المأزق
أطلقت شهقةً لغياب الحقيبة من ركن الحُجرة الرمادية، كانت تدسُّ فيها ما تحصل عليه من البيوت، أو ما يعنُّ لها شراؤه من السوق؛ مفرش، ملاءة، طقم ملاعق أو سكاكين، حلل، أطباق …
لم تكُن تعدُّ نفسها للزواج، ولا تصوَّرت أنه سيتقدَّم لها مَن يعرض عليها الحياة كزوجة، لكنها حرصت أن تضيف إلى ما بداخل الحقيبة. لم تناقش نفسها: لماذا …؟ ولا إلى متى …؟ كلما حملت جديدًا، أعادت فتحها، قلَّبت فيما تحويه، تأملته ودقَّقت فيه، ربما فردته على أرض الحُجرة، تطيل النظر إليه، تسرح في اللاشيء، تلملم الأشياء داخل الحقيبة، تسندها إلى زاوية الحُجرة، وتمضي.
خلا الركن من الحقيبة، شكَّت أنها ربما نقلتها إلى حُجرة أخرى، ونسيت.
قلبت المكان، فص ملح وذاب! بظاهر كفيها مسحت الدموع التي انبثقت — في صمت — من عينيها، تساقطت على خدَّيها وذقنها وملاءتها.
البيت مهجور، يبدو كذلك أمام مَن تصحبهم إليه في الليل.
قال لها سيد وهو يتركها في بداية شارع السيالة: الأولاد يلعبون في الشارع، ربما دخلوا، فرأوا الحقيبة، وأخذوها.
اغتصبت ابتسامة لتطمينه: إنهم يخشون البيت … يتصورونه مسكونًا بالعفاريت!
قال في تنبُّه: قلت إنك لم تعودي تصحبين أحدًا إلى البيت.
وشى صوتها بغضب: تشكُّ فيما قلت؟!
فوَّت ملاحظتها: ربما أراد أحدهم مضايقتك، أو إيذاءك.
قالت: أنا لم أضايق أحدًا.
هتفت متذكرة: هل تكون المعلمة أنصاف؟
لمَّا عرضت عليها المعلمة أنصاف أن تعمل في بيتها بكوم بكير، رفضت بلا تردُّد.
اعتادت الحياة في بحري، يعرفها الناس وتعرفهم، تنصت إلى العرض فتقبل أو ترفض، ربما تردَّدت على بيت، تعلم جيدًا أنها لن تحصل فيه على قيمة مضاجعتها … لكن الحياة في كوم بكير؛ الوقوف أمام البيوت، أو في داخل الغرف، ورفع الساقين لمَن يدفع، دون أن تلتقي به من قبل، وينصرف دون أن يعرف اسمها أو تعرف اسمه، والحصول على ترخيص من الحكومة، والتردُّد — كل أسبوع — على طبيب الصحة في قسم اللبان، يلغي التصريح إذا ثبت أنها أصيبت بمرضٍ جنسي، أو يجدِّده، تعود بالهتاف: سالمة يا سلامة … رحنا وجينا بالسلامة!
لم تتصور أنها تفعل ذلك كله أو تحياه. بحري بيتها، تمشي في شوارعه وحواريه وأزقته، لا يشغلها حتى النظرات المتابعة، أو الملاحظات المستفزة.
رآها محمود عباس الخوالقة وهي ترتدي فستانًا يصل إلى ركبتيها، مشجرًا دون ملاءة، تلقفتها صيحته من أول شارع أبو وردة: ماذا فعلت بنفسك؟
أخفضت رأسها تتأمل الفستان: ماذا؟
قبَّل أطراف أصابعه: أنت مسخرة!
قالت محتجَّة: ألستُ مثل الستات؟!
وهو يشملها بنظرة إشفاق: وست الستات … لكن الملاءة أليق بك.
أدركت أنها لكي تحيا في بحري، تمشي في أزقَّة السيالة والأنفوشي ورأس التين، فلا بد أن ترتدي مثل نساء الحي. مَن ترتدي مثل النساء الغريبات فهي غريبة، الساكنات في شوارع التتويج وإسماعيل صبري ورأس التين والحجاري وحسن عاصم وكورنيش الميناء الشرقية وغيرها، معروفات بالتأكيد أو بالتذكر، أمَّا هي فأنسية، يتعرف إليها الرجال بالملاءة التي تغطِّي جسمها، تسير في الشوارع، فلا تلفت انتباهًا ولا تساؤلًا.
غلبها اليأس، فوافقت على عرض المعلمة، ليلةً، فتظلُّ في كوم بكير، أو تعود إلى بحري، تصورت أنها ستهدأ عن التنقل بين البيوت.
ركبها — في ليالٍ متتالية — صعايدة وأفندية وبحارة وطلبة، أرهقها خلع الفستان وارتداؤه، فظلَّت بقميص النوم، لا وقت للأخذ والعطاء والمؤانسة، اختلطت الملامح، فبدت شخصية واحدة، اعتادت الضرب والقرص والخمش والشتم والملاعبة والعضَّ والتذلُّل واللُّعاب على كتفها العاري.
لم تكُن تناقش المصاحبين لها إلى داخل الحُجرة، تُسلم نفسها في آليَّة؛ تنزع الملاءة والفستان، تتمدَّد بالقميص الداخلي، يقبِّل جسدها، يهصره، يخمشه أحيانًا، يخترقها، يخلو ذهنها إلى ما لم تعدُّ للقائه، في جزر قريبة وبعيدة، تفيق على قومته وارتدائه ثيابه، لا تحادثه، تأخذ أجرها دون كلام، لا يشغلها ملامحه، ولا ماذا كان يرتدي، عانت من اللُّعاب المتخلف على كتفها العاري، يحرِّك نفسها، فتجري إلى الحمام، تُفرغ ما بجوفها.
قال لها صعيدي شحمي البدن: هل تكتفين بالبحلقة فيَّ؟
ودفع لها ثلاثة قروش: تحركي!
وصرخ في الدهشة المتسائلة في عينيها: اهتزي … اغنجي … اصرخي … افعلي أيَّ شيء!
لما انتهى ظلَّ ساكنًا، فطنت إلى أن النوم غلبه، عندما فاجأها شخيرٌ متقطع.
تملصت منه، فاستيقظ.
حرصت، فلا تجعل ساعديها بين الذراعين حتى يسهل تملُّصها إذا غلب الرجل النوم.
تغيَّر عناقها لسيد منذ اليوم الذي صحبها فيه إلى حدائق الشلالات، غابت الجزر القريبة والبعيدة، وذابت فيه، تغالب شعورًا بالمتعة لم تكُن عرفته ولا اعتادته من قبل.
قالت له مداعبة: أعدت لي الإحساس بالرعشة إذا لمستني يد رجل!
قال ليهوِّن عليها: سأعوضك عن الحقيبة.
وهي تتلفَّت في تحيُّر: لكن … لماذا سرقوها؟
ربت كتفها: أولاد الحرام كثيرون.
أسعدها زوال لهجة الشكِّ في كلامه، يثق فيها، وأنها هجرت سيرتها القديمة.
همست في عدم تصديق: هل يكون حمادة بك؟
هزَّ رأسه بالنفي: وما شأنه بك؟
روت له ما جرى بينها وبين الرجل عندما صحبته إلى داخل البيت المهجور، لم تُعدَّ نفسها لمضاجعته، ولا داخلتها شهوة، انتفض جسمها بمشاعر لم تحسَّ بها من قبل، زادت في الضربات، وشتمته بما كانت تخشى أن تواجه به الذين عرفتهم.
قالت وهي تداري ابتسامة بكفها: فعلت ما أرغبه، وليس ما طلبه!
يا بنت الأبالسة! حتى صاحب الفرن وصل إليك؟!
قال في حيرة: ربما يمهِّد الرجل لطردك من البيت.
لم تُخفِ قلقها: لماذا؟ ما أراده فعلته!
– تعرفين سرَّه.
سألت في قلقها: والحل؟
أغمض عينيه للحظاتٍ، ثم قال: قلت إن الحاج محمد الحلاق يعطف عليك.
وهي تخفض رأسها: إذا سرت أمامه، دخل الدكان.
في استغراب: لماذا؟
نقل إليها محمود عباس الخوالقة ما سمعه وأثاره، قال: نساء كوم بكير يتردَّدن على الطبيب ليوافق على استمرارهن في العمل، ويتردَّد الحاج محمد صبرة على أنسية، ليمنحها البركة!
أشفقت على الرجل، لم تكُن بينها وبينه علاقة من أيِّ نوع، خشيت أن تنسب الشائعة إليها، تُعلي من قيمتها، وتسيء إلى الرجل.
اعتادت المرور أمام دكانه، منذ صحبها محمود عباس الخوالقة إلى بحري، خلفت وراءها الخدمة في البيوت وأهلها في سحالي، إذا توجست من بيت شارع سيدي داوود، تنقلت بين الشُّقق، وحنيات السلالم، والكبائن في شاطئ الأنفوشي، وأمضت ليالي في قهوة كشك، صعبت على المعلم كشك، فأخلى لها تحت النصبة، حتى اطمأنت إلى البيت المهجور، أزمعت أن تقيم فيه، تدخله عندما يأتي الليل، وتغادره في طلوع الصباح.
•••
يثق الحاج محمد صبرة أنه ليس في ثراء ولا مكانة حمادة بك والحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي والشيخ طه مسعود، كان يحرص أن يلتقي اسمه بهم، يفيد من اقترانه بأسماء الرجال المهمِّين في بحري، يعتزُّ بأنه أدَّى فريضة الحج من قبل أن يولد، حجَّت أمُّه قبل ولادته بأشهر، فأصبح حاجًّا دون أن يرى العالم، وكان يحرص على جلسة العصر أمام الدكان، وعلى درس المغرب.
كان لدكانه بابان؛ باب يمارس فيه الحلاقة وعلاج المرضى، والآخر يفضي إلى داخل بيته.
المصادفة وحدها هي التي دفعته للمزاوجة بين الحلاقة والطب؛ شكا الحاج قنديل من صداع ينتابه بين فترة وأخرى، وصف له مجموعة من الأعشاب، تُسحق وتُشرب على ريق الصباح، تذكَّر الوصفة من كتابٍ في مكتبة أبو العباس، أفلح العلاج، كرَّره في حالاتٍ أخرى لرجال آخرين.
أقبل على قراءة الكتب؛ كتاب ابن سينا، وكتاب الحاوي للرازي، وشرح أسماء العقاقير للقرطبي، والأغذية لابن البيطار، وتذكرة أولي الألباب والجامع العجاب لداوود الأنطاكي، أهمُّها كتاب منزوع الغلاف، في التعاويذ السحرية. يستمع إلى شكوى المريض، يتبيَّن مواطن الألم، يعود إلى الكتاب، يتأكد من تطابق التعويذة مع الحالة التي يعالجها، يكتب التعويذة في ورقة، يضع الورقة في إناء، يعطي الماء المتخلف للمريض، فيشفى بإذن الله.
وكان له ولعٌ بتركيب الأدوية، يتردَّد على سوق الترك، يشير عليه العطارون بوصفات للأمراض المختلفة، يصنع من خليطها معاجين للحالات التي تتردَّد على دكانه.
ملأ صيدلية الصالون بالمطهرات؛ الديتول والفنيك والكولونيا والقطن الطبي والمقصَّات المعقَّمة والشاش والمسكِّنات وحُقن المورفين. صفَّ على الأرفف أحقاق الصبر والمرِّ والحنظل والكمون والحلبة وقشر الرمان وشواشي الذرة والبقدونس والنعناع والكراوية والشيح والينسون والقرفة والدار صيني والمرارة، جمع له خميس شعبان الأصداف والقواقع من ظهر الترسة، جفَّفها، وطحنها، وأضاف إليها بعض الزيوت، صارت مرهمًا يستخدمه في علاج الجروح وسرعة التئامها، يستخدمه كذلك في حساسية الجلد، ويحمل في جيبه زجاجةً صغيرة من زيت الحبَّة السوداء، يثق أنها تشفي من كلِّ مرض.
تعلَّم الخِتان على يد عم جودة، الحلاق اليهودي أول السكة الجديدة، قصر عمليات الخِتان في المناسبات الدينية، يعتذر عنها في الأوقات الأخرى، وفي الأماكن البعيدة، يجريها في المولد النبوي، وعيد الهجرة، وذكرى الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وذكرى مولد المرسي.
اقتنى حقيبةً جلديةً صغيرةً تضمُّ قِطعًا من القطن، وزجاجة ميكروكروم، وأخرى للكحول، ولفافة شاش، وموسى مما يستعمله الحلاقون، ومقصَّات مختلفة الأحجام.
قال له حمادة بك: لا ينقصك إلَّا سمَّاعة الطبيب.
قال: إني أكتفي بأذني … إنها سمَّاعة إلهية!
ذاع صيته في شفاء المربوطين والمسحورين، ومرضى الصداع والحمَّى والنزيف، ووجع الجنب، وعالج دود البطن والدوسنتاريا والبواسير، لجأ إلى الأعشاب والوصفات والرقى والأحجبة، ربما أضاف إلى علاج مرضاه آية الكرسي، يتلوها بطريقة منغمة.
روى أمين عزب أنه صحبه بنفسه إلى الطبيب الأرمني مردروس، جاره في الطابق الأول من البيت، تزايد الألم في بطنه، فغاب التصور أنه مجرَّد عارض، كشف عليه الطبيب ذو الجسد الممتلئ، والشعر الأبيض، والعينين الزرقاوين، والذقن المدبَّب.
سأل: هل حاولت علاج نفسك؟
قال أمين عزب: عالجني الحاج محمد.
وأشار إلى الرجل الطويل القامة، ذي البالطو الأبيض، والنظارة الطبية، والحقيبة، الواقف بجانبه.
قال الطبيب متشكِّكًا: ماذا فعل؟
عدَّد له محمد صبرة ما قدَّمه من عقاقير وأعشاب.
نقل الطبيب المسمَّيات في أجندة أمامه، أطال تأملها، ثم قال مؤكدًا بنتر أصابع يديه في الهواء: لن أصف لك أفضل مما وصفه لمرضك.
وأردف: داوم على العلاج!
زاد إلى مهنته ممارساتٍ مثل التدليك وكاسات الهواء والجراحات البسيطة؛ الفصد والحجامة والحمصة، فإذا أصيب شخص بتسمُّم، لجأ إلى تشريط جلده بشفرة الحلاقة، فيخرج الدم المسموم، ربما لجأ — لشفاء مريض — إلى كيِّه بالنار، يغلبه اليأس من العلاج، فيعلن: لمَّا غضب لقمان الحكيم من الدواء … رماه في النار!
ثم أعلن رفضه لإجراء الجراحات، مهما كانت بسيطة، موسى الحلاق غدَّار ولا أمان له، قد تفيد قطعة الشبة في إيقاف النزيف، إن أخطأ الموسى في حلاقة الوجه. ماذا يفعل لو أخطأ الموسى موضع الفصد؟!
قيل إنه احتفظ في ضلفة الدولاب بكفنه، وزجاجة من ماء زمزم لغسله وتجهيزه، وأوصى بأن يصلَّى عليه — عند وفاته — في مسجد سيدي المسيري القريب من الدكان، والذي يصلِّي فيه معظم الأوقات.
•••
قال سيد يناوشها: إذَن … الجئي إلى أبو العباس.
فاجأته بالقول: وقفت على مقامه حتى تعبت.
تعدَّدت زياراتها إلى ضريح السلطان، تتحدث إليه، تناجيه، تشكو إليه، تلتمس البركة، تطلب النصفة والشفاعة والمدد، كنست الضريح بملاءتها.
لما قهرها اليأس من أن يستجيب أبو العباس لها وينصفها، وضعت على ضريحه شمعةً بالمقلوب، تضايقه، فيتنبَّه لما تعانيه.
هتف سيد كالمتذكِّر: اذهبي إلى الشيخ أمين عزب.
أعادت الاسم: الشيخ أمين عزب …
سألت للتأكد: تاجر السمك؟
وهو يشيح بيده: كان ذلك من زمان … هو الآن إمام زاوية خطاب.
أضاف بلهجةٍ محرِّضة: كلميه، فيطلب من حمادة بك أن يتركك في البيت.
وشى صوتها بالتشكُّك: وإذا رفض …؟
قال في تأكيد: سيقبل … يخشاه الجميع منذ طرد الرجل الغريب من قهوة الزردوني.
وهي تلملم ملاءتها حول جسمها: سأحاول … وإن كنت لا أطمئنُّ إلى النتيجة.
خبط سيد على رأسه في تذكر: أخيرًا … اكتشفت عين حمادة بك في الفرن.
استطرد للتساؤل في ملامحها: حكاية الخبز الرجوع …
قالت متنبهة: مَن؟
– فؤاد أبو شنب … رئيس العمَّال.
صمتت للحظاتٍ، ثم قالت: هذا واجبه.
قال سيد: صحيح لو أنه لم يُهدِ الخبز الصابح لمَن يشاء!
– مسئوليته وهو حُر.
ثم وهي تربت صدره: أغناها الله بالحلال!
هزَّ رأسه مؤمِّنًا، تبيَّن المفارقة فيما قالت، ضمَّ شفتيه، يخفي البسمة المتسلِّلة.