الليل
اعتاد التردُّد على الجامع لأداء صلاة المغرب، يا دوب ينهي اليوم — قبلها — في قهوة الزردوني، منذ الصباح يشتري ويبيع ويصيح ويتعارك ويفاصل ويساوم. في موسم السمَّان وطير البحر يعود إلى القهوة أو إلى البيت، إذا باع من شروات الحلقة، يجلس إلى الحاج قنديل — بعد أن تخلو الحلقة — يتحاسبان، فيأخذ ماله، ويعطي ما عليه، يغادر الحلقة — بعد أن يربِّط على شروة اليوم التالى — إلى قهوة الزردوني، يلعب الدومينو والكوتشينة، يناقش أحوال البحر والصيادين، وما يطرأ على الأنفوشي ويغيب عنه، يدعو الرجال إلى الغداء ويدعونه إليه، ربما تأخَّر في العودة، فتسبقه الصلاة، يلمح قهوة «مخيمخ» خاليةً من أصدقائه، فيواصل السير إلى أبو العباس، يتأمل — دون تنبه — حركة الميدان، يصعد الدرج الرخاميَّ إلى الباب الملكيِّ المطلِّ على ميدان المساجد، يشقُّ السبيل بين المصلين والساعين إلى المقام، والذين يفضِّلون المذاكرة في صحن الجامع.
تبدو — كصورةٍ ثابتة — جلسة الإمام على كنبة المبلِّغ، أمامه وحوله أنصاف دوائر من المصلين، اعتادوا الجلوس إلى الإمام بعد صلاة المغرب، تمتدُّ الجلسة إلى أذان العشاء، والنجفة الهائلة وسط الصحن ترسل دفقات من النور، تتحدد بين مساحات الظلال التي صنعتها نصف الدائرة قبالة الإمام، واللمبات المتناثرة في الأركان تصنع ظلالًا بأجساد الواقفين والجالسين.
ألِف التردُّد على الجامع، والمجاوزة — دون التفات — إلى الميضة، يغتسل ويتوضأ ويسعى إلى الجدار القريب، مغمض العينين كالمتأمل، لا يشغله الطنين الصاخب تعمِّق صداه الجدران، الأصوات الداعية والمسبحة والقارئة تتردَّد في البهو الفسيح، تصطدم بالجدران العالية، والأعمدة يتردَّد لها صدًى، رنينٌ لا يستمع إليه في مكانٍ آخر، تردد على ياقوت العرش والبوصيري وعلي تمراز ونصر الدين، يبدو الصدى في أبو العباس مغايرًا بما لا يستطيع أن يحدِّده، تطول به الجلسة إلى صلاة العشاء، منفردًا، يتأمل المقرنصات والزخارف والنقوش في الأبواب والنوافذ والأسقف، والأعمدة الرخامية الهائلة، والعقود المحمَّلة بالجفوت والصنج والخناصر، أو يلمحه صديق، فيتسامران، لكن الصمت السادر الذي كانت أنصاف الحلقات تتابع به حديث الإمام دفعه إلى القعود قريبًا.
لم يعِ كل ما تعنيه كلمات الإمام، وإن تأكدت خطورتها في إضفاء الإمام جديَّة على ملامحه، ومصمصات الشفاه المتناثرة، وضح التأثر عميقًا في أنصاف الحلقات، استهوتهم الرحلة التي صحبوا فيها كلمات الإمام، فتشوا — لما تهيَّأ، كالعادة، لتلقي الأسئلة — عن غير المألوف، وما يبعد عن نطاق الحديث.
استأذن عبد الرحمن الصاوي، فأعطاه الإمام اهتمامه.
كان يحرص على الجلسة المسائية، ينصت، ويتابع المناقشات، وإن لم يحاول السؤال يومًا.
خصَّه الإمام بنظرة مشجِّعة، فقال في صوته الهادئ: ما حكم الدين في مَن يواجه ابنه بالقول: لست ولدي؟
قال الإمام: إذا كان هو الأب الحقيقي، يقام عليه الحد.
خالط صوته قلق: وما الحد؟
– الجلد!
تساءل عم سلامة: ومَن هذا الأب الظالم؟
قال الإمام: هل لا بدَّ أن ينطبق السؤال على حالةٍ بالذات؟!
قطع عباس الخوالقة اتصال الصمت: هل يحلُّ للرجل أن يتزوج حماته؟
همس الإمام بإشفاق: وما يدفعه إلى هذا الغلب؟!
قال الخوالقة: عطية سرور، تاجر العطارة في شارع الميدان، طلَّق زوجته وتزوَّج أمَّها … ناقشناه، فأكد مشروعية الزواج.
قال الإمام: زواجه من الأمِّ صحيح إذا لم يكُن قد دخل على الابنة؛ بمعنى أنه إذا تزوج المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فإنه — إن شاء — تزوج أمَّها.
قال الخوالقة: مضى على زواجه من الابنة شهران … فهل من المعقول ألَّا يكون قد دخل عليها؟
قال الإمام: ألزم الله طائر كل إنسان في عنقه.
خالط تردُّد مرتبك صوت الحاج محمد صبرة: هل تختلف شهوة الرجل عن شهوة المرأة؟
قال الإمام وهو يهزُّ رأسه: الرجل له شهوة واحدة، أمَّا المرأة فلها تسع شهوات.
أردف في تحذيرٍ باسمٍ: اليود الذي تشمُّه المرأة مع هواء البحر يغطِّي جسمها بالشهوة، فلا تهمل امرأتك وإلَّا خانتك!
ترامى صوت من صفٍّ خلفيٍّ: هل يساوي الله في العقوبة بين اللوطيِّ والزاني؟
قال الإمام: الفعل متشابه، والعقوبة واحدة … وربما عقوبة اللوطيِّ أشد.
أضاف كالمتنبه: أذكِّرك بأن الملك جبريل اقتلع مدينة سادوم التي كان قوم سيدنا لوط يرتكبون فيها الخبائث، وحملها على طرف أحد أجنحته، وحلَّق بها إلى علوٍّ شاهق … ثم ألقاها كأنها ورقة!
ثم وهو يضغط على الكلمات: قبر اللوطيِّ يلفظه فور الدفن، ليخلد في نار جهنَّم!
غمز عم سلامة بعينه: معظم القبور إذَن خالية من أصحابها!
عبره الإمام بنظرته، اتجه إلى الأصابع المستأذنة في أسئلة أصحابها.
– أين صاحبنا حمادة بك … يومان لم نرَه؟
قال الحاج محمد صبرة: زرته عصر اليوم … إنه بعافية.
التقط الإمام من فمه سنًّا مكسورة، تأملها، ثم أعادها: انصحوه بأكل التفاح … فهو يدبغ المعدة.
قال الحاج محمد: أخذ حمَّامًا ساخنًا، ونزل إلى الطريق.
قال الإمام: عليه بالسفرجل إذَن … إنه قوة للقلب الضعيف والمعدة التي تعاني.
استطرد متذكرًا: وانصحوه بالملح … لو علم الناس ما في الملح، لاختاروه على الترياق المجرَّب.
اطمأن إلى تلهُّف الحاضرين لما يفيد، فقال: تناول الملح بمقدار مفيد … لكن لا تديموا أكل السمك … إنه يذيب الجسم … إذا ضعف المسلم، فليأكل اللحم باللبن … ألبان البقر دواء، فإن ألحَّ عليه المرض وتناول إحدى وعشرين زبيبة حمراء … فلن يغلبه المرض!
•••
بعد صلاة العشاء تأخر في مغادرة الجامع، تأخر كذلك عشراتٌ من المصلين، انتظم معهم في صفَّين متقابلين، تسلموا نسخًا من البُردة مطبوعة بخطِّ نسخ، مشكولة بشكل واضح، بدأ الجميع في تلاوتها بصوتٍ خفيضٍ في البداية، علا وعلا حتى انتهى إلى نغم متماوج:
ارتفع الإيقاع بالذكر، وأُطفئت الأنوار، وتعالى النداء: الله حي! الله حي!
البداية قرارٌ مطمئن، هادئ: بسم الله الرحمن الرحيم … فاعلم أن لا إله إلَّا الله!
تماوجت الأصوات بهمس، والرءوس تهتزُّ في أماكنها، والأجسام ساكنة، ثم تحركت الأجسام وانتفضت واقفة، علت الأصوات، وازداد التطوُّح، ثم انتتر الذاكرون إلى فوق بآخر ما عندهم، نتراتٍ متلاحقةً متتالية، هدأت، وهدأت الأصوات، وعادت الأجسام إلى الأرض، واهتزت الرءوس في أماكنها، وعادت الأصوات إلى التماوج بالهمس.
تأتلف الحركة وتنسجم، يعلو الإيقاع، ترافقه — ثانيةً — هزَّات الأجساد والأيدي المتطوِّحة: هو … حي … قيوم … حق … قهار …
ترتفع التنهُّدات والصرخات والتشنُّجات، يطيب الوقت، يكاد الأمر يفقد ترابطه، ترتفع — في وقتها — صيحة الانتهاء ممدودةً، عريضةً، عالية: الله، إشارة الانتقال إلى طبقة عالية، يكبس الشيخ أيديهم وأرجلهم، يقيمهم على بركة الله، تسكن الحركة، وتهدأ الحواس، ويتهيَّأ الذاكرون لطبقةٍ أخرى من ترديد لفظ الرحمن الرحيم.
خطر له أن ينضمَّ إلى الطريقة الشاذلية، الدرجات صعبة؛ المريد، المقدَّم، النقيب، الخليفة خاتمة الدرجات الروحية، لو استطاع أن يقطع الدرجات إلى آخرها، يعرف الأسرار والرموز والدلالات والإيحاءات والإشارات والمشكاة والزيتونة والنوم على المسامير والزجاج المتكسِّر، تخضع له الثعابين والحيَّات، فيطلقها على مَن يسيئون إليه، ويجنِّب أذاها المحبِّين، يمتطي الحصان في الجلوة، حوله المريدون والأتباع، ذوى الخاطر — بتوالي الأيام — فاكتفى بالمشاركة في الحضرة، وترديد الأناشيد، والسير وراء جلوة الخليفة، والإخلاص في حبِّ آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين.
•••
فكر في الميل إلى شارع سيدي ياقوت العرش، اعتاد الجلوس إلى عم جابر برغوت، خادم الجامع، يسأل، ويجيب الرجل، يجد في مجلسه تعاطفًا ومؤانسة.
اجتذبته — من بُعد — أنوار وأعلام ونوافذ مفتوحة وشرفات يطلُّ منها نساء وأطفال، وصوت حودة بدران شهب تخترق الليل.
دخل السُّرادق في الناحية المقابلة للبيت، ضخم، علقت أمامه وفي داخله التعاليق والنجف واللمبات الملونة والرايات الحمراء والخضراء، يتوسط نهايته منصَّة خشبية، يجلس فوقها العوالم، يقابلها صفوف من الكراسيِّ والدكك الخشبية، وفُرشت المساحات الفاصلة بالسجاد الأحمر.
حيَّا وجلس، وشكر على السيجارة وكوب الشربات.
العوالم على دكتين في نهاية السرادق، تفصل بينهما ترابيزة عليها الشموع والمرطِّبات.
تبيَّن — بنظرةٍ جانبية — أن محيي قبطان يجلس في الكرسيِّ الملاصق، حيَّا وسلَّم، وتمتم بعبارات مجاملة.
همس محيي قبطان في أذنه: أخيرًا … تزوجت بنت الحاج قنديل!
وضع راحته على جانب فمه، وحرص على خفوت صوته: هل كانت عانسًا؟
– بالعكس … النساء يتحدثن عن جمالها وبياض لحمها، لكن الحاج أصرَّ ألَّا تراها عينٌ قبل الزفاف … فإذا سُئل، قال: إنها تشبهني … وأنت تعرف نصيب الحاج من الجمال.
ابتسم، فكشف عن أسنان مفلوجة: وهل وافق العريس على الشرط؟
قال محيي قبطان في صوته الهامس: يتزوج أموال الحاج لا ابنته!
أعطى انتباهه لصوت حودة بدران يلعلع، فيغطِّي على الأصوات الهامسة، المتلاغطة، المتشابكة، يشغي بها السُّرادق الواسع.
طالت الجلسة، أيقظه الوصول المفاجئ لموكب العريس، كان قد أتمَّ دورته السباعية في ميدان أبو العباس، يطلب الإذْن من السلطان، سبقته الموتوسيكلات والسيارات المصاحبة والهتافات والزغاريد وطلقات الرَّصاص والنقرزان بالسروال الفضفاض والصديري المزركش، ينقل العصا الطويلة، ذات العمامة الملونة، بين جبهته وذقنه وأنفه وكتفه وأطراف أصابعه، دون أن يمسكها بيده، يرافقه مساعداه بنقرات منتظمة على طبلتين علقتا فوق صدريهما.
توقفت السيارة في أول الطريق، نزل العريس إلى حلقة الأصدقاء.
هتف حودة بدران: الحارس الله والصلاة على النبي … يحرسك يا عريس.
أضاف الأصدقاء: وانت أونطجي!
وهتف حودة بدران: ياما انت صغير.
أضاف الأصدقاء: حلو يا عريس!
وتعالت الأصوات منغمةً، يرافقها تصفيق:
اقروا الفاتحة لابو العباس … يا اسكندرية يا أجدع ناس.
وترامى — من الشرفة المطلَّة على السُّرادق — صوت العالمة تغني:
توقفت عربةٌ على ناصية الساحة المقابلة للبيت، مزدانة بالشيلان الكشميري والورد والأزهار، يجرُّها أربعة جياد، ويخفرها الأولاد، استقبل العريس عروسه في عودتها من الحمام، مانعت — في البداية — وتأبَّت، كما تقضي الأصول، ثم سارا إلى داخل البيت، خلف ستار من الشيلان الكشميري، فلا يراهما الناس، يتناثر فوقهما الملح والبدور؛ قطع صغيرة من نقود ذهبية وفضية، تسبقهما الزغاريد وزفة العوالم وأبو الغيط وأولاد عبد السلام.
•••
اختار لخطواته أن تميل إلى شارع البوريني، ومنه إلى الساحة الواسعة قبالة حمام الأنفوشي.
كان يعلم أن عم محجوب، حارس الحمَّام، يفتح أبوابه أثناء الليل للمعارف، يغادرون البيوت إلى الحمَّام، فإلى أبو العباس، أو المساجد الأخرى القريبة، ليتجهوا — من بعد — إلى الشاطئ.
لمح النوافذ مضاءة، فتأكد حدسه.
تفحصته — للحظةٍ — عينا عم محجوب: علي الراكشي! من البيت أم إليه؟
قال علي الراكشي: في الشوارع من أول الليل.
أطلق عم محجوب ضحكة قصيرة من أنفه: أغضبتك المرأة؟
قال الراكشي: سرقني الوقت بين الذكر في أبو العباس، وزفاف بنت الحاج قنديل.
دسَّ في يد عم محجوب قرشًا، ناوله الرجل صابونة مستعملة وفوطة.
تعالى صوتٌ من خلف أحد المربعات: لن تذهب إلى الحلقة إذَن هذا الصباح.
ميَّز صوت قاسم الغرياني.
لأن الجنَّ يتخذون من الحمَّامات مأوًى لهم، فقد استعاذ بالله من أذاها وهو يخطو على عتبة المدخل، بادئًا بالقدم اليسرى.
بدا المكان ملتفًّا بضباب الماء الساخن من الأدشاش، وفي المربعات المتلاصقة بطول القامة.
قال الراكشي وهو يغالب ابتسامة: أستطيع — بحول الله — أن أظلَّ ثلاثة أيام بلا نوم.
وقال لأصوات الرجال المتلاغطة داخل المربعات: كلما وجدتكم بربطة المعلم في الحمَّام، عرفت أن حالكم واقف.
قال قاسم الغرياني: نحن في يد النوَّة، تذهب فنركب البحر، وتأتي فنأتي إلى الحمَّام، أو نجلس في القهوة.
تناهى صوتٌ من المربع الأخير: هل عرفتم ما حدث؟
أدرك حمودة هلول أنه أسرف في تصنُّع الجديَّة، فغاب الهدف الذي أراده، قال في سرعة ليبدد المشاعر المتباينة: شفيقة غراب ماتت!
قال قاسم الغرياني: حسبنا أن الحرب عادت.
أضاف سيد الفرَّان: أو أن الملك فاروق هو الذي مات!
اطمأنَّ هلول — بأصابعه — إلى غياب الصابون عن وجهه: موت شفيقة غراب ليس حدثًا عاديًّا … لها الفضل في متعة الآلاف.
ولوَّن صوته: وحلِّ عُقدهم أيضًا.
قال سيد الفرَّان: المرَّة الأولى التي زرت فيها كوم بكير، كنت واحدًا في طابور، والمرأة تستند إلى جدار، تعطي اللذة في دقائق.
قال الغرياني: وما شأنك أنت بعالم الرجال؟ جاوزت الثلاثين ولم تتزوج، فهل أفشي السر؟
قال سيد: أنا أقفز وأجري، لا حاجة بي للزواج!
قال الغرياني: أشهد لك بالتفوق في العادة السرية، وإن كنت أثق أن هذا هو آخر تفوقك!
قال دياب أبو الفضل وهو يسلم جسمه إلى الماء الساخن: آخر الأنباء: حمدية بنت توفيق الرشيدي … فرَّت مع عم شاكر فرَّاش مدرسة الحجاري.
علت في مربع الغرياني صيحة دهشة: لا أصدِّق … الرجل خطوتين والقبر!
قال دياب أبو الفضل: أغواها بكلماته المعسولة.
قال الغرياني: البنت بكر … بخاتم ربها!
قال خميس شعبان: كنت أبيع لها كوبًا من دم الترسة … مرَّتين كل أسبوع.
قال الغرياني: لذلك فجسمها بلا عظام!
قال سيد: يا بخته الملعون … فتاة كاملة الدسم!
قال خميس شعبان: عندي لك عروس أشهى منها.
قال عم محجوب دون أن يزايل مكانه في مدخل الحمَّام: إلحقه بها يا خميس … وإلَّا تزوَّج على روحه!
وشى صوت سيد بالغضب: وهل شكوت لك يا شقيق فرعون؟!
قال خميس شعبان: لا تغضب من سيد يا عم محجوب … إنه منا وعلينا.
ثم بنبرة معاتبة: يا سيد … تقسو على عمك محجوب وهو في سنِّ أبيك؟!
قال سيد: إنه دائمًا يرقص في مركبي.
قال خميس شعبان يبدل اتجاه الكلام: البنت التي اخترتها لك … لم تذُق شفتاها طعم شفاهٍ أخرى غير شفتَي أمِّها.
سأل الغرياني في اهتمام: مَن البنت يا خميس؟
قال خميس شعبان: صفية بنت المعلِّم محمد كسبة صياد الجرافة.
قال الغرياني: بنت شاطرة … بها عِرق دمياطي.
•••
دفع الباب الخشبيَّ بجانب كتفه، كانت يداه مشغولتين باحتضان «الغلق» الخالي، ندَّ عن الباب صرير، عمق الصمت الذي ساد المكان، تداخل بالظُّلمة والخواطر الجهنميَّة التي تسلَّلت — في الليل — إلى رأسه، فأحسَّ بالرضا.
دندن بصوت خفيض:
شدَّه الضوء الصادر من الحمَّام، تعجَّب لسهو المرأة، أو لخوفها. اتجه إليه ليطفئه.
علت الدهشة بصوته: تغسلين في الفجر؟!
سبق انتظاره للجواب شهقة المرأة.
ضحك: خفتِ؟
وهي تغالب الارتباك: الدنيا ليل … لم أشعر بصوت المفتاح في الباب.
قبَّل أصابعه المضمومة: نورك يضيء المكان.
نترت الماء من يدها، وأسدلت قميص النوم — بعفوية — على فخذيها.
قال: أنا زوجك يا امرأة.
حاولت التشاغل بعصر الغسيل.
قال في حسم: كفى!
ثم وهو يعاونها على القيام: لا داعي لدخول الحُجرة، قد يصحو الأولاد.
خالط صوتها احتجاج: هكذا على الأرض؟
– نعم … هكذا على الأرض!
تلفَّتت في حيرة، مالت إلى شوال في ركن المكان، فنفضته، التمعت عيناه بالسؤال: هذا الشوال … من أين؟
قالت وهي تسوِّي الشوال في الأرض: إنه شوال الدقيق.
ارتعشت أهدابه: وأين الدقيق؟
– خلص.
صرخ: كله؟!
– كله.
أطال النظر إلى المرأة التي توقفت عن تسوية الشوال، كأنه يراها للمرَّة الأولى، بدت له طيبة ومسكينة ومهمومة، بدت له شيطانًا ينغص عليه حياته؛ شعرها الأكرت، وعيناها اللتان غابت إحداهما وراء سحابة بيضاء، وقامتها المدملجة القصيرة، وثيابها التي لم تبدلها منذ سنوات، حتى عندما يضاجعها، تكتفي بسحبها إلى ما فوق البطن، وتسلم نفسها في بلادة.
باخت الصور وتماوجت وتطوحت، سخيفة وبلا معنى، تقافزت الكلمات داخل حلقه، فلمَّا أدرك أنه فقد الرغبة في الكلام أشاح بيده …
ومضى.