك قلَّما ترى تلك المشابهة تامة ولا هي تحدث دائمًا؛ والسبب في ذلك — عدا ما قدمناه في باب «هل تصدق الفراسة دائمًا» — أن بعض المهن تقتضي من المواهب مثل ما تقضيه بعض المهن الأخرى وإن كانت بعيدة عنها بحسب الظاهر، فالقيادة في الحرب تقتضي سعة الجبهة وعرض الرأس، وتقتضيهما أيضًا خدمة المصالح الدينية وهي القيادة الدينية، فلا غَرْوَ إذا تشابه خدَمة الدين وقواد الحرب في ظواهر رءوسهم.
وزد على ذلك أن اختيار الناس للمصالح التي يتعاطونها قلَّما يقع طبقًا لما فُطروا عليه؛ فقد يولد الغلام وفيه استعداد للرياضيات فيربيه والده تربية القسوسية أو يدخله في الجندية، وقد يولد مفطورًا على تجارة فيعلمه أبوه صناعة الطب، وقد ينشأ المرء وفيه ميل إلى صناعة من الصنائع ثم يرى بعين العقل إن اشتغاله بتلك الصناعة لا يكسبه كثيرًا أو لا يوافق حالًا من أحواله فيحول ذهنه إلى صناعة أخرى ويعوِّد نفسه عليها.
فإذا كان قوي العقل قوي الإرادة يفوز في أي مهنة تعاطاها وإن تكن ليست هي المهنة التي خُلق لأجلها، ولهذا السبب ترى بين أهل المهنة الواحدة أناسًا تدل فراسة وجوههم على أنهم من أهل مهنة أخرى.
فكم من شبان ينشئون وفيهم ملكة الشعر فإذا شبُّوا ورأوا كساد هذه الصناعة عدلوا عنها إلى ما يكتسبون به معاشهم كالتجارة أو الصناعة أو نحوهما، وقِس على ذلك حال كثيرين من رجال الموسيقى وغيرها.
ولكنا ذكرنا في تعليل الفراسة أن الأعضاء تنمو بالعمل وتضمر بالإهمال، وعللنا بذلك دلالة ظواهر الوجوه على بواطن القوى، وعلى نفس هذا المبدأ يتعلل تشابه أهل المهنة الواحدة، ويظهر ذلك بأجلى وضوح في أصحاب الحرف البدنية الذين يشتغلون بأيديهم أو أرجلهم أو صدورهم أو ظهورهم؛ لأن تلك الأعضاء تنمو فيهم على السواء فتجعل بينهم مشابهة، ولذلك فإنك ترى للحدادين شكلًا خاصًّا يمتازون به وشكلًا للنجارين وآخر للبنائين، وكثيرًا ما يتفق لك أن ترى رجلًا فتحكم على مهنته لأول وهلة، وقِس على ذلك أصحاب المهن العقلية فإنهم يتشابهون في ظواهرهم تشابها قريبًا، فللأطباء ظواهر مشتركة، ومثلها للقواد أو الفلاسفة أو القسيسين أو التجار أو الصيارف أو المصورين أو الموسيقيين أو المعلمين أو غيرهم.
وعلى هذا المبدأ جعلوا لفراسة المهن والصناعات بابًا خاصًّا، بحثوا فيه عن الأخلاق المشتركة في أهل المهنة الواحدة من أشهر المهن، وأوضحوا ذلك بمقابلة الرسوم، وإليك التفصيل.
- (١)
هنيبال القائد القرطجني: الذي اشتهر في حروبه ضد الرومان في القرن الثالث، تُوفي سنة ١٨٣ قبل الميلاد.
- (٢)
ريكاردوس قلب الأسد: ملك إنكلترا، وهو الذي اشتهر في الحروب الصليبية، وحديثه مع السلطان صلاح الدين الأيوبي مشهور. تُوفي سنة ١١٩٩.
- (٣)
يوليوس قيصر: القائد الروماني الشهير، تُوفي سنة ٤٤ ق.م.
- (٤)
بيزارو: فاتح بيرو، وُلد في إسبانيا سنة ١٤٧١، ومات في بيرو سنة ١٥٤١.
- (٥)
كرومويل: القائد الإنكليزي، وهو من أشهر قواد إنكلترا، تُوفي سنة ١٦٥٩.
- (٦)
ولينتون: القائد الإنكليزي، قاهر نابوليون في واقعة ووترلو، تُوفي سنة ١٨٥٢.
- (٧)
نابوليون بونابرت: هو أشهر من أن يُعرف، تُوفي سنة ١٨٢١.
- (٨)
فيكونت تورين: المارشال الفرنساوي، وهو من أشهر قواد فرنسا، تُوفي سنة ١٦٧٥.
- (٩)
فردريك الأعظم: ملك بروسيا، اشتهر بمهارته في الفنون الحربية، تُوفي سنة ١٧٨٦.
- (١٠)
شارلس الثاني عشر: ملك أسوج، اشتهر بتغلبه على الدنماركيين، تُوفي سنة ١٧١٨.
- (١١)
وينفيلد سكوت: أحد أعاظم قواد أميركا، تُوفي سنة ١٨٦١.
-
أشهر القواد: في الشكل ٣ صور أشهر قواد العالم
على اختلاف الأمم قديمًا وحديثًا، وإذا أمعنت النظر في وجوههم رأيتهم يتشابهون في أكثر
ملامحهم، والنشاط والحزم وثبات الجأش تتجلى في عيونهم وأنوفهم وجباههم، فضلًا عن علامات
الصحة
التي لا بد منها في كل عمل كبير، ناهيك بقوة الإرادة، فإنها بادية في أحناكهم، وخلاصة
ما
يتشابهون فيه من دلالات القوة:
- (١) سعة الرأس: من الأذن وما بعدها إلى الأعلى والوراء، وهي من دلالات القوة على الحرب، ويشترك فيها أكثر القواد، وهي تدل على الأنَفة والثبات والتعقُّل.
- (٢) كبر الفكين: وهو تابع لكبر قاعدة الدماغ، فكبرهما مع بروز الذقن يدلان على قوة الهيكل العظمي ونشاط الدورة الدموية وكبر المخيخ، لاحظ ذلك خصوصًا في قيصر ونابوليون وولنتون وسكوت.
- (٣) سعة الفم وكبره: وهما يدلان على قوة المجموع العضلي.
- (٤) بروز الوجنات: وهو تابع لكبر الفكين.
- (٥) كبر الأنف: فإنه بارز فيهم، وهو دليل القوة والمطامع الكبيرة والهمم العالية، وبروزه واضح بالأكثر في هنيبال وقيصر وكرومويل وشارلس وولنتون وسكوت.
- (٦) العبوسة: ونريد بها انكباب مقترن الحاجبين نحو الأنف، وهو دليل السلطة.
- (٧) بروز الجبهة وارتفاعها: وهما دليل التعقُّل والذكاء والاقتدار على إعمال الفكرة.
ولو أتيح لنا أن نصور قواد الدول الإسلامية لرأينا فيهم مثل هذه الصفات، ولكنهم لم يتصوروا ولا نُصبت لهم التماثيل.
أما القواد المرسومون في الشكل المشار إليه فهم أشهر قواد العالم قديمًا وحديثًا، فيوليوس قيصر أعظم قواد العالم القديم، وقلب الأسد ملك إنكلترا، وشجاعته أشهر من أن تذكر، وهنيبال أول من اجتاز جبال الألب وحارب رومية حتى كاد يودي بها، وكرومويل المشهور بقوة التعقُّل والإرادة فضلًا عن قيادة الجند، وأما نابولوين فهو رجل العالم وفيه كل القوى، وكذلك ولنتون الذي قهر نابوليون في واقعة ووترلو، وعلوُّ الهمَّة بادٍ في وجهه، وهو قريب من الشكل الروماني. وهكذا سائر القواد.
- (١) أفلاطون: الفيلسوف اليوناني المشهور، تُوفي في أثينا سنة ٣٤٨ ق.م.
- (٢) أرسطو: مؤسس فلسفة المشاة، تُوفي في خليكيس سنة ٣٢٣ ق.م.
- (٣) سقراط: أعظم فلاسفة القدماء، تُوفي سنة ٤٠٠ في أثينا مسمومًا.
- (٤) جون لوك: أحد عظماء فلاسفة الإنكليز، وُلد سنة ١٦٣٢، وتُوفي ١٧٠٤م.
- (٥) فرنسيس باكون: مستشار إنكلترا في عهد جيمس الأول، وهو فيلسوف كبير، وُلد في لندن سنة ١٥٦٠، وتُوفي سنة ١٦٢٦.
- (٦) غليليو: الفيلسوف الإيطالي صاحب القول بحركة الأرض، وُلد في بيزا سنة ١٥٦٤، وتُوفي في فلورنسا سنة ١٦٤٢.
- (٧) آدم سميث: العمراني الإنكليزي الشهير، تُوفي في أيدنبورج سنة ١٧٩٠.
- (٨) إسحاق نيوتن: العالم الإنكليزي، مكتشف الجاذبية، تُوفي ١٧٢٧.
- (٩) بنيامين فرنكلين: أشهر علماء الاقتصاد السياسي في أميركا، ومخترع قضيب الصاعقة، وُلد في بوستن سنة ١٧٠٦، وتُوفي سنة ١٧٩٠.
-
الفلاسفة: لا بد للفيلسوف من دماغ كبير الحجم دقيق البناء، ولا نعرف فيلسوفًا لم يبدُ ذلك في رأسه،
وقد
يشتهر بعض الناس باقتدار عقلي في بعض فروع العلم أو الصناعة، وأما الإحاطة بالمبادئ العامَّة
وتتبع المعلولات إلى عللها واستنتاج النتائج الفلسفية فإنها تفتقر إلى شيء غير السمع
والبصر
أو الحفظ والفهم، والبحث عن مصادر الأمور ومصيرها لا يستطيعه غير الفلاسفة، فلا عجب إذا
شبههم القدماء بالآلهة؛ لأن ملاحظة الحوادث شيء وتدبرها شيء آخر، والكتابة والتكلم شيء
وحل
المعضلات الفلسفية وكشف النواميس الطبيعية شيء آخر، وهذه تحتاج إلى قوى سامية لا تجدها
في
غير الأدمغة الكبيرة.
وترى في ترتيب صور الفلاسفة شكل ٤ أن أرسطو في وسطها وأعلاها مع أن سقراط أقدم منه، ولكنك إذا نظرت إلى أرسطو رأيت نحو ثلثي رأسه دماغًا، ويؤيد ذلك علو مداركه في أمور لا يزال الناس إلى اليوم يعجبون بها، فقد كان دقيق الملاحظة سديد الرأي، وهو أول فيسيولوجي وصلت إلينا تعاليمه الفيسيولوجية، وكان له رأي في فن الفراسة.
وسقراط كبير الدماغ، ولكنه قبيح الوجه، وقد زاده قبحًا انفطاس أنفه، على أن علو رأسه واستدارته وارتفاعه فوق الأذن تدل دلالة صريحة على كبر عقله، وكان صحيح المزاج قوي البنية.
وأما أفلاطون فإنه يختلف عن هذين؛ لأن ملامحه كانت متناسبة تكاد تكون تامة، وكان صحيح الحكم دقيق النظر، وكان عقله متغلبًا على عواطفه مع رفق ودعة.
وغليليو من أعاظم الفلاسفة، وقد اكتشف ركنًا من أركان علم الهيئة، وتدل فراسته على عقل قوي مع سعة وعمق، وكان أنفه وذقنه بارزين وعيناه جميلتين وشفتاه ممتلئتين، مما يدل على قوة الاختراع والثبات.
وإسحاق نيوتن كان كبير الرأس والوجه مع تناسب الجبهة وإشراق العينين وبروز الأنف وجمال الفم وعرض الفك، وكل ذلك يؤيد ما يُعرف من أعماله وأخلاقه.
واللورد باكون دماغه كبير وأنفه يكاد يكون رومانيًّا، وكانت فيه همَّة الرومان.
- (١) غوتنبرج الألماني: مخترع الطباعة بالحروف، وُلد سنة ١٤٠٠، وتُوفي ١٤٦٨.
- (٢) دافي الإنكليزي: مخترع المصباح الأمين، وُلد سنة ١٧٧٨، وتُوفي سنة ١٨٢٩.
- (٣) روبرت فلتن: المهندس الأميركاني، وهو أول من أفلح في سلك البحار بالبخار، وُلد في بنسلفانيا سنة ١٧٦٥، وتُوفي في نيويورك سنة ١٨١٥.
- (٤) جورج ستيفنسن الإنكليزي: واضع نظام السكك الحديدية، تُوفي سنة ١٨٤٨.
- (٥) أرخميدس: الرياضي اليوناني، أشهر قدماء الرياضيين المهندسين، تُوفي ٣١٢ق.م.
- (٦) صموئيل مورس: مخترع التلغراف الكهربائي، وُلد سنة ١٧٩١.
- (٧) داكير الفرنساوي: مخترع طريقة التصوير الفوتوغرافي المعروفة باسمه، تُوفي ١٨٥١.
- (٨) السير أركرايت الإنكليزي: مخترع آلة الغزل، تُوفي سنة ١٧٩٢.
- (٩) جيمس وط الإنكليزي: صانع الآلة البخارية، تُوفي سنة ١٨١٩.
- (١٠) إلي هويتني الأميركاني: وُلد سنة ١٧٦٥، وتُوفي سنة ١٨٢٥.
-
المخترعون: لا تكاد تجد بين هؤلاء المخترعين رأسًا ضيقًا ولا وجهًا ضيقًا ولا ملامح ضعيفة، بل كلها
وجوه
كاملة تدل على قوة العقل والإرادة، وكلهم عصاميون نهضوا من مصافِّ العامَّة إلى مراتب
عظماء
الرجال بجدِّهم وسعيهم، ولا يخلو أنهم قرءُوا الكتب واقتبسوا من الآخرين ولكنهم تجاوزوهم
إلى
الاستنباط من عند أنفسهم؛ لأن العناية خصَّتهم بأوصاف لولاها لم يكونوا مخترعين، منها:
- (١) أن رءوسهم كبيرة منتظمة، ومعدل حجم أدمغتهم أعظم من معدل أدمغة سائر الناس.
- (٢) أن فصي الدماغ بارزان إلى الأمام، وفيه قوَّتا الاستنتاج والحكم اللازمتان للمخترع.
وترى في مجموع هذه الصور صورة فلتن مخترع البواخر في الوسط والأعلى، وله رأس يدل حجمه على امتلائه وكبره، واتساع الجمجمة وارتفاعها، ووجه يدل على الثبات.
وإلى يمين فلتن ستيفنسن مخترع الآلة البخارية، وهو أيضًا عظيم الجمجمة عريض الحنك، حتى يصير وجهه مربعًا مستطيلًا، مما يدل على التعقُّل والثبات.
وأرخميدس مخترع اللولب المائي المعروف باسمه — القائل: أعطوني مخلًا وداركًا فأنقل لكم الأرض — تأمل ملامحه إنها كبيرة واضحة، ولولا صغر الصورة لكانت أوضح.
وإلى يسار فلتن صورة دافي الكيماوي المشهور، مخترع المصباح الذي أمن به عَمَلة المعادن من الانفجار، وترى وجهه ممتلئًا، ويليه غوتنبرج مخترع طباعة الحروف، وتحت ستفنسن داكير صاحب الاختراع المعروف باسمه في الفوتوغرافيا، وترى وجهه وملامحه تدلان على التأمل والتصور.
وفي أسفل الشكل ووسطه صورة وط مخترع الآلة البخارية أو محسِّنها، ووجهه يكاد ينطق بما طُبع عليه من التأمل والافتكار وقوة الإرادة، وكأنه يقول: «أقدر وأريد.» ولا يمكن أن تدل هذه الصورة إلا على دماغ قادر وإرادة قوية.
وإلى يمين ووط هويتني مخترع آلة القطن، وقد كان اختراعه سببًا في ترويج الصناعة ورفاه الأمم، ووجهه يشبه وجه نابوليون من حيث شكله.
- (١) أميريكوس فسبوسيوس: ومنه أخذت أميركا اسمها، تُوفي سنة ١٥١٤.
- (٢) خرستفوروس كولمبوس: مكتشف أميركا الشهير، تُوفي بإسبانيا ١٥٠٦.
- (٣) سبستيان كابوت: مكتشف قارة أميركا سنة ١٤٩٧، تُوفي سنة ١٥٤٧.
- (٤) هنري هدسن: مكتشف نهر هدسن وخليج هدسن بأميركا، تُوفي سنة ١٦١٠.
- (٥) هرناندو دي سوتو: مكتشف نهر مسيسيبي بأميركا، تُوفي سنة ١٥٤٢.
- (٦) جيمس كوك: أول من طاف حول العالم، قُتل في جزائر سندويج ١٧٧٩.
- (٧) جيوفاني فيرانسانو: الذي راد السواحل الشرقية لأميركا الشمالية، تُوفي سنة ١٥٢٥.
- (٨) جون فريمون: صاحب الاستكشافات في كليفورنيا، وُلد سنة ١٨١٣.
- (٩) أليشع كان: وهو رحالة أميركاني اكتشف بحر القطب، تُوفي سنة ١٨٥٧.
- (١٠) السير جون فرنكلين: رحالة إنكليزي نحو القطب، وتُوفي سنة ١٨٤٥.
-
المكتشفون: في رجال الاكتشاف صفات مشتركة لا يكاد يخلو منها واحد؛ لأن مهنتهم تقتضيها، وذلك أن السعي
في الاكتشاف وحب الاطلاع يقتضيان الأسفار وتحمل الأخطار في البر والبحر، ولا يستطيع ذلك
إلا
ذو الاعتقاد المتين بالخالق والاعتماد على العناية الربانية، وهم أهل الرجاء والإيمان
والثبات، وترى هذه الصفات تتجلى في وجوه المكتشفين المرسومة صورها في هذا الشكل، وخصوصًا
في
عيونهم؛ فإنك تراها شاخصة شخوص المستغرق، كأنها تنظر إلى ما وراء الأفق أو تفكر فيما
وراء
المنظور، وبدون الاعتقاد في الإله غير المنظور وبسلطاته على أعمال البشر وإرشادهم إلى
ما
يريده لا يستطيع المرء أن يسلم نفسه إلى رحمة الرياح والأنواء والعواصف، ولا أن يخترق
الصحارى أو يتسلق الجبال الوعرة المحفوفة بالأخطار، أو يسير على الجليد في القطب الشمالي.
وإذا تأملت في صور هؤلاء المكتشفين رأيت:
- (١) أن رءوسهم تغلب فيها الاستطالة من الأمام إلى الخلف.
- (٢) أنها بعيدة ما بين الأذن والقمة.
- (٣) أن قوة الإدراك واضحة فيها.
ثم إذا نظرت إلى كولمبوس رأيت رأسه عاليًا مستطيلًا، والإدراك والفهم يتجلَّيان في عينيه، والثبات والأنفة والاحترام وصحة الاعتقاد ظاهرة فيه، وكذلك كابوت فإنه كثير الشبه بكولمبوس.
أما فيسبوسيوس فإن شكل وجهه يدل على قوة الحركة مع الاعتدال، وأنفه الروماني يدل على علو الهمَّة، وذقنه البارز دليل الثبات، واتساع ما بين الأذنين دليل التعقُّل.
وترى المزاج الصفراوي غالبًا على وجه فيراتسانو، وقد كان أسمر البشرة أسود الشعر جعديَّه عضلي البدن قويَّه، وكان صبورًا حازمًا كثير الاعتماد على نفسه.
وجيمس كوك لا نحتاج في إثبات قوته إلى أكثر من الإشارة إلى طلعته؛ فإن في جبهته وعينيه وذقنه ما ينطق بأجلى بيان عمَّا كان فيه الأنَفة والوقار وحب الاطلاع.
وانظر إلى فرنكلين فإن وجهه يدل على ما كان فيه من قوة العقل والبدن، وكان كل شيء فيه عريضًا متينًا.
- (١) كليفتون: أحد مشاهير رجال السياسة في أميركا، وُلد سنة ١٧٦٩، وتُوفي سنة ١٨٢٨.
- (٢) مترنيش: أشهر ساسة النمسا، وهو الذي أدار حركات الدول المتحدة في مقاومة نابوليون الأول، تُوفي سنة ١٨٥٩.
- (٣) تليران بريكورد الفرنساوي: الملقب بأمير السياسة، تُوفي سنة ١٨٣٨.
- (٤) جفرسن: ثالث رؤساء جمهورية الولايات المتحدة وأحد كبار المؤلفين في السياسة، تُوفي سنة ١٨٢٦.
- (٥) دانيال وبستر الأميركاني: أحد خطباء السياسة العظام، تُوفي سنة ١٨٥٢.
- (٦) السير روبرت بيل: أحد أكابر الوزراء في إنكلترا، تُوفي سنة ١٨٥٠.
- (٧) دانيال أوكونل: السياسي والمصلح الأيرلندي المشهور، تُوفي سنة ١٨٤٧.
- (٨) كونت دي كافور: أحد كبار ساسة سردينيا، تُوفي سنة ١٨٦١.
- (٩) لورد جون رسل: رئيس وزراء إنكلترا، وهو مشهور بإصلاحات أدخلها على البرلمان الإنكليزي، تُوفي سنة ١٨٧٨.
-
رجال السياسة: يحتاج رجل السياسة أولًا إلى دماغ كبير وبنية قوية، بحيث تكون قواه العاقلة صحيحة سامية
يستطيع بها الإحاطة بالمصالح العامَّة وتدبرها والحكم فيما يصلح لترقية شئونها، ويجب
أن يكون
ذا إحساس أدبي يساعده على الالتفات إلى مصلحة الأمة دون مصلحة نفسه، وأن يكون متوازن
القوى
معتدل المزاج قوي الإرادة؛ لئلَّا ينقاد إلى أهوائه أو يستسلم إلى عواطفه.
وإذا تأملت رجال السياسة شكل ٧ رأيت وجوههم وجباههم تدل على عقل صحيح في بدن صحيح، وأكثرهم من أهل البنية القوية.
كان مترنيش أعظم رجال السياسة في عصره، وقد قادهم وقاد ملوكهم إلى آرائه كما فعل بسمارك وزير ألمانيا بعده، وعهدنا به غير بعيد.
وتليران كان كبير الدماغ وخصوصًا عند القاعدة، مما يدل على الصبر وقوة العزيمة، ولكنه لم يكن حذورًا داهية.
وكان وبستر كبير الدماغ كبير البدن، وكان مزاجه حيويًّا عصبيًّا صفراويًّا، وهي أدل الأخلاط على التعقُّل والقوة والحزم، وكان خروبي الشعر أسود العينين قوي البنية واسع الصدر، فكان سامي المدارك كبير العقل، فارتقى إلى منصب سياسي كبير في الولايات المتحدة، ويظهر من النظر إلى وجهه أنه كثير الشبه بالمستر غلادستون سياسي الإنكليز، وكان خطيبًا مثله، ولكنه لم يكن مثله من حيث سجاياه الأدبية والدينية، ولعل هذا الذي أقعده عن أن يبلغ مبلغه في اعتبار الناس.
وكان جفرسن عالي الدماغ واضح ملامح الوجه قوي البنية، مما يدل على الثبات والاعتداد بالنفس، وكان شعره محمرًّا وعيناه شهلاوين، بشرته مشربة حمرة.
وكان كافور من كبار الرجال في عصره، وكانت قواه العاقلة من الطبقة الأولى، كما يتضح ذلك من النظر إلى جبهته، وكان له رأي سديد في حل المشاكل التي يعجز عنها سواه.
وكان أوكونيل في أيرلاندا كما كان وبستر في أميركا، وربما زاد عليه في حبه لوطنه وشعوره مع أبناء جلدته، وبروز ذقنه يؤيد ذلك.
- (١) شيشرون: أحد رجال المشيخة الرومانية وكبير خطبائها، قُتل ٤٣ق.م.
- (٢) ديموستين: أشهر خطباء اليونان، قُتل سنة ٣٢٢ قبل الميلاد.
- (٣) أشينس: هو أكبر مناظري ديموستين في السياسة، تُوفي سنة ٣١٧ق.م.
- (٤) وليم بت: المدافع عن أميركا في برلمان إنكلترا، تُوفي ١٧٧٨.
- (٥) إدمون بورك: أحد بلغاء الخطابة في إنكلترا، تُوفي ١٧٩٧.
- (٦) هويتفيلد: خطيب إنكليزي، تُوفي سنة ١٧٧٠.
- (٧) هنري كلي: أحد كبار رجال السياسة في أميركا.
- (٨) كافاتزي: أحد خطباء إيطاليا وزعماء الثورة فيها، وُلد سنة ١٨٠٩.
- (٩) بتريك هنري: أحد زعماء الأحزاب في تأسيس استقلال أميركا، تُوفي سنة ١٧٩٩.
- (١٠) ميرابو: أحد كبار الخطباء السياسيين في فرنسا، تُوفي سنة ١٧٩١.
- (١١) وليم ويرت: أحد رجال القضاء في أميركا، تُوفي سنة ١٨٣٥.
-
الخطباء: يحتاج الخطيب إلى العقل السليم والحكم الصحيح كما يحتاج إليهما كل رجل كبير، ولكنه يحتاج
أيضًا إلى إحساس دقيق وعواطف قوية؛ لأن الخطابة عبارة عن التأثير على عواطف الناس أكثر
مما
على عقولهم، فإذا لم يكن الخطيب شديد العواطف حر القول كان كلامه باردًا وبراهينه جافة،
ولا
بد له من الفصاحة والتوسع في اللغة وحدَّة الذهن وسرعة الخاطر وقوة التصور، فإذا كان
مع ذلك
متعلمًا مهذبًا تمت له معدات الخطابة ونبغ بين أقرانه.
على أن هندي أميركا أو فلاح أوستراليا قد يكون خطيبًا ولو كان جاهلًا، لأنه يؤثر على عواطف سامعيه بما يبديه من الانفعالات الشديدة وما يرتسم في عينيه وشفتيه من دلائل الإخلاص والغيرة كأنه يتكلم من القلب إلى القلب.
تلك هي الخطابة الحقيقية، وهذا هو سرُّها، ولا يؤثر كلام الخطيب في سامعيه إن لم يكونوا يعتقدون في الإخلاص وصدق اللهجة.
فلا بد للخطيب من أن يكون طيب العنصر خفيف الروح حتى يحبه الناس ويكون لكلامه وقع.
اقرأ خطب الإمام عليٍّ خطيب الإسلام فترى الإخلاص والحميَّة تتجليان بين سطورها.
وإذا تأملت في صور الخطباء أمامك رأيت ديموستين في الوسط والأعلى، وهو بالحقيقة شيخ الخطباء وأستاذهم، وترى دماغه كبيرًا وأنفه لطيفًا وفمه مملوءًا حبًّا.
وشيشرون كان عضلي المزاج عصبيَّه ودماغه كبير جدًّا وعيناه مملوءتان ذكاء وحدَّة.
وكان أشنس واسع الجبهة، وهنري كلي كان عاليها، وكذلك بتريك ووليم هنري ووليم ويرت.
ولكن مهما اختلفت أشكال جباههم فإنك ترى الذقون متشابهة فيهم جميعًا بعظمها وبروزها إلى الأمام والأسفل، وبروز الحنك والذقن يدل على شدة العواطف والثبات والحزم، وترى ذلك ظاهرًا على الخصوص في ميرابو الخطيب الفرنساوي وبورك وهويتفيلد وغيرهم.
- (١) شكسبير: الشاعر الإنكليزي المشهور برواياته التمثيلية، تُوفي سنة ١٦١٦.
- (٢) هوميروس اليوناني: شيخ الشعراء وأميرهم، عاش في القرن العاشر قبل الميلاد.
- (٣) جون ملتن الإنكليزي: أشعر الشعراء المحدثين في المواضيع الدينية، تُوفي ١٦٧٥.
- (٤) فرجيل: أشعر شعراء اللاتين في النظم الوصفي، تُوفي سنة ١٩ ق.م.
- (٥) شيلر: أحد أعاظم شعراء الألمان في التمثيل، تُوفي سنة ١٨٠٥.
- (٦) اللورد بيرون: أحد أعاظم شعراء الإنكليز في النظم التصويري، تُوفي ١٨٢٤.
- (٧) إليزابيت برونن: شاعرة إنكليزية اشتهرت برقَّة شعرها وقوة الوصف فيه، تُوفيت سنة ١٨٦١.
- (٨) دانتي: أشعر شعراء الإيطاليان، تُوفي سنة ١٣٢١.
- (٩) إدكار بو: شاعر أميركاني اشتهر بوحشة تصوراته، تُوفي سنة ١٨٤٩.
- (١٠) بارنس: من أعظم شعراء الإنكليز، تُوفي سنة ١٧٩٦.
- (١١) توماس مور: شاعر روائي إنكليزي، تُوفي سنة ١٨٥٢.
-
الشعراء: يغلب في الشعراء أن يكونوا عصبيِّي المزاج دقيقي الإحساس، ولا ينبغ الشاعر ويوفي الشاعرية
حقها إلا إذا كان مزاجه عصبيًّا وشعوره دقيقًا.
والشعر قريحة كقريحة التصوير والموسيقى، وقد ينظم غير الشاعر، ولكنه يكون ناظمًا لا شاعرًا. ومن أمثال الرومان القدماء: «إن الشاعر من يولد شاعرًا لا من يتعلم الشعر.»
ولكل شاعر قريحة في الشعر تمتاز عمَّا للآخر، وتظهر في خلال أبياته فتدل على ناظمها، فإذا قرأت بيتًا لا تعرف ناظمه يتبادر إلى ذهنك أنه يشبه نظم فلان أو فلان، وتلك قضية لا تخفى على قراء الأشعار، فإن نظم المتنبي غير نظم الفارض، ونظم هذا غير نظم البهاء زهير، وقِس على ذلك منظومات الإفرنج وخصائصها، واعتبر أثر ذلك في وجوه أصحابها.
ففي شعر هوميروس حماسة وفخر ودقَّة في الوصف، وترى شبه ذلك في ملامح وجهه، وكان شعر فرجيل وصفيًّا، ولم يكن عاليًا كشعر هوميروس من حيث التصور، والفرق بين الشعرين كالفرق بين الرأسين.
وكان شعر دانتي مرعبًا يبعث إلى الخوف والحنان، كذلك كان وجه داتني.
وفي شعر شيلر تمثيل حياة الإنسان على اختلاف أدوارها وخصوصًا من حيث الاجتماع.
وشعر بيرون أكثره غزلي عشقي، وتدل ملامحه على أنه مستغرق في عالم الخيال.
وشعر شكسبير كله تصور وعواطف وعقل، وشعر ملتن كله وصف وتقوى، وشعر بارنس اجتماعي وفيه انعطاف، وهكذا شعر مور.
وأما بو فقد كان شعره وصفيًّا محضًا، وشعر برونن كله محبه وحنو وانعطاف وتصور.
وإذا نظرت في وجوه هؤلاء الشعراء نظر المتأمل رأيت أخلاقهم الممثلة في أشعارهم ظاهرة في وجوههم على الغالب، على أنها قد تبدو في وجه الشاعر وهو حي أكثر مما في صورته على الورق؛ لأن تلك الخصائص يغلب أن تكون في عينيه، وهي مياه وأنوار لا تُرسم على الورق.
- (١) فرنسيس هيدن النمساوي: أحد كبار رجال الألحان الدينية، وُلد في روهراو بالنمسا سنة ١٧٣٢، وتُوفي بفينا سنة ١٨٠٩.
- (٢) لدويج بيتهوفن الألماني: المشهور بإتقانه الآلات الموسيقية، تُوفي سنة ١٨٢٧.
- (٣) جورج هندل الإنكليزي: من أعظم رجال الموسيقى الدينية، تُوفي سنة ١٧٥٩.
- (٤) موزارت: ألف الألحان وهو في الخامسة من عمره، ونبغ حتى صار من أكبر أساتذة الأوبرا، تُوفي سنة ١٧٩٢.
- (٥) كلوك النمساوي: من كبار مؤلفي الألحان للروايات، تُوفي في فينا سنة ١٧٨٧.
- (٦) فرانس ليستز: أحد أعاظم رجال البيانو، وهو من هونجاريا، وُلد سنة ١٨١١.
- (٧) فيلكس مندلسون: وهو مشهور بألحان ألَّفها بلا ألفاظ، تُوفي في سويسرا سنة ١٨٤٧.
-
الموسيقيون: الموسيقي كالشاعر، تُقرأ أخلاقه على سحنته كما تُقرأ في ألحانه، فمن غلب فيه التدين كانت
ألحانه دينية، ومن كان من أهل الخيال تسلطت في ألحانه الأوهام مع الخفَّة.
والموسيقي ذو العواطف القوية يُكثر في ألحانه من أنغام الحب، وقِس على ذلك اختلاف ألحان الموسيقيين باختلاف أخلاقهم.
ويشترك الموسيقيون بصفات عمومية، من جملتها كبر الأذن، والكبر دليل القوة، والأذن عضو السمع، فإذا كبرت كانت أقدر على تمييز الألحان والأنغام، وقد ذكرنا ذلك في باب فراسة الأذن.
وفاتنا أن نذكر هناك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي المغني الإسلامي الشهير منظم الألحان العربية في عصر العباسيين كان كبير الأذنين، وكان إذا غضب أو أعمل فكرته احمرَّت أذناه وكثُر ولوعه بهما (راجع الأغاني ج٥ صفحة ٥٣).
ولولا اختفاء آذان هؤلاء الموسيقيين تحت شعورهم لبانت كبيرة على الغالب.
وإذا نظرت إلى هذه الرسوم نظرًا عامًّا توسمت في عيون أصحابها نظر الشاخص في شيء كأنه مصغٍ إلى صوت أو لحن يسمعه.
ولو أخذت كل صورة على حدة وتأملت في فراستها وتدبرت أخلاق صاحبها وأعماله لرأيت علاقة كبرى بين الظواهر والبواطن، ولكن الملامح التي تدل على قريحة الموسيقى أو الشعر أو غيرهما من الفنون الجميلة لا تظهر في التصوير كما يظهر أنف القائد وجبهة الفيلسوف.
ويغلب في وجوه الموسيقيين الابتسام أو الاستعداد للابتسام وإن لم يكن ذلك مطردًا فيهم.
- (١) تينيان: أمهر الملونين، تُوفي في البندقية سنة ١٥٧٦.
- (٢) رافائيل: المصور الإيطالي المعروف، تُوفي سنة ١٥٢٠.
- (٣) دافنسي: مصور شهير، تُوفي سنة ١٥١٩.
- (٤) نقولا بوسين: مصور فرنساوي شهير، تُوفي سنة ١٦١٥.
- (٥) روزا الإيطالي: مصور تاريخي، تُوفي في رومية سنة ١٦٧٣.
- (٦) فانديك: من أشهر ملوِّني الصور، تُوفي في لندن سنة ١٦٤١.
- (٧) روبنسن الإنكليزي: من أمهر مصوري الأشخاص، تُوفي في عام ١٦٤٠.
- (٨) ميشال أنجلو: المصور والنحَّات الإيطالي، أكبر مهندسي كنيسة مار بطرس في رومية، تُوفي عام ١٥٦٤.
- (٩) رينولد الإنكليزي: مصور أشخاص، تُوفي عام ١٧٩٢.
- (١٠) توماس كول الإنكليزي: مصور خيالي، تُوفي عام ١٨٤٨.
- (١١) بنيامين وست الأميركاني: تُوفي عام ١٧٣٨.
- (١٢) ألستن: أشهر مصوري الأميركان، تُوفي عام ١٨٤٣.
-
المصورون: والتصوير قريحة خاصَّة كالموسيقى والشعر، ولكنها تحتاج إلى دقَّة في البصر بدلًا من السمع،
ويغلب في نوابغ المصورين أن يكونوا جميلي الصورة متناسبي الأعضاء معتدلي الجباه معتدلي
المزاج دقيقي الشعور، وخشن الإحساس لا يقدر أن يكون مصورًا.
ولا بد في هذا المقام من الإشارة إلى علاقة الأذواق بالألوان ونسبة ذلك إلى درجات التمدن والارتقاء، فيقال بالإجمال: إن الجهال وبسطاء الناس يحبون الألوان البسيطة الباهرة. والمتعلمون المهذبون يفضلون عليها الألوان الممزوجة من لونين فأكثر على ألا تكون باهرة زاهية.
والقاعدة العامَّة أنه كلما انحطت طبيعة الأمة زادت رغبتها في الألوان الزاهية الباهرة وأحبت الأصوات القوية، وكلما ارتقت الأمم مالت إلى الألوان الصافية والأصوات الناعمة.
ولعلماء الفراسة تفصيل في الاستدلال على أخلاق الناس من معرفة أميالهم إلى الألوان لا محل له هنا.
ولكننا نقول على سبيل المثال إنه يغلب في محبي اللون الأحمر القرمزي أن يكونوا نيرانيي الطباع شديدي الحدَّة، ومحبو اللون الأزرق لطاف المزاج، ومحبو اللون البنفسجي أهل خيال وأوهام كالشعراء، واللون الأصفر لأهل الشعور الدقيق والأخضر لأهل السرور والسنجابي للضعفاء والودعاء.
والتصوير أرقى ذوقًا من النحت وإن كانا من معدن واحد، ويغلب أن يكون المصور نحاتًا والنحات مصورًا، كما كان أنجلو مهندس كنيسة رومية، ومن النظر إلى وجهه تتوسم فيه القوة والمهارة فإنه كبير الجبهة روماني الأنف.
ويصعب تعيين أخلاق كل من هؤلاء المصورين بالنظر لما يحول دون ذلك من اختلاطات واعتراضات ذكرنا بعضها في غير هذا المقام.
- (١) ميلانكثون: كان من رفقاء لوثيروس، تُوفي عام ١٥٦٨.
- (٢) سويدنبرج الإنكليزي: مؤسس كنيسة أورشليم الجديدة، تُوفي عام ١٨٧٢.
- (٣) ويسلي الإنكليزي: لاهوتي كبير، تُوفي عام ١٧٩١.
- (٤) هيوز: لاهوتي أميركاني كاثوليكي، تُوفي عام ١٨٦٤.
- (٥) ستيفن تنج: لاهوتي أميركاني عظيم، تُوفي عام ١٨٠٠.
- (٦) توما تشارمر: واعظ اسكوتلاندي شهير، تُوفي عام ١٨٤٧.
- (٧) إدواردس: فيلسوف لاهوتي إنكليزي، تُوفي عام ١٧٥٨.
- (٨) وليم شنين: من أشهر الوعاظ الموحدين (اليونيتاريان) بأميركا، تُوفي عام ١٨٤٢.
- (٩) بيتشر: لاهوتي أميركاني، تُوفي عام ١٨٦٣.
- (١٠) ريتشارد ستورس: مؤلف لاهوتي أميركاني، تُوفي عام ١٨٢١.
-
اللاهوتيون: قلنا في غير هذا المكان إن فراسة اللاهوتي تقرب من فراسة القائد؛ لأن كليهما قائدان لا
يستغني أحدهما عن عقل صحيح وسياسة دقيقة، ومن المقرر أن رءوس الكهنة من أكبر الرءوس
وأرقاها.
لأن الكهانة تقتضي إعمال الفكرة وإجهاد العقل في موضوع واحد، فينمو الدماغ وتظهر علامات الوقار والرزانة على الوجه؛ لأنه إنما تنصرف قواه إلى ذلك على ما تقتضيه وظيفته.
وعليه فاللاهوتيون ورجال الدين يشتركون في علو الجبهة وعرضها ويغلب أن تكون أذقانهم ضيقة.
ومن الأمور المألوفة عند العامَّة أن القسيس أو الأسقف يجب أن يكون من أهل الهيبة والوقار. والرءوس الوقورة تكون كبيرة الجبهة واضحة الملامح، ويزيدهم التخشع وترقية العواطف الشريفة هيبة ووقارًا.
والكهانة أو مهنة القسوسية من المهن الصعبة التي لا يستطيعها إلا أصحاب العقول القوية وأهل الإقدام والتدبير، ورءوسهم تشبه رءوس قواد الحرب، إلا الأنوف فإنها في رجال الحرب أكثر بروزًا، لأنهم أعلى همَّة وأكثر مطمعًا في أمجاد العالم.
أما التدبير وحسن السياسة والتنظيم فإن الأسقف أو البطريرك قد يحتاج إليها أكثر مما يحتاج إليها القائد الحربي؛ لأن هذا إذا أشكل عليه أمرٌ قطعه بحدِّ السيف، وأما ذاك فلا بد له من صرف المشاكل بالحكمة وحسن السياسة؛ لأن الكهنة رسل السلام، وهم مع ذلك يتعاطون مهنتهم بين أحزاب مختلفة وآراء متضادة، ومرجع الخلاف إليهم.
- (١) رتشارد شو: أحد كبار مصارعي الإنكليز، وهو مشهور عندهم.
- (٢) ترافيرس: مصارع زنجي اشتهر بمهارته في الملاكمة، وُلد في لندن سنة ١٨٣١.
- (٣) هينان: مصارع أيرلندي الأصل مولود في أميركا سنة ١٨٣٤.
- (٤) كين: أحد مصارعي إنكلترا، وُلد سنة ١٨٣٥.
- (٥) سايرس: مصارع إنكليزي أيضًا، وُلد سنة ١٨٢٦.
- (٦) دان كولنس: ملاكم إنكليزي شهير.
- (٧) سوليفان: وهو مشهور بأميركا، ويُسمونه يانكي سوليفان اشتهر بقوته، وقد مات منتحرًا سنة ١٨٥٦.
- (٨) جيمس ماس: مصارع إنكليزي مشهور يحمل الأثقال.
-
المصارعون: لا يستطيع القارئ أن ينظر إلى صور المصارعين في الشكل ١٣ إلا ويرى بينهم مشابهة كلية فيما هو من ضروريات
مهنتهم، فترى كل شيء فيهم عريضًا غليظًا، فهم عراض الوجوه عراض الأفواه غلاظ الأعناق
عراض
الصدور.
والسبب في ذلك أن المصارعة رياضة بدنية تُستعمل بها العضلات فتنمو وتكبر ويهمل الدماغ فيقف نموه، ولذلك فإنك لا ترى بين هذه الرءوس جبهة عالية أو بارزة على الإطلاق، وإذا قابلت هذه الصور بصور القواد أو المصورين أو الشعراء تبين لك الفرق بأجلى بيان.
ولا يفهم من ذلك أن الفرق بين جمجمة المصارع وجمجمة الفيلسوف إنما حدث بالاستعمال والرياضة — وإن كانت الرياضة في الواقع تساعد على ذلك — ولكن الفرق بين الرأسين يظهر من الطفولية.
فالمولود وفي رأسه دماغ الفيلسوف لا يمكن أن يشتغل بالمصارعة، والذي يولد وطبعه ميال إلى الرياضة البدنية ودماغه صغير لا يمكن أن يكون فيلسوفًا، ثم يتسع ذلك الفرق بالاستعمال وتوالي الأزمان.
ولا تُتعب نفسك في تعليم ابنك الشعر إذا لم يكن شاعرًا، ولا تُغره على الاشتغال بالعلم إذا لم يكن تهيأ لذلك قبل ولادته، ولا شك أن هؤلاء المصارعين دخلوا المدارس كما دخلها نيوتن وسبنسر، ولكنهم لم يفلحوا في دروسهم فساقتهم الطبيعة إلى المهنة التي وُلدوا لها، ولو كابر آباؤهم وأرادوا أن يعلِّموهم الفلسفة أو الشعر أو التصوير أو الطب لما استثمروا غير الفشل.
وأما بمعاطاتهم مهنة المصارعة فإنهم برعوا فيها وعاشوا منها وقاموا بالعمل الذي خُلقوا له أو لمثله من نوعه.
- (١) وليم هارفي: الإنكليزي، مكتشف دورة الدم، تُوفي سنة ١٦٥٧.
- (٢) كوبر: أشهر جراحي إنكلترا، تُوفي سنة ١٨٤١ (في وسط الشكل أو أعلاه).
- (٣) البرنيتي: طبيب إنكليزي، هو أول من ربط الشريان السباتي والشريان الحرقفي، تُوفي سنة ١٨٣١.
- (٤) هنتر: أحد مشاهير علماء التشريح في إنكلترا، تُوفي سنة ١٧٩٢ (في منتصف الشكل).
- (٥) جنر: الطبيب الإنكليزي مكتشف لقاح الجدري، تُوفي سنة ١٨٢٣ (في يمين الشكل وأسفله).
- (٦) فالنتين موت: طبيب أميركاني مشهور، تُوفي سنة ١٨٦٥ (في منتصف الشكل وأسفله).
- (٧) كرنوشان: جراح أميركاني مشهور.
-
الجراحون: قابل صور هؤلاء الجراحين بصور القواد شكل ٣ فترى بين الفئتين
مشابهة من بعض الوجوه، تراهما تتشابهان بملامح الشجاعة والعزم وثبات الجأش؛ لأن الطبيب
يحتاج إلى هذه الخلال كما يحتاج إليها القائد.
فالجراح لا يكون جراحًا إلا إذا كان قوي الإدراك والذاكرة؛ ليستطيع الحكم فيما يعرض له من الحوادث مما لا يرى في الكتاب دليلًا عليه، ويجب أن يكون قادرًا على استعمال السلاح في العمليات الجراحية، شجاعًا لا يخاف موت العليل بين يديه ولا يكترث بصياحه أو عويله وأن يكون مع ذلك صحيح الجسم قوي العضل معتدل المزاج رابط الجأش؛ لئلَّا يضطرب في أثناء العمليات، وأن تكون فيه قوة الاختراع ليستنبط الطرق في وصف العلاج أو إجراء العمليات، على أن الطب يقتضي خلالًا ومواهب يستغني عنها القائد، فالطبيب يجب أن يكون كريم الطباع دمث الأخلاق بارًّا محسنًا مما لا يحتاج إليه القائد.
ويجب أن يكون أديبًا شريف النفس كتومًا، ولا يستطيع الطبيب معالجة المريض ما لم يكتسب ثقته ويتسلط على أفكاره ويفتقر ذلك إلى غير ما يفتقر إليه القائد من المواهب والأخلاق.
ولا غَرْوَ؛ فإن صناعة الطب من أشرف الصناعات، ولا يليق أن يتعاطاها إلا أشرف الأنام مبدأً وأذكاهم عقلًا وأطيبهم عنصرًا، ويحسن بالجراح مع ذلك أن يكون راسخ القدم في العلم ملمًّا بكل المواضيع العمومية، فضلًا عن تبرزه في صناعة الطب، والقائد في غنًى عن كل ذلك.
وترى آثار ما تقدم ذكره من الأخلاق بادية في وجوه مشاهير الجراحين، فإن التعقُّل والرزانة والبسالة تتجلى في وجوههم كما تتجلى في وجوه قواد الحرب.
- (١) دفنبورت: من أشهر ممثلي القرن التاسع عشر بأميركا.
- (٢) جون كمبل: اشتهر بتمثيل هملت، تُوفي سنة ١٨٢٣.
- (٣) فورست: من أشهر ممثلي أميركا في القرن الماضي.
- (٤) إدموند كين: أشهر ممثلي الروايات المحزنة في لندن، تُوفي سنة ١٨٣٣.
- (٥) جورج كوك: أشهر ممثلي الروايات المحزنة في القرن الثامن عشر.
- (٦) توما هميلين: ممثل أميركاني شهير، تُوفي سنة ١٨٥٣.
- (٧) دافيد كاريك: ممثل إنكليزي مشهور، تُوفي سنة ١٧٧٩.
- (٨) ماكريدي: أحد كبار الممثلين في لندن.
- (٩) بوث: اشتهر بتمثيله ريكاردوس الثالث، تُوفي سنة ١٨٥٢.
- (١٠) موات: مشخصة مشهورة.
- (١١) كوشمان: مشخصة مشهورة.
- (١٢) سيدون: مشخصة مشهورة.
- (١٣) هاين: مشخصة مشهورة.
-
الممثلون: يطلب من الممثل الماهر أن يمثل الطبيعة البشرية في كل أحوالها واختلاف ظواهرها، ليس بمجرد
التقليد لظواهر الحركات بل يجب عليه تمثيل الملامح والعواطف بحيث ينسى ذاتيته ويتخذ ذاتية
أخرى، والممثل البارع يمثل الأدوار المحزنة والأدوار المفرحة ويبرع في كليهما، على أن
الأكثرين لا يبرعون إلا في نوع واحد من أنواع هذا الفن.
وبين التمثيل والتصوير علاقة معنوية بحيث يستطيع البارع في أحدهما أن يبرع بالآخر.
ولكن يغلب ألا يشتغل في فن التمثيل إلا أهل البطالة، وأكثرهم ليس فيهم المواهب اللازمة لهذا الفن حتى في أعظم عواصم أوروبا.
أما الذين يشتغلون فيه ممن فطروا عليه فإنهم ينالون فيه شهرة عظمى وشرفًا كبيرًا.
وملامح الممثلين تقرب من ملامح المصورين ورجال الموسيقى؛ لأن التمثيل يعد من الفنون الجميلة، ولا يمهر فيها أصحابها إلا بالقريحة الخاصَّة والمزاولة الطويلة.
وخلاصة ما يقال في فراسة المهن والصناعات أن أرباب المهنة الواحدة يغلب أن تتشابه ظواهرهم وإن كان التشابه قلَّما يتم للأسباب التي قدمناها في صدر هذا الفصل.
وقد يبرع في فن التمثيل أو في غيره من الفنون الجميلة أناس لا تدل ظواهرهم على أنهم من أهل تلك الفنون، فهؤلاء لا بد من اختصاصهم باقتدار عقلي وذكاء حاد وصبر ومزاولة حتى يستطيعوا اكتساب تلك القريحة، وهذا نادر، ولكنه كثيرًا ما يكون سببًا في تشويش الحقائق على الباحث في علم الفراسة.