الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
وعلى الرغم من أننا لن نحاول الحكم على هاتين الطريقتين في النظر إلى الفلسفة، فمن الواجب أن نشير إلى أن تعارض الموقفين اللذين تؤديان إليهما يدفع كلًّا منهما إلى تركيز اهتمامها على فرع مختلف من فروع الفلسفة، تتخذ منه محورًا لنشاطها العقلي. فإذا نظرنا إلى الفلسفة على أنها نشاط نظري قبل كل شيء لكان الأرجح أن نولي تفكيرنا شطر المشكلة الإبستمولوجية الميتافيزيقية. أما المدرسة التي تتخذ من الفلسفة مرشدًا في الحياة فتركز تفكيرها، إلى حد بعيد، في المشكلة الأخلاقية، وهي: ما الحياة الخيرة؟ فهذه المدرسة لا ترى للبحث الميتافيزيقي قيمة كبيرة ما لم يسفر عن «فلسفة في الحياة»؛ أي عن نوع من المذهب الأخلاقي المحدد المعالم. وفي مقابل ذلك، نجد أن أولئك الذين يمارسون النشاط العقلي بدافع الرضا الذي يبعثه فيهم هذا النشاط في ذاته، ينظرون إلى الأخلاق على أنها خاضعة للإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والميتافيزيقا. وهكذا فإنهم أقرب إلى القول بأن أهمية أي مذهب أخلاقي ودلالته تتوقف على صحة الموقف الميتافيزيقي الكامن من ورائه.
ولقد قدمنا في الفصول السابقة من عناصر الميتافيزيقا ونظرية المعرفة ما يكفي لإعطاء الطالب الذي يفضل النظر إلى الفلسفة على أنها وسيلة عقلية لقضاء الوقت، مادة غزيرة لنشاطه النظري. ولذا فإننا سننحاز في هذا الفصل وفي الفصلين التاليين إلى المجموعة ذات الاتجاه الأخلاقي، ونذهب معها إلى أن الهدف الرئيسي للفلسفة هو إنارة طريقنا ونحن بسبيل البحث عن الحياة الخيرة.
(١) مشكلة الخير
ومن الأسباب التي يرجع إليها هذا الخلط، وجود تقسيم في ميدان الأخلاق يتصف بأنه أساسي من جهة، ولكن يصعب وصفه أو الاحتفاظ به من جهة أخرى. فمن الممكن، من جهة، النظر إلى الأخلاق على أنها فرع للدراسة المنظمة للقيمة. وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي، ما طبيعة «الخير»؟ ومن الممكن، من جهة أخرى، أن ننظر إلى الأخلاق على أنها دراسة الإلزام، وفي هذه الحالة تكون مشكلتنا الأساسية هي طبيعة «الواجب» ومصدره. وسوف نقدم في الفصلين اللذين نبدؤهما الآن تحليلًا لهاتين المسألتين، مع تقديم الإجابات الرئيسية عنهما. وسيكون من الضروري لنا، توطئة للقيام بهذا التحليل، أن ندرك النتائج الرئيسية التي تترتب على كلٍّ من هاتين المسألتين.
فعندما تستخدم كلمة الإلزام بهذا المعنى المطلق غير المشروط، نجد أنفسنا على الفور إزاء مشكلة من أعقد مشكلات الفلسفة. ذلك لأن في وسع الشكاك دائمًا أن يتساءل: «لماذا كان ينبغي عليَّ أن أقوم بواجبي، وبخاصة عندما لا تكون في ذلك راحتي؟» أما بالنسبة إلى الفيلسوف، فلا يكفي أن نرد عليه بقولنا «هذا ما ينبغي لك عمله، لا أكثر ولا أقل». فلا بد للشخص المفكر أن يواجه، عاجلًا أو آجلًا، تلك المشكلة التي هي أصعب المشكلات الأخلاقية جميعًا، وأعني بها: من أين تأتي قوة الإلزام الخلقي؟ أو كما يصوغها البعض: من أين تأتي «وجوبية» الواجب؟ إن أي إلزام يتضمن ضرورة قيام شخص ما بعمل شيء ما. فما مصدر هذه الضرورة؟
في هذا الفصل، والفصل التالي، سوف نبحث في هذه الأوجه المتعددة للمشكلة الأخلاقية. ومن واجبنا أن نتذكر، ونحن ماضون في بحثنا، أنه، مهما يكن مقدار تعقد المشكلات، أو مدى الطابع النظري الذي ستتخذه المناقشة، فإن محاولتنا ستنصب على الإجابة عن أهم المشكلات العملية للإنسان وأعمقها وأشملها، وأعني بها: ما «الحياة الخيرة»؟ ومن سوء الحظ أنه ليس من الممكن الإتيان بإجابة لهذا السؤال تبلغ من البساطة حدًّا يعادل ما له من أهمية. ولكن لما كان الأمر هنا متعلقًا بتلك المشكلة الأساسية؛ أعني مشكلة ما ينبغي أن نصنعه بحياتنا، فليس لنا أن نتوقع أن نهتدي إلى إجابة واحدة بسيطة عليها.
(٢) ما مركز «الخير» في الكون؟
إن أول خلاف رئيسي يثار حول مشكلة «الخير» أو «القيمة» هو الخلاف المتعلق بمركز الخير؛ فهل للخير وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك «خير» بالمعنى العام، أم هو دائمًا نسبي تبعًا لرضا فرد معين أو تفضيله؟ وهل هناك أحكام تقويمية شاملة، تسري على كل الناس في كل مكان؟ وهل هناك شيء ينعقد إجماع الناس كلهم، بغضِّ النظر عن زمانهم أو مكانهم أو جنسهم أو حضارتهم، على وصفه «بالخير»؟ أم أن لكل شخص، في نهاية الأمر، نظرًا فرديًّا، وربما مزيدًا، من القيم؟ إن كل شخص يبدو أنه يحدد، عن وعي أو دون وعي، ما يعده ذا قيمة في العالم، وما يود أن يقضي حياته محاولًا بلوغه. فهل هناك أية معايير موضوعية نستطيع أن نحكم بها على نظام القيم هذا الذي تنطوي عليه أفعاله؟ أم أن عبارته المجردة «إنني أجد س خيرًا» هي الكلمة الأخيرة التي يمكن أن تقال في الموضوع؟
كل هذه أمور يتخذ منها صاحب النظرة الذاتية شواهد على أن القيمة لا توجد إلا في أذهاننا، فالحكم التقويمي ليس إيضاحًا الصفات كامنة في هذه الأشياء، تجعلها خيرة أو مرغوبًا فيها لذاتها (وهو قطعًا ليس وصفًا للوقع الموضوعي)، وإنما هو مجرد تعبير عن تفضيل. وهذا التفضيل في نهاية الأمر هو دائمًا تفضيل شخصي. فهو إعلان عما أحبه أنا ذاتي وأجده خيرًا، وعما يرضي رغبتي أو مصلحتي الخاصة، بل إن أحكامنا تتغير دائمًا حتى في مجال التفضيل الشخصي هذا. فلا حاجة بالمرء إلى أن يكون متشائمًا ساخرًا لكي يقول إن كل أحكامنا التقويمية لا تعبر فقط عن تفضيل شخصي، وإنما تمثل تفضيلًا مرهونًا باللحظة وحدها، ومعرَّضًا للتغير دون سابق إنذار. وإن أي «خير» إنما هو بالضرورة تجربة لفرد ما، وعندما تتفق مجموعة من الأشخاص على قيمة أية تجربة، فلن تكون لدينا مع ذلك إلا مجموعة من التجارب الفردية التي يحكم عليها بأنها خير. وهكذا فإن صاحب النظرة الذاتية لا يعرف القيمة بأنها كامنة في الأشياء أو المواقف، وإنما يعرفها بأنها كل ما يشبع رغبة أو حاجة أو مصلحة.
(٣) هل يوجد خير مطلق؟
هناك خلاف آخر وثيق الصلة بهذه المناقشة التي تدور بين النظريتين الموضوعية والذاتية في القيمة، هو الخلاف بين المعيارين المطلق والنسبي للخير. هذا الخلاف الثاني كان من الوجهة التاريخية أهم من الأول؛ لأنه يتصل اتصالًا وثيقًا بالنظرية القانونية والسياسية، فضلًا عن التفكير الديني. ولما كانت النظرة المطلقة هي الرأي «الرسمي» للحضارة الغربية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، ولما كان من الواضح أن الاتجاه النسبي المتزايد في أيامنا هذه إنما هو تمرد على هذه النظرة التقليدية، فسوف نبدأ ببحثه أولًا. وعلى الرغم من أن المعركة بين النظرتين المطلقة والنسبية تمتد إلى جميع أنواع الأحكام التقويمية، فسوف نقتصر هنا على مناقشتها في المجال الأخلاقي وحده.
وبطبيعة الحال فإن القائل بالمذهب المطلق يدرك أن المعايير الأخلاقية تبدو متفاوتة إلى حد هائل من عصر إلى آخر ومن مكان إلى مكان. فهو لم يكن بحاجة إلى انتظار الأنثروبولوجيا الحديثة لكي يعلم ذلك، أما أن هيرودوت، وهو أقدم مؤرخي اليونان، كان يجد لذة كبيرة في وصف مختلف المعايير السائدة في عصره. وكل ما فعلته الدراسة العلمية للإنسان هو أنها أكدت ما كان المثقفون يعلمونه على الدوام — ألا وهو أنه لا يكاد يوجد فعل نعده مذمومًا إلا وكان في وقت معين ومكان معين يعد فاضلًا، بل مقدسًا. غير أن نصير المذهب المطلق لا يجد في هذه المجموعة الكبيرة من الوقائع الأنثروبولوجية المتوافرة الآن أي دليل على بطلان رأيه؛ إذ هو يعتقد أن كل ما تثبته هذه التغيرات في المعايير والعادات الأخلاقية هو أن الناس كثيرًا ما يجهلون المعيار الواحد الحقيقي الصحيح. فكل ما يثبته رضاء آكل لحوم البشر عن عاداته الغذائية هو أنه شخص غير مستنير — وهذا لا يجعل سلوكه صحيحًا بأية حال، حتى بالنسبة إلى ذاته. فسلوكه يظل على الرغم من براءة الجهل الذي يعيش فيه، مضادًّا لقانونه الأخلاقي الصحيح، مثلما أن كل الأعداء مضاد لقانوننا. ذلك لأن هذا القانون الصحيح مطلق ثابت، مستقل عن المعرفة أو الجهل، مثلما هو مستقل عن الزمان والمكان.
ولا ينطوي المذهب المطلق على الاعتقاد بأننا اليوم أقرب بالضرورة، على أي نحو، إلى تحقيق أو ممارسة المعيار الصحيح من آكل لحوم البشر، أو مما كان عليه أجدادنا. فصاحب المذهب المطلق متسق مع ذاته؛ لأنه يعترف بأننا نحن بدورنا قد نكون جاهلين، أو قد تكون أخلاقيتنا غير كافية. وفضلًا عن ذلك فإن المعيار المطلق مستقل عن كل العادات الأخلاقية الفعلية، وضمنها عاداتنا، كما أن أحفادنا لن يكونوا بالضرورة أقرب إلى هذا المعيار المطلق منا. وبالاختصار، فهذا المذهب يرى أن مفهوم التطور أو «التقدم» الأخلاقي غير صحيح: فلا قدم العادة الأخلاقية ولا جدتها تعني أي شيء. وإنما المعيار الوحيد لتقدير المفاهيم والعادات الأخلاقية هو علاقتها بهذا المطلق اللازماني الثابت (أي الذي لا يتقدم). ومع ذلك فإن هذا الرأي لا تلزم عنه بالضرورة نزعة محافظة في الأخلاق. فمن الممكن جدًّا أن نكون سائرين باطراد نحو تحقيق هذا المعيار الصحيح الوحيد، ومن الممكن، بمنطق متساو، أن يكون القائل بالمذهب المطلق داعية إلى التجديد أو إلى الروح المحافظة في الأخلاق. وبالاختصار فإن موقفه لا يقتضي منه أن يمدح أي فعل أخلاقي محدد أو يذمه، وإنما هو يلزمه فقط بالاعتقاد بأن كل ما هو خير أو شر يصدق على الناس جميعًا، في كل مكان وزمان.
(٤) مصادر النزعة الأخلاقية المطلقة
-
(١)
المصدر التاريخي: ليس من الصعب أن نهتدي إلى المصدر الرئيسي للنزعة الأخلاقية المطلقة٣ ذلك لأن أصل الحضارة الغربية وأساسها مسيحي، وحين نقول «المسيحي» فإننا نعني (بالنسبة إلى الفلسفة) «التوحيدي». فالإيمان بإله واحد، يحكم الكون الذي خلقه، أساس للتفكير الديني للغرب. وفضلًا عن ذلك فإن هذا الإله عاقل، تظل أفكاره وأوامره متسقة مع ذاتها على الدوام٤ وهذه الأوامر شاملة، تنطبق على النحو جميعًا في كل مكان. ولما كان القانون الأخلاقي صادرًا عن هذا الإله العاقل المتسق مع ذاته، فمن المنطقي أن يكون قانونًا شاملًا ثابتًا. ذلك لأن الإله المطلق لا يمكن أن يضع إلا قانونًا أخلاقيًّا مطلقًا. وعلى ذلك فإن تباين المعايير الأخلاقية التي نلاحظها من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، لا يمكن أن يكون راجعًا إلا إلى الجهل بإرادة الله. ولو كان الناس جميعًا يعرفون الإرادة الإلهية، لكان لهم جميعًا قانون أخلاقي واحد، ولوصف الجميع نفس الأشياء بأنها «خيرة» ونفس الأفعال بأنها «صالحة».
ومما له دلالته أنه، مثلما أن الناس في الحضارة الغربية قد ظلوا حتى عهد قريب يأخذون وجود إله واحد قضية مسلَّمة، فإنهم أيضًا كانوا ينظرون إلى وجود معيار أخلاقي مطلق على أنه أمر واضح بذاته. والواقع أن كل الحجج الفلسفية التقليدية الخاصة بالمعايير الأخلاقية، حتى تلك التي أتى بها مفكر عميق مثل إمانويل كانت، كانت تبدأ بالتسليم بوجود معيار مطلق كهذا. فما دام التوحيد المسيحي قد ظل هو العقيدة السائدة بلا منازع، فقد كان من المحتم أن يكون التفكير الأخلاقي ذا نزعة مطلقة.
-
(٢)
المصدر المنطقي: لا يتميز الأساس المنطقي للنزعة المطلقة بنفس الوضوح الذي يتميز به أساسها التاريخي، غير أن للأول أهمية أعظم بكثير بالنسبة إلى الفكر المعاصر؛ ذلك لأن أنصار المذهب المطلق في الأخلاق قد ظلوا طوال أكثر من قرن من الزمان يحاولون تقديم دعامة عقلية، ومنطقية، تحل محل الأساس الذي كانت عقيدة التوحيد تقدمه من قبل. وربما كان «كانت» أشهر هؤلاء العقليين في ميدان الأخلاق. وقد كان يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقوانين المنطق، فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض منطقي. ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها «كانت» في هذا الصدد، فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به، فإن سلوكنا يكون شرًّا لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد. أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعود. ولكني إذا أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده، ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملًا. ولو أخلف كل شخص وعوده، لما عاد أحد يؤمن بالوعود، ولكان لدينا مبدأ آخر — هو أن من الصحيح أن أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد — وهو مبدأ يتناقض مع الأول. ولقد كان «كانت» يعتقد أن جميع أمثلة الشر يمكن أن ترد بدورها إلى أمثلة لانعدام الاتساق المنطقي. وهكذا يصبح قانون عدم التناقض هو المبدأ الأساسي للأخلاق، كما كان دائمًا بالنسبة إلى المنطق.
-
(٣)
المصدر الكيفي: من أحدث المحاولات التي بُذلت لإيجاد أساس عقلي للنزعة المطلقة، نظرية سبق لنا الإشارة إليها: «فالخير» كيفية لا تعرف، ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو أفعال أو مواقف معينة، وهي كيفية شبيهة بالكيفيات اللونية، كالأصفر مثلًا. وعلى الرغم من أن العالم الفيزيائي يستطيع تعريف الأصفر على أساس كمي (فيقول إنه كذا من الذبذبات في الثانية في أثير مفترض)، فإن أي لون يشكل، بالنسبة إلى تجربتنا المباشرة، معطى حسيٌّ لا يرد إلى غيره، ولا يمكن أن يعرف إلا بالتجربة. وكذلك فإن القيمة، (وهي في هذه الحالة، القيمة الأخلاقية) كيفية لا تعرف ولا ترد إلى غيرها، تتصف بها أشياء أو مواقف معينة، مثلما تتصف الليمونة بالاصفرار.
(٥) الثورة على النزعة المطلقة
ويمكن وصف النسبية، باختصار، بأنها مذهب يقف على طرفَي نقيض مع كل ما هو أساسي في النزعة المطلقة. فبينما النزعة المطلقة واحدية، فإن النسبية تميل بشدة إلى التعددية. وبدلًا من قانون أخلاقي واحد شامل ثابت، تقول النسبية بعدد كبير من هذه القوانين. وبدلًا من «خير» واحد، نجد هنا عددًا لا حصر له من حالات «الخير» فحسب. وبدلًا من «القيمة» بمعناها الشامل، نجد «قيمًا» فقط. وبالاختصار، فهذه المدرسة ترى أن كل خير نسبي، إما تبعًا لما تقول الجماعة إنه صواب، وإما تبعًا لما يشعر الفرد أنه صواب. وكل قيمة نسبية تبعًا للزمان والمكان والمدينة، وهي تتوقف على طبيعة النوع البشري وحاجات الكائن العضوي الفردي في داخل هذا النوع. أما الكلام عن «الخير» بوصفه شيئًا مستقلًّا عن هذه فلا معنى له. ويرى النسبي أن من المستحيل بوجه خاص، تجاهل طبيعة النوع الإنساني والاهتمامات الفريدة المميزة للبشرية. ولذا فإن كل ما يقوله أنصار المطلق عن «الخير الكوني» الذي يفترض أنه يسري على أي نوع يمكن تصوره من المخلوقات العاقلة، وضمنها أهل المريخ أو الملائكة، إنما هو محض هراء.
ومع ذلك فقد حدثت خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة عدة أمور جعلت امتداد النسبية إلى ميدان الأخلاق أمرًا لا يقل عن ذلك النمو الهائل في العلم. ولقد كانت النتيجة النهائية لهذا النمو هي جعل الإيمان بألوهية واحدية، أو بنظام مطلق من القيم، أصعب مما كان في أيام «كانت». والعامل الثاني الذي أدى إلى ظهور النسبية الأخلاقية هو بداية عهد علم اجتماعي وتطور علم آخر: فقد ظهرت تلك الدراسة العلمية التي نطلق عليها اسم الأنثروبولوجيا، كما أن التاريخ أصبح يرتكز على أساس متين من البحث والدراسة. وقد أدى هذان المبحثان إلى تكديس مجموعة رائعة من المعلومات حول موضوع تغير العادات البشرية والمعايير الأخلاقية، بحيث لا يجد المرء مفرًّا من أن يستشف نزعة من هذه الأدلة التراكمية. وثالثًا فإن لنظرية التطور نتائج نسبية؛ إذ إنها توحي بأن المعايير الأخلاقية قد تطورت مع المجتمع والنظم البشرية. ومثل هذا التطور الأخلاقي ينطوي بدوره على القول بأن التغير أساسي للأخلاق مثلما أنه أساسي للبيولوجيا، والتغير يؤدي منطقيًّا إلى إنكار أي معيار مطلق.
(٦) نتائج النسبية
إن الجميع يعلمون أن الممارسة الأخلاقية نسبية، والكثيرون يتوسعون في هذه الحقيقة وينظرون إلى كل المعايير الأخلاقية على أنها نسبية. ومع ذلك فإن القائل بالنزعة المطلقة يكون واثقًا أن أي شخص عاقل لا بد أن يقبل النتائج المنطقية لمثل هذا التوسع. فهو أولًا يعني (في رأي المذهب المطلق) أنه لا يمكن أن يكون هناك معيار للحكم على قانون أخلاقي معين بأنه أفضل أو أسوأ من الآخر، أو أعلى منه أو أدنى. فلن تكون هناك عندئذٍ أسس سليمة لتقويم السلوك، فيما عدا اتفاقه مع العرف المحلي أو القومي. ولنتأمل النتائج الكاملة لهذا الموقف: فإذا كان كل «خير» أو «صواب» نسبيًّا تبعًا للزمان والمكان والظروف، وإذا كان سلوك الرجل الشرقي «صوابًا» ما دام يتفق مع المعايير الشرقية، وسلوك الرجل الغربي صوابًا إذا كان يرضي أمزجة الغربيين، فعندئذٍ يمكن القول إن الالتجاء إلى التعذيب في عدالة العصور الوسطى كان صوابًا، وأن المحاولات التي بذلت لإبطال عادةِ الهنود في دفن الأرامل بعد موت أزواجهن كانت محاولات خاطئة. ويواصل أنصار المطلق كلامهم فيقولون إن هناك نتيجة ثانية للنسبية، هي أن من المستحيل وجود تقدم أخلاقي في ظل معيار نسبي. فكيف نقول إن إلغاء الرق كان «خيرًا» أو أن إنهاء الحروب سيكون «خيرًا»، أو أن الأخلاق التي دعا إليها المسيح «أرفع» من تلك التي جاءت في العهد القديم؟ وثالثًا فلماذا يحاول أي شخص أن يحيا حياة أخلاقية «أفضل»؟ «أفضل» من أي شيء؟ إننا نستطيع أن نقول إن السلوك الأخلاقي لشخص معين قد ازداد اقترابًا من معايير عصره أو مجتمعه، أو نقول إنه يسلك الآن بطريقة تزيد من سعادته أو من رضا المجتمع عنه. ولكن ما لم يكن هناك معيار مشترك، شامل (أعني غير نسبي) يغدو أي حديث عن «الأفضل» أو «الأسوأ»، وعن «الأعلى» أو «الأدنى» يغدو لغوًا، بل إن لنا أن نتساءل: ما الذي يمكن أن تعنيه ألفاظ مثل «الصواب» و«الخطأ» في مذهب يلتزم النسبية بدقة؟ من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون ذات معنى له أدنى صلة بما كانت هذه الألفاظ تعنيه في الماضي.
(٧) تصنيف القيم
-
(١)
القيم الكامنة والقيم الوسيلية: ينعقد الإجماع على أن التقابل الأساسي في أي تصنيف للقيم هو التقابل بين القيم الكامنة والقيم الوسيلية. وقد أتيحت لنا من قبل فرصة الإشارة إلى هذا التقسيم في فصول سابقة. ويمكن القول باختصار أن القيمة الكامنة هي تلك التي لا تخدم غاية معينة؛ أي تلك التي لا تستمد دلالتها من كونها وسيلة لغاية معينة أخرى. فهي خير في ذاتها وبذاتها ولذاتها، دون إشارة إلى قيمة أخرى أشمل منها. وربما كان أفضل مثل للخير الكامن هو «السعادة». فمن الواضح أننا لا ننشد السعادة من أجل أي شيء غير السعادة؛ أي إننا لا نطلب السعادة من أجل الحصول على شيء غيرها. فهي ليست وسيلة لأي شيء خارج عنها، وإنما تكون لها قيمتها دون إشارة إلى أي شيء غيرها.
وفي مقابل هذه القيمة الكامنة توجد معظم الأمور التي نسميها عادةً «خيرًا». وأن التحليل ليبين أن معظم الأشياء التي ننشدها، أو المواقف التي نسعى إلى تحقيقها، لا تكون لها قيمة عندنا إلا من حيث هي وسيلة لبلوغ شيء له قيمة كامنة أو باطنة. وأوضح مثل لهذا الخير «الوسيلي» هو المال. فمن الواضح أن المال لا تكون له قيمة إلا من حيث هو وسيلة لكثير من الأمور المرغوب فيها في الحياة. ولا يمكن أن يعده أحد، فيما عدا البخيل، خيرًا في ذاته، أو شيئًا يكتسب ويكدس دون نظر إلى الحاجة التي يلبيها أو الرضا الذي يمكنه أن يجلبه.
مشكلة القيم الكامنة: يستطيع المفكر الأخلاقي أن يدرك بسرعة أن هناك ثلاثة أمور تنطوي عليها أية علاقة بين القيم الكامنة والوسيلية. الأول هو أن القيم التي هي كامنة بحق قليلة جدًّا. وقد انتهى بعض الثقات إلى أنه قد لا تكون هناك إلا قيمة كامنة واحدة فحسب، بل لقد أنكروا أن تكون هناك أية قيمة يمكن تصنيفها على أنها كامنة بالمعنى المطلق. وثانيًا، فمن الضروري تعويد أنفسنا على التمييز الدقيق بين فئتَي القيم هاتين إذا شئنا أن ننظم حياتنا وأوجه نشاطنا الأخلاقي بحكمة. وأخيرًا فإن الفيلسوف، شأنه شأن أي شخص مفكر، يدرك بألم صعوبة احتفاظ معظم الأشخاص، ومنهم هو ذاته، بهذا التمييز في أذهانهم. ذلك لأن الناس جميعًا يميلون إلى الخلط بين فئتي الخير، وكثيرًا ما نسلك وكأن هدفنا المباشر (الذي يكاد في كل الأحوال يكون قيمة وسيلية فحسب) يتميز بالأهمية القصوى التي تتصف بها القيمة الكامنة الحقيقية. فمن السهل أن ننسى أن معظم الأشياء التي نفعلها لا يكون لها معنى إلا لأنها تخدم غاية أوسع منها، «كالسعادة» أو «الرضا» أو «راحة الضمير».ولقد رأى بعض المفكرين أن التمييز بين الخير الكامن والخير الوسيلي هو التمييز الرئيسي في الأخلاق. ومن المؤكد أنه لا يكاد يكون هناك تمييز أهم منه بالنسبة إلى البحث النفسي في الإرضاء أو الإشباع. وعلى هذا الأساس تكون «الحياة الخيرة» هي التي تؤدي إلى أقصى حد من الخير الكامن، وفي الوقت ذاته تنظم القيم الوسيلية على أساس أنها تخدم القيم الكامنة. والمشكلة الرئيسية في كل حياة نود أن نعيشها بحكمة، هي أن نقرر ما له قيمة كامنة، ثم ننظم حياتنا على أساس تحقيق هذا الشيء وحده ونرفض أن نخضع لإغراء تبديد وقتنا وطاقتنا سعيًا وراء الوسائل المجردة وكأنها غايات الحياة أو أهدافها.
-
(٢)
القيم العليا والدنيا: أما التصنيفات الأخرى الممكنة في مجال الأخلاق، فتبدو أقل أهمية بالقياس إلى تقسيم القيم إلى كامنة ووسيلية. والواقع أن مجرد الاكتفاء بالإشارة الموجزة إليها كافٍ لتحقيق غرضنا، الذي هو إعطاء القارئ فكرة عامة عن ميدان الأخلاق بدلًا من أن نعرض عليه تفاصيل هذا اليدان، وهناك كاتب مشهور في ميدان الأخلاق، هو و. م. إيربان W. M. Urban، يصنف القيم على أنها عضوية (أي جسمية واقتصادية وترويحية)، وفوق العضوية (أي الشخصية والعقلية والجمالية والدينية).٩ وهناك تقسيم آخر مماثل، ولكنه أشهر إلى حد ما، هو تقسيم القيم على أساس الأعلى والأدنى. ولكن من سوء الحظ أنه لا يوجد دائمًا اتفاق حول تحديد موضع التقسيم بدقة، كما أنه ليس من الممكن التعبير على نحوٍ مُرضٍ عن الأساس الدقيق لهذه القسمة الثنائية. ومع ذلك فمن المتفق عليه عامة أن القيم العليا أرق، وأدق، وأرهف، وأنفس، وأنها تفترض القيم الدنيا التي لا يمكن أن تظهر العليا بدونها.١٠ أما الدنيا فلا تعتمد على العليا. مثال ذلك أن القيم العقلية تفترض القيم الجسمية، بل والاقتصادية، غير أن الصحة والدخل الكافي لا يتوقفان على حب المعرفة أو عشق الحقيقة.وعلى الرغم من أن هذا التمييز بين القيم العليا والدنيا كان أمرًا مألوفًا شائعًا في المناقشات الأخلاقية في القرن التاسع عشر، فإن هذين اللفظين لم يعودا اليوم يحوزان رضا المفكرين الأخلاقيين. وقد يكون من الممكن تعريف فئتي القيم هاتين على نحو يجعلهما تحوزان قبولًا أوسع في الوقت الحالي، ولكن حتى لو اقتصرنا على الاستخدام الدقيق لهما فسوف ينطويان حتمًا على ثنائية أخلاقية. وهذه الثنائية تبلغ في بعض الأحيان حدًّا من التطرف يؤدي إلى ظهور النزعة التطهرية Puritanism والنزعة الزاهدة نتيجة لها. فمن السهل التوحيد بين القيم الدنيا وبين الإشباع المادي بكل أنواعه، على حين أن القيم العليا تصبح تلك التي لا تشوبها أية شائبة مادية. هذه التفرقة تنطوي ضمنًا على القول إن أي إرضاء مادي لا يمكن إلا أن يكون «أدنى»، على حين أن كل القيم المرتبطة بأعمال الإنسان في المجال الذهني والروحي تضمن لنفسها مكانة «عالية».
وربما كان الاعتراض الرئيسي الذي يوجه إلى هذا التصنيف راجعًا إلى الألفاظ المستخدمة ذاتها. «فالأعلى» و«الأدنى» هما بالطبع محايدان غير تقويميين، عندما يستخدمان في معناهما الأصلي للدلالة على العلاقات المكانية. ولكن لفظ «الأدنى» عندما يستخدم في الأخلاق يعبر دائمًا عن نوع من التحقير؛ إذ إنه يوحي بقيمة أقل جدارة أو نبلًا أو نقاء مما نفترض أن القيم «العليا» تكون عليه. ولو لم يكن اللفظان مرتبطين بالجسم من جهة والروح من جهة أخرى، لما أثيرت ضدهما اعتراضات ذات بال. أما بالطريقة التي يستخدمان بها عادة، فإنهما يدلان على تقابل ثنائي — بل على صراع — بين البدن والروح، وهو تقابل لم يعد الفكر المعاصر يسلم به.
-
(٣)
القيم الاشتمالية والاستبعادية: هناك تمييز آخر أوضح وأقل إثارة للخلاف، هو التمييز بين القيم الاشتمالية Inclusive والاستبعادية Exclusive. مثال ذلك أن القيم الاقتصادية تكون عادةً استبعادية؛ إذ إن امتلاكي يحول بينك وبين كل شخص من أن يمتلك نفس هذه الأشياء. وفي مقابل ذلك نجد أن قيمة مثل الدعابة ليست قيمة يمكن أن يشترك فيها الناس فحسب، بل إنها قد تزيد إذا أمكن أن يشترك شخص آخر أو أشخاص آخرون في موقف الدعابة. ففي صالة العرض السينمائي أو المسرحي مثلًا نجد في كثير من الأحيان أن الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم بعضًا ينظرون بعضهم إلى بعض عندما يضحكون على شيء على خشبة المسرح أو على الشاشة، والسبب الواضح لذلك هو أنهم يجدون أن رغبتهم في الضحك تزيد عندما تقع عيونهم على عين جارهم. وهناك مثال آخر للقيمة الاشتمالية، هو الاستمتاع بالجمال. فمعظمنا يجد هذه اللذة أعظم بكثير عندما يكون في استطاعتنا مشاركة غيرنا في التجربة الجمالية. ولا بد أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين يؤدي وجودهم إلى تقوية شعورنا بالجمال — لسبب ما غريب — أشخاصًا لا نحبهم، وذلك على العكس مما يحدث في حالة الدعابة أو الضحك، الذي قد يؤدي وجود غرباء عارضين فيه إلى زيادته كثيرًا (كما ذكرنا منذ قليل). وفضلًا عن ذلك فيبدو أن قيمة الجمال تتناسب طرديًّا مع درجة ميلنا إلى زملائنا في التجربة المشتركة: وكلنا نلاحظ التأثير الهائل للجمال في المحبين. وكلنا نعلم بنفس المقدار مدى الكآبة التي تلقي ظلها على الموقف الجمالي نتيجة لوجود أشخاص نكرههم.
-
(٤)
القيم الدائمة والقيم العابرة: هناك تصنيف آخر للقيم يميز بين القيم الدائمة والعابرة. وعلى عكس ما قد نتوقع، فليس صحيحًا أن القيم الدائمة ينبغي تفضيلها دائمًا على القيم العابرة. ففي حالة اللذة الجسمية مثلًا، نجد أن الشدة مصحوبة بقصر الأمد قد تكون مفضلة على الاعتدال المقترن بالامتداد الزمني. فلا شك أن جرعة ماء بالنسبة إلى شخص يموت من العطش تفوق وقت شربها كل القيم الدائمة للفن والدين مجتمعين. وبعبارة أخرى فنحن لا نكون حكماء بحيث نفضل قيمة دائمة على قيمة عابرة إلا إذا كانت القيمتان متساويتين في كل النواحي الأخرى. فمن الواضح أن تفضيل القيمة الدائمة واجب إذا كانت الأمور الأخرى متساوية. ولكن من سوء الحظ أن من الصعب في كثير من الأحيان إيجاد موقف تتساوى فيه كل الأمور الأخرى، لا سيما فيما يتعلق برغباتنا. ففي أغلب الأحيان يكون العصفور الموجود في اليد خيرًا من عشرة على الشجرة، ولا بد من حكمة أخلاقية كاملة لتفضيل القيمة الدائمة في المستقبل على الخير المعترف بأنه عابر، والذي يوجد أمامنا مباشرة، وينتظرنا لنستمتع به في اللحظة الراهنة.
(٨) السلم المتدرج للقيم: «الخير الأسمى»
وهناك صفة ثالثة ينبغي أن يتميز بها كل خير أسمى، هي إمكان تحقيقه جزئيًّا على الأقل، ذلك لأن المثل الأعلى للقيم، الذي يبلغ من الرفعة حدًّا يجعل من المستحيل تحقيقه ولو بصورة جزئية، لن تكون له إلا صلة عملية واهية بالحياة البشرية. ولكن ينبغي أن يلاحظ أن الخير الأسمى لا يشترط فيه أن يكون من الممكن بلوغه كاملًا. فيكفي أن يشعر الناس بإمكان تحقيقه بما يكفي لتبرير تكريس الحياة من أجل بلوغ هذا الهدف. كذلك فإن الاعتبارات العملية توحي بأن أية قيمة نرشحها لتكون خيرًا أسمى، ينبغي أن يكون من الممكن بناء خطة للحياة حولها. فإذا كان المثل الأعلى أكثر غموضًا أو تجريدًا مما ينبغي، وإذا كان يقتضي التضحية بتلك اللذات اليومية القليلة التي تبدو لازمة لكي نحس بأننا نحيا حياة طيبة، أو إذا كان يبلغ من طول المدى حدًّا لا نرى معه لجهودنا نتائج مباشرة، فعندئذٍ يصبح لا قيمة له كمثل أخلاقي أعلى. وهذا هو النقد الذي وجه في كثير من الأحيان إلى بعض المثل العليا التي اقترحها الفلاسفة واللاهوتيون. فقد يكون في استطاعة الخير الشامل (أو السماء في حالة اللاهوت) أن ينتظر، ولكن لا بد للإنسان خلال ذلك أن يستمتع بشيء من الرضا والإشباع.
والآن وقد حددنا شروط الخير الأسمى، وأوضحنا بإيجاز العلاقة العامة بين أي حد نهائي أخلاقي كهذا وبين تجربتنا الكاملة، فلنعد إلى بحثنا لمختلف القيم المرشحة لنيل هذا الشرف الرفيع.