المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
كان نيتشه تلميذًا سابقًا لعصره، ولكن على الرغم من أنه كتب بغزارة منذ سنٍّ مبكرة، فإن كتابه الأول «مولد المأساة»، أو «مولد المأساة من روح الموسيقى» كما ظهر في العنوان الكامل للطبعة الأولى، لم يظهر للنور إلا عندما بلغ السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن من المفترَض أن يفاجئه الاستقبال العدائي للكتاب داخل العالم الأكاديمي حيث كان نيتشه قد تلقَّى ترقية مبكرة ليُعيَّن أستاذًا لفقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل وهو في الرابعة والعشرين من عمره، لكنه فاجأه على ما يبدو. فالكتاب لا يفي بأي معايير متصوَّرة للصرامة، فضلًا عن المعايير المعتادة في دراسة الإغريق القدامى. وسرعان ما ظهر هجاء للاسم من أحد أعدائه القدامى منذ أيام الدراسة، وهو أولريش فون فيلاموفيتز-موليندورف، الذي اتهمه بالجهل وتحريف الحقائق والمقارنات القبيحة بين الثقافة الإغريقية والعالم الحديث. ردَّ إرفين رودا، وهو صديق وفيٌّ، بكلام على القدر نفسه من الشراسة على الأقل، وتلا ذلك نمط النزاع المألوف في الدوائر الأكاديمية والموجَّه إلى أولئك الذين يكفرون بشرائعهم. اكتسب نيتشه سمعة مَشينة، ولكن لفترة قصيرة، وقد كانت هذه السمعة هي الشيء الوحيد الذي اشتُهر به نيتشه على الإطلاق.
انقسم القراء منذ ذلك الحين إلى فريقين: فريق يجد إمتاعًا في أسلوب الكتاب العاطفي والمحتوى الذي يستلزمه، وفريق يستجيب له بازدراء يعتريه الملل، وكلاهما يمكن تفهُّمه بسهولة. إنها زوبعةُ كتابٍ يخضع لتأثير أفكاره الحماسية الغريبة ورغبته في تناول أكبر عدد ممكن من الموضوعات في مساحة محدودة، ولكنه مُتنكِّر في صورة وصْف تاريخيٍّ للسبب وراء استمرار المأساة الإغريقية لفترة وجيزة للغاية، ويوضِّح أنها بُعثت مؤخرًا في الأعمال الناضجة لريتشارد فاجنر. كان نيتشه من المُعجَبين المتعصِّبين لبعض أعمال فاجنر الدرامية منذ أن سمع موسيقى «تريستان وإيزولد»، التي عزفها هو وبعض الأصدقاء على البيانو وغنَّاها تقريبًا عندما كان في السادسة عشرة من عمره («هذا هو الإنسان»، الفصل الحادي عشر، ص٦؛ ولكن انظر أيضًا «الحب»، ١٩٦٣). وقد قابل الموسيقار وخليلته آنذاك كوزيما، ابنة ليست، عام ١٨٦٨، ليصبح صديقهما المقرَّب في عام ١٨٦٩، ويزورهما مرارًا خلال السنوات التي عاشاها في مدينة تريبشن المطلة على بحيرة لوسيرن. وما من شك في أن الموضوع برمته المطروح في كتاب «مولد المأساة» قد نُوقِش مرارًا خلال تلك الزيارات، وأن فاجنر قد ساهم مساهمة جوهرية في تطوير بعض فرضياته المحورية (سيلك وستيرن، ١٩٨١: الفصل الثالث). ولكن الذهول اعتراه هو وكوزيما عندما استلما نسختهما من الكتاب. وأيًّا كان كم التأثير الذي أحدثه فاجنر، الذي كان يعشق التأمل شبه التاريخي، فقد وجد ما يكفي من الأفكار الجديدة في الكتاب التي جعلته يَعتبِر الكتاب وحيًا له.
وعمومًا، فكثيرًا ما تحسَّر قُرَّاء الكتاب المتعاطفون معه على تخصيص الأجزاء العشرة الأخيرة منه للترويج لفكرة أن فنَّ فاجنر بمنزلة بعثٍ للتراجيديا الإغريقية. ولم يبدُ هذا الادعاء بالنسبة إليهم سخيفًا في حدِّ ذاته فحسب، لكنهم شعروا أيضًا أنه ينتقص من وحدة الثلثين الأولين من «مولد المأساة» ويصرف الانتباه عنهما. وكلُّ هذا تقريبًا يضيِّع الهدف من وراء المجهود المبذول في الكتاب، وما قضى نيتشه حياته محاولًا عمله؛ لأن ما يستوجب أن يكون «مولد المأساة» هو بداية الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، بالنسبة إلى من يريدون أن يفهموا الوحدة الأساسية لاهتماماته، هو الطريقة التي يبدأ بها بمجموعة من الموضوعات التي تبدو بعيدة عن الزمن الحاضر، ولكنه يكشف تدريجيًّا عن أن اهتمامه الأساسي هو الثقافة، وظروفها المتواترة، والأعداء الذين يقفون في طريق نشرها.
وسرعان ما ينتقل لتناول «التناقض» بين الأبولوني والديونيسيوسي، ولكن يجب ألَّا نفهم من هذا أنهما عدوان! فحسبما يتبيَّن من شرحه، سرعان ما يتضح أن «هاتين النزعتين المختلفتين تمامًا تسيران جنبًا إلى جنب، في تناقضٍ صارخ عادةً كلٌّ منهما مع الأخرى، وتحثُّ إحداهما الأخرى على إنتاجات أكثر قوة»، إلى أن يبدو «أخيرًا أنهما تنتجان عملًا فنيًّا ديونيسيوسيًّا بقدر ما هو أبولونيًّا، وهذه مأساة إغريقية.» وهذا النوع من التناقض الذي يصير — رغم ذلك — مثمرًا على نحوٍ هائل مقارنةً بأيِّ شيء يمكن إنتاجه من خلال أيٍّ من الخصمين منفردًا، هو سمة الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بممثلها الرئيسي هيجل، الفيلسوف الذي كان نيتشه يعاديه عمومًا بشدة طوال حياته، وبلا شك يرجع ذلك جزئيًّا إلى ارتباط نيتشه بشوبنهاور الذي كانت كراهيته لهيجل معروفة. ولكن بالتعمق في المعارضة والتغلب عليها لا يحتاج نيتشه إلى أيٍّ من الأدوات الجدلية التي أعاق هيجل نفسه بها؛ لأنه يستطيع إعداد خطته بواسطة الصور المجازية والأمثلة، وهذا ما يفعله، على الرغم من أن الأمثلة كثيرًا ما تُستخدم على نحو متحيِّز.
تتمثَّل الفكرة في أن الفنَّ الأبولوني هو فنُّ المظهر، بل في الواقع «هو» المظهر. يستحضر نيتشه الأحلام ليُثْبِت وجهة نظره بأن الفنَّ الأبولوني في أبلغ صوره يتَّسم بوضوح استثنائيٍّ، مُبيِّنًا على نحو جليٍّ ما يرصده، ويضرب مثلًا ﺑ «مبدأ التفرُّد» الذي وصفه شوبنهاور بأنه الخطأ الرئيسي الذي نعاني منه معرفيًّا؛ فنحن ندرك العالم ونفهمه في صورة كيانات منفصلة، تضمُّ أشخاصًا منفصلين. وبصفتنا كائنات تملك أعضاءً حسية وجهازًا إدراكيًّا، فلا يمكننا تجاهل هذه الطريقة المعيبة على نحو هائل عند النظر إلى العالم؛ وهي الطريقة التي يرى شوبنهاور أنها مسئولة عن العديد من خيالاتنا وتجاربنا الأكثر إيلامًا، على الرغم من أنه ليس من الواضح إن كان التغلب عليها سيجعل حياتنا أقل ترويعًا أم لا.
استغلَّ نيتشه في «مولد المأساة» الالتباسات التي يتَّسم بها فكر شوبنهاور — على الرغم من أنه ليس ثمة موضع يبيِّن أنه كان أكثر إدراكًا لها من شوبنهاور نفسه — لينتج «ميتافيزيقا الفنانين» الخاصة به، والمستقلة إلى حدٍّ ما، حسبما يشير بازدراء إلى منهجه في «محاولة في نقد الذات»، تلك المقدمة الرائعة التي كتبها للطبعة الثالثة من الكتاب عام ١٨٨٦، وهو عام مراجعة الذات. كان يقصد بعبارة «ميتافيزيقا الفنانين» أنها من ناحية ميتافيزيقا مُصمَّمة خصِّيصَى لتمنح الفن أهميةً اعتبرها لاحقًا منافية للمنطق؛ وأنها من ناحية أخرى استخدامٌ للأساليب الفنية أو شبه الفنية لإنتاج آراءٍ ميتافيزيقية، واختبارها من حيث قيمتها الجمالية وليس من حيث صحتها. يمكن النظر إلى «مولد المأساة» بوصفه كتابًا جدليًّا متساميًا، حسب منطق كانط. وينتج عن هذا عمومًا النمط التالي: (س) هي القضية، أو المعطيات، فما الذي ينقص القضية لتصبح هذه اﻟ (س) ممكنة؟ تختلف معطيات نيتشه كثيرًا عن المعطيات التي نجدها لدى أيِّ فيلسوف آخر؛ إذ إنها تعطي الأولوية لتجربتنا الجمالية، التي عادةً ما تأتي في ذيل قائمة الأولويات الفلسفية، هذا إذا تضمنتها من الأساس. وهو يستعين بالتجارب التي نعرفها عن الفن الأبولوني (النحت والرسم، وعلى رأسهما الملحمة) والفن الديونيسيوسي (الموسيقى والتراجيديا) كمعطيات له، ويسأل عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها شكل العالم لكي نحظى بهذه التجارب. لقد رأينا أنه يقارن الفن الأبولوني بالأحلام؛ أما الفن الديونيسيوسي فإنه يُضاهَى — كدلالة أولية على طبيعته — بالنشوة؛ الطريقة المتدنية التي يُعتقَد أنه من خلالها يمكن التغلب على مبدأ التفرُّد، وفقدان الوضوح، واندماج الكيانات الفردية.
لماذا نحتاج إلى كليهما بعد أن نفهم أن أحدهما يجسِّد المظهر البرَّاق، في حين يُمكِّننا الثاني من مواجهة الواقع قدر ما نستطيع دون أن يدمرنا؟ لأن تركيبتنا تجعلنا ندَّخر حتمًا جرعاتٍ من الواقع للمناسبات الخاصة، كالاحتفالات مثلما أدرك اليونانيون (كان يجري التخطيط لمهرجان بايرويت الأول في الوقت الذي كان نيتشه يكتب فيه، على الرغم من أنه لم ينطلق حتى عام ١٨٧٦). لكن الأمر أكثر تعقيدًا من هذا؛ فلا مشكلة في المظاهر، ما دمنا ندرك أن هذه هي حقيقتها (سيظل هذا دائمًا موضوعًا رئيسيًّا في أعمال نيتشه). كما رأينا، تُعتبَر الملحمة اليونانية صورة من الفن الأبولوني، وبالطبع تتمثل أبهى مظاهرها في «الإلياذة»، وهي عمل فنيٌّ يمتِّعنا بوضوحِ أسلوبه وسلاسته. كان اليونانيون الذين عاشوها سعداء بأنهم صنعوا بأنفسهم قصصًا عن عالم الآلهة التي تُمتِّع أنفسها على حسابهم؛ وهي «الصورة الوحيدة المُقنِعة لإيمانهم بالعدالة الإلهية»، حسبما يقدم نيتشه تعليقه الخالد («مولد المأساة»، ٣). وعند هذا المستوى تعمل المعادلة التي ظهرت مرتين في الطبعة الأولى، وتكررت على نحو مستساغ في «محاولة في نقد الذات»: «لا يمكن تبرير العالم إلا بكونه ظاهرة جماليَّة فقط» (وتتنوع الصيغ بعض الشيء). وبما أن الوجود في أبسط صُوَره بالنسبة إلى الإغريق المنتمين لعصر هوميروس لن يكون محتمَلًا، فقد أظهروا غريزة فنية بطولية بتحويل حياة المعارك التي يعيشونها إلى عرض مسرحي. لهذا السبب كانوا يحتاجون إلى الآلهة؛ لا ليواسوا أنفسهم بفكرة وجود حياة أفضل فيما بعد، والتي كانت الحافز المعتاد لافتراض وجود عالم آخر، وإنما ليميِّزوا بين أيِّ حياة يمكن أن يعيشوها والحيوات الخالدة للآلهة، الذين يحق لهم لمجرد كونهم خالدين أن يتسموا بالطيش والاستهتار مثلما يصوِّرهم هوميروس على نحو صادم لنا. «إنَّ كلَّ من يقترب من هذه الآلهة الأولمبية وهو يحمل إيمانًا غير إيمانها، ومتطلعًا إلى الأخلاق السامية، بل حتى القداسة، والعلاقة الروحية الشفافة، والإحسان والرحمة، سرعان ما يُجبَر على هجرانها، مثبط الهمة وخائب الأمل» («مولد المأساة»، ٣).
إذا استطعنا أن نضفي معنًى بعد ذلك على مفهوم البطولة — وهو شيء طالما شكَّك فيه نيتشه طوال حياته — فسيكون ذلك بالتأكيد من خلال إدراكٍ وهميٍّ لهذه الرؤية. وهذه هي محاولة نيتشه الأولى لتطبيق عبارةٍ أدمنها في أعماله اللاحقة، ألا وهي «تشاؤم القوة». لم يكن نيتشه قليل الخبرة بالقدر الذي يجعله متفائلًا، أو يجعله يعتقد أن الحياة ستصبح رائعة في يوم من الأيام، بطريقة يمكن أن يزيد في قيمتها اللابطل. وبما أننا لسنا أبطالًا، نستطيع فقط أن نشغل أنفسنا بتحسين «نوعية الحياة» (يتمنَّى المرء لو كان نيتشه موجودًا ليقدم ما كان سيصبح التعليق المناسب الوحيد على تلك العبارة المروعة). ولو شعرنا أنه لا يمكن تحسين نوعية الحياة، فإننا نصبح متشائمين، بل عاطفيين، أو كما يصفنا نيتشه «رومانسيين»، ننوح على مآسي الحياة، وربما نضع مناحاتنا في صورة شعرية مهدئة وملائمة.
يُعتبَر احتفاء نيتشه بهوميروس والأبطال الذين خلَّدهم بكتابته «الإلياذة» كافيًا ليبرهن على أنَّه ما من شيء يعيب الفن الأبولوني في حدِّ ذاته، ولكنه قائم على الوهم، ومن ثمَّ فهو متقلب بالفطرة، وقابل للانحطاط إلى شيء أدنى قيمة. وعندما أصبح الإغريق أكثر وعيًا بعلاقتهم بالآلهة؛ أدَّى عصر البطولات الملحمية — الذي يرفض أن يستكشف جوانبَ يمكن أن تنتج عنها مشكلاتٌ — إلى نشوء عصر التراجيديا. ثمَّة طرق عدة يعبِّر نيتشه من خلالها عن هذا التحول المهم، ومعظمها متأثر بتبعيته لشوبنهاور التي اتَّسمت بالحماسية وقِصر العمر في الوقت نفسه. في نهاية القسم الأول من «مولد المأساة» كتب نيتشه يقول: «لم يعدِ الإنسان فنَّانًا مثلما كان عند ابتكاره الآلهة، لكنه أصبح عملًا فنيًّا؛ فالقوة الفنية للطبيعة كلها تتجلَّى مُعبرةً عن نفسها في هذا الرضا الأسمى للوحدوية البدائية وسط نوبات النشوة.» في هذه المرحلة التي لم تزل مبكرة في «مولد المأساة» ينتابنا شعور، تعتريه الإثارة أو السخط حسب حالتنا المزاجية، بأن نيتشه يختلق كلَّ هذا خلال مسيرته. لقد مرَّ بعددٍ هائل من التجارب الفنية المؤثرة والعميقة مقارنةً بأيِّ تجارِب من نوع آخر، وهو يحاول أن يفهمها بالطريقة الوحيدة التي يستطيع أن يفهمها بها ناقد عظيم، على الأقل منذ انهيار الفكر الكلاسيكي في النقد، وذلك عن طريق تأليف عملٍ يبدو، في سياقه الجوهري، أنه يطابق قوة تلك التجارِب وثراءها.
من هذا المنطلق، تحتل الكلمات والعبارات المقام الأول، ثم يكون عليك أن تفكر فيما يقصده بها. إنه أسلوب اتَّبعه نيتشه طوالَ الفترة التي زاول فيها الكتابة، ولكنه سرعان ما أدرك أنه لا يلائم طريقة التعبير المعتادة في بحثٍ ذي موضوع واحد ويتمتع بامتيازات البحث الأكاديمي. والفقرة التي اقتبستها أعلاه مثال جيد على ذلك؛ فبعد أن يَصف الإغريق المنتمين إلى عصر هوميروس بأنهم فنانون، بفضل قدراتهم الإبداعية على اختلاق آلهة متقلبة الأهواء (وهي قدرات كان يجب أن يتحلَّوا بها كي يطيقوا الحياة)، فإنه ينتقل إلى فكرة أنهم هم أنفسهم يتحولون إلى أعمال فنية، لكنَّ انتقاله يتم في المقام الأول على مستوى اللعب بالكلمات من أجل غرض جادٍّ، ثم يكون عليه أن يبرره، بعد أن يشرح معناه أولًا. وينقذه مفهوم شوبنهاور (الذي قدَّم إطارًا يمكن به تطبيق فكره) الذي يدور حول أنه خلف جميع المظاهر الفردية توجد وحدوية واحدة ثابتة على نحو أساسي، فيحتفي بالإغريق الذين ينتجون التراجيديا؛ لأنهم حوَّلوا الرجال إلى أعمال فنية، أو بصيغته البديلة «مبتكري حياة». فهم يدركون أنهم لكي يواجهوا الواقع بدلًا من الولع بالمظاهر البراقة، فإن عليهم أن يتأقلموا مع حقيقة أن الحياة «في حدِّ ذاتها» تدمِّر الفرد على نحو دائم، وأن يتيحوا لأنفسهم نبْذَ استقلاليتهم، والاستمتاع بالفن الديونيسيوسي الذي كان المعقل الذي يتحصنون به من المهرجانات الديونيسيوسية للبربر الهمجيين، والتي كانت تدور في محورها حول «النقص المفرط في الانضباط الجنسي، الذي غمرت أمواجه كلَّ القواعد المبجلة المنظِّمة للحياة الأسرية. وهنا أفلت من الأُسَر أكثر وحوش الطبيعة ضراوة، حتى ذلك المزيج المنفِّر من الحب والقسوة الذي طالما اعتبرته «مزيجًا شيطانيًّا»» («مولد المأساة»، ٢).
يتميز الفن دائمًا، حتى في صورته الديونيسيوسية، بشكلٍ خاص، ومن ثمَّ فإنه يزيِّف — حتى نقطة معينة — موضوعَه، الذي هو عبارة عن دوامة معدومة الشكل من الألم المتصل بالمتعة، وإن كانت الغلبة للألم. ولكنه يجب أن يمارس هذا التزييف؛ لأنه من دونه سنجده غير محتمَل. لذلك في موضع لاحق من الكتاب عندما يناقش نيتشه مقطوعة فاجنر «تريستان وإيزولد»، فإنه يدَّعي أنها يجب أن تكون مسرحية درامية؛ لأن المسرحيات الدرامية تضم شخصياتٍ، أي أفرادًا، وهو ما يعني أن أبولو سيلعب دوره. وفي الفصل الثالث من المسرحية، تُقحِم شخصية تريستان نفسها بيننا وبين مقطوعة فاجنر؛ حيث يُشعِل تريستان فتيلَ التجربة التي تُودي بحياته، بينما نبقى نحن على قيد الحياة، بعد أن نقترب قدر المستطاع من التواصل المباشر مع الواقع البدائي. وبناءً عليه، يُعتبَر الأبطال التراجيديون ضحايا قُربانية، بينما نبلغ نحن «الخلاص»، وهو مصطلح مُحبَّب إلى فاجنر وكذلك إلى المسيحيين، والذي سيندم نيتشه بعد فترة قصيرة على استخدامه، على الرغم من أنه حقق الغرض منه في سياقات أخرى.
لقد تخطَّيت الفصول التي تتخلل «مولد المأساة» لكي أبيِّن كيف يحاول نيتشه أن يعقِد صلة بين التراجيديا الإغريقية والدراما الموسيقية لفاجنر. فهو يعتقد أن الثانية تعني لنا أكثر ممَّا تعنيه الأولى نظرًا لغياب الموسيقى التي كانت تُعزَف في المسرحيات التراجيدية الإغريقية؛ مما يجعلنا لا نستطيع تخمين تأثيراتها إلَّا من خلال أوصافٍ حول كيفية استجابة جماهيرها لها، فقد كانوا يخضعون لحالة من «النشوة» التي لم تُتَح لنا من جديد إلَّا الآن. ويستحيل بلوغ هذه الحالة إلَّا لدى جمع من المتفرجين الذين يُعتبَر إحساسهم بفقدان الهوية صورةً أجود من تلك التي يشعر بها جمهور كرة القدم حاليًّا. ولكن علينا أن نركز على طريقة إنتاج تلك النشوة، وإلَّا فلن يوجد فارق نوعي بين جمهور كرة القدم وجمهور المسرحية التراجيدية. وسرعان ما شعر نيتشه، لأسباب معقدة، أنه لا يوجد فارق ملحوظ بين جمهور فاجنر وجمهوره المقابل الذي يتكون من مجموعة سكارى حادِّي المزاج. بيد أن تلك الفكرة سوف تظهر في المستقبل الأليم. أما في الوقت الحاضر، فقد كان مصمِّمًا على إعادة إحياء روح المجتمع بفضل تلاحم أعضائه بشعور مشترك بالنشوة. تلك هي «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نواجهها»، وكان نيتشه في هذه المرحلة يعتبر أن الألمان يتمتعون بحساسية تجاه القيم والحقائق المطلقة التي حُرمَت منها أمم أخرى، بفضل ثراء الموروث الموسيقي للألمان على نحو أساسي.
وسط تصريحات نيتشه الافتتاحية حول ثنائية أبولو وديونيسيوس والجدل المتضمن على نحو استثنائي، والذي يلقح فيه أحدهما الآخر في الأقسام الختامية من الكتاب، نجد صورة نيتشه المعروضة على نحو مبالغ فيه، إن لم يكن مستغربًا، عن سموِّ التراجيديا الإغريقية (أسخيلوس وسوفوكليس) وانحطاطها (يوريبيديس). دارت فرضيته المحورية حول غلبة الكورس الغنائي في حالات السموِّ، فيرى الجمهورُ على المسرح صورةً منعكسة له، مرتفعة إلى قمم ساحقة من المعاناة والتجلي. ولكن عندما يصل إلى المشهد يوريبيديس، الذي تدوم مسرحياته للأسف بأعداد أكبر من أسلافه الأوائل، فإنه يبدي اهتمامًا بالأفراد وبعلم النفس، والأسوأ من هذا بالآثار المفيدة للعقلانية، أو «الجدل» حسبما يميل نيتشه إلى تسميتها. ولم يشك نيتشه في أن صاحب التأثير المُفسِد عليه هو سقراط، الذي استحق فعلًا الموت بسُمِّ الشوكران، ليس بسبب تأثيره على شباب أثينا، ولكن بسبب تأثيره على ما كان يمكن أن يصبح سرَّ عظمتها التراجيدية المستمرة. «لقد أصبح يوريبيديس شاعر السقراطية الجمالية» («مولد المأساة»، ١٢).
في هذه الشخصية الاستثنائية تمامًا تظهر الحكمة الغريزية فقط لكي «تعوق» المعرفة الواعية عند مواضع محددة. وعلى الرغم من أن الغريزة تُعتبَر عند الأشخاص الأذكياء ملَكة إبداعية وتأكيدية، ويؤدي الوعي دورًا نقديًّا ورادعًا؛ فإن الغريزة لدى سقراط تمارس دورًا نقديًّا ويتحول الوعي إلى مُبدِع، فيتكوَّن مسخ «ناقص»!
العنصر الإيجابي في الجدل، الذي يرقص مهللًا لأية نتيجة ولا يمكنه أن يتنفس إلا في الأجواء الصحوة الصريحة ومن خلال الوعي؛ ذلك العنصر المتفائل، الذي غزا ذات يوم عالم التراجيديا، قد نما شيئًا فشيئًا حتى غطَّى على أصوله الديونيسيوسية، وأجبر نفسه على الانتحار بانتقاله إلى المسرح البرجوازي. هنا لا بدَّ من الاستشهاد بقول سقراط المأثور: «الفضيلة هي المعرفة، فجميع الخطايا تنشأ عن الجهل، والإنسان الفاضل شخص سعيد.» هذه العبارات الثلاث المتفائلة هي التي تحمل في طيَّاتها موت التراجيديا.
إنه اتهام عبقري، حتى لو لم يكن مرتبطًا بيوريبيديس. فليس من قبِيل المصادفة أن يتلاشى فكر العقلانية العظيم في الفلسفة الغربية بتفاؤل مماثل مذهل، ولسنا مضطرين إلى الانتظار حتى يصادف شوبنهاور فيلسوفًا متشائمًا، ويتقبل ذلك بصفته لاعقلانيًّا، مؤمنًا بأولوية الإرادة اللاعقلانية. لقد كان الفكر الغربي معاديًا للتراجيديا بسبب التعاون بين الأفلاطونية والمسيحية، وقد أُلغيَت مسرحياته التراجيدية العظيمة — خصوصًا تلك التي كتبها شكسبير وراسين — لأسباب لاهوتية أو لصلتها بالتعاليم اللاهوتية على نحو مثير للقلق. ولا يعني هذا أن نيتشه قادر على الاعتراف بشكسبير بصفته كاتبًا تراجيديًّا ذا مكانة عالية، وذلك بسبب غياب الموسيقى؛ مما يضعه في موقف حرج يتعامل معه بتجاهل شبه تام. والفقرة الوحيدة التي ذكرها بإيجاز عن شكسبير في «مولد المأساة» تتناول هاملت على نحو بارع، بصفته رجلًا يدرك — بعد أن نظر إلى الهوة الديونيسيوسية — عبثية أيِّ فعل؛ فهو غير متقاعس وإنما يائس («مولد المأساة»، ٧). ولكنه لا يتناول الكيفية التي يمكن أن يؤدِّي بها ذلك إلى خلق الأثر المأساوي الكامل، لو تحقق من الأساس.
ومع هذا، فالأمر الأكثر سلبية أن نيتشه لا يحاول أن يشرح سبب قلَّة المسرحيات التراجيدية الموسيقية؛ فيبدو أنه يسلِّم جدلًا بأن فاجنر كتب مسرحيات من هذا النوع، وإن كان يبدو من الواضح بالنسبة إليَّ أنه لم يكتُبْها. في واقع الأمر، لقد عمد موسيقار وراء آخر إلى استخدام القوى المهيمنة للموسيقى ليثبت أنه مهما ساءت الأمور على خشبة المسرح، فإنه يمكن إنقاذها. وما أثار إعجاب نيتشه حقًّا هو درجة النشوة التي تستطيع الموسيقى أن تُنتِجها، بخلاف أيِّ فنٍّ آخر. وبما أنه منح التراجيديا مكانة عالية على نحو تقليدي، بصفتها الصورة الفنية التي تُبيِّن كيف يمكن أن نصمد أمام ما قد يبدو في ظاهره لنا غير محتمَل، فقد حقَّق دمجًا بين الاثنتين.
عند هذه المرحلة يصبح ولاؤه لشوبنهاور ذا تأثير أشدَّ سلبية؛ لأن شوبنهاور أيضًا قد آمن أن الموسيقى تَمْنَحنا سبيلًا مباشرًا إلى تطبيق الإرادة، بما أنها غير مرتبطة بمفاهيم. ولكن بناءً على شرحه العام لطبيعة الإرادة، التي طالما كافح من أجلها دون أن يبلغها بالضرورة، فمن الصعب أن نرى كيف أو لماذا يجب أن نستمتع بالفن الذي يجعلنا نحتك احتكاكًا مباشرًا بها. وقد يفكر المرء أنه كلما زادت المسافة بيننا وبين الواقع، قلَّ إحساسنا بالشقاء.
ينقح نيتشه أفكار شوبنهاور بعض الشيء بادِّعائه أن البدائي هو مزيج من الألم والمتعة، ولكن كما سبق وذكرنا، فإن الغلبة للألم. وما يفعله نيتشه هو محاولة الإجابة عن السؤال التقليدي: لماذا نستمتع بالتراجيديا؟ وهو يفْصِل نفسه عن الإجابات التقليدية لسبب مقنع، معتبرًا إياها سطحية ومُسكِّنة. ولكن في أثناء محاولته تحويلَ التراجيديا إلى عاملٍ يُبدِّل ما يبدو غير قابل للتبديل، فإنه يجاوز هدفه، ليقع هو نفسه كما يبدو في فخِّ المساواة بين الحق والجمال، وهو شيء ينتقده لاحقًا بحدَّة كافية. ونريد أن نطرح عليه في هذه المرحلة السؤال الذي لم يطرحه إلَّا بعد مرور ما يتجاوز عقدًا من الزمان: لماذا الحق بدلًا من الباطل؟ ما الذي يحفزنا دائمًا للبحث عن الحقيقة؟
قد يشعر المرء أن هذا هو ما سمَّاه شونبرج لاحقًا ﺑ «انعتاق التنافر» بفعل الانتقام؛ لأننا على الرغم من إحساسنا بأن الموسيقى المفتقرة إلى تنافرات واجبة الحسم هي موسيقى عديمة الطعم وغير مستساغة، فإن العالم يبدو وكأنه يقدم لنا تنافرًا متواصلًا، مع لحظات غريبة من التأجيل. ولكن ليس من المُجْدي التركيزُ على هذه النقطة خلال هذه المرحلة. يقدم لنا نيتشه بالفعل ميتافيزيقا الفنان، حيث يعتبِر استعصاء المادةِ المطلوب تنظيمها حافزًا لأعمال إبداعية أعظم، ولكنه إبداع يُعتبَر تقليدًا في نفس الوقت، ومن ثَمَّ نستطيع أن نقول: إننا نواجه الواقع، بيد أنه يتبدل من خلال إكسابه شكلًا.
في مستهل «مرثيات دوينو»، كتب ريلكه يقول: «فالجمال لا شيء/سوى بداية الرعب الذي لم نزل بالكاد نتحمله/ونمجده؛ لأنه يأنف أن يدمرنا» (ترجمة ستيفن ميتشيل، بتصرف بسيط). يمكن أن يقول المرء بموضوعية: إن هذه هي الفكرة الرئيسية في «مولد المأساة». فهي على أقل تقدير مزعجة، وقد نحسها حتى مقززة (يونج، ١٩٩٢: ٥٤-٥٥). وهي تطمس على نحو حاسم الفارقَ الراسخ بين السامي والجميل، جاعلةً الأول عنصرًا مهمًّا للثاني. ولكن قد يكون هذا هو الجانب الأقل إثارة للدهشة في إبداعاته. والأهم أنه يعكس الإصرار الذي حافظ عليه نيتشه طوال حياته المهنية، وأبداه بكلِّ بطولة في حياته الخاصة، بألَّا يعطي الألم دورًا سلبيًّا على نحو تلقائيٍّ في الحياة، وهو الأمر الذي ربما شعر أنه أرهقه خلال المشهد المعاصر مقارنةً بأي شيء آخر. في الوقت نفسه، سيطرت عليه رؤيةٌ عن العالم بصفته مكانًا يتسم بقدر كبير من الرعب لدرجة أن أيَّة محاولةٍ لإكسابه معنًى من الناحية الأخلاقية هي ببساطة مستحيلة. لهذا، فإنه في «محاولة في نقد الذات»، بعد أن انتقد الكتاب بشدةٍ أكثر مما فعل أيُّ شخص آخر، مُعلِنًا أنه قد وجده «مستحيلًا»، لم يزل يجد أنه «يكشف بالفعل عن روحٍ تواجه جميع المخاطر من أجل معارضةِ التفسير «الأخلاقي» والمعنى وراء الوجود» («مولد المأساة»، «محاولة في نقد الذات»، ٥). وبعد عدة أسطر قلائل، يصف «المسيحية باعتبارها أكثر الاستفاضات التي سمعت بها البشرية يومًا مبالغةً للموضوع الأخلاقي.» على الرغم من أن الإدراك المتأخر واضح هنا، فبالفعل كان نيتشه دائمًا حساسًا تجاه المعاناة (معاناة الآخرين، كان غير مبالٍ إلى حدٍّ بعيد بمعاناته) ليجد «تفسيرًا» لها من حيث الفائدة التي تحققها لنا، واعتبارها جزاءً لنا على خطايانا، وبقية المهاترات التي استمرت على مدار القرون على نحو غير محتمَل.
قد يكون كتاب «مولد المأساة» أكثر الأشياء الرهيبة التي اتَّهمَ بها نيتشه وآخرون غيرُه المسيحيةَ، ولكنَّ هذا الكتاب أثبت أنه مصدر خصب لإلهام علماء الأنثروبولوجيا والباحثين الكلاسيكيين. كما كان له تأثير قوي على الخيال العام، بفضل تركيزه على الثنائية الأبولونية والديونيسيوسية. كما أنه كتاب مثمر في قراءاته؛ فما إن تتضح فكرته العامة حتى نجد العديد من الرؤى المتميزة التي لا تُوجَد في أيِّ عمل آخر لنيتشه. ولكنها لا تُغني عن نوع معين من القراءة المتعمقة؛ تلك القراءة الرائجة اليوم وتبحث عن الالتباس والصَّدْع وتدمير الذات، وبقية أدوات التفكيكيين. ووحدها الكتب التي تبدو أنها تحقق وحدة الفكر التي يفتقر إليها كتاب «مولد المأساة» ستفعل ذلك بلا جدال. تظهر تلك الوحدة فقط في الحماس الذي يصمم نيتشه على ربطه بعملية الإحساس بأهم اهتماماته، وتجسدها مُثله العليا. وبعبارة أخرى، فإنه كتاب شابٌّ يُعتبَر أقل موضوعية مقارنةً بكتبه اللاحقة فيما يتعلق بقربه من مؤلفه. وربما اللافت أنه أشد تعبير متفاءل كُتِب يومًا عن رؤية كونيَّة متشائمة.