مفهوم السادة والعبيد
وضع نيتشه عنوانًا فرعيًّا لكتاب «أصل الأخلاق وفصلها» باسم «مناظرة جدلية»، وفي الصفحة التالية أعلن أنه «تكملة لكتابي السابق، «ما وراء الخير والشر»، تهدف إلى الإضافة والتوضيح.» وهو يتخذ طابعًا مختلفًا عن أعماله الأخرى، على الأقل من الناحية الظاهرية، من حيث إنه يتكوَّن من ثلاثة مباحث مُعنوَنة، ومقسَّمة إلى أقسام طويلة إلى حدٍّ ما في بعض الأحيان. وهو يشبه المقال الأكاديمي، ولكن هدف نيتشه من هذا هو إثارة حفيظتنا. والأفضل النظر إليه بوصفه محاكاة ساخرة للإجراءات الأكاديمية، على الرغم من أنه عمل شديد الجديَّة، إذا نظرنا إلى محتواه. ويمكن تصنيفه بسهولة بوصفه أكثر النصوص التي ألَّفها نيتشه تعقيدًا، على الأقل فيما يتعلق بالمبحثينِ الأوَّلين، حيث يعرض تحولات جدلية بمعدلٍ ليس بوسعه إلَّا أن يمنع المبدع من السقوط في فخ الفوضوية.
جدير بالذكر أن فرويد، بعد أن سمع إدوارد هيتشمان يقرأ مقتبسات من «أصل الأخلاق وفصلها» عام ١٩٠٨، قال: إن نيتشه «يملك معرفة ثاقبة بذاته أكثر من أيِّ شخص آخر عاش أو سيعيش على الأرض» (جونز، ١٩٥٥: الجزء الثاني، ٣٨٥). وبما أن «أصل الأخلاق وفصلها» هي محاولة نيتشه الأعمق والأدوم لفهم المعاناة والكيفية التي يحاول بها الآخرون فهمها، فليس من المستغرب أن يتَّقد حماس فرويد تجاه هذا الإطراء الرائع، وهو الشخص الذي كرَّس حياته على نحو مختلف جذريًّا لنفس الهدف. وتُعتبَر التداخلات المذهلة في «أصل الأخلاق وفصلها»، التي تتجلَّى أحيانًا بتناقض صارخ، هي نتاج تفكير نيتشه الدائم في الأساليب المتنوعة التي ابتدعها الناس للتأقلم مع المعاناة. وبناءً عليه (إذا استبقنا أحد أساليبه في التفكير)، يفرض الزاهد نوعًا من المعاناة على نفسه لكي يهرب من العديد من الأنواع الأخرى. ولا يمكن الحكم على هذا الأمر في حدِّ ذاته. ولكنه عندما يبدأ في المبحث الثالث، بعنوان «ماذا تعني المُثل الزُّهْدِية؟» في فحص أنواع الزهد التي يمارسها الفنانون والفلاسفة والقساوسة وأتباعهم، تكثر التقييمات وتتداخل بحيث يوحي تعقيدها بأن نيتشه قد وصل إلى نقطة الدهاء، المتنكِّر غالبًا وراء قوة التعبير البسيطة، التي تثبت أن الظواهر لم تعد قابلة للترتيب المعقول.
ينتقل الكتاب ككلٍّ من بساطة التناقضات التي تدفع — من حيث الشكل والمضمون — إلى الشكِّ، إلى انهيار التصنيفات التي تحوم حول الغموض. تدور الفرضية الأوليَّة؛ «الطيب والخبيث»، في المبحث الأول بعنوان «الخير والشر»، حول «النبلاء»؛ أولئك المخوَّل لهم أن يصبحوا مشرِّعين للقيم بموجب وضعهم، والذين «اعتبروا أنفسهم طيبين وحكموا على أفعالهم بأنها طيبة؛ أي إنها أفعال من الدرجة الأولى، في مقابل كلِّ ما هو منحطٌّ ودنيء ومبتذل وسوقي. وهم إنما انتحلوا لأنفسهم هذا الحق في ابتداع القيم وصياغة أسماءٍ لها، من علياء ذاك «الشعور بالفوارق» بينهم وبين الآخرين؛ إذ ماذا كانت تهمهم المنفعة!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الأول، ٢). هنا يوضح نيتشه تمامًا قوةً أخرى تتسم بها عبارة «ما وراء الخير والشر»؛ إذ يُقال عنهم الآن: إنهم مندرجون تحت تصنيف العبيد، الذين ينظرون إلى أسيادهم بوصفهم أشرارًا، ويحددون «الطيب» بناءً على ما ليس فيهم. على النقيض من هذا، يُعرِّف النبلاء الأصليون أنفسهم أولًا، ثم ينعتون كلَّ ما يفتقر إلى صفاتهم ﺑ «الخبيث». من الواضح أن نيتشه يرى أن الإجراء الثاني أفضل من الأول، وهو بالضرورة ردُّ فعل ناتج عن الإنكار. وما يعيب هؤلاء النبلاء البُدائيين هو أن بساطة تعاملهم مع الحياة تجعلهم مُملِّين. فبما أنهم موفورو الصحة على نحو مُفسِد للأخلاق، وغير مبالين بالمعاناة، وغير مهتمين بإدانة أولئك الذين يناقضونهم، يصبحون مبتدعي قيم دون أن يتمتعوا بأيٍّ من العناصر المطلوبة لجعل التقييمات أمرًا يستحق العناء.
وتقولون لي أيُّها الأصدقاء: إنه لا جدال في مسائل الذوق والألوان؟ لكن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان. وما الذوق إلا الموزون والميزان والوازِن، فويلٌ لكلِّ حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين!
إنها الأخلاق المسيحية نفسها. مفهوم الصدق الذي طُبِّق بصرامة أكثر فأكثر. إنها دقة الشعور المسيحي وقد شحذها الاعتراف وتسامت أخيرًا إلى وعيٍّ علمي، إلى وضوحٍ فكري بأيِّ ثمنٍ كان. إن النظر إلى الطبيعة بوصفها برهانًا على طيبة الإله وعنايته، وتأويل التاريخ من أجل مجد سببٍ مقدَّس بوصفه شهادة مستمرة على الغائية الأخلاقية للنظام الكوني … هذا كله يبدو أنه قد «ولَّى» من الآن فصاعدًا، هذا شيء «مناقض» للضمير …
جميع الأمور العظيمة تفْسُد من تلقاء نفسها بفعل ضربٍ من «الانتصار على الذات». هذه سُنَّة الحياة؛ سُنَّة «الانتصار المحتوم على الذات» التي تنبع من جوهر الحياة. ولا بد أن ينتهي الحال دائمًا بالمشرِّع إلى أن يسمع يومًا هذا الحكم المبرَم: ينبغي عليك أن تخضع للقانون الذي اقترحته بنفسك. هكذا أسقطت المسيحية نفسها بوصفها عقيدة ثابتة تحت وطأة أخلاقياتها الخاصة. هكذا كان على المسيحية بأخلاقياتها أن تسعى إلى حتفها. وها نحن الآن على أعتاب هذا الحدث.
وتدور تعليقاته الأخيرة في هذا الكتاب حول سقوط الأخلاق التي سيطرت عليها المسيحية، مع اكتساب إرادة الحق وعيًا ذاتيًّا.
ملحوظة: يتحدث نيتشه هنا عن «جميع الأمور العظيمة» ثم يصف كيفية تدمير المسيحية لنفسها. يُعتبَر كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» أكثر كتب نيتشه اتزانًا، ليس بفضل رصانة أسلوبه — إذ لم يَعُد نيتشه مهتمًّا بذلك — وإنما بفضل كثرة استخدام التناقضات وإعطائها حقَّها، لكي يدير معركة، أو بالأحرى أكثر من معركة، يستمتع فيها بتسليح كلتا الجبهتين بأكبر قدرٍ ممكن وتكريس كلِّ المساعدة التي يستطيع تقديمها ليمكِّنهما من التعارك وصولًا إلى حلٍّ. وهذا يمكِّنه من الانغماس في التحيُّز المدروس في كتبه الأخيرة. يمثِّل كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» استرجاعًا مبدِعًا للماضي ونقطة مغادرة تنقله إلى مرحلته التالية، التي انقطعت فجأة.
هذا البُعد الاسترجاعي في الكتاب هو ما يُكسِب مبحثه الثالث «ماذا تعني المُثل الزُّهْدِية؟» بنيتَه الغريبة، مبتعدًا كثيرًا فيما يبدو عن الموضوعات التي كان يثيرها في السابق؛ إذ يُجري فيه نيتشه استطلاعًا حول ما تعنيه المُثل الزُّهْدِية بالنسبة إلى جماعاتٍ شتى من الأفراد ما داموا مهمين بالنسبة إليه، في ضوء معاناتهم التي جلبوها على أنفسهم. الحياة مروِّعة على أية حال، فلماذا نزيدها سوءًا بممارسة الزهد، تلك الزيادة الطوعية لما قد يتوقع المرء أن يتجنبه الناس؟ إن المعاناة الطارئة فقط، التي تحلُّ بنا دون تفسير، لا تُحتمَل. ولكن لو سبَّبناها لأنفسنا لأمكننا فهمها، وتوسيع فهمنا للحياة كلِّها.
الفنانون هم أول من يتم إمعان النظر بشأنهم. لكن سرعان ما يتحول هذا إلى تدبر لأمر فاجنر (وهو الأمر الذي لا يفاجئ نيتشه كثيرًا)، الذي نظر إليه نيتشه بوصفه اعتناقًا للعفَّة في سِنِّه المتقدمة. خلال ذلك يقول نيتشه: «من الأفضل أن يُفصَل الفنان عن نتاجه إلى درجة تجعل من المتعذَّر النظر إليه على محمل الجِدِّ بمثل ما يُنظَر إلى نتاجه … والحق أنه لو كان مجبولًا على هذا النحو، لما كان بوسعه أن يتصور ويتخيل ويعبِّر. فنان مثل هوميروس ما كان باستطاعته أن يبتدع «أَخِيل»، ولا كان باستطاعة جوته أن يبتدع «فاوست»، لو أن هوميروس كان أخيل أو جوته كان فاوست» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، ٤). الخلاصة هي أن الفنان يفتقر إلى الضمير، ويتبنَّى أيَّ موقف ينمِّي به عمله. وهو يستغل خبرته بهدف الإبداع، وهو ما قد لا يكون مرتبطًا ﺑ «الحق». «ما هو، إذن، ذلك المعنى الذي ينطوي عليه كلُّ تطلُّع للمثل الزُّهْدِية؟ بالنسبة إلى الفنان، كما نرى، لا يوجد أي معنًى!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، ٥). وبما أن نيتشه قد قال في مستهل حياته المهنية إن «الفن هو النشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة» ثم هجر الميتافيزيقا، فهو ليس ميَّالًا إلى التفكير بأن ثمة أية علاقة وطيدة بين الفن والواقع. وفي ملحوظة لاحقة كتب يقول: «أَنْ يقول الفيلسوف: إن «الطيب والجميل شيء واحد» لهو عمل شائن؛ وإذا واصل بإضافة «الحق أيضًا»، فعلى المرء أن يَجلِده. فالحق قبيح. ونحن نملك الفن خشية أن «نفنى بسبب الحق»» («إرادة القوة»، ٨٢٢). ومع هذا، فدائمًا ما يُنظَر إلى الفن بوصفه مثالًا للنشاط الإنساني. ومن ثَمَّ يبدو أن الفنانين — كتناقض آخر لم يتمَّ تناوله — شخصيات شكَّاكة بطبيعتها، في حين أن الفن هروبٌ من الحق يحافظ على الحياة، وكثيرًا ما يُطرَح — بالتأكيد من خلال فاجنر — بوصفه الحق. أيُّ فنان يحاول فقط أن يقدِّم تقريرًا عن الواقع هو مُدان على نحو صريح. وما عدا هذا النمط من الفنانين، فإن الباقين «كانوا في كلِّ زمان خَدمًا لفضيلة أو لفلسفة أو لديانة ما» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، ٥). وبقدر ما يمكن فهم المثل الزُّهْدِية، «دعونا نتخلص من الفنانين» (المصدر السابق).
ينتقل نيتشه بعد ذلك إلى الحديث عن الفلاسفة. لكي تكون فيلسوفًا فإنك تمارس الزهد لمصلحتك الخاصة. ولكن الزهد هنا لا يعني أكثر من كون المرء، في المقام الأول، عاقدَ العزم على هدفٍ واحد يستقطب كلَّ قواه ويحرم نفسه من مُتَعٍ عديدة من أجل هذا الهدف المنشود بكلِّ عزم، في حين أن «الإجبار» على الزهد هو نتيجة الخوف من احتمالية الاستمتاع بالحياة؛ لأن المرء لا يستحق هذا. فثمة زهد بالاختيار وزهد بالإجبار، وكلاهما ظاهرة منفصلة تمامًا. أولئك الذين يمارسونه بتوصية من القساوسة لا يمارسونه لتحقيق أيِّ خير يُعتبَر مطلبًا أساسيًّا له؛ وإنما لأن الإحساس بالذنب الذي غرسه القساوسة في نفوسهم يدفعهم إلى مضاعفة المعاناة التي يستحقونها؛ تلك القسوة الشنيعة التي تفسِّر لهم السبب في كون الحياة مؤلمة بتوجيه المزيد من الألم لهم؛ فهم مسئولون عن معاناتهم الخاصة.
الإنسان، الذي هو أشجع الحيوانات وأشدها تمرُّسًا بالشقاء، «لا» يرفض الشقاء بحدِّ ذاته؛ إنه «يريده»، بل هو يسعى إليه، شريطة أن يُكشَف له عن معنى هذا الشقاء وعن «سبب» لزومه. فاللعنة التي ناءت بكَلْكَلِها على البشرية هي خلوُّ الألم من المعنى، «لا» الألم بحدِّ ذاته؛ «والمثال الزُّهْدِي يعطي لهذا الألم معنًى!» وهذا المعنى ظلَّ حتى الآن المعنى الوحيد. يظل وجود المعنى أفضل من عدم وجود أيِّ معنًى على الإطلاق … لكنه قدَّم للإنسان فرصةً «للخلاص»، وأصبح للإنسان معنًى، لم يعد مثل ريشة في مهب الريح … أصبح بوسعه الآن أن «يريد» شيئًا ما، بعد أن كانت لا توجد أية أهمية لما يريد، إذ لماذا كان له أن يريد هذا الشيء بدلًا من ذاك؟ باسم ماذا، وكيف؟ أما الآن، «فقد أنقَذ الإرادة نفسها».
يستحيل على المرء أن يتجاهل طبيعة الإرادة ومعناها التي منحها المثال الزُّهْدِي توجُّهها؛ هذه الكراهية الموجَّهة نحو ما هو بشري، فضلًا عن الكراهية الموجَّهة نحو ما هو «حيواني»، وفضلًا أيضًا عن الكراهية الموجَّهة نحو ما هو «جماد». هذا الارتعاب الشديد من الحواس، بل حتى من العقل، هذا التخوُّف من السعادة ومن الجمال، هذه الرغبة في الهروب من كلِّ ما هو سفور وتغيُّر وتحوُّل وموت وتمنٍّ ورغبة؛ كل هذا يعني — ولْنتجرأ على استيعابه — «إرادة عَدَمية»، وموقفًا عدائيًّا تجاه الحياة، ورفضًا للتسليم بشروطها الأساسية. لكنها على الأقل «إرادة» ما! … وفي ختام حديثي أكرر ما سبق لي أن قلته في البداية: إن الإنسان يفضِّل أن تكون له «إرادة العَدَم» على «ألَّا» تكون له إرادة بالمرة.
بهذه الكلمات يختم نيتشه آخر كتبه الشديدة الابتكار التي ألَّفها على الإطلاق. ومن المثير للدهشة مدى البهجة فيه، على الرغم من عدم احتوائه على أية رسالة أملٍ تقريبًا. بيد أن التشخيص المطروح في هذه المرحلة يفاجئ المرء — على الرغم من وهميته — بوصفه منتصف الطريق نحو العلاج.