لا بد لنا من التفلسف
«الفلسفة مضيعة للوقت.» «الفلسفة لا تحل أية مشكلة.» «الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة — بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات.» «لم يظهر أبدًا فيلسوف تحمَّل ألمًا في الضرس.» مثل هذه الملاحظات تُوجَّه إلى الفيلسوف المحترف وإلى طالب الفلسفة، وتتكرر إلى حدٍّ ينبغي معه النظر إليها على أنها من المتاعب المهنية. شأنها شأن غبار الطباشير في التدريس، أو قذارة الأظافر في أعمال الورش. ومع ذلك، فكما أن المدرس والميكانيكي يغضبان بطبعهما من أي تلميح إلى أن هندامهما الشخصي ليس على ما يرام، فكذلك يغضب الفلاسفة من التلميحات المألوفة التي تنطوي عليها أمثال هذه الملاحظات القائلة إن هندامهم العقلي معيب. وكما أن المدرس أو الميكانيكي قد يجيب كلٌّ منهما على النقد بقوله: «كم أود أن أراك وأنت تقوم بعملي وتظل محتفظًا بنظافتك!» فكذلك يشعر الفيلسوف في كثير من الأحيان بالميل إلى أن يرد قائلًا: «أتراك تتصرف على نحو أفضل لو كنت تعمل في ميدان؟»
ولكن التشابه بين الطرفين ينتهي عند هذا الحد؛ ذلك لأن من ينتقد السترة المغطاة بالطباشير أو الأظافر القذرة يستطيع أن يقول دائمًا (لنفسه على الأقل) «إن لدى العقل ما يكفي لتجنُّب أمثال هذه المهن التي تفسد الهندام.» أما في حالة الفيلسوف فليس هناك رد كهذا يمكن أن يوجَّه إليه؛ ذلك لأننا، كما لاحظ أرسطو منذ وقت طويل، سواء أردنا أن نتفلسف أو لم نُرِد، لا بد لنا جميعًا من التفلسف. فقد يكون في استطاعة الشخص الحريص على النظافة أن يتجنب المهن التي تجعل منظره يبدو غير مرتب، ولكن ليس في وسع أحد أن يفكر منطقيًّا، وبعمق، دون أن يقوم بدور الفيلسوف، على طريقة الهواة على الأقل. وفضلًا عن ذلك، فليس في وسع أحد أن يتأمل تجربته الخاصة، ويصل إلى أية نتائج، حتى لو كانت مفتقرة تمامًا إلى الدقة، عن العالم، أو الحياة، أو طبيعة الوجود ومعناه، دون أن يكون قد أقحم في تفكيره (ضمنيًّا على الأقل) مذهبًا ميتافيزيقيًّا كاملًا. ذلك لأن ما يفعله الفيلسوف المحترف هو أنه يعرض بالتفصيل ذلك المذهب الفكري الذي توجد بذوره البسيطة في أي رأي ساذج غير واعٍ عن العالم. والفارق الأساسي بين آراء المفكر المدرب وبين الخواطر غير النقدية التي تطرأ بالذهن الساذج من الوجهة الفلسفية، هو فارق في المسافة التي قطعها كلٌّ من الذهنين؛ أي إن كل ما يفعله الفيلسوف هو أنه يمضي أبعد في نفس الطريق الفكري الذي يسير فيه المفكر غير النقدي دون وعي. والفيلسوف يسلك عادةً طريقًا أقصر؛ إذ إنه قد اكتسب مزيدًا من الخبرة في تجنُّب الطرق المسدودة والمسالك الفرعية العقيمة التي قد تعترضه خلال سيره. وفضلًا عن ذلك فالأرجح أنه خلال سيره يرى تفاصيل أكثر (أي أكثر أهمية وأعمق معنًى بحق)، ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كلٌّ منهما يظل واحدًا.
والأمر المؤكد أكثر من كل ما سبق هو أن القارئ لو كان طالبًا فيك كلية فلا بد أنه بدأ يتفلسف منذ وقت قريب، وكلما كان بقاؤه في الكلية أطول، كان الأرجح أنه يقف مترددًا، في أوقات كثيرة، على حافة التفكير الفلسفي الجاد. مثل هذا الطالب هو عادةً شخص ذو ذهن جاد، يهتم بما هو أكثر من الحياة الرياضية والاجتماعية بالجامعة، والأغلب أنه قد انزلق من هذه الحافة مرات كثيرة، وخاض بحر المشكلات الفلسفية العميقة، الذي سبح فيه دون أن يدري، برفقة مجموعة من كبار مفكري التاريخ.
والحق أن من أكثر التجارب التي يمكن أن يمر بها المبتدئ في الفلسفة مدعاة للاستغراب (وربما لخيبة الأمل الشديدة)، أن يكتشف أن مجموعة الأفكار الغامضة، بل المفككة، التي يعتنقها في موضوع الحياة والكون، قد يكون لها اسم، وأن من الممكن، على أساس هذه الأفكار، أن يصنف على أساس أنه «مثالي»، أو «طبيعي»، أو «من أصحاب مذهب اللذة»، وربما على أنه «برجماتي». ذلك لأنك لو كنت شخصًا واثقًا بنفسه، فأغلب الظن أنك كنت دائمًا تنظر إلى أفكارك ووجهات نظرك على أنها فريدة في نوعها. وهذا النوع من الأشخاص يدهشه، بل يغضبه، ذلك الهدوء الرزين الذي قد يستطيع أستاذ الفلسفة تحديد الفئة التي تنتمي إليها آراؤه. ومن جهة أخرى فلو كنت طالبًا من النوع الأكثر تواضعًا وانطواء، فالأرجح أنك تشعر عندئذٍ بأن ذهنك كان يحتوي على كثير من الأفكار التي هي أكثر «حمقًا» من أن تستحق معنوياتها اسمًا محترمًا كالفلسفة. وفي هذه الحالة بدورها ستتملكك الدهشة بلا شك، وإن كان سرورك بذلك أعظم؛ إذ إنك لا بد أن تكتشف بدورك أن واحدًا أو أكثر من الشخصيات التي حفظها تاريخ الفلسفة، قد قال بنفس هذه الأفكار «الحمقاء»، ووصل إلى الشهرة لا لشيء إلا لأنه قد وسع هذه الأفكار وزادها تكاملًا ودقة. وهكذا فإن المبتدئين، سواء أكانوا من الواثقين أم من غير الواثقين بأنفسهم، يكتشفون عادةً أنهم ليسوا وحيدين في تفكيرهم؛ إذ إنهم سرعان ما يعلمون أنه لا جديد — إلا القليل جدًّا — تحت شمس الفلسفة، ولا بد أن تمر بالمرء لحظة هائلة، قد تملكه فيها فرحة طاغية أو خيبة أمل عميقة، عندما يكتشف أنه شريك في الفكر لأفلاطون، أو باركلي، أو اسبينوزا.
هذه التناقضات والمفارقات — العقلية، والأخلاقية، والدينية — هي التي تدفع كثيرًا من الطلاب إلى القيام بأول اتصال لهم مع الفلسفة، إما في المدرج الجامعي، وإما عن طريق كفاحهم الخاص في سبيل الاتساق العقلي. فكل أستاذ مثلًا، يشاهد أمثلة كثيرة لطلاب مثل «بوب». وبوب هذا قد تربى في جوٍّ مسيحي محافظ، ولكنه سرعان ما أدرك أن أية إشارة إلى التعاليم التي ظل يقبلها دائمًا دون مناقشة، تثير على وجوه زملائه من الطلاب نظراتٍ عابسةً أو مستنكرة، وربما معبرة عن الحرج الشديد. وفي البداية كان بوب يميل إلى الاستخفاف بهذه الاستجابات السلبية، على أساس أنها تعبر عن حالات استثنائية لا تمثل الموقف العام في الجامعة، ولكن لما كانت كليته تمثل المجموع، فقد كان لا بد له أن يضطر إلى مواجهة الحقيقة الفعلية، وهي أنه هو الاستثناء (أو على الأقل واحد ضمن أقلية)، وأن التعاليم المسيحية لا تؤثر مباشرة إلا في تفكير وسلوك قلة من أصدقائه وزملائه في الدراسة. وقد اشتدت حدة الصراع الذي أثاره هذا الاكتشاف في ذهن بوب بوجه خاص عندما أدرك أن كثيرًا من الطلاب الذين كان يقدرهم ويعجب بهم — والأسوأ من ذلك، بعض مدرسيه المحبوبين — يشاركون في عدم الاكتراث العام هذا، أو في تلك العداوة الصريحة، للتعاليم الدينية التقليدية.
ولكي يصل بوب إلى حل لهذا الصراع، فعل ما يفعله أي شخص عاقل في مثل هذه الظروف؛ فقد بدأ يفكر، فاكتسب مزيدًا من المعلومات عن أصل وتاريخ تلك التعاليم التي كان يقبلها دائمًا على أنها «مقدسة»، وحاول فهم الأسباب التي أدت بأشخاص أذكياء مثقفين (ومتمسكين تمامًا بالأخلاق) إلى التخلي عن هذه التعاليم. فناقش مختلف المشكلات التي يثيرها الموضوع مع ممثلين ينتمون إلى كلتا المدرستين الفكريتين، محاولًا أثناء ذلك أن يحتفظ بموقف الحكم النزيه.
ولقد كان هذا الجهد الذي بذله بوب للوصول إلى حل لصراعه هذا، يقتضي منه أن يستخدم العقل لا العاطفة؛ إذ إنه أدرك أن المشكلة عقلية قبل كل شيء، ولا تمس العاطفة إلا بطريق غير مباشر. فانتهى رأيه إلى أن أسرته ومعلميه الدينيين ليسوا «موضوعيين» في الحجج التي يزعمون بها إثبات وجود الله أو خلود النفس، ومن جهة أخرى رأى أن أصدقاءه الشُّكاك والملحدين لم يكونوا في بعض الأحيان أقل تعصبًا وعاطفية، أو كان كل ما يفعلونه هو تبرير تمرد مبني على أسس دينية مشابهة لما لديه. وهكذا بدا له أن كلتا الجماعتين لا تقدم إليه مصدرًا موثوقًا به للتفكير النزيه، غير الانفعالي، ورأى نفسه مضطرًّا إلى رفض الاسترشاد بهذا الجانب أو ذاك في حل مشكلته. ومن ثم فقد اضطر إلى محاولة البحث بنفسه عن صيغة منطقية لما يستطيع أن يؤمن به إيمانًا صادقًا على أسس تجربته ومعرفته التي اكتسبها حتى ذلك الحين.
ومنذ هذه اللحظة، أصبح بوب فيلسوفًا، سواء أعرف ذلك أم لم يعرفه. ولو ظل منطقيًّا وثابر على محاولته صياغة معتقداته الخاصة، لوصل على الأرجح إلى نتائج مشابهة لتلك التي وردت في مذهب ميتافيزيقي معين من المذاهب الموجودة بالفعل. ولكن، سواء أكانت وجهة النظر التي سيصل إليها هي تلك التي اشتهرت بفضل أرسطو، أو وليام جيمس، أم وجهة نظر يستطيع أن يصفها — عن حق — بأنها خاصة به وحده، فإن منهجه لو كان منطقيًّا، وطريقة معالجته للموضوع لو كانت عقلية، لكان تفكيره هذا، والنتائج التي وصل إليها، جديرًا باسم «الفلسفة».
ولنتأمل حالة الطالبة «روث»، وهي حالة نجد لها نظائر في كل جامعة بها تعليم مشترك. فعلى الرغم من أن تعليمها لم يكن محافظًا من الوجهة الدينية على قدر ما كان تعليم «بوب»، فإن التعاليم الأخلاقية التي تلقتها من والديها كانت صارمة قاطعة. صحيح أن والديها يعدان نفسيهما «متحررَين» ولكن روث قد تعلمت أن هناك أمورًا معينة تتجاوز حدود أكثر أنواع السلوك تحررًا. وأبرز هذه البنود المستبعدة، كل نوع من السلوك الجنسي يتم خارج نطاق الزواج، ولا سيما بالنسبة إلى امرأة تحترم نفسها. وعلى حين أن والديها قارئان مثقفان، ولديهما بعض المعلومات عن علم النفس وعلم الاجتماع فإنهما قد نشَّآ ابنتهما على الاعتقاد بأن معايير الأخلاق الجنسية صارمة لا تتغير.
ولكن، بعد أن تُمضي روث في الجامعة فصلًا دراسيًّا أو فصلين، تبدأ في إدراك أنه، على الرغم من أن معظم الفتيات قد نشأن في جو أخلاقي مشابه للجو السائد في بيتها، فإن بعضهن قد انحرف عنه نظريًّا أو عمليًّا أو كليهما معًا. وفضلًا عن ذلك فإن بعض هؤلاء الفتيات صريحات فيما يتعلق بسلوكهن، لا سيما حين يتحدثن مع صديقات حميمات. وقد دهشت روث إذ وجدت أن اتجاهاتهن هذه لا يبدو أنها تؤدي إلى الحد من قدرهن في نظر صديقاتهن. ولما كانت روث قد تعلمت دائمًا أن مثل هذا السلوك يؤدي دائمًا إلى التعاسة، ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات، فإن الأمر الذي كان مصدر أكبر قدر من الإزعاج والحيرة لها، هو أنها لاحظت أن هؤلاء الفتيات لا يبدو عليهن أنهن أقل سعادةً وانسجامًا مع بيئتهن من معظم زميلاتهن الأخريات.
ولما كانت روث ذكية واسعة الأفق، فقد حاولت بدورها أن تفكر في المسألة من أولها إلى آخرها بطريقة عقلية. وقد أتاحت لها سياسة التسامح التي تتبعها مكتبة الجامعة، أن تطلع على كتب موثوق بها في المشكلات الرئيسية للجنس والزواج، ولكنها سرعان ما أدركت أن حل مشكلتها لن يوجد في هذه الكتب، ولن يُستمد من مناقشات منتصف الليل في عنابر بيت الطالبات؛ ذلك لأن ما كانت تحاول كشفه هو شيء أعمق وأعقد وأهم بكثير من أية إجابة على مشكلة العفة الجنسية. فقد كانت تحاول كشف ما يحدد «الصواب» و«الخطأ». فهي قد ظلت حتى الآن تعتمد دائمًا على كلمة أبويها ومعلميها في تحديد فئتَي السلوك هاتين، ولكن ها هي ذي تدرك فجأة أن ذلك لم يعد كافيًا، ما دامت كل تعاليمهم قد صيغت على هيئة أوامر محددة تتعلق بأفعال معينة، لا على صيغة معيار عقلي «للحق أو الصواب». أما كون معظم الناس يؤمنون كما يؤمن والدها، فهذا أمر لا يؤثر فيما تبحث عنه شيئًا؛ مثلما لا يؤثر فيه كون العفة صفة أثيرة لدى المجتمعات منذ عهود بعيدة؛ ذلك لأنها تدرك أن هذه ليست إلا صورًا متباينة للسلطة، التي لا يمكن أن تكون لها قوة عقلية ملزمة لأذهان ترفض السلطة الخاصة المتعلقة بهذا الموضوع بعينه. فلا بد إذن من شيء أكثر تأصلًا، وأكثر معقولية.
وهكذا تجد روث نفسها قادرة، آخر الأمر، على البدء بعملية إعادة بناء عقلية. ولا يمضي وقت طويل حتى تكتشف أن مشكلة «الصواب» و«الخطأ» لا يمكن أن تُحل إلا بمزيد من التعمق؛ إذ إنها تدرك أن هذين اللفظين يعتمدان على «الخير» و«الشر». ومن هنا فإن بحثها يؤدي بها آخر الأمر إلى هذا السؤال الأساسي: «ما هي الحياة الخيرة؟» وإلى أن يتسنى إيجاد جوابٍ مُرضٍ لهذا السؤال — الذي هو أكثر أسئلة الإنسان إلحاحًا — فإن روث تدرك أنها لا تستطيع إلا أن تعود إلى سلطة من نوع ما، لتتخذ منها مرشدًا لسلوكها، حتى لو كانت سلطة مشكوكًا فيها مثل رأي الأغلبية من زملائها الطلاب. ومن الجائز أن بحثها هذا عن جواب شافٍ عن مشكلة الحياة الخيرة سيؤدي بها إلى اختيار برنامج دراسي في الفلسفة أو الأخلاق. ولكنها — سواء أفعلت ذلك أم لم تفعله — فإنها ستكون سائرة بجد في طريق الفلسفة الفسيح إذا أدت بها جهودها الخاصة إلى بلوغ نقطة قريبة من تلك التي وصفناها.
ولا شك أننا لن نجد جميع الطلاب، حتى لو كانوا أذكياء، ذوي عقول جادة، قادرين على المثابرة في التفكير في مثل هذه المشكلات إلى الحد الذي يكشف لهم بوضوح عن المسائل الفلسفية الأساسية. مثل ذلك أن «بوب» كان يستطيع أن يتوقف فجأة في تحليله بأن يقرر أنه يوجد لدى أي شخص، على ما يبدو، دليل موثوق به على حقيقة المعتقدات الدينية أو بطلانها؛ وبالتالي يصبح «الإيمان» مسألة شخصية بحتة. وكذلك كانت «روث» تستطيع التراجع في رحلتها العقلية بعد البداية مباشرة؛ وذلك بأن تقرر أن أبويها أكبر منها سنًّا وأحكم عقلًا؛ ولذا فمن الواجب اتباع نصائحهما، لا سيما وأن آراءهما تتفق مع رأي الأغلبية فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية.
لكن حتى لو لم يكن الطالبان اللذان نتحدث عنهما قد وصلا إلا إلى موقفين مبدئيين من هذا النوع، فإن كلًّا منهما يكون مؤمنًا ضمنيًّا بفلسفة وجدت خلال التاريخ الطويل للفكر من يعبر عنها بوضوح ويدافع عنها بحرارة. فعندئذٍ يكون «بوب» مثلًا، قد اتجاه نحو مذهب نسبي شكاك من نوع ما، على حين أن «روث» تكون قد ظلت قانعة بنوع من مذهب السلطة المفترض ضمنًا.
وهناك طالب آخر، هو «ديك»، يبدي اهتمامًا كبيرًا بالعلم ولا سيما الجيولوجيا والفلك والدراسات البيولوجية. وقد تعلَّم مما درسه في هذه الفروع أن العلم، حتى في أشمل تعميماته وأوسع قوانينه نطاقًا، يتوقف دائمًا، وفي نهاية الأمر، على «الوقائع». وهو يشعر بإعجاب متزايد بقدرة العلم على تفسير مختلف أسرار التجربة البشرية واحدًا بعد الآخر، ويشعر برضًا خاص إذ يدرك أن حدود المجهول والغامض وما هو «خارق للطبيعة» تتراجع وتنكمش يومًا بعد يوم. وأخيرًا يشعر، كما يشعر كل أساتذته في العلم، أنه على حين أن العلم قد لا يكون قادرًا على أن ينبئنا بكل ما نود معرفته، فهناك بالفعل أدلة كافية تُثبت أن أي ميدان لا يثمر أكبر قدر ممكن من المعرفة الموثوق منها إلا إذا اتبعت فيه الطريقة العلمية. كذلك يعتقد «ديك» أنه لا يوجد شيء من وراء الكون الطبيعي الذي يدرسه العلم. «فالطبيعة» تشمل كل ما يوجد، بحيث لا يكون ثمة مجال لما هو «خارق للطبيعة». وعندما يصل إلى وجهة النظر الأخيرة هذه، يكون قد عثر (ربما دون أن يعلم مطلقًا). على الفكرة الرئيسية في موقف فلسفي رئيسي آخر، هو المذهب الطبيعي.
والمثل الأخير هو «باربارا»، وهي فتاة في السنة الأولى، تتصف بصلابة الرأي وبنزعة عملية مشوبة بشيء من السخرية وعدم الاكتراث، ولا تطيق التفكير النظري أو التأمل أبدًا. ففي كل مناقشة نظرية، نراها دائمًا ترد بقولها: «إلى أين ستؤدي بك؟» وفي الآونة الأخيرة أخذ نطاق تحديها النقدي يزداد اتساعًا؛ إذ إنها الآن قد أصبحت تتساءل: «هل نوع النظرية التي تعتنقها يؤدي إلى أي فارق في المدى الطويل — وإذا كان هناك فارق، فما هو؟ وما العائد من النتائج الملموسة — هذا وحده هو ما يهمني!» وهنا نجد أن باربارا بدورها تتخذ موقفًا نظريًّا موجودًا بصورة ضمنية في أسئلتها، وإن كانت ستدهش قطعًا (وربما غضبت) لو عرفت بالأمر. ذلك لأن أسئلتها توحي بنوع ساذج من «البرجماتية» التي تحاول تقويم كل شيء من خلال نتائج ذات أثر ملموس، وتذهب إلى أن النظريات والتمييزات النظرية لا يكون لها معنى إلا بقدر ما تؤدي إليه من اختلافات يمكننا أن نجربها مباشرة.
وهنا ينبغي أن نؤكد مرة أخرى أنه قد لا يكون هناك واحد من هؤلاء الطلاب الخمسة يعتقد أن النشاط العقلي الذي يمارسه هو نوع من التفلسف، والأبعد من ذلك احتمالًا أن تكون نتائج تفكيرهم في نظرهم بوادر أولى لمذهب فلسفي. على أن الفلسفة المنظمة، كما سنرى في الصفحات التالية، قد نمَت من تفكير مماثل لهذا تمامًا، في نفس هذه المشكلات، بل إن تاريخ الفلسفة ليس إلا تعاقبًا متصلًا من الإجابات المتباينة على هذه المشكلات (وعلى مشكلات أخرى مماثلة لها)، على حين أن أي «مذهب» فلسفي ليس أكثر من محاولة متكاملة شديدة التنظيم للإجابة عن نفس الأسئلة الأساسية التي تلح على ذهن الإنسان كلما بدأ يفكر تفكيرًا عميقًا شاملًا.
(١) الاختلافات الرئيسية بين الفلسفة الشعبية والفلسفة المذهبية
هناك ثلاثة اختلافات تفرق بين الفلسفة التي نسميها «شعبية» أو «شخصية» وبين ذلك النوع الذي يحظى بشهرة باقية، بل حتى ذلك النوع الذي يزاوله معظم الفلاسفة المحترفين. أوضح هذه الفروق هو أن هذه الفلسفات الشخصية يعبر عنها باللغة البسيطة التي يستخدمها الإنسان العادي كل يوم. أما أفكار معظم المفكرين الكبار فتصاغ عادةً من خلال مصطلح فني أكثر تجريدًا، ينبغي أن نتعلَّمه مثلما نتعلَّم المصطلح الخاص بأي علم. وهذا المصطلح الفني هو في الوقت ذاته الحاجز الأكبر الذي يقف حائلًا بين معظم الفلاسفة وبين عامة الناس.
ولكن الواقع أن هذا الفارق بين النوعين الشعبي والاحترافي أو الفني للفلسفة، ليس ضخمًا إلى الحد الذي يبدو عليه. فما إن يتعلَّم المرء هذا المصطلح الفني، حتى يبدأ في اكتشاف أوجه شبه بين الاثنين لم يكن يخطر بباله وجودها. ومن الأمور الشائع حدوثها أن يقول الطالب المبتدئ، بعد أن يقوم معلمه أو القاموس بترجمة عبارة ميتافيزيقية معقدة إلى لغة بسيطة: «لمَ لم يقل ذلك منذ البداية؟» والرد على هذا السؤال الطبيعي بالنسبة إلى الشخص غير المتخصص، هو أننا حتى لو افترضنا أن الترجمة إلى اللغة العادية دقيقة (وهو ما لا يصح دائمًا؛ إذ إن هناك جملًا فلسفية معينة قد يكون من المستحيل التعبير عنها بالألفاظ المستخدمة يوميًّا)، فإن الوضع يكون شاذًّا إلى حدٍّ بعيد لو عبرنا عن التجريدات العميقة بلغة غير اللغة الفنية التجريدية.
والحق أن نفس هذه المشكلة المتعلقة بالمصطلح تظهر في معظم فروع العلم، فكثير من المفاهيم الأساسية في أي فرع بعينه يُرمز لها بعبارات يراها الشخص غير المتخصص عبارات فنية، غير أن الكاتب أو المتحدث يكون عليه أن يستخدم جملة كاملة (وربما عدة جمل)، بدلًا من هذا اللفظ الواحد، إذا ما طُلب إليه الاقتصار على استخدام اللغة العادية. ولو أتيح لغير المتخصص أن يقرأ كلامًا كهذا أو يستمع إليه وقتًا قصيرًا، لأدرك بسرعة أن محاولة تجنب كل لغة فنية يؤدي إلى نقص كبير في القدرة التعبيرية، وذلك من وجهة نظر الكاتب وجمهوره معًا. والأمر الذي يبدو أن الحاجة تدعو إليه، ولا سيما في الفلسفة، هو وجود استعداد أكبر من جانب الفلاسفة لتعريف الألفاظ بوضوح ثم استخدامها بدقة واتساق، واستعداد مماثل من جانب الدارسين لتعلُّم لغة هذا الفرع الخاص. وإننا لنأمل أن يقتنع قراء هذا الكتاب بعينه أن مؤلفه، حين أضاف قائمة بالمصطلحات الفلسفية في نهاية الكتاب، إنما كان يود أن يلتقي مع قرائه، في هذه المسألة، في منتصف الطريق، ومع ذلك فإن هذا العامل المساعد على التفاهم والاتصال. شأنه شأن كل الوسائل الأخرى من هذا النوع، لن تكون له قيمة إلا إذا استُعمل.
والفارق الواضح الثاني بين الفلسفات الشعبية وبين الفلسفة الفنية المتخصصة هو أن الفلسفات الشعبية توجد، في معظم الأحيان، بصورة ضمنية، على حين أن المفكر المنهجي قد جعل تفكيره صريحًا ظاهرًا. ذلك لأن الفلسفة الشعبية، وخاصة إذا كان واضعها شخصًا ليست له معرفة بتاريخ الفلسفة، هي فلسفة في طور الجنين فحسب. وقد تكون فيها كل الإمكانيات التي تبشر بالتحول إلى مذهب كامل النمو، ولكن مثلما أنه لا بد من عالم بيولوجي متخصص في علم الأجنة لإدراك هذه القوة الكامنة في الكائن العضوي الذي لم يتشكل إلا جزئيًّا، فكذلك لا بد من شخص ذي خبرة واسعة في الفلسفة المنهجية لكي يكتشف جميع الإمكانيات الكامنة في موقف فلسفي لم يتشكل إلا جزئيًّا. إن الفرق ضخم بين الجنين وبين الكائن العضوي الناضج، ومع ذلك فالأجنة لها من الأهمية في نظام الأشياء بقدر ما للبالغين المكتملي النمو. ومن هنا كان من دواعي التفاؤل أن نجد الطلاب عادةً يتشجعون حين يستكشفون أن مفكرًا مشهورًا معينًا قد اكتسب شهرته بفضل تقديمه لعرض موسع دقيق لأفكار يستطيع الطالب أن يعرفها على أنها أفكاره الخاصة.
وهناك فارق ثالث هو أن معظم المذاهب الفلسفية تنطوي على قدر من التنظيم والاتساق يكاد يكون من المؤكد أن الآراء الشعبية الخاصة عن العالم تفتقر إليه؛ ذلك لأن الفيلسوف المعترف به ينظم أفكاره بطريقة منهجية، بحيث إن تفكيره يكون نظامًا لتفسير الكون وحل المشكلات التي تعترض الذهن عندما يبدأ البحث جديًّا في طبيعة التجربة. أما تفكير معظم الناس، حتى حين يكون جادًّا متعمقًا، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى الاتساق والإحكام في معالجته لأي مجال شديد الاتساع من مجالات الفكر والتجربة. ومع اعترافنا بأن الفيلسوف المنهجي، شأنه شأن أي إنسان آخر، ليس معصومًا من التناقض العقلي وعدم الاتساق المنطقي، فإنه مع ذلك ينجح في تحقيق التماسك والوحدة المنطقية بالنسبة إلى مجالات فكرية أوسع بكثير من تلك التي ينجح فيها الرجل العادي، بغضِّ النظر عن مدى إخلاص هذا الأخير وشعوره بالمسئولية بوصفه مفكرًا. فالنظر الفلسفية إلى العالم تظل عادةً شيئًا يدعو إلى الإعجاب من حيث هي مذهب منظم محكم البناء، حتى لو أخفقت فيما عدا ذلك من النواحي.
(٢) مشكلة التعريف
عندما نحاول تنظيم هذه الأفكار العامة عن طبيعة الفلسفة في تعريف شكلي للموضوع، فسرعان ما تعترضنا الصعوبات؛ ذلك لأن الفلسفة هي عملية أو نشاط أكثر من كونها موضوعًا أو بناء للمعرفة، وتعريف النشاط أصعب دائمًا من تعريف الكيان أو الشيء المحدد المعالم. ويحاول البعض أحيانًا تجنب هذه الصعوبة بالقول إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسفة، بل يوجد فقط تفلسف. وهو النشاط العقلي الواعي الذي يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع. ومعنى التجربة الإنسانية. وقد يذهب أناس آخرون إلى القول بأنه لا توجد، على أحسن الفروض، إلا فلسفات؛ أي طرق متعددة للنظر إلى العالم. يصوغها مفكرون يعيشون في مدنيات كثيرة مختلفة. هذه الفلسفات تتباين، وكثيرًا ما تتناقض، ومن هذا كان من الممتنع (على ما يقولون) أن ننظر إلى الفلسفة على أنها ميدان أو بناء موحد للمعرفة. وفضلًا عن ذلك، فلا مفر لكل مدرسة وكل مفكر فردي من تعريف الموضوع بطريقة مختلفة، فيؤدي هذا التعريف ذاته إلى إغفال الكثير مما يود ممثل المدرسة المضادة أن يعمل له حسابًا.
فإذا ما انحزنا مؤقتًا إلى صف أولئك الذين يفضلون النظر إلى الفلسفة على أنها نشاط أو عملية، لكانت مشكلتنا هي أن نقرر ما الذي يفعله كل هؤلاء المفكرين المتعددين، المتعارضين أحيانًا، عندما يتفلسفون. فما هو العنصر المشترك بين عملياتهم العقلية؛ أي بالاختصار، ما الذي يميز التفكير الفلسفي من الأنواع الأخرى للتفكير؟ وما الذي يفعله الفيلسوف ويختلف فيه عما يفعله العالم أو رجل الدين، وربما الفنان ذاته؟ وما هي أوجه نشاطه العقلي الفريدة أو المميزة له؟
على الرغم من أن تصور الفلسفة على هذا الأساس الوظيفي الدينامي يؤدي إلى تبسيط مشكلتنا إلى حد ما، فما زال التعريف أمرًا شديد الصعوبة. فهناك على الأقل نمطان متميزان من النشاط الفكري يزاولهما الفلاسفة من حيث هم جماعة، وإن لم يكن هناك فيلسوف واحد يزاول النوعين معًا. وعلى الرغم من أن كلًّا من هذين النوعين من النشاط العقلي ليس منقطع الصلة بالآخر، فإن بينهما مع ذلك من الاختلاف في المقصد والمنهج ما يكفي لتعقيد محاولات التعريف. وسوف تكون مهمة كثير من الفصول التالية إيضاح هذا الفارق، أما هنا فنستطيع على الأقل تقديم عرض مبدئي لهذا الموضوع.
(٣) المهمتان الكبيرتان للفلسفة
على أن هذه المهمة النقدية التحليلية للفلسفة، كما سنرى في الفصول القادمة، لا يفهمها معظم الناس ولا يقدرونها إلا على نحو أقل بكثير من فهمهم وتقديرهم للمهمة الأخرى الأوسع منها شهرة للفلسفة، ألا وهي التركيب، وهذا أمر يدعو إلى الأسف؛ لأن هذه الجهود التحليلية للفلسفة هي التي أصبحت تسود الميدان على نحو متزايد في السنوات الأخيرة، وفي ميدان التحليل هذا يبدو أن الفلاسفة يقومون اليوم بأعظم أعمالهم فائدة. فمعظم المنشورات الفلسفية التي تظهر على شكل كتب أو على شكل مقالات، هي في واقع الأمر دراسات نقدية، تهتم أساسًا بمشكلة المعرفة ومناهجها. ولذلك فإن القارئ العام الذي لا يدرك هذه الحقيقة يشعر بالنفور وخيبة الأمل حين يحاول دراسة أوجه المعرفة هذه؛ إذ إنه بدلًا من أن يجد إجابات لأسئلته المتعلقة بالحياة والكون، يصطدم بمناقشات شديدة التخصص حول مناهج العلم أو قوانين اللزوم أو مشكلة العِلِّية. فقد كان التصور التقليدي للفلسفة هو أنها مصدر يقدم إجابات للأسئلة التي يمكن أن يوجهها أي شخص مولع بالتفكير. ولكن جهود الفلسفة في العصور الحديثة أخذت تسير على نحو متزايد في طرق تحليلية (وبالتالي فنية متخصصة جدًّا). أما مسألة ما إذا كان هذا النشاط الرئيسي للفلسفة الحديثة هو أيضًا أهم أوجه نشاطها، فهذا أمر لا يمكن البت فيه إلا بعد أن نكون قد توصلنا إلى فهم أفضل لمجال الفلسفة في مجموعه.
وفضلًا عن ذلك فإن هذا الجزء من الكل، الذي يبدو هو الأهم بالنسبة إلى أي جيل حاضر (أعني ذلك الذي يحدث خلال العقدين أو العقود الثلاثة السابقة)، لا يكون قد تم هضمه عقليًّا، إن جاز هذا التعبير. ومن هنا فإن مهمة الفلسفة في تحقيق التكامل لا نهاية لها، وينبغي بالضرورة أن تظل كذلك. فليست هناك صيغة، مهما يكن شمولها، تستطيع أن تصمد طويلًا بوصفها الكلمة الأخيرة. فقد تظل هذه الصيغة باقية بضعة أجيال، على الرغم من أن ظروف المدنية الحديثة لا تتيح مثل هذا العمر الطويل نسبيًّا إلا للقلة القليلة جدًّا. ومن هنا يبدو أن الفيلسوف، شأنه شأن أي مشتغل آخر بالأعمال العقلية، لديه عمل دائم لا ينتهي.
(٤) بعض التعريفات الممكنة
إن الفلسفة، (ولا سيما في نشاطها التركيبي)، تمثل الجهود التي ترمي إلى الجمع بين المعرفة كلها والتجربة كلها، سواء منها ما يكتسبه الفرد والجنس بأكمله، في نسق متكامل. وهي تسعى إلى تنظيم كل الحقائق في كلٍّ موحد، وإلى أن تستخلص من حياتنا اليومية كل تلك الأوجه الجزئية للتجربة التي ترد إلينا في صورة مجزأة، لكي تمزج بينها في صورة متكاملة. وقد يسمى المفكرون المختلفون هذه الصورة المتكاملة نظرة إلى العالم، أو ترديدًا للواقع، أو تلخيصًا عامًّا لطبيعة الأشياء تخطيطًا لصورة «المجهول»، أو إطارًا يحدد «ماهية الأشياء في ذاتها»، أو تصويرًا للمنطق. ولكن أيًّا كان الاسم الذي نطلقه عليها، وأيًّا كان ما تمثله في أذهاننا، فإن الدافع الذي يحفز إلى تكوين مثل هذه الصورة واحد في كل مكان وكل عصر: وأعني به زيادة الفهم، وإشباع رغبة الإنسان في أن يعرف؛ وبالتالي جعل الحياة أقرب إلى الفهم وأجدر بأن نحياها في آن واحد.
إننا عندما نتفلسف نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تطرأ بأذهان الناس جميعًا في وقت ما، عن طبيعة الحياة ومعناها وقيمتها. وهكذا فإن موضوع الفلسفة هو طبيعة الوجود، وطبيعة التجربة، وأخيرًا، العلاقة التي تربط بين الإنسان وذهنه وبين بقية الكون. فالسعي الفلسفي هو في أساسه سعي وراء معرفة شاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها.
(٥) مشكلات الفلسفة
سرعان ما يتضح لنا، عندما نخوض ميدان الفلسفة، أن دراسة هذا الموضوع تقتضي قبل كل شيء الإلمام بمشكلات معينة. وسرعان ما ندرك أن الفلسفة تدور حول هذه المشكلات الرئيسية، ثم نكتشف بمضي الوقت أن هذه المشكلات وحلولها المتعددة هي ذاتها الفلسفة. والواقع أن تاريخ هذا الميدان هو إلى حدٍّ بعيد سجل للإجابات المختلفة التي وضعت لنفس المجموعة من الأسئلة التي تتكرر دائمًا. ولقد تعددت هذه الإجابات بقدر ما تعددت الأذهان التي وضعتها، وبلغت من التباين حدًّا يصعب معه أحيانًا الاعتقاد بأن المقصود منها هو أن تكون إجابات لنفس المجموعة من المشكلات. ومع ذلك فهناك من وراء هذا كله لبٌّ عميق من المشكلات الدائمة التي ناضلت حولها أجيال متعاقبة من المفكرين. فالمجتمعات تتغير، والمدنيات تنشأ وتنهار، ولكن كل عصر وكل مجتمع تقريبًا، يخلف وراءه من الآثار ما يكفي لإثبات أنه قد صارع بدوره مع المشكلات القديمة جدًّا، والباقية على الدوام، للفلسفة. وسوف نعالج معظم هذه المشكلات الكبرى بشيء من التفصيل في الفصول القادمة، ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقدم وصفًا موجزًا لبعضها، ما دامت هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها تكوين فكرة عن نطاق الفلسفة وأهدافها.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن الكون (بقدر ما كان معروفًا في ذلك الحين) لم يُخلق إلا ليكون تابعًا لكوكبنا، الذي هو بدوره موجود بوصفه مسرحًا تُمثَّل عليه دراما الخلاص الكبرى. وبطبيعة الحال كان لهذه النظرية الكونية المتمركزة حول الأرض، تأثير مباشر في تلك النظرة إلى الأشياء، المتمركزة حول الإنسان، وقد اتضح ذلك عندما تقدم كوبرنيق لأول مرة بنظامه الفلكي معارضًا به هذه النظرة القديمة. فقد كان الحجة الأخلاقية الكبرى ضد النظرة الجديدة «المهرطقة» هو أنها حطت من قدر الإنسان لأنها أزاحته من مكانته المركزية في الكون، بحيث لم يعد يبدو هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكونية الكبرى. وبينما أيُّ رأيٍ كهذا في علاقة الإنسان بالكون يبدو في نظر العلم الحديث ممتنعًا وذاتيًّا مفرطًا، فما زالت هناك من الاختلافات في الرأي حول التحديد الدقيق لطبيعة هذه العلاقة ما يكفي لشغل أوقات الفلاسفة في عمل لا يتوقف.
(٦) مشكلات الدين
ونستطيع أن نتوقع أن تكون طريقة معالجة الفلسفة لهذه المشكلة مختلفة اختلافًا كبيرًا عن طريقة معالجة الدين لها؛ ذلك لأن الميتافيزيقي، على الأقل لن ينظر على الأرجح إلى الخلود على أنه «مصادرة ضرورية» للحياة الأخلاقية، بل إنه سيسترشد على الأرجح بالأدلة العلمية في بحثه عن جواب لهذا السؤال الهائل. وهو يلح عادةً على استطلاع الإمكانيات الفعلية لبقاء الشخص بعد الموت استطلاعًا كاملًا، ويطالب بمناقشة المسألة بأسرها دون مسلَّمات قبْلية حول «ضرورة» الخلود أو علاقته المفترضة بالأخلاق. وحتى لو كان الفيلسوف يعتقد أن من الممكن إثبات البقاء بعد الموت على أسس عقلية، أو أن نظرته إلى العالم تجعل منه على الأقل إمكانًا مثيرًا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسر أي وجود كهذا على أسس تختلف عن الأسس التقليدية في التفكير الديني؛ ذلك لأن العلاقة بين الحياة الأرضية وبين البقاء بعد الموت تتمركز عادةً، بالنسبة إلى رجل اللاهوت، حول نقاط معينة كالأخلاق، والعدالة الإلهية، والقصاص وما إلى ذلك. ففي جميع الأديان تقريبًا، يرتكز الخلود على الافتراض القائل إنه حالة ينبغي «اكتسابها»، وهذا يؤدي إلى الربط بينه وبين بقية تجربتنا على أسس أخلاقية في المحل الأول. أما الفيلسوف فيهتم، على الأرجح، بالعلاقات بين هذا البقاء وبين تجربتنا الكاملة — وضمنها قراراتنا ومعاييرنا الأخلاقية بالطبع — ولكن ضمنها أيضًا عناصر كثيرة غير هذه. فالفلسفة إذ تنظر إلى الكون نظرة شاملة لكل شيء، لا تقتصر على النظر إلى الحياة من زاوية «الخير» و«الشر» و«الخطيئة» و«الخلاص»، ومن ثم فهي تنظر إلى مسألة الخلود بدورها من زاوية واسعة، فتحاول الربط بينها وبين طابع الكون في مجموعه، بدلًا من طابع الإنسان أو الخلاص الإنساني.
ومع ذلك فإن أي شخص يستطيع أن يدرك، بعد أن يمضي في مدرج الفلسفة أيامًا غير كثيرة، أن مشكلة الله ليست فقط واحدة من أهم المشكلات التي تعالجها الفلسفة، بل هي أيضًا من أطرف المشكلات وأكثرها إثارة للفكر. ومن المألوف أن يتبين الطلاب أن الخشوع الذي ضاع من تصور الألوهية قد عُوِّض بمزيد من الاهتمام والإثارة العقلية. ولو كان من حسن حظهم أن يصلوا إلى هذا الكشف، لأصبحوا إلى هذا الحد فلاسفة.
(٧) مشكلة حرية الإنسان
هناك مشكلة ثالثة تقترن بمشكلتَي الله والخلود، هي مشكلة حرية الإرادة. ولقد كان من أهم التغيرات العقلية التي أسفر عنها توسيع نطاق وجهة النظر العلمية، تضاؤل مجالات تجربتنا التي لا تسودها الحتمية الدقيقة. فقد كان الناس في الأصل ينظرون إلى الطبيعة كلها (والطبيعة البشرية بالطبع) على أنها خارجة أساسًا عن القانون. فالذهن البدائي كان يرى أنه إذا تدحرجت صخرة على جانب تل، فذلك لأن للصخرة إرادة خاصة بها، يمكن أن تمارس باختيار. أي إن الذهن البدائي كان ينقل حرية الاختيار والحركة التي يستشعرها الإنسان في نفسه بوضوح، إلى كل الأشياء والمخلوقات. فلكلٍّ منها إرادة مستقلة، يمارسها بحرية. على أن هذه النظرية الساذجة قد استُبعدت، في معظم أرجاء العالم، بعد أن عرفنا أن الأشياء المادية العادية تخضع لقوانين آلية، على الرغم من أننا لسنا موقنين بعدُ بماهية هذه القوانين أو طريقة سيرها.
والحق أن نمو العلم قد أحدث تغييرًا عميقًا في طريقة تفكيرنا، فقد تمكَّن جاليليو ورفاقه في العمل من صياغة هذه المعرفة المبسطة للواقع الآلي في صورة قوانين لا يتطرق إليها الشك. وفضلًا عن ذلك، فقد تبين أن هذه القوانين لا تقبل أي استثناء، وتنطوي على تعاقب دقيق للعلة والمعلول. ومنذ ذلك الحين، أصبح القانون والنظام العلمي يبسط سيطرته على عملية طبيعية بعد الأخرى. وامتدت حدود العالم الخاضع للعلم، من مجال الأجسام المادية، إلى عالم الحياة الحيوانية، ولم يعد أحد يسلم مقدمًا بأن وجود القدرة على الفعل الحركي يبطل المبدأ الأساسي القائل إن كل تغير ينتج عن تغيرات سابقة من نوع ما — أي إن كل حادث يتحدد بسبب، ويؤدي إلى نتيجة مناظرة له.
ولكن على الرغم من الزحف المتصل للقانون العلمي، فقد كان هناك مجال عظيم الأهمية، هو مجال الحياة البشرية، يعد حتى عهد قريب بمنأى عن أي تطبيق كامل لمبدأ الحتمية هذا فبينما الناس قد تعلَّموا منذ عهد بعيد أن أجسامهم تخضع لقوانين آلية كثيرة تؤثر في الأشياء غير الحية (كالجاذبية مثلًا) فإنهم كانوا يتأثرون دائمًا بذلك الشعور الذي لا يمكن إنكاره، وأعني به الشعور بأننا أحرار في مجال الاختيار والإرادة. هذا الشعور بالحرية يبلغ من الأهمية في التجربة البشرية حدًّا يجعل معظم الناس يسلمون دون جدال بأنه إذا كانت أفعالهم خاضعة للعوامل الفيزيائية، فإن إرادتهم تستطيع الاختيار على نحو يستقل عن أية سوابق. والواقع أن هذا الشعور يبلغ من القوة، ويكاد يبلغ من الشمول، حدًّا يجعل من العسير على أي شخص ليس لديه تكوين علمي أو فلسفي متعمق، أن يعترف باحتمال أن يكون فعله واختياره معًا متحددَين تمامًا بحوادث سابقة (هي في العادة فعل واختيار سابقان)، شأنها في ذلك شأن أي حادث آخر في الطبيعة.
على أن أيًّا من جانبَي النزاع الحاد الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالًا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد. ولو حدث ذلك لكان هذا يومًا سعيدًا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية يستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب بقدر ما أثارت هذه.
(٨) الميدان الأخلاقي ومشكلاته
والمسألة الرئيسية التالية التي يتعين على الفيلسوف المتخصص أن يعالجها هي أقرب الألغاز الفلسفية إلى الطابع العملي. ففي وسع المرء أن يستبعد المشكلات التي عرضناها حتى الآن، على أساس أنها ليست بذات أهمية عملية ملحة، مهما تكن حقيقتها ودلالتها من حيث هي مشكلات عقلية، ولكن ها هي ذي مشكلة تعد أكثر المشكلات الإنسانية الكبرى اتصالًا بالإنسان، وأعمقها تأصلًا فيه، وربما أشدها إلحاحًا عليه، وأعني بها: ما الحياة الخيرة؟ أما أولئك الذين ينفرون من أي سؤال يتضمن لفظ «الخير» خشية أن يؤدي إلى إقحامهم في جدل حول الأخلاق، فمن الممكن أن نعيد صياغة السؤال لهم دون أن يفقد شيئًا من دلالته، بحيث يصبح: ما أهم شيء في الحياة؟ أو (إذا شئت أن نستخدم صيغة يشعر مؤلف الكتاب نحوها بميل شخصي قوي): ما أكثر شيء يجعل الحياة جدية بأن نحياها؟
من الواضح أن الأخلاق هي أقل فروع الفلسفة تعرضًا للاتهام بالبعد عن الميدان العملي. ذلك لأنه أيًّا ما كان رأينا في أهمية الأسئلة من أمثال «من أين نأتي؟» أو «إلى أين نذهب؟» فإن السؤال عما ينبغي أن نفعله خلال حياتنا هو سؤال عملي تمامًا. فمسألة ما يتعين علينا أن نفعله بأيامنا وما ينبغي أن نحاول صنعه بحياتنا، هي في نظر الناس جميعًا أشمل الموضوعات العملية وأعظمها أهمية. قد يكون المثقفون وحدهم هم الذين يرون جدوى في البحث النظري حول طبيعة الحقيقة النهائية، ولكن الناس جميعًا، حتى أقلهم حظًّا من الثقافة، يجدون أنفسهم أحيانًا منغمسين في مجادلات عنيفة حول طبيعة الحياة الخيرة، وما إذا كان من واجبهم أن يفعلوا هذا أو ذاك. وإذا كنا موقنين بأن التفلسف أمر لا مفر منه، فإن الأمر الأكثر من ذلك يقينًا هو أنه ليس ثمة مهرب من ضرورة اتخاذ قرارات أخلاقية على الدوام. وفي هذا المجال يكون الدور الأكبر للفيلسوف هو أن يجعل هذه القرارات عاقلة ومنطقية ومرضية بقدر الإمكان. وتشكل محاولة جعل هذه القرارات على هذا النحو موضوع «علم الأخلاق».
وهناك مشكلات أخرى عديدة تنتمي إلى أسرة الفلسفة الكبيرة، بعضها له من الأهمية ما يستحق معه أن نُفرد له فصلًا مستقلًّا في الصفحات التي ستأتي فيما بعد. فسوف تقتضي مشكلة الحقيقة والمشكلات المعقدة المتعلقة بعلم الجمال اهتمامًا خاصًّا، ما دامت تنطوي على مشكلات تتعلق بالفلسفة ككل. ومع ذلك فالأفضل أن نرجئ أية إشارة إلى هذه المشكلات حتى نكون متأهبين تمامًا لبحث ما تنطوي عليه من صعوبات؛ إذ إن أي تقديم موجز لهذه المشكلات قد يبعث في القارئ مزيدًا من الحيرة، بدلًا من أن يساعده على فهمها.
(٩) هدف الفلسفة
لا بد أن يكون قد اتضح لنا الآن أن المهمة التي يأخذها الفيلسوف على عاتقه ليست مهمة هينة أو هدفًا متواضعًا. فالفيلسوف — كما أحسن أفلاطون التعبير عن مهمته — هو من يشاهد كل زمان وكل وجود. وهو إذ يتخذ من المعرفة كلها ميدانًا له، ومن التجربة بأسرها مادة خامًا لبحثه، يهدف إلى وضع مركب لا يخرج عنه أي وجه للوجود، أو أي جزء من الفكر، أو أية ذرة من الواقع. وعلى ذلك فكل شيء في الكون داخل في نطاق التجربة البشرية، يدخل أيضًا في نطاق الفلسفة. وكل ما يمر بنا، أو يؤثر فينا أو يترك أي أثر في وعينا، يهم الفيلسوف. وهو لا يستطيع أن يقبل أي مثلٍ أعلى أقل من تكوين صورة شاملة تامة التوحد للواقع، وهو يقصد بالواقع عادةً مجموع التجربة كلها — من ماضية وحاضرة ومستقبلة، وفعلية وممكنة. فكل شيء، في كل مكان، وحيثما حدث، هو وقود لآلة الفيلسوف الذهنية.
أما مسألة تحديد المدى الذي يستطيع الذهن البشري أن يذهب إليه من أجل بلوغ مثل هذا المثل الأعلى الهائل، فلا بد لبحثنا من الانتظار حتى نعالجها في الفصول القادمة. أما الآن فحسبنا أن نذكر أن لدى الفيلسوف شعورًا واضحًا كل الوضوح بأن مثل هذا المثل الأعلى لم يتحقق حتى الآن. وفضلًا عن ذلك، فقد يكون من الأفضل الاعتراف صراحة بأن هناك مفكرين محدثين كثيرين يؤمنون باستحالة بلوغ هذا الهدف. فهناك جزء كبير من النشاط الفلسفي المعاصر يتركز حول السؤال: ما هي قدرات الذهن، وما هي بالضبط حدود المعرفة البشرية؟ ولكن على الرغم من هذه الشكوك الحديثة في قدرة الذهن البشري على بلوغ ذلك الهدف الذي كان الفيلسوف يضعه نصب عينيه في العصور السالفة، فإن هذا الهدف ما زال مثلًا أعلى. ومن المؤكد أن الرغبة في معرفة أشمل وفهم أوسع، هي بالفعل الدافع الأساسي لوجود كل فيلسوف أصيل.
وهذا بعينه هو ما يفعله الفيلسوف بدوره. فإذا كانت الفلسفة، كما يعتقد الكثيرون، تمثل الحد الأقصى من النشاط العقلي، فمن الواجب أن نستنتج أن الحد الأدنى الذي لا مفر منه، وكذلك الحد الأقصى للفكر البشري، يتعلقان معًا بمهمة واحدة: هي كشف النظام والمعنى في تجربتنا التي تنساب من لحظة إلى أخرى. أما الفارق الأساسي بين هذين المستويين العقليين فقد أشرنا إليه من قبل. فالفيلسوف يزاول عن وعي نشاطًا يشغل وقته بأكمله، على حين أن معظم الأذهان تزاول عن غير وعي نشاطًا متقطعًا. غير أنهما معًا يسيران في طريق واحد. ومن الطبيعي أن يقطع المسافر المتفرغ للسفر شوطًا أبعد، ويرى خلال الطريق أمورًا أكثر بكثير، ولكن لا مفر للاثنين معًا من أن يكونا رفيقَي طريق. وسواء شئنا أم لم نشأ، فلا بد لنا جميعًا، بوصفنا بشرًا، من أن نسير على نفس الدرب. أما إلى أي مدى نذهب، وما مقدار ما نهتدي إليه أثناء سيرنا، فهذا أمر يتوقف على ذكائنا، ومزاجنا، وتعليمنا، ومع ذلك، فليس لنا مفرٌّ من القيام برحلة ما.
إننا لن نحاول في الصفحات الآتية أن نفرض على الطالب أية مجموعة من الإجابات على هذه المشكلات الكبرى للعالم الفلسفي، بل سنحاول طوال الوقت أن نقدم أوفى موجز ممكن للإجابات الرئيسية التي صاغتها المدارس المتعددة وأقطابها الأفراد، حتى نعين القارئ على تنظيم آرائه وتجاربه الخاصة في كلٍّ أكثر إحكامًا وإرضاء. ونحن لا نستطيع أن نعد القارئ بأنه سيجد في الفصول التالية إجابات على كل الأسئلة النهائية، ولكن أغلب الظن أن الطالب المفكر سيجد على الأقل أن ضوءًا جديدًا قد أُلقي على هذه المشكلات العسيرة. والأهم من ذلك هو أن من المحتمل أن يجد هنا مادة خامًا تسهم بدور هام في تمكينه من صياغة وجهة نظر فلسفية خاصة به.