السائر إلى الله
قال أبو العباس: العارف لا دنيا له، لأن دنياه لآخرته، وآخرته لربِّه. وقال: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا، وقال: الزاهد غريب في الدنيا؛ لأن الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة؛ فإنه عند الله. وقال: معرفة الوليِّ أصعب من معرفة الله، فإن الله معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقًا مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وإذا أراد الله أن يعرِّفك بوليٍّ من أوليائه، طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيَّته. وقال: الوليُّ يكون مشحونًا بالمعارف والعلوم والحقائق، حتى إذا أعطى العبارة، كان ذلك كالإذن من الله في الكلام، كلام المأذون له يخرج من فمه، وعليه كسوةٌ وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذَن له يخرج مكسوف الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فتُتقبَّل من أحدهما، وتُردُّ على الآخر.
غالب تردُّده وهو يقترب من الباب الحديديِّ الضخم، فُتحت ضلفة واحدة على دنيا تشغي بالجلابيب والعمائم والأنوار المبهرة والخافتة والمذاكرة والمناقشات وروائح الطعام.
سأل أقرب الواقفين: أين أجد الطالب زكي تعلب؟
قال الطالب وهو يتأمل سيالته: من أيَّة مدينة؟
أظهر الحيرة: لا أعرف … لكنه في السنة الثانية.
أشار الطالب إلى حُجرة صغيرة على يمين المدخل: اسأل عم إبراهيم القسط حارس المبنى … إنه يعرف كل الطلبة.
جلسا إلى دروس الشيخ يوسف بدوي، عرف سحنته، ألِفها، توالت الدروس كل خميس بعد صلاة العشاء، تتجه الأسئلة إلى الشيخ، يردُّ بكلمات مقتضبة، أو بما يملأ مساحة الجلسة، ثم يدعوهم لتلاوة آيات القرآن، أو الأوراد، تلتصق الأكتاف، وإن انشغل الجميع بالمتابعة، فلا يجاوزوا ألفة السِّحَن، إلى التحدث والمعاشرة.
لمَّا قدَّم إلى الشيخ آخر ما نصحه بقراءته من كتب، قال الشيخ في ودٍّ: كتب الزاوية قليلة … فالجأ إلى أخيك زكي تعلب.
نظر إلى حيث أشار الشيخ، شابٌّ في حوالي العشرين، نحيل القامة، يرتدي جبَّةً حال لونها، فبدت بلا لون، استغنى عن العمامة، فظهر الصلع في مقدمة رأسه، يشوب عينيه آثار رمدٍ قديم، ويعاني تعثرًا في خطواته، شفته السفلى المتدلية من أوسطها، كأنها بزبوز إبريق، غادرا الجامع — عقب الصلاة — معًا، رحَّب زكي تعلب بإعارته ما عنده من الكتب، وما عند زملائه في المعهد الديني، قال: أنتظرك في أيِّ وقتٍ بعد العشاء.
هزَّ الحارس رأسه بما يعني عدم معرفة الاسم، أشار، فصعد السلالم العريضة، ذات الدرابزين الحديدي، إلى غرفٍ متلاصقة، تجاورت فيها الأَسِرَّة، في نهايتها ردهةٌ واسعة، تحلَّقت فيها مجموعاتٌ حول أدوار الشاي والمذاكرة والمناقشات.
لحق تردُّده في السؤال صوتٌ من آخر الرَّدهة: أهلًا!
الحُجرة متوسطة، على اليمين سريرٌ حديديٌّ صغير، فوقه مرتبة بلا غطاء، ومخدَّة يتوسطها آثار عرق، وعلى اليسار مرتبة احتلت الزاوية، تناثر فوقها كتبٌ وقِطعٌ من الخبز الجاف، بجوارها «سبت» مغطًّى بقطعة قماش ملونة، خمَّن الراكشي أن به خبزًا أو «قرص». في المنتصف طاولةٌ خشبيةٌ متآكلة، عليها كتبٌ وبرطمانات طعام وكيسٌ ورقيٌّ ملفوف، وعلَّق ملابسه على الحائط؛ جبَّة وكاكولا وقفطانًا وحزامًا عريضًا، ولصق الجدار المجاور للباب كرسيَّان من الخيزران.
قال زكي تعلب: تشرب شايًا؟
– سكر خفيف.
أشعل وابور الجاز ووضع عليه البرَّاد، لقَّمه ثلاثة أكواب ماء، وملعقتين من الشاي.
قال الراكشي: نحن اثنان فقط.
قال زكي تعلب: والفاقد؟
•••
قاده زكي تعلب إلى الحياة داخل المعهد؛ البوابة الضخمة — طالما مرَّ من أمامها — تخفي عالمًا فسيحًا من المشايخ الصغار، وتلاوة القرآن، والدروس في علوم الصرف والنحو والمعاني والتوحيد والتفسير والحديث والفقه، ورواتب الطعام اليومية؛ الفول النابت بعد صلاة الفجر، الفتة باللحم في الغداء، ربما أضيف إليها أنواعٌ أخرى من الخضر والفاكهة، وأكواب الشاي، وفناجين القهوة، وأطباق الحلوى، والنقل.
قال زكي تعلب لنظراته المتسائلة: المعهد يحيا على إيراد العقارات الموقوفة من تجار وأثرياء.
تسبح في المكان أصوات قرقعة الأواني في المطابخ، واندلاق الماء من الحنفيات، والنداءات، والقراءات، والدردشات الصاخبة، والهامسة، حتى يؤذن للفجر، يبتسم لتزاحم الطلبة على باب دورة المياه.
تعدَّدت زياراته للمعهد، ولقاءاته بزكي تعلب، ينصت إلى تلاوة الطلبة لسور القرآن، فُرادى في ليالي الأسبوع، ويشاركهم قراءاتها في ليلة الجمعة، عرَّفه زكي تعلب بآخرين صاروا — فيما بعد — أصدقاءه، أذهله أنهم لم يكونوا جميعًا من المؤمنين بما يدرسون، لاحظ زكي تعلب حيرته فيما يثيره الطلبة من قضايا الدين والسياسة، ومن السخط والرفض، قال في لهجة مشفقة: أنت الآن في مرحلة التزوُّد والمعرفة … فاكتفِ بالإنصات والاستيعاب.
وقال له بما ذكَّره بالشيخ يوسف بدوي: الترقِّي في العلوم والمعارف لا نهاية له.
واحتضنه بنظرة دافئة: ربما استغنى المرء عن هذا العلم أو ذاك، أمَّا التصوف فهو العلم الذي لا يستغني عنه أحدٌ أبدًا.
ثم في صوت مبطَّن بالود: العلوم ناقصة أو ساقطة ما لم يكملها التصوف ويحسِّنها.
وقال له وهو يدفع إليه بمجلدٍ هائل الحجم: لا تصوف إلَّا بفقه … فلن تعرف أحكام الله سبحانه إلَّا منه.
استطرد موضحًا: هذه هي الحِكَم العطائية، قال عنها شيخنا مولاي ابن عربي رضي الله عنه: إنها كادت أن تكون وحيًا … ولو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن، لجازت بكلامها!
قال علي الراكشي: قرأتها … استعرتها من المكتبة الحجازية.
قال زكي تعلب: إنها تحتاج إلى ما هو أكثر من قراءة الاستعارة، اقرأ كل يوم بضع فقرات … وتأمل المعاني.
لاحظ زكي تعلب تأمله المشفق للحُجرة، قال: إني أفيد من حفظ القرآن بتلاوته في البيوت.
رفَّت على شفتيه ابتسامة: وهل تجيد الأداء؟
ركب الاعتذار صوته: أقلِّد ما استطعت مصطفى إسماعيل أو الشعشاعي.
أردف بالنبرة المعتذرة: هذه مهنة مؤقتة، أمامي — بعد التخرج — إمامة المساجد أو التدريس أو القضاء الشرعي.
حدَّثه زكي تعلب عن بلدته الدلنجات، التابعة لمديرية البحيرة، تلقَّى تعليمه الأوليَّ في دمنهور، ثم انتقل إلى المعهد الديني بالورديان والمسافرخانة. اعتمد على نفسه منذ استقرَّ في الإسكندرية، لا يتردَّد على الدلنجات إلَّا يومًا أو يومين، في الإجازة الصيفية، وفي الأعياد.
مع أنه أكبر من تعلب بسنواتٍ كثيرة، فإنه كان يتعامل معه كأستاذ، يفيد من قراءاته وملاحظاته وتوجيهاته، يكتفي بتوجيه الأسئلة، ويعطي انتباهه لكل عبارة.
انقطع للتهجُّد، وذكر الله، وإقامة الصلاة، وقراءة الأوراد، وتلاوة القرآن، والاطلاع على ما يقدِّمه له الشيخ يوسف بدوي — ثم زكي تعلب فيما بعد — من كتب التصوف والعلوم الدينية، والتأمل في ملكوت الله. اختار المجاهدة، ورياضة النفس ومراقبتها ومخالفتها، سعيًا للخلاص والنجاة والوصول، عانى قلَّة الزاد وطول السفر، وشدَّة الأهوال، وعِظَم العقوبات، ربما مضى عليه الليل وهو يقرأ الوِرد الذي اختاره، لا تدخل عليه زوجته ولا الأولاد، ينعزل تمامًا عن كل ما حوله، يتنبَّه لأهازيج السَّحَر؛ تسابيح المنشدين والمؤذِّنين قبل أذان الفجر، يذهب للصلاة بوضوء العشاء، تعلَّم آداب الذِّكر؛ ما يسبقه ويصحبه ويلحقه، التوبة، والتطهر، والصلاة، وطريقة الجلوس، والجو المحيط، وحالة القلب والخاطر، واختيار صيغة الذِّكر، والتهيؤ لاستقبال الوارد، مع العزوف عنه، وشرب الماء البارد، وطريقة الاهتزاز أثناء الذِّكر، والناحية التي يتجه إليها برأسه وأعلى جسمه عند نطق كل كلمة. اعتاد مشاهد الصعق والوجد والبكاء والنحيب وإلقاء العمائم ونزع الثياب والزحام.
سأل زكي تعلب: لماذا تتعدَّد الطرق الصوفية؟
قال تعلب: كلهم من رسول الله ملتمس.
خالط نبرته تشكُّك: ولماذا لا نكتفي بالسنَّة؟
استطرد في نبرته المتشككة: تفرُّع الطرق يطرح الخلاف.
قال زكي تعلب: اقرأ أولًا … ثم أظهر اختيارك.
وسأل ليلةً: هل يغني الوِرد عن قراءة القرآن؟
قال زكي تعلب: هذه اجتهادات الغُلاة.
ثم بلهجةٍ باترة: لسنا منهم!
وفاجأه الشيخ يوسف بدوي — ذات مساء — بالقول: أنت الآن على عتبة مقام المريد … وهو مقام المجاهدات والمكابدات، وتحمُّل المشاق، وتجرُّع المرارات، ومجانبة الحظوظ.
سار في طريقه، تدفعه وتحدو به الأشواق والمجاهدات.
أزمع أن يطهِّر نفسه من حُبِّ الدنيا، ومن الإقبال على الخلق، قطع المعاملة مع العباد، سلك طرق العبادة والزهد.
لازم الخلوة، وداوم الصلاة والذكر والصوم والعبادة، لوَّن طاعته لله، إذا مَلَّ من الصلاة انتقل إلى الذكر، وإذا ملَّ من الذكر قرأ السِّيَر والأحزاب والأوراد، ألِف رياضات النسك والصلاة والصوم والسهر والمفاتحة والمواجهة والمجالسة والمحادثة والمشاهدة والمطالعة والمحبة والشوق والأنس والرجاء والتوكل والقرب وموارد القلوب. وتفيض التجليات، تأتي وتذهب، تشفُّ الروح، وتتخفَّف من قيود البدن، تموت الشهوات، تتصل الروح بالملأ الأعلى، تتكشف لها الأنوار الربانية، يسمع — حيث يذهب ويجيء — أكثر من ثلاثة عشر ألف نبيٍّ ورسولٍ يعانون ويقاسون التجربة، يتحدثون عن الوحي والتنزيل، تتناغم أصواتهم مع أصوات الألوف من أولياء الله والصالحين والتابعين، وأصوات الملايين من طالبي البرء والشفاعة والستر.
قال الشيخ يوسف بدوي: هذا علم لا يؤخذ من الأوراق … إنما يؤخذ من أهل الأذواق.
قال علي الراكشي: أنت الذي دفعتني إلى القراءة.
قال الشيخ كأنه لم يسمعه: أتممت الجانب النظري للبداية، ويبقى عليك استكمال الدائرة!
استطرد موضحًا: آن أوان الانتقال من عمل الظاهر إلى عمل الباطن.
وقال له ذات مساء سبق فيه الآخرين إلى شقة الشيخ: المريد لا يصل إلى شيءٍ من مبتغاه دون شيخ!
المريد!
هل أوشك على تخطِّي العتبة إلى دنيا الفيوضات الربانية؟
وقال يوسف بدوي: لا بدَّ للإنسان من شيخ يرشده … ومَن لا شيخ له، فالشيطان شيخه!
كان إذا جلس إلى الشيخ يوسف بدوي، طوى علمه ورؤية نفسه، هو عارٍ يطلب الكساء من فم الشيخ ونصائحه، يمتثل للأوامر، ويجتنب النواهي، ويجتهد في الابتعاد عن المعاصي، لا يفعل ما توبخه عليه نفسه حين يأتي الليل أو يقبل الصباح، يحرص أن يكون غده أفضل من اليوم الفائت، وعلى المحبة التي تدفع إلى النوافل والمستحبَّات.
وقال له الشيخ وهما يغادران أبو العباس: أنت في حاجة إلى واصلٍ موصِّل.
قال في حيرته: كيف؟
قال الشيخ: التوبة أولًا … وهي لا تكون إلَّا على يد شيخك.
في نبرة متوسلة: فلتكُن شيخي!
قال الشيخ: اعرف أولًا ما ينبغي معرفته من الإجراءات التي يجب أن ترقى عن طريقها.
ثم بلهجةٍ تقطر محبةً: كلما كانت البداية أحكم، كانت النهاية أتم!
وهزَّ إصبعه في الهواء: حذارِ من فساد الابتداء!
•••
متى يأذن الله، فيصبح من أهل الحجاب، أهل الدليل والبرهان؟ يخلص قلبه لله، فيضيء طريقه بأنوار المعارف، يهبه علومه وأسراره، ينكشف الغطاء، ويُفتح الباب، ويُرفع الحجاب، ويكشف نور الشريعة ظلمة البطالة والتقصير، ويظهر نور المجاهدة، وتشرق شموس العرفان، وتنادى هواتف الحقيقة، وتتألق جواهر العلم المكتوب، ويتسع ضيق الأكوان، وتحصل أنوار المواجهة، وتصير الروح سرًّا من أسرار الله، ويُقبل القلب على معرفة مولاه … تطوى له الآفاق، يصبح من أهل الخطوة، يطير في الهواء، يمشي على الماء، مثل الشاذلي وأبو العباس. المراحل — إن أحسن ارتقاءها — تنتهي به إلى حيث يريد، يخلص في المقامات والأحوال، فيصبح في مقدوره إتيان الخوارق والكرامات، يكشف عالم الغيب المحجب وما في القلوب، ويستشرف الآتي وتوقعات المستقبل، يدرك أسرار السمك والطير والحيوان والحشرات والنبات، يتحدث إليها، ويطوِّعها في أشكال مختلفة، يتصرف في الكون بالهمَّة، يدخل على الحاج قنديل في الحلقة، أو في جلسة العصر أمام دكان محمد صبرة، أو في درس إمام أبو العباس، يملي عليه شروطه، فلا يقوى على الاحتجاج أو الرفض، يتلو أدعية، فيحيل الظالم جمادًا في مكانه، يحيل التراب ذهبًا، يتزوج الحور العين، يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض.
ابتسم لرؤية الحاج قنديل وقدماه تتأرجحان فوق الصراط، قبل أن يهوى إلى جهنَّم، وجزَّ أسنانه لتأوُّهات الرجل وهو يحاول اتِّقاء لسعات الكرابيج المشتعلة في أيدي الجان، وقال الحاج في تذلُّل: إن لم تعفُ عني، فالخلود في النار مصيري. وركب حصانًا في جلوة المولد يفوق جماله حصان التميمي، يحيط به المريدون والأتباع وأهل الطريقة، يحملون الأعلام، ويدقون البازات، ويبتلعون النار، ويغرسون الأسياخ في الخدود، وأعان الصيادين على ركوب البحر في عزِّ العاصفة، وأحنى الشيخ طه مسعود رأسه — تأدبًا — في مجلسه، وأذنت له رئيسة الديوان بالحضور في مجلسها، جنبًا إلى جنب، مع الرفاعي والبدوي والشافعي والجيلي، وانخرط صيادو الحلقة في حضرة، يتهدجون بالدعوة له، والشفاعة، والمدد، وتضوَّع البخور، وتعالت الزغاريد، وترنَّمت الأصوات بحُبِّ النبي، وباحت الطلاسم بألغازها، وتألَّقت الفيوضات بما يصعب تخيُّله.