مكاشفة
انتهت صلاة المغرب، وبدأ نصف الدائرة في الالتفاف حول مجلس الإمام.
حضر الجلسة — بعد غيبة — حمادة بك، لزم البيت — لأسابيع — منذ الليلة الكبيرة لمولد السلطان، زاره أطباء، وعاده أصدقاؤه ومعارفه وجيرانه، لزم الآخرون بيوتهم — لأيام — حتى استردوا عافيتهم.
ظلَّ ما حدث محور أحاديثهم، تناولوه بالحزن، ثم غلَّفوه بالسخرية، ضمَّنوه نِكاتًا ومفارقات، في زياراتهم لحمادة بك، وفي جلستهم أمام دكان الحاج محمد صبرة، ذكرهم عباس الخوالقة بأنهم نسوا — عند الفرار بحياتهم — زيارة مقصورة السلطان، وطلب الإذن بمغادرة المولد، والدعاء بأن يدعوهم إلى مولد العام القادم: عودة يا رب!
قال حمادة بك: نجوت من الموت مرَّتين في الفترة الماضية.
سرح بعينيه: في المرَّة الأولى، أنقذني الصياد قاسم الغرياني من الغرق في الميناء الشرقية.
قاطعه الحاج قنديل: إنه أحد صبياني … وخادمك.
قال حمادة بك: أمَّا في المرَّة الثانية فلست أدري — حتى الآن — كيف نجوت!
قال الحاج قنديل: هذه بركات مولانا السلطان.
أردف عباس الخوالقة: وبركات أولياء الله الصالحين … سادة حيِّنا!
قال الحاج محمد صبرة: نصيحتي أن تأخذ تعويضًا من الحاج قنديل … فهو الذي دفعك إلى ترشيح نفسك.
قال عباس الخوالقة: لكن المعلم الزردوني هو الذي دفعه إلى حضور الليلة الختامية.
قال الحاج قنديل: في رواية، أنه عاد إلى وفديته القديمة … فأراد إثناء حمادة بك عن الترشيح بوسيلة مبتكرة.
اغتصب حمادة بك ضحكة: أصدِّق لو أنه لم يكُن معي يوم الهول العظيم!
قال المعلم الزردوني: الانتخابات قادمة … وستشهدون تأثير مشاركة حمادة بك في الليلة الكبيرة.
رفع حمادة بك يديه، كمَن يتقي خطرًا: توبة!
اهتزت النظارة الطبية على منخار الحاج قنديل: ألن ترشِّح نفسك؟!
قال حمادة بك: السياسة بحر … لا أجيد العوم فيه.
قال الحاج قنديل: أوجاعك هى التي تتكلم … انتظر حتى تبرأ.
قال وهو يهزُّ رأسه في تلاحق: للسياسة رجالها!
أطال الصلاة — لحضورهما متأخرين — الحاج قنديل وعبد الرحمن الصاوي. روى الإمام — حتى يأتيا — حلمًا استيقظ في نهايته — وربما قبل أن ينتهي — على أذان الفجر.
لم يكد يلتقط منه طرف خيط البداية، حتى فوجئ بالبداية نفسها في أفواه الحاج قنديل وعباس الخوالقة وحمادة بك، تساءلوا: هل من المعقول أن يشاهدوا حلمًا واحدًا — وإن اختلفت تفصيلاته — في لحظاتٍ متقاربة، فلا يوقفهم إلَّا أذان الفجر؟ يتصورون ما رأوه حلمًا وانقضى.
تراوحت التفسيرات، داخل الذات، أو مع الآخرين … لكن السؤال الذي بدا ملحًّا، بعد أن روى الإمام ما روى: هل كان ما جرى حلمًا، أو أنه شيء آخر ينتسب إلى معجزات سلطان الإسكندرية وحاميها؟
روى مريدوه الكثير من مواجيده وأحواله ومكاشفاته وكراماته، كان يأخذ علمه من ربه، أيَّ وقت يشاء، بلا تحفيظ من كتاب، ولا درس، يأخذ عن الكون، ويمشي على الماء، ويطير، ويمسك النار، ويحتجب عن الأبصار، ويطوي الأرض، وربما قطع المسافات البعيدة في غمضة عين، وكان يرى الكعبة من موضعه، أينما كان ذلك الموضع، حتى يتجه إليه في صلاته، ويتكلم عن مكة والمدينة وسائر أرض الحجاز، كأنه نشأ فيها، ويشاهد — من داخله — العالم الملكوتي الروحاني والترابي، يحيا مع الملائكة والملأ الأعلى والجن والخضر والأبدال، ويتحدث إلى الراحلين عن دنيانا، ويطَّلع على الخواطر، فيخاطب كل واحد من مريديه بشرح حاله، ويعرف الزائر له قبل قدومه على مسافة بعيدة، وكان يدخل عليه شخص لا يعرف المريدون مَن هو، فيحادثه لحظات، ثم يخرج عنه، لا يتكلم عمَّا جرى أمامهم، ولا يشير إليه، فإذا وقف المرء أمامه، وظلَّ صامتًا، أخبره بما في نفسه، ونصحه فيما قدِم للبوح به، وعرف عنه إعلامه بكوامن في المستقبل. كان يتوجه إلى البحر، يمشي على الماء، ويراه الناس، دون أن تبتلَّ ثيابه، كأنه يمشي في الأرض تمامًا، لا يشغله عمَّا حوله شيء، ولا يتلفت، وكثيرًا ما رآه الناس يدخل بحر الأنفوشي بثيابه، يظلُّ ساعةً طويلة، ثم يخرج. معظم ما كانت رؤيته وهو في هذه الحال عندما يكون القمر في السماء بدرًا. وكان يطير بلا جناحين، ويغطس في مياه الميناء الشرقية، فلا يظهر إلَّا في المنتزه أو أبو قير، وربما طار إلى مكة، يطوف حول البيت الحرام، ويزور قبر الرسول، ثم يعود إلى مجلسه كأنه لم يغادره، وأقسم مريدوه أنه كان يزور — بجسده — أضرحة أولياء الله؛ السيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة فاطمة النبوية والشهيد الحسين وغيرهم، دون أن يبرح مجلسه وسط المريدين. وكان لا يغيب عن الله، ولو في حالة الجماع. من بين ما أحصاه: علوم الشريعة كلها، وعلوم الحقيقة كلها، وعلم لغات الإنس والملائكة والجن والطير والوحوش والهوام، وعلم ضرب الرمل والتنجيم ورصد الأفلاك. وكان يتفرس في لغات الحيوان، يعرف ما تقوله وما تريده، فيعيد حكايته على الناس. وكان يسخِّر الجن، وتطيعه. وكان يسمع تسابيح السمك في البحر. ورُوي أنه ألقى على الأرض — ذات يوم — رءوس فجل، تناثرت، وتحولت إلى ثعابين وحيَّات، تفرقت وسط ذهول المريدين، فلم يلحظ أحدٌ أين ذهبت، وعُرف عنه تبحُّره في علم السميا، يسهل عليه به أن يتصرف على ما بالكائنات من خيرٍ وشر، وجلبٍ وطرد. أعماله في الخير كالترياق، وأعماله في الشر كالسمِّ الناقع، وكان يأتي للحوامل والمرضى بالفاكهة في غير أوانها. يتمتم بكلمات، ويمدُّ يده في الهواء، فتلتقط الثمار المرجوة، يدفع بها إلى مَن يطلبها، فيُرضي بها رغبته. كان يعرف أشياء تخفى على البشر العاديِّين، ويكاشف الناس بما في صدورهم، حتى الأفعال التي يكتمونها ويحرصون على عدم البوح بها، يرويها كأنه يراها. يكاشف كل واحدٍ من مريديه بما حدث له في يومه وليلته، ويتصرف — في مجلسه وبين مريديه — بإلهامٍ يشبه الوحي، يخاطب مَن لا تراه عيونهم، يأخذ ويعطي، يسأل ويجيب، ثم يتجه إلى المريدين بالرأي الصواب، وعُرف عنه المقدرة على الكشف عن حال الموتى وسماع كلامهم، وقد يستطيع — بقدرة الله — إحياءهم.
لم ينقطع المدد بوفاة السلطان، ولا انتهت كراماته ومكاشفاته، أمكن له — داخل قبره — أن يرعى مريديه وأتباعه وقصَّاد مقامه. لا ينام — كل ليلة — قبل أن يغادر قبره، يسير — بمفرده — في الأنفوشي ورأس التين، والشوارع والحواري والأزقة المحيطة، يطَّلع على أحوال الناس، ينصت إلى ما يعانون، فيلبي الخير مما طلبوا.
قال الإمام: التفَّ المكان — حول مقام سيدنا المرسي — بغلالاتٍ رقيقة. تصاعدت رائحة نفَّاذة كأنها الأريج العبق، انشق الضريح عن سيدنا بقامته المربوعة المهيبة، ووجهه المضيء، ولحيته الكثَّة، وعينيه اللتين تشعَّان طُهرًا وقداسة.
بدا الخوف — بتأثير المفاجأة — على وجوه النساء القريبات. همَّت أكثر من واحدة بالفرار، لكن النظرة الوادعة المسيطرة ألزمت الجميع بالبقاء في أماكنهن.
تجرأت المرأة أنسية — لا أدري متى ولا كيف تسلَّلت إلى المقام — فاقتربت، تتظاهر بالرغبة في تقبيل قدميه.
زجرتها، لكن سيد المتواضعين أحنى قامته، وساعد المرأة على النهوض، وأحاط كتفيها بأصابع مترفقة: من احتمى بمقامي لا يقدر أحدٌ أن يبعده عنه.
ثم وهو يضغط على الكلمات: قال شيخنا أبو الحسن الشاذلي: احرص أن تصبح وتمسي مفوِّضًا مستسلمًا … لعلَّه ينظر إليك!
استطرد في صوتٍ مترقق: زادت هموم الناس، فخرجت لأحمل منها ما استطعت.
زالت الدهشة من نفوس المتحلِّقات بالمقام، أقبلن على السلطان يمسحن أدرانه، يأخذن تراب قدميه، يتشمَّمنه، يجرين به على وجوههن.
قال حمادة بك: هل كان السلطان بمفرده؟
هل عرف الإمام ما خشي أن ترويه أنسية لسيد الفران؟ وهل عرف بقية الجالسين، في الحلم القريب، ما حرص على كتمانه بأعوام عمره؟ هل لأنه يرفض إقامتها فيه، أو لأنها صحبته إليه في ليلة الجنون؟ الليلة الختامية أبعدته — دون قرار — عن الوقوف أمام النازلين من ترام الرمل. مجرَّد الاحتكاكات العفوية تربكه، حتى الصلاة في أبو العباس، حرص أن يصلِّي بجوار العمود الرخاميِّ الهائل، ويترك بينه وبين مجاوره مسافة.
قال الإمام: تبعه آخرون … وقفوا بالقُرب منه.
استطرد كالمتذكر: بدوا غرباء … اكتفوا بمتابعة السلطان، وإن ميَّزت من بينهم الصياد علي الراكشي. وقال السلطان: جميع الأنبياء خُلقوا من الرحمة، ونبيُّنا ﷺ هو عين الرحمة. وقال: رجال الليل الرجال، وإن أولياء هذا الوقت لَيؤيَّدون بشيء من الغنى واليقين، فالغنى لكثرة ما عند الناس من الإفلاس، واليقين لكثرة ما عند الناس من الشكوك. وقال: الصوفيُّ منسوب لفعل الله تعالى به، أيْ صافاه الله تعالى فصوَّفني، فسمِّي صوفيًّا. وقال: الوليُّ إذا أراد أغنى، والله ما بيني وبين الرجل إلَّا أن أنظر إليه نظرةً وقد أغنيته. وقال: والله لو حُجب عني رسول الله، ما عددت نفسي من المسلمين. وقال: لو فاتني الوقوف بعرفة، ما عددت نفسي من المسلمين. وقال: والله لو حُجبت عني جنة الفردوس طرفة عين، ما عددت نفسي من المسلمين. وقال: الدنيا كالنار، وهي قائلةٌ للمؤمن جريًا يا مؤمن، فقد أطفأ نور قناعتك لهبي. وقال: مَن أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبَّ الخفا فهو عبد الخفا. وقال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما علامة حبِّ الدنيا؟ قال: خوف المذمَّة، وحبُّ الثناء، فإذا كان علامة حبِّها خوف المذمَّة وحبُّ الثناء، فعلامة الزهد فيها وبغضها ألَّا يخاف المذمَّة، ولا يحبَّ الثناء. وقال: ما دخل بطني حرامٌ قط. وقال: الورِع مَن ورَّعه الله. وقال: الطمع ثلاثة أحرف، كلها مجوَّفة، فهو بطر كله، فلذلك صاحبه لا يشبع أبدًا. وقال: العلم هو الذي يتطبع في القلب، كالبياض في الأبيض، والسواد في الأسود. وقال: أوقات العبد أربعةٌ لا خامس لها؛ النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهمٌ من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية، فمَن كان وقته الطاعة، فسبيله شهود المنة من الله عليه، إذ هداه الله لها، ووفقه للقيام بها، ومَن كان وقته المعصية، فسبيله الاستغفار والتوبة، ومَن كان وقته النعمة، فسبيله الرضا بالقضاء والصبر، والرضا رضا النفس عن الشهوات، والصبر مشتقٌّ من الأصبار، وهو الفرض للسهام، وكذلك الصابر ينصِّب نفسه غرضًا لسهام القضاء، فإن ثبت لها فهو صابر، والصبر ثبات القلب بين يدَي الرب. وقال: العامَّة إذا خوفوا خافوا، وإذا رجوا رجوا، والخاصَّة متى خوفوا رجوا، ومتى رجوا خافوا. وقال: الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر من ثلاثة أوجه؛ المؤمن لا يعتزم عليها قبل فعلها، ولا يفرح بها وقت الفعل، ولا يصرُّ عليها بعد الفعل، والفاجر ليس كذلك. وقال: خلق الله الآدمي وقسمه ثلاثة أقسام؛ لسانه جزء، وجوارحه جزء، وقلبه جزء. وقال: الناس على ثلاثة أقسام؛ عبد هو بشهود ما منه إلى الله، وعبد هو بشهود ما من الله إليه، وعبد هو ما من الله إلى الله. وقال: الناس على ثلاثة أقسام؛ قوم غلبت حسناتهم سيئاتهم فهم في الجنة قطعًا، وقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا يدخلون النار قطعًا، وقوم غلبت سيئاتهم حسناتهم فيخلدون في النار قطعًا. وقال: صلاح العبد في ثلاثة أشياء؛ معرفة الله، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، فمَن عرف الله خاف الدنيا، ومَن عرف النفس تواضع لعباد الله، ومَن عرف الدنيا زهد فيها. وقال: المؤمن لا يرضى لنفسه بالخير إذا كان فيه، لأن فوق الخير خيرات، أتراه يرضى بالشر؟ وقال: «يسِّروا ولا تعسِّروا.» أيْ دلُّوهم على الله ولا تدلُّوهم على غيره، فإن مَن دلَّك على الدنيا فقد غرَّك، ومَن دلَّك على الأعمال فقد أتعبك، ومَن دلَّك على الله فقد نصحك. وقال: أنا لا أتشفَّى من أحد، ولا أحمل أتباعي على التشفِّي من أحد. وقال: إذا علمت أنه لم يخرجك إلى مملكته إلَّا وقد كفاك ومنحك وأعطاك ولم يُبقِ لك حاجةً عند غيره، فلا تطلب ممَّن هو بعيدٌ عنك، وتترك الطلب ممَّن هو أقرب إليك من حبل الوريد. وقال: السلامة في الدين بترك الطمع في المخلوقين. وقال: الدخول في الجنة بالإيمان، والخلود فيها بالنية، والدرجات فيها بالأعمال، والدخول في النار بالشِّرك، والخلود فيها بالنية، والدركات فيها بالأعمال … ثم مسح السلطان على جبهته براحته ودعا: اللهم إنَّا نسألك الخوف منك، والرجاء فيك، والمحبة لك، والشوق إليك، والأنس بك، والرضا عنك، والطاعة لأمرك على بساط مشاهدتك، ناظرين منك إليك، وناطقين بك عندك، لا إله إلَّا أنت سبحانك، ربنا ظلمنا أنفسنا، وقد تُبنا إليك قولًا وعقدًا، فتُب علينا جودًا وعطفًا، واستعملنا بعملٍ ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا، إنَّا تُبنا إليك، وإنَّا من المسلمين.
أشار بيده إلى جدار الجامع، من ناحية ميدان الأئمة، انفرج الحائط، فمضى من خلاله إلى الميدان.
قال الحاج قنديل: فاجأني في جلستي المعتادة، أمام دكان الحاج محمد صبرة، كنت قد اعتذرت — قبلها — عن عدم التوسُّط لدى نبيل أفندي قرة، ضابط نقطة الأنفوشي، فيفرج عن علي الراكشي، كان قد أسرف في التطاول، فأعفيته من عقابي، واستدعيت له البوليس، اقتعد سيدنا الكرسيَّ المجاور في هدوء، شمَّر عن ساعديه، فظهر عليهما النور: والعافين عن الناس!
قلت: مَن تقصد يا سيدنا؟
رمقني المرسي بنظرة معاتبة: علي الراكشي … لماذا لا تعفو عنه؟
– لقد رماني بالباطل.
– ربما أنت المخطئ.
ثم في تساؤل غاضب: لماذا تحاربه في رزقه؟!
ومضى.
قاطعه الإمام: هل رويت كل ما جرى؟
قال الحاج قنديل: علا صوت السلطان، فسمعه العابرون: لم يعُد للبلطجة موضع — منذ الآن — في بحري.
وفي صوت تخالطه نبرة اعتذار: كل إساءة أدب تثمر أدبًا، فليست إساءة أدب.
تطلَّع الحاج قنديل إلى الأمام — من وراء النظارة الطبية — بعينين خائفتين: هل يعاقبني السلطان؟
قال الإمام: عامل الراكشي بالحسنى، فينتهي كل شيء!
قال الحاج قنديل: أرضيته يا مولانا … وأرضيت كل الصيادين والسمَّاكين.
ثم بنبرة مستعطفة: يبقى رضاء سيدنا السلطان!
قال حمادة بك: بدا السلطان كأنه ينتظرني على ناصية شارع سيدي داوود، والتقائه بالمسافرخانة. كان الوقت ليلًا، والبرد القارس أغلق الأبواب والنوافذ، وخلت الطريق من المارَّة. خمَّنت أنه المرسي من قبل أن يحدِّثني. نزلت الرهبة في نفسي، فلم أقوَ على الحركة ولا الكلام.
قال المرسي وهو يشير إلى البيت المهجور أوسط شارع سيدي داوود: المرأة أنسية أَولى بأن تسكن هذا البيت.
سأل الحاج قنديل: أي بيت؟
قال الإمام: لماذا لا تتركها في البيت؟
لم يطرد أنسية، سرق حاجياتها لتبعد، خشي — إذا واجهها بالطرد — أن تفضح سرَّه.
هتف حمادة بك: إنها أنسية يا مولانا!
قال الإمام: لقد رأيت الحلم بنفسي، وعرفت عن البيت ما لم تذكره من حلمك.
ثم بتسليم: نفِّذ ما يقضي به مولانا السلطان!
قال عباس الخوالقة: تابعته عن بُعد، كنت واحدًا من العشرات الذين لازمت خطواتهم خطواته. طاف — في البداية — بأرجاء الجامع، تأمل التجاويف والمحارات والمقرنصات الصغيرة والصنج المعتقة والزخارف النباتية والعقد المخفف والقباب الصغيرة في الأركان الأربعة. اتجه إلى الباب الرئيسي وهبط الدرجات، دخل جامع البوصيري من بابه الخلفي، تأمل البُردة المحيطة بأعلى الجدران، والإزارات الزرقاء في حوائط الصحن، أبطأت خطواته لمَّا اقترب من الضريح، وقال كالمتوسل: والله ما رأيت العزَّ إلَّا في رفع الهمَّة عن الخلق.
اخترق الحائط المجاور للضريح. الأنوار تملأ بدنه، وتنبعث من وجوده. هبط في ميدان المساجد، مضى ناحية الأئمة الاثني عشر، قرأ الفاتحة على أرواح أولياء الله، فرَّق بيده من الهواء المحيط يضعه في جيب عباءته.
طاف بنظرته في المكان، أحاطت بالناس والبيوت والأشياء، تكاد تنفذ داخل الجدران، وما وراء النوافذ والشرفات، تصل إلى الشوارع والأزقة البعيدة. في نهاية السيالة، أول الحواري الضيقة الملتوية، المفضية إلى حلقة السمك، ارتفع السلطان في الهواء، حتى اختفى.
•••
غادر الرجال الجامع — في هدأة الليل — بعد أن استكانوا إلى رأي الإمام بأن ما جرى كان حلمًا، توزع في الليلة ذاتها — بكرامات ولاية المرسي — على الفضلاء من أبناء الحي، يجمعهم هدى الله في درس المغرب، وجلسات المحبة أمام دكان الحاج محمد صبرة، يزيدهم — بإرشاده — إيمانًا وتقوى.
لكن السؤال — بما فاجأتهم به الأيام التالية — عاود إلحاحه: هل كان ما جرى حلمًا، أو أنه شيء آخر ينتسب إلى معجزات سيدنا السلطان؟!