اليقين
متى تنزل أمطار المدد على أرض النفوس الطيبة، والقلوب المطهَّرة، والأرواح المضيئة، والأسرار المقدسة؟
لما غادر الحضرة، كانت تهبُّ على ميدان المساجد نسمات خريفية، تماوجت في نفسه مشاعر متباينة، كأنها الفرحة، أو اللذة، أو الانبساط، ففتح قلبه لكل مَن حوله، وما حوله، أحسَّ أنه يطير فوق الأرض، فليس لقدميه وقْع، تسيران ولا تسيران، قوة غريبة تحمله، تمضي به إلى الأمام، وإن بدا له كأنه ينقل خطواته.
كان الطريق خاليًا، لا يرى شيئًا يكرهه، حتى الكلاب التي اعتاد رؤيتها — وتجنُّبها — بالقرب من دكان شبيرو الجزار، لم يعُد يخشاها. طابت له نفسه، استغرق في النشوة فغمرته تمامًا.
قال له الشيخ يوسف بدوي، وهو يغادره: أنت الآن منتهٍ واصل، مقام الصحو والتمكين، وإجابة الحق من حيث دعاه، وإن كنت جاوزت — في الحقيقة — كل المقامات.
زالت العادة، وحلَّت العبادة، جاوز حُجُب التردُّد والشك والخوف، جعل من المجاهدة سبيلًا وحيدًا لأنوار المشاهدة. التجلي والانكشاف أوجبا عليه الصمت والمشاهدة، صمت حتى عن ذكر الله، خشية ألَّا تفد الرؤيا. يغمض عينيه، فتنسدُّ طرق الحواس الظاهرة، وتُفتح الأبواب لحواس القلب، يهبه الله علم أسرار المفاتيح على اختلافها، يفتح به الخصومات والمغالق والمعضلات والمضايق. زهد في الدنيا، مال إلى جانب الآخرة، يحميها حرس الله، يشرف عليها بعدله، لا تغفل عنها عينه، تكتمل للإنسان فيها طمأنينته. قطع العلائق كلها، وأقبل بكُنْه الهمَّة على الله، شغله التعرُّف إلى جواهر العلوم والأنباء والمعارف، الحقائق التي لا تتبدل ولا تتغير باختلاف الشرائع والأمم والأزمنة. تطلَّع إلى الأفق المبين، نهاية مقام القلب، جلا مرآة قلبه، فلا ينطبع فيها إلَّا وجه المحبوب، تنزه عن أن يشغله أيُّ شيء عنه، لم يعُد يشارك في حلقات الذِّكر، لاذ بالحضرة الواحدية، انصرف بفكره إلى قدس الجبروت، واستدام لشروق نور الحق في سرِّه، يرى اتصال مدد الوجود، ويخشع لذكر الألف. كل شيء موجود به، معدوم بنفسه.
عظمت المحبة، وكثر العطش، وغرق في بحار المنن والآلاء، واستحقَّت الروح رفع الحجاب، وتأهب لورود الإمداد، سافر إلى جُزر قريبة وبعيدة، تناهت أصوات موسيقا، رقصت — في ضوء القمر — بنات الحور.
كان يحسُّ — وهو يصلي — أنه بين يدَي الله العظيم، عن يمينه الجنة، وعن شماله النار، وخلفه الملائكة ألوف، يصلُّون، ويدعون له بحُسن القبول. لا يحصره الكون، فلا تقلُّه الأرض، ولا تظلُّه السماء، والبحار لا ساحل لها، والغوص بلا حدٍّ ولا منتهى.
لمح أنوارًا في أفق قلبه، لاحت، فاطَّلع على ما كان خافيًا. أغرقته سحائب الرحمة، تكشفت له الأسرار، تطهرت نفسه من الهواجس والوساوس الخفية، برئت من شوائبها، صفت وسمت، استحالت إلى روحٍ لطيفةٍ خالصة، تهفو للوصول إلى الملأ الأعلى والمبدأ الأسمى، تشهد من الجمال المطلق ما لا رأت عينٌ، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر. عالَم يتوق إليه، فلا يبلغ معرفته إلَّا بالكشف.
ترك حظوظ النفس في جميع ما في الدنيا، في كل ما يشغله عن الله، انخلع عن كل ما يمتُّ للأرض بسبب، وتحيَّر في ميادين القُرب، صبر على المجاهدات والرياضات، وغلب عليه الشوق إلى المشاهدة. أطال العكوف على باب الحضرة الإلهية، يتطلع إلى انفراجه، يترصد للشرارة حتى يلتقطها، قطع المنازل والترقي في المقامات، فشفَّت الحُجُب الكثيفة، وتقطعت أستار الجلال، وأشرقت شموس العرفان، وصفت البواطن من الشواغل والشواغب، وشعر أنه قد بلغ غاية مقام القُرب والتمكن، حتى السماء السوداء، استحالت قبةً من نور أسود.
مال من الميناء الشرقية إلى الأنفوشي، عبر حلقة السمك، فلم يرَها. غاب عن سمعه تلاغط البيع والشراء، والصيحات التي ناداه بعضها باسمه. انشغل عن نفسه، وعمَّا حوله، بالدفقات والنفحات، تهبُّ عليه، تكشف له عن حقائق الأمور الإلهية.
استقرَّ إيمانه، لم تعُد تشغله تصرفات الحاج قنديل، ولا شتائمه، ولا قلة أو كثرة ما يصطاده، ولا إن كان المزاد في الحلقة يتوقف عنده، أم يفوز به غيره. أحسَّ أنه قد انتقل من ضيق الأكوان، ورحل إلى سماء المعرفة، وأنه على أعتاب الحضرة الإلهية، تهيأ باطنه لتلقي الإلهامات الربانية، أنوار الله وأسراره، يتلقى المدد من الواحد الأحد.
تأمل أمواج البحر المتلاطمة في صخب، أحسَّ أن ما يمور في أعماقه أشدُّ صخبًا، فاض ماء المدد، فغسل أوساخ الوهم. تمَّت المصافاة، حلت المناجاة، فتح باب القدرة، تنزهت الروح في عالم الملكوت، جالت في دنيا الحق، أشرقت عليه شوارق الأنوار، ومقامات الإيمان بالله، وغرقت الروح في بحر التوحيد.
تكامل إشراق نور اليقين، فغطى الوجود، وارتوى من الخمرة الأزلية، تبدَّت أمامه صفات الله؛ العظمة، والعزة، والجلال، والجمال، والكبرياء، والكمال … انتهى إلى الله، وفي الله. استمرت ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، غاب عن كل ما سوى الله تعالى. لم يرَ في الوجود غيره، استكان لتصورات الآتي؛ يترقى في مراتب الأسماء، يترجل في معراجه، يصعد سماءً بعد سماء، يتلفت إلى عجائب الله وآياته في الكون المحيط، يهمس له الملائكة الملتفُّون حوله: لا تتلفت فتتعثر … إن السفر طويل، تنفتح السماء واحدةً بعد أخرى، وتُرفع الحُجُب، يصل إلى السماء السابعة، حيث الملكوت الإلهي، ويواصل السير بلا انتهاء، يضاعف من الأوراد والذِّكر والأحزاب، يبين التألق في سدرة المنتهى، جنة المأوى والملاذ السرمدي، يخطو منها إلى حضرة العرش، والرحمن الرحيم قد استوى، ويمضي — بخطوات الفرحة — إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فاجأه عجوز يستند إلى جدار أبو العباس، لم يعرفه، ولا رآه من قبل، وهو يغادر الباب المطلَّ على ميدان المساجد: فيما أرى، فأنت تريد الجنة … والصوفيُّ الحقيقيُّ يريد ربَّ الجنة!
تأمل العبارة لأيام، حيَّرته، لم يُشر الشيخ يوسف بدوي إلى المعنى فيما قاله، هل يخلص في عبادة ربه، فلا يجد في نهاية المسعى إلَّا السراب؟!
راعه أن خليفة الشاذلية حين ركب حصانه في مولد أبو العباس، لم يُقبل على الشيخ يوسف بدوي، وهو واقف وسط مريديه، والجلوة تميل من الميدان إلى شارع البوصيري، ولا ألقى عليه التحية، ضايقه أن الخليفة يتجاهل شيخه، كأنه ليس من رجال الشاذلية … فعلى مَن أخذ العهد؟!
مال إلى الوحدة، وائتنس بالانفراد، شغلته القراءة، عرف الطريق الواحدة، طريق الألف، أقبلت نفحات الصبا الرحمانية، الآتية من جهة شروق الروحانيات، والدواعي الباعثة على الخير. إن لم يكُن قد ملك — في هذه الحياة الفانية — قليلًا ولا كثيرًا، فإن دولة الفقراء ذات السلطان الواسع النطاق، الممدود الرحاب، في جنة الله يوم الدين. يخرج من قبره، فتستقبله نوقٌ بِيض، لها أجنحة، عليها رجال الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها كمدِّ البصر، فينتهون إلى باب الجنة، يدخل عليه أهل الجنة مهنِّئين، حاملين الهدايا والمواهب والخلع، يخبرونه أنه قد بدأ حياته الأبدية، يأتي المؤمنون ربَّ الحق في حُللٍ خُضر، ووجوه مشرقة، وأساور من ذهب، مكلَّلة بالدر والزمرد، وعليهم أكاليل الذهب. تزول اللِّحى والشوارب، وشعر الإبط، وشعر العورة والبطن، ليس لهم شَعر إلَّا في الرأس والحاجبين وأهداب العينين. لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يمخطون. أمشاطهم الذهب، ومجامرهم عود الجنة، ورشحهم المسك، وأخلاقهم على خُلق رجلٍ واحد، يعطي كل واحد منهم قوة مائة رجل في الطعام والشراب والشهوة، يجد لذة شهوته قدر أربعين سنة، تتدفق الأنهار، وتصطفُّ الأشجار، وتهبُّ النسائم، وتغرد الطيور، وتضوع في قصور الأبدية روائح المسك والكافور والزعفران، وثمة شجرة يخرج من ساقها عينان، يغتسل المرء من العين الأولى، فلا يشعث رأسه بعدها أبدًا، ولا يتغير جلده، ويشرب من العين الثانية، فيتطهر جوفه.
– أين أنت؟
نظرة الشيخ يوسف بدوي الثاقبة لاحظت انعزاله عن الجماعة، وعن كلمات الشيخ نفسه، بدا منعزلًا في مكانٍ يعرف هو — وحده — ملامحه.
اعتذر، وإن لم يجب عن السؤال.
نقله حديث الشيخ إلى دنيا يحلم بها، عوالم سحرية يراها ويحيا في قلبها، وإن تشوَّف إلى تفصيلاتها وملامحها. آفاقٌ بلا نهاية من النورانية والروحانية والحقيقة المطلقة.
سرح به الخيال في معاني المفردات، الكلمة تنطلق في آفاق اللانهاية، الرؤى والتكوينات والألوان والظلال.
فاجأه الشيخ حماد، المستند إلى جدار أبو العباس: لا علم ولا عمل إلَّا بصدق التوجه إلى الله … الإخلاص مطلوب!
أضاف بلهجة مشفقة: لا تشغلك الجنة … فنعيمها — كما قال شيوخنا — حجاب عن الله!
تذكر ما قاله أمين عزب: هل يصحو فيجد نفسه شديد القرب من نورانية المكاشفة؟!
كان القلب مغمورًا بالمشاهدات؛ الحقائق، والأوصاف، والخواص، والأحكام، والكرامات، والأسرار … ينادي المنادي: آن لك أن تصحَّ، فلا تسقم أبدًا، وآن لك أن تحيا، فلا تموت أبدًا. يتحول ظاهره وباطنه إلى مسحة آدم، وصورة يوسف، وقلب أيوب. يتزوج خمسمائة حوراء، وأربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف ثيِّب. يعانق كل واحدة منهنَّ قدر عمر الدنيا. ينزل عن سرير الياقوت، يمشي في رياض الزبرجد، يخرج إلى صحارى الزعفران، يمرُّ على مروج العنبر وآكام القرنفل وميادين الصندل، لا حر، ولا برد، ولا شمس، ولا قمر. الأطيار تغمس أجنحتها في بحر المسك والكافور، وتجوز فوق الرءوس بأجنحتها، فيطيب المؤمنون عن آخرهم بريشةٍ واحدة، يركب الرجال على خيلٍ من ياقوتة حمراء، لكل فرس جناحان من فضة وجناحان من ذهب، خيل مسرجة لا تغوط ولا تبول، وعلى خيلٍ بلق أجنحتها خُضر، والنساء على نجائب أقتابها من ذهب، وبها البراق؛ رأسه من الذهب الأصفر، وعيناه من المرجان، وجوانبه من الدر، وذيله من اللؤلؤ، وقوائمه من الكافور الأبيض، وحوافره من اللُّجين، وسرجه من الزمرد الأخضر، ورِكابه من النور، ولجامه من الحرير الأخضر.
دهمته الرائحة الغريبة، ألِفها. الحيطان تآكلت، وبدا الطوب الأحمر من المصيص المتساقط، والبيوت الواطئة القديمة، تستند إلى كمرات الخشب.
ثمة روح مهيب يملأ جوانبه، وأطياف تتراءى من بُعد، أشعَّة ضوء تخترق الظُّلمة المتكاثفة، تعكس شفقًا شفيفًا، يضيء المرئيات حوله، ويضيء نفسه، ثم انعكست آثاره كليةً في نور الأنوار.
هل وصل إلى الغاية القصوى، وتمَّت له معرفة الله؟ هل كُشف عنه الحجاب، وانفتح له علم الغيب؟ وهل تُفتح أبواب السماء بقدرة الله، وتظهر طاقة القدر صافية البياض؟ هل تنعكس على مرآة القلب دنيا لا تعرف الظلام؟ يسعد بمشاهدة الله، وتفيض عليه أنواره، يتلقى فيض التجليات على قلبه، وتنزل أمطار المدد على أرضه الظمأى. لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً ولا إلى وراء، يدخل الجنة، فيتمتع بمجامعة الحور العِين، ويفاكه الأبكار، ويتكئ على الأرائك، ويسعى عليه الوِلدان المخلدون بأصناف الطعام، وألوان الشراب، وطرائف الثمار، والحدائق الوارفة الظلال، والخضرة، والأريج، وأفنان الريحان والياسمين والورد، وأشجار البرتقال والرمان، واللبن، والعسل، والخمر، والموسيقا الحالمة، والغناء الشجي، والأطيار، والحمائم، والرحيق المختوم. يجلس تحت شجرة «التوبة»، شجرة الجنة الوارفة، تتوالد بما لا يتصوره أحد، تمتدُّ أغصانها عاليًا، ثم تعود إلى الأرض، تتجذر فيها، تصبح جذعًا جديدًا، يتغطَّى المكان بظلال النباتات المتسلقة والورود والأزهار المثمرة، تتوقف فوق رءوس المؤمنين، لا شغل ولا مرض، يعمُّ السكون والطمأنينة والهدوء والسلام، ينمحي الخوف، وينال المؤمن جزاء إيمانه. حتى لو بلغ مرتبة الولاية، فسيظلُّ يأخذ نفسه بالتستُّر والإخفاء. ينشغل — ولو ظاهريًّا — بشئون الدنيا، يبيع ويشتري، ويساوم، ويعقد الصفقات، يحرص ألَّا يعرف الناس حقيقة أمره، فهو واحد من التجار، واحد من الصيادين، واحد من المتردِّدين على السلطان، المريدين له، الساعين في طريقه، المؤمنين بأقواله وبمعجزاته ومكاشفاته، المتطلعين إلى فيض بركته، إلى الشفاعة والنُّصفة والمدد، ربما سكت عن إجابةٍ يعلمها، ويعجز عنها إمام الجامع، في سؤال لأحد المصلين.
ارتفعت القلوع، وامتلأت الصواري بالهواء البارد، ومضى القارب إلى الشاطئ البعيد، الغامض، المحمَّل بالأسرار.
لاحت الأسرار من أكنَّتها، وظهرت الأنوار من سُبحاتها، وارتفعت الحُجُب عن القلب، وظهرت المعاني الإلهية، تجلَّت في مرآة الخيال، فرأتها عين البصيرة، انكشف لها ما في غيابات الموجود.