الباب المغلق
أذهلها الخوف من الجلوس في حضرة الشيخ أمين عزب، اختارت الشوارع الجانبية؛ الكناني، والموازيني، وسراي محسن باشا.
ناوشها التردُّد حين واجهت ميدان الخمس فوانيس، باتساعه، والوجوه المطلَّة من النوافذ، والمارَّة، والجالسين على قهوة المهدي اللبان، وبقايا سوق العيد.
نفضت رأسها، فلا يشغلها التفكير أو يقهرها، أحكمت الملاءة حول جسمها، وتأكدت من وضع البرقع، ورفعت ذيل الملاءة بأصابع متوترة، واكتفت بغمغمةٍ لا تعني شيئًا، وهي تواجه سؤال عم خلف البواب، في دخولها البيت: رايحة فين؟
تابعت موعد انصرافه من زاوية خطاب، بعد صلاة العشاء، يمضي في شارع المسافرخانة، ومنه إلى الحجاري ورأس التين، يلقي السلام على روَّاد قهوة المهدي اللبان، ويصعد إلى بيته، يضيء حُجرته المطلَّة على الميناء الشرقية، ساعةً أو اثنتين، ثم يطفئ النور، فلا يضيئه ثانيةً إلَّا مع تسابيح الفجر.
سبقته إلى دخول الحُجرة سيدةٌ جاوزت الثلاثين، خمَّنت من بشرتها الورديَّة، والذؤابات الحمراء في شعرها، داخل الإيشارب الحرير، أنها أخته أو إحدى قريباته.
•••
البيت يطلُّ على ثلاث جهات؛ من ناحية على شارع رأس التين، في امتداده إلى الموازيني والحجاري، وعلى شارع فرنسا إلى المنشية، أمَّا الواجهة فتطلُّ على شارع إسماعيل صبري، يتجه — في ناحية — إلى الميناء الشرقية، وأمَّا النوافذ والشرفات الخلفية فتطلُّ على الشارع الخلفي، يشغل جانبه — في الناصية — جامع علي تمراز، فبيتان من خمسة طوابق، ينتهيان إلى فرن التمرازية، واجهته على شارع الشوربجي، ضيِّق، طويل، يفضي — من جهة — إلى الموازيني، ويمثل — في الجهة المقابلة — توازيًا لشارع الميدان.
مع أن أفراد الأُسرة كانوا يمارسون العاديَّ والمألوف، ينصرفون إلى مدارسهم، ويعودون منها، ويطلُّون من النوافذ والشرفات، يتابعون مواكب الملك والطرق الصوفية وسوق العيد، وينادون على الباعة، وينشرون الغسيل، ويفتحون الراديو، فيصل صوته إلى بقيَّة شقق البيت، ويجلس الصغير طاهر — من العصر إلى قبل الغروب — على دكة عم خلف البواب … مع ذلك فإنهم كانوا يميلون إلى العزلة، لا يتبادلون الأحاديث مع الجيران، ولا يشجِّعون التزاور في المناسبات، لم تروِ جارةٌ في البيت أنها شاهدت الشقَّة من الداخل، صعب على الأُسرة أن تندمج في البيئة التي تحيا معها، وصعب على البيئة أن تجتذبها، فاكتفى الجميع بالحدِّ الذي وضعه أمين عزب في علاقة أُسرته بجيرانها.
كانت له — في بيته — مكتبةٌ هائلة، صنع لها أرففًا تمتدُّ من الأرض إلى السقف، بسعة حُجرة كاملة، مبذولة لمَن يريد الاستعارة من أصدقائه، يتردَّدون عليه، يلتمسون عنده النصح والإرشاد والفتوى الصحيحة، مصادرها بطون الكتب. وكان يخلو إلى الكتابة والتأليف، عقب عودته من زاوية خطاب، ينظِّم الأوراق والأقلام والدواة والنشافة والكتب التي قد يحتاج الرجوع إليها، يسأل أهل البيت إن كانوا يحتاجونه في شيء، ثم يغلق عليه باب حُجرته، ينصرف إلى الكتابة حتى تغلبه الحاجة إلى النوم.
لم يعُد يغادر الزاوية إلَّا إلى البيت، عاش — منذ هجر حلقة السمك — على إيراد بيتٍ قديمٍ في شارع حداية، وعلى إيراد بلانس ترك أمره لعباس الخوالقة، يحدِّد موعد السفر، والجهة التي يقصدها، وأسعار السمك، يحاسبه على نسبة، ويوزِّع الباقي على الصيادين. سبب نعمته صحوُه — ذات فجر — على دقاتٍ عالية. فتح الباب، فطالعته بغلة العشر، اختارته دون العالمين، لتلقي أمامه بخرجٍ مملوءٍ ذهبًا.
قلَّ تردُّده على دروس أبو العباس، ثم لم يعُد يظهر — إلَّا نادرًا — في صحن الجامع، ولا أمام أبوابه، ولا عند المقام، فلما أظهر ضيقه من المنكرات التي تسلَّلت إلى حلقات الذِّكر، ومن بدع الطرق الصوفية، ران صمتٌ على مجلس الإمام، وإن غابت الاستجابة، وكان ذلك آخر عهده بجامع المرسي، فيما عدا مشاوير متباعدة لصلاة الجمعة.
وخرج — ذات ليلة — لجماعة كوَّنوا حلقة ذِكر، في الساحة المواجهة لزاوية خطاب، وتعالت مدائحهم الممهدة.
أمرهم أن يقيموا أذكارهم في مكان آخر، ثم أعلن — في خُطبة الجمعة التالية — رفضه للأعلام والرايات والطبول والدفوف والرقص والانجذاب والمواكب والتحلُّق حول شيوخ الجهل.
مع أن صديقيه عباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي ظلَّا حريصَين على درس المغرب، فإنه لم يعُد يتردَّد عليه، إنما هي صلاة الجمعة، يؤدِّيها — أحيانًا — فلا يظلُّ في الجامع، حتى لزيارة مقام السلطان.
وحين استوقفته امرأة — عقب صلاة الجمعة — تحمل طفلًا مقيَّد الساقين، ترجوه أن يفكَّ القيد ليعينه على المشي، انتهرها في غضب: هذه خزعبلات يا امرأة … اذهبي بالولد إلى الطبيب.
وأهمل ملاحظة عبد الرحمن الصاوي: أنت بهذا ترفض كرامات شيخك عرفة الأنصاري ومكاشفاته.
شاهده الكثيرون عندما جلس في الموضع الذي خُصِّص لجلوس الملك فاروق بجامع علي تمراز، أُعلن أن الملك سيصلِّي في الجامع، واصطفَّ العساكر في ميدان الخمس فوانيس، وتناثروا في سطح الجامع وفوق مئذنته، وفي أسطح البيوت المطلَّة على الميدان.
نبَّهه المعلم كشك إلى ما فعل، فظلَّ جالسًا: هذا بيت الله.
خالط نصيحة المعلم كشك إشفاق: أنا لم أطلب منك ترك الجامع … اختر موضعًا آخر!
قال في إصرار: هذا هو الموضع الذي اخترته!
ظلَّ في المكان، يأبى أن يتركه، لولا رجاء الشيخ عبد الحفيظ — إمام الجامع — وكان يضمر، ويعلن — له احترامًا — فأخلى مكانه، وجلس بين المصلِّين.
أعلن سخطه لما عرض على الشيخ أحمد أبو دومة، صاحب كُتَّاب «ولي العهد» بشارع فرنسا، أن يقدِّم جرسًا هديةً للكُتَّاب، اعتذر الشيخ بأن النبي حذَّر من أن الجرس آلة الشيطان الموسيقية، والمكان الذي يوضع به جرس لا بدَّ أن يخلو من الملائكة.
•••
سحب يده لمَّا همَّت بتقبيلها، وأصرَّ أن تجلس في الكرسيِّ المقابل، تحيط بها أرفف الكتب. وفي الجانب تطلُّ الشرفة على الأضواء المتناثرة في الميناء الشرقية، وتتناهى من قهوة فاروق القريبة أغنياتُ الفونوغراف، ونداءات الجرسونات، وصيحات الجالسين.
ذهب خوفها، في اللحظة التالية لجلوسه في المقعد الجلدي، وراء المكتب. سألها إن كانت من الإسكندرية أم من الوافدين إليها، لم يسألها عن اسمها ولا وظيفتها ولا أحوالها الأُسرية، هو — بالتأكيد — يعرف اسمها، وماذا تعمل، وإن أظهر عدم المعرفة.
دفعها — بنظرة حانية — إلى التحدث.
روت ما لم تكُن تتصور أنها سترويه لرجلٍ في مثل سنِّه ومكانته، لاحظت اختلاج لحيته الكستنائية، وارتعاش أهدابه، واحمرار أذنيه، ونظرات حرجٍ يرنو بها إلى المرأة الأخرى الساكنة، لكنه ظلَّ على هدوئه وصمته، يستحثُّها على المواصلة بصوتٍ رتيبٍ من فمه المغلق.
أعاد التأكد من انسدال العباءة فوق كتفيه، واعتدل في جِلسته بحيث واجهتها عيناه.
أخفضت رأسها للبريق الهادئ، الملتمع في العينين: أريد خدمة.
وهو يتأمل التفاف الملاءة حول جسمها: ماذا تطلبين؟
في لهفة: يتركني حمادة بك في البيت.
علا صوتُه بالدهشة: هذا بيته!
غالبت الارتباك: أعرف … لكنه مهجور!
أغمض عينيه، كمَن أسلم نفسه لغفوةٍ، ثم قال: منذ لزمت زاوية خطاب، لم أعد ألتقي بالرجل، ولا بسواه.
همست بجرأة، لم تتوقعها في نفسها: يتحدثون عن طردك للرجل الغريب في قهوة الزردوني.
أطلق — من أنفه — ضحكة مبتورة: هل تريدين أن أضرب حمادة بك؟!
وأردف بلهجةٍ معتذرة: ما حدث في قهوة الزردوني لإعادة الأمان إلى الحي.
وقال للارتباك في ملامحها: سأحاول أن أزوره في مكتبه، أو في دكان الحاج محمد صبرة.
ثم في صوت يفعمه التساؤل: قيل إنه لم يعُد يحضُر دروس المغرب في أبو العباس.
مضت لحظات صمت، توزَّعت نظراته بين أنسية والمرأة الجالسة، ثم انتزع الكلمات: عليكِ أولًا أن تبتعدي عن هذه اﻟ…
وتشابكت أصابع يديه، وافترقت، وتشابكت، ثم سكت.
استقباله الطيب أذهب كل الوساوس من نفسها، فاجأها بالقول، فأطرقت رأسها.
علا صوتُه مستطردًا: وعليكِ أيضًا أن تبتعدي عن حياة الخفافيش في البيوت المهجورة.
أخذتها المفاجأة، فعصتها الكلمات.
قال وهو يتأمل الكتب المرصوصة: لماذا لا تعودين إلى الخدمة في البيوت؟ ذلك أرحم … ويضمن لك المأوى.
أضاف في تشاغله بتأمل الكتب: أثق أن لك أُسرةً طيبة … إن لم تكُن الخدمة في البيوت تروقك، عودي إليهم.
ولوَّن صوته بما يهب معنًى يقصده: أنتِ الآن كبيرة … ولن يجبرك أحدٌ على فعل شيء!
تألَّقت عيناه — في اللحظة التالية — بمودَّةٍ واضحة، وهمست لنفسها وهي تميل في شارع سليم البشري: هل اكتفى بالبسملة والتكبير، قبل أن يجزَّ عنقي؟!
