التجريبية المنطقية
على أن تقديم عرض موجز مبسط للفكر التجريبي المنطقي ليس بالأمر الهين. وترجع هذه الصعوبة إلى تعقد المشكلات التي يتعين عرضها، كما ترجع إلى وجود خلافات وانقسامات فرعية داخل الحركة. فهناك مثلًا فوارق هامة بين الوضعيين داخل القارة الأوروبية (الذين كانوا يتركزون في فينا، ولكن معظمهم انتشر في أماكن متعددة، وذهب كثير منهم إلى الولايات المتحدة) وبين المدرسة الإنجليزية، ولا سيما الجماعة المعروفة باسم مدرسة كيمبردج التحليلية. وسوف نضطر إلى الاقتصار في هذا العرض على بعض المفاهيم التي تبدو أساسية في كل تفكير منطقي تجريبي. وسيؤدي ذلك بالطبع إلى إعطاء القارئ صورة أقل من الكاملة عن تفكير هذه المدرسة، ولكنه سيتيح له أن يتذوق شيئًا من مذاقها اللاذع، ويفهم السبب الذي جعل للحركة كلها مثل هذا التأثير في الفلسفة المعاصرة.
ويظهر الاتجاه العقلي العام للتجريبية المنطقية أوضح ما يكون في نظريتها في المعنى. هذه النظرية، التي تعرف في المصطلح الفني باسم «نظرية القابلية للتحقيق في المعنى» ترى أن تحديد المعنى وتوصيله إلى الآخرين أساسي تمامًا، ليس فقط في الحديث الفلسفي، بل في كل حديث أيًّا كان — وليس في الحديث أو التخاطب فقط، بل وفي اكتساب المعرفة. ويؤكد التجريبي أنه لا يمكن أن تكون هناك معرفة، بخلاف التجربة الحسية المباشرة، إلا بعد أن نتأكد من معنى كل الجمل التي تصاغ في صورة جمل واقعية؛ أي جمل إخبارية. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك اتصال في المعرفة حتى يحلل المعنى ويوضح. ومن هنا كان التحليل اللغوي والمنطقي يحتل مكانة مركزية في التجريبية المنطقية. والواقع أن من الممكن أن يطلق على هذه الحركة، بنفس الدقة، اسم «التحليلي المنطقي» أو «التجريبية التحليلية» — بل يكاد من الممكن القول إن أية طريقة للجمع بين الصفات الثلاث: «المنطقي» و«التحليلي» و«التجريبي»، تصلح للدلالة على هدف هذه المدرسة ومنهجها.
ولقد كان هيوم يشترط أن تحقق كل الأفكار أو المفاهيم العامة عن طريق إرجاعها إلى «الانطباعات» (أي الإدراكات) التي تأتي منها. فإذا لم يمكن اكتشاف «انطباع»؛ أي إذا لم تتوافر تجارب إدراكية لدعم المفهوم أو تفنيده — فإنه لا يقبل ذلك التصور أبدًا. والنصيحة التي يفضل توجيهها بشأن أية فكرة مجردة تفتقر إلى أساس إدراكي هي «ألق بها إلى النار!» وبالفعل نجده في خلال حياته التحليلية قد ألقى بعدد كبير من المفاهيم الفلسفية واللاهوتية الشائعة عندئذٍ في لهيب الشك. فلنبحث الآن كيف أخذت التجريبية المنطقية معيار المعنى كما وضعه هيوم، وتوسعت فيه كثيرًا، ولا سيما في اتجاه التحليل اللغوي.
(١) مشكلة المعنى
-
(١)
الكتاب على المنضدة.
-
(٢)
أنا أشعر بألم ممض.
-
(٣)
العالم من خلق عقل علوي.
-
(٤)
مجموع زوايا المثلث يساوي ١٨٠ درجة.
-
(٥)
حبي أشبه بوردة حمراء.
-
(٦)
اليورانيوم أثقل العناصر.٢⋆
-
(٧)
لا بد لنا من حب جيراننا.
-
(٨)
الانتهازي خائن لبلاده.
ترى التجريبية المنطقية أن كل العبارات المعرفية التي تكون وظيفتها الإخبار بمعلومات معينة، تنتمي إلى فئتين. فالقضايا يمكن تصنيفها حسب كون معناها (أ) صوريًّا ومنطقيًّا بحتًا، أو (ب) واقعيًّا؛ أي تجريبيًّا بالمعنى الدقيق. ولا بد لنا من أن نفهم هذا التصنيف فهمًا كاملًا، إذا شئنا أن نستوعب آراء التجريبية المنطقية؛ إذ إن الحركة بأسرها تبدو من غير هذا التصنيف ثرثرة طويلة لا تفهم.
-
(أ)
المعنى الصوري: العبارة ذات المعنى الصوري هي تلك التي يتحدد صوابها أو خطؤها على أساس صورتها فحسب؛ أي على أساس (١) علاقاتها بتركيب منطقي أو نظمي لغوي من نوع ما، أو (٢) العلاقات الداخلية للمنطق في داخل الجملة ذاتها. ونظرًا إلى أن هذا النوع الثاني من المعنى الصوري قد يكون هو الأسهل فهمًا، فسوف نبدأ بالكلام عنه. فهذا النوع من الجمل، الذي يعرف باسم «تحصيل الحاصل Tautology»، يكون للجملة فيه محمول لا يعدو أن يكون تكرارًا لما جاء في الموضوع. ومثل هذا التكرار يكون مقبولًا عند وضع التعريفات. فمعظم التعريفات القاموسية من هذا النوع، كالجملة رقم (٦) التي أوردناها من قبل: «اليورانيوم أثقل العناصر». هنا يكون من الواضح أن المحمول لا يقول أكثر مما هو متضمن في الموضوع، على الرغم من أن العبارة قد تكون مع ذلك عظيمة الفائدة لأي شخص يحتاج إلى أن يعرف معنى «اليورانيوم». وليس من الصعب على الشخص المثقف أن يكتشف العبارات التي تنطوي على تحصيل الحاصل (مثل «مسموع للأذن» أو «المآتم الجنائزية») ولكن من الممكن أن تندس قضية كاملة تنطوي على تحصيل حاصل دون أن تكتشف. وفي هذه الحالة قد نظن أن المتحدث أو الكاتب يقول شيئًا له معناه، على حين أن التحليل المنطقي يوضح أنه لا يفعل شيئًا سوى أن يصرح بما كان ضمنيًّا في لفظ الموضوع.
أما الفئة الأولى (١) من العبارات الصورية فهي تلك التي لا تستمد حقيقتها أو معناها إلا من اتساق الجملة الخاصة مع نسق منطقي من نوع ما. ونستطيع أن نجد المثل الكلاسيكي لهذه الفئة في أي نسق رياضي، يضع مصادرات أو بديهيات محددة ثم يستخلص بقية البناء الرياضي المنطقي منها. وعندئذٍ تصبح «الحقيقة» و«الصواب» مسألة اتساق داخلي في النسق الواحد فحسب. وقد تحدثنا بإيجاز عن الحقيقة الصورية في الفصل السابع في مَعرِض الكلام عن نظرية من نظريات الحقيقة، هي نظرية الترابط. وينبغي أن نذكر أننا أشرنا عندئذٍ إلى أن من الممكن تشييد بناءات عقلية متسقة في داخلها تمامًا، على مصادرات لا ترتكز على أساس من التجربة. وتلك إمكانية لها أهميتها القصوى بالنسبة إلى التجريبية المنطقية، كما سنرى بعد قليل.
-
(ب)
المعنى الواقعي: يرى التجريبي المنطقي أن المعنى الواقعي هو ذاته المعنى التجريبي: فالعبارات التي يمكن تحقيقها بالملاحظة هي وحدها التي يمكن أن تعد واقعية، كما أنه لا توجد «وقائع» لا تتحدد تجريبيًّا. هذه الفكرة الرئيسية في التجريبية المنطقية هي أساس نظريتها المشهورة في المعنى من حيث هو القابلية للتحقق. فالتجريبي يشترط في أية عبارة معرفية، لكي يكون لها معنى (أي لا تكون لغوًا — ومن الواجب أن نلاحظ أن لفظ «اللغو Nonsense» يعني في الأصل «ما ليس له معنى») أن تكون إما معبرة عن حقيقة صورية على النحو الذي حددناه من قبل، وإما أن تقول شيئًا يمكن للملاحظة تأكيده أو تفنيده.
وعند هذه النقطة نجد مسألة غامضة غموضًا حقيقيًّا، أدت إلى إشارة قدر كبير من الجدل والتحليل بين صفوف التجريبيين المنطقيين، وقد كبير من سوء الفهم من جانب نقادهم. فعندما يقول التجريبي إن العبارات الواقعية الوحيدة هي تلك التي يمكن تحقيقها بالملاحظة، فإنه قد يعني بذلك واحدًا أو أكثر من ثلاثة أمور مختلفة: (١) فقد يعني أن العبارات الواقعية الوحيدة هي تلك التي أيدتها الملاحظة من قبل، (٢) أو قد يدرج ضمنها تلك التي لم تتحقق بعد، ولكن من الممكن تحقيقها إذا شئنا كلما كان التأكيد ضروريًّا لأي غرض، (٣) أو تلك التي تقبل التحقيق من حيث المبدأ، على أساس أننا نعرف ما يلزم لتحقيقها. هذه الفئة الثالثة تشمل عبارات نفتقر في الوقت الحالي إلى وسيلة تحقيقها، ولكنا نستطيع أن نتصور إمكان تحقيقها في المستقبل، كالعبارات المتعلقة بالمسمات الجغرافية للوجه الآخر للقمر، أو بالحياة في الكواكب الأخرى.
ولقد حاول بعض التجريبيين المنطقيين الأوائل، خلال فترة شباب هذه الحركة، حين كانت أقل تعمقًا وأقرب إلى الطابع الوضعي، أن يقصروا فئة العبارات «الواقعية» على تلك التي تحققت بالفعل (رقم ١ في التقسيم السابق). ومع ذلك فقد كان هناك، حتى في هذه المرحلة المبكرة، أفراد أكثر اعتدالًا في هذه المدرسة، دعوا إلى التوسع في معنى القضايا «الواقعية» بحيث تشمل تلك القضايا التي تتوافر إجراءات تحقيقها، بغضِّ النظر عن كون هذه الإجراءات قد استخدمت فعلًا أم لا. وبازدياد نضج الحركة وتعمقها في التحليل، أصبح من الواضح أن هذا القيد ذاته أكثر صرامة مما ينبغي. وقد بدا أمرًا مبالغًا فيه بوجه خاص لأنه شاع تفسيره على أنه محاولة مغرورة، لا مبرر لها، للتشريع للعلم عن طريق وضع تمييز قاطع بين النظريات العلمية المحققة تحقيقًا تامًّا، وتلك التي لا تؤكد إلا جزئيًّا — مما يؤدي، على ما يبدو، إلى حرمان الألم من المرونة والحرية التي تلزمه لكي يستخلص نتائج مؤقتة لا غنى عنها في تقدمه العلمي.
أما في الحالة الراهنة الناضجة للمذهب الوضعي التجريبي، فإن هذا المذهب يضيف الشرط رقم ٣ بوصفه وسيلة صحيحة لتحديد ما هو «واقعي». وحتى لو كانت الصعوبات العملية التي تحول دون تحقيق عبارة ما، تبدو صعوبات سيظل من المستحيل دائمًا التغلب عليها، فمن الممكن أن يظل لها الحق في أن تعد عبارة ذات معنى، وذلك إذا عرفنا على الأقل أساس تحقيقها. فإذا وجد موقف تجريبي يمكن تصوره، حتى لو ظل من المستحيل كشفه بوصفه موقفًا فعليًّا، فعندئذٍ لا تكون العبارة لغوًا. أما إذا كانت ذات طابع من شأنه ألا تكون لأية ملاحظة ممكنة علاقة بصدقها أو بطلانها، فعندئذٍ تكون لغوًا — مهما يكن من وقعها في نفوسنا بوصفها عبارة بلاغية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية.
وينبغي أن نؤكد أن التجريبي يقيد الشرط رقم ٣ ببعض الضوابط الصريحة جدًّا، خشية أن يتسرب ثانية من خلال نافذة الميتافيزيقا كثير مما ألقى به خارج باب نظرية المعرفة. ذلك لأن اشتراط أن تكون العبارة ذات المعنى «قابلة للإثبات من حيث المبدأ» أو «قابلة للتحقيق نظريًّا» أو «مما يمكن تصوره»، يبدو أنه يتضمن تقريبًا كل جملة إخبارية ليست لغوًا واضحًا حسب قواعد النظم والتركيب اللغوي (كما هي الحال في قضية «الصلب مجموع الأحمر».) ولكن لو لم تكن التجريبية المنطقية قد فرضت ضوابط صارمة، لفقدت بسرعة شهرتها بالصرامة العقلية في ميدان نظرية المعرفة. والواقع أن الضمانات التي وضعتها التجريبية المنطقية من أجل التحكم في موضوع القابلية النظرية للتحقيق، من شأنها أن تجعل هذا المذهب يبدو في أواسط القرن العشرين محتفظًا بنفس النزعة الشكاكة الهدامة للادعاءات الميتافيزيقية واللاهوتية، التي كان يتسم بها في عهده الأول، وإن يكن بالطبع قد أصبح أقل سذاجة.
(٢) أنواع القابلية للتحقيق
إن أول سؤال يتبادر إلى ذهن التجريبي المنطقي فيما يتعلق بأية عبارة، قبل أن يبحث فيما إذا كانت صحيحة أم باطلة، هو «ما الذي تعنيه؟» فحسب. وهو يطلب على هذا السؤال ردًّا يبين كيف يمكن تحديد صحة العبارة أو بطلانها. والواقع أن التجريبية المنطقية فريدة بين المدارس الفلسفية من حيث إن أفرادها لا يقضون حياتهم في محاولة أن يبينوا لأفراد المدارس الأخرى المنافسة لمدرستهم أنهم على خطأ، وإنما هم يكتفون في معظم الأحيان بأن يبينوا فمنافسيهم أن عباراتهم لا معنى لها، وأنها غير قابلة للاختبار بواسطة أية طريقة يمكن تصورها من طرق الملاحظة أو التجريب. ولقد أدت هذه المطالبة الدائمة بأن تكون للقضايا الميتافيزيقية معانٍ قابلة للتحقيق، إلى فقدان التجريبيين المنطقيين شعبيتهم بين أقرانهم من الفلاسفة. ذلك لأنه إذا قال لك خصمك في الفلسفة إن عباراتك باطلة لكان في ذلك ما يثير أعصابك، أما إذا قال لك إنها عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة الأعصاب!
وتشير التجريبية المنطقية إلى التضاد الصارخ، في هذا الصدد. بين العلم من جهة وبين الميتافيزيقا واللاهوت من جهة أخرى. فالميتافيزيقي واللاهوتي على السواء يبدآن نشاطهما العقلي بالملاحظة. وهذه بطبيعة الحال ملاحظة أوسع تعميمًا من تلك التي يستخدمها العلم، ما دام أساس هذا السعي وراء الفروض الكونية التفسيرية الشاملة هو عادةً الكون بأكمله، وتجربة الإنسان بأسرها في الكون. غير أن هذين الباحثين العقليين الآخرين عن التفسير، على خلاف العالم، لا يستطيعان القيام برحلة إياب ناجحة يعودان فيها إلى عالم المعطيات التجريبية. وبالاختصار، فإن الميتافيزيقي أو اللاهوتي لا يستطيع تصميم تجارب يختبر بها فرضه التفسيري المتعلق بطابع الواقع، والمصير الإنساني، والطبيعة … إلخ. ومن الممكن أن يكون فرضه (الذي قد يكون تعدديًّا) مناقضًا لفرض أحد خصومه (الذي قد يكون واحديًّا). ومن هنا فلا يمكن أن يكون الاثنان صحيحين: فمن الواضح أن ها هنا فارقًا من ذلك النوع الذي كان في ذهن «بيرس». ولكن كيف يؤدي — بل كيف يمكن أن يؤدي — هذا الفارق البادي إلى إحداث فارق حقيقي، وما الذي سيتغير في تجربتنا إن كان أحد الرأيين صحيحًا والآخر باطلًا؟ وما الذي سيحدث على نحو مخالف، أو ما الذي سيتغير؟ صحيح أن مشاعرنا قد تتغير إذا قبلنا هذا الرأي أو ذاك، ولكن ما الذي سيتأثر على أي نحو في العالم الموضوعي المشترك الذي نتقاسمه جميعًا؟ هل ستسير الأمور على أي نحو مختلف إذا ثبت أن الكون تعددي. عنها إذا تحققنا من أنه واحدي؟ وهل يتغير الكون والتاريخ البشري إذا استطعنا أن نثبت أخيرًا على نحو ينأى عن الشك مذهب الألوهية أو مذهب الإلحاد؟ ومن الواضح أن شيئًا من هذا لا يتغير، وهو ما يتضح من أن هذه الآراء الميتافيزيقية اللاهوتية المتباينة قد ظهرت في ظل نفس المجموعة من الظواهر التاريخية ونفس المجموعة من المعرفة البشرية التراكمية. فإذا كان من الممكن أن تكون لدينا مذاهب عقلية متناقضة تفسر نفس الوقائع الملاحظة، فمن الواضح عندئذٍ (تبعًا لاستدلال التجريبية المنطقية) أن هذه التفسيرات لا معنى لها. ذلك لأنها لما كان لا تحدث فارقًا، فإن أي فارق ظاهري بينها إنما هو فارق لفظي أو وهمي بحت.
ويشير التجريبي المنطقي إلى هذه المواقف التجريبية بوصفها أمثلة رائعة لتحقيق الشرط الذي وضعه بيرس، والقائل إن الفارق لا بد أن يحدث فارقًا، وهو فضلًا عن ذلك يشير إلى هذه التجارب بوصفها أفضل أمثلة توضح ما الذي يجعل العبارة صحيحة أو باطلة؛ إذ إن الاختبار الفاصل لا يترك مجالًا للشك. ولا بد أن يؤدي إلى الاستغناء عن أحد الفرضين المتنافسين. غير أن من المستحيل، في الميتافيزيقا واللاهوت، أن نكشف أي الآراء المتعددة صحيح وأيها باطل؛ لأنه لا يوجد واحد منها يحدث أي فارق حقيقي. فكلٌّ منها يُشعر مؤيديه بالرضا الانفعالي، وطمأنينة النفس، والثقة والاتزان العقلي، غير أن هذا الفارق الذاتي لا يجعل الرأي صحيحًا أو ذا دلالة بأي معنى موضوعي أو شامل. ونظرًا إلى هذا الافتقار إلى حدوث فارق في النتائج الفعلية القابلة للملاحظة، فإن التجريبي المنطقي يتساءل عما نعنيه عندما نصف إحدى العبارات اللاهوتية الميتافيزيقية بالصحة والأخرى بالبطلان. ذلك لأنه لما كانت الاثنتان غير قابلتين للإثبات بنفس المقدار، فإن أية قضية تُستخلص منهما هي كذلك غير قابلة للتحقيق؛ وبالتالي فهي آخر الأمر قضية لا معنى لها.
(٣) نتائج التجريبية المنطقية
هل يعني رفض التجريبيين المنطقيين هذا للميتافيزيقا — وهو رفض أصبح مشهورًا — أنهم يدعون إلى التخلي عن كل نشاط فلسفي، ووضع كل المذاهب الفلسفية الموجودة في المتاحف بوصفها عجائب تاريخية؟ وهل يعني ذلك أنهم يدعون إلى إغلاق المدارس الفلسفية مثلما أمر الإمبراطور جيستينيان بإغلاق المدارس الفلسفية اليونانية القديمة في عام ٥٢٩ الميلادي، وإلى تحويل الفلاسفة إلى القيام بمهام أقرب إلى الطابع العملي؛ وبالتالي يفترض أنها أكثر فائدة؟ وماذا يكون مستقبل الفلسفة لو قُيض لها دكتاتور تجريبي منطقي؟
ومعنى ذلك أن الفلسفة، كما يعرفها ويدافع عنها التجريبية المنطقي، لها طابع منطقي لا تخرج عنه. فهي ليست نظرية أو مذهبًا، وإنما هي نشاط؛ أعني توضيحًا للفكر. هذا الإيضاح يتم عن طريق التحليل المنطقي للقضايا وتحليل معانيها وتراكيبها، وصياغة قواعد لتحويل (أي الترجمة) العبارات ذات المعنى إلى عبارات أخرى ذات معنى. ولما كان هذا يقتضي من الوجهة النظرية إيجاد لغة مثلى، فإن التجريبين المنطقيين قد بذلوا جهودًا كبيرة في وضع المذاهب المنطقية الحديثة التي تستهدف هذا المثل الأعلى.
ولكن ما الذي نعنيه عندما نتحدث عن «تحليل القضايا نم حيث تركيبها اللغوي» و«صياغة قواعد للتحويل»؟ إن أفضل طريقة لتفسير هذه التعبيرات هي أن نفحص رأي التجريبي بشأن العلاقة الصحيحة التي ينبغي أن تقوم بين الفلسفة والعلم، فلننتقل إذن إلى هذا الموضوع. إن الفلسفة في رأي التجريبية المنطقية، ينبغي أن تكون هي نظرية العلم أو منطق العلم — أي إنها هي التحليل المنطقي لمفاهيم العلم وقضاياه وبراهينه ونظرياته. فالمهمة الأساسية للعالم هي صياغة الفروض وتحقيقها، أما المهمة التكميلية، والتي لا تقل عن ذلك فائدة للفلسفة، فهي كشف العلاقات المنطقية بين بعض هذه الفروض وبعضها الآخر، وتعريف الرموز المستخدمة فيها. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا المناقشة التي أوردناها في الفصل الثاني، حين وصفنا الدور الأكبر الذي تسهم به الفلسفة في العلم بأنه تحليل لمفاهيمه ومصطلحاته.
وهذا يعني أن التجريبية المنطقية تحاول صياغة طريقة للاتصال تؤدي بالفعل إلى تحويل ما نسميه الآن «علومًا» فحسب إلى «علم» واحد. صحيح أنه يشيع بيننا الآن استخدام لفظ «العلم» وكأن لدينا بالفعل نسقًا موحدًا للفكر والمعرفة. ومع ذلك فإن كل عالم (أي كل مشتغل في ميدان علمي محدد) يعلم جيدًا أنه لا يوجد حتى الآن بناء متكامل كهذا. ويرى التجريبي المعاصر أنه لا يمكن وجود علم شامل ما لم يتم إيجاد وسيلة فعالة للاتصال المتبادل بين الميادين الخاصة للعلم. فلا بد من أن تكون هناك لغة مشتركة؛ أي منطق مشترك ومجموعة من الرموز المشتركة — تتيح لنا أن نربط، كلما دعت الحاجة، بين مختلف أنواع القوانين بعضها ببعض بوصفها عناصر في نسق واحد.
وترى التجريبية المنطقية أن لهذه اللغة الشيئية ثلاث خصائص، كلٌّ منها لازمة لكي تكون للعلم الموحد وسيلة اتصال فعالة. ولا بد لنا من الاقتصار على عرض موجز لهذه الخصائص، ولكننا حتى لو اقتصرنا على تعريفها وحده، لظهر هدف التجريبي واضحًا. كذلك سيتيح لنا هذا أن نفهم لماذا كانت اللغة الفيزيائية هي وحدها التي تفي بهذه الشروط.
والمقصود بلفظ «مشترك بين الذوات»، في لغة التجريبية المنطقية، هو الموضوعية؛ أي إن في استطاعة عدة ذوات (أو أشخاص) أن يختبروا العبارة المراد بحثها. وهذا الشرط يبلغ من الأهمية في العلم حدًّا لا يكاد يحتاج معه إلى تعليق، بل إن من المتفق عليه عادةً أن الموضوعية هي لب المعرفة العلمية. فما لم تكن المعطيات والنتائج المستخلصة من هذه المعطيات قابلة للمشاركة، وما لم يكن من الممكن تكرار التجربة بواسطة كل المختصين في الميدان بحيث تأتي بنفس النتائج، لما كان لدينا علم. ومن هنا فإن من الواضح أن أية لغة لا تتيح اتصالًا كاملًا مشتركًا بين الذوات لا يمكن أن تكون لغة علمية لها قيمتها.
أما صفة «العالمية» فالمقصود منها أن يكون من الممكن أن تترجم إليها كل عبارة واقعية (أي كل عبارة قابلة للتحقيق تجريبيًّا). ويشمل ذلك القضايا العلمية والعبارات الواقعية المنتمية إلى التجربة اليومية، فضلًا عن أي تجمع من الاثنين معًا. وهنا أيضًا ترى التجريبية المنطقية أن اللغة الشيئية في العالم الفيزيائي هي وحدها التي يمكن أن تعد عالمية بحق.
ويرى التجريبي المنطقي (شأنه شأن السلوكي) أن الشيء الوحيد الهام فيما يتعلق بأي موضوع، بشريًّا كان أم حيوانيًّا، هو في آخر الأمر سلوكه الفعلي. أما التفكير والشعور وما شاكلهما فلا يكون لهما معنى إلا من حيث إنهما يؤديان إلى فعل من نوع ما. ولما كان هذا الفعل هو كل ما يمكن ملاحظته؛ وبالتالي كل ما يمكن التعامل معه علميًّا، فلا بد لنا من التخلي عن محاولة سبر غور النفس أو دراسة «الذهن» بوصفه كيانًا مستقلًّا عن الجسم وعن استجاباته.
(٤) الميتافيزيقا في مقابل التجريبية: هل هناك حال ممكن؟
إذا لم يكن الطالب شاعرًا بشيء من الحيرة بعد انتهائنا من هذه الفصول الثلاثة المتعلقة بمسائل ميتافيزيقية، لكان ذلك شيئًا يدعو إلى العجب؛ ذلك لأن العرض الذي قدمناه للخلافات التي تفرق بين الواحديين والثنائيين التعدديين كانت دون شك محيرة بما فيه الكفاية، أما أن يقال للطالب في هذا الفصل إن كل هذه الخلافات، فضلًا عن المفاهيم التي تتركز هذه الخلافات حولها، كلها أمور لا معنى لها، فلا شك في أنه أمر يزيد الطين بلة! وربما تمنى الطالب أن نكون قد عرضنا التجريبية المنطقية أولًا، ما دام ذلك كان، على الأرجح، كفيلًا بأن يجعل الفصول الأخرى الخاصة بالميتافيزيقا غير ضرورية.
وقد يبدو لأول وهلة أننا نواجه هنا اختيارًا بين أحد أمرين: إما أن نوافق على آراء التجريبي ونرفض الميتافيزيقا، وإما أن نرفض التجريبية المنطقية. وهناك مفكرون ضمن التجريبيين وخصومهم، يؤكدون أن التضاد بين الحلين السابقين بسيط قاطع. وبالفعل كان الكثيرون من المعسكرين معًا على استعداد لاتخاذ إحدى الخطوتين، مؤكدين أنه لا سيبل إلى التوفيق بين الأمرين.
غير أن مؤلف هذا الكتاب لا يعتقد أن هذين الأمرين متنافران ويؤدي كلٌّ منهما إلى استبعاد الآخر على النحو الذي صورا به؛ ومن ثَم فإنه لا يرى ضرورة للاختيار بينهما على أساس «كل شيء أو لا شيء»؛ ذلك لأنه، على حين أن من الصحيح أن أي شخص يحترم عقله لا يستطيع أن يتجاهل التجريبية المنطقية وكل الحركة الوضعية التي يلخصها هذا المذهب، فإن هذا لا يحتم علينا الانتقال إلى الطرف المضاد الآخر والذهاب مع التجريبي إلى حد رفض الميتافيزيقا كلية.
ففي الوقت الذي بدأت فيه التجريبية المنطقية، لأول مرة، توطد مركزها بوصفها حركة فلسفية في العشرينيات من هذا القرن، كان من الممكن استبعادها على أنها بدعة زائلة في مجال الفلسفة، وربما على أنها ناتج عرضي لنزعة الشك وخيبة الأمل التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، أو تعبير عن زهو مبالغ فيه بإنجازات العلم الحديث. غير أن هذا الاستبعاد الفوري لم يعد الآن ممكنًا؛ إذ إن الحركة الآن في جيلها الثاني، ولها مكانة هائلة في نفوس المفكرين الشبان في أوروبا وأمريكا معًا. ولو قمنا بتعداد للتجريبيين من بين الفلاسفة العاملين الآن، أو الذين توفوا منذ عهد قريب، لوجدنا أنهم يمثلون حوالي ثلث الفلاسفة المعاصرين من ذوي الأهمية، على حين أننا لو توسعنا في التعداد بحيث نرجع به إلى الوراء لكان يشتمل على عمالقة مثل هيوم، ومثل «كانت» (في بعض نواحي تفكيره). وعلى الرغم من أنه كانت هناك في الماضي مدارس تقوم على نزعة الشك وعلى التحليل الدقيق، كانت تبدو هدامة للفلسفات القائمة، فإن وضع التجريبية المنطقية يختلف تمامًا عن وضع الحركات السابقة التي يمكن مقارنتها بها. فالحركة المعاصرة لها دعائم عقلية أقوى بكثير من الحركات السابقة عليها، وارتباطاتها بالعلم أوثق بكثير. كذلك فإن تطور علم المعاني، والاتجاهات الحديثة في المنطق، والتغيرات في العلوم الرياضية، كل ذلك قد زودها بأدوات تحليلية أدق بكثير مما كان متوافرًا من قبل في أي وقت.
والواقع أن من العوامل التي ساعدت على زيادة قوة التجريبية المنطقية، براعتها في تصحيح ذاتها. فقد أتاح لها ذلك تجنب الفخ القاتل الذي تقع فيه كثير من الحركات المتطرفة: وهو الاتجاه إلى التطرف المتزايد؛ أي الزحف مسافات أطول وأطول على رجل صناعية عقلية، إن جاز هذا التعبير — إلى أن يجيء وقت لا يظل فيه يتمسك بالحركة إلا المتعصبون والمتحيزون المتطرفون. أما التجريبية المعاصرة فقد سارت في الاتجاه المضاد، وتخلصت من الانحياز المتطرف والتعصب الذي كان يلازمها في البداية، وعملت باستمرار على توسيع قاعدتها. وقد أتاح لها ذلك أن تزيد من عدد المنتمين إليها، وأن تقوي نفوذها، مما جعل من الضروري على نحو متزايد أن تعمل لها المدارس الأخرى حسابًا. وهكذا فإن هذه التجريبية الوضعية المعاصرة، بوصفها اتجاهًا أكثر منها بناء فكريًّا متكاملًا، تبدو اليوم عضوًا جديدًا أضيف بصفة دائمة إلى أسرة الفلسفة، يتعين على الأعضاء الآخرين أن يعيشوا معه، راضين كانوا أم كارهين.
غير أن الحجة المرتكزة على التراث لا تلقى في العادة قبولًا لدى الأمريكيين، ولا سيما الشبان منهم، الذين يقول أغلبهم — على الأرجح — إنه إذا اتضح أن علمًا وقورًا كالفلسفة، ونشاطًا تقليديًّا موروثًا كالتأمل الميتافيزيقي، قد فقدا قيمتهما، فمن الواجب الإلقاء بهما في سلة المهملات. ولكننا حتى لو وافقنا على هذا الاتجاه الأمريكي المألوف، الذي يقول بوجوب استبعاد أي شيء يفقد قيمته (وهو اتجاه لا يعارضه مؤلف هذا الكتاب)، فإن هذا لا يكاد يكون حلًّا للمشكلة. ففي اعتقادي أن الميتافيزيقي قد وجدت لتبقى، على الرغم من كل ذكاء الهجوم التجريبي، وذلك للسبب الأرسططالي الذي أشرنا إليه مرارًا في فصول سابقة، وهو أننا — سواء أردنا ممارسة النشاط الميتافيزيقي أم لم نرد، (وهو تعديل طفيف لصيغة أرسطو الأصلية) — لا مفر لنا جميعًا من أن نكون ميتافيزيقيين من نوع ما. إننا قد نتمكن من تجنب بعض التعقيدات والعقد التي وقع فيها التفكير الميتافيزيقي التقليدي، ولكننا لا نستطيع أن نتجنب أن يكون لنا رأي في طبيعة العالم الذي نعيش فيه. وقد نتمكن من تجنب استخدام لفظ «الحقيقة أو الواقع»، (بالمعنى الشامل أو بدونه)، ونرفض إضاعة وقتنا سدى في مناقشة طابعه النظري، ولكنا لا نستطيع أن نتجنب السلوك وكأن هناك أمورًا معينة — أي جوانب معينة لعالمنا — هي أكثر حقيقة بالنسبة إلينا (وهي قطعًا أكثر دلالة) من غيرها. غير أن هذا يعني اتخاذ موقف ميتافيزيقي ضمني من نوع ما، «سواء شئنا أم لم نشأ». فأكثر التجريبيين المنطقيين اتساقًا لم يفلح في إقناع أي شخص، ما عدا زملاءه من التجريبيين على ما يبدو، بأنه ينجح تمامًا في تجنب اتخاذ وجهة نظر ميتافيزيقية.
فهل يؤدي ذلك إلى جعل العبارات الميتافيزيقية عبارات لا معنى لها؟ من الواضح أنه يؤدي إلى ذلك إذا قصرنا فكرة المعنى على ما يمكن تحقيقه تجريبيًّا. ولكن هذا يؤدي أيضًا إلى وضع الميتافيزيقي في صحبة رفاق من مستوى رفيع إلى حد ما، ما دامت كتابات الأدباء الفنانين والمفكرين الدينيين هي كذلك كتابات لا معنى لها. ومع ذلك، فلما كان معظم الناس يظلون على اعتقادهم بأن هذه العبارات غير القابلة للتحقيق لها معنى كامل، فإن التجريبي المنطقي يبدو في مركز ذلك الذي يريد شرب البحر جافًّا. فهو بلا شك يظل ملتزمًا حدوده المشروعة عندما يختار تعريف المعنى على أساس التحقيق التجريبي وحده، ولكنه قطعًا ينتمي في هذا الصدد إلى الأقلية.
ولنقل أخيرًا إننا ينبغي أن نشكر التجريبي المنطقي؛ لأنه زودنا بسلاح فعال نتحرر به من الادعاءات المفرطة التي يزعم بها الميتافيزيقيون واللاهوتيون بلوغ الحقيقة. كذلك أعتقد أننا ينبغي أن نشكر له تذكيره إيانا بأن المعرفة العلمية هي أكثر المعارف التي نستطيع بلوغها وثوقًا — بل إنها تكون فئة قائمة بذاتها من حيث الادعاءات المشروعة للمعرفة. ولكن لما كان التأمل الميتافيزيقي هو على ما يبدو صفة دائمة من صفات الطبيعة البشرية، فيبدو أن الأحكم هو الاعتراف بهذا الميل والاحتفاظ به في حدود النظام. عن طريق النقد والتحليل (ولا سيما التحليل اللغوي، الذي يبرع فيه التجريبي المنطقي إلى أبعد حد)، بدلًا من أن نحاول استئصال ما لا يمكن استئصاله. وأنا شخصيًّا لا أرى أن الميتافيزيقا أحق من الشعر والفن بأن تستبعد من مجتمع الناس الطيبين. ولكني أيضًا لا أرى ما يدعونا إلى السماح لواضعي المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية بأن يدعوا بأنهم، لما كانوا يتعاملون مع عموميات، ويصدرون عبارات إخبارية تماثل من الناحية اللغوية عبارات العلم، فمن الواجب أن ننسب إليهم، من الوجهة المعرفية، نفس الفضل الذي ننسبه إلى العالم. فالتجريبي قد علمنا كيف نتحرر من هذا الوهم، ومن الروح القطعية التي ترتبت عليه في كثير من الأحيان، وليس هذا بالفضل البين.