اعتلاء الأراضي المرتفعة
أُلِّف كتاب «هكذا تحدث زرادشت» في أعقاب التجربة الوحيدة الأكثر تدميرًا في حياة نيتشه؛ وهي رفض لو سالومي إياه، بعد أن تقدَّم للزواج بها من خلال صديقه بول ري؛ ليكتشف بعد ذلك أنهما كانا قريبين أحدهما إلى الآخر مما كانا منه. كانت لو سالومي امرأة موهوبة للغاية، وقد أصبحت عشيقة ريلكه قبل أن تصبح لاحقًا واحدة من أهم مريدي فرويد، الذي يُعبِّر لها عن تقديره بعبارات ثرية غير معتادة لاكتشافاتها في مجال الإثارة الشرجية. تصوَّر نيتشه باقتضابٍ علاقة يستطيع في إطارها مواصلة عمله، علاقة تفهمه وتساعده فيها امرأةٌ يستطيع أن يعتبرها ندًّا له. وثمة صورة فوتوغرافية غريبة، التُقِطت بإصرار منه، يظهر فيها مع ري وهما يجرَّان عربة، بينما تقف لو داخلها تلوِّح بسوطها تجاههما. تقدِّم هذه الصورة تشويهًا غير متوقع — بغض النظر أكانت هذه العلاقة قد خطرت لنيتشه أم لا — لتلك الملاحظة الشهيرة الواردة في «هكذا تحدث زرادشت»، عندما تقول امرأة عجوز لزرادشت: «هل أنت ذاهب إلى امرأة؟ إذن لا تنسَ سوطك!»
هذه «اللقمة» الأخيرة في الحياة كانت أصعب ما اضطُررت إلى مضغه حتى الآن، وما زال من المحتمَل أن «أختنق» بها. لقد عانيت من الذكريات المُهينة والمُوجِعة في هذا الصيف كالمعاناة من نوبة جنون، وما أشرت إليه في بازل وفي خطابي الأخير أخفى أهمَّ شيء. وهو ينطوي على صراع بين عاطفتين متعارضتين لا أستطيع التأقلم معهما. أقصد من هذا أنني أبذل كلَّ جهدٍ لديَّ، ولكني كنت أعيش في عزلة لمدة طويلة وتغذَّيت طويلًا على «دهوني»، ولهذا أنا الآن محطَّم، على نحو لا يطيقه إنسان، على عجلات عواطفي الخاصة … ولو لم أكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد إلى ذهب، لضعت. إنني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات أنه بالنسبة إليَّ فإن «جميع التجارب مفيدة، وجميع الأيام مقدسة، وجميع الأشخاص رائعون!»
وبناءً على هذا بدأ كتابة «هكذا تحدث زرادشت»، وساهمت آلامه بلا شكٍّ في تلك الحالة المتضخِّمة التي جعلت من الصعب أحيانًا تحمُّل الكتاب. ولكن بالنظر إلى خيبة أمله ووحدته، كُلِّلَ مجهوده في أداء الخدعة الكيميائية بالنجاح المثير للإعجاب. وربما كانت عذاباته مسئولة أيضًا عن النبرة غير الحاسمة التي طغت على جزء كبير من كتاب «هكذا تحدث زرادشت»، والتي لم أُلقِ إليها بالًا خلال معرض ملاحظاتي عنه. ولكن زرادشت عُرضة للكآبات والانهيارات والغيبوبة والشعور المُعرقِل من عدم الثقة بالنفس، وكلُّها سمات تجعل التماثُل بينه وبين مؤلفه أمرًا لا مردَّ له.
تشير التوصيفات التي أطلقها نيتشه على كتابه «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره أهم كتاب على الإطلاق قُدِّم للبشرية حتى وقته، إلى أنه على الرغم من أنه ينتهج الأسلوب الانتقادي في تقديم النصيحة إلى مريديه لكي يطبقوها، فإن نقد الذات لم يرد في كلامه، على الأقل وقتذاك. والأكثر إزعاجًا من هذا أنَّ نشْر الأجزاء الثلاثة الأولى لم يكن حدثًا كبيرًا في الحياة الثقافية بأوروبا، وأن الجزء الرابع صدر على نفقة نيتشه الخاصة عام ١٨٨٥. وهذا يبيِّن إلى أيِّ مدًى كان نيتشه أبعد ما يكون عن التوصُّل إلى فهمٍ دقيق لحالة معاصريه للدرجة التي كان ينبغي أن تسترعي انتباهه على أقل تقدير. لو كانت كتبه السابقة قد شهدت انهيارًا سريعًا مدوِّيًا، فماذا كان عساه أن يحدث لعملٍ كان أكثر إبداعًا من ناحية وأكثر قِدَمًا من ناحية أخرى مقارنةً بأيِّ شيء أنتجه «فيلسوف» من بعد أفلوطين؟ ما يبدو غريبًا هو أن كتابات نيتشه ظلَّت مستمرة، ولكن غالبًا بنفس الحالة التي أحدثتها كتبه التي سبقت كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وقد أصرَّ على أن كلَّ الأعمال التي كتبها بعد «هكذا تحدث زرادشت» كانت تفسيرًا له وتعليقًا عليه، ولكن يبدو أن هذه كانت محاولة لطمأنة الذات بدلًا من تقييمٍ صادق لطبيعة هذه الأعمال أو جودتها. فمن جانب، لم يأتِ على ذكر الإنسان الأسمى مجددًا، كما أنه نادرًا ما يتحدث عن التكرار الأبدي، أما إرادة القوة فتظهر من وقت إلى آخر. ومن جانب آخر، فإن التطور الحادث منذ صدور أول كتاب له بعد زرادشت، ونقصد «ما وراء الخير والشر»، مرورًا برائعته «أصل الأخلاق وفصلها»، ووصولًا إلى منشوراته المتدفقة خلال العام الأخير، لم يكن له علاقة من قريب أو من بعيد بأيِّ شيء مذكور أو مشار إليه في «هكذا تحدث زرادشت».
إنَّ ما يدهشني بالأحرى هو أن نيتشه بتأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت» قد عبَّر عن الكثير ممَّا بداخله دفعةً واحدة، وهذا من حسن الحظ. وعلى الرغم مما قد يبدو من صعوبةٍ في تبرير المحاكاة الساخرة الصادقة والغريبة لنيتشه التي شكَّلت مواضع الإعجاب التي أشرت إليها في الفصل الأول، فإنها استُلهِمت كلُّها من هذا الكتاب ولم يكن ممكنًا أن تُستلهَم من الكتب الأخرى، حيث تمنع نَبْرتا التهكم والتردد اللتان تستمران حتى النهاية وسط حسِّ القسوة والشجب، احتماليةَ ظهور معتقدٍ ما. تتطلب جميع كتب نيتشه انتباهًا كاملًا، ولكن للاستفادة من «هكذا تحدث زرادشت» يحتاج المرء إلى أن يتحلَّى بالمرونة واليقظة، وهو ما لن يقدر عليه سوى قِلة من القُراء من بعد ما التقوا به من تصريحات مدوِّية في الصفحات الأولى. ولولا النبي الذي ابتكره نيتشه، لما أُتيحَت الفرصة لشقيقته إليزابيث لإلباسه رداءً أبيض لعرضه على السيَّاح بصفته «النبي الممجَّد»، بعد أن بلغ حالة متقدمة من الجنون، ولما استطاع أيضًا صديقه بيتر جاست أن يقول، بينما كان يُوارى جثمان نيتشه تحت الثرى: «لِيتقدَّس اسمك لدى جميع أجيال المستقبل!» عندما كتب نيتشه في الفصل الأخير من كتاب «هذا هو الإنسان»: «يتملكني خوف فظيع من أن تُنسَب إليَّ في يوم من الأيام صفة «القداسة»، وبإمكان المرء أن يخمِّن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب «قبل أن يحصل ذلك الأمر» … لا أريد أن أكون قديسًا، بل أُفضِّل أن أكون مُهرِّجًا» («هذا هو الإنسان»، «لمَ أنا قدر»، ١).
لقد تعمَّد أن يعطي كتابه الأول بعد «هكذا تحدث زرادشت» عنوانًا مُضلِّلًا: «ما وراء الخير والشر»، وأيًّا كان ما قد يقال من جانب نيتشه أو مفسِّريه، فإنه يوحي بإعادة تقييم «جميع» القيم، ولا يشير فقط إلى إنسانٍ يستعد لإحلال قيمٍ جديدة محلَّ القيم التي نعتنقها حاليًّا، على الرغم من تطرف هذا القول. هذا الكتاب هو ما يقدِّم الحجة المزعومة (الغائبة، إن قرأه المرء بعناية) بأن نيتشه كان مصمِّمًا على التخلص من القيم الموجودة في العالم. فلا توجد قيمة يمكن اكتشافها في هذا العالم، ولهذا السبب يجب إكسابه قيمة. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ لطالما فعلنا ذلك، حسبما يصرُّ نيتشه، ولكن حتى الآن ليس هذا ما نعتقد أننا كنا نفعله. ويجب إدارة الانتقال من تصوُّرنا بأننا اكتشفنا في الواقع ما نصنعه، إلى الإدراك التام بأن هذا ما نفعله، بأقصى درجات الحذر والذكاء لكي نتجنَّب السقوط السريع في متاهة العَدَمِية.
صُممَت اتجاهات الفكر الأولية في «ما وراء الخير والشر» بذكاء من أجل بلوغ أقصى درجات عدم الارتياح تجاه موقفنا مما نعتبره قيمتنا الجوهرية، ألا وهو: الحق. إذا استطاع نيتشه أن يجعلنا نشاركه بعضًا من شكوكه حول مصير إرادة الحق لدينا، فسنكون طوع بنانه ننفِّذ مشيئته دون سؤال؛ لأنه ما من شيء آخر رئيسي يمكننا الاحتكام إليه. إنه أسلوب معتاد لديه في الانتقال من الحق إلى إرادة الحق، أو تفسير علاقاتنا بالعالم من وجهة النظر النفسية. وهو يصوغ الأمر في صورة لغز؛ إذ يعترف بقوله إنه من الصعب التمييز بين أوديب وسفينكس هنا. «لقد سألنا بدلًا من ذلك عن «قيمة» هذه الإرادة. افترض أننا نريد الحق: «لماذا لا نريد بدلًا منه» الباطل؟ وعدم اليقين؟ وحتى الجهل؟»
لا يبدو هذا شديد الغرابة فقط بسبب التعلق بمجموعة قيم راسخة على مدار آلاف السنوات؛ إذ إن مجرد فكرة الرغبة في الباطل، أي معرفة أن المرء يرغب فيه، تتسم بالحماقة. من المقبول للغاية أن نقول: إن المرء يريد أن يبقى جاهلًا بأمرٍ ما، أو غيرَ مهتمٍّ بما قد تكون عليه صورة الحق فيه، فكثيرًا ما نفعل ذلك. ولكن القول أو الادعاء بأن المرء يريد الباطل بشأن أمرٍ ما يحمل في طيَّاته تناقضًا منطقيًّا. إنه لشأن يختلف إلى حدٍّ ما عن الرضا الخانع بغياب الصرامة التي يبحث بها المرء عن الحق، كما هو حال الجميع تقريبًا فيما يتعلق بالأمور المهمة كافة. كما أنه يختلف عن الرغبة في تصديق ما هو زائف في الواقع، على الرغم من أننا لا نعلم ذلك. فلا غرابة في قول: «العديد من معتقداتي زائف»، وهو ما سيتفق معه أي شخص عاقل. ولكن، ثمة غرابة أخرى في قول: «العديد من معتقداتي زائف، بما في ذلك الآتي: …» ثم يسرد قائمة؛ ذلك لأن المرء حين يقول إن شيئًا زائف، فإنما يعني أن يقول إنه لا يؤمن به.
سأُسهب في الحديث عن هذه النقطة؛ لأنه يبدو بالفعل أن نيتشه يقترح أننا نستطيع التحقيق في مسألة لماذا نملك إرادة الحق، أي: إرادة الموافقة على قضايا قد تأكَّدنا من حقيقتها، أو نعتقد أننا فعلنا ذلك. لو كان يعني هذا بالفعل، فقد التبس عليه الأمر. ولو افترضنا أنه لم يكن يعنيه، فماذا كان يعني؟ إنه يواصل (بدهاءٍ مميَّز) تغيير الموضوع بمعدلٍ قد يفقدنا تركيزنا، لو لم نحترس، تجاه ما يتناوله. ومن ثمَّ، فإنه ينتقل في الجزء الثاني إلى نطاق أوسع من الموضوعات، التي أكثرها بحثًا هو «الإيمان بقيمٍ نقيضة» لدى الميتافيزيقي. وهو يشير بذكاء إلى أن الميتافيزيقيين، الذين كان يهاجمهم منذ انفصاله هو نفسه عنهم في «مولد المأساة»، على الرغم من أنهم يميلون إلى الادعاء بأنهم يشكون في احتمالية كلِّ شيء، لا يحققون في احتمالية اشتقاق الشيء من نقيضه. وبما أنهم، على سبيل المثال، ينكرون أن حبَّ الغير يمكن أن ينبع من حبِّ الذات، ونقاء القلب من الشهوة، والحق من الباطل، فإنهم يضعون فرضية «حضن الكون، اللافاني، الإله المخفي، «الشيء في ذاته»»، إذ ما من شيء أقل قوة سيكون كافيًا ليكون مصدر قيمنا. بعبارة أخرى، فإن تلك القيم التي لم يستخدمها نيتشه هنا، ولكنه استخدمها كثيرًا في مواضع أخرى، ترجع في الأصل إلى أفلاطون. فهناك الزيف، والقبح، والشر (الشهوة) في الدنيا، ومن ثمَّ لا بد أن تنبع نقائضها مما فوق الدنيوي.
فيما إذا كانت ثمة أضداد على الإطلاق، وثانيًا فيما إذا كانت تلك التقييمات وأضداد القيم الرائجة التي طبع عليها الميتافيزيقيون بخاتمهم، ربما ليست مجرد تخمينات سطحية، بل مجرد منظورات مؤقتة … منظورات أشبه بمنظور الضفدعة المحدود إن صحَّ هذا التعبير المستعار من الرسَّامين الذين درجوا على استعماله. ومع الإقرار بكل القيمة التي قد يستحقها الحقيقي والحقَّاني والإيثاري، فإنه سيظل من الممكن في نظر كلِّ حياة أن نضفي قيمة أعلى وأكثر جوهريةً على التظاهر وإرادة الخداع والمصلحة الذاتية والشهوة، بل من الممكن كذلك أن يكون قوام ما يجسِّد قيمة تلك الأشياء الخيِّرة والمحترمة هو أنها قريبة ومقترنة ومتجانسة على نحو ماكر مع تلك الأشياء الرديئة والمضادَّة لها ظاهريًّا، أو هو أنها مماثلة لها ربما. ربما!
إن خطأَ حُكمٍ ما لا يشكِّل عندنا بالضرورة مَأْخذًا على الحكم. ولعل هذا من الأمور الأغرب وقعًا على السمع في لغتنا الجديدة. فالمسألة هي بالأحرى إلى أيِّ مدًى يكون الحكم منمِّيًا للحياة، ومحافظًا على الحياة، ومحافظًا على النوع، بل وربما محسِّنًا للنوع؟ … فأن نُقرَّ باللاحقيقة شرطًا للحياة يعني بالطبع أن نبدي وبصورة خطيرة مقاومةً ضدَّ ما اعتدنا عليه من مشاعر قيميَّة. والفلسفة التي تجازف بهذا، تطرح نفسها — بهذا وحده — فيما وراء الخير والشر.
تطرح مثل هذه الفلسفة نفسها فيما وراء الخير والشر بقوةِ نكرانها للأسس التي نبني عليها أحكامنا القيميَّة. كما أنها — أعتقد كجزء من نيَّة نيتشه للتلميح — تجعلنا علماء أنثروبولوجيا في نظرتنا إلى المشهد الإنساني بأكمله، كي نكون فيما وراء الخير والشر بالصورة ذاتها التي يكون فيها علماء الأنثروبولوجيا المختصون بدراسة القبائل البدائية «فيما وراء» مفاهيم القبائل التي يدرسونها. ولكن هذا يرفعنا في الواقع إلى مكانة أعلى شأنًا، نحن الفلاسفة الجدد، حسبما يصنِّفنا نيتشه ويصنِّف نفسه في «ما وراء الخير والشر» من خلال العنوان الفرعي «مقدمة لفلسفة المستقبل». أيُّ شخص مهتم بعملٍ بعيد المنال للغاية مثلما كان نيتشه مهتمًّا منذ أن بدأ «أفكار حول تحيُّزات الأخلاق» في «الفجر» سيشعر بنفسه يشغل مكانًا أعلى وأعلى بينما يدرك أن كلَّ شيء يتعلق بالأخلاق متحيِّز، ولكن هذا يخلق بالفعل مشاكل خطيرة فيما يتعلق بكيفية بلوغ هذا المنظور السامي للغاية ثم الحفاظ عليه. يمثِّل نيتشه بصورة ما الوضع العكسي لما يُعرَف ﺑ «معضلة عالِم الأنثروبولوجيا». وهي تدور حول الكيفية التي يمكن بها للمرء فهم قبيلة لا يشاركها مفاهيمها؛ إذ يعني الفهم في جزءٍ منه الاستعداد لتطبيق نفس المفاهيم في نفس المواقف. وإذا كانت اعتراضات امرئ تتسم بنفس شمولية اعتراضاتنا على قبيلة تمارس الشعوذة، بناءً على مجموعة من الآراء حول العلاقة السببية بين المناهج والطقوس التي يؤدِّيها بعض أفراد القبيلة، والحالة الناتجة عن بعض الأفراد الآخرين، إذن فيبدو كما لو أننا بصورةٍ ما لا نستطيع فهم ما يجري، أو على الأقل هذا ما فكَّر فيه بعض علماء الأنثروبولوجيا والمُنظِّرين في هذا الموضوع.
بيْدَ أن نيتشه، في أثناء محاولته لاتخاذ موقف أنثروبولوجي تجاه مجتمعه والعادات الجوهرية في الثقافة الغربية، يواجه محنةً مختلفة ولكنها ربما تكون أشد إزعاجًا؛ إذ إنه أول من يصرُّ على عدم وجود ما يُعرَف بالذات الحقيقية التي تستطيع أن ترى العالم بنزاهة، غير متأثرة ببيئتها. وهو أشدُّ تلهُّفًا ليوضح أننا لسنا سوى دوافعنا وذكرياتنا والحالات والميول الأخرى التي يقودنا علم النحو (وما ينبع من علم النحو، والفلسفة، واللاهوت) إلى أن ننسبها إلى فاعل ما، والذي يتضح أنه أسطوري. وهذه الحالات العقلية يحددها المجتمع الذي ننشأ فيه، وصولًا إلى مرحلةٍ لا نستطيع فيها أن ننفصل عن ذواتنا لنلقي نظرة على ما يمكن أن نكون عليه لو استطعنا الانفصال عما يشكِّلنا. وبناءً عليه، ما الذي يمكِّنه من إلقاء نظرة بانورامية على الوضع الإنساني، بما يخوِّل له إصدار أحكام فيما وراء الخير والشر؟
إنه لا يجيب أبدًا عن هذا السؤال إجابةً مباشرة، على الرغم من أنه بالتأكيد على دراية به. ويكمن الحل الذي يطرحه، أو ما يهدف إلى أن يكون حلًّا فعليًّا، فيما أصبح خلال السنوات الأخيرة أحد أشهر آرائه، بفضل ملاءمته للتفكيكيين. فهو لا يؤمن بوجود حقائق دون تفسيراتها، على الرغم من أن أقوى ادِّعاءاته في هذا الشأن موجود في دفاتر ملاحظاته (التي طُبِعت في القسم ٤٨١ في «إرادة القوة»). وفي أعماله المنشورة، كان أوضح تصريحاته أن «ليس ثمة وجود «إلَّا» لرؤية من زاوية مُعيَّنة، «لمعرفة» من منظور معيَّن. وكلما كان لحالتنا العاطفية دورٌ حيال شيء ما، كان «المفهوم» الذي نكوِّنه عن هذا الشيء أكثر اكتمالًا، وكذلك «موضوعيتنا» تجاهه» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، ١٢). وعليه، فإن ما يُفسِّر وما يُفسَّر كلاهما في موقفٍ يختلف عما تنسبه إليهما نظريةٌ معرفية ساذجة. إننا ملزمون برؤية الأمور من وجهة نظرنا، ولذلك من المفيد تبنِّي أكبر عدد ممكن من وجهات النظر. ولن نبلغ أبدًا «الأمور نفسها»؛ وذلك بسببنا، وكذلك لأننا لا نملك سببًا للتفكير في أن هذه الأمور موجودة، بالمعنى الذي كان يُنسَب عادةً إلى هذه العبارة.
لم يَصُغْ نيتشه بالتفصيل قط نظريته المعرفية الخاصة، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى التفكير في أنه أراد ذلك تحديدًا. فكما هي عادته، ينصبُّ اهتمامه الرئيسي على الثقافة، وهو يقول ما يفعله بشأن وجهات النظر — ولكن ليس بما يكفي لتوفير شرحٍ غير جدليٍّ لمنظوره — لكي يؤكد أن معتقداتنا، ولا سيَّما فيما يخص القيم، ليست مجردة من المكان الذي نشغله في العالم. ولو حاول امرؤ أن يفرض منظوره أكثر من هذا، فسيبدو هذا مريبًا للغاية. وهذا بلا شك هو السبب وراء وفرة علامات التنصيص الموجودة حول كلمات مخادعة في الاقتباس عاليه المأخوذ من «أصل الأخلاق وفصلها». ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم، فإنه يوضح بطريقته الخاصة كيف يستطيع المرء أن يتبنَّى عدةَ مواقف تجاه مشكلةٍ محددة، دون أن يتمكَّن أبدًا من بلوغ حقيقتها؛ لأن هذا يعني افتراض أنه توجد حقائق في عالم القيم، ومن ثَمَّ — أيضًا — إعطاء مكانة مميزة للحقيقة التي يصرُّ على المجادلة بشأنها.
ولكن يبدو أن ثمة معيارًا واحدًا بالفعل يظهر لأول مرة في كتابه الأول ويستمر حتى نهاية أعماله، والذي يحكم به في نهاية المطاف على كلِّ شيء آخر؛ ألا وهو: الحياة. لقد رأيناه يقول في «ما وراء الخير والشر»: إن خطأَ حُكمٍ ما لا يشكِّل بالضرورة مَأْخذًا على الحكم، فالمسألة هي إلى أيِّ مدًى يكون الحكم منمِّيًا للحياة، ومحافظًا عليها. وفي نفس العام الذي كتب نيتشه فيه «ما وراء الخير والشر» كتب العديد من المقدمات المختلفة لبعضٍ من كتبه السابقة، من بينها كتاب «مولد المأساة»، الذي ذُكرت فيه «الحياة» مجددًا بوصفها مقياسًا لكلِّ شيء: إن «النظر إلى العلم بمنظور الفنان، وإلى الفن بمنظور الحياة» هو ما يقول عنه في «محاولة في نقد الذات» أنه «المهمة التي تجاسر هذا الكتاب الجريء على تناوُلها لأول مرة.» ولكن السؤال هنا هو: الحياة في مواجهة ماذا؟ هذا أمر لا يقدِّم له نيتشه أبدًا إجابة واضحة، ليس أكثر مما فعل فنانون وفلاسفة آخرون متميزون. إنه بالتأكيد غير مهتم ﺑ «حجم» الحياة. إنه في الواقع كان يُفضِّل قدرًا أقل، ومكانة أسمى. ولكن ما المكانة الأسمى للحياة؟ حسنًا، سيتخيَّل المرء الإنسان الأسمى. ولكننا رأينا أن المرء يجب أن يتخيَّل الكثير عن الإنسان الأسمى، ذلك الشيك المصدَّق عليه على بياض الذي يقدِّمه زرادشت دون أيِّ توجيهات حول كيفية صرفه لنستفيد منه. القوة؟ هذا بالتأكيد جزء مهم، بما أن الحياة هي إرادة القوة. ولكن ليست كلُّ القوة يوافق عليها نيتشه. فلا يمكن ذلك وإلَّا لوافق على كلِّ شيء. والقوة والحياة، في فلسفته، مصطلحان كثيرًا ما يقعان في نفس الإطار المفاهيمي لدرجة أنه بدلًا من أن يوضِّح أحدهما الآخر، يبدو أن كليهما في حاجة إلى بعض الشرح المنفصل.
اتسم جميع العظماء الذين دافعوا عن الحياة بوصفها معيارًا مطلقًا — ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر المسيح وبليك ونيتشه وشفايتزر ودي إتش لورانس — بالحماس البالغ في إدانتهم لقدرٍ كبير منها، لصالح صور أو تنويعات أخرى أكبر قيمة. وبطريقة ما، يفهم المرء ما يقصدونه جميعًا، على الرغم من أن البكتيريا لو استطاعت أن تتكلم لطالبت بلا شكٍّ بكلِّ حقها في الحياة مثل الكائنات الأكبر حجمًا التي كان شفايتزر يتخلص من البكتيريا لصالحها. وما اعتبره الأشخاص الخمسة الذين ذكرتهم أنه «متحيِّز للحياة» أو «منكِر للحياة» يتباين بدرجة كبيرة في العديد من النواحي. ومع ذلك، فلا يبدو أنهم يتشدقون ﺑ «كلام تافه» عند حديثهم لصالح الحياة، على الرغم من الغموض الذي يعتريهم والذي لا يفيد غالبًا في اتخاذ أيِّ قرارات. فما يقصده نيتشه غالبًا هو شيء أقرب إلى النشاط أو حتى الحيوية. ويتضح هذا على نحو متزايد في أحكامه عن الفن، حيث يكون المقياس، في كتاباته اللاحقة والأخيرة، ما إن كان الفن يعكس إفراطًا من جانب صانعه، أو ما إن كان ناتجًا عن الحاجة والحرمان. ونظرًا لأن فاجنر يُعَدُّ مثالًا للحالة الثانية، فإنه مدان، إذا تبنَّينا القضية الشائعة.
من ناحية، ثمة تنظيم عام يضمُّ كلًّا من الصحة والمرض، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع نيتشه أن يحرم نفسه من إحساس الرضا بعزف سيمفونية الهيمنة القوية على قوى المرض. ومسألة العلاقة بين هذه القوى مرتبطة أيضًا بمسألة هُويَّة نيتشه.
المقصود من ذلك أن نيتشه منجذب إلى نهج الإقرار العام، مثلما يبيِّن التكرار الأبدي، لو كان يبيِّن أيَّ شيء. ولكن حركة التأكيد يجابهها بقوة نفورٌ مستعصٍ من كلِّ ما يصادفه تقريبًا، ويقينًا وسط معاصريه. ويشبه هذا الصراع إلى حدٍّ ما الصراع المرتبط بالحياة: كل الحياة، أم فقط النوع الأقوى والأفضل والأنبل؟
إنه لمن المدهش أن نيتشه — بقدر ما أستطيع أن أتبيَّن — لم يلحظ قط هذا الانقسام الفِجَّ في عمله، خصوصًا من حيث إنه يجب أن يعكس أزماتٍ خاضها في محاولته للتأقلم مع حياته الشديدة الألم. ويمكن رؤيته أيضًا بوصفه تخمينًا من أبوللو وديونيسيوس في «مولد المأساة»؛ إذ يمثِّل أبوللو الحياة بطريقة مقبولة ومحتمَلة، من خلال إقصاء أعماق العالم السفلي، في حين لا يتجاهل ديونيسيوس شيئًا؛ مما يجبرنا على مواجهة الأهوال الجوهرية في الوجود. لو لم يجد نيتشه نفسه مضطرًّا، لأسباب كثيرة، إلى التخلي عن ميتافيزيقا الفنان في «مولد المأساة»، لأنشأ لنفسه نظامًا يحقق العدالة للدوافع المتضاربة الموجودة في تكوينه، بالإضافة إلى تفسيرٍ لسبب امتلاكه إياها.
ولكن لم يمرَّ وقت طويل قبل أن يصبح مفهوم «الأسوأ» — الذي يعنى به الأمور التي بالكاد نطيق أن نتحملها — له أهمية مختلفة إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى نيتشه مقارنةً بتلك الأهمية التي بشر بها في «مولد المأساة». فهذا المفهوم في ذلك الكتاب دراماتيكي، أو شيء متعلق في العادة بالمعاناة، وأحيانًا بالسعادة، على نطاق بُدائي. وإقراره أمر رائع مثلما هو مستحيل تقريبًا، إلا لدى التراجيديين العظماء. وهنا يكشف نيتشه على نحو سافر عن فجاجته وقِلَّة خبرته. ولكن بعد اكتساب الخبرات، بل الكثير من الخبرات في وقت قصير، اتضح أنه على الرغم من أن بعضها كان مروِّعًا إلى حدٍّ يمكن ملاحظاته، دون مبالغة كبيرة، برعاية ديونيسيوس؛ فإن الغالبية العظمى كانت من ذلك النوع الذي لم يكن مسموحًا به في «مولد المأساة»، والذي ترك نيتشه متحيِّرًا؛ فقد كانت عادية وصغيرة وليست أضخم من المعاناة الناتجة عن عدد كبير من لسعات الحشرات. واتضح أن أصعب ما يمكن مواجهته، على الأقل لو كنتَ مكان نيتشه، هو الابتذال، ذلك ما يُعتبَر إهانة موجَّهة إلى الآلهة المتمتعة بالحسِّ الفني لو نُسِب إلى أيٍّ منهم. ومن ثمَّ فهو عاجز عن وضع الصورة الفنية السائدة «بلا منازع» في القرن التاسع عشر، وأقصد الرواية الواقعية، ضمن أيِّ تصنيف فنِّي. كما يوجد، بالطبع، نقيض الرواية، وأقصد الموسيقى غير الغنائية، المزدهرة بطريقةٍ ما وعلى نطاق غير مسبوق في الثقافة الغربية. بيد أن الموسيقى قد لعبت دورها الحقيقي عندما كانت جزءًا من التراجيديا. الآن نجد انفصامًا مروِّعًا بين الدنيوي، الذي من الواضح أنه غير عرضة لأي صورة من التحول الفني، والموسيقى «الخالصة» التي لم تتلوث روعتها وبؤسها ﺑ «الواقع». وقد أدت محاولة دمجهما معًا إلى خداع فاجنر، وهو الأمر الأشد إيلامًا؛ لأنه الأكثر تضليلًا، في الظواهر المعاصرة. ولا يظهر أي شخص آخر في الأفق ليوحِّد ما كان يجب ألَّا ينفصل أبدًا. (يُعتبَر تصريح نيتشه في اللحظة الأخيرة عن عبقرية بيزيه في أوبرا «كارمن» سخيفًا، بالنظر إلى جديَّة الموقف. كان نيتشه بحاجة إلى عملٍ يَموج بالأهمية والدلالة، في حين أن «كارمن» — حسب ما يرى أدومو — ترفض بعناد نسبة معنًى إلى أيِّ حدث.)
أما هنالك في الأسفل فكلُّ قول عبث. وهنالك، خير حكمة هي النسيان وصرف النظر، «وهذا» ما تعلمته الآن. وإذا ما أراد أحدهم أن يفهم كلَّ شيء متعلق بالبشر، فإن عليه أن يتشبث بكل شيء، ولكنْ يدايَ الطاهرتان أنقى من أن تمتد إلى تلك الأشياء. لقد تملكني الاشمئزاز من رائحة أنفاسهم، فوا أسفاه على زمن طويل قَضَيْتُه بين صخَبِهم وأنفاسهم الكريهة!
ويواصل حديثه المروِّع عن الثرثرة الفارغة الحتمية التي صادفها أسفل الجبل. وكان هذا ردَّ فعل نيتشه المعتاد — وأنا متأكد من ذلك — تجاه البيئة الحضرية المحيطة به. ولكن إقصاء الحياة الإنسانية كلها تقريبًا كانت خطوة غريبة بالنسبة إلى المُقِر غير المؤهَّل. ويبدو أنه يحاول تجنُّب ما لمحه بوصفه تضاربًا في منظوره بالحديث عن «النسيان وصرف النظر»، تمامًا مثلما قال في مطلع الكتاب الرابع من «العِلم المَرِح»: «لِيكن إنكاري الوحيد هو «صرف النظر».» ولكن ماذا لو كان ما يجب أن تصرف نظرك عنه موجودًا في كلِّ مكان لدرجة أنك ستضطر إما أن تعيش في زنزانة أو أن تتخلَّى عن العالم وتصعد إلى كهفك الجبلي؟ يبيِّن هذا يأْسًا أشدَّ ضراوةً من الاختلاط بالتفاهات وشجبها. وعندما وردت هذه الفكرة في ذهن نيتشه، أو ما يشابهها، قرر بدلًا من ذلك أنه بطريقة أو بأخرى سيقرُّ كلَّ شيء ويقبله على علته. ومع ذلك، فلا شيء يسترعي الإعجاب في فلسفةٍ تقوم على إقراراتٍ لا نهائية والتي تبدأ بالحكم على معظم الأشياء بأنها أمور محظور الخوض فيها. هذا ما يدركه زرادشت عندما يقول: إن الاعتراض الأكبر على التكرار الأبدي هو فكرة أن الإنسان الضئيل سوف يتكرر. ويصوغ نيتشه هذا ببصمته الخاصة المحمَّلة بالسخرية اليائسة في كتاب «هذا هو الإنسان»، حيث كتب يقول: «أقرُّ بأن الاعتراض الجوهري على التكرار الأبدي، وهو فكرتي الأساسية في واقع الأمر، يتمثَّل دائمًا في أمي وأختي» («هذا هو الإنسان»، «لِمَ أنا على هذا القدر من الحكمة»، ٣، أخفت إليزابيث هذه الفقرة ولم تُنشَر إلَّا في ستينيات القرن العشرين).
توجد أيضًا مشكلة أخرى حول إقرار كلِّ شيء وقبوله على عِلَّته. فعلى الرغم من أن نيتشه كانت تجذبه صِيَغ مثل «حب القدر»، فقد كان أيضًا واعيًا بفتورها شبه الحتمي. إذ ليس ثمة فارق يسْهُل رصده بين الإقرار والاستسلام؛ أو بالأصح، يمكن للمرء أن يقول إن وسيلتهما مختلفة ولكن يصعب معرفة نتيجة ذلك على نحو عملي. هل هي مسألة اهتمام في مواجهة اللامبالاة؟ وهل هذا يكفي؟ إن إقرار الحياة وقبولها بكلِّ ثرائها، والذي يتضمن بوجه عام كلَّ فقرها، لا ينطوي — حسبما أرى — على عملِ أيِّ شيء محدَّد بالفعل. وإنما ينطوي في الغالب على تبنِّي موقف يرحِّب بأيِّ شيء يصادفه ويقبله. ولكن لو كان ما تجده بوفرة هو الضآلة والقذارة الروحية، فسيبدو أنه مطلوب من المُقِرِّ التدخل وتحسين إيقاع العالم. وهذا هو أساس التهمة في اعتراض أدورنو الذي عبَّر عنه باقتضابٍ لنيتشه (أدورنو، ١٩٧٤: ٩٧-٩٨). كما أن هذا هو ما يعتَمل في خلفية صفقةٍ عظيمة تضم نيتشه نفسه، لم يُعبِّر عنها بذكاء في عمل آخر سوى «ما وراء الخير والشر». ويعني هذا أنه مضطر إلى التحرك مرة أخرى، مدفوعًا بالتناقض المطروح في أحد الكتب ليتخذ قرارًا بشأنه في الكتاب التالي؛ وهي الحركة النمطية التي دفعته من عمل إلى آخر (راجع بيتر هيلر، ١٩٦٦). ولكن على الرغم من أن كتابه التالي هو الأعظم، فإنه يفشل في تخفيف وطأة الصراع، بسبب صراحة نيتشه العنيدة، بل وفي الواقع يزيد الأمر سوءًا، ويترك الكتب التي أُلِّفت في العام السابق (١٨٨٨) لتتأرجح بين اللعنات غير المسبوقة والتمجيد الجنوني.