ارتحال
مع أنه كان يعرف بحري؛ ميادينه وشوارعه وحاراته وأزقَّته وبيوته وقهاويه، وسراي رأس التين وقلعة قايتباي والحلقة والجمرك والميناء والبحر والمساجد والموالد وحلقات الذِّكر، فإنه كان قليل التردُّد على أحياء الإسكندرية الأخرى.
بدا له سوق الجمعة في غير الصورة التي رآها في زيارته الأولى منذ سنوات بعيدة؛ الأثاث القديم، والملابس المستعملة، والنداءات، والمساومات، والصفقات الهامسة.
تاه في الزحام الصاخب.
سأل شيخًا يعرض إبريقًا من الفضة، أفسح لنفسه مكانًا على الرصيف، بالقُرب من المرأة. كانت تعيد ترتيب العُدَّة على قفص من الجريد. في حوالي الستِّين، بشرة داكنة السُّمرة، لها عينان بنِّيتان تطلُّ منهما طيبةٌ واضحة، وشفتان ممتلئتان يعلوهما شاربٌ خفيف، وأنفٌ أفطس مخزوم بقُرطٍ ذهبيٍّ مستدير، وصُدغان متهدِّلان، ترتدي جلبابًا حائل اللون، تآكل طرفا كُمَّيه.
أبدى إعجابه للرسومات الموشومة على صدر البحَّار الأجنبيِّ في جلسته على قهوة مخيمخ.
قال قاسم الغرياني لنظرته المحدِّقة: أردت أن أرسم سمكتين وثعبانًا، فحذَّرني الجدُّ السخاوي … قال إن الوشم حرام.
قال مختار زعبلة: ولماذا السمكتان والثعبان؟
قال الغرياني: السمكة دليل الرخاء والخير والذرِّية الصالحة، أمَّا رسم الثعبان فليجنِّبك الله شروره!
علا صوتُ مختار بالدهشة: كيف تنجب الذرِّية الصالحة دون أن تتزوج؟!
عرض الأمر على أمين عزب.
نطقت ملامح الرجل بانزعاج: أذكِّرك بحديث الرسول: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلِّجات للحُسن، المغيِّرات خَلق الله.
قال مختار زعبلة: أنا رجل يا مولانا، ولست امرأة!
عرف — للمرَّة الأولى — موضع الوشَّامين في سوق الجمعة، دلَّه قاسم الغرياني، فلا يُسلم جسمه لعابرات الطريق. الثابت في مكانه تستطيع أن تعود إليه وتحاسبه، أمَّا العابر فهو قد يؤذيك ويختفي.
قالت المرأة: هل تريد عصفورة؟
بدا من لهجتها أنها صعيدية، أو من النوبة، حدجها بنظرة متأملة.
في حوالي الستِّين، لها بشرة داكنة السُّمرة، وعينان بنِّيتان تطلُّ منهما طيبةٌ واضحة، وشفتان ممتلئتان يعلوهما شارب خفيف، وأنفٌ أفطس مخزوم بقُرطٍ ذهبيٍّ مستدير، ترتدي جلبابًا حائل اللون، تآكل طرفا كُمَّيه، ولفَّت رأسها بمنديل بأوية حوافه من الترتر اللامع.
– ماذا تظنِّينني؟
وهي تمسح جبهتها بجانب يدها، ثم تنتر العرق، حقيقة أو وهمًا: تريد نخلةً إذَن؟
كرَّر الكلمة: نخلة؟
قالت المرأة: إنها تدلُّ على الخصوبة والوفرة.
لاحظ أنها ضغطت على الحروف الأخيرة في الكلمات، كأنها تؤكد المعنى.
أغمض عينيه، وهزَّ رأسه: قد تصحُّ لفلاح … وأنا من بحري.
ثم وهو يُسلمها ساعده: ارسمي سمكة.
علا حاجبا المرأة بالدهشة: دع وشم السمكة للنساء.
– السمكة فألٌ حسن.
قالت في دهشتها: لكنها ترمز لكثرة النَّسل … وهو ما تطلبه النساء.
– أنا أحبُّ الحياة في البحر … مثل السمك.
ابتسم لمَّا تذكَّر ما رواه محيي قبطان، طلبت زوجة حمودة هلول الطلاق ليلة زفافها، فاجأها بوشمٍ لاسم فتاة — لا تعرفها — على صدره، أصرَّت، فلم تُسلمه ساقيها إلَّا بعد أن أزال الاسم من صدره، ولحق الموضع تشوُّه.
تناولت المرأة من الصندوق الخشبي، فوق القفص، ثلاث إبرٍ صغيرة، يشدُّها إلى بعضها خيطٌ رفيع. غمست الإبر الثلاث في إناء من الكحل الأسود، اختلط به بخار سمنٍ ذائب، وبخار فتيلةٍ محترقة.
مسحت بظاهر كفِّها على ساعده، ثم ضربت الساعد — بسرعة — بالإبر الثلاث.
– لا تتحرك … حتى لا يفسد الوشم.
انتزع الكلمات: ألم فظيع!
شوَّحت بيدها: مهارتي يشهد بها الجميع!
لحقه صوت المرأة وهو ينصرف: لا تطمس الجزء الموشوم حتى لا يتورم!
•••
قال له الجدُّ السخاوي في قهوة الزردوني، وهو يتأمل ساعده الموشوم: ماذا فعلت يا حمار؟
في تأمله للوشم: حُبي للبحر رسمته على ساعدي!
قال السخاوي: أنت بهذا تغيِّر ما صنعه الله.
– هذا مجرَّد وشم سمكة.
علا صوتُ السخاوي بنبرةٍ متوعدة: كل وخزة من هذه الوخزات، ستكون يوم القيامة مسمارًا مثبَّتًا في مكان الوشم نفسه!