متى يأذن الله؟
قال رجل لأبو الحسن: مالي أرى الناس يعظِّمونك، ولم أرَ لك كبير عمل؟ قال الشاذلي: بسُنةٍ واحدةٍ افترضها الله على رسوله تمسكت بها، قال: وما هي؟ قال الشاذلي: الإعراض عنكم وعن دنياكم!
الباب الخشبيُّ الكبير يفضي إلى فناء فسيح، على جانبيه غرفٌ أبوابها بضلفة واحدة، وتناثر في الزوايا مشنَّات السمك وقِطَع الفلين والإسفنج وهياكل القوارب القديمة، وعلقت — في السقف — شِباك الصيد.
في نهاية الفناء نقر — بتأدُّب — على باب الحجرة المغلقة.
ظهرت الحُجرة في ضوء اللمبة الخافت؛ سرير صغير، وثلاثة مقاعد، وترابيزة عليها كتبٌ وأوراق، ومرآة، وإناء للشرب، وأدوات لعمل الشاي، ووابور بريموس، وافترشت الأرض — أمام السرير — حصيرة متآكلة.
قال الشيخ يوسف بدوي بلهجةٍ معتذرة: هذا أهون من السُّكنى مع آخرين.
أضاف للدهشة في عينيه: المفروض أن هذه غرفة مفروشة!
كان قد سبقه آخرون، جلسوا على طرف السرير، وعلى مقعدين من الثلاثة، وتركوا له مقعدًا في مواجهة الباب، أعمارهم لا تجاوز العشرين، قدمه إليهم وقدمهم إليه، شغله الحرج عن تذكُّر الأسماء، وإن عرف أنهم عمال شحن في الميناء، وطالب في المعهد الديني.
قال الشيخ: عليك بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة.
ألف التردُّد على بيت الرجل، عقب صلاة العشاء، كل يوم خميس، يزيد عدد الجالسين فيبلغ أربعة، ينقص فيبلغ ثلاثة، يصعب — لضيق الغرفة — أن تسع المزيد، أباح لهم مجلسه، يقرأ عليهم، ويناقشهم، ويجيب على أسئلتهم.
حرص — بتوجيه الشيخ — على اتباع الطاعات، وأداء الفرائض والسُّنن، وركعتي الضحى، وبعد كل وضوء ركعتين، وشغل وقته بالتهجُّد، وتلاوة القرآن، وقراءة الأوراد، والذِّكر، ومجاهدة النفس، والاشتغال بالله، وترك ما سواه، والجلوس إلى الشيخ، يسأله فيما يغمض عليه من أمور العبادات، ربما مضى إلى بيت الشيخ — في غير موعد — إذا أشكل عليه شيء، يكلمه فيما يعانيه، أو يشغله، ينصت الشيخ باهتمام، يناقشه، يردُّ على أسئلته، يأمره، ينهاه، يشير عليه بما ينبغي اتباعه.
لاحظ تأثُّره مما يتعبه في الحلقة، همس في لهجة مترفقة: قال بعض العارفين: كلما سقطتَ من عين الخلق، عظُمتَ في عين الحق.
وقال: اقضِ حوائجك بالزُّهد فيها، والاشتغال بالله عنها، وقال: قل الله الله في كل أوقاتك، لا يشغلك أمر من أمور الدنيا عن هذا الذِّكر، حتى لو كان موت أبوَيك، وقال: الدنيا والآخرة ضرَّتان … متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وقال: حبُّ الله وحبُّ الدنيا لا يجتمعان، وقال: كل ما ينزل بك من هذه الأمور نعمٌ كبيرة، وكان أشدُّ الناس بلاءً هم الأنبياء، وقال: إن لم تنلْ حقَّك في الدنيا فهو محفوظ في السماء، وقال: ليست الطهارة مجرَّد غسل الظاهر دون تطهير الباطن، وقال له بعد أيام: طهِّر باطن الجوارح من المعاصي والآثام.
فلما قدِم عليه ذات مساء، قال الشيخ: طهِّر القلب من الأخلاق المذمومة.
ثم وهو يهزُّ إصبعه في تأكيد: هذه درجة أخرى مطلوبة.
•••
مضت أسابيع، ازداد فيها تقرُّبه إلى الشيخ يوسف بدوي، سأل وناقش واستفسر، وتعلم معارف كانت غائبة عنه.
ثم قال له الشيخ: عليك بدرجة خواص الخواص … طهر السر عن كل شيء سوى الله!
عرف أن التطهير بداية الطريق إلى الله، بداية المجاهدات والمقامات والأحوال ومعرفة الله سبحانه، تطهير الباطن من القبائح، يلحق المرء بالأئمة والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء والحواريين والرجبيين، السالك هو السائر إلى الله، المتوسط بين المريد والمنتهي ما دام في السير.
وقال له الشيخ في جلسة تالية: عندما تستقبل القبلة، اصرف همَّك عن كل شيء، لتتوجه إلى الله.
وقال: حين تنوي الصلاة، فأنت تعني عزمك على الامتثال لله، والكفِّ عن المعاصي، وحين تكبِّر، فإن ذلك معناه ألَّا يكون في قلبك شيء أكبر من الله.
تعلَّم أول آداب الحضور مع الله، وبين يديه؛ الإسلام له، والرضا بحكمه، وعدم الضيق به، وعدم الرغبة في تغيير ما فيه الإنسان من وضع، وأن يملك نفسه من الفضول والغيبة والنميمة والكذب، وألَّا يرى لأحد في قلبه حسدًا ولا عداوة، وأن يفارق إخوان السوء وصحبة المعصية، ويكون مستعدًّا للموت، مستغفرًا من ذنوبه، مجتهدًا في طاعة الله.
قلَّ تردُّده على القهاوي، قد يلمحه قاسم الغرياني، أو حمودة هلول، أو خميس شعبان، في طريقه من الحلقة إلى أبو العباس، يدعوه فيلبي الدعوة، لا يفطن إلى جزيرته المنعزلة، وسط نداءات المشاريب وصيحات لعب الكوتشينة والطاولة، يستعيد كلمات الشيخ يوسف بدوي في الليالي السابقة، وما يعتزم سؤاله عنه هذه الليلة، يتظاهر بالإنصات والمتابعة، لا يتحدث عما يشغله، هو انشغاله الشخصي، لا شأن للآخرين به.
زار الشيخ في زاوية الأعرج.
غالب تردُّده: مَن هو الأعرج صاحب الزاوية؟
قال يوسف بدوي: كما أعلم، فإنه الوليُّ الجليل عبد الرحمن بن هرمز.
– ومسجده بشارع رأس التين؟
– المسجد به ضريح الشيخ … أمَّا الزاوية فكما ترى، ليس بها ضريح.
لاحظ أنه يقوم بكل العمل؛ يؤذِّن للصلاة، يقرأ القرآن، يؤمُّ المصلِّين، يقضي أوقاتًا ما بين الصلوات في الجلوس إلى مريديه، إذا غاب عن الزاوية فلصلاة العشاء في أبو العباس، قبل أن يمضي إلى بيته، في شارع ابن وقيع، يُمضي بقية الليل في استقبال المريدين، أو تلاوة القرآن وقراءة الأحاديث، ربما غاب — لساعات — عن نفسه، فيظلُّ صامتًا لا يتكلم، ولم يكُن يسأل مريديه عن أحوالهم، وإنما يحدثهم عمَّا يفاجئون بأنه يعرفه، وينصح، ويوجه.
كان يعرف مواعيد الصلاة دون رجوع إلى ساعة أو سؤال، ينهض دون أن ينظر إلى شيء، ودون سؤال، يتجه إلى الميكروفون في الجانب الغربيِّ من الزاوية، يؤذِّن للصلاة في موعدها، لا يؤخِّر لحظة، ولا يقدِّم لحظة، ينشد — قبل أن يؤذِّن للفجر — ألوانًا من التراتيل والدعوات والابتهالات والتسابيح، يمهِّد بها للأذان، ويعدُّ الناس أنفسهم للصلاة.
كان الشيخ — إذا التقى بإمام أبو العباس — يُظهر الودَّ والاحترام، يطيل السلام والحديث، يُكثر من عبارات التفخيم، لكنه يتجنب مجالس الإمام، لا يشارك فيها. إذا دخل الجامع، اكتفى بإلقاء السلام — إن كانت حلقة الإمام قائمة — وسعى إلى قرب المنبر، فانتظر الصلاة، يؤديها وينصرف، ربما استوقفه أحد تلاميذه، ممَّن فتح لهم باب قلبه وبيته، يمضي معه إلى خارج الجامع، يستأنفان حديثهما في الطريق.
قرَّ عزمه على أن يتأدَّب بالشيخ، يتلقَّى منه، يتربَّى على يديه، أيقن أنه لا أحد من كل المشايخ الذين جلس إليهم في جوامع الحيِّ أجدر من يوسف بدوي للانتفاع بعلمه، حتى أمين عزب نقل إليه ما قاله الحاج قنديل، ثم نفض يده من الأمر، يتدخل بما لا يؤثِّر في صداقاته، ولا مكانته.
استولت عليه سلطنة محبة الشيخ، صار الشيخ حياته، وجد عنده التعاطف والمشاركة والعناية والأمن والسكينة. تلقَّى أسرار العلوم والمعارف والإفهام. قال الشيخ: زرت الشيخ في بيته، للشيخ رأي في هذه المسألة، نلتقي في مجلس الشيخ، ثلاثة أيام غاب فيها الشيخ عن أبو العباس … كأنه يعرف الشيخ من قبل البدء، ويعرفه إلى ما بعد الختام. يطوف بباله وهو يختار أنسب المواقع لصيد الطير، يحصل على شروة من الحلقة، يفاصل زبائن في خطِّ الرمل، يضاجع أمَّ الأولاد، يتلو القرآن، ويطالع كتب الحديث والفقه والتفسير والسير. يكتفي — عكس ما كان — بالتطلع إلى القهوة، ويواصل السير إلى بيت الشيخ، أو إلى بيته.
سأل نفسه وهو يغادر بيت الشيخ ليلةً: إن لم تكُن الجنة لهذا الرجل … فلمَن تكون؟!
•••
كان يحرص على التأدُّب في مجلس الشيخ، لا يتكلم بين يديه إلَّا في الضرورة، ولا يقاطع كلامه. حتى لو رأى في الكلام ما يدعو للمناقشة، كتم الأمر في نفسه، لا يُبدي معارضة أو ملاحظة، أو يلقي سؤالًا يضمر عدم الموافقة. سار إلى الله في منازل النفوس، يحمل زاد التقوى والطاعة.
بدا له الشيخ جادًّا في طلب الحقِّ، معرضًا عن الأنس بالحقِّ، مستغرقًا في حبِّ الله وخدمته. غلب عليه التوكل والسياحة والفتوَّة والزهد والتبتل والأفعال الظاهرة المحمودة. لاحظ تقشفه في لباسه، وتذلله في نفسه، وزهده في الحياة، والإعراض عن مباهجها، والميل عن مطالب النفس، وشهوات الجسد، ونزعات الأرض. عصمه الله عن المخالفات، وعن المعاصي والوساوس والهواجس والتعلق بالأغيار. يصوم النهار، ويقوم الليل، ويؤْثر الخلوة على الاجتماع، والصمت على الكلام، والصيام على الشبع. اعتاد السهر، والصمت، واعتزال الناس، وإخماص البطن.
قال زكي تعلب، الطالب بالمعهد الديني، والشيخ في خلوة: هو مثل الترسة … يستطيع أن يحيا أسبوعًا وأكثر بلا طعامٍ يدخل جوفه!
ألفوا أحواله، يباسطهم، أو يرفض التحدُّث إليهم، أو لا يحتمل وجودهم، يحصل له انجذاب إلهيٌّ، يغيب عمَّن حوله وعمَّا حوله، يفيق فيجد مريديه يحتضنونه بنظراتٍ مشفقة.
يحيا في عالمٍ غير العالم، يخالط الآخرين، يناقشهم، يستمع إليهم، ويجيب على أسئلتهم، لكنه ينطوي على مجاهداته وأشواقه، يتبعها إلى حيث تقوده، حفظ علوم الطريقة، أشرف العلوم وأنورها، زواهر الأنباء، وزواهر العلوم، وزواهر الوصل. استوى عنده الرجاء، والخوف، والضعف، والبسط، والقبض، والمدح، والذم. سقط عنده اعتبار الناس، فلا يرى منهم ضرًّا ولا نفعًا، وكان يراعي أنفاسه في دخولها وخروجها، وكان يقول: أخاف إن وُضعت في القبر وسألني منكر ونكير، هل أقدِر على جوابهما؟ لزم داره، لا يراه إلَّا مَن يتردَّد عليه في الزاوية أو في البيت، ولا يخرج إلى أبو العباس إلَّا لصلاة العشاء أو صلاة الجمعة، يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، هي كمال القرب والمواصلة الحقيقية، يختار الصفوف الأخيرة، القريبة من الباب الملكي، تنتهي الصلاة، فينفذ إلى الميدان، ومنه إلى شارع ابن وقيع، يدخل بيته، يتأكد من إغلاق الرتاج، لا يفتح الباب إلَّا إذا استخدم أحد زوَّاره السقاطة وأعلن اسمه، كان يعرف أسماء مَن يدخلون عليه، وما يزمعون التحدُّث فيه، لا يسألهم، وإنما يلجأ إلى بصيرته وإدراكه، وكان يحفظ الكثير من أسماء أهل الحقائق والأصفياء والأولياء وأقوالهم وصفاتهم وبركاتهم ومكاشفاتهم، يذكرها عفو الخاطر، لا يرجع إلى كتابٍ ولا يجهد ذاكرته.
لم يستطع — لضيق الشقَّة — أن يجعل لنفسه خلوة، وإن أكثر من الطلوع إلى سطح البيت، يتأمل السماء والقباب والمآذن ونهايات الأفق في الميناء الشرقية.
بدا لمريديه أنه يأوي إلى علمه ودينه، فلا أهل ولا مال ظاهر ولا مهنة أو وظيفة يتكسب منها، حتى زاوية الأعرج لا يتقاضى مقابلًا لإمامته فيها، لم يتحدث عن بلده، ولم يَظهر في بيته زوجةٌ ولا أبناء، ولا تردَّد عليه أقارب أو زوار من غير المريدين، ظلَّ الكثير من جوانب حياته في منطقة الظِّل، لا يعرفها أحد، ولا يحاول هو كشفها أو حتى الإشارة إليها، كأنه يتعمد أن يكون غامضًا، وأن تكثُر من حوله الأسئلة التي لا تجد أجوبة من أيِّ نوع.
قيل إنه ينفق من إيراد بيت قديم، في قبو الملاح، ورثه عن أبيه الذي ورثه عن جدِّه، وقيل إنه من مواليد عزبة خورشيد، له فيها سبعة أفدنة، نصيبه من إرث أبيه، يحيا على ريعها، تنقَّل بين المدن والموالد والمشايخ والنقباء والقراءات وحلقات الذكر، حتى استقر به المقام في الطريقة الشاذلية، في المرسي أبو العباس والبوصيري وياقوت العرش، والأولياء الكثيرين، يشغي بهم الحي، فتختلف صورته عن بقية الأحياء.
عُرف عنه أنه لا يأكل إلَّا الفاكهة والنباتات، قال له شبيروا الجزار يومًا: إني أدعو الله أن يقلِّدك الناس في كل شيء، ما عدا رفض أكل اللحم، فهذا سيخرب بيتي!
وكان يهمس باعتزازه أنه لم يغتسل عن جنابة، لم يحتلم، ولم يتزوج، شغلته عبادة الله عن كل ما عداها.
مع أنه كان يحفظ آيات القرآن، لا ينسى ولا يخطئ أو يلحن، فإنه كان يلتزم التلاوة في المصحف، وكان يطيل الصلاة، ليست مجرَّد حركات وسكنات، قيام وقعود، تلاوة أقوال محدَّدة وآيات، إنما هي وقفة بين يدَي الله، ورُويت حكايات عن تزوُّده بأدواتٍ وقدراتٍ خارقة، مؤيَّدًا بقوى عليا تعينه وتساعده.
لم يحدِّث مريديه عمَّن أخذ العهد، وإن رُوي أنه أخذ العهد على سيدنا أبو الحسن الشاذلي في المنام، أهمل من بعد ذلك دنياه وانشغل بالآخرة، وقيل إنه أخذ العهد على السلطان في قبره، علا صوت أبو العباس من داخل القبر بعبارات ردَّدها الرجل، ثم قرأ البسملة، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي، أصبح — من يومها — كما أراد لنفسه، جعل من السلطان معراجه وسلَّمه إلى دنيا التصوف، استمدَّ سرَّه منه، واستلهمه الولاية، واستعان به على تبدُّل حياته، لزم الخلوة، لا يتردَّد على الجامع إلَّا لأداء صلاة العشاء وقراءة الفاتحة للسلطان، تعرَّف — بين المصلين — إلى مَن توسَّم فيه صلاحية الريادة، فدعاه إلى بيته.
لم يبدأ في إرشاد مريديه وسلوك طريق الحقِّ بهم إلَّا بعد أن عرف المخاوف والمهالك والحدود، درس الفقه والكلام والأصول على أيدي أساتذة المعهد الدينيِّ بالمسافرخانة، وإن لم يلتحق — ذات يوم — بالدراسة المنتظمة، اقتصر فراغ وقته — أو كاد — على تلاوة القرآن ودراسته، ودراسة الحديث والفقه، وحضور مجالس الوعظ وحلق الذكر، أحكم معرفة آيات القرآن، ناسخه ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، مكِّيه ومدنيه، وفهم تفسيره، وعرف الروايات والأصول، حفظ الأسماء السبعة الأُوَل، فصول الأسماء كلها؛ الحي، العالم، المريد، القادر، السميع، البصير، المتكلم، حفظ الكثير من الأحاديث الشريفة، والأدعية النبوية، والسِّيَر المضيئة، وأدعية الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين، والأذكار الشرعية على اختلاف مراتبها، وأوراد وأحزاب أهل الله، وتفقَّه في قواعد أهل السُّنة ومشايخ الصوفية الرافضة والجهمية والشيعة والمعتزلة والقدرية والمشبهة، عرف الاختلافات في أسُس العقيدة والتوحيد، وتعلَّم الصرف والنحو والمعاني والبيان والعروض والمنطق والحساب في حدود المسائل الشرعية، ثم نذر نفسه لدلِّ السالكين على سبيل العروج إلى الخالق، وإرشاد التائبين التائهين إلى منارات طريق الآخرة، ينصح بمجاهدات ورياضات وأوراد وأذكار وأعمال تزكي نفسه، تطهرها من أدرانها، يسأل المريدون ويجيب، يقرءون القرآن، يفسِّر لهم الشيخ آياته، يستنبط منها الأحكام، يروي لهم أحاديث الرسول، ومآثر آل البيت، وقصص الصحابة والأولياء والتابعين، تقتصر أحاديثه في الدين، لا يجاوزها إلى أحاديث أخرى، لا يتكلم إلَّا همسًا، لغلبة تجلِّي الفيوض الإلهية في أحواله، والغالب على طبعه البسط والتبسُّم ولين الجانب والشفقة. يعروه صمت، فيعرف مريدوه أنه يتأمل في الله وصنعته، ربما فزَّ من مجلسه، وكبَّر للصلاة دون موعد، يثق المريدون أن ما فعله هو بعض سرِّ الصلة بينه وبين الملكوت الإلهي. إذا رفع رأسه من السجود، بدت الدموع على الأرض موضع الرأس، كأنها البركة الصغيرة، يلجأ إلى غرفته، أحيانًا، يطفئ النور، ويحكم إغلاق الباب والنافذة، لا يأذن بتسلُّل ضوء القمر أو الأنوار الباهتة من الحارة الخلفية، يلزم المريدون أماكنهم في الخارج، تصل إليهم كلماته المتسائلة والآمرة، فيعرفون أنه قد خلا في حُجرته المظلمة إلى قوى لا يعرفونها، يناقشها، ويُصدر إليها أوامره.
اتسعت دائرة تلاميذه ومريديه، قصده في زاوية الأعرج خلْقٌ كثيرون من أهل بحري والأحياء المجاورة، غالبيتهم من الصيادين والعمال والباعة السريحة وأصحاب الحِرَف، مَن يتردَّدون في إلقاء الأسئلة بمجلس الشيخ طه مسعود إمام أبو العباس، أو أن الإمام يهمل الإجابة على أسئلتهم، لا يختار لنفسه موضع الصدارة، يجلس حيث ينتهي به المكان، وندواته — في الأغلب — على صورة حلقة، يحرص أن يخدم زائريه، أصدقاءه ومريديه وتلاميذه، يتصاغر لما يفد على ألسنتهم من آراء تفد عفو الخاطر، لا يُبدي تأففًا، ولا يرفض الإجابة إن تضمنت الكلمات سؤالًا، ويتواضع باشًّا في وجوه محدِّثيه، لا يشتطُّ به الغضب، ولا يعلو صوته بعبارة محذِّرة، وإن لم يكُن يأذن لمريدٍ أن يبصق في مجلسه، أو يدخِّن سيجارة، أو يضع رِجلًا على رِجل، أو يجلس في وضع اللامبالاة.
أضاء نفوسهم بكلماته، له آراؤه في الحقيقة المحمدية، وأهل البيت، والأولياء، والمعجزات، والكرامات، والاستغاثة، والزيارة الشرعية، وفي علم الكلام، وآراء الفلاسفة، وشطحات الصوفية، واجتهادات الطوائف والفرق.
اشتُهر بمعرفته بالأصول والفروع والعربية واللغة والتفسير والقراءات، وبتفوقه في علم الحديث، سواءً في التاريخ، أو في الإسناد والنسخ والتصحيح والضبط، وفي حفظ الألقاب والأسماء والكُنى.
تركزت كلماته في الدعوة إلى الزهد ومخالفة النفس، والندم والاستغفار، والعمل بآيات القرآن، والاقتداء بسُنة الرسول، وأكل الحلال، وكفِّ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق.
تحدَّث عن الإخلاص، والصدق، والتوكل، والزهد، والورع، والرضا، والتسليم، والمحبة، والفناء، والبقاء، والذات، والصفات، والقدرة، والحكمة، والروحانية، والبشرية، ومعرفة حقيقة الحال، ومقامات أهل الولاية.
دعا إلى التخلص من معايب الدنيا؛ الحسد، والكبر، وحب الجاه، والسيطرة، والرغبة في الرئاسة، وهمِّ الرزق، وخوف الفقر، وخوف القلب من الثقة في الله وعطاياه وقسمته للأرزاق، وخوف انخفاض المنزلة عند الناس، والشح، والبخل، وطول الأمل في قادم الأيام، والغل، والغش، والمباهاة، والتفاخر، والمداهنة، والطيش، وضيق الصدر، والخوض فيما لا يعني.
كان يتروى، لا ينطق بالرأي إلَّا قبل أن يتدبره، ويختار الكلمات التي تعبِّر عن المعنى جيدًا.
لم يبالغ في شروطه كمشايخ آخرين، فيأخذ على مريده ألَّا يبقى له تصرُّف في ماله ولا زوجته ولا نفسه، إنما التصرُّف كله للشيخ. تحدَّدت شروطه — لا يجاوزها المريد — في الفرائض والسُّنن والأوراد والأحزاب والطهارة.
– ليس شيخك مَن سمعت عنه … إنما هو مَن أخذت عنه … فهل اكتفيت بالسماع من إمام أبو العباس، أو أخذت عنه ما قاله؟
قال زكي تعلب: لم أجد فيما قاله ما يغريني بأخذه.
قال الشيخ: إذَن … هو ليس شيخك.
ثم وهو يضغط على الكلمات: شيخنا يتحدث عن المبصرات، ونحن في حاجة إلى أحاديث البصائر.
وخالط صوته تأثُّر: شيخنا يقول للناس ما يحبُّون أن يسمعوه.
وجال بعينيه في الملتفِّين حوله: أنا أفضِّل أن يعرفوا ما تفيدهم معرفته.
قال زكي تعلب: إنه يظنُّ أن الله يسكن جبته!
أظهر الضيق: مولانا عالِمٌ جليل … لا أحبُّ أن نتحدث عنه بتحقير.
وقال لعلي الراكشي وهو يودعه ليلةً: الحقيقة مثل اللؤلؤ … وهو لا يوجد إلَّا في البحر، ولن تصل إلى ذلك البحر إلَّا بالسفينة … والسفينة اسمها التصوف.
وقال له في ليلة تالية: التصوف مراقبة الأحوال ولزوم الأدب.
وفاجأه — ليلةً — بالسؤال: ألست مسلمًا؟
قال الراكشي: طبعًا!
قال يوسف بدوي: التصوف من الإسلام كأنه الروح من الجسد، اتبع شيخك يصحَّ إيمانك.
ثم في لهجة مشجِّعة: إذا ترقيت في مقامات الإيمان … فستصل بعون الله إلى مقام الإحسان، فتعبد الله كأنك تراه.
قال الراكشي: وهل هذا آخر المقامات؟
– إنه مقام العارفين، الواصلين، المكرمين بأنوار الله وأسراره.
مع أنه أفاد من دروس إمام أبو العباس، استوعب منها ما استطاع، فإن كلمات الشيخ قادته إلى دنيا مغايرة من القراءات والأدعية والغوامض والأسرار، كشف له عن تلقِّي العلوم الإلهية، علَّمه ما ينبغي أن يكون عليه المتلقِّي من الاستعدادات وآداب الأخذ والعطاء، والقبض والبسط. عالَمٌ لم تطأه قدماه من قبل، يحفل بالنورانيَّة والرؤى والصفاء والأغنيات الجميلة الغائبة المصدر.
لما اطمأنَّ إلى إخلاص انتباهه قال: قبل أن تواصل سيرك في الطريق … عليك أن تطمئنَّ إلى علمك أولًا!
استطرد موضحًا: العلم هو أول ما فرضه الله على عباده.
•••
دفع إليه — وهو يودِّعه — ذات مساء، بمظروفٍ كبير الحجم: هذه الأوراق … أتركها عندك وديعة.
غلبته الدهشة: لماذا؟!
– اقرأ ما بها … ثم أعدها.
أظهر القلق: لست متعلمًا بما يكفي.
حدجه بنظرة مترفقة: قلت إنك تعلَّمت إلى الابتدائية.
ثم وهو يربت كتفه: ما يصعب عليك فهمه … سلني عنه!
رأى الحاج قنديل — في الليلة نفسها — يغادر نقطة الأنفوشي.
تبعه.
أعدَّ في فمه كلمات الاعتذار والمصالحة، أسرع في خطواته بحيث إذا نادى على الحاج سمعه، لكن قدميه أبطأتا، حتى مضى الحاج في قلب السيالة.