يا مريدي … لا تضق بي!
قال أبو العباس: مَن أحبَّ الله، وأحبَّ الله فقط، تمَّت ولايته، والمحبُّ على الحقيقة لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، فإن مَن ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت، وقال: من أجل مواهب الله تعالى، الرضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكل على الله تعالى عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمَن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة، ومتابعة السنَّة، والاقتداء بالأئمة، فقد صحَّت ولايته لله، ولرسوله، وللمؤمنين، وقال: لو كشف عن نور المؤمن العاصي، لطبق ما بين السماء والأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطيع؟!
قال علي الراكشي: أنا عائد من الحلقة.
أردف للتساؤل في عينَي الشيخ يوسف بدوي: كنت أحاسب على شروة بعتها لحسابي.
قال يوسف بدوي: على التلميذ ألَّا يشتغل بشيء سوى الحقِّ سبحانه، حتى ينفعه التعليم.
واتته جرأة: ومن أين أطعم أولادي؟
قال الشيخ: لا أدعوك إلى هجر لقمة العيش … ولكن يجب أن تمشي في طريق الله معظم خطواتك.
أذهله التغيُّر في ملامح الرجل، وفي نبرة صوته، وطريقة كلامه. لم يعُد ذلك الأب الذي يلقي برأسه على صدره. يسأله، ويناقشه، ويشكو له همَّه، استحال همًّا يطلُّ في العينين، وفي تقلُّصات الوجه، وارتعاشة اليدين، والنبرة الباترة.
ثم وهو يضرب الهواء بجانب يده: اذكر ربَّك امتثالًا … لا لقصد دنيا!
وعلا صوتُه بنبرة محذِّرة: إذا كان قلبك جُنبًا، فانصرف!
تساءل بالدهشة: هل يجنب القلب؟!
قال الشيخ: جنابة القلب غفلته عن خالقه.
الحاج قنديل يحصي عليه أنفاسه في قهوة الزردوني، عيونه وآذانه ينقلون إليه ما يقوله، هل يكمل الشيخ الدائرة، فيحصي أنفاسه في الحياة كلها؟!
أشار الشيخ إلى صفَّي الرجال المنتظمين.
بدأ الذِّكر بقرار مطمئن، هادئ؛ هسيس النخيل، أو تلاحق أمواج البحر ساعات هدوئه، ثم انتقلت الحركة إلى مقامات أخرى أكثر ارتفاعًا، حتى مقام الأوج. حمي الوطيس، وبلغت حركة الذِّكر غايتها من القوة والسيطرة على الذاكرين، علت صيحات الوجد، وصرخات التعبير عن الأحوال.
تناغم صوت الشيخ بالصيحة الممدودة: الله!
سكنت الحركة، وتمطَّى الهدوء، واستقرَّ الذاكرون — لدقائق — استعدادًا لطبقةٍ ثانيةٍ من الهتاف، وترديد لفظ الجلالة.
قال الشيخ: أنت تمتثل لرأيي في الظاهر … وهذا لا يكفي.
استطرد للعجب في وجهه: المهمُّ ألَّا تعترض في الباطن.
وتأمله بنظرةٍ مشفقة: أنت لن تستطيع أن تدرك دقائق الطريقة إلَّا بصحبة شيخٍ واحد.
قال علي الراكشي: ولكن سيدي الشاذلي أكَّد ضرورة أن يأخذ المريد من كل شيخٍ يقابله.
أشاح بيده في استياء: مَن قال إنه أكَّد ذلك؟ الشيخ الواحد للمريد أعون له على سلوك الطريق.
وفاجأه بالقول: عرفت أنك تتردَّد على دروس المغرب في أبو العباس.
قال الراكشي: هي محاولة للاستزادة من العلم.
لم يُخفِ الشيخ غضبه: من آداب المريد ألَّا يحضر مجلسًا لغير شيخه، ولا يسمع من سواه.
وتقلَّصت أصابعه على المسبحة: المريد الذي يذهب إلى غير أستاذه، كالابن الذي يذهب إلى غير أبيه.
وعلا صوتُه: حتى زيارتك لأولياء الله، لا تكون إلَّا بإذنٍ من شيخك.
عاب — للمرَّة الأولى أمامه — على الشيخ طه مسعود: إذا أخذ العالِم شيئًا من الدنيا، نقصت درجته عند الله، وإن كان كريمًا على الله، وشيخنا شغل بحظِّه وحظِّ غيره من الدنيا، فهو لا يشبع!
وعاب على الإمام اشتغاله بجمع الدنيا، وتزيين الملابس، وتكبير العمَّة، وتحسين المأكل والمسكن والمركب.
وخالط صوته عصبية: هذا رجل تعبُّده في الظاهر فقط.
كان قد تعلَّم آداب المريد مع شيخه؛ لا يأكل معه، ولا ينام معه، ولا يضحك بين يديه، ولا يرفع صوته عليه، ولا ينام في فِراشه أو قريبًا منه، ولا يجلس في موضع جلوسه، ولا يتكلم في مجلسه، ولو كلمة واحدة، حتى يستدعيه للكلام، ويلزم الوقار والأدب في مكانه، عرف أن عليه ألَّا يزور وليًّا ولا صالحًا من الحي، ولا من الإسكندرية كلها، إلَّا بإذنه، ولا يشارك في ذِكرٍ لا يكون هو شيخه، ولا يستمع إلى درسٍ لا يكون هو صاحبه، ولا إلى كلماتٍ — مهما بدت مهمَّة — إلَّا إذا صدرت من الشيخ، ومن فيض علمه.
أنساه ما قرأه وتعلَّمه؛ معاملة الشيخ لمريديه؛ يخاطبهم كأصدقاء، يستمع منهم، ويناقش مشكلاتهم الشخصية، وأذن بأن يتصلوا ببعض في غير حضوره، يتزاورون، ويتبادلون الكتب، ويتناقشون فيما قرأوا، وربما رافق أحدهم أخاه في تمشية على الكورنيش.
منذ أعلن توبته اقتلع كل جذور التعلُّق بما سوى الله، لم يشرئب للدنيا، ولا جنح نحوها، وصرف خاطره عن الاشتغال بالخلق، ملك نفسه من الفضول والغيبة والنميمة والكذب، أعدَّ قلبه لحقائق الطريق التالية، اجتهد في ترحيل القلب من سلاسل شهواته، تطهيره من أخطائه وذنوبه وغفلته عن ربِّه، وحفظ الحواس وصيانتها من الشوائب الظاهرة والأمراض الباطنة، وتطهير الجوارح، وتصفية القلب، ومسك اللسان، فارق مرتادي حمام الأنفوشي والجالسين على قهوة الزردوني، أو قهوة مخيمخ، حتى لا يشوِّشوا على صحَّة عزمه، أصمَّ أذنيه عن كل ما حوله، وانطلق — بأفكاره وتصوراته — في الآفاق التي لا نهاية لها، استعدَّ للموت مستغفرًا من ذنوبه، مجتهدًا في طاعة الله، وكان يأخذ نفسه بالمحاسبة والمراقبة، فعرف المخاوف والمهالك والحدود.
أصبح الشيخ في خاطره — بتقضِّي الأشهر — قوة تهيمن على توجيهه وهدايته، كأنه قوة عليا، لها سيطرة على إرادته، كان — في لحظات انفعاله — يرطن بلغة، أو لهجة، لا يفهمها محدِّثه؛ هي خليط من الحروف المتداخلة، لا تعبِّر عن معنًى محدَّد، وإن تبدَّى في زعيقه، وتغيُّر لونه، وتواصل الكلمات، أنه قد غادر مألوف هدوئه، واحتضن الغضب.
فاجأه الشيخ بالقول: هل أنت على ثقةٍ من صحَّة مبايعتك؟
وأردف في لهجةٍ محذِّرة: أنت حين بايعتني شيخًا لك، بدأت السير في طريق الوراثة … وهي الطريق الوحيدة إلى الفردوس.
وتلوِّن صوت الشيخ بإشفاق: لا تضايقك خشونتي … فما ربَّى أقطابنا ومشايخنا الكبار إلَّا الخشن.
قال علي الراكشي: أيَّة خشونة لن تصل إلى قسوة عبارات الحاج قنديل وتصرفاته!
وقال للشيخ: كنت قد سألت عن حكم الذي يحارب الآخرين في أرزاقهم.
قال الشيخ: لا تصر على طلب الجواب … اسأل واسكت!
– تهمُّني الإجابة.
وشى صوت الشيخ بضيق: من حقِّ شيخك أن يجيب وقتما شاء، أو لا يجيب.
تيقظت في نفسه الأسئلة، راعه قول الشيخ لمَّا شكا له قسوة الحاج قنديل: لا تشكُ لي … أنت إذا شكوت لأحدٍ ما حلَّ بك، فكأنك تشكو الله، ولا ترضى بأحكامه.
استطرد كالمتنبِّه: الحزن — إن كنت لا تعلم — هو من مقامات التطهير، ومدرج من مدارج الوصول!
متى يتحقَّق ما يريده من علم الشيخ وأدبه؟ يفارق الشيخ واسطة الفيض وواسطة المدَّد، يسلك طريقه الخاص، يستغني بربِّه عن الشيخ، يبدأ سَيره — بمفرده — في الطريق الصوفي، يعرج إلى المقامات العالية، يتقرب إلى الذات الإلهية بمجاهداتٍ خاصة، تتعلق همَّته وقصده بذات الله، يهيم بجلاله، يهديه الله إلى سبيله الخاص، يفهم دقائق الأسرار، يمتلئ بالأنوار والمواهب، يتقلب في أحوال الحبِّ، والوله، والوجد، والهيام، والشرود، والذهول، والغيبة عن الوجود، يُكثر من الذِّكر حتى يحصل له الأنس، فلا يغفل قلبه، ويشهد الله دومًا بقلبه، أو يرى نفسه في حضرته، التجلي الإلهي في الأوتاد والنقباء والأبدال والأقطاب، يتطلع إلى سحائب الرحمة، ورياح الهداية، وأرض النفوس الطيبة، وأدوية القلوب المنوَّرة، وخلجان الأرواح المطهَّرة، يصبح من الصابرين الصادقين القانتين المستغفرين بالأسحار، ومن خواص أهل الحضرة، أهل المشاهدة والمكاشفة.
الترقِّي يأتي بصعود درجات القُرب، إعطاء الظَّهر لدركات البُعد والرسوم الخلفية، تشرق عليه — في النهاية — فيوض الأسماء الإلهية والصفات الحسنى، ويندرج الأزل في الأبد، فلا صباح ولا مساء، ولا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل، يبين ما كان مخفيًّا ومختلطًا من أهل الزمان.
متى يُحَزَّم بحزام المشيخة؟!