البحر
شاط بحذائه الكاوتش زلطةً صغيرة، تدحرجت على رصيف الكورنيش، حتى استقرَّت في كومة زبالة، ألقى السلام على العاملين في وِرَش المراكب، واخترق شارع الحجاري، إلى شارع حافظ باشا.
واجهه ميدان أبو العباس، باتساعه وزحامه والباعة السريحة والمستندين إلى الجدران، والداخلين والخارجين من الأبواب التي فُتحت على آخرها.
فكر أن يصعد إلى الميضة، يغسل وجهه، ويتمدَّد في الناحية البحرية. آخر مرَّة أيقظه عبد النبي شعرة، وشتمه، أَولى ظهره للجامع، ومضى.
لم يكُن في طريقه إلى مكانٍ بالذات، ولا حتى إلى قهوة الزردوني، لم يعُد يتردَّد عليها منذ اشترط المعلم أحمد الزردوني أن يدفع الحساب القديم، قبل أن يطلب «مشاريب» جديدة.
حتى قهوة البحَّارة بالمنشية، لم يعُد يتردَّد عليها. الروَّاد عمَّال بحرٍ أو بحَّارة، تركوا العمل في سفنهم، أو فُصلوا منها لأيِّ سبب. ليسوا جميعًا من الإسكندرية، ولا حتى من أولاد العرب. الرطانة بلغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة. يأتون لأيام، ويغيبون لأشهر، والدفع حالًا، مَن يعجز يدفع له زملاؤه، تتغيَّر السِّحن بتغيُّر السُّفن الراحلة والوافدة، ربما طال التردُّد على القهوة حتى تصل السفينة المطلوبة.
هزَّ رأسه لكل العروض التي قُدِّمت إليه، بعيدًا عن البحر، حتى العروض التي قبِلها، ما لبث أن اعتذر عنها.
قال لقاسم الغرياني: أنا مثل النورس … أبتعد عن البحر قليلًا … لكنني لا أبتعد عنه إطلاقًا.
وعلا صوتُه بحماسةٍ مفاجئة: البحر هو أنا!
تذكَّر أنه أصبح مثل النورس، بالفعل، يكتفي بالتحليق فوق الشاطئ، لا يبتعد إلى أكثر من مدى البصر، وهو قد اكتفى بالوقوف على الشاطئ، وإن ركب فلوكة، فهو لا يجدِّف بها إلى أبعد من الجزيرة، في نهاية الأفق القريب.
كان يحبُّ التمشِّي في الميناء، تمضي قدماه إلى غير هدف، يتنقل بين الحاويات وبلوطات البضائع، يتأمل البواخر الضخمة في المرساة، اللون الأخضر الطافي فوق الماء، أصوات المحركات والروافع وصفير البواخر وصيحات النوارس وهتافات الشيالين، ينقلون أجولة القمح إلى سيارات النقل.
حاول أبوه أن يعيده إلى المدرسة، لكنه كان قد نزل البحر، ركب البلانس واللنش والفلوكة والدنجل، وغطس، واصطاد بالسنارة والجرافة والطراحة، فهرب من المدرسة إلى البحر، راق له العمل في بلانسات الحاج قنديل، رحلتين أو ثلاثًا، ثم غلبه طبعه، فردَّ إلى الحاج قنديل شتيمته، ضربه صبيان الحاج — من بينهم أصدقاء له — وطردوه من الحلقة، لم يجد بعدها مَن يقبله على مركبه، راعوا خاطر الحاج قنديل.
أعطاه علي الراكشي حصيلة صيد السنارة، وضعها في مشنَّة، ووقف مع «الفريشة» — أمام باب الحلقة — نادى على ما لديه بأنه ليس عفشة ولا زريعة، قلب صبيان الحاج قنديل فرشته، وطردوه بعيدًا.
اشتغل — لفترة — رفَّاصًا، يبحث عن الأشياء التي تسقط من الناس في مياه البحر، لسعه قنديل البحر، أخذ أيامًا حتى شُفي، ثم لم يعُد إلى وظيفة الرفَّاص.
تنقَّل بين المهن المتصلة بصيد الإسفنج حتى تعلَّمها جيدًا؛ دَوْس الإسفنج بالأقدام، أو عصره، لقتل الحيوان وطرد المادة الحية والسوائل اللزجة، تجميعه في كومات، وتغطيته بأكياسٍ مبلَّلة، انتظاره حتى يتحلَّل بأشعَّة الشمس، غسله بمياه البحر، حمله — مغسولًا — إلى البلانس الأم، يواصل — فوقه — عملية التنظيف، فيخلو الإسفنج من الحصى والرمال والأصداف والأعشاب، قصَّ الجذور والتفريعات والزوائد، صبغ الإسفنج باللون البنِّي.
حين تحدَّث الناس في الأنفوشي عن قيام بعثة آثارٍ أجنبيةٍ باستخراج أجزاء من تماثيل، وقِطَع من سفن رومانية قديمة، قبالة قلعة قايتباي، قرَّر أن يتعلَّم الغوص، ليبحث عن آثار جديدة في المنطقة، وعاش بأمل العثور على حطام سفينةٍ غارقة، اشترى القناع والزعانف وأنبوبة التنفس، أهمل القسوة في المعاملة كي يتعلَّم، تركوه بلا تعليم، حتى يخطئ، فلا يعود إلى الغوص، ويخلو لليونانيين جوُّ الصيد، ظلَّت الأدوات في موضعها، فنسي الأمر كله.
دخل قهوة مخيمخ — ذات أصيل — خواجة في نحو الخمسين، اكتفى بالنظر إلى الرجال الجالسين، وهمس بما لم يتبيَّنه أحدٌ في أذن صاحبه، ابن عرب، يرتدي بدلةً كاملة، وإن بدت عليه رقة الحال.
سأل الخواجة كل واحد عن تخصُّصه.
اختار ستةً، وربما سبعةً.
قال مختار زعبلة: أي حاجة!
قال المرافق، دون أن يعطي أذنه للخواجة: فهلوة المصريين … أي حاجة!
أضاف وهو يتجه إلى داخل القهوة: نحن نطلب مِهنًا محدَّدة.
تمَّ الأمر في بساطة لم يتوقعها، قدَّم نفسه للخواجة وعرض خدماته، تأمله طويلًا، وهزَّ رأسه بالموافقة.
بدأ مسَّاحًا؛ يمسح أرضية الباخرة، ينظِّف الغُرف والقمرات ودورات المياه. لم يصدِّق البحَّارة أنه — في رحلته الأولى — لم يُفرغ ما بجوفه، لم يؤثِّر فيه دوار البحر، ولا ظهر عليه أنه شغل به، ثم لزم الإسكندرية عندما مرَّت الباخرة عليها، جرَّب العمل في أكثر من مهنة، فلم يُوفَّق. عاد إلى البحر، عمل في قسم الغلَّايات بباخرة يونانية أيضًا، كأنما اليونانيون قدره، تنقَّل بين المِهَن المختلفة؛ التبريد، النجارة، التزييت، التشحيم، الميكانيكا، الكهرباء، الترشيم، الخدمة في المطبخ، تقديم الطعام، وحين تلعب النوَّات بالباخرة، ويبين الخوف في الملامح، يتذكر ما رواه الجدُّ السخاوي عن الباخرة التي هبطت إلى أعماق البحر، أو قذفت بها الأمواج إلى جُزرٍ بعيدة، حيث الكنوز بلا حصرٍ من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، يتمنى أن تعيد النوَّات حكايات الجدِّ السخاوي، لا يصارح الرجال بما في نفسه، وهم يعانون حصار العاصفة.
سقط — يومًا — في منطقة البريدج، المنطقة الأمامية قُرب قمرة القبطان، لزم الفِراش — في الباخرة وفي البيت — ثلاثة أشهر، حتى استعاد عافيته، وإن لم يغِب الألم — فيما بعد — عن أسفل ظهره.
تردَّد على المستشفى الأميري، وعلى عيادات الأطباء، وجرَّب وصفاتٍ شعبيةً أشار بها الجدُّ السخاوي والحاج محمد الحلاق، لكن الألم ظلَّ يناوشه، فهو لا يقوى على الوقوف أو الجلوس، ويظلُّ غالب وقته ماشيًا.
وضع أمام دكان عزت ياسين، تاجر المنيفاتورة بشارع الميدان، فاترينة صغيرة، متساوية الأضلاع، خلف فاترينة الزجاج صفوفٌ من البسكويت والشيكولاتة وعلب السجاير. مهنته الحقيقية كانت تغيير العملات الأجنبية للبحَّارة القادمين على البواخر الأجنبية. سِحَن مختلفة، وعملات، يجيد تبيُّن الفارق بين كل عملة وأخرى. يندلق البحَّارة والسيَّاح من باب رقم ٦ إلى قلب المدينة، يعرضون استبدال عملات، يعرف بعضها، فيسهل استبدالها، أو يراجع أسعار العملات في جريدة البصير. مع أنه لا يعرف القراءة والكتابة، فإنه يجيد التحدُّث بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية، تعلَّمها من اختلاطه بالجاليات الأجنبية في البحر، وداخل المدينة، وبالبحَّارة الذين تقذف بهم البواخر الأجنبية في الميناء، وإن كان لا يعرف من بلاد العالم سوى إنجلترا التي تحتلُّنا قواتها، واليمن التي يأتي منها البُن.
شارك في السرقة من لوريات الجيش الإنجليزي، في سيرها بشوارع بحري، ومن البضائع المرصوصة في الميناء، يقذف بالمخطاف داخل البلوط، يجذبه بسرعة، بشدَّة، يتمزَّق، وتتناثر البضائع، تتخطَّفها أيدي الرجال قبل أن يفطن الحراس، يكرِّر العمل نفسه في بلوط آخر. في مغيب النهار يتقاسم الرجال حصيلة ما جمعوه.
قبض عليه — ذات ظهر — عساكر الميناء، اقتادوه إلى قسم الجمرك، قضى ليلتين، حتى توسَّط له حمادة بك، فغادر القسم، وإن لم يعُد مأذونًا له بدخول الدائرة الجمركية.
عايره قاسم الغرياني بأنه يستمع من ثروت زلابية ومن بحَّارة البواخر التجارية إلى حكايات البحر. يجلس في القهوة، يسند ظهره بيده، ويرويها، ينسبها لنفسه، أهمل المعايرة، وتواصلت أحاديثه في البحر والمراكب والبلانسات والعاصفة والنوَّة والأسماك والمدن البعيدة. صداقة البحر ليست ككل الصداقات، مَن يعمل في البحر يتسرب حبُّه إلى دمه، لا يقوى على الابتعاد عنه، يظلُّ في خاطره حتى يعود إليه.
قال: إذا خرجت السمكة من الماء … ماذا يحدث لها؟
قال حمودة هلول: تموت!
قال مختار زعبلة: هكذا أنا … ابتعادي عن البحر معناه الموت!
قال محيي قبطان: لكنك لم تمُت!
قال مختار زعبلة: هذا ما يبدو لك.
قال قاسم الغرياني: وأنا أسأل: ما سرُّ تلك الرائحة المقبضة؟!
فوَّت مختار المعنى: أنت في البحر سيِّد نفسك … حرُّ نفسك … لا تنعي همَّ الحاج قنديل، ولا مشايخ الصيادين، ولا الحكومة نفسها.
كان ينزل البحر في الشتاء، لا أحد يجازف بنفسه في تلك الأيام، يقلُّ عرض السمك، فتزيد أسعاره، يخوض المخاطر، ويعود بالسمك الغالي، سمَّاه الجدُّ السخاوي كلب البحر، فلم تكُن تشغله النوَّات، حتى التي تقف بالسُّفن خارج البوغاز.
التقى بمحمود عباس الخوالقة أمام مطحن شيمي بك.
دعاه إلى حفلة العاشرة صباحًا في سينما الأنفوشي، تابع المشاهد بلا اهتمام، فلم يأخذ باله من انتهاء الفيلم، حتى نبَّهه محمود.
سارا إلى نهاية الحجاري، ثم فارقه بلا هدف.
الشوارع الضيقة المليئة بالأوساخ، البيوت المتلاصقة ذات الأبواب التي تفوح منها رائحة البول، السلالم المتآكلة المظلمة، الشرفات المتقابلة تكاد تتماس، يسقط عليها ظلُّ البيوت أغلب النهار، ما عدا ساعة الظهيرة، عندما تتوسَّط الشمس النهار.
انحنى على قطعة خبزٍ بجوار الرصيف، قرَّبها من شفتيه، قبَّلها، وأعادها لصق الرصيف تمامًا، فلا تدوسها قدم.
اقتحمت أنفه رائحة بُنٍّ محترق، تلفَّت — بتلقائية — بحثًا عن المطحنة القريبة.
غاب عن باله العشرات القادمون من الناحية الخلفية للمرسي أبو العباس؛ الموازيني والحجاري وأبو وردة وشارع الميدان. غالبيتهم يرتدون البنطلونات والقمصان، والأحذية أيضًا، وإن تناثر بينهم مَن يرتدون الجلابيب وحُفاة الأقدام. الشابُّ الذي حملوه على أكتافهم يهتف، ويردِّدون وراءه، ينفي أن يكونوا من الطرق الصوفية، لا بيارق ولا أعلام ولا ألعاب حُواة ولا أناشيد، يبدو تمازُج الأصوات — في لحظةٍ واحدة — كأنه الرعد.
اقتربوا.
صرخ الشابُّ بهتافه، وردَّده المحتشدون حوله.
عرف مختار أنها مظاهرة، ليست غريبة عنه، ولا مفاجئة، يلتقي بها في شوارع الإسكندرية، عشرات أو مئات يهتفون ضدَّ الإنجليز والأمريكان والملك والسراي والزعماء السياسيين، يتابعها — بعينٍ متشوِّفة — حتى تبتعد، ربما ثارت حولها المناقشات في قهوة مخيمخ، أو قهوة الزردوني.
لم يدرِ كيف أصبح واحدًا من المتظاهرين، ولا متى بدأ يردِّد الهتافات وراء الشاب، لكنه — في لحظةٍ ما — أحسَّ أنه أصبح واحدًا من المتظاهرين، كأنه بدأ معهم، وينتهي إلى حيث ينتهون. لا صلة له بما قبل ولا بعد، جزء من قطعة نسيج يصعب تمزيقها.
لم يلحظ البداية؛ مَن بدأ التحطيم؟ لكنه أصبح — وسط المتظاهرين — مثل الموجة التالية، تسبقها موجات، تليها موجات أخرى.
انهال الطوب — فجأةً — على دكان الشبكشي بشارع الحجاري. حدَّق تحت قدميه، والتقط طوبة، انتزع شجرةً صغيرةً من الأرض وإطارها الحديدي، كسر الفاترينة بضربةٍ واحدة.
لفَّه غضب، فنسي حتى المتظاهرين حوله، لم يعُد تشغله الهتافات ولا الصخب المتلاغط، وعصاه تحطم كل ما أمامها، تشتعل في داخله نيران، تملي عليه تصرفاته، فهو لا يدري أين، ولا لماذا، تتجه عصاه، لم يلحظ حتى الخدوش التي أحدثها في وجهه وعنقه ويديه، شظايا الزجاج.
– بوليس!
أيقظته الصرخة.
تهاوت العصا — بتلقائية — من يده.
بدا اللوري — أول شارع إسماعيل صبري — محمَّلًا بالعساكر. نزلوا إلى الطريق، أوقفوا الترام، وشكَّلوا حائطًا من صفَّين بين قهوة فاروق وحلواني «زهرة القرنفل» في الناحية الأخرى من الشارع، أعطوا ظهورهم للبحر، وواجهوا المتظاهرين.
تردَّدت المظاهرة في سَيرها، واهتزَّت الأكتاف بالشابِّ الذي يهتف، وخفتت الهتافات وتداخلت، فلم تعبِّر عن معنًى محدَّد.
اقترب العساكر، خلفوا شارع التتويج وراءهم، وتقدَّموا في شارع إسماعيل صبري، تفرَّقت المظاهرة تمامًا، وأنزل المتظاهرون الشابَّ، تحولت إلى ما يشبه الهمهمات الفردية، وإن داخَلها غضبٌ واضح.
اندفع العساكر بالعصيِّ، فتوزَّع المتظاهرون، اندفعوا إلى البيوت والدكاكين القريبة، وإلى شوارع فرنسا ورأس التين والبوصيري وسراي محسن باشا، والحواري المتفرعة.
داخَله خوف، فجرى.
لم يتنبَّه إلى قدميه؛ أين تقودانه؟
جرى، وجرى، وجرى، حتى اطمأنَّ إلى غياب المتظاهرين والعساكر، بدت الحياة في نهاية شارع أبو وردة على غير الصورة التي كان فيها.
هدأت نفسه، فلم يعُد يتلفَّت وراءه.
عبر قضبان الترام إلى الكورنيش، نزل إلى شاطئ الأنفوشي، سار في الرمال — بصعوبة — إلى قاربٍ صغير، غاب معظمه في الرمال، وغطَّت الطحالب والأعشاب جوانبه.
صعد فوق القارب، واستقرَّ في مجلسه، أسند صُدغه إلى قبضة يده، تطلَّع إلى نورسةٍ حلَّقت عاليًا، ثم هبطت، حامت في دائرةٍ فوق المياه، كأنها ترقب صيدًا، ثم انقضت في سرعةٍ خاطفةٍ على سمكة تلتقط أكلًا من سطح الماء، وطارت بعيدًا.
أطال النظر في نهاية الأفق.