الضرورة الوحيدة
تستمر هذه الفقرة المشحونة بالمشاعر على نحو يمكن أن يأسِر لبَّ المرء، وربما سيكون من المُجحِف النظرُ إليها عن قرب. وفكرة أن نيتشه — الخبير التشخيصي العريق — لا يمكنه أبدًا أن يغضَّ بصره، وأننا كنا سنخسر الكثير من كتاباته القيِّمة لو فعل ذلك؛ تُلطِّف حدَّة التهمة بأنه لم يُصبِح قط ممن يقرُّون الأمور ويؤيدونها على عِلَّاتها، وتلطف حقيقة أن ثلاثة من أواخر كتبه الخمسة تتسم بالهجومية، اثنان منها يهاجمان فاجنر والثالث يهاجم المسيح، والكتاب الإقراري الوحيد كان عن نفسه.
«الشيء الوحيد الضروري» أن «نضفي طابعًا من الإبداع الفني» على طبعنا، هذا فن عظيم ونادر! فن يمارسه مَن يعانق كلَّ ما يمنحه طبعهُ من قوة ومن ضعف، ويدمجه بعد ذلك في مشروع عملٍ فنيٍّ يبدو معه كلُّ عنصر مثل قطعة فنية وذهنية، ويكون حتى للضعف فضيلة استهواء النظر. هنا يزيد كمُّ الطبيعة المكتسَبة، في حين ينقص جزء من الطبيعة الفطرية — وفي الحالتين يتم ذلك من خلال الممارسة الصبورة والجهد اليومي. في هذا الموضع سَتَرْنا قبحًا لم نستطع اقتلاعه، وفي الموضع الآخر تحوَّل إلى جمال رفيع. كثير من الأشياء المُبهَمة والعصيَّة على التشكيل استُبقيت واستُغلت من أجل تأثيرات المنظور، وظيفتها هي إبراز الأبعاد والفضاءات التي لا نهاية لها. وفي نهاية المطاف، حين يكتمل العمل، يتضح أن إكراه ذوقٍ وحيدٍ بعينه هو الذي كان سائدًا في الأشياء الصغيرة والكبيرة ويهيِّئها، وسواء أكان هذا الذوق سليمًا أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، وإنما يكفي أن يكون هناك ذوق!
هذه القطعة ليست الجزء كلَّه، ولكنها تكفي لنواصل بها حديثنا.
كانت فكرة أننا قد نصبح «مبتكري حياة» محلَّ نقاش في «مولد المأساة»، ولكنها في سياقٍ مختلف تجعل فكرة الاستمرارية خادعة. ما يدافع عنه نيتشه في «العِلم المَرِح» هو الفردية المفرطة، في إطارٍ لا يؤدي إلى المذهب الذريِّ الذي نادرًا ما يكون واضحًا والذي مفاده أن الواقع يتألف من جزئيات أو كيانات منفصلة لا تنقسم، وقد تكون هذه مادية أو روحية. وعندما تكون هذه الجزئيات مادية، تُعَد في العادة دقيقة إلى أبعد حدٍّ، لا متناهية في العدد. ولكن ما إن نُعجَب برؤيته، حتى نبدأ في التساؤل أيضًا. بالنسبة إلى القياس التشبيهي مع الفن، أو فن هندسة المناظر الطبيعية للحدائق، الذي يُشار إليه هنا، فإنه بكلِّ وضوحٍ قياسٌ تشبيهي لا يمكن تناوله تناولًا مباشرًا، فالإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة. (سوف أناقش لاحقًا التكرار الأبدي، الذي لن يساعدنا هنا على أية حال؛ حيث إن الأخطاء التي نرتكبها كانت، وستظل، تتكرر إلى أبد الآبدين.) ولكنَّ الفنان يستطيع أن يتعامل مع أعماله إلى أجلٍ غير مسمًّى، فيما عدا استثناءاتٍ نادرة، إلى أن يشعر أنه أجاد الأمر قدْرَ استطاعته. وما يقترحه نيتشه هو أن نُجْرِي تحليلًا دقيقًا لشخصيتنا، ونقيِّمها، على الرغم من أننا لا نعلم حتى هذه المرحلة معاييرَ التقييم — ما الذي يُحسَب كموطن قوة وما الذي يُحسَب كنقطة ضعف — ثم نضفي عليها تلك الوحدة التي تُسمَّى الأسلوب. إنَّ دمْجَ عناصر تكويننا في «عمل فني» يقدِّم بالأحرى إيحاءً بأننا أقل عرضةً للظروف الخارجية التي يمكن أن تحدث لأيِّ إنسان باستثناء الزاهِد الناسِك.
على الرغم من هذه الشكوك الأولية، ثمة شيء لافت في تلميح نيتشه. فهو يمهِّد الطريق لشكلٍ جديد من الكلاسيكية، حيث «ستكون الطبائع الأقوى والأكثر هيمنةً هي التي تتمتع بالسعادة السامية وسط هذه القيود والمثالية تحت مظلة قانونٍ خاصٍّ بها»، على عكس «الشخصيات الضعيفة التي لا سلطة لها على أنفسها والتي تكره قيود الأسلوب» (أي الرومانسيين). وعلى الرغم من أن نيتشه يبالغ في عرْض فكرة الأسلوب الفردي، فمن الواضح أنه يدعو إلى مفهوم الأسلوب الذي يُوجَد بمعزل عن الفرد. إذ إنه لو لم توجد معايير خارجية، فسيكون لكلِّ شخص أسلوبه الخاص ما دام مميزًا عن الآخرين. ويكفي الاستخدام المجرد لمفهوم الأسلوب ليجعلنا نفكر في أُطرٍ محددة يعمل في ظلِّها الأفراد، ويحققون الفردية بفضل الدعم الذي يقدمه هذا الإطار. ولعل أوضح مثال على هذا هو الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى، مثلما يظهر بدايةً من هايدن وصولًا إلى موتسارت وبيتهوفن، منتهيًا عند نقطةٍ ما غير مُحدَّدة. كانت قيود ذلك الأسلوب صارمة، ولكن لا يمكن للمرء أن يتخيَّل أنَّ أحدًا من هؤلاء المُلحِّنين الثلاثة يمكن أن يحقق النجاح دونها. لقد نجحوا في إثبات وجودهم؛ لأن عناصرَ كثيرةً قد توافرت لهم بالفعل. ويمكننا أن نرصد أبرزَ إنجازات هذا الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى في ظلِّ هذا الصراع بين الأسلوب الذي كان متاحًا لأيِّ شخص في ذلك الوقت — والذي يمكننا أن نراه يعمل على نحو مُرْضٍ تمامًا دون إنتاجِ أعمالٍ عبقرية على يد هامل، مثلًا، الذي يَدِين بنجاحه كلِّه للأسلوب الذي كان متاحًا له — وبين مجموعة السمات الفردية المُحدَّدة بدقة لدى أساتذة هذا الأسلوب العظماء.
لكن المَساق الكامل لتحليل نيتشه للثقافة يستمر، كان هذا حسب معايير ذلك الوقت، أما الآن فالوضع مختلف بعض الشيء. لم يعد يوجد أسلوب مشترك يمكن العمل به في ظلِّ الصراع الخلَّاق؛ لذلك علينا أن نجد أسلوبنا الخاص. من الواضح في مثل هذه الظروف أن مجرد فكرة الأسلوب مسهبة إلى أقصى درجة. وحقيقة أنه يقول: «سواء أكان هذا الذوق سليمًا أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، إنما يكفي أن يكون هناك ذوق!» توحي بأن المعايير التي يستخدمها هنا ليست فقط جمالية، ولكنها شكلية أيضًا. تحتل طبيعة العناصر المَرْتبة الثانية مقارنةً بتشكيلها. وقد يجعلنا هذا نتساءل، مجددًا، إذا كان ما تتكون منه العناصر مهمًّا في الأساس، وبالتأكيد ظنَّ نيتشه أن هذا مهمٌّ. ففي نهاية الجزء كتب يقول: «يلزم شيء وحيد؛ أن يتوصل المرء إلى أن يكون راضيًا عن نفسه، سواء أكان بالنوع كذا أم بالنوع كذا من الفن أو من الشعر، عندئذٍ يبدو الإنسان بمظهر محتمَل.» ولكن بلوغ الرضا عن النفس يمكن أن يكون في أحسن الحالات شرطًا ضروريًّا. وثمة أشخاص كُثر بلغوا الرضا وظلوا دون مظهر محتمَل؛ بل ولهذا السبب تحديدًا.
إن فقراتٍ مثل هذه تثير بالفعل التساؤل حول مدى إمكانية الضغط على نيتشه. فعلى الرغم من كلِّ ميوله نحو تطرفات التعبير ومبالغاته، فإنه ينجح بطريقةٍ ما في انتهاج اللباقة بألَّا يسلِّط الضوء على المواضع غير الملائمة. ولكن الخطر المقابل أننا نصفه بأنه «تحفيزيٌّ»؛ ما يعني أننا لا ننظر إلى ما يقوله بجديَّة. في هذه الحالة تحديدًا، قد يصبح من المناسب المخاطرة بقدر من عدم اللباقة؛ لأنها تحوي أفكارًا ما زالت في طور التشكيل وستكون محورية لعمله، لكنها ستكون أكثر روعة من وجوده هنا لدرجة أنه سيصبح من الأفضل رؤيته بأبعاده الإنسانية بدلًا من أبعاده فوق الإنسانية.
وهكذا، بينما نترك المسألة مفتوحة حول ما إن كان نيتشه يعطي للإنسان صاحب الأسلوب المميَّز تفويضًا مطلقًا في الموضوع المتعلق بعناصر شخصيته، يمكننا أن نتفق أنَّ أحد الأسباب التي تدفعنا إلى أن نقول إن امرأً يتسم بأسلوب مميَّزٍ هو قدرته على التعامل مع الأمور الصعبة بنجاحٍ، ودمْج تجارب متفاوتة ستكون بالنسبة إلى معظم الناس محرجة أو مهينة وجعلها جزءًا من خطة أكبر. ثمة لحظة مؤثرة وممتعة وبارزة في نهاية فيلم جان رينوار «قواعد اللُّعبة» الذي فيه — بعد حادثة إطلاقِ نارٍ صادمة يُقتَل فيها طيَّار خلال قضائه العطلة في بيتٍ ريفي — يتحدث المُضيف إلى الضيوف المجتمعين المذهولين بذوق رفيع وبكلمات مختارة بعناية فائقة لدرجة أن أحد الضيوف يقول للآخر: «لقد وصفها بالحادثة. تعريف جديد!» ولكنه يتعرض للتوبيخ: «إنه يتمتع بأسلوب راقٍ، وهذا شيء نادر هذه الأيام!» وهذا صحيح تمامًا. لقد حافظ الخطاب الراقي على اللباقة واللياقة، وأبقى ما يبدو بوضوح أنه مظهر متحضر عابر، وجعل الضيوف يتوجَّهون إلى أسرَّتهم بمِزاج رثائي بدلًا من المِزاج الانتقادي أو المجتزئ. وثمة موطن قوة في مثل هذه القدرة يتعلق بما يبدو أنه حُسْن التعبير، والقدرة على التأقلم مع ما يُعتبَر — بالنسبة إلى أيِّ شخص معقد — تجارب يمكن أن تؤدِّي إلى الانحلال، أو إلى كراهية النفس، على أقلِّ تقدير.
كيف يتسنَّى لنا أن نجعل الأشياء جميلة وجذابة ومرغوبة حين لا تكون كذلك؟ يبدو لي أنها في حدِّ ذاتها ليست كذلك على الإطلاق … الابتعاد عن الأشياء حتى يختفي كثير من تفاصيلها … هذا كلُّ ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين، إضافةً إلى أنه علينا أن نكون أكثر حكمةً منهم في أمور أخرى؛ لأن قوتهم الشديدة تتوقف عادةً حيث يتوقف الفن وتبدأ الحياة. أمَّا نحن، فنريد أن نكون شعراء حياتنا، في أتفه أمور حياتنا اليومية قبل كلِّ شيء.
بعبارة أخرى، أقل لباقة وذوقًا: لا تكنْ كثير الشك في نفسك بشأن فهمك التام للأمور. هذا حقيقي؛ فالأهم أن تجعلها مقبولة على الأقل، وجميلة على أحسن تقدير.
أظن أن ما يفكر فيه نيتشه هو أمرٌ أكثر غريزية ممَّا يبدو أنه يقترحه؛ بما أن عليه في النهاية أن يتفوَّه بما يريد منا بالفعل أن نعرفه وننفِّذه. إنه مأزق يجد نفسه واقعًا فيه مرارًا وتكرارًا؛ هل يجب أن يُرضِي نفسه بإبداء التلميحات، أم يجب أن يقول ما يرى أنه ضروري لنا أن نعرفه في صورةٍ سريعة الزوال؟ إنه يريدنا أن نكون ذلك النوع من الأشخاص الذين لا يحتاجون إلَّا إلى تلميحات لأننا شديدو الذكاء، ولكنه يعلم أننا سنُصِمُّ آذاننا عن أيِّ شيء لا يرقى إلى مصافِّ الكوارث؛ ثم نتهمه بإحداث كثير من الجلبة على أمرٍ تافه. خلال مرحلة كتاب «العِلم المَرِح» كان لا يزال يحاول استخدام صيغ رمزية وتحفيزية، تاركًا إيانا لعقْد الروابط بينها. ولم يكن قد أوجعه بعدُ الضجر الذي كثيرًا ما سيعاني منه زرادشت عندما يدرك أنه دائمًا ما سيُساء فهمه. وهو ليس متأكدًا، أيضًا، من كون المرء يستطيع فقط أن يعلِّم الناس الذوق لو كانوا جهلاء وحسب، أو من إمكانية إعادة تثقيف أولئك الذين تشكَّل الذوق لديهم بالفعل ولكنه ذوق فاسد. يُعتبَر كتاب «العِلم المَرِح»، في الأساس، كتاب رجل متفائل؛ فهو آخر الكتب التي كتبها نيتشه بضمير حيٍّ ووعي حاضر.
على أية حال، هذا هو الجانب الهادئ نسبيًّا لدى نيتشه، على عكس ما وصفه جي بي ستيرن على نحو مبرَّر «بالفاضل المُكدِّ»؛ لأنه لو ظهرت أية إشارة لمجهودٍ في شخصية أحدٍ — لو بدا أنه يستخدم جاذبيته وحنانه وهدوءه وتلقائيته مع نفسه — إذن فهذا فشل خطير في الأسلوب. لكن عند تحرُّرنا الشنيع من قيود التقاليد المرحَّب بها، وبالنظر إلى العدد الهائل من أساليب المعيشة التي «تبدو» متاحة لنا، والتي يُعتبَر كثير منها كذلك بالفعل، فليس من المحتمَل أن نستطيع تنظيم «الفوضى الموجودة في داخلنا» دون بعض إشاراتِ الجهد المرئية. حتى جوته، الذي كثيرًا ما يجسِّد فكرة نيتشه عن تنظيم الذات، لم يكن قادرًا على إخفاء المجهود الذي تكبَّده في سبيل ذلك. لقد كان، بالطبع، حالة مقيِّدة من الوحدة المفروضة على التنوع؛ تنوع الاهتمامات والدوافع التي قد تترك معظمنا عاجزين.
لقد كان ادِّعاء نيتشه بأن إكساب شخصية المرء أسلوبًا مميزًا هو «الشيء الوحيد الضروري» (عبارة ربما كانت تهدف إلى السخرية من فاجنر، الذي تشغل بالَ شخصياته الرئيسية حاجةٌ مُلحَّة)؛ يحمل في طياته سلوكًا غير متوقع فيما يتعلق بنقده للشفقة، أحد أشهر موضوعاته المُلحَّة، والتي أبقى عليها بانتظام. في أحد نصوصه النثرية الشديدة العبقرية، والذي للأسف يتعذر علينا اقتباسه هنا كاملًا نظرًا لطوله البالغ، فإنه ينظر بعين الاعتبار إلى «إرادة المعاناة وأولئك الذين يشعرون بالشفقة». وهو يسأل إن كان في صالح المشفِق أو المشفَق عليه أن يندمجا في هذه العلاقة، ويبيِّن في المناقشة الحساسة التي تعقب ذلك أنَّ بغضه للشفقة لا يمتُّ بصلة، بأيِّ حال من الأحوال الطبيعية، لتحجُّر القلب أو القسوة أو تبلُّد الإحساس. وبقدر ما يهمُّ الشخص المشفَق عليه، فإنه يشير إلى أن تنظيم حالاته الروحية أمرٌ حساس، وأن مَنْ يلاحظون أنه في محنة ومِن ثمَّ يهرولون إلى مساعدته «يتبنَّون دوْر القدَر»، وأنه لا يخطر على بالهم أبدًا أنَّ مَنْ يعاني قد يحتاج إلى معاناته، الممتزجة بفرحته، «كلا، ﻓ «دين الشفقة» (أو «القلب») يأمرهم بالنجدة، وهم يعتقدون أن أفضل مساعدة هي عندما تساعد في أسرع وقت!» («العِلم المَرِح»، ٣٣٨).
من الواضح أن نيتشه لا يتحدث عن تقديم الطعام والشراب إلى شخص يتضوَّر جوعًا، أو تخدير شخص على وشك الخضوع لعملية جراحية، بل هجومه مسلَّط على الشفقة باعتبارها شغل الإنسان الشاغل لتنظيم حياة الآخرين، وتجاهله النبيل — حسبما نفهم — لشئونه الخاصة. ومن ثَمَّ، فإنها لوقاحة (على الرغم من شيوعها) إساءة تفسير مقصده بأنه يحث على تجاهل احتياجات الآخرين الأساسية، مثلما توضِّح المناقشة التالية مباشرةً عن آثار الشفقة على المشفِق: «أعلم ذلك جيدًا، فثمة مائة طريقة شريفة وحميدة لتضليلي وإثنائي بعيدًا عن طريقي، وهي طرقٌ جدُّ «أخلاقية»! ويمضي رأي دعاة أخلاق الشفقة اليوم إلى حدِّ ادِّعاء أن هذا الأمر، ولا شيء غيره، سيكون أخلاقيًّا؛ أن يضل المرء طريقه على هذا النحو ويسارع إلى نجدة الآخرين» («العِلم المَرِح»، ٣٣٨). وهو يواصل التركيز بطلاقة على القسوة التي ينطوي عليها سير الإنسان في طريقه الخاص، وما يسببه ذلك غالبًا من الوحدة وغياب العِرفان بالجميل وانعدام الدفْء. ويختتم، ببراعة، بقوله: «أخلاقي تقول لي هذا: عِشْ منعزلًا حتى تعيش لنفسك.»
سيشعر العديد من الأشخاص أن الأخلاق التي تستحثهم على السير في طريقهم الخاص لا يمكن ببساطة انتهاجها؛ لسبب واضح وهو أنهم يفتقرون إلى وجود «طريقٍ» خاصٍّ بهم؛ فلديهم الكفاءات والاحتياجات والمخاوف والمشكلات، ولكن ما من شيء يمثِّل بالنسبة إليهم هدفًا فرديًّا. عندما اقترح نيتشه بأن يصبح كلُّ فرد مسئولًا عن تشكيل حياته، فإنه ربما يستعين برؤيته الملحَّة التي نتبنَّاها حاليًّا، أو كنَّا نتبنَّاها حتى وقت قريب، حول ما يشكِّل عملًا فنيًّا، مع احتلال الأصالة مكانة الصدارة بين سماته المرغوبة، أو حتى الضرورية. وهذا يبدو سخيفًا باعتباره أُمنية من أجل البشرية، فضلًا عن كونه وصية؛ حيث إنه يفترض سلفًا أن معظم الناس يتسمون فطريًّا بقدرٍ كبير من التفرُّد، وهو افتراض كان يجب أن يعطيه نيتشه الأولوية، لو كان مؤمنًا به بالفعل.
في واقع الأمر إنه يفكر، على أقل تقدير، في هؤلاء الأفراد الذين يستطيعون قراءته بتفهُّم، على الرغم من أنه لم يقل هذا على حد علمي. ولكن إذا لم يستطع المرء فعل ذلك، فإن فرص شحذ الطاقات المطلوبة لكي «يتبع المرء طريقه الخاص» ستكون بلا قيمة. ويقلِّص هذا بالفعل عدد الأشخاص الذين يتحدث عنهم ليصبحوا نسبة محدودة للغاية من السكان. فماذا عن الباقين؟ كيف يُدين منتهجي سياسة القطيع وهم لا يملكون القدرة على أن يصبحوا أيَّ شيء آخر؟ ولكنه لا يُدينهم، وإنما هو فقط غير مهتمٍّ بهم. ويثير هذا مسألة سياساته، أو غيابها، التي تؤدي إلى مزيد من الرياء وسط مفسِّريه مقارنةً بأية سمة أخرى في فكره. سأتناول هذا لاحقًا. ولكن ماذا عمن يستطيعون قراءته بتفهُّم ولكنهم مع هذا ما زالوا يشعرون بأنه ما من طريق خاص بهم؟ هل يرى نيتشه أنهم يخدعون أنفسهم لكي يريحوا بالهم، أم أنهم محقون؟ لو كانت الحالة الأولى هي الصواب، فيبدو أنه أمام نفسه يقيِّم إمكانات الأشخاص على نحو مذهل. ولو كانت الحالة الثانية هي الصواب، فإن ما يقوله إذن بشأن إكساب حياة المرء أسلوبًا مميزًا غير مهمٍّ، وقد يتساءل المرء عما يجب أن يفعله بنفسه الآن، وهو ذلك الموهوب والذكي والمثقف والحساس والمتفتح الذي لا ينزع إلى الشهرة؛ لأنه على الرغم من مواهبه فإنه سلبي. أم ما من أشخاص سلبيين؟ مزيدٌ من الأسئلة نستكشف إجاباتها لاحقًا.
ليس من الواضح بالنسبة إليَّ إن كان الشخص الشرير على نحو دائم وغير قابل للإصلاح يمتلك بالفعل شخصية أم لا؛ فتلك السمة التي يصفها أرسطو بأنها «بهيمية» ربما ليست كذلك. وبصورة ما، فثمة ما يستحق الثناء ضمنيًّا في الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز، وتَحُول الحالات المتطرفة لمرتكبي الرذيلة دون الثناء عليها، حتى ولو بحسِّ نيتشه الشكلي.
هذا أمر مُحيِّر؛ الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها نيهاماس إثبات ادعائه ستكون من خلال الاشتراط اللُّغوي الصريح، الذي أتت منه هذه الفقرة.
ليس من الضروري التملُّص بهذه الطريقة بالنيابة عن نيتشه. فكما قلت، ما يقترحه في «العِلم المَرِح» يجب تبنِّيه باعتباره خطوات تمهيدية نحو هدفٍ لم يكن واثقًا منه بعد. وهو يفتخر بنفسه بفضل هذه التحفة الفنية، فالقسمان الأخيران من الكتاب الرابع، اللذان يمثلان نهاية الطبعة الأولى من «العِلم المَرِح»، مُحمَّلان بأفكار الكتاب الذي راهن على نجاحه. يطرح القسم قبل الأخير «الوزن الأثقل»، فكرة التكرار الأبدي، باعتبارها فكرة مرعبة لا يحتملها أيُّ شخص، باستثناء القوي. ولكن سيسعد بها أولئك الذين يتسمون بالقوة، ثم نجد القسم الأخير، «مستهل التراجيديا»، منقولًا حرفيًّا من افتتاحية «هكذا تحدَّث زرادشت»، باعتباره مقتطفًا من هذا العمل يتسم بالغموض، باستثناء ما يتعلق بهذه القدرة. ويجب أن يسلِّم المرء بأن الكتاب يُعتبَر الأقل وحدةً بين مجهودات نيتشه المعقدة طوال حياته.