الواحد نصفان
طالت الوقفة، فداخله الشكُّ أنها ربما لن تجيء.
استطالت ظلال الغروب في شارع سيدي داوود، فأمسى المكان رماديًّا، أو كاد، بدا القادمون أشباحًا من — وإلى — الحجاري والموازيني وسليم البشري والمسافرخانة وصفر باشا، قلَّت حركة السير، فتمطَّى الهدوء في أرجاء المكان.
كان إذا مشى أمام البيت أسرع في خطواته، يتوجَّس من السكون في الداخل، خلف الباب والنوافذ المغلقة.
أعاد النظر من الباب الموارب، ربما المرأة سبقته، فاختبأت — حتى لا يراها أحد — داخل البيت المهجور، تداخلت الظلال، وتلاشى الضوء من الأبواب والنوافذ المغلقة، فاختفت المرئيات تمامًا، نسي — أو تناسى — مخاوفه؛ أن البيت مسكون بالعفاريت، تغيب في النهار، وتظهر في الليل، تبدأ صياحها وصراخها عندما تتمدد الظلمة في المكان فتغيب ملامحه، يغالب الخوف، لا يتلفَّت، وإنما يمضي إلى أمام، تسبق خطواته ما تسعفه به ذاكرته من آيات قرآنية وأدعية.
أغلق الباب، فانعكس الصوت المفاجئ ضوءًا مفاجئًا في نافذة البيت المقابل، همَّ بالانصراف، لكن النافذة التي أطلَّ الضوء من خصاصها ظلت صامتة.
تعمَّد أن يصل قبل الموعد المحدَّد، لتجده في انتظارها، حين غادر البيت أهمل النظر في ساعته، فهل أوقفته اللهفة أمام البيت المهجور، قبل زمنٍ من الموعد المحدَّد؟
ضايقته البسمة التي اتسعت في وجه المرأة، عندما أفرغ المشكلة من جوفه، تردَّد، وتلعثم، وغلبته الحيرة، دفعها إلى القسم بدينها حتى لا يعرف الأمر ثالث.
بدا الصدق في قسمها، وإن أتبعته بابتسامة يصعب أن تغيب عن باله.
دسَّ في يدها خمسين قرشًا، ففاجأته بالسؤال: هل أحضر معي شيئًا؟
مسح المكان بعينيه، فلا يواجه ابتسامة ألصقتها بوجهها: ماذا تقصدين؟
وهي تداري فمها براحة يدها: حمادة بك … أنا لم أجرب هذا الأمر من قبل.
في ضيقٍ لم يحاول إخفاءه: لا شيء!
أعادت لفَّ الملاءة حول جسمها، وتهيَّأت للانصراف، أوقفها بنظرة، مالت بعينيها ناحية الشاطئ، لفَّه سكون الظهيرة، يتناهى — من بُعد — تكسُّرات الأمواج، صياح أسراب النورس، صفارة باخرة في الميناء الغربية، دقات مسمار متكاسلة في هيكل قارب، هتاف سائق بنز في الحصان الذي يجري بآخر ما عنده.
اقترب حتى داعبت أنفاسه أذنها: أنسية … أعتمد على تصرُّفك كثيرًا.
•••
لمَّا ناداها — في المرَّة الأولى — واصلت السير، دون أن تُعنى بالالتفات، لم يخطر ببالها أنها هي المقصودة بالنداء، لحقتها أيام الفتوَّات، عندما استوقفها مرعي بيبي في أول شارع سليم البشري، كان السكون سائدًا بالليل المبكر وبرودة الشتاء.
– أنتِ في حاجةٍ إلى رجل.
كانت تعرف مهنته، والأذى الذي ألحقه بناسٍ مهمِّين: أحبُّ أن أحيا بلا زواج.
زوى ما بين عينيه: مَن قال إني أعرض الزواج؟
ولوَّن نبرات صوته: أنا أعرض حمايتي!
حاولت أن تلملم جرأتها: ممَّ؟
– من أذى أولاد الحرام!
قالت بصدق: ومَن يهتمُّ بي؟
وهو يضغط على كتفها: هذه وظيفتي.
وعلا صوتُه مهدِّدًا: لا تتحركي منذ الليلة بغير حمايتي.
ثم فاجأها بالقول: سأتكفل بإقناع حمادة بك أن يتركك تقيمين في البيت.
شردت في تأمله؛ شعره المفلفل المهوش، والثقوب المتناثرة في وجهه بتأثير جُدريٍّ قديم، وشاربه المنسدل على شفته العليا، والجلباب الكستور يضيق على قامته الطويلة الممتلئة.
ومال على أذنها: أنا أعرف حكاية البيت.
وعلا صوتُه: وكل شيء.
فكرت أن تُظهر ترحيبًا، وتدعوه إلى بيت سليم البشري، يدخل، فتصرخ بآخر ما عندها، تتهمه بمحاولة سرقتها، هذا هو الاتهام الوحيد الذي تستطيع أن توجهه إليه، أطلقت أف ف ف للتنبه إلى أنها تدخل البيت متسلِّلة في الليل، هو بيت حمادة بك، لم يعترض الرجل طريقها إلَّا بعد أن عرف كل شيء، ما الذي أدخلها البيت حتى يسرقها فيه؟!
لاذت بالبيت المهجور، لا تخرج، ولا تقابل الآخرين، ولمَّا توصلت إلى قرار — ارتعش له جسمها — بالرفض، ترامت إليها من النوافذ المقابلة أحاديثُ النساء عن معركة الفتوَّات في ميدان الخمس فوانيس، مَن لم يمُت أو يدخل المستشفى أخذه البوليس، وأعلن المخبرون منع حمل السكاكين والخناجر والمطاوي والسنج، وادِّعاء الفتونة.
اعتادت — من يومها — ألَّا تلتفت لنداء لا تتبين صوت صاحبه.
اضطرَّت للنظر من اللهفة التي امتطت صوته، تعرفه جيدًا، ولا بد أنه يعرفها هو أيضًا، ناداها عبد الرحمن الصاوي — ليلة عيد — في مجلس الحاج محمد صبرة الحلاق، ومنحها جنيهًا، جذب مبسم الشيشة من شفتَيه، فتمنت مبلغًا مماثلًا، وربما زاد عما دفعه الصاوي.
أدماها صوته الغاضب: لا تجوز الزكاة لمومس!
شغلها الأمر في الأيام التالية، تداخل الفضول والغضب، فأعطت سمعها للروايات المتناقضة.
لم تعرف الكثير عن حياته، ولعلَّها لم تعرف عن ظروفه الخاصة شيئًا، وإن تأكد صيته بما ورثه؛ اسطبل السيالة، الفرن البلدي خلف سيدي علي تمراز، البيت الجديد في شارع الحجاري، رُويت حكايات عن الأموال التي خلَّفها له والده في صفائح مياه قديمة ببدروم بيت وكالة الليمون.
سألها محمود عباس الخوالقة: هل تدركين مدى السمعة التي تتمتعين بها؟
جاوزت مشاويرها الأنفوشي — وبحري كله — إلى المنشية والعطارين ومحرم بك وأحياء أخرى، من بين آلاف النظرات التي حاصرتها، ودعتها، لم تتجه إليها عيناه، يومًا، مع ذلك، كان جزءًا من مألوف حياتها: خطواته المتلاحقة في شوارع الحي، مجلس العصر، ومبسم الشيشة ملتصق بشفتَيه، أمام دكان الحاج محمد صبرة، خوف سيد الفرَّان — عندما يضيف رغيفين إلى ما تشتريه من الخبز الرجوع — يعلنه في نظراته المتطلعة إلى باب الفرن، أحاديث السخط والإعجاب والدهشة وعدم التصديق.
عم سلامة — صاحب مطعم النبلاء بشارع السيالة — أضاف عشرة قروش إلى أجرها، وهي تغادر — آخر الليل — باب المطعم الخلفي، ربَّت ردفها، وقال: هذا خير حمادة بك، يطلب الرضا ليفوز في الانتخابات.
وطلبها — في الأيام التالية — رجال وشبان كثيرون، لم تكُن تعرفهم، ولا رأتهم من قبل، عرف الطريق إلى البيت صيادون وبحارة وعمال في الميناء وأفندية وزبالون وعتالون وسائقو تراموايات وكمسارية وخدم جوامع وزوايا وصبيان قهاوي ومخبرون وعساكر وردية، حتى الممرض في مستشفى الملكة نازلي، قال إنه فضَّل القدوم إليها، وكان يستطيع مصاحبة امرأة من المتردِّدات على المستشفى، كان يربكها أكثر من موعد في الليلة الواحدة، فتفسح ساعتين بين موعد وآخر.
لمَّا ناداها — في المرَّة الأولى — واصلت السير، غاب عن بالها أنها هي المقصودة بالنداء.
عاود نداءه بصوت أعلى: أنسية!
ذكر الاسم، فالتفتت.
العصر موعد جلسته أمام دكان الحاج محمد، لا شيشة ولا أصدقاء، ونظرات متطلعة لطفل — داخل الدكان — ينتظر دوره في غياب الطهور، وسير التجليخ المعلق بجوار المدخل يدلُّ على دكان حلاق.
دعاها بيده، فتأكدت، وعادت بخطوات متردِّدة.
فطن إلى صعوبة الحديث أمام الناس، قام من كرسيِّه، وأشار إلى الشاطئ: اسبقيني إلى هناك!
المرة الأولى التي اقترب منها، وحادثها، وتوضحت ملامحه، بالكاد يبلغ الأربعين، وربما أقل، أميل إلى القِصر، تكسو الشعيرات البيضاء فوْدَيه ووجهه مستدير، تنتشر فيه بقع الشمس، له عينان دائمتا التلفُّت، وشاربه نحيل أقرب إلى الصُّفرة، خمنت من الثقب الصغير في طرف أذنه العلويِّ أنه كان يضع حلقًا.
كانت تحيا الروايات العجيبة، والمختلفة، ولا يأتي — في بالها — أن تجاوز الهامش.
ذهول المفاجأة تراجع أمام اللهجة التي تقطر ودًّا: كيف حالك؟
حدجته بنظرة متسائلة: الحمد لله!
قال في لهجته المتودِّدة: الملعون سيد يضايقك كثيرًا!
الملامح الهادئة تخفي عقلًا حويطًا، نظرات سيد القلقة، المتطلعة إلى باب الفرن، تنفي أن يكون هو الذي أفشى سرَّ نفسه، العمال الآخرون سوق، كل واحد في حاله.
أضاف دون أن يعني بتحديقها المستغرب: مضايقات الآخرين لا تنتهي أيضًا.
لو يدخل في الموضوع!
أجفلت لمروق طائر فوق رأسها، تواصلت لحظات الصمت، تعمِّقها الأصوات البعيدة للأمواج، وصفارات البواخر، وصيحات النورس، وصرير عجلات الترام في انحناءة مساكن السواحل.
سوت الملاءة على جسمها: أستأذن.
ارتفع صوته بتوتر: أريدك!
تردَّد — لحظةً — في مواجهة نظرتها المتسائلة.
شجَّعته بهزَّةٍ من رأسها.
•••
طرف الخيط يصعب التقاطه.
كان في السابعة لمَّا طلبت أمُّه أن يشتري فولًا للعشاء من الطنطاوي، شجَّعته الظُّلمة، فنزع الحذاء من قدميه، وأسنده إلى باب البدروم، وغادر البيت حافيًا، برودة الطريق، وملمس الحصى والتراب. في باطن القدمين يتسلل بلذة تتصاعد، فتشمل الجسد كله.
قال الولد محمود عبد العزيز، زميله في البوصيري الأولية: كأنك تحرص على الهزيمة في هذه اللعبة، فلا ينال العقاب سواك!
تملَّكه العناد، فرفض تنازل الولد عباس متولي عن حقِّه في العقاب، قست العصا على اليدين الممدودتين، لكن اللذة — يذكرها — جاوزت الألم، والأمنية أن يمتد الزمن.
لم يكُن يضمر شرًّا، مجرد التلامس بين صدره وأيدي النازلين من ترام الرمل إلى الطريق، عشرات يتدافعون، فيستقبلهم بوقفة ثابتة، كلما تزايد الضغط علت إيقاعات النشوة، وتراقص الجنون في الجزر الوحشية، وحملت البداية هراوتها، وعادت إلى أصل الأصول.
دفعته المرأة بقبضة غاضبة: هل ينقصنا زحام؟!
الدفعة زرٌّ خفيٌّ، أشعل النيران في بطنه، لم يتحرك في وقفته، تمنى لو أعادت المرأة دفعتها الغاضبة … لكن الطابور تواصل، وابتلعت الأمواج ما صادفها، وواصلت الاندفاع.
لم يكُن الرجل مخطئًا، هو الذي دفعه في طابور السينما ليقف أمامه، لا يذكر الكلمات التي عقَّب بها على ملاحظة الرجل، نظرات الواقفين في الطابور لم تشغلها الصفعة التي هوت على وجهه، ظلَّ في وقفته، وقال من بين أسنانه كلامًا آخر قاسيًا، توالت الصفعات، زاد الرجل فبصق عليه، العينان مغمضتان، والوحش النائم يصحو، والدماء تسري في الشرايين الناضبة، والخضرة تزهر في مساحات الجدب.
أضنته المأساة، حاصرته، طاردته كظلِّه، نسبها إلى سواه، ولمَّح لجلساء قعدة العصر، علت ضحكات السخرية، وقالوا كلامًا معيبًا.
ظلت الرغبة العارمة حبيسة أحلامها، أُخرس لسانه، حتى لهؤلاء اللائي تقاضَين الثمن، قرر — في إصرار — أن يتحمل عناق السرِّ المشبوب باللهفة والجنون، فلا يصبح السرُّ سرًّا لو تخلَّى عن عناقه.
نطق الاسم — ذات ليلة — دون وعي: أنسية!
رغم سيرتها التي تلوكها جلسة العصر، لم يُعنَ حتى بأن يدقِّق في ملامحها، ولا فكر في بواعث اختيارها، أمسك الخيط من طرف النهاية، توالت حمم الرغبة، فدمرت أعماقه. في اللحظة التالية شغلته تمامًا، تابعها، راقب تصرفاتها، سأل الجلساء، وهؤلاء الذين سال عرقهم على جسمها، حتى الرغيفان الزيادة لم يُفلتا من رقابته، تنصت إلى الهمسات في الأركان المظلمة، تفوِّت الكلمات القاسية — هو نفسه فعل ذلك — تتناول الهبات، لغرض أو لغير غرض، تذهب وتأتي وتتسلَّل إلى داخل البيوت وتنصت وتجيب وتناقش، لا يغادر الهدوء ملامح الوجه، ولا يعلو الصوت عن الهمس، والنظرات تغفو في الشرود.
هل هي المأساة السرُّ، يخشى أن تطارده بها أيامه القادمة؟!
اختار الظهيرة أنسب موعد لانتظارها.
أوشك اليأس أن يتسلَّل إليه — في اليوم الرابع — لمَّا رآها قادمةً من شارع خير الله بك، في طريقها إلى السيالة.
•••
– مساء الخير.
فاجأه الصوت الهامس، لم ينتبه لقدومها، مع أن بداية الطريق — من سليم البشري — تبعد بمسافة، شمله الارتباك، فلم يردَّ على تحيَّتها.
قال وهو يخطو إلى الأمام: اتبعيني.
دون أن تجاوز الهمس: فلنبقَ هنا!
تساءل في دهشة: كيف؟
لململت جرأتها: ألا تملك هذا البيت؟
– لكنه مهجور!
– لن نسكن فيه.
– يخلو حتى من النور.
رفت على شفتَيها ابتسامة: وما حاجتنا إلى النور؟!
– لي بيت قريب، سنجد فيه كل ما نحتاجه.
وهي تسبقه إلى الداخل: أمرتني أن أتصرف.
نظر — بتلقائية — إلى النافذة المقابلة، كانت قد أطفأت نورها، تابع تلقِّيها صرير الباب … لكن الظلمة جاوزت رمادية الغروب، عمَّق من حلكتها إغلاقُ الأبواب والنوافذ.
قادته من رسغه، فأدرك أنها قد وصلت إلى الحُجرة التي تعرفها جيدًا.
لم يعُد تردُّدها على البيت تخمينًا، وربما فاته — أثناء رقابته الصارمة — أنها تقيم فيه بصورة ثابتة.
في اللحظة التالية فاجأته — في أعلى كتفه — بضربة قاسية، صرخ متألمًا، مدَّ أصابعه يريد دفعها، عاجلت الأصابع بضربة سريعة، فأدمتها، هل تبصر في الظلام؟
علا الغضب بصوته: كيف تجرئين؟
دون أن يزايلها الهدوء: أمرتني أن أتصرف.
لماذا عرض الأمر عليها؟
شغلته الفكرة، تملكته تمامًا، فأنسته نتائج كان عليه أن يتدبرها، عاجلته ببصقة ملأت وجهه، شدَّت قميصه بأصابع متوترة، لولا أنه هو الذي طلب وشرح وأفاض، لَتأكد أن هذه هي صورة علاقاتها في الحجرات المغلقة. خاصمت الهدوء، وتعالى صوتها، مازجته حشرجة غريبة، كأنها تموت، سرت القسوة حتى أطراف أصابعها، قسوة مدمرة، لا تبالي أين ولا كيف تضع جسده المتكوِّر في أيدٍ وأقدام، الآلاف من العفاريت والمردة.
أذهله أن الشياطين — رغم الغضب — تراقصت، وأطلقت أغنياتها المحمومة، وباحت الطلاسم بألغازها، وتوالت الصرخات المنتشية، وتداخلت الأصوات، وتلاشت المسافات والحدود.
فكر أن يوجِّه الضربات كيفما اتُّفق، فتدرك إصراره على الرفض، لكن المفاجأة اجتذبته، فطاوعها.
توالت الضربات والصفعات والشتائم، دفعت رأسه بقدمها، لاحقت جسده الممدَّد بركلات موجعة، تأرجحت السفينة الرعناء وسط الطوفان، ولثم الصياد قدمَي عروس البحر، وامتصَّ الرضيع الحنان من صدر أمِّه.
اطمأنت — بأصابع مدربة — إلى تحقُّق الرجفة المشتهاة، هدأ — من بعدها — الجسد، وتواصل الصمت، سوَّت ملاءتها، ودفعت إليه ثيابه.
أمسكت برسغه، وقادته إلى الخارج.
مدَّ أصابعه إلى صوت معالجة يدها للباب المغلق: خذي بقية أجرك.
في صوت تغلَّف بهمس البداية: لا أريد شيئًا.
وابتلعتها العتمة.