الأسطى مواهب
بدوا غرباء عن القهوة، بالسروال الفضفاض، والصديري المزركش، واللاسة الحرير.
الكراسيُّ من الليف المجدول، والطاولات مستطيلةٌ رخاميةٌ السطح، وفي الصدر كنبة خشبية ذات مساند على الظهر والجانبين، وتناثرت على الكراسيِّ والطاولات والجدران آلاتٌ موسيقية قديمة؛ عود، كمان، طبلة، رق، ناي، مزمار … وثمة صور — على الجدران — لسلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد وأحمد المسيري وحمامة العطار.
تعالت النداءات والدندنات والشتائم وعبارات اللوم والمعايرة، ولغة السيم التي غابت معانيها؛ كواني … زبال … آميد … فورتي … تشنيب … موزة جهرة … أبيِّج … عنترة … صولي …
وضع الجرسون أمامهم طاولة من النحاس بثلاثة أرجل، وضع عليها — باليد الأخرى — صينية بها ثلاثة أكواب من الشاي.
نظر إلى الوجوه الثلاثة التي تحيط بالمكان في استغراب، أكبرهم في حوالي الستِّين؛ قامة مدملجة، ورأس أصلع، على الفَودَين شعر أبيض. دائم التلفت، ويجري بظهر يده على عينه كمَن يعاني رمدًا، الآخران شابَّان يشبهانه في الملامح، وإن بدا جسماهما أطول وأنحف، قدَّر أنهما ابناه.
– جئتم للاتفاق على صهبة؟
قال المعلم عباس الخوالقة: نعم!
أنهَوا تردُّدهم على الصاغة وسوق الترك وسوق المغاربة، لشراء الأساور الذهبية والطسوت، وأناجر النحاس المطروق. أنهَوا مشوارهم بقراءة الفاتحة لسيدي المغاوري، في التقاء شارعي إسماعيل صبري وصفر باشا، لم يعُد إلَّا الاتفاق مع العوالم، وتحديد موعد الزفاف.
قال الجرسون: هل جئتم لاسم بالذات؟
قال الخوالقة: لا!
وهو يومئ برأسه: إذَن … عليكم بالأستاذ حسن عشم.
بدا — في جلسته على ترابيزة محاذية لشارع إسماعيل صبري — وحيدًا ومنعزلًا عمَّا يشغي في القهوة، يرتدي بدلةً سوداء ظاهرة الرثاثة، أسمر الوجه، وإن خالط سُمرته شحوبٌ، وفمه واسع، تحيط به شفتان غليظتان، يعلوهما أنف ضخم، يطلُّ من منخاريه حزمتان صغيرتان من الشَّعر الأبيض، بدأ حياته قارئًا ومنشدًا في أبو العباس، تعلَّم أصول ترتيل القرآن وإنشاد التواشيح، طال تردُّده على حفلات القرَّاء والمنشدين، وحاول تجويد الترتيل، صار على معرفة جيدة بالألحان في أصولها الدينية، واستوعب أصول الأنغام، احترف الغناء في الموالد والمناسبات الدينية والليالي والأفراح، أفلح في أن يميِّز الناسُ صوتَه بمجرَّد سماعه، دون أن يرَوه: عشم يغني! حين خذله صوته — بتأثير السنِّ والكيف — عمل «مطيباتي» يبدي الإعجاب، ويهلِّل للمطربة أو الراقصة: آه يا سيدي … كمان والنبي … يا عيني على كده … أعد!
لما بدأ جلوسه على قهوة الفنانين، حرصت فرق العوالم على استخدامه، أشار على الأسطى مواهب أن تهمل أداء أغنيات مطربات الفترة وتغني من ألحانه، قرن نصيحته بتقديم أغنياتٍ قوامها الموشَّحات والبشارف والسماعيات، أدَّتها مواهب في حفل زفاف، فتمايل الحضور طربًا، وطلبوا الإعادة، ذاعت الأغنيات، فقلَّدها عوالم الإسكندرية، حتى الرجال خنثوا أصواتهم، وأعادوا غناءها!
اعتزم عباس الخوالقة أن يكون حفل عَقد قِران ابنته وزفافها في بهاء حفل ابنة الحاج قنديل وزفافها، هو مثله شيخ صيادين، يجمعهما الودُّ والصداقة والجلوس في درس إمام أبو العباس، وأمام صالون الحاج محمد صبرة، لكن المكانة الاجتماعية لا تعرف العواطف، ولا تأذن بالتغاضي عن كلام الناس وملاحظاتهم، وعن تأكيد مكانته في الحي، وبين الصيادين.
قال حسن عشم، وهو يعبث بإصبعيه في الشَّعر المتدلي من أنفه: كان المغنى زمان … والله زمان يا طرب!
ثم وهو يمسح أنفه بظهر يده: هذه القهوة هي الامتداد لقهوة الجمهورية القديمة … غنى فيها سيد درويش، وسمعه جورج أبيض وسلامة حجازي والست الغندورة والشيخ زكريا.
استطرد الجرسون وهو يضع الصينية بفناجين القهوة: في هذه القهوة كان المغني يحصل على رخصة الغناء واعتلاء التخت!
هزَّ حسن عشم رأسه في تأكيد: كان المغني يسمع ما يحفظ أمام أساتذة الطرب والموسيقا … إذا وافقوا على أدائه، سمحوا له بارتداء حزام احتراف الغناء!
وأشار بيده ناحية الميناء الغربية: سلامة حجازي ولد بالقرب من هنا … في حارة بز امه … لكن والده كان صيادًا من رشيد … وهكذا كل الأُسر القديمة في المدينة … أصلها من رشيد.
وخالط صوتَه أسًى واضحٌ: القهوة تحتفظ — حتى الآن — باسمها … لكن الفنانين لم يعودوا هم زبائن القهوة، أو أنهم تخلَّوا عن مكانتهم لآخرين.
واتجه إلى المعلِّم عباس الخوالقة بملامح متسائلة: هل تحسب أنك ستجد هنا عالمةً تجيد تقسيم الليالي؟ حسبك وجه مريح … الوجه المريح أمر ضروري … وصوت يخفي ضعفه بأداء الأغنيات الخفيفة.
واعتدل في جِلسته: أغنية يعجبني مثلًا.
ودندن:
وتنحنح: حتى هذه الأغنية … لا يقدر على أدائها مطرباتنا اللائي يتعاطين الأفيون بشراهة رجل!
قال عباس الخوالقة: كل ما أطلبه صهبة جيدة، تسعد البنت، وتسعد أمُّها.
قال حسن عشم: الأسطى مواهب هي الوحيدة التي تغني في تياترو أحمد المسيري.
قال محمود عباس الخوالقة: ربما تطلب مبلغًا مرتفعًا.
قال حسن عشم: مَن يعشق الفنَّ لا تشغله الفلوس … والأسطى مواهب تحبُّ الفن.
قال الجرسون وهو يقدِّم كوب شاي لحسن عشم: أسطتنا أزاحت عن عرش الطرب أسماءً كبيرة.
وتظاهر بالعدِّ على أصابع يده: فاطمة القطورية وفاطمة كهربة وام النخيلي والتقيلة والحاجة زنوبة.
وتنهد: كثيرات!
قال حسن عشم: أسطتنا تخت بأكمله … تجيد الغناء والعزف على كل الآلات … وإن احتاج الأمر، فهي ترقص أيضًا.
مال عباس الخوالقة على أذن الرجل: لكنها — فيما علمت — عجوز.
قال حسن عشم: الدهن في العتاقي.
ولاحظ نظرة السخط في عيني الجرسون، فاستدرك: ثم إن أسطتنا ما تزال في أول شبابها.
اتجهت الأعين إلى باب البيت المجاور.
وقفت الأسطى مواهب بجسمها الممتلئ، والأصباغ ملأت وجهها، والشبشب تطلُّ منه أصابع مطلية بالحناء، يتبعها رجل ضئيل القامة، ضيق العينين، شاربه كخطٍّ فوق شفتَيه، يرتدي جلبابًا مكويًّا، ودسَّ قدميه في قبقاب.
أطلقت — فجأةً — ضحكةً عابثة، تمهِّد بها لدخول القهوة، تبعتها بدندنة:
علا صوت حسن عشم مغنيًا:
أطلقت المرأة ضحكةً مصحوبةً بغنجة:
أمضت شبابها في حارة العوالم، خطوات من شارع محمد علي؛ زوبة الكلوباتية ونبوية شخلع وعزيزة كهربة وعايدة وصفي وعزيزة حظ وقمر المصرية وحميدة المناصرة والفن والسهر والليل والنجوم والموسيقا والغناء والطرب وضبط الآلات والتقاسيم والصاجات وأغنيات الأفراح والسيم والسلام المربع. تعلَّمت كل الرقصات؛ الشرقي والشمعدان والزفة والشرقاوي والنوبي والإسكندراني، تقدمها في الأفراح، ما عدا الشمعدان التي لم يطلبها أحد، فنسيتها.
لم تكُن مجرَّد مؤدِّية، كانت تجيد العزف على الآلات الموسيقية، وتفهم الغناء على أصوله، ثم لم تعُد المهنة كما كانت، زمان ومضى، لم تعُد العالمة تستحقُّ اسمها.
قالت وهي تعدُّ بيديها: الطاقم يتكون من قانونجي وعازف كمان وعازف بيانو منفاخ وطبال ومونولوجست ومطرب … زائد راقصتين أو ثلاثًا لزوم الزفة.
أضاف الرجل وراءها متسائلًا: والحقاقة؟
قال لنظرة عباس الخوالقة الداهشة: هي التي تقول المديح في حقِّ العريس إن شاء الله.
قال مصطفى عباس الخوالقة: نحن أهل العروس.
قال الرجل: وتمدح العروس أيضًا!
قال الخوالقة محتجًّا: لم يبقَ إلَّا أن ندفع أجر المطيباتي.
قالت مواهب متغاضبة: نحن لا نستأجر مَن يبدي الإعجاب أو يهلِّل … فنُّنا يكفينا!
أردفت في لهجة متفاخرة: لدينا راقصات يُجدن كل ألوان الرقص؛ إسكندراني وشرقاوي ونوبي وشرقي.
قال الخوالقة: سمعنا عن سناء العطار.
قال الرجل وراءها: هذه راقصة زنقة … يُستعان بها إذا غابت الراقصة الحقيقية.
قال مصطفى عباس الخوالقة: نحن نطلب زفافًا محترمًا.
قالت مواهب: يا جارية اطبخي …
قال الخوالقة: كل ما تريده الصهبة ندفعه.
أضاف موضحًا: ليلة الحنة … وليلة الفرح.
زوى الرجل وراءها حاجبيه في استنكار: طبعًا!
قال حسن عشم: الأسطى مواهب من عائلة عوالم.
ثم وهو يضحك عن فم تساقطت معظم أسنانه: ولدتها أمُّها في فرح!
علا صوت الأسطى دون توقُّع:
قال عباس الخوالقة: طبعًا … توجد راقصة شمعدان؟
شهقت وهي تضرب صدرها بأصابعها: ماكانش يتعز! رقصة الشمعدان لا تعرفها الإسكندرية … اذهب إلى محمد علي.
فوَّت الملاحظة: ليتك تتعاقدين أيضًا مع فرقة نحاسية.
أطلقت ضحكة مائعة: الفِرق النحاس عند المبيضاتي.
أضافت بجد: هذا زمان وفات … لم تعُد فِرق النحاس — بعيد عنك — إلَّا للمآتم … الصهبة تحلو بالطبلة والرق والقانون والعود.
وأغمضت عينيها كالمتذكرة: زمان … كانت الغلبة للموسيقا الشرقية الأصيلة … أمَّا الآن فالكل يعزف الموسيقا الخوجاتي!
قال الرجل الواقف وراءها: أفراح زمان … أين هي الآن؟ ربما حمامة العطار هو آخر الفنانين الحقيقيين.
قالت الأسطى مواهب: متى الفرح بإذن الله؟
قال مصطفى عباس الخوالقة: الأربعاء.
علا حاجباها بالدهشة: ولماذا؟ عروسة الأربع يا تطلق … يا على بيت أبوها ترجع.
قال محمود عباس الخوالقة: فال الله ولا فالك!
قال عباس الخوالقة: هذا هو الموعد الذي حدَّدناه مع أُسرة العريس.
قالت مواهب في تمنُّع: غيروه … أنا مشغولة الخميس والسبت والأحد … والجمعة إجازة … الاثنين موعد مناسب … عروسة الاتنين يزورها الحسن والحسين.
استطردت وهي تميل برأسها إلى الوراء: زمان … كانت البدرة في الزفة جنيهات ذهب … نحصل على النقطة بالعافية في أيام النحس!
قال حسن عشم: الأسطى لا تقبل سوى أفراح الشاطبي وطالع.
قال الرجل وراءها: النقطة في أحياء البلد لا تأتي بهمِّها.
تدخلت الأسطى مواهب: أنت أخ عزيز … وابنتك ابنتي.
وقالت في حسم: اتفق معهم على ما يريدون.
قال حسن عشم: سلمتِ لنا يا معلمة … هذا عشم الناس الطيبين.
وأخرج من جيب جاكتته العلويِّ ورقةً صغيرةً مطوية، جرى فوقها ببقايا قلم كوبيا: عشرة قروش عربون … عشرة قروش أجر العربة الحانطور … خمسة وعشرون قرشًا ثمن سجائر.
قال الرجل وهو يتبع الأسطى إلى داخل البيت: مقاولة الأسطى مواهب معروفة للجميع … لا فصال فيها!
تناهى صوت امرأة من نافذة فوق القهوة: الأسطى ترفض أن يُفتح البوفيه بدونها.
قال عباس الخوالقة: المفروض أنها تحضر قبل ذلك بساعات.
قالت المرأة من مكانها: لا بدَّ للأسطى أن تقف بجوار العروس عند افتتاح البوفيه.
انصرف الشابَّان، تأخَّر المعلم عباس الخوالقة، همس في أذن حسن عشم: مَن هذا الرجل؟
هشَّ حسن عشم — بيده — ذبابة، حطَّت على حافة كوب الشاي، امتعض لسقوطها في الكوب، اهتزت، تحاول التخلُّص، ثم سكنت.
تلفَّت حسن عشم حوله: أيُّ رجل؟
– الذي كان يقف وراءها … يسأل بدلًا منها، ويردُّ على أسئلتنا.
كشف حسن عشم عن أسنانه المتساقطة: إنه طبال الأسطى وزوجها … وقوادها في حالات الضرورة!