الأخلاق ونِقْماتها
إنَّ هذا الانشغال بنظرة الإنسان إلى المعاناة يرتبط باهتمام نيتشه بالعظمة لا بالجودة؛ لأنه لا توجد عظمة دون استعداد وقدرة على تحمُّل قدرٍ هائل من الألم واستيعابه واستثماره على نحو أمثل. قد يتخيَّل المرء أن العظمة تنطوي على الاستفادة من الألم، وأن الجودة تنطوي على محاولة التخلُّص منه. ويكرِّس نيتشه جميع أعماله اللاحقة لاستكشاف هذا الفارق العويص. ففي «الفجر»، قدَّم تحليلاته الأولى — التي لم تكن تجريبيَّة مطلقًا — لآليات الأخلاق، ولنوع النفوذ الذي تستحضره.
ثمة طريقتان لإنكار الأخلاق. فقد يعني «إنكار الأخلاق» أولًا: إنكار أن تكون البواعث الأخلاقية التي يستخدمها الناس هي التي تقف حقًّا وراء أفعالهم، وهو ما يعني أن الأخلاق مجرد كلام وأنها من الخدع الفظة أو المعقدة التي يمارسها الإنسان، وربما خصوصًا أولئك الرجال المشهورين بفضيلتهم (وهي كثيرًا ما تكون خداعًا للنفس). وقد يعني ثانيًا: إنكار أن تكون الأحكام الأخلاقية قائمة على حقائق. وفي هذه الحالة نسلِّم بأن هذه الأحكام هي البواعث الحقيقية للأفعال، وبأن الأخطاء، التي هي أساس كلِّ الأحكام الأخلاقية، هي التي تقف وراء أعمال الناس الأخلاقية. هذا الرأي الأخير هو رأيي؛ لكنني لا أنفي أنه في كثير من الحالات يكون الارتياب في الرأي الأول — أي كما يرى لاروشفوكو وغيره ممن يفكرون بطريقته — شيئًا في محلِّه وله فائدة كبيرة عمومًا. أنا إذن أُنكِر الأخلاق كما أُنكِر الخيمياء، بمعنى أنني أنكر فرضياتها، لكني لا أنكر أنه قد وُجِد خيميائيون آمنوا بهذه الفرضيات وارتكزوا عليها في أعمالهم، كما أنكر اللاأخلاقية: ليس لأن العديد من الناس يشعرون بأنهم غير أخلاقيين؛ بل لأنه لا يوجد سبب يدعوهم للإحساس بكونهم كذلك. كما لا أنكر أنه من البديهي — إذا سلَّمنا بأنني لست أخرق — تفادي الكثير من الأعمال اللاأخلاقية ومحاربتها؛ وأنه يجب القيام بالكثير من الأعمال الأخلاقية والتشجيع عليها — ولكنني أعتقد أننا يجب أن نشجع هذا ونتفادى ذاك لأسبابٍ غير التي كانت وراء قيامنا بهما حتى الآن. علينا أن نغير طريقتنا في النظر إلى الأمور — لنتوصَّل في نهاية المطاف، ربما في مرحلة متأخرة جدًّا، إلى تغيير طريقتنا في الشعور.
هل يمكن للمرء أن يستنتج من ذلك عن يقينٍ ما إذا كان من الواجب إطالة وجود الجنس البشري لأمدٍ أطول، أم إخراج الإنسان — ما أمكن ذلك — من حالة الحيوانية؟ لا شك أن اختلاف الوسيلة، وأقصد الأخلاق العملية، سيكون كبيرًا في الحالتين … أو إذا سلَّمنا بأن الهدف هو «السعادة الكبرى» للإنسانية كإجابة عن سؤال «على ماذا» و«على نحو ماذا»، فهل فكَّرنا في أعلى درجات السعادة التي قد يصل إليها بعض الأفراد؟ أو في السعادة المتوسطة، التي لا يمكن بالضرورة تحديدها، والتي قد يصل إليها جميع الناس في نهاية المطاف؟ ولماذا سيختارون الأخلاق ليبلغوا ذلك الهدف؟
ويواصل نيتشه بإيقاعه الهائج، تاركًا المفسِّر البائس في حيرة من أمره حول ما إن كان عليه أن يشرح الأمر بالتفصيل أم لا، وهو عمل قيِّم كان من الممكن أن يؤدِّي إلى إنتاج كتابٍ ضخم للغاية، ولكن ليس أضخم من الكتب التي حازت مرارًا وتكرارًا العديدَ من الجوائز عن أعمال بلا قيمة، مثل كتاب كانط «نقد العقل العملي»، وهو بلا شك أكثر خيبات الأمل فجاعةً في تاريخ الفلسفة، والذي جاء بعد «نقد العقل الخالص»، أحد أعظم أمجاده. على أية حال، هذا مستحيل هنا. فالهجوم الأساسي لكتاب «الفجر»، الذي حمل أيضًا كما هو الحال دائمًا، تأمُّلات حول موضوعات كثيرة ومتنوعة تشغل الموسيقى المعاصرة حيِّزًا كبيرًا منها؛ كان يهدف إلى توضيح الأزمة التي وقعت الأخلاق فيها. فحسبما يصفها باقتضاب: ««المنفعة»، أضحت المشاعرُ اليومَ متشابكةً في الأمور الأخلاقية إلى حدِّ أنه في نظر أحدهم تَثبُت الأخلاقيات من واقع منفعتها، فيما تُدحَض لدى آخر بسبب المنفعة ذاتها» («الفجر»، ٢٣٠).
إن الملحوظ بشأن كتاب «الفجر» هو محدودية فرضياته وتواضعها. فما من إشارة إلى أن زرادشت سينزل قريبًا من فوق الجبل ليحطم جميع أوثاننا الأخلاقية. إن معظم الأمور التي يؤكِّد عليها تبدو بالنسبة إليَّ غير قابلة للجدل، ولكن من الواضح أنها ليست كذلك بالنسبة إلى الجميع. وهكذا ما زلنا نجد العديد من الأشخاص، ومن بينهم الفلاسفة، يدَّعون، مثلًا، أن الأخلاق نظام يدعم نفسَه بنفسه، ولا يعتمد على أيِّ شيء خارجه، وأن الأخلاق مبنية على المنطق، وأن أساس الأخلاق واضح؛ أي إن الأخلاق، حسبما يقول نيتشه، تثبتها منفعتها أو تدحضها نفس المنفعة. من المهم مناقشة هذه الموضوعات باستفاضة، ولكن هذا سيكون أمرًا خارج السياق عند النظر إلى تطور نيتشه؛ لأن جميع المناقشات الحالية عن الأخلاق، على الأقل في العالم المتحدِّث بالإنجليزية، تفترض بالكامل إنكار نيتشه. وما من مناقشة، على حدِّ علمي، مستعدة لأن ترى كيف أن قوانين الأخلاق المتنوعة والمتباينة إلى حدٍّ ما التي نصادفها تنشأ عن آراء متضاربة حول طبيعة العالم. إنه لمن المثير للعجب، على سبيل المثال، أن نسمع الفلاسفة يتحدثون عن «حَدْسهم» كشيء يمكن الوثوق به دون رقابة، ما لم يتعارض حَدْس مع آخر. «حَدْسي يخبرني أن …» هي طريقة شائعة لبدء مناقشة فلسفية، كما لو أن هذا الشخص يجسِّد الصوت الخالد للبشرية!
لم تسقط معتقداتنا الأخلاقية من السماء، كما أنها ليست مسوِّغات لكي نمرق إلى تأسيس استقامتنا الأخلاقية. فكِّر في بقية تاريخ الإنسانية، بما في ذلك معظم تاريخ العالم في الوقت الحاضر. كيف نبرِّر هذا المشهد الطاغي من القسوة والغباء والمعاناة؟ ما الموقف الذي نتبنَّاه تجاه التاريخ، ما الحكم الذي يمكن أن نصدره؟ هل الأمر كله خطأ كبير؟ لقد حاولت المسيحية علاج معاناة التاريخ عن طريقِ وضْعِ خطة دينية هادفة في المكان والزمان الحاضرَيْنِ وتقديم المكافأة لاحقًا، ولكن الليبرالية كانت شديدة الإنسانية بحيث لم تستطع تقبُّل هذا التفسير. لا يوجد تفسير، توجد فقط الحقيقة المُرَّة. ولكن الحقيقة المُرَّة التي نواجهها أشد قسوةً من التفسير القديم. ولذلك تصوغها الليبرالية اليسارية في قصة جديدة، قصة أخلاقية تندمج طبقًا لها جميع تلك الحيوات في آلية التاريخ وتتخذ دورًا واضحًا باعتبارها ضحايا القمع والظلم. ثمة غائية ضمنية في هذا الرأي؛ فالليبرالية اليسارية الحديثة هي النهاية التي تُعطِي شكلًا ومعنًى لبقية التاريخ. ومؤخرًا فقط أصبح بإمكان كاتبة مثل أوفيليا شوت — التي تنتقد نيتشه بشدة في كتابها «ما وراء العدمية: نيتشه دون أقنعة» بسبب تسلطه — أن تكتب بحُرِّية، وبثقة كبيرة بأن التقديرات التي تفترضها سوف يستقبلها الجمهور الأكاديمي كأمر مفروغ منه، تمامًا مثل الواعظ المسيحي الذي يكتب من أجل جمهور متدين. وفقط في إطار التطويق الوقائي لهذا المجتمع العقائدي يمكن بلوغ الرضا بأداء هذه الخطبة؛ أي الإحساس بأن أيَّ شيء ذي قيمة قد تحقق بفضل هذا الإلقاء. عندما يُطمئِن هذا المجتمع الأخلاقي نفسَه تجاه عقيدته بواسطة هذا الإلقاء، يصبح متنفسًا لمعنى التاريخ، باعتباره الموضع الذي قد يشغله المرء لكي ينظر إلى التاريخ ويصدر حكمه عليه دون أن ييأس أو يغلق عينيه ويسد أذنيه. ربما لا توجد أية خطة للتاريخ، ولا أية طريقة لتعويض الخسائر للموتى، ولكننا نستطيع أن نرسم خطًّا غير مرئيٍّ لسداد الحكم عبر التاريخ وبهذه الطريقة نتفوق عليه. وبدلًا من عبارة «هكذا كان» المخيفة التي تصف التاريخ، نستخدم العظمة المهيبة لعبارة «هكذا كان «يجب» أن يكون.»
لكن ليبراليتنا شيء نشأ بالأمس ويمكن أن يختفي غدًا. أول أمس كان الآباء المؤسسون يستعبدون السود. ما الأمل الضئيل الذي نشغل بالنا به على الرغم من احتماليته وهشاشة وجوده، ويمكِّننا من إضاءة جميع الماضي وربما المستقبل أيضًا؟ لأننا نريد أن نقول إنه على الرغم من أن مجتمعنا المتديِّن قد يندثر، فلن يؤثر هذا على شرعية هذه المعتقدات. سيظل خط الاستقامة يقطع التاريخ.
يجتهد ستاتين ليوضح، بعد فقرته المثيرة للإعجاب الشديد، أنه لا ينتقد الليبرالية على أساس نسبيٍّ، ولكنه فقط يدعم فكرة نيتشه حول احتمالية موقفنا التاريخي، ومن ثَمَّ قيمنا. يعني هذا بالتأكيد أنه لا يكفي تنفيذ طقوسِ الإرهاب في آرائه اللاحقة، ولكن أنه يجب رؤيتها كجزء من تدبير قيمي من حيث محاولته وحدَه للتأقلم مع الحياة، بنبرة متكررة وحادة باستمرار.
على الرغم من أن كتاب «مولد المأساة» ينظر إلى التراجيديا بعين المتفرِّج، ولعل هذا يرجع جزئيًّا إلى أنه يتعامل مع الشكل الدرامي وليس مع التاريخ الإنساني، فإنه يبدو بوضوحٍ كافٍ أنه بالنسبة إلى نيتشه تُعتبَر فظاعة الوجود حقيقة باقية على الدوام. «لا يمكن تبرير الحياة إلا بكونها ظاهرة جمالية فقط»، ولكننا يجب أن نتذكر أن نيتشه يقول أيضًا، في الكتاب نفسه، إننا نحن أنفسنا جزءٌ من هذه الظاهرة. فلا «حياةَ» بينما نحن جالسون لنتفرج. ولو كان قد فكر في هذا عام ١٨٧١، لعرف خطأه فورًا بأقسى الطرق.
هل تعني الأخلاق تنوُّع المواقف التي يعتنقها المجتمع بصورة رسمية مُعلنَة؟ إنها تحقق رخاءنا، في صورته الأساسية، حتى نشعر على الأقل بالأمان عندما نولِّي الآخرين ظهورنا. لا يمكن أن ننكر هذا، فهذا ما يعنيه نيتشه بقوله إنه لا يُنكِر أن الكثير من الأعمال اللاأخلاقية يجب تفاديها ومحاربتها … إلى آخر قوله. لكن أليست هذه مجرد مسألة حصافة؟ بالتأكيد، حسب قول نيتشه. والفكرة التي روَّج لها الكثير من الفلاسفة — بدايةً من أفلاطون، بأن الحصافة موجودة من ناحية (أقل أهمية)، والأخلاق موجودة من ناحية أخرى (أكثر أهمية)، والتي تُخصص لها عقوبات متسامية النوع — تصدمه باعتبارها تفاهات أخلاقية. وهكذا، فثمة مستوًى من الأخلاق يخدم غاية مفيدة، ويحتاجه أيُّ مجتمع ليحافظ على استمراره — على الرغم من أنك لو كنت صاحب نفوذ، فسوف تستطيع بالطبع التنصل من الكثير من الجرائم. ولكن هذا وضعٌ سيحدث ما دامت الحياة مستمرة. فلماذا لا نعطي للحياة معنًى وهدفًا بما أننا وصلنا إلى هذا المدى؟ كثيرًا ما يُستخَدم مصطلح «الأخلاق» لتغطية هذا الأمر أيضًا، على الرغم من أن بعض الأشخاص يفضِّلون الحديث عن «المُثُل العليا» التي يقولون إنها تختلف على نحو أساسيٍّ من شخص إلى آخر. لا يبحث نيتشه في هذه الأمور الاصطلاحية، ولكنه عندما يدين الأخلاق أو أنواعًا منها، وعندما يصف نفسه بأنه فاسد، فإنه يضع في اعتباره معنى الحياة والهدف منها.
هنا تبدأ الأمور في التعقيد. وفي محاولةٍ لتبسيطها قدرَ الإمكان، سأحاول أن أحيد بعض الشيء عن اتباع الترتيب الزمني في عرض نيتشه، وأن أعتمد كثيرًا أيضًا على مقالٍ كتبه فريتجوف برجمان، عن «نقد نيتشه للأخلاق» (سولومن وهيجنز، ١٩٨٨). ولكن ما يبعث على الطمأنينة أنه في بعض الأحيان يتفق المفسِّرون إلى درجة اعتناق نفس الآراء. وفي معرض حديثي، فإن الفارق بين الأخلاق بوصفها رفاهيةً والأخلاق بوصفها مَثلًا أعلى سيتلاشى فعليًّا، إلى جانب أمورٍ أخرى كثيرة.
أول أمر يجب وضعه في الاعتبار هو أن نيتشه لا يُنكِر (إلى حدٍّ ما) وجود القِيَم. إنه لخطأ شائع وعجيب أن نتصور هذا عنه. ولكن إنكار القيم هو ما يقصده في المقام الأول بحديثه عن «العَدَمية»، التي يكره ورودَها أكثرَ من أيِّ شيء آخر. لو نظر أحيانًا إلى نفسه باعتباره نبيَّ العدمية، فهذا لا يعني أنه يُعلِن وصولَها كأمرٍ يجب الاحتفاء به، ولكن بنفس معنى أن إرميا كان النبي الذي تنبَّأ بالدمار لبيت المقدس. وما يصوره، في كتاب تلو الآخر، هو الانحدار التدريجي والمتسارع في الوقت نفسه الذي يمر به الإنسان الغربي وصولًا إلى حالةٍ لا تترك القِيَمُ فيها بعد ذلك أثرًا قويًّا عليه، أو يتشدق بها ولكنه ما عاد يؤمن بها. وهذا ما يراه وشيك الحدوث. كيف وقعت هذه الكارثة، التي لم يبدُ أن أحدًا من معاصريه قد لاحظها، وكيف يمكن علاجها؟
تقتضي الإجابة النظر إلى جانبين من الأخلاق؛ الأول: هو منبعها، والثاني: هو مضمونها. تنبع الأخلاق بالصورة التي تُمارَس بها حاليًّا من الفكر المسيحي-العبري، في الجزء الأكبر منها؛ ممَّا يعني أن جذورها موجودة في إملاءات الرَّب لِقَبيلةٍ صغيرة شرق أوسطية، وأن مضامينها لم تزل كما كانت من قبل. وهذا يسمو بها فورًا بطريقتين؛ أولًا: أن تنفيذها هو مسألةُ فروضٍ لا جدال فيها، وكان عقاب مخالفتها في وقتٍ من الأوقات جزاءً إلهيًّا فوريًّا. وثانيًا: بما أن المضمون كان مُصمَّمًا خصيصَى ليضمن استمرار القبيلة، التي كانت ظروفها الحياتية مختلفة تمامًا من نواحٍ عدة عن ظروفنا الحياتية، إذن كان يجب أن يكون أكثرَ تجريدًا وانفصالًا عن الظروف التي نعيش فيها. وكانت النتيجة أن الأخلاق قد أصبحت غامضةً من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضًا كان يجب فرضُ صلتها عن طريق تحويلنا إلى كائنات يصلح أن تُطبَّق الأخلاقُ عليها بعقلانية، حتى على الرغم من أننا نعرف أن هذا غير حقيقي من نواحٍ عدة.
يتعقَّد الأمر أكثرَ بالتعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، وكذب المسيح بادِّعائه «لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ! مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ» (إنجيل متَّى، الإصحاح الخامس، الآية السابعة عشرة). بما أن العديد من مبادئه المثيرة للإعجاب تتعارض تعارضًا تامًّا مع الناموس، مثل: «لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ.» وإن كان العهد القديم بقي جزءًا من شريعة النصوص المقدسة، فدائمًا ما كانت المسيحية تواجه أزمةَ هُويَّة أخلاقية. وعلى الرغم من كون هذا الموضوع عاملًا مهمًّا في الالتباس الأخلاقي للغرب، فإنه غيرُ مهمٍّ بالنسبة إلى نيتشه الذي انصبَّ اهتمامه الأساسي على طبيعة العقوبات الأخلاقية بصفة عامة.
لقد تخلَّصوا من إله المسيح، ويعتقدون أنه ينبغي عليهم الآن أن يظلوا متمسكين بالأخلاق المسيحية. إنه ثبات إنجليزي، ولا نريد أن نلومهم على الأخلاق الأنثوية على المنوال الإليوتي. ففي إنجلترا، على المرء مقابل كلِّ تحرُّرٍ صغير من اللاهوت أن يُعِيد الاعتبار إلى نفسه بتبنِّي تعصُّبٍ أخلاقي مفزِع. إنها الكفَّارة التي تُدفَع هناك ثمنًا لذلك.
أما عندنا، نحن الآخرين، فالأمور تختلف تمامًا. عندما نتخلَّى عن الديانة المسيحية يكون علينا أن نتخلَّى أيضًا عن الحقِّ في الأخلاق المسيحية. غير أن هذا الأمر ليس بديهيًّا على الإطلاق؛ على المرء أن يظلَّ يعيد طرح هذه المسألة إلى النور، رغم أنف الرءوس المسطحة الإنجليزية. إن المسيحية نظام ورؤية كليَّة ومتكاملة للعالم، وإن انتزعنا فكرة أساسية منها، ونقصد بذلك الإيمان بالله، فإننا نكون قد حطَّمنا الكلَّ، ولن يكون بين يدينا بعدها شيء ضروري. تفترض المسيحية أن الإنسان لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ما هو خير بالنسبة إليه وما هو شر؛ إنما هو يؤمن بالله الذي له وحده العلم بذلك. الأخلاق المسيحية فرضٌ، ومنبعها متعالٍ، وهي تقع فوق كلِّ نقْد، وفوق كلِّ حقٍّ في النقد، ولا تحتوي إلَّا على الحقيقة، إذا كان الله هو الحقيقة؛ فهي تستقيم وتنهار مع الإيمان بالله.
إذا كان الإنجليز يعتقدون فعلًا أنهم يعرفون «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر، وإذا كانوا يعتقدون بناءً على ذلك أنهم لم يعودوا بحاجة إلى المسيحية كضمان لقِيام الأخلاق، فإن هذا في حدِّ ذاته يمثِّل نتيجة لسيادة الحكم القيمي المسيحي، وتعبيرًا واضحًا عن قوة هذه السيادة وعمقها، بما يجعل منبع الأخلاق الإنجليزية يتوارى بين طيَّات النسيان، وبما يجعل الناس لا يشعرون البتة بضرورة ارتباطها الوثيق بمبررات حقِّها في الوجود. فالأخلاق بالنسبة إلى الإنجليزي ما زالت لا تمثِّل أية مشكلة بعدُ.
مفاهيم الالتزام والواجب — وأقصد بذلك الالتزام الأخلاقي والواجب الأخلاقي — وما هو صواب أو خطأ من الناحية الأخلاقية، وما «يجب» عمله أخلاقيًّا؛ لا بد من هجرها لو أمكن ذلك من الناحية النفسية؛ لأنها باقية، أو مشتقة مما هو باقٍ، من مفهومٍ أقدم للأخلاق لم يعد موجودًا بصفة عامة، ولهذا تعتبر مجحِفة من دونه.
من الواضح أن مقترحها لم يثبت أنه «ممكن من الناحية النفسية»، مثلما أدركت بلا شك عندما كتبت تلك الكلمات، ولنفس السبب الذي نُظِر به إلى ادِّعاءات نيتشه بوصفها «مستحيلة»، وهو أننا لا نملك أدنى فكرة بماذا نستبدل هذه المصطلحات التي «لا بد من هجرها».
إن النظر إلى الأخلاق بوصفها «قانونًا» يعني التمسك بما هو ضروري … ومطلوب من جانب القانون الإلهي … ليس من الممكن بطبيعة الحال أن تكون لديك هذه الفكرة ما لم تؤمن بالله مُشرِّعًا، مثل اليهود والرواقيين والمسيحيين … الأمر أشبه باستبقاء فكرة «المجرم» على الرغم من إلغاء القانون الجنائي ومحاكم الجنايات ونسيانهما.
هذا صحيح تمامًا، ولكن — على الرغم من الحيرة والاحتقار اللذين يشعر بهما نيتشه وأنسكومب — هذا ما نفعله بالضبط لنتحايل على الأمر ونواصل حياتنا، غالبًا غير مهمومين بالفوضى المفاهيمية التي ينطوي عليها الأمر، وبالكاد تكون مستترة.
يَعُود القصور الغريب في التطور البشري، بكلِّ تردُّده وبطئه — بل بكلِّ تقهقره ودورانه على ذاته باستمرار — إلى أن غريزة القطيع للانصياع تتوارث على أحسن ما يكون وعلى حساب فنِّ إصدار الأوامر وفرض السيطرة. وإذا افترضنا أن هذه الغريزة بلغت ذات مرة أوْج ذروتها، فإن الآمرين والمستقلين سيندثرون تمامًا في النهاية، أو قل إنهم سيعانون من تأنيب الضمير وسيحتاجون إلى التحايل على الذات كي يُمكِن لهم أن يأمروا؛ أي كما لو أنهم، هم أيضًا، ينصاعون فحسب. وهذه الحالة قائمة اليوم في أوروبا بالفعل، وأسمِّيها: رياء الآمرين الأخلاقي. فهم لا يعرفون سبيلًا إلى حماية أنفسهم من تأنيب الضمير إلَّا وهم يتصرفون كمنفِّذين لأوامر أقدم أو أعلى (أوامر الأسلاف، والدستور، والحق، والقوانين، وحتى الله)، أو يستعيرون بدورهم من نمط تفكير القطيع شعاراتٍ قطيعية، ويبدون، على سبيل المثال، بوصفهم «أفضل خدَّام لشعبهم»، أو «أدوات الخير العام». من جهة أخرى، يتظاهر إنسان القطيع اليوم في أوروبا بأنه النمط البشري الوحيد المسموح به، ويمجِّد صفاته التي جعلته أليفًا ومسالمًا ومفيدًا للقطيع، بوصفها الفضائل البشرية الحقيقية؛ وهي: الحس الجَمْعي، والطيبة، والرفق، والاجتهاد، والاعتدال، والتواضع، والتسامح، والتراحم. أما في تلك الحالات التي يبدو فيها الاستغناء عن القادة وأكباش القطيع ممتنعًا، فثمة محاولة تلو الأخرى لجمع أفرادٍ قطيعيين أذكياء يحلُّون محلَّ أصحاب الأمر؛ ذاك هو، على سبيل المثال، أصل كلِّ الدساتير النيابيَّة. لكن، على الرغم من ذلك، أيُّ نعمة ستهبط على أوروبيي القطيع هؤلاء، بل أيُّ انعتاق من ضغط يكاد لا يُطاق سيكون لهم مع ظهور الآمِر المطلق! والدليل الكبير الأخير على هذا هو التأثير الذي أحدثه ظهور نابليون؛ إن تاريخ تأثير نابليون يكاد يكون تاريخ السعادة القصوى التي بلغها هذا القرن بأسره في أكثر أفراده ولحظاته قيمة.
قد تستثير هذه الفقرة المقتبَسة من نيتشه بأسلوبه المُميَّز ردودَ أفعالٍ مختلفة. فهي تنتقل بين كونها شديدة الإقناع، ومصاغة بأسلوبه الجدلي البلاغي الفصيح، وبين استعمال المفردات الصادمة — على الرغم من ذلك — بالقدر الذي لا بدَّ أنه كان ينتويه لها، حتى ولو كانت تُجبِر معظمَ القُرَّاء على النفور مما يقوله. فهذا الاستعمال لكلمة «القطيع» وشبيهاتها مُزعِج، كما هو حال قائمة الخِصال التي يتفق عليها «الإنسان القطيعي»؛ لأننا نوافق عليها أيضًا: الحِس الجَمْعي، والاجتهاد، والتواضع، وغيرها. ونحن نوافق عليها؛ لأننا قطيعيون، ولسنا مقتنعين بتاتًا أننا يمكن أن نصبح أيَّ شيء آخر، أو إذا ما كنا سنريد ذلك لو أمكننا. ومع هذا يصيبنا القلق، بما أن موضوع الانصياع برمته قد أُثير. وعلى الرغم من أننا قانعون بالانصياع لما نؤمن أنه صواب، فإن المسألة هي: لماذا نقنع بهذا الإيمان، على الرغم من أننا ألغينا الآمِر؛ أو من كانوا بيننا لهم آمِر؟ وبالطبع، فإن حقيقة أن قناعاتنا الأخلاقية تنبع في الأساس من إرادة الإله لا تعني أن هذه القناعات خاطئة، لو لم يكن الإله موجودًا. فتلك «مغالطة المنبع»، وهي أداة معروفة وموصومة بتشويه المعتقدات وزعزعة الثقة بها. ولكن من جهة أخرى، سيكون من الحماقة ألا نوافق على أننا لو تخلينا عن الإيمان الشرعي الأصلي، فسنكون بحاجة إلى شيء جديد ليحلَّ محلَّه؛ إذ إنه من السهل جدًّا أن نكون مثل «الإنجليز» ونعتقد أننا نعرف «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر. وسيكون هذا رائعًا لو حققناه، بما أننا لا نملك أية معرفة فطرية حقيقية أخرى.
في هذه المرحلة، لا أريد أن أتوغل في آراء نيتشه المحددة حول مضمون الأخلاق، إلا بقدر ارتباطها بادِّعاءاته حول النظام ككلٍّ.
ما يبدأ به نيتشه في كتاب «الفجر» يواصله بمهارة بالغة في كتابه التالي «العِلم المرِح». في هذا الكتاب، على وجه التحديد، يمهِّد نيتشه الطريق بوضوحٍ أكبر لتوغله في مسألة القيم، التي يُفرِد لها معالجة كاملة في «هكذا تحدَّث زرادشت». يُعتبَر «العِلم المرِح» أكثر كتبه إمتاعًا؛ إذ إنه كان يثق في كونه يتخطَّى التلميحات اللانهائية التي وردت في كتابيه السابقين، دون أن يحمل على عاتقه — على الرغم من هذا — العبْء التنبُّئي الذي تكبَّده خلال تأليفه كتاب «هكذا تحدَّث زرادشت». وعلى الرغم من استمرار الانتقاد الشديد الفاعلية لفترته التي يُطلَق عليها اسم «الفترة الوضعية»، فإننا نشعر بقدرة أكبر على استيعاب ما يقصده. إن عمقَ المأزقِ الذي سقطَ إنسانُ ما بعد المسيحية فريسةً له هو السمة الأكثر بروزًا في «العِلم المَرِح»، الذي يحمل في الجزء رقم ١٢٥ أشهر تصريحات نيتشه بأن الإله قد مات.
يحمل هذا الجزءُ عنوانَ «المخبول». فجميع مَنْ يسمعونه في السوق يعتبرونه مجنونًا؛ لأنهم ليست لديهم أدنى فكرة عمَّا يتحدث. كيف يمكن أن يقتل المرء الإله؟ هذا تعبير عن معاناة نيتشه الجسيمة، بما أنه يرى — على عكس الآخرين — تبعات موت الإله، ويرى تأثير ذلك على المدى الطويل، ويصيبه الهلع لمجرد التفكير في الكيفية التي سيتصرف بها الناس إذا ما استوعبوا معنى ألا يكون الإله بعد الآن هو محور عالمهم. لا يهم إن كان الإله موجودًا أم لا، وهذا هو جوهر قضية نيتشه. المهم هو إن كنا نؤمن بوجوده أم لا. بمرور القرون، تآكل الإيمان بالإله دون أن يلاحظ الناس ما يحدث. وسوف تمسُّ التبعات الأكثر تعقيدًا القيم؛ لأنه — مثلما يعبر نيتشه عن الأمر في ملحوظة غير منشورة: «مَنْ لا يجد العظمة في الإله لا يجدها في أيِّ مكان. يجب عليه إما أن ينكرها أو يستحدثها.» وإذا حملنا على كواهلنا عبء استحداث العظمة، إذن فمعظمنا، وربما جميعنا، سينهار تحت وطأة هذا العبء. ودون العظمة ليس للحياة معنًى، حتى لو كانت العظمة بعيدة المنال. وسوف نستعرض لاحقًا المنطق الذي ينسب به نيتشه موت الإله إلى الميول المتنازعة أساسًا في المسيحية نفسها. أما الآن، فالمهم هو أنَّ نتيجتها قد وقعت، وأن معظم الناس لا يدركون معناها، وأنهم عندما يدركون معناها لن يجدوا الحياة تستحق العيش فيها بعد الآن.
كان موقف نيتشه تجاه المسيحية، على غرار موقفه تجاه معظم الأمور التي اهتمَّ بها، منقسمًا في الصميم. وقد وصفنا على مدار الصفحات السابقة ازدراءه للأخلاق التي ترعاها المسيحية، وقد نما هذا الازدراء بمرور السنين. ولكن على الرغم من أنه كان يكره ضآلة الإنسان التي تُعتبَر جزءًا من العقيدة المسيحية، ومجموعة الفضائل التي تُعتبَر جزءًا من ذلك، كان في حقيقة الأمر واعيًا تمامًا بالإنجازات التي لا ينسب فضلها إلَّا إلى الثقافة المسيحية. فلن تُبنَى أبدًا كنيسة على غرار كاتدرائية شارتر القوطية للاحتفال بالقيم الإنسانية المُتحضِّرة، ولن يوجد عملٌ موسيقي كبير مثل «قداس مقام بي الصغير» لباخ لإثبات الإيمان بها. ومن ثَمَّ، يبدو أن فترة ما بعد ظهور المسيحية غالبًا ستتسم بوجود رجال أشد ضآلة من المسيحيين الصغار الذين حلُّوا محلَّهم. فربما تكون الأخلاق شاقة، ولكن هل سيكون من المعقول تخيُّل استبدالها؟