الحلقة
الحلقة واسعة، مسوَّرة، مسقوفة، هجرها الصيادون والباعة إلى الرصيف، قبالة الباب الضخم، حتى باعة الترسة، وقفوا في الساحة العارية الملاصقة، يتأكدون — قبل الذبح — من وجود زبائن، يتقاسمون لحم الترسة قبل ذبحها، صُفَّت الطبالي على الأرض، وفوق الترابيزات الكبيرة، يتخلل الثلج أسماك الدنيس والقرموط والمرجان والمياس والبوري والبربون والإنش والوقار واللوت والشرغوش والكحلة والطوبارة والقاروص والموزة والسبيط وسمك موسى والكابوريا والجمبري.
ترامى نداء من بعيد، تصور أنه منادٍ يعلن عن وفاة أحد أبناء الحي.
لمَّا اقتربت اللمة، عرف أنه إعلان عن ذبح ترسة، لا تُذبح إلَّا إذا بيعت — مقدَّمًا — بما يساوي وزنها، يرفض الناس شراء لحمها من الثلاجة، يخشون أن تكون ميتة، أُخليت عربة يد لترسة هائلة الحجم، رقدت على ظهرها، تداخلت — اتِّقاءً للخطر — فلا رأسٌ ولا عنقٌ ولا يدان ولا رجلان ولا ذنَب.
قال عبد الرحمن الصاوي للولد حنفي: لا تذبحها قبل أن تلمَّ الفلوس.
وتنهَّد: مشكلة الترسة أن لحمها لا بدَّ أن يُباع طازجًا.
لما اطمأنَّ حنفي إلى المبالغ المدفوعة، دسَّها في جيب المريلة الجلد، أمسك برأس الترسة الراقدة على ظهرها، وبسمل، وكبَّر، ثم ذبح زورها بسكينٍ كبيرة.
تدفَّق الدم من الشريان، فخنقه بأصابعه، فتحه وأغلقه لملء توالي الأكواب؛ عشرين كوبًا وأكثر، اندلقت في الأفواه دفعةً واحدة. يرون في دم الترسة شفاءً لمعظم الأمراض، يهب الصحة والعافية، ويلغي الدواء. انتفضت قِطَع اللحم، تقافزت، أعادتها الأيدي إلى موضعها في منتصف العربة، اختلطت بالدم المتدفِّق، تشبثت يدا حنفي بها حتى لا تفلت، كأنها حيوانات صغيرة، والرأس المفصول — في جردل — يحرِّك عينيه وفمه، اعتاد الناس ما رأوا، تشاغلوا بتلقي الدم الفوَّار في الأكواب، وارتشافه.
قال للشيخ يوسف بدوي: أفتى إمام أبو العباس بعدم جواز شرب دم الترسة.
قال يوسف بدوي: اجتهاد غير صحيح … فدم الترسة حلال.
أردف موضحًا: الدم المحرَّم هو الدم المسفوح … أسماك البحر تحلُّ ميتةً دون حاجة إلى ذبح، والترسة كلها، لحمها وشحمها ودمها، حلال … لأن دمها ليس من نوع الدم المسفوح.
– مَن تريد؟
ألِفوا سحنته الجديدة، بعد أن أطال ذقنه، أهمله دون تشذيب، تصاعدت الشعيرات إلى قرب عينيه.
قال لدياب أبو الفضل وهو يتجه إلى داخل الحلقة: الحاج قنديل …
قعدة صغيرة في زاوية الحلقة، كرسيٌّ جلس عليه الحاج قنديل، أمامه طاولة عليها فنجان قهوة، ومبسم الشيشة الفضي، تناثر — في الأرض — قفف ومقاطف وغلقان وطسوت وحلل هائلة الحجم وألواح مغطَّاة بالثلج المجروش. يحرص على المحاسبة قبل العصر، الملائكة الموكلة بقسمة الأرزاق تختار بعد العصر لتجري قسمتها، مَن تراه على سعةٍ زادته، ومَن كان في ضيقٍ منحته بما يحفظ عليه حياته.
ميَّز الحاج بنظارته المقعَّرة، وشاربه المنسدل على فمه، وصوته المشروخ، وعباءته البُنِّية، تبدو فضفاضةً على جسمه الضئيل، والشيشة التي لا يؤذَن بدخولها الحلقة لسواه.
رفض عبد الرحمن الصاوي أن يعطيه شروةً ليسرح بها، هل تتصور أني أغضب الحاج قنديل؟
ثم وهو يزغده في كتفه: اذهب إليه، وصالحه.
اكتفى بوقفته أمام حلقة السمك فريشًا؛ يفرش على عربة صغيرة بضاعته من السمك البسارية والزريعة، فوقها مظلَّة تقي حرارة الشمس. اعتذر عباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوي وبقية المعلمين والباعة، عن تزويده بما يحتاج إليه، نعوا همَّ الحاج قنديل، وتجنبوا إغضابه.
حكى للشيخ يوسف بدوي ما يعانيه، لمجرد التنفيس، لا توقُّعًا أن الشيخ ربما تكلم مع الحاج قنديل، ولا سعى له عند معلمين آخرين. علا صوتُه بكلماتٍ معتذرة، لمَّا رأى يد الشيخ تدخل جيب العباءة.
قال يوسف بدوي: الشيخ مسئول عن مريده، فرض عليه أن يشفق عليه من قوة أحواله، بما يكون جبرانًا لتقصير المريد.
كان مستراحًا لمريديه، كهفًا لهم، ملاذًا، خزانةً وحرزًا لأسرارهم، لم يستمع منه إلى غيبةٍ ولا نميمة، ولا ذكر مساوئ الآخرين أو أفشى أسرارهم، قلبه بحرٌ يبتلع الأسرار والجيَف، لا يعلن عمَّا بداخله.
رافقت هزَّة رأسه كلماته المعتذرة: إذا ساءت الأحوال، فلن ألجأ إلَّا إليك.
رغم الذقن الكثِّ الذي أحاط بوجه يوسف بدوي، فإن بريق عينيه كان يحدِّد سنَّه، بما لا يجاوز الخامسة والثلاثين، وإن جاوزت العلاقة بينهما صورة الشيخ والمريد، تبدو أقرب إلى علاقة الأب وابنه. يسأل علي الراكشي، ويشكو الهموم، ويتمنى الحل، ويوسف بدوي يجيد الإصغاء، ويضع للمشكلة إطارها، فتبدو واضحةً، والحلُّ ممكنًا.
ألحق أبو بكر ثاني أبناء علي الراكشي بمدرسة راتب باشا بشارع رأس التين، وتوسَّط عند المشرفة التركية في مدرسة مصر، الفتاة بصفر باشا. تنازلت عن مصاريف الدراسة لثالث أبنائه عثمان، وعندما أنجبت أمُّ العيال طفلةً خامسةً على أربعة أولاد، أهداه حلقًا صغيرًا من الذهب، وقال: البنات أحباب الله!
نصحه بأن يرسو على بر، السمك مهنته، صيادًا وبائعًا، المهن الطياري لا تؤكل عيشًا، صيد الطير له مواسم، مواسم السمك بامتداد العام، وهو مهنته التي عاشها عمره، يعرف أحوالها، ويعاشر المغموسين فيها، الوقفة وراء مساكن السواحل تضعه في جزيرة، لا يخالط الصيادين ولا الباعة، يعزل نفسه عن الجميع.
قال بنبرةٍ تقطر حزنًا: الحاج قنديل يرقص في مركبي.
حدجه يوسف بدوي بنظرة متسائلة: كيف إذَن يعامل الآخرين؟
صمت للحظةٍ كأنه يستجمع الكلمات: يوافقون على ما لا أوافق عليه.
قال الشيخ في صوته الهادئ: أفضل أن نناقش أنفسنا … ربما في داخلنا عيب لم نفطن إليه.
علت كلماته بنرفزة: الحاج قنديل هو العيب نفسه!
دون أن يجاوز هدوءه: حاول أن تناقش نفسك … راجعها … ولن تخسر شيئًا!
قيل الكثير عن بداية الحاج قنديل، لم يختلف عن سواه من الصيادين؛ سنارة و«غلق» وتنقل بين الشواطئ، أو يشتري مما تأتي به الجرافات في حلقة السمك، هو الآن يزود البلانس بكل ما يحتاجه؛ الطعام والماء والشاي والسكر والجاز والبنزين وألواح الثلج، حتى السجاير يطمئنُّ الحاج إلى وجودها، قبل أن يبدأ البلانس رحلته، يطوف صبيانه على بيوت الصيادين أيام النوَّات، يُسلِّمون كل بيتٍ ما يحتاجه من المال والشاي والسكر والسجاير، يسجِّل لكل صيادٍ ما أخذه، يحاسبه عليه فيما بعد، يعود البلانس بعد أيام، ربما امتدَّت غيبته أسبوعًا أو أكثر، الحاج أول مَن يصعد إليه، ينتقي من الطبالي المرصوصة أفضل ما فيها، عشا المعلم، ثم يزن السمك بالأقة؛ كل أقتين بخمسة قروش، لا يُهمُّ النوع ولا الحجم، لا يأخذ إلَّا الطبلية، ثم يخصم ثمن البنزين والجاز والثلج، يرجئ ثمن الطعام والسجاير والمعسل إلى بداية الرحلة التالية، يدفع صبيانه في مزادات بيع السمك، يزايدون على الباعة السريحة، يضطرُّ الباعة إلى الشراء بأسعارٍ يحدِّدها الحاج قنديل.
لزم الراكشي موضعه بعيدًا عن مجلس الحاج، يتوسل كي يعطيه أكثر من الكمية المحدَّدة.
– إن عدت بسمكة واحدة دون بيع … حاسبني عليها.
وهو يشيح بمبسم الشيشة: هل أعطيك من رزق الآخرين؟
قال علي الراكشي: الرزق بالله … الخير كثير!
– عندما يتوزع هذا الخير على السماكين … لن يزيد نصيبك على ما حصلت عليه.
علا صوتُه بالانفعال: كنت أحصل على نفس الكمية وأنا أبٌ لاثنين … والآن أنا أبٌ لخمسة.
صرخ الحاج: تخمِّس عليَّ؟!
وضغط على المبسم بعصبية: هذه مسئوليتك.
قيل الكثير عن العمارات التي يملكها الرجل في الرمل وسموحة، وشركات نقل القمح من الجمرك إلى شون الورديان، والصفقات المشبوهة في عرض البحر، يتسلَّل الرجال — ليلًا — للعودة بها.
امتلك الحاج قنديل الحلقة … فهل يمتلك البحر أيضًا؟!
يتفق الجميع أن مَن يرضى عنه الحاج قنديل يدخل الحلقة، يشتري ويبيع، مَن يغضب عليه لا يدخل الحلقة، ويواجه المضايقات خارجها.
كان يحرص على صداقة المعلمين، لا يأذن للخلافات أن تنفذ بينهم، إذا أفلح الصيادون والسماكون في تفتيت وحدتهم، يدفع الجميع الثمن، وإذا عُيِّن مأمور لقسم الجمرك، أو مفتش جديد للمباحث، أو مأمور لنقطة الأنفوشي، بادر بزيارته، لا يحمل هدايا، وإن لمح بما يأذن بانفراجة الباب. إذا ظلَّ الباب موصدًا، اكتفى بالزيارة، وعبارات المجاملة، والتحدث فيما يهبه الرجل انتباهه. حين تتبدى انفراجة الباب يبعث صبيانه بالهدايا لتوسيعها، وكان يعرف رجال المباحث معرفةً شخصية، حتى المخبرون كان يعرف أسماءهم، وأين يقيمون، وجلس مع غالبيتهم، وسهر، وأكل، وشرب، وقيل إنه خصَّص لمخبري المباحث رواتب شهرية لقاء إبلاغهم له بتحركات حملات الضبط قبل بدئها، وإذا دخل مكتب مسئول، صحب معه مَن يقدِّمه؛ الحاج قنديل، تتغير الاستجابة — بالتقديم — في عينَي المسئول وتصرفاته.
همَّ الراكشي بترك الحلقة، فلا يواجه الحاج قنديل في لحظة غضب.
لحقه صوت الحاج: ماذا تريد يا راكشي؟
لم يعُد أمامه إلَّا أن يشرح الحال، ويطلب النصفة.
– خدامك يا حاج.
أشاح الحاج بمبسم الشيشة: ثم ماذا؟ ماذا تريد؟
وهو يظهر المسكنة: يرفض الجميع تقديم ما أسرح به.
– وأنا أيضًا أرفض.
– لماذا؟
تقلقل الحاج في جلسته: لأني ظالم … أليس هذا ما تدَّعيه؟!
اختار للرجل — في نفسه وبين الصيادين — اسمًا ثانيًا يعبِّر عن نظرته إليه، وما يحسُّ به نحوه. قنديل البحر لدغته بالسمِّ الهاري.
في نبرةٍ متذللة: أنا لم أجلس في القهوة منذ أشهر.
أطلق الحاج شخرةً من قاع حلقه: صار الشيطان درويشًا!
وعلا صوتُه: حتى لو توسَّط شيخك يوسف بدوي … لن تأخذ بضاعتي.
بدل الانفعال ملامح الراكشي، ضايقه ذكر اسم شيخه فيما لا شأن له به، زفر في نفاد صبر: هذا حرام!
رمقه بنظرة مشتعلة: هل أخذت مالك؟ بضاعتي أبيعها لمَن أريد!
ودسَّ المبسم في شفتيه.