الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
درسنا في الفصل السابق ثلاثة أنواع من الواحدية، ووجدنا أن الأنواع الثلاثة جميعًا تواجه صعوبات — قد يكون بعضها صعوبات تقضي على المذهب بأسره. ولقد كان إخفاق الواحدية — الحقيقية أو المزعومة — يؤدي إلى القول بنوع من الثنائية. وأهم ما تقول به الثنائية. بإيجاز، هو أن الواقع يتألف من كيانين أو جوهرين أو مبدأين نهائيين لا يردان إلى غيرهما. ويختلف المفكرون في طريقة تصورهم للتقابل بين هذين العنصرين النهائيين، وإن كانوا في معظم الأحيان يسمونهما «بالذهن» و«المادة» أو «الروح» و«المادة»، وفيما يتعلق بالطبيعة البشرية، يؤكد المذهب الثنائي التضاد بين «الجسم» و«النفس» أو «البدن» و«الروح». وقد يتحدث الفيلسوف الثنائي أحيانًا عن «وجود مادي» في مقابل «الوجود الذهني»، فأفلاطون مثلًا قد وضع تقابلًا بين العالم المحسوس (ويعني به العالم المدرك حسيًّا) وبين العالم المعقول (أي الذهني أو التصوري). أما الثنائيون اليوم فيفضلون الكلام عن العالم المادي في مقابل العالم الروحي. ولكن أيًّا كانت طبيعة هذا التقابل، وسواء أكانت تعبر عنه أسماء أم صفات، فإن وجهة النظر العامة تظل واحدة؛ فهناك نوعان من الوجود، ينفصل كلٌّ منهما تمامًا عن الآخر. والواقع أن لفظ «الثنائية» يشرح نفسه بنفسه، على شرط أن ننظر إليه في مفهومه الميتافيزيقي على أنه يدل على انقسام أساسي في داخل الوجود.
ومن الضروري بالنسبة إلى أي مذهب ثنائي أصيل أن يكون المبدآن النهائيان اللذان يتحدث عنهما غير قابلين للرد؛ أعني ألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، وألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما أو كليهما إلى مبدأ ثالث له الأولوية عليهما معًا. وبعبارة أخرى، فإن الثنائية الأصلية لا تنظر إلى مبدأيهما الأخيرين — أيًّا كان اسمهما — على أنهما مجرد مظهرين مختلفين لشيء أهم منهما. وفضلًا عن ذلك فإن الثنائية تعتقد أن هذا الانقسام في داخل الوجود دائم، لا مجرد حالة عارضة تزول بمضي الوقت بفضل ازدياد اصطباغ الواقع بالصبغة الروحية أو المادية. وهكذا يفترض أن الانقسام كامن في طبيعة الوجود ذاته — وليس مجرد وجه سطحي للأشياء.
وتفترض الثنائية عادةً أن عالمَي الوجود هذين مستقلان تمامًا، بحيث تكون لكلٍّ منهما قوانينه الخاصة وعملياته الخاصة. وفضلًا عن ذلك فإنهما يعدان عادةً متقابلين. ويتمثل ذلك بوضوح في تلك الثنائية الكلاسيكية التي عرفها الكثيرون منا طوال حياتهم عن طريق المسيحية، وهي عقيدة ثنائية في آرائها التي تنتمي إلى مجال الميتافيزيقا والأخلاق وعلم النفس. ولقد كان هناك، في العهود القديمة والوسطى المسيحية بوجه خاص، اتجاه إلى النظر إلى الحياة البشرية على أنها حرب لا تنقطع بين «البدن» و«الروح»، وكان المفروض أن نتيجة هذه الحرب التي تدوم طوال الحياة هي التي تحدد مصير النفس الفردية بعد الموت في الجنة أو النار. فإذا تركنا «البدن» ينتصر في هذه الحرب، فستكون النار مقرًّا أبديًّا لنا، أما إذا كسبت «الروح» الصراع، كان مصيرنا إلى الجنة. وكثيرًا ما كان المسيحيون الأوائل ينقلون الحرب إلى منطقة الجسم ذاتها، بأن يأبوا عليه الغذاء والنوم اللازم، أو حتى الكساء الكافي لتدفئة الجسم. وعلى هذا النحو تضخم الصراع بين الجسم والنفس واتخذ طابعًا دراميًّا. غير أن هذه الأساليب الزاهدة ليست إلا مظهرًا مبالغًا فيه للتقابل الثنائي بين مستوى الواقع النهائي، وهو التقابل الذي تفترضه المسيحية من حيث المبدأ.
(١) الثنائية في المجال الأخلاقي
على أن المسيحية لا تحتكر وحدها هذا النوع من الثنائية، كما يتضح من هذه الحقيقة، وهي أن هناك كثيرًا من الفلسفات الدينية الشرقية كانت تبدي اهتمامًا متساويًا، وربما اهتمامًا أعظم، بوجود ثنائية أساسية في مجال الأخلاق. وفضلًا عن ذلك فإن الثنائية الأخلاقية مذهب يعتنقه كثير من الغربيين الذين يعتقدون أنهم تركوا المسيحية ومؤثراتها خلف ظهورهم، مما يوحي بأن هذا رأي يستطيع الوقوف على قدميه دون ارتكاز على اللاهوت.
وتفترض الثنائية الأخلاقية عادةً قوتين متعارضتين في الكون، تسميان في العادة باسم «الخير» و«الشر» — أو «الصواب» و«الخطأ»، بتعبير أقل دقة. وهكذا فإن التجربة البشرية تنطوي على صراع، أو على الأقل اختيار بين هاتين القوتين المتعارضتين. إنه صراع يشترك فيه كل فرد بالضرورة، بأن يختار الجانب الذي سيحارب من أجله.
ولقد ظهرت طوال التاريخ نظرات إلى العالم مبنية على الثنائية الأخلاقية، وكان معظم هذه المذاهب يقول إن العمليات الكونية؛ أي نفس عمليات الطبيعة ذاتها، إنما هي مظاهر لصراع جبار بين قوى الشر وقوى الخير. غير أن هذه الثنائيات الأخلاقية قد أصبحت في أيامنا هذه أقل اهتمامًا بصياغة نظرة شاملة إلى العالم. وإنما هي تكتفي بوضع مذهب أخلاقي شامل. وكثيرًا ما نسمع اليوم عن مفكر يوصف بأنه ثنائي أخلاقي لأنه يدعو إلى (أو يمارس) حياة مبنية على أحكام أخلاقية واضحة المعالم — وإن تكن الألفاظ في هذه الحالة غير مستخدمة بدقة كاملة، بل إن من الشائع اليوم إطلاق اسم الثنائي الأخلاقي على ذلك الذي يصدر تقديراته وأحكامه الكبرى من خلال قيمتَي الصواب والخطأ، ولا سيما إذا كان هذا الشخص صارمًا لا يلين في أحكامه، وإذا كان يعدها أحكامًا مطلقة. وعلى أساس هذا المعنى الفضفاض للَّفظ — والذي هو مع ذلك معنًى شائع — فمن الممكن أن يندرج ملايين الأمريكيين، وربما أغلبهم، ضمن فئة الثنائيين الأخلاقيين. ومن المؤكد أن أية شيعة مسيحية تهتم بالخطيئة والتكفير، تنطوي على ثنائية من هذا النوع، ذلك لأن من العسير بناء عقيدة تؤكد أهمية الخطيئة وعواقبها، دون أن يكون هناك تميز قاطع يفرق بين الأفعال الآثمة أو الخاطئة والأفعال التي ليست كذلك.
(٢) الثنائية الكلاسيكية: ديكارت
كان أدق المذاهب الميتافيزيقية الثنائية التي ظهرت في الفلسفة، ذلك المذهب الذي عبر عنه المفكر الفرنسي ديكارت تعبيرًا كلاسيكيًّا في القرن السابع عشر. فالمبدآن النهائيان في المصطلح الديكارتي — وهما «الذهن» و«المادة» — يوصفان على أساس أهم صفاتهما وأكثرها تفردًا؛ ولذا يسميهما «بالفكر» «والامتداد» — أو بتعبير أدق، «الجوهر المفكر» «والجوهر الممتد» (أي الذي يشغل مكانًا). ولقد كان انقسام الواقع، في نظر ديكارت وأتباعه، مطلقًا: فكلٌّ من الجسم والذهن قائم بذاته، وخصائص كلٍّ منهما أو صفاته مختلفة كل الاختلاف. بل إن كلًّا منهما يستبعد الآخر: فأي شيء يكون صفة للذهن لا يمكن أن يكون صفة للمادة، والعكس بالعكس.
ومن المؤكد أن ديكارت لم يكن أول من اخترع الثنائية، غير أن صياغته للموقف الثنائي لها أهميتها ودلالتها؛ لأنها استخدمت الحتمية الآلية الدقيقة في التعبير عن كل الحوادث التي تقع في العالم المادي، على حين أنها رفضت الحتمية في المجال الذهني الروحي. وهكذا لم يفترض ديكارت نوعين من الوجود فحسب، بل إنه افترض أيضًا نوعين من العِلِّية.
العالم المادي حتمي، والعالم الروحي لا حتمي: كان ديكارت يرى، فيما يتعلق بالعالم المادي، أنه على حين أن الله هو العلة الأولى أو المحرك الأول الذي بدأ كل حركة، ومنذ هذه الدفعة الأولى، كانت كل الحركات آلية بحتة؛ وبالتالي فهي خاضعة للعلية الحتمية. وعلى ذلك فإن العالم الفيزيائي ليس حقيقيًّا ومستقلًّا عن الناس فحسب (وهي فكرة يظهر بوضوح مدى اختلاف ديكارت فيها عن المثاليين من أمثال باركلي)، بل إن سلوكه يخضع أيضًا لتلك القوى الآلية التي طالما أكدها الآليون والحتميون. ولقد كان ديكارت يرى أن مهمة العلم هي كشف تلك القوانين التي تسري على العالم المادي. ويبدو أنه كان ينظر إلى هذه القوانين على أنها مطلقة وحتمية.
ولكن ديكارت عندما انتقل إلى بحث عالم الوجود الذهني أو الروحي، ولا سيما في علاقته بمظهره الرئيسي، وهو النفس البشرية، عكس موقفه تمامًا. فقد دافع في هذا المجال عن حرية الإرادة، بل إنه ذهب إلى حد القول بأن في وسع الإنسان أن يختار بحرية بين شيئين، بحيث يقع اختياره على ذلك الذي تكون رغبة عقله فيه أقل. (وهذا رأي مخالف لموقف إحدى المدارس القائلة بحرية الإرادة، وهي المدرسة التي تذهب إلى أننا نستطيع أن نختار ما نريد، غير أن هذا الاختيار يقع دائمًا على الطرف الذي يكون مرغوبًا فيه أكثر من الآخر — وواضح أن هذا الرأي يقيد نطاق حرية الاختيار إلى حدٍّ بعيد). وعلى ذلك فإن ديكارت يرى أنه، مهما يكن مدى خضوع جسم الإنسان، بوصفه جزءًا من العالم المادي للمؤثرات الحتمية، فإن ذهنه أو روحه يظل بلا تأثر بكل اختيار سابق أو بكل قوى خارجية.
ولقد كان الفاصل الذي وضعه ديكارت بين العالمين المادي والذهني فاصلًا قاطعًا، وكانت حتميته في الأول تامة، مثلما كانت لا حتميته في الثاني كاملة. ونتيجة لهذه الثنائية، اضطر إلى القول ببعض النظريات الغريبة؛ فكان يرى مثلًا أن الإنسان وحده، من بين الكائنات الحية، هو وحده الذي يملك حرية الإرادة. أما الحيوانات فكان يعدها أجسامًا آلية منعدمة الحرية، بل منعدمة الإحساس أيضًا؛ فقد كان يعتقد أن الكلب مثلًا ليس إلا جهازًا آليًّا يسلك على نحو مفتقر إلى التفكير وإلى الإحساس، شأنه شأن الآلة. ولم يكن نباح الكلب أو هزه لذيله، في نظره، سوى أفعال منعكسة، لا يصاحبها انفعال. والإنسان وحده هو الذي يتصف بالوعي وحرية السلوك. أي إن الإنسان هو في نظره وحدة أو نقطة التقاء القوى المادية والروحية. والكائنات البشرية وحدها، ومن بين كل الأشياء الموجودة في الكون، هي التي تشارك في كلٍّ من «الجوهر الممتد» و«الجوهر المفكر»؛ ولذا كان البشر وحدهم هم الذين يمكن أن تكون لديهم إرادة حرة.
ولو خضنا مشكلة التأثير المتبادل من زاوية الوجه المادي للوجود، فعلينا أن نتساءل: لماذا يطيع جسمنا رغباتنا عادة؟ لنفرض مع الثنائي أن إرادتنا وأذهاننا حرة، على الرغم من أن أذهاننا مقيدة بالحتمية الآلية. ففي أية نقطة، إذن، من موقف العلة والمعلول (أعني من الذي أريد فيه تحريك رجلي فتتحرك فعلًا) تصبح الفكرة «اللامتحددة» (أي التي لا سبب لها) سببًا «محددًا» للحركة المادية أو متحكمًا فيها؟ وإذا أبى الجسم، نتيجة للتعب أو المرض، أن يطيع ذهني، فكيف نفسر هذا الإخفاق؟ وعند أية نقطة في السلسلة العِلِّية لم يعد الجسم يطيع علة متحكمة، واكتسب بدلًا من ذلك إرادة خاصة به؟ إن الإجابات التي يرد بها المذهب الثنائي على هذه المشكلات عادةً هي إجابات يائسة من نوع إجابات المذهب الفرصي، وذلك في نظر خصوم الثنائية على الأقل.
والواقع أن معظم الفلاسفة يرون أن أظهر نقاط الضعف في المذهب الثنائي هو إخفاقه في الربط بين حقيقتيه الأساسيتين في أي تفسير مقنع. وإنا لنجد هؤلاء النقاد على استعداد للاعتراف بوجود مبدأين نهائيين مختلفين في الكون، بشرط أن يتمكن أولئك المفكرون الذين يفترضون هذا الانقسام الأساسي، من تقديم صورة مقنعة للطريقة التي يرتبط بها هذان العنصران الثنائيان في داخل الواقع معًا. ومع ذلك فقد ظلت هذه مهمة مستحيلة بالنسبة إلى الثنائيين طوال تاريخ الفلسفة الغربية، ويبدو أن الإجابات التي تُقدَّم لا ترضي إلا الثنائيين الآخرين وحدهم على الأقل.
(٣) الثنائية في الفنون
كانت الثنائية على الدوام فلسفة ولها جاذبية خاصة بالنسبة إلى الفنانين والشعراء ورجال الأدب عامة. وليس من العسير أن نكتشف سبب هذه الجاذبية؛ ذلك لأن الثنائية كانت، من بين جميع نظريات العالم التي وجدت لها أنصارًا كثيرين في العالم الغربي، أكثرها تلونًا وتنوعًا ودرامية. ومن ثم فقد كان من السهل إخضاعها للغايات الفنية، بحيث إن قدرًا كبيرًا من الفن والأدب الغربيين يعبر عن نظام ثنائي للعالم (أو يتضمنه على الأقل).
وكما نعلم جميعًا، فإن الصراع هو محور الدراما، ولا يمكننا أن نجد موقفًا ذا طابع درامي أوضح من ذلك تتقابل فيه قوى جبارة وجهًا لوجه. ولما كانت ماهية النظرة الثنائية إلى العالم تفترض هذا الصراع الجبار بعينه، فإن القيم الدرامية في هذه الفلسفة واضحة. ومما يضاعف من تأثير الصراع الدرامي في هذه الحالة، أن القوى المتعارضة التي ينطوي عليها هذا الصراع هي القوى النهائية في الكون. ومن المؤكد أن هذه الحرب ليست اشتباكًا محليًّا تافهًا، وليست حملة صيفية، وإنما هي الصراع الأساسي بين عالمين: العالم الروحي في مقابل العالم المادي، والعالم الأعلى في مقابل الأدنى. وفضلًا عن ذلك فإنها صراع يفترض أن كل إنسان مشتبك فيه، ما دامت الطبيعة البشرية هي البؤرة التي تتلاقى فيها هذه القوى المتعارضة. وهكذا يبدو أن الإنسان، بما يمثله من مزيج عجيب بين البدن والروح، يرتبط في وجوده الكامل ارتباطًا لا ينفصم بالصراع الأبدي بين عالمَي الوجود هذين.
وبهذه الطريقة الشاعرية ينقل إلينا «جريفيل» بعض النتائج التي تنطوي عليها الثنائية الأصلية. ومن المؤكد أن المأزق الأساسي الذي يضعه لم يُحَل بعد انقضاء ثلاثة قرون ونصف قرن على نشر قصيدته (١٦٠٩م). غير أن هناك فارقًا بارزًا بين جريفيل وبين معظم الفلاسفة الثنائيين، سواء منهم من كانوا في أيامه ومن يعيشون في عصرنا، فمن الواضح أنه لم يكن سعيدًا بفلسفته الثنائية. فقد كان يجدها مفروضة عليه، إن جاز هذا التعبير، ولكنه يحتج بقوة. غير أن معظم الثنائيين الصرحاء يبدون أكثر منه اطمئنانًا إلى هذه النظرة إلى العالم، بل إن الكثيرين منهم يبدون سعداء بها، ويجدون تفسير جريفيل ذا نزعة مرضية مبالغ فيها. وعلى الرغم من أنني لا أعتقد أن الكثيرين منهم لا يودون تغيير البيت الأول من قصيدته بحيث يصبح:
فإن من الواضح أن معظم الثنائيين يجدون الموقف الإنساني أقل إيلامًا مما وجده ذلك الشاعر الذي عاش في عصر إليزابيث.
وليس من الضروري، لكي يكون لدينا مذهب تعددي، أن تكون الكيانات النهائية الكثيرة منفصلة كيفيًّا. فالمذهب الذري الروحي، ومن ذلك النوع الذي قال به ليبنتس، والذي يكون فيه الوعي الإدراكي هو العنصر المشترك بين ذرات لا نهاية لها في العدد، يمكن أن يعد مذهبًا تعدديًّا كميًّا؛ إذ إن كل الكيانات متشابهة في طبيعتها، وإن تكن متميزة بعضها عن بعض، ولا نهائية في العدد. أما مذهب أنبادقليس، بما فيه من عناصر أربعة تكون باتحادها موضوعات تجربتنا التي لا حصر لها، فإنه يمثل مذهبًا تعدديًّا كميًّا وكيفيًّا في آن واحد. وهناك فيلسوف يوناني آخر، هو أنكساجوراس، كان يعتقد أن هناك من العناصر بقدر ما تستطيع حواسنا التمييز بينها، كالحمرة، والبرودة، والخشونة … إلخ. وباختصار فإن لفظ التعددية يتضمن القول بكثرة من الكيانات النهائية، التي قد تكون متعددة كيفًا وقد لا تكون.
ولقد بدأنا هذا الفصل بأن وصفنا الثنائية بأنها هي المذهب الذي يعبر عن رأي الموقف الطبيعي، والواحدية بأنها نوع من المثل الأعلى لدى الفيلسوف. فقد كان الفلاسفة في عمومهم عاشقين للوحدة أو الواحدية؛ ومن ثَم فإن الكثيرين منهم قد نظروا إلى أي شيء غير الواحدية على أنه إما أسلوب قصد منهم التيسير منهجيًّا (كما هي الحال عند ديكارت)، وأما أفضل موقف لأولئك الذين لا يمكنهم الوصول إلى الأفضل، وهو تحقيق نوع من الواحدية. وبطبيعة الحال لم يكن كل الثنائيين على استعداد لقبول هذا الموقف المتسلط للواحديين تجاه المذاهب الثنائية، بل إن أغلب الظن أن معظمهم كانوا على استعداد للاعتراف بأن الواحدية هدف مرغوب فيه عقليًّا إذا كان من الممكن تحقيقها. وهكذا يمكن النظر إلى الواحدية على أنها هي المعيار الأنطولوجي، وإلى كل من الثنائية والتعددية على أنها هي المعيار. ومن المؤكد أن التعددية كانت تعد في العادة انحرافًا عن هذا المعيار أكبر من انحراف الثنائية؛ إذ إن الواحديين والثنائيين مهما اختلفوا فيما يبنهم، كانوا يتمكنون دائمًا من تكوين جبهة واحدة ضد التعددية، بل إن كليهما قد أعلن في كثير من الأحيان شكه في إمكان النظر إلى التعددية على أنها موقف ميتافيزيقي مشروع. وقد رأى البعض أحيانًا أن التعددية تشكل خيانة للفلسفة، أو هي على الأقل تخلٍّ عن البحث الميتافيزيقي. فإذا كانت الثنائية هي أفضل موقف يلي الموقف الأصلي المفضل، فإن التعددية هي (في نظر كل خصومها) مذهب اليأس والاستسلام؛ ذلك لأنها تبدو لخصومها مذهبًا لا يبذل أي جهد لتحقيق التكامل في تجربتنا، أو للنفاذ من وراء المظهر التعددي المعترف به للأشياء، من أجل الاهتداء إلى الوحدة الكامنة فيها — أو على الأقل الثنائية الكامنة فيها. ولكن لتستمع إلى ما يقوله التعددي ذاته.
وهناك مفكر يوناني آخر ذكرناه من قبل، كان قريب العهد من أنبادقليس، هو أنكساجوراس. هذا المفكر كان يرى أن مثل هذا الرباع البسيط من العناصر لا يكفي لتفسير التنوع الهائل من الانطباعات الحسية. وهناك عبارة تصف عمل هذين الفيلسوفين بدقة، تقول إنه بينما أنبادقليس قد مزق العالم الواحدي الذي صوره المفكرون الأوائل، فإن أنكساجوراس قد سحقه. فقد افترض أنكساجوراس عددًا من الجواهر أو العناصر النهائية يماثل ما يوجد من كيفيات حسية، كالحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف والصلابة والليونة. وفضلًا عن ذلك، فقد نظر إلى هذه العناصر على أنها كلها موجودة في الأشياء جميعًا، ولكن بدرجات متفاوتة. فهي منتشرة في كل مكان، بحيث لا يكون هناك جزئ من المادية ذو طابع بسيط أو نقي. ومع ذلك فلكلٍّ ماهيته، أو صفته الغالبة التي تفيد في تمييزه. ومن هذه الصفة نستمد طبيعة المادة واسمها — كما يحدث مثلًا عندما نصف الثلج بأنه «أبيض»، مع أنه ليس في الواقع بياضًا خالصًا.
(٤) التعددية الحديثة
قدمنا من قبل عرضًا عامًّا للمذهبين التعدديين عند ليبنتس وباركلي؛ ولذا فلن يكون من الضروري تقديم مزيد من الوصف لهذين المذهبين. ومع ذلك ينبغي أن يكون مفهومًا أن كلًّا منهما كانت له أهمية عظمى في تاريخ الفكر التعددي. فقد كانت ليبنتس يمثل أعلى قمة بلغتها المدرسة التعددية في الفلسفة الحديثة قبل ظهور التعدديين في القرن العشرين. وبعد موت باركلي في أواسط القرن الثامن عشر، اضطرت التعددية إلى التواري عن الأنظار نتيجة لظهور ذلك التيار الواحدي الجارف الذي اشتهرت به المثالية الألمانية. أما إحياء التعددية من جديد في الآونة الأخيرة فيرجع الفضل الأكبر فيه إلى الفيلسوف البرجماتي الأمريكي المشهور، وليام جيمس.
والواقع أن تفكير جيمس يمثل التعددية الحديثة أصدق تمثيل، من حيث إن اهتمامه بالجوهر (أو الجواهر) الذي يكون الواقع، أقل من اهتمامه بتركيبه. فالتعددي المعاصر لا يسأل — على الأرجح — هذا السؤال: «ما مادة العالم أو موارده؟» وإنما هو يسأل: «كيف ينظم الوجود النهائي؟» ويعتبر أدق، فإن التعددين المحدثين يهتمون أساسًا بالعلاقات بين مختلف أجزاء تجربتنا، بدلًا من أن يبحثوا عما يفترض أنه كامن من وراء تلك التجربة.
غير أن هذه كلها أمور ذات طابع تجريدي ونظري مفرط؛ ولذا فلنرجع إلى مثالنا السابق عن الدرج والكتاب. فليس يكفي، بالنسبة إلى الفرداني، أن نعرف أن الكتاب على الدرج. فما هذه إلا بداية: ذلك لأنهما معًا في حجرة، وداخل مبنى، هو بدوره في موقع جغرافي معين. كما أنه على الأرض وفي داخل المجموعة الشمسية، التي هي في حجرة معينة داخل الكون في مجموعة، ويعتقد الفرداني أننا لا نستطيع تكوين معرفة أصيلة عن الكتاب والدرج إلا إذا أدركناهما في هذا السياق الكلي، فالأشياء لا يكون لها معنى ولا دلالة — بل لا يكون لها وجود في نظر بعض الفردانيين — إلا بوصفها أجزاء من هذا الكل العضوي. أما إذا تأملنا الكتاب في علاقته بالدرج فحسب، فإننا حتى لو وصلنا إلى معرفة كلية بجميع العلاقات الفعلية والممكنة بين الكتاب والدرج، فلن تكون لدينا إلا معرفة جزئية تمامًا.
ومن الواضح أن مثل هذه النظرية في المعرفة تؤدي بالضرورة إلى جعل كل العلاقات باطنة أو داخلية. فلما كان كل شيء جزءًا من كلٍّ عضوي، فإن كل العلاقات بين الأشياء ليست إلا علاقات بين أجزاء من هذا الكل. ولما كانت الأجزاء داخل الكل، فإن العلاقات بين هذه الأجزاء الداخلية هي أيضًا علاقات داخلية في داخل الكل العضوي.
وعلى الرغم من أننا قد استخلصنا المثال السابق من مجال العلاقات المكانية، فمن الواجب أن ندرك أن الفردانية تتجاوز في نظريتها في العلاقات نطاق العالم المكاني بكثير. وفضلًا عن ذلك فهي تشتمل على أكثر من مجرد العلاقات المكانية والزمانية (مثل «قبل» و«بعد» و«سابق» و«لاحق» إلخ)، مجتمعة. فكل أنواع العلاقات تخضع للنظرة الشاملة لأي مذهب فرداني كالمثالية المطلقة، ولكنها كلها تظل داخلية، ما دامت كلها أجزاء من «المطلق».
(٥) الواقعية الحديثة
تعد نظرية العلاقات الخارجية هذه من أهم الأسس التي تقوم عليها بعض من أهم المدارس الحديثة في نظرية المعرفة، وهي التي تصنف على أنها مختلفة من الواقعية. وعلى الرغم من أن الآراء المتعددة لهذه المدارس صعبة ومتخصصة إلى حدٍّ بعيد، فقد يساعد تقديم موجز مبسط لها على زيادة فهمنا للتعددية المعاصرة.
ويمكن القول بوجه عام إن الواقعية الحديثة ثورة على المثالية، الذاتية منها والموضوعية. وهي بوجه خاص ثورة على النظرية المثالية الرئيسية القائلة إن الذهن يقوم بدور أساسي في بعث موضوعات المعرفة إلى الوجود. وهكذا تعيد الواقعية تأكيد تلك الحقيقة التي لم يشك فيها الإنسان في موقفه الطبيعي أبدًا: وهي أن عالم الطبيعة أو الموضوعات الفيزيائية يوجد على نحو مستقل قل أن يمر بتجربتنا. ومع ذلك فإن الواقعية الحديثة أعمق من تلك الواقعية الساذجة التي يقول بها الموقف الطبيعي، ما دامت تعترف بأن الموضوعات تنتسب إلى الوعي، وإن كانت تنكر (على خلاف المثالية) أنها تعتمد على الوعي. وتعترف نظرية الاستقلال الواقعية هذه بأنه عندما تحدث المعرفة يكون هناك، كما هو واضح، عارف يتعامل مع موضوعات، ولكنها لا تعترف بأن هذه العلاقة المعرفية مسئولة عن طابع الموضوعات كما نعرفها. فكون الشيء معروفًا (أي كونه يصبح موضوعًا للتجربة) هو أمر يحدث لشيء موجود من قبل. وخصائص هذا الشيء الموجود من قبل هي التي تحدد ما يحدث عندما يعرف هذا الشيء. وهذا يؤدي إلى عكس وجهة النظر المثالية، التي ترى أن فعل المعرفة لا يؤثر فقط في طابع الموضوع، بل إنه مسئول إلى حد ما عن وجوده ذاته.
وفي مقابل هذا الموقف الواقعي التعددي، يرى صاحب المذهب الفرداني أنه ليس ثمة شيء يوجد بذاته، ولا واقعة تكون تامة في ذاتها. وفضلًا عن ذلك فإن أية عبارة لا تكون تامة الصحة إذا ما نُظر إليها في ذاتها؛ ذلك لأن كل واقعة تؤدي آخر الأمر إلى كل واقعة أخرى، بحيث تكون كل وقائع الكون، في النهاية، متضمنة في أية عبارة أو قضية واحدة. ولو عدنا بالذاكرة لحظة إلى تحليلنا لمشكلة «الحقيقة» في الفصل السابع، لاتضح لنا على الفور أن هذه النظرية الفردانية في العلاقات الداخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظرية التي تجعل الحقيقة ترابطًا. وقد عرفنا أن القضية تكون صحيحة في هذه النظرية إذا كانت تترابط أو تنسق مع بقية معرفتنا أو نسق اعتقاداتنا. كما رأينا أن الرياضيات تتيح لنا أفضل مثال لتطبيق نظرية الحقيقة هذه، ولاحظنا مدى تفضيل المثالي لنظرية الترابط هذه.
(٦) المذهب التعددي والحضارة الأمريكية
ليس من المستغرب أن نجد المذهب التعددي المعاصر يزدهر إلى أقصى حد في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ذلك لأن التعددية فلسفة تجعل من التغير وعدم القابلية للتنبؤ والمغامرة فضيلة. وبدلًا من أن يجد المفكرون في عناصر التجربة البشرية هذه شيئًا ينبغي استبعاده أو إخفاؤه تحت البساط الميتافيزيقي، فإنهم يجدونها أساسية في العالم الواقعي، بل يجدونها مثيرة فيما تتيحه من تحديات وفرص. والواقع أن صياغة المذاهب التعددية قد ارتبطت بالنمو السريع للحضارة الأمريكية خلال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة، وأنه لمن الصعب تصديق أن هذا الارتباط حدث «بمحض المصادفة». وحتى لو كان الأمريكيون قد بدأوا الآن يزدادون اهتمامًا بالأمان ومسايرة التيار السائد مما هم بالمغامرة والفرص التي تقتضي خوض مخاطر، كما يعتقد كثير من الملاحظين الاجتماعيين اليوم، فإنه يبدو من المؤكد أن التعددية ستظل تجتذب كثيرًا من الأمريكيين. فالمدينة الأمريكية بأسرها تعددية إلى حد لا يكاد يكون له نظير في غيرها من المدنيات.
ومن الأسباب التي ترجع إليها هذه الظاهرة، الحجم المادي المجرد للولايات المتحدة. كذلك فإن تنوع الأصول العنصرية والحضارات القديمة التي انصهرت في البوتقة الأمريكية كان من الأسباب التي شجعت على انتشار التعددية. وقد أسهم في ذلك أيضًا نظام الحكم الذي يفتقر نسبيًّا إلى التركيز؛ فهناك حكومة فدرالية، وحكومات للولايات ومجالس للمقاطعات والبلديات، كلها تتنافس على ولاء الأمريكيين وعلى أموال ضرائبهم. مما يزيد في تعدد الولاء وتعدد الضرائب الذي يجد الأمريكيون أنفسهم موزعين بينه. كذلك فإن أمريكا ما زالت تتصف بقدر كبير من الحركة الاجتماعية، وهذا يعني أن في استطاعة معظم الأمريكيين، في أي وقت يشاءون تقريبًا، أن ينتقلوا إلى سكنى أماكن جديدة والاشتغال بأعمال جديدة، وتكوين مجموعة جديدة من الأصدقاء. وهذا يشجع بالطبع على تغير الاهتمامات وتحول الولاء. وما زالت الفوارق الإقليمية بين الأمريكيين قوية التأثير إلى أبعد حد، على الرغم من أن أهميتها أصبحت أقل مما كانت عليه منذ جيل مضى. فمعايير إقليم معين تختلف عن معايير إقليم آخر. وبينما أن الأشخاص الذين عاشوا طيلة حياتهم في نفس الإقليم قد يرون أن معايير هذا الإقليم واتجاهاته هي المعايير الوحيدة الصحيحة، فإن هناك من التنقلات السكانية ما يكفي للحيلولة دون أن تصبح هذه المعايير مطلقة.
وأخيرًا، فإن المدنية الأمريكية، شأنها شأن مدنية أية أمة صناعية حديثة، تبلغ من التعقد والثراء حدًّا لا تستطيع معه تجربة أي شخص أن تستوعب إلا قدرًا ضئيلًا من هذا التعقد والثراء. فالتخصص المهني، بالإضافة إلى قصر الحياة البشرية وضيق نطاق الطاقة الإنسانية، يعني أن أعظم الأشخاص موهبة ونشاطًا ينبغي أن يقصروا جهودهم على جزء محدود من المجال الممكن. وهذا يعني بالضرورة أن الناس من مختلف المستويات الثقافية والمهنية والاجتماعية، أو من مختلف أجزاء البلاد، لا يتحدثون لغة واحدة إلا بمعنًى حرفي هو أنهم جميعًا يتكلمون الإنجليزية. غير أن ما يتحدثون عنه، أو ما يعنونه بالكلمات التي يقولونها ويسمعونها، قد يبلغ من الاختلاف حدًّا يجعل استخدام لغة مشتركة أمرًا لا يعني إلا القليل. ففي جميع أرجاء المجتمع الأمريكي، ابتداء من وزارات الحكومة الفدرالية فما دونها، يحدث في كثير جدًّا من الأحيان ألا تعلم اليد اليمنى ما تفعله اليد اليسرى. فلدى الأمريكيين تعددية في الحكومة، وتعددية في الطبقات الاجتماعية، وتعددية في المعايير الأخلاقية، وتعددية في التخصصات المهنية، وتعددية في الفنون (أي مدارس مختلفة في الرسم والموسيقى والدراما وغيرها)، وتعددية في الفلسفات — أو المدارس الفكرية، كما يسميها الأمريكيون عادةً. وهكذا تبدو التعددية الميتافيزيقية هي المذهب الذي يعد اعتناق الأمريكيين له أقرب إلى المنطق — وذلك بالنسبة إلى التعدديين أنفسهم على الأقل.
(٧) حكم نهائي على المذهب التعددي
ينبغي أن يترك لكل قارئ على حدة الحكم النهائي على المذهب التعددي من حيث هو موقف ميتافيزيقي، كما اعتدنا أن نفعل في هذا الكتاب الدراسي. ولو قارنا هذه النظرة إلى العالم بالواحدية أو الثنائية، لوجدنا أنها تقدم إلينا صورة للواقع تجعله مثيرًا، ديناميًّا، دائم التغير. فالكون في نظر التعددية يتصف أساسًا بالتغير، ولو وصفنا الكون بأنه أزلي لما كان معنى ذلك أنه سكوني، أو «مقفل على ذاته»، كما يقول مذهب الفردانية. بل إن من الممكن أن يكون التغير والتنوع أزليين كالنبات فليس الكون في حاجة إلى أن يكون كلًّا عضويًّا، متجمدًا على صورة «مطلق»، لكي يكون الواقع، بل إن التغير أهم في تجربتنا من الثبات، والأشياء التي لا حصر لها، والتي تتألف منها تجربتنا — أعني «الكثرة» — أهم بكثير مما يمكن أن يكون أي «واحد» متخيل.
وقد يعتقد القارئ، كما يفعل كثير من المفكرين، أن الرأي التعددي مهما كان مثيرًا، فإنه لا يرضينا عقليًّا. وقد يكون الانطباع الذي نكونه عن صورة الواقع كما يقدمها إلينا هذا المذهب هو أنها أكثر «تخلخلًا» وربما «اختلالا»، من أن تكون نظرة إلى الأشياء كما هي في أساسها، يمكن قبولها على نحو دائم. وقد نتفق مع أولئك الفلاسفة الذين يرون أن أية نظرة إلى العالم لا تستطيع أن تفرض على تجربتنا نظامًا ووحدة أكثر من تلك التي يفرضها عليها المذهب التعددي، ليست مذهبًا ميتافيزيقيًّا أصيلًا. وبالاختصار فإن النظرة التعددية تبدو لأذهان كثيرة «تركيبية» (بالمعنى الشائع لهذا اللفظ) أكثر منها «جامعة»، على النحو الذي يفترض أن تكون عليه المذاهب الفلسفية. وهكذا يقال، اعتراضًا عليها، إن الذهن البشري ينشد، ويستحق، شيئًا أفضل من هذه النظرة التكدسية إلى الأمور.
ولكن التعددي هو الذي له الكلمة الأخيرة. ولما كان التعددي عادة، في أيامنا هذه، من أنصار المذهب الطبيعي، فإن التعددي وصاحب المذهب الطبيعي سيشتركان في الرد. وهكذا يقولون إن من المعترف به أن أذهانًا كثيرة تنشد نظرة إلى الواقع أكثر تكاملًا من تلك التي تقدمها إلينا التعددية. وإذا كان كلُّ من جدَّ يستحق أن يجد، فإن هذه الأذهان تستحق حلًّا للمشكلة الأنطولوجية أفضل من أي حل يستطيع المذهب التعددي أن يأتي به. ولكن السعي والنشدان، أو حتى الاستحقاق، شيء، والوقائع الصلبة الغاشمة الفعلية شيء آخر. ذلك لأن من الممكن أن نتصور قطعًا أن يكون للكون نفس ذلك الطابع التكديسي الذي يصفه التعددي. وفي هذه الحالة، ماذا يمكن أن يفيدنا «السعي» أو «الاستحقاق» في الموضوع؟ ألن يؤديا، على الأرجح، إلى إعطائنا صورة مشوهة للواقع، تكون «مرضية» دون شك، ولكنها مع ذلك غير صحيحة؟ وفضلًا عن ذلك، فإن الكلام عن «استحقاق» نوع معين من الإجابة على مسعانا الميتافيزيقي إنما هو خيانة لروح الفلسفة ذاتها. ففي السعي وراء الحقيقة العامة، لا «يستحق» الذهن أن يجد إلا ما هو موجود بالفعل. وأي شيء غير ذلك لا يستحق اسم الحقيقة. وأي شيء غير ذلك لن يكون جديرًا بالفيلسوف ومسعاه.
(٨) تلخيص للميتافيزيقا: الواحدية
خير لنا أن نختم هذا العرض للمشكلة الميتافيزيقية بملخص لكل مدرسة تحدثنا عنها في هذين الفصلين الأخيرين. وسوف نركز كلامنا على نتائج كل رأي، ولا سيما في علاقتها بالتجربة البشرية العامة. ولقد أوردنا كثيرًا من هذه النتائج، أو استخلصناها، عندما عرضنا وجهة النظر المتعلقة بها، غير أن تقديم موجز نهائي يتيح للطالب فهمًا أفضل للمشكلة الميتافيزيقية في مجموعها، وللإمكانات التي ينطوي عليها كلٌّ من الحلول المتعددة المقترحة. وسوف نتبع في تلخيصنا نفس الترتيب الذي اتبعناه في العرض الأصلي.
-
(١)
الواحدية المادية: تتحدى الواحدية المادية الموقف الطبيعي عن طريق إنكار واقعية الذهن أو الروح — أو فاعليتهما — في نظام الأشياء.٦ ولما كانت تجربتنا اليومية بأسرها تبدو شاهدًا على وجود مقولتين للوجود: مقولة مادية، وأخرى ذهنية، فإن البينة الكاملة إنما تكون على المادي، عندما يحاول صياغة موقف واحدي ينكر واقعية هذه الثنائية البادية. أما التبسيط المفرد فيظهر في المادية عندما يحاول أنصارها إرجاع كل الحوادث الذهنية إلى مجرد ظواهر ثانوية مصاحبة للحوادث المادية. والواقع أن النظر إلى هذه الحوادث الذهنية (سواء أكانت إحساسات، أم إدراكات، أم أفكارًا، أم تصورات) على أنها «ليست إلا» حوادث في العالم المادي، إنما يعني الوقوع في «مغالطة الرد»، كما أوضحنا في الفصول السابقة.
-
(٢)
الواحدية المثالية: تواجه الواحدية الروحية أو المثالية نفس الصعوبتين. فهنا أيضًا نجد أنه، لما كان الموقف الطبيعي يشير إلى واقع مزدوج، فإن إنكار العالم المادي أو إعطاءه مركزًا ثانويًّا تمامًا، لصالح حقيقة روحية شاملة (أو مسيطرة بقوة على الأقل)، يبدو متعارضًا مع تجربتنا اليومية. وإذا لم يكن هذا النوع من الواحدية واقعًا في «مغالطة الرد» بنفس القوة التي تقع بها المادية فيها، فإن إفراطه في التبسيط ليس أقل ظهورًا — وذلك على الأقل في نظر كل الفلاسفة الذين ليسوا واحديين مثاليين. ولو تأملنا مثالًا بارزًا أوردناه في فصل سابق، لوجدنا أن تفسير الواحدية المثالية لسبب وجود جسم للذهن، أو سبب وجود العالم المادي في كون تتصف الحقيقة النهائية فيه بأنها ذهنية، يبدو مفرطًا في التبسيط إلى حد يبدو معه ممتنعًا في نظر كثير من المفكرين.
-
(٣)
الواحدية المحايدة: تواجه الواحدية المحايدة موقفًا أصعب حتى من هذا عندما تتعرض لاختبار الموقف الطبيعي. فحين ترجع وجهة النظر هذه كل وجود إلى «جوهر» محايد لا علاقة له بالتجربة المباشرة، فإنها تنفصل تمامًا عن الموقف الطبيعي. أما المذهبان الواحديان الآخران، فعلى حين أنهما يواجهان صعوبات خطيرة في محاولتهما إرجاع ثنائية التجربة إلى وحدة ميتافيزيقية، فإن لهما على الأقل بعض الصلة بتجربتنا من حيث إن المبدأ النهائي الذي يختارانه له شيء من المعنى في نظر الفكر والحديث العاديين. أما الواحدية المحايدة، بما فيها من جوهر واحد تكون المادة والذهن مجرد «صفتين» له (من بين صفات عديدة ممكنة) فإنها لا تتيح لنا نقطة اتصال بالتجربة يمكننا عن طريقها أن نفهم طبيعة هذا الواقع النهائي. فلا بأس على الإطلاق، من وجهة النظر العقلية، من تعريف «الجوهر» بأنه «ما تطرأ عليه الأحوال ولكنه ليس هو ذاته حالة» (كما يقول القاموس)، أو بأنه «ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته» (كما يقول اسبينوزا، أشهر المدافعين عن الواحدية المحايدة). ولكن هذه الأقوال لا تنبئنا، بالنسبة إلى حياتنا اليومية وتفكيرنا المعتاد، إلا بالقليل جدًّا عن الواقع النهائي أو طبيعة الكون الذي يتعين علينا أن نعيش فيه. ومن الواضح أن هذا النوع الثالث من الواحدية، وهو الواحدية المحايدة، ينطوي أيضًا على تبسيطات للتجربة أشد إفراطًا من تلك التي تنطوي عليها المذاهب المتنافسة معه، وإن يكن الأدق أن نطلق على هذه التبسيطات المفرطة اسم التجريدات المفرطة. فكل الصفات والكيفيات والأحوال تنزع حتى لا يتبقى في النهاية إلا الوجود أو الكينونة البحتة التي لا يوجد ما هو أكثر تجريدًا منها. ومن الواضح أن إرجاع ذلك التنوع والتعقد اللانهائي للوجود، الذي تكشفه لنا حواسنا، إلى شبح تصوري هزيل «كالجوهر»، يقتضي تبسيطات متطرفة إلى أبعد حد.
هذا عن مزايا الواحدية بوجه عام. ولو ألقينا نظرة شديدة الإيجاز على أنواع الواحدية الثلاثة، لوجدنا أن لكلٍّ منها مزايا معينة ينفرد بها.
-
(١)
فالمادية، ولا سيما في صورتها المعاصرة الأكثر اعتدالًا، تتصف بميزة كبرى، هي صلتها الوثيقة بالعلم، مما يتيح للذهن حرية الحركة من الفلسفة إلى العلم وبالعكس، دون أن يشعر بأنه قد تحول عن موقفه، أو انتقل إلى لغة جديدة، أو دخل عالمًا مختلفًا. والنتيجة هي توحيد للمعرفة (في مقابل وحدة المذهب) لا يمكن أن نجد له نظيرًا في أي موقف ميتافيزيقي آخر.
-
(٢)
أما الواحدية المثالية فلها ميزة انفعالية فريدة، مشابهة للميزة العقلية التي اعترفنا بها الآن للمادية؛ ذلك لأن النظرة إلى العالم، التي تكون الحقيقة النهائية فيها «ذهنًا» أو «روحًا»، تصور لنا البيئة بأنها في أساسها متمشية مع الإنسان ومع أحلامه وأمانيه وقيمه.
-
(٣)
أما الواحدية المحايدة فلا يمكن أن تتمثل فيها مزايا عملية كتلك التي تتمثل في المذهبين الآخرين، بل إن أفضل وصف لأية فضيلة تتميز بها هو أنها مذهبية. فمع اعترافنا بتبسيطاتها المفرطة للتجربة، وتجريدها الشديد لكل الكيفيات الداخلة في نطاق التجربة، من مجال «الجوهر»، فإن هذه الواحدية تصل، على يد عملاق عقلي مثل اسبينوزا، إلى صيغة تدعو إلى الإعجاب من وجهة النظر المذهبية.
(٩) الفردانية
وإلى جانب هذا الإرضاء العقلي، تتمثل في الفردانية بعض المزايا الانفعالية، وهي مزايا تشاركها في معظمها كل المذاهب المثالية، كما رأينا في الفصل الثالث. والواقع أن الإرضاء الذي تتيحه نظرة إلى العالم لا تترك أطرافًا معلقة دون ربطها بإحكام، هي مزايا تفوق المجال العقلي وحده. ومن المؤكد أن هناك جاذبية جمالية في مثل هذا البناء المعماري العقلي المتناسق، ولكن الأوضح من ذلك هو تلك الثقة الانفعالية التي يبعثها مذهب تجمع فيه الأجزاء المتباينة في وحدة كونية. إذ إن كل ما يحدث في التجربة البشرية يغدو عندئذٍ جزءًا من النظام الشامل، للأشياء، وهو النظام الذي يكون له فيه معنًى وغرض. وهكذا لا تضيع الحياة سدًى، ولا يكون الحب الفاشل حبًّا ضائعًا فحسب، ولا يكون هناك ألم بلا حكمة، أو تجربة بشرية بلا دلالة. وعلى حين أن كثيرًا من المفكرين يعتقدون أن أمثال هذه المزايا الرائعة لا يمكن أن تشترى في السوق الفلسفية إلا بثمن عقلي باهظ إلى أبعد حد، فإن تاريخ الفكر يثبت لنا أن هناك أشخاصًا كثيرين كانوا على استعداد لدفع هذا الثمن.
(١٠) موجز الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
من الممكن أن يكون الموجز الذي نقدمه للثنائية والتعددية أقصر إلى حد ما من موجز الواحدية؛ إذ إن العرض الذي قدمناه لهذين الموقفين في هذا الفصل يجعلها أقرب إلى ذهن القارئ. وفضلًا عن ذلك فليس لهذين المذهبين إلا صور قليلة متباينة تقتضي معالجة مستقلة.
وإلى جانب هذه الميزة الهائلة للثنائية، وهي ميزة ارتكازها مباشرة على الموقف الطبيعي، (وبالتالي تجنبها للهوة التي تفصل بين التجربة اليومية والتأمل الميتافيزيقي، وهي الهوة التي كانت شائعة جدًّا طوال تاريخ الفلسفة)، فإنها تمتاز بأنها تكشف بوضوح عن مشكلة المقومات الأساسية والوجود النهائي على نحو لا يقوم به أي مذهب آخر. ومن ثم فإنها هي المذهب الذي يفضله المبتدئ على ما عداه؛ إذ إننا ما إن نمعن الفكر في نتائج الثنائية، ونزن ما لها وما عليها من الحجج في أذهاننا بوضوح، فإننا نصبح عندئذٍ على استعداد للاضطلاع بالمهام الأصعب، وهي فهم الواحدية والفردانية والتعددية.
ولعل أوضح دليل على اهتمام التعددية بواقعية الشيء الفردي العيني وأهميته، هو نظريتها في العلاقات الخارجية، التي عرضت من قبل بإيجاز في هذا الفصل. ففي نظر صاحب المذهب الفرداني، الذي يؤكد أهمية الكل أو المطلق، تكون للعلاقات بين أجزاء الكل أكبر الأهمية: فهي التي تجعل الجزء، سواء أكان موضوعًا أم حادثًا، على ما هو عليه. أما التعددية الحديثة فتنظر إلى واقعية العلاقات ودلالتها على أنها ثانوية تمامًا بالقياس إلى الواقعية الأساسية للموضوعات العينية والحوادث في ذاتها، التي يمكن (في رأي التعددي) أن تدخل في العلاقات وتخرج منها دون أن يطرأ عليها تغير، ودون أن تفقد استقلالها الأساسي.
وهكذا فإن الجاذبية الكبرى للتعددية تكمن في اعترافها الكامل بواقعية التجربة الفعلية وامتلائها وثرائها. والواقع أن أي مذهب فكري لا يباري التعددية الحديثة (كما تتمثل في وليام جيمس مثلًا) في هذا الصدد. وكما أن الفردانية تجتذب نوعًا معينًا من الأذهان المنطقية الصارمة، التي تكون للوحدة والترابط أهمية عظمى في نظرها، فكذلك تجتذب التعددية تلك الأذهان التي يعجبها ثراء التجربة البشرية العينية وتعقدها، والتي تجد تحديًّا هائلًا في الإمكانات العديدة التي تتيحها هذه النظرة الدينامية إلى العالم.
أما نقاط ضعف المذهب التعددي فهي الوجه المقابل لمزاياه. ذلك لأننا لا نستطيع أن نتوقع من نظرة إلى العالم تولى مثل هذه الاهتمام لواقعية الأشياء الفردية وأهميتها، أن تكون متصفة بمنطق محكم أو تماسك عضوي. والواقع أن تعدديين قلائل جدًّا منذ أيام ليبنتس وباركلي (وينبغي أن نلاحظ أن كليهما مثالي) هم الذين حاولوا صياغة مذهب كامل في الميتافيزيقا، بل إنهم في عمومهم قد اكتفوا، مثل جيمس وغيره من التعددين البرجماتيين الآخرين، ببحث مشكلات خاصة في نطاق الفلسفة، كمشكلة مناهج البحث العالمي ونظرية الحقيقة. ومما يثبت إمكان قيام مذهب ميتافيزيقي تعددي، ما قام به الفيلسوفان اللذان أشرنا إليهما منذ قليل، اللذان كانا من الأفراد الأسبق عهدًا في هذه المدرسة، ولكن لم تظهر حتى الآن صياغة حديثة كاملة لوجهة النظر هذه في عالم الفلسفة.