تعاطي الفلسفة قرعًا بالمطرقة
كان عام ١٨٨٨، وهو آخر السنوات التي تمتع فيها نيتشه بسلامة العقل، عامًا خصبًا للغاية، وإن كان على نحو متزايد الغرابة. لقد بدأ ما كان سيُعتبَر أهم كتبه، «إعادة تقييم جميع القيم»، ثم تركه، ليس بسبب تدهور قواه العقلية — مثلما قد يشك البعض — وإنما لأن نيتشه وجد نفسه في النهاية تائهًا. لا بدَّ وأن العبارات الشائعة حول عودة البراءة وميلاد الوعي الجديد وما شابهها قد بدت له جوفاء لعجزه عن تجسيدها في صورة فنية. وعليه، فقد كرَّس نفسه للمزيد من المجادلات التي كُتبت بأسلوب شديد الوضوح حتى هو نفسه لم يحققه من قبل. إنه لمن الخطأ تمامًا أن ندَّعي، مثل بعض المفسِّرين، أنه قد قلَّل من قدر ما كان يقوله باختزاله إلى شعارات.
ومع هذا، سُبِغَت هذه المجادلات مرارًا وتكرارًا بصبغة رثائية، وهو يُصفِّي الأجواء مع الأعلام التي شغلت باله طوال حياته. فثمة كتيِّبان عن فاجنر، الذي لم يستطع قط أن يتخلص من تأثيره عليه، سواء أكان على المستوى الشخصي أم الفني. اتَّسم أولهما، بعنوان «قضية فاجنر»، بالدهاء والسخرية، وكان تأثيره الإجمالي — حسبما أشار أذكى مفسِّريه، مثل توماس مان — ذا مسحة مديحية معكوسة على نحو غريب. ولكنَّ جانبًا كبيرًا من المديح لم يكن حتى معكوسًا. وعندما ألقى نيتشه نظرة عامة على مجمل خبرته الفنية ككلٍّ، فإنه يبدو أن هذا الكتيِّب في نهاية المطاف كان العمل الذي يهمه أكثر من غيره، مثلما كان الحال مع «تريستان وإيزولد» في «مولد المأساة». ومما لا شك فيه أنه لم يستطع قط كتابة أيِّ شيء أكثر بلاغة من وصف تأثيراته عليه، حتى ذلك الوقت. ويمكن بسهولة استغلال الهجوم على فاجنر بوصفه شخصًا فاسدًا، مصوِّرًا بأبعادٍ أسطورية شخصيات تنتمي لفلوبير، من أجل «مغالطة الشَّخْصنة»: «ففي تحول فاجنر إلى العظمة، لا يبدو أنه كان مهتمًّا بأية مشكلات باستثناء تلك التي تشغل الآن بال فاسدي باريس. إنه دائمًا على بُعد خمس خطوات من المستشفى. جميع المشكلات مشكلات عصرية تمامًا، و«عاصمية» للغاية. لا شك في هذا» («قضية فاجنر»، ٩). وبالنسبة إلى نيتشه؟ إنه بالتأكيد يدير الإجراءات داخل المستشفى.
المجادلة الثانية المناهِضة لفاجنر، في كتاب «نيتشه مقابل فاجنر»، هي مجموعة من الأقسام المأخوذة من كتبه السابقة، بدايةً من «إنسان مفرط في إنسانيته» ووصولًا إلى «ما وراء الخير والشر»، بتعديلاتٍ بسيطة. ويصفه فالتر كاوفمان وصفًا غريبًا بأنه «ربما يكون أجمل كتب نيتشه»، وليس منبع الاستغراب هنا أننا نقصد أنه لا يحتوي على فقرات جميلة، ولكنه عبارة عن مختارات أدبية أكثر منه عملًا منظَّمًا، كما أنه — على أية حال — يتكوَّن من عشرين صفحة فقط. وكغيره من الكتب، فهو جزء من نهج نيتشه في تحويل نفسه إلى أسطورة، والذي يمثِّل فيه نفسَه بوصفه «مُدانًا في نظر الألمان»، في وجود فاجنر باعتباره نقيضًا واضحًا لبقيتهم، إلى أن يصيبه هو أيضًا نفس المصير ﻓ «ينهار فجأة، عاجزًا ومنكسِرًا، أمام الصليب المسيحي» (نيتشه مقابل فاجنر، «كيف انفصلتُ عن فاجنر»، ١). وهو يصوِّر فاجنر بوصفه نقيضًا تامًّا له، وما كان يمكن أن يصبح عليه لو لم يتمتع بالقدرة على إدراك المخاطر الناجمة عن كونه رومانسيًّا تمامًا. تتسم كثافة التبصر بالموسيقى والدراما الموسيقية الفاجنرية وطبيعة عبقرية فاجنر ببراعة مدهشة، وجمْع هذه الفقرات معًا يضيف إلى هذا التأثير ويؤكِّده. ولكن الأهم من ذلك أنه شهادة على حب نيتشه الدائم للأشياء المحظورة.
يمكن الزعم بصحة هذا خصوصًا في «نقيض المسيح»، الذي — وسط مجادلاته الحادة والفعالة في الوقت نفسه — يصوِّر المسيح بوصفه «المرمِّز الكبير، من حيث إنه لم يكن يتقبل غير الوقائع «الباطنية» فقط بوصفها وقائع، أي «حقائق»، وأن كل ما عدا ذلك، أي كل ما هو طبيعي وزمني ومكاني وتاريخي، لا يُمثِّل في فهمه إلَّا رموزًا، ومناسبات للحكايات الرمزية» («نقيض المسيح»، ٣٤). وتبلغ هذه الفقرة، على امتدادها، قمة الغنائية الشاطحة التي تجعل المرء يتساءل كيف سيستطيع نيتشه أن يدقَّ طبول الانسحاب. وهو يحتال للأمر من خلال شنِّ هجوم على الفكر المسيحي كان كيركجارد ليفخر به، وهجوم آخر على القديس بولس الذي كان ينشقُّ عليه ويخالفه باقتناع شديد. إلَّا أن غضب نيتشه العارِم تجاه ما صنعه القساوسة بتعاليم المسيح بديعٌ في انفعاله، وفي تعبيره عن اشمئزازه من الفساد. وهو يصرِّح قائلًا: ««الممارسة» المسيحية؛ أي الحياة كما عاشها ذلك الذي مات فوق الصليب، هي وحدها التي يصحُّ أن نسميها مسيحية. واليوم أيضًا ما تزال مثل هذه الحياة ممكنة، بل وضرورية بالنسبة إلى نوع محدَّد من الناس؛ فالمسيحية الحقيقية، المسيحية الأصلية، ستظل أمرًا ممكنًا في كلِّ الأزمان» («نقيض المسيح»، ٣٩). ولكن ليس بالنسبة إلى الأرواح القوية؛ لأن الأمر يعتمد على الإيمان. «الإيمان يجعلنا سعداء؛ ومن ثمَّ فهو حقيقي» («نقيض المسيح»، ٥٠). يصدر هذا عن نيتشه المتزمِّت الأصيل، الرجل الذي يفكر في أن «إقحام أحاسيس المتعة في مجال السؤال عن «ما هو حقيقة» يمنحنا دليلًا معاكسًا تقريبًا، وفي كلِّ الأحوال ريبة متناهية، تجاه «الحقيقة»» («نقيض المسيح»، ٥٠). وقد يتفق المرء مع هذا، على الرغم من أن نيتشه يبدو أنه يؤجل تشكيكه في إرادة الحق. وفي جزء سابق من نفس الكتاب، في خضمِّ هجومٍ مدمِّر على أخلاقيات كانط، كتب يقول: «كلُّ عمل تفرضه غريزة الحياة يجد في المتعة دليلًا على كونه عملًا «صائبًا». غير أن ذلك العدمي كانط ذا الأحشاء الدوجماتية المسيحية قد رأى في المتعة «عيبًا». وأيُّ شيء يمكن أن يكون أسرع تدميرًا من العمل والتفكير والإحساس دون ضرورة داخلية، ودون اختيار شخصيٍّ عميق، ودون «متعة» كآلة أوتوماتيكية يحرِّكها «الواجب»؟» («نقيض المسيح»، ١١). على الرغم من عدم وجود تناقض صريح هنا، يوجد ذلك الصراع النمطي بين نيتشه المصمِّم على مواجهة كلِّ شيء دون إجفال، ونيتشه الساعي وراء اللذة بنهم شديد.
إنَّ أكثر أعماله حيوية وذكاءً وبهجة على الإطلاق هو كتابه «أفول الأصنام» الذي صدر عام ١٨٨٨، والذي يُعَد عنوانه محاكاة ساخرة لأوبرا فاجنر المشحونة بالهلاك «أفول الآلهة». وهو يعكس الحرية النابعة من الإتقان التام، على الرغم من أنه ألَّفه وهو على حافة الانهيار. كما أنه يحتوي على أطول أغنيات نيتشه وأكثرها حماسًا التي يوجهها إلى جوته، الذي أصبح شيئًا فشيئًا — بعد تخلي نيتشه عن الإنسان الأسمى — النموذج الأصلي ﻟ «الإنسان الأعلى»، وهو مفهوم له الكثير من الأمثلة التي تدلِّل عليه، في حين كان زرادشت مصمِّمًا على أنه «لم يوجد قط «إنسان أسمى».» ولكن على الرغم من أن كلَّ نموذج للإنسان الأسمى يتسم ببعض التحفظات المفروضة عليه، فإننا نستطيع أن نفهم على الأقل ما يحتفي به نيتشه. إذن فجوته «لم يكن يريد إلَّا «الكليَّة»، وقد كافح التفرقةَ الظاهرية المتبادلة بين العقل والحس والشعور والإرادة (التفرقة التي يُدعَى إليها ضمن سكولاستيكية مفزعة من جانب «كانط»، نقيض جوته)؛ وقد عوَّد نفسه على بلوغ التكامل، و«خلق» نفسه» (أفول الأصنام، «تسكعات رجل غير موافق للعصر»، ٤٩). ويكافئه نيتشه بأعلى درجات التقدير: «عقل «متحرر» مثل هذا يقف في حالة من التسليم البهيج الواثق في قلب الكون، «راسخ الإيمان» بأنه ما من شيء يمكن أن يكون منبوذًا غير الحالة المنعزلة، بينما في المجمل، كلُّ شيء يحظى بالقبول والخلاص — «لم يعد ينفي بعد الآن». لكنَّ إيمانًا من هذا النوع هو أرقى ما يمكن أن يوجد من الإيمان: لقد عمَّدته باسم «ديونيسيوس»» (المصدر السابق). ثمة انحرافات لافتة هنا؛ فنحن لم نسمع من نيتشه من قبل أن «ما من شيء يمكن أن يكون منبوذًا غير الحالة المنعزلة»؛ مما يجعلنا نتساءل عما يمكن أن نصنع بهذا. ولكننا سمعنا كثيرًا، وإن كان التأثير مختلفًا للغاية، عن ديونيسيوس الذي لم يغِب تمامًا عن مجمع آلهة نيتشه، ولكنه يعود الآن على نحو كبير في هذا العام الأخير. وكالعادة، فهو إله الإقرار غير المحدود. ولكن سياق إقراره قد تغيَّر، ومن ثَمَّ فإن نوع الإقرار المطلوب غير متشابه مع «مولد المأساة».
وهذا نيتشه يتحدث بجسارة عن مُتَع الجنَّة من موقع في جهنَّم، إذ يقول «لا» في هذا العام الأخير أكثر من أيِّ وقت مضى. وقد يقول المرء: حتى إن «إقرارته» مجرد نفي النفي، وهذه هي المأساة التي يخوضها. فإيمانه يتمحور — وإن كان من اللافت أن نجده يتحدث عن الإيمان أساسًا بنبرة إيجابية — حول إمكانية أن يكون المرء شخصًا ليس مضطرًّا إلى النفي والنكران منذ البداية. ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يكون هذا الشخص، وكلما حرَّك العجلة الجَدَلية، بمهارة بارعة ورائعة، ازداد ابتعادًا عن هذا المثل. إن ديونيسيوس الوحيد الذي نستطيع أن نشبِّهه به هو ذلك الممزَّق إلى قطع مُعذَّبة لا حصر لها.