الفصل الثالث عشر
الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
الآن، وبعد أن اتضحت لنا أهمية «الخير الأسمى» في
التفكير الأخلاقي، وكذلك بعض الصفات التي ينبغي أن تتوافر في أية قيمة تود أن تحتل هذا
المركز بطريقة مشروعة، ننتقل إلى بحث القيم الممكنة التي تتنافس على هذا الشرف، لعل أولى
هذه القيم هي أقدم قيمة مرشحة في هذه الانتخابات الأخلاقية، وهي قطعًا أشهرها — وأعني
بها اللذة.
١ وتعرف المدرسة التي تعد اللذة خيرًا أسمى وأساسًا لكل قيمة باسم «مذهب اللذة
Hedonism» واللفظ الإنجليزي من كلمة
Hedone اليونانية، ومعناها اللذة. وتشكل وجهة نظر هذه
المدرسة قطبًا من الأخلاق يمكن مقارنته، من حيث الأهمية، بالمذهب الطبيعي أو المذهب المثالي
في الميتافيزيقا. وكما أن قدرًا كبيرًا من النشاط الفلسفي يمكن أن يفهم على أفضل نحو
بوصفه
صراعًا بين هذين القطبين، فكذلك يكشف قدر كبير من التفكير الأخلاقي عن صراع دائم بين
مذهب
اللذة وبين مذهب مختلف المدارس المضادة للذة.
جوهر مذهب اللذة: يبدو موقف مذهب اللذة، في جوهره،
بسيطًا للغاية. «فالخير» يعد في هوية مع «اللاذ»، و«الشر» مع «غير اللاذ». فاللذة وحدها
هي
التي لها قيمة عليا في نظر صاحب هذا المذهب. والواقع أن من أوضح أسباب جاذبية وجهة النظر
هذه، بساطتها الظاهرة. ومع ذلك فإن أي مذهب أعقد مما يبدو لأول وهلة؛ إذ إنه ربما كان
يشتمل
على ما يقرب من ستة أفكار منفصلة. فأولًا، تعد اللذة والألم مشاعر؛ أي مشاعر غير قابلة
للتحليل، ولا يمكن ردها إلى أصول نفسية أبعد منها. وهما غير قابلين للتعريف أو الوصف.
ومن
حسن الحظ أن طابع عدم القابلية للتعريف هذا لا يقضي على النظرية تمامًا؛ إذ إننا نعرف
جميعًا بالتجربة المباشرة ما هي اللذة وما هو الألم. وثانيًا ينظر مذهب اللذة إلى كل
شعور
باللذة على أنه خير، وكل شعور بالألم على أنه شر، بالنسبة إلى الفرد الذي يمارسه،
٢ فهذه تجارب مطلقة تكون خيريتها أو شريتها مستقلة عن كل شيء آخر. وثالثًا تعد كل
اللذات، في مذهب اللذة الخاصة، من نوع واحد. فللذة لذة، والألم ألم، بغضِّ النظر عن المصدر.
وهذا يؤدي بالضرورة إلى إرجاع الفارق بين أية لذتين على أساس كمي. فالأرجح أن يكون الفارق
بين أية تجربتين في اللذة فارقًا في الشدة والمدة، وقد تكون إحداهما أنقى من الأخرى (أي
أقل
امتزاجًا بالألم)، ولكنهما فيما عدا هذه الفوارق الكمية متماثلتان. مثل هذا الرد للكيف
إلى
الكم يعني أن التقدير النهائي لأية تجربة يتحدد حسب كمية اللذة والألم تسفر عنها، وهذه
الكمية يمكن الاهتداء إليها عن طريق ضرب شدة الشعور في مدته. وهذا بدوره يوحي بما يسمى
بحساب اللذات
Hedonic Calculus، الذي نقارن فيه اللذات
بعضها ببعض على أساس عائدها من اللذة أو الألم، ثم نقوم الموضوع أو الموقف تبعًا لهذه
النتيجة الرياضية. فإذا كانت نتيجة الجمع الجبري زيادة إيجابية في اللذة، كان الموقف
أو
الموضوع الذي نبحثه «خيرًا»، وإذا انتهينا إلى إجابة سلبية؛ أي إلى ألم يفوق اللذة —
كان «شرًّا».
٣
(١) نوعان من مذهب اللذة
النوع النفسي
ينبغي، قبل أن نمضي إلى أبعد من ذلك، أن نضع تفرقة أساسية بين مذهب اللذة النفسي
ومذهب اللذة الأخلاقي، فالأول، كما يوحي به اسمه، أقرب إلى النظرية النفسية منه إلى
المذهب الفلسفي. وبدلًا من أن يكون مذهب اللذة النفسية هذا متعلقًا بمسألة ما يبغي
أن يفعله الناس (أي ما ينبغي أن يرغب فيه) — وهو ما يتوقع من أية نظرية أخلاقية —
فإنه يقتصر على بحث سلوك الناس الفعلي (أي ما يرغب فيه فعلًا). وتنكر المدرسة
النفسية أن للإلزام أية صلة بالموضوع. فكل الحيوانات، وضمنها الإنسان، لها تركيب من
شأنه أن يجعلها تبحث آليًّا عن اللذة وتتجنب الألم. هذا هو قانون الطبيعة الشامل
الذي لا يحتمل استثناء. فاللذة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه بوصفه غاية في ذاته،
والسعي إليها هو الدافع الأول لأوجه النشاط الحيوية. ولما كنا لا نستطيع أن نرغب في
أي شيء غيرها، فمن الواضح أن التساؤل عما إذا كان ينبغي أن تكون لنا أهداف أخرى أم
لا، ليس إلا مضيعة للوقت، بل إن الاهتمام الوحيد المشروع للأخلاق، ومن وجهة نظر
صاحب مذهب اللذة النفسي، هو مسألة الطريقة التي يمكننا بها تحقيق أكبر قدر من
اللذة، أو النجاح إلى أقصى حد في تجنب الألم.
الحجج المضادة لمذهب اللذة النفسي: (١) اللذة ناتج
ثانوي: كان لمذهب اللذة النفسي على الدوام أنصار كثيرون، وذلك نظرًا
إلى شدة وضوح هذا المذهب وبساطة التفسير الذي يقدمه للسلوك الإنساني. ومع ذلك فإن
أنصار هذا المذهب لم يجيئوا عادةً من بين صفوف الفلاسفة، بل من بين صفوف عامة
الناس. فقد أدرك المفكر الأخلاقي منذ وقت طويل أن هذا الوضوح الظاهر يخفي وراءه
اعتراضات كثيرة. أهم هذه الاعتراضات هو تلك الملاحظة التي أبداها أرسطو منذ وقت
طويل، وأيدتها شواهد كثيرة منذ ذلك الحين، وهي أن الناس قلما ينشدون اللذة مباشرة.
كذلك فإنهم قلما ينشدونها عن وعي، بل إننا نرغب بدلًا من ذلك في موضوعات محددة أو
مواقف عينية، بحيث لا تكون اللذة أو الإشباع إلا ناتجًا ثانويًّا لسعينا إليها أو
بلوغنا إياها. فعندما نكون جياعًا نبحث عن الطعام، لا عن لذة الأكل (التي هي
عارضة)، وعندما نكون في حالة حب نبحث عن موضوع حبنا، لا عن لذة الحب. فاللذة، كما
أشار أرسطو، هي حالة شعورية تنشأ عندما يقوم الكائن العضوي بأي عمل من الأعمال
المتعددة التي يصلح لها دون أن يعترض طريقه شيء. غير أن اللذة عارضة بالنسبة إلى
النشاط أو العمل ذاته. فنحن لا نقوم بالعمل من أجل اللذة الناتجة، وإنما من أجل
الوصول إلى أشياء معينة أو تحقيق مواقف خاصة. «إن الشخص الذي يرغب في الطعام يرغب
في الطعام، والشخص الذي يرغب في لعب البلياردو يرغب في لعب البلياردو، والشخص الذي
يرغب في تنصير الكافر يرغب في تنصير الكافر — لا في اللذة، بل إن فكرة اللذة قد لا
تطرأ على ذهنه مطلقًا».
٤
ويشعر القائل بمذهب اللذة بأن من السهل عليه الرد على هذه الحجة. فهو يعترف بأن
فكرة اللذة قد لا تكون موجودة بوصفها غاية واعية، ولكنه يؤكد أن الهدف النهائي مع
ذلك هو نوع من اللذة أو الإشباع. أما كوننا غير واعين بهدفنا، أو لم نصرح به، فليس
دليلًا على أننا سنؤدي الفعل، سواء أجلب لنا لذة أو لم يجلب.
على أن مثل هذا الخلاف عقيم، ما دام من الواضح أن طبيعته ذاتها تجعل من المستحيل
الوصول إلى تسوية له. فخصم مذهب اللذة على حق عندما يشير إلى أننا لا نستهدف اللذة
في العادة عندما نسلك. ولكننا من جهة أخرى لا نستطيع أن نثبت أن القائل بمذهب اللذة
على خطأ عندما يقول إن توقع اللذة هو الدافع النهائي لكل سلوك — حتى لو كان دافعًا
غير واع. ذلك لأن مذهب اللذة يبدو مرتكزًا على أرض ثابتة عندما يذكر أن كثيرًا من
الأفعال لن تتكرر لو لم تجلب لذة أو تُزِل ألمًا. وهكذا يبدو أن المشكلة الحقيقية
هي ما إذا كانت هذه الحقيقة تثبت أن مبدأ اللذة والألم هو أساس كل الدوافع. ولكن
لما كان كل جواب على هذه المسألة مستحيلًا، فإن لكلِّ جانبٍ الحرية في تكوين فرضه
النظري الخاص.
(٢) مفارقة مذهب اللذة: والاعتراض الثاني على
مذهب اللذة النفسي ينطوي على ما يسمى بمفارقة مذهب اللذة، التي تشير إلى أن استهداف
اللذة مباشرة يؤدي عادةً إلى أن تفوتنا اللذة. والدليل الذي يساق في هذا الصدد هو
التعاسة الملحوظة التي يشعر بها محترف السعي إلى اللذة. وهكذا يقال إننا لو رأينا
شخصًا يقضي وقتًا طيبًا فلن نجده من بين الساعين إلى اللذة، وإنما سنكتشف أنه شخص
يشيد بيتًا، أو يصنع رداء، أو يكافح في مهنته، أو يربي أسرة، أو يقرأ كتابًا. فهذا
الشخص السعيد سيكون دائمًا مشغولًا في عمل يستهدف تحقيق مهمة محددة. وبالاختصار،
فلا بد لنا — كما يقول المفكرون الأخلاقيون، وكذلك علماء النفس في الآونة الأخيرة —
إذا شئنا الوصول إلى السعادة القصوى، من أن ننسى أننا نسعى إليها، ونمحو أنفسنا في
نشاط ما، أو نكرس أنفسنا لقضية معينة، أو ندخل في علاقة شخصية نستغرق فيها، ويكون
فيها منفذ لطاقاتنا ونقطة ارتكاز لأحلامنا.
النوع الأخلاقي
عندما تحول نظرية القيمة المرتكزة على فكرة اللذة إلى المجال الأخلاقي، نكون إزاء
مذهب اللذة الأخلاقي. ووجهة النظر هذه لا تتعلق فقط بما هو كائن (كما هي الحال في
مذهب اللذة النفسي)، وإنما هي أكثر تعلقًا بما ينبغي أن يكون. والواقع أن مذهب
اللذة الأخلاقي أهم بكثير بالنسبة إلى الفلسفة في مجموعها من نظيره النفسي؛ إذ إن
الأخلاق تهتم أساسًا بوضع معايير للسلوك.
مذهب اللذة الأناني في مقابل الاجتماعي: يمكن
تقسيم المدارس المختلفة المنتمية إلى مذهب اللذة الأخلاقي إلى فئتين، هما: مذهب
اللذة «الأناني»، ومذهب اللذة «العامة» أو مذهب المنفعة. ونستطيع أن نقول بوجه عام
إن المذهب الأناني مميز للتفكير القديم، على حين أن مذهب المنفعة يمثل وجهة النظر
الحديثة. وترى النظرة الأنانية أن كل تقويم للسلوك على أنه خير أو شر، صواب أو خطأ،
ينبغي أن يتم بالقياس إلى الفاعل؛ أي على أساس مقدار ما يجلبه الفعل من لذة أو ألم
للفاعل شخصيًّا. أما المدرسة القائلة باللذة العامة فإن معيارها أقل أنانية. فهي
ترى أن أي سلوك ينبغي أن يُنظر إليه على أساس قيمته لجميع الأشخاص الذين يتأثرون
به؛ أي على أساس مقدار اللذة والألم الذي يجلبه لكل فرد في الجماعة الكاملة التي
يتعلق بها الفعل. ومن الممكن بطبيعة الحال أن يقال إن مصلحة الفرد متفقة في نهاية
الأمر مع مصلحة الجماعة، وبالفعل نجد أن أصحاب مذهب اللذة المحدثين قد بذلوا جهودًا
كبيرة في محاولة إثبات هوية المصالح هذه. ومع ذلك فإن التمييز بين وجهتَي النظر
الشخصية والاجتماعية كانت له أهميته من الناحية التاريخية. وسوف يزداد ذلك وضوحًا
إذا حللنا آراء أربعة مفكرين، اثنين منهم كانا من أنصار «الأنانية» والاثنين
الآخرين كانا من أنصار «العمومية».
رأى أرستيبوس المتطرف: كان أول القائلين بمذهب
اللذة، وربما أكثرهم تطرفًا، هو أرستيبوس Aristippus الذي عاش في «قورينة Cyrene» (عاصمة برقة) على الساحل الأفريقي للبحر المتوسط، في
القرن الخامس ق.م. كذلك أقام أرستيبوس فترة معينة في أثينا، أصبح فيها تلميذًا
لسقراط. ومن الواضح أن سماحة أستاذه هي التي أثرت فيه؛ إذ إنه عندما عاد إلى
«قورينة» وبدأ مدرسته الفلسفية الخاصة، اتخذ من بعض جوانب التعاليم السقراطية
أساسًا لوجهة نظر كانت تلائم طبيعته المحبة للذة كل الملاءمة. ويتلخص رأي أرستيبوس
في أن اللذة، أو على الأصح، لذة اللحظة، هي التي تتحكم في كل خير، فليس ثمة لذة
«عليا» أو «دنيا»، كما أن من الممكن تجاهل عنصر المدة. وإنما الشدة والطابع المباشر
هما المعياران الوحيدان لتقويم اللذات، وبذلك تكون الحياة الخيرة هي تلك التي تنطوي
على أكبر قدر من أقوى إحساس ممكن باللذة.
موقف أبيقور المعتدل: لسنا بحاجة إلى التوقف
للبحث في أسباب إخفاق مذهب اللذة المتطرف هذا عند أرستيبوس، ما دامت المواقف
الثلاثة الأخرى التي سنبحثها تستهدف كلها القضاء على عيوبه التي ستتكشف كلما مضينا
في بحثنا قدمًا. ولقد كان أول تعديل هام لهذا المذهب الشديد البساطة هو مذهب
أبيقور، الذي كان يعلم في أثينا بعد قرن من حياة أرستيبوس فيها — بوصفه تلميذًا
لسقراط. وقد أكد مؤسس المذهب الأبيقوري أنه، على الرغم من أن «اللذة هي اللذة»، فإن
بعض أشكالها يدوم أطول كثيرًا من البعض الآخر، وبعضها يشتري بثمن أعلى بكثير من حيث
الجهد أو العناء. كذلك أدخل أبيقور تعديلًا آخر على مذهب أرستيبوس المتطرف، وذلك
بأن جعل معيار اللذة سلبيًّا لا إيجابيًّا: فأعظم خير هو انعدام الألم، وأفضل حياة
هي تلك التي يتحرر فيها المرء إلى أقصى حد من الحاجة، والشقاء، واضطراب الانفعال
الطاغي. ولقد كانت هذه النقطة الأخيرة، وأعني بها، تجنب الانفعالات القوية، من
النقاط المميزة بوجه خاص للمذهب الأبيقوري. فبينما القورينائيون كانوا ينشدون
اللذات العنيفة، فإن الأبيقوريين كانوا يتجنبونها بوصفها لذات مكدرة قصيرة الأمد،
ثمنها باهظ من حيث ما تستتبعه من رد فعل أليم. وكان أنصار أبيقور يعلمون كيف ينمون
متعة الفلسفة والصداقة، وهي متعة أكثر اعتدالًا، ولكنها أطول مدى، وأقل تكديرًا بلا
شك. والهدف الحقيقي عندهم هو السكينة أو الطمأنينة
Ataraxia فمن الواجب تجنب أي شيء يعكر صفو هذه
السكينة، بغضِّ النظر عن مدى شدة اللذة المباشرة التي تجلبها.
مذهب اللذة الاجتماعي: «مذهب المنفعة» عند
بنتام: من الواضح أن التفكير الأخلاقي قد قطع شوطًا بعيدًا خلال
القرن الذي كان يفصل بين أرستيبوس وبين أبيقور. ولم تتخذ خطوة أخرى يمكن مقارنتها
بهذه، خلال تطور مذهب اللذة، إلى أن بدأ جريمي
بنتام
Jeremy Bentham تفكيره في أواخر القرن الثامن عشر. فلقد كان هذا المفكر
الإنجليزي، المؤمن بالموقف الطبيعي
(Common-Sense)
هو العامل الأكبر على التحول من مذهب اللذة الأنانية إلى مذهب اللذة العامة. وكان
يهتم اهتمامًا كبيرًا بالإصلاح الاجتماعي والإصلاحي التشريعي؛ ومن هنا فلم يكن من
المستغرب أن يكون تفكيره الأخلاقي اجتماعيًّا وعمليًّا إلى حد غير مألوف. وفضلًا عن
ذلك فقد سعى إلى الجمع بين مذهب اللذة النفسي ومذهب اللذة الأخلاقي، كما يتضح من
تلك الفقرة التي اقتبسها الكثيرون، والمأخوذة من كتابه «مبادئ الأخلاق
والتشريع»
Principles of Morals and
Legislation:
«لقد وضعت الطبيعة الإنسان تحت سيطرة سيدين مطلقين، هما الألم واللذة …
فهما يتحكمان في كل ما نفعل، وكل ما نقول، وكل ما نفكر فيه، ولا يمكن أن
يؤدي أي جهد نبذله للتحرر من الخضوع لهما إلا إثبات هذا الخضوع وتأكيده …
ويعترف مبدأ المنفعة بهذا الخضوع، ويفترضه أساسًا لهذا المذهب الذي يهدف
إلى تكوين نسيج السعادة بأيدي العقل والقانون. أما المذاهب التي تحاول الشك
فيه فهي إنما تتعامل مع أصوات لا معان، ومع الهوى لا العقل، ومع الظلام لا
النور.»
وينتقل بنتام إلى تعريف مبدئه في المنفعة بأنه «ذلك المبدأ الذي يتوقف فيه
استحسان أي فعل أو استهجانه على ما يبدو لهذا الفعل من اتجاه إلى زيادة أو نقص
سعادة الطرف الذي يكون الفعل متعلقًا بمصلحته». ولقد كان مقتنعًا بأن هذا المبدأ هو
الوسيلة التي يختار الناس على أساسها، والتي ينبغي أيضًا أن يتم على أساسها هذا
الاختيار، والأمر الذي كان يسعى إليه هو أن يجعل من هذا المبدأ المعيار المعترف به
للأخلاق والتشريع، حتى يخضع المجتمع لحكمه بدلًا من أن يخضع لحكم معيار تجريدي معين
للواجب، لا صلة له بسعادة الإنسان.
٥ ذلك لأنه رأى أن أي مبدأ تجريدي، غير نفعي، إنما هو «أداة من أفضل
أدوات الطغيان وأشدها فعالية. فهو يفيد في إقناع الضحايا بأن إطاعتهم للمستبدين بهم
ليست ضرورية فحسب، بل هي واجبة بحق».
٦
حساب اللذات: كان بنتام مقتنعًا بأن أقوى حصن
يحمي من الظلم الاجتماعي هو الاعتراف الصريح بأن كل فرد معني أساسًا بمصلحته
الخاصة، غير أن ذلك قد تركه إزاء مشكلة تجنب الفوضى الاجتماعية. وبعبارة أخرى فكيف
نستطيع أن نجعل الفرد يدرك أن مصلحته الخاصة متفقة مع المصلحة المشتركة؟ إن الخطوة
الأولى التي اتخذها بنتام لإثبات اتفاق الصالح الخاص والعام، هي التعبير على أصرح
نحو ممكن عن مبدأ حساب اللذات. فقد رأى بنتام أن قيمة أي فعل ينبغي أن يحكم عليها
على أساس «الشروط» السبعة الآتية: (١) شدة اللذة أو الألم الناتج منها، (٢) مدة أي
منهما، (٣) يقينيتهما أو عدم يقينيتهما؛ أي مقدار احتمال حدوثهما على النحو
المتوقع، (٤) سرعة حدوثهما، (٥) خصبهما، أو احتمال ترتب إحساسات من نفس النوع
عليهما، (٦) نقاؤهما، أو تحررهما من أية إحساسات حاضرة أو مستقبلة من نفس النوع،
(٧) وأخيرًا نطاقهما، أو عدد الأشخاص الذين يمكن أن يتأثروا بهذه الإحساسات. وقد
لخص بنتام نفسه هذه النقاط في أبيات شعرية طالما اقتبسها الكتاب:
شديدة، وطويلة، ومؤكدة، وسريعة، ومثمرة، ونقية.
هذه الصفات هي التي تدوم في اللذة والألم.
أما إذا كانت عامة، فلتنشرها على أوسع نطاق.
ولتتجنب هذه الآلام أيًّا كانت آراؤك.
فإن لم يكن من الآلام بد، فليكن نطاقها محدودًا فحسب.
وباستخدام هذا الحساب اعتقد بنتام أننا نستطيع أن نحدد بسهولة إن
كان الفعل خيرًا أو شرًّا.
ولا شك أن أية نظرة إلى شروط بنتام السبعة، حتى لو كانت نظرة عاجلة، كفية بأن
تبين لنا أن الشرط الأخير قد أدخل على تفكير مذهب اللذة عنصرًا جديدًا كل الجدة.
ذلك لأن من الممكن النظر إلى الشروط الستة الأولى على أنها مجرد تحسين لحساب اللذات
في مقابل الآلام عند أبيقور. ولو كان بنتام قد توقف عند حد هذه الشروط فحسب، لماك
كان مذهبه أقل أنانية من مذهب أبيقور. ولكننا ما إن نبدأ في تقويم الأفعال على أساس
عدد الأشخاص، حتى ندخل مجالًا أخلاقيًّا مختلفًا. ولم يكن بنتام يعتقد أن إضافة هذا
العامل الاجتماعي يحتاج إلى إدخال أي مفهوم جديد من الوجهة الكيفية، بل سيظل من
الممكن نظريًّا الاكتفاء بإيجاد مجموع اللذة الناتجة، بعد بحث كل الاشخاص الذين
يتعلق بهم الأمر، وموازنة هذا بمجموع الألم. ومع ذلك فحتى لو كان ذلك حسابًا كميًّا
بالمعنى الدقيق، لأدت إضافة الاعتبارات الاجتماعية إلى تعقيد المشكلة إلى حد تؤدي
معه إلى أحداث تغيير أساسي في تاريخ مذهب اللذة.
تجديف مل: لو كان أرستيبوس وأبيقور قد اطلعا
على مذهب المنفعة عند بنتام، لبدا ذلك المذهب ممتنعًا في نظر الأول، ومشكوكًا فيه
في نظر الثاني. أما عندما نأتي إلى جون ستيورات مل، الذي ولد بعد بنتام بجبلين،
فإننا نجد لديه مذهبًا في اللذة مختلفًا في طابعه إلى حد يحق لنا معه أن نشك في أن
بنتام كان يمكن أن يعترف بسلامة هذا الموقف، لو عرفه. وقد وصف كاتب قريب العهد
٧ التعديلات التي أدخلها مل بعبارة «تجديف مل
Mill’s Heresy» وهو وصف لا نرى فيه مبالغة. فعندما ظهر كتاب
«مذهب المنفعة
Utilitarianism» في عام ١٨٦٣م
كان من الواضح أن قدرًا كبيرًا من مذهب اللذة في صورته القديمة قد اختفى، ربما إلى
الأبد.
ذلك لأنه، على الرغم مما بين أرستيبوس وأبيقور وبنتام من فوارق، فقد اتفقوا
جميعًا على فكرة أساسية: هي أن اللذة هي اللذة، أيًّا كان مصدرها، أو شدتها، أو
مدتها. وربما اختلف هؤلاء المفكرون فيما بينهم فيما إذا كانت بعض اللذات تستحق ما
ندفعه فيها من ثمن، أو فيما إذا كان من الواجب عمل حساب أي شخص آخر غير الفاعل ذاته
عند تحديد قيمة أي فعل من حيث اللذة، ولكن لا جدال في أنهم كانوا متفقين اتفاقًا
تامًّا فيما بينهم حول التشابه «الكيفي» لكل اللذات. أما «تجديف» مل فيتمثل في أنه
قد أدخل مفهومًا جديدًا، يؤدي من الوجهة المنطقية إلى نتائج هدامة، في تقويم اللذة
والألم. ذلك لأن من أقدم الانتقادات التي وُجهت إلى مذهب اللذة وأكثرها دومًا، رفضه
الاعتراف بفوارق كيفية بين اللذات. وقد كان بنتام بوجه خاص صريحًا في إنكاره أي
فارق داخل هذه الفئة. وفي عصر مل، كان كثير من المفكرين، مثل كارلايل Carlyle، قد رددوا التهمة القديمة القائلة بأن
مذهب اللذة «فلسفة خنازير»، فالحياة التي تكرس كلها للسعي وراء اللذة لا تليق
بالإنسان، وإنما تليق بالخنازير وحدهم.
وقد رد مل على هذه التهمة بنفس الطريقة التي رد بها أبيقور عليها قبل ذلك بألفي
عام. فليس القائلون بمذهب اللذة هم الذين يقولون بنظرة وضيعة منحطة إلى الطبيعة
البشرية، وإنما خصومهم؛ ذلك لأن القول بأن الحياة التي تقدر على أساس اللذة والألم
وحدهما لا تليق إلا بالحيوانات، يعني أن الإنسان لا يسعى إلا إلى اللذات الحيوانية
وحدها. وقد نصح أبيقور أتباعه صراحة بأن يبحثوا عن لذات الفلسفة والاتصال الاجتماعي
وهي نقطة كان خصوم الأبيقورية وخصوم مذهب المنفعة يغفلونها على الدوام. كذلك فإن مل
يذهب إلى حد الاعتراف بوجود فارق كيفي بين اللذات، ويؤكد أن من الضروري التفرقة بين
اللذات «العليا» و«الدنيا». وهو يقول في فقرة مشهورة: «خير للمرء أن يكون إنسانًا
غير راضٍ من أن يكون خنزيرًا راضيًا، وخير له أن يكون سقراطًا غير راضٍ من أن يكون
أحمق راضيًا». فهناك عامل له أهمية خاصة في تحديد اللذات المرضية بحق، والجدير
حقًّا بالإنسان، هو ذلك الشعور بالكرامة الإنسانية، الذي كان مل يعتقد أنه تمثَّل،
بدرجة ما، في الناس جميعًا.
(٢) حيوية مذهب اللذة
لعل أي موقف في الفلسفة لم يهاجم بمثل الإصرار الذي هوجم به مذهب اللذة، ولا أية
وجهة
نظر قد صمدت للهجوم مثل وجهة النظر هذه. فعلى الرغم من أن تعاليم مذهب اللذة قد عُدلت
وهُذبت كثيرًا خلال التاريخ الطويل لهذه المدرسة، فإن التأكد الأساسي القائل إن أصل
القيمة يرجع إلى «الشعور Feeling» قد ظل دون تغير.
ويؤكد أصحاب مذهب اللذة المعاصرون أن من الواجب أن تركز كل المبادئ الأخلاقية على نتائج
الفعل التي تقاس تبعًا لتحقيقها مصلحة الإنسان، وهذه الأخيرة بدورها تعني اللذة أو
السعادة. وما زال القائل بمذهب اللذة في وقتنا الحالي يرى، مثل بنتام، أن أي معيار
أخلاقي يكون فاسدًا تمامًا إذا كان يتجاهل نتائج الفعل بأن يحاول الحكم على السلوك
البشري على أساس اتفاقه مع مثلٍ أعلى مجردٍ للواجب أو الإلزام.
الاعتراضات الرئيسية على مذهب اللذة: تتركز
الاعتراضات المختلفة على مذهب اللذة الأخلاقي في عدم جدارة هذا المذهب بأن يكون مثلًا
أعلى بشريًّا، أو في عدم كفايته بوصفه مذهبًا أخلاقيًّا شاملًا. ولسنا بحاجة إلى التريث
طويلًا لمواجهة تهمة عدم الجدارة، بعد أن استمعنا إلى رد مل على هذه التهمة. كما ينبغي
أن نلاحظ أن هذا الاعتراض ينطوي على معيار محدد مقدمًا لما هو جدير بالإنسانية وما هو
غير جدير بها؛ أي إنه يبدأ تحليله «للخير» بفكرة مسبقة عما ينبغي أن يكون عليه «الخير».
وهكذا يطلب إلينا أن نرفع أنفسنا بأربطة حذائنا الأخلاقية الخاصة،
٨⋆
محاولين أن نحدد ما هو «خير» عن طريق ما نعتقد من قبل أنه كذلك، ولسنا بحاجة إلى القول
إن هذه ليست بالطريقة السليمة في التفكير؛ ولذا فإن الحجج التي توجه ضد مذهب اللذة
وتكون مصوغة بهذه الطريقة لا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد. غير أن تهمة عدم الكفاية أخطر
بكثير، وينبغي لنا أن نبحثها بحثًا كاملًا.
فلنذكر، في البداية، أن مذهب اللذة الأخلاقي يستطيع الوقوف على أرجله، مستقلًّا
تمامًا عن صواب أو خطأ النوع النفسي من مذهب اللذة. فلسنا بحاجة إلى الاعتقاد بأن
الدافع الوحيد لكل سلوك بشري هو مبدأ اللذة والألم، لكي ننتهي من ذلك إلى أن التقويمات
الأخلاقية ينبغي أن تكون على أساس سعادة البشر وما فيه مصلحتهم. وهكذا فعندما يتهم مذهب
اللذة بأنه غير كافٍ من حيث هو تفسير لسلوكنا، أو يقال إن علم النفس الحديث يؤدي إلى
استبعاد هذا المذهب، فينبغي أن نتأكد هل الناقد يدرج النوع الأخلاقي من المذهب ضمن
اتهامه هذا؟ ذلك لأنه إذا كان لأحد أن يتهم مذهب اللذة الأخلاقي بأنه نظرية غير كافية،
فينبغي أن يكون هذا الاتهام ناتجًا عن الضعف الكامن في المذهب ذاته، لا عن أي بطلان
ممكن في الوجه النفسي لهذا المذهب. وربما ازدادت نقاط الضعف العقلية في مذهب اللذة
ظهورًا في أثناء دراستنا للمذاهب الأخرى البديلة عنه. ولما كان أقوى صراع في هذا
الميدان هو الصراع بين المذهب الشكلي ومذهب اللذة، فسوف نبدأ أولًا ببحث هذا المذهب
الأشد عداء لمذهب اللذة.
(٣) المذهب الشكلي: أقوى ناقد لمذهب اللذة
للمذهب الشكلي في الأخلاق صلات وثيقة بالنظرة المطلقة التي تحدثنا عنها في الفصل
السابق. وأهم ما يقول به هذا المذهب هو أن خيرية الفعل أو شريته صفة كامنة فيه، مستقلة
عن كل شيء — عن الزمان والمكان والظروف وما إلى ذلك. وفضلًا عن ذلك فإن هذه الصفة
الكامنة أو المطلقة للفعل مستقلة عن أية نتائج مترتبة عليه. فليست لنتائج الفعل صلة
بخيريته أو أخلاقيته، وعلى حين أن القائل بمذهب اللذة يرى أن كل معايير الصواب والخطأ
ينبغي أن ترتكز آخر الأمر على نتائج كل فعل، فإن القائل بالمذهب الشكلي يعتقد أن
للمعايير الأخلاقية سلطة واحدة فحسب: هي طبيعتها الباطنة الخاصة بها، التي لا تربطها
صلة بنتائج أي فعل.
وينبغي، إنصافًا منا للقائل بالمذهب الشكلي، أن نشير إلى أنه لا يدعي أن نتائج الفعل
ليست لها أهمية عملية أو علاقة بالسعادة البشرية. فهو لا يقل عن القائل بمذهب اللذة
شعورًا بأن للجزء الأكبر من سلوكنا نتائج مستقلة من السعادة أو الشقاء بالنسبة إلى
أنفسنا أو إلى الآخرين، ولكنه ينكر وجود أية علاقة بين هذه النتائج العملية وبين ما
يتصف به الفعل من صواب أو خطأ. وإذن فالمذهب الشكلي ينظر إلى السلوك البشري على أنه
يتم، من حيث النتائج العملية، في فراغ أخلاقي. وقد يكون مما له أهمية عظمى في نظري أن
يسرق أحد سيارتي، غير أن هذا أمر لا صلة له بتحديد ما إذا كانت السرقة صوابًا أم خطأ.
وإنما يقول صاحب المذهب الشكلي أنها تصبح خطأ نظرًا إلى صفة كامنة في أفعال السرقة لا
يمكن لأي ظرف — حتى ما قد تعده المحكمة «ظرفًا مخففًا» — أن يغيرها. ويعتقد الفيلسوف
الشكلي أن الأفعال الصالحة تنجم عنها، على وجه العموم، نتائج خيرة، والأفعال الخاطئة
تنجم عنها نتائج شريرة. ولكن على الرغم من هذا التأكيد، فليس هناك ارتباط ضروري بين
الاثنين، فالأفعال «الصالحة» تظل صالحة حتى لو كانت الفضيحة تؤدي دائمًا إلى تعاسة
صاحبها وألم كل المحيطين به. وعلى العكس من ذلك، فحتى لو أدى الفعل «الخاطئ» إلى زيادة
سعادة كلِّ من يهمه الأمر، فسيظل مع ذلك خاطئًا.
ويعد «إمانويل كانت» زعيم الشكليين الأخلاقيين. ومن سوء الحظ أن تفكيره لا يسهل فهمه،
وأن استنتاجاته الصارمة الدقيقة لا تلقى استجابة لدى معظم الطلاب اليوم. ومع ذلك فإن
الموقع الهام الذي يحتله في تاريخ الأخلاق يحتم علينا أن نفهم أفكاره الأساسية. ولما
كان مذهب كانت الأخلاقي يبلغ قمته في نظرية هي أشهر نظريات «الواجب» (وهو نوع النظرية
الذي تصل إليه المذاهب الشكلية في عمومها) فإن تقديم عرض موجز لتاريخ مفهوم «الواجب»
يمكن أن يفيد القارئ بوصفه مدخلًا إلى تفكير كانت.
(٤) تاريخ فكرة «الواجب»
على الرغم من أن اليونانيين القدماء كانوا «عصريين» إلى حدٍّ بعيد في كثير من
أفكارهم، فإن إحساسهم بمعنى الواجب كما نفهمه اليوم كان ضعيفًا. فالحياة الأخلاقية
والحياة الخيرة كانت عند اليوناني شيئًا واحدًا؛ أي إن الحياة الخيرة كانت عندهم تلك
الحياة التي كان من الضروري فيها توافر فضائل أو ميزات معينة لأن هذه هي الطريقة
الوحيدة التي تتيح للإنسان الوصول إلى السعادة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك فضيلة
«الاعتدال»، التي امتدحها اليونانيون أكثر مما امتدحوا أية فضيلة غيرها. ففي نظر
اليوناني لم يكن الاعتدال واجبًا عليه — إذ إن الاعتدال ليس إلزامًا يفرض بقانون أو
سلطة ما — وإنما كان مسألة علة ومعلول فحسب؛ ذلك لأن عدم الاعتدال يؤدي إلى الشقاء؛ ومن
هنا كان ينبغي لنا أن نكون معتدلين. غير أن كلمة «ينبغي» لا تعبر هنا إلا عن إلزام
مشروط: فإذا أردنا أن نكون سعداء فينبغي لنا (أي إن من الضروري لنا) أن نكون معتدلين
في
عاداتنا. ولكي نحيا حياة سعيدة يتعين علينا أن نكون معتدلين وشجعانًا وعادلين وحكماء.
غير أن هذه مسألة علة ومعلول مفهومة للذهن المعتاد، وليست إلزامًا مطلقًا أو مجردًا
كالإلزام المتضمن عادةً في الأوامر الخلقية.
نظرية الواجب عند الرواقيين: أدخلت فكرة جديدة في
التفكير الأخلاقي اليوناني قرب نهاية العصر اليوناني، عند ظهور المذهب الرواقي، وقد أدت
هذه الفكرة إلى تحويل الأخلاق من مبحث يتركز حول الخير إلى مبحث يتركز حول الواجب. ومن
هنا فقد مهدت الطريق للأخلاق المسيحية وللمذهب التطهري (البيوريتاني) فيما بعد. تلك هي
الفكرة التي تعد فيها «الفضيلة» أو «الحياة الصالحة» إطاعة لقانون، لا مجرد مراعاة
لقواعد العلة والمعلول. فالرواقي كان يرى أن الحياة الخيرة، التي ينبغي لكل حكيم أن
يسعى إلى أن يحياها، هي تلك التي يتحدد بها واجب الإنسان على أساس قانون الطبيعة أو
النظام العقلي للكون — أو العقل الكلي، حسب الاصطلاح الرواقي. هذا القانون الكوني للعقل
الكلي يحدد لكل فرد مكانه في نظام الأشياء، ويقرر الواجب والالتزامات التي تتمشى مع هذا
المركز المحدد. ولقد كان قوام الحكمة عند الرواقيين هو اعتراف المرء بهذه المكانة
المحددة له، وبما يرتبط بها من الواجبات؛ وبالتالي العيش في انسجام واعٍ مع الطبيعة —
أي مع العقل الكلي. وفضلًا عن ذلك فقد كان الرواقيون يرون أن كل ما يحدث في الكون يحدث
وفقًا لضرورة منطقية. ومن هنا فإن قبول ما تأتينا به الحياة هو أمر لا مفر لنا منه، وهو
في الوقت ذاته مظهر من مظاهر الحكمة.
ومن السهل أن ندرك أن هذه النظرية الرواقية تمثل تحولًا حقيقيًّا عن التفكير الأخلاقي
اليوناني السابق، على الرغم من أنه كان لا يزال عليها أن تقطع شوطًا بعيدًا حتى تصل إلى
المفهوم المسيحي «للواجب». فمن المؤكد أن الرواقيين، حين جعلوا من الأخلاق أو «الحياة
القويمة» مسألة إطاعة لقانون، قد أكدوا بالضرورة فكرة الواجب على نحو أقوى مما أكدت به
من قبل، وذلك في العالم الغربي على الأقل. ولكنهم أرادوا بتوحيدهم بين قانون الطبيعة
وقانون العقل، ثم بتوحيدهم بين هذا العقل الكلي وبين العقل المتناهي الموجود لدى كل
إنسان، أن يحولوا دون أن تتخذ الالتزامات التي يفرضها الواجب طابعًا تعسفيًّا أو
تسلطيًّا محضًا. فعقلنا الفردي يتيح لنا أن ندرك عدالة العقل الكلي وحكمته وأوامره
الضرورية. ومن هنا كان كل إنسان حكيم فاضل يقبل بحرية تلك الواجبات التي يفرضها علينا
العقل الكلي لأنها تتفق مع ما يقضي به عقلنا الخاص ذاته. وهكذا يتفق الحكم الخاص مع
الحكم الكوني، ولا يكون هناك شعور بالإكراه الخارجي، أو بالأمر التعسفي.
المسيحية والواجب: أدخلت المسيحية تغييرًا آخر
هامًّا في المفهوم الأساسي للأخلاق، كما أنها قد استحدثت الفكرة التي بنيت عليها
الأخلاق الغربية الرسمية خلال القرون السبعة عشر الأخيرة. هذه الفكرة هي المذهب القائل
إن قوام الحياة الأخلاقية هو طاعة القانون، وإن يكن ذلك قانونًا يختلف كل الاختلاف عن
ذلك الذي اعترفت به الرواقية. هذا القانون الجديد ليس قانونًا يكتشفه العقل البشري،
وليس بالتالي قانونًا يبدو لنا (معقولًا)، وإنما هو قانون أتانا من الوحي الإلهي الذي
لا يكون أمامنا إلا أن نطيعه، سواء أكان يبدو معقولًا أم غير معقول، منطقيًّا أم
تعسفيًّا، عادلًا أم ظالمًا. فمن الواجب إطاعته لمجرد كونه تعبيرًا عن الإرادة الإلهية،
لا لأننا نرى يه وسيلة لتحقيق سعادتنا المباشرة. وبطبيعة الحال فنحن نفترض أنه لما كانت
القوة التي تسهر على تنفيذ هذا القانون الإلهي هي ألوهية خيرة، فسوف يكون ذلك قانونًا
خيرًا يعبر عن حكمة عليا. ولكن لما كان خلاصنا يتوقف مباشرة على إطاعتنا لهذا القانون،
فمن الواضح أن المطلوب منا هو أداء أية واجبات يحددها، بغضِّ النظر عن رأينا البشري في
هذه الأوامر. كما ينبغي أن يلاحظ أن هذا الارتباط (بين طاعة الإنسان للقانون الإلهي
وبين خلاصه) هو في المسيحية ارتباط تحدده المشيئة الإلهية، لا العقل البشري، وهذا يؤدي
إلى زيادة ضعف العلاقة التي كان يقول بها الرواقيون بين العقل الكلي وبين عقلنا الفردي
المتناهي. ولقد ظل أداء المسيحي لواجبه يعد، حتى يومنا هذا، مسألة طاعة لا مسألة تبصر.
وقد أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة إذ قال إن سبب كون هذه الطاعة خيرًا، أو حتى سبب
كونها لازمة، هو أمر لا شأن لنا به. وكل ما يهمنا بحق هو أنها لازمة.
٩
مذهب الألوهية الطبيعية والواجب: كان من النتائج
الجانبية للنزاع بين أصحاب مذهب الألوهية المفارقة
Theists وأصحاب مذهب الألوهية الطبيعية
Deists، في القرن الثامن عشر، أن حاول بعض
اللاهوتيين الأكثر تعمقًا أن يعدلوا هذا الطابع الاعتباطي للأمر الإلهي، بأن يكشفوا عن
الصلة الوثيقة بين الواجب الأخلاقي كما يحدده الوحي وبين الواجب الأخلاقي كما ينادي به
ضميرنا الفردي. فقد ذهبوا إلى أن الله لا يقتصر على وضع القانون الأخلاقي في الكون،
وإنما هو قد بث في كل نفس قبسًا أو صدى لهذا القانون الأخلاقي نفسه. وهكذا فإن إصغاءنا
لصوت ضميرنا، أو الالتجاء إلى «النور الواضح للعقل الطبيعي» (وهي عبارة أثيرة لدى مفكري
القرن الثامن عشر) يؤدي بنا إلى كشف نفس الأوامر التي وردت إلينا من الكتاب المقدس ومن
كتابات آباء الكنيسة. وعلى ذلك فإن الوحي يدعم الضمير، والضمير من جانبه يثبت سلطة
الوحي. ومن هنا فإننا نستطيع أن نستدل على واجبنا من مصادر أخرى غير سلطة الكتاب المقدس
أو القانون الكنسي وحده. ففي استطاعتنا أن نستدل عليه بالبصيرة الباطنة، وإن كانت هذه
البصيرة في حقيقتها لا تعدو أن تكون «تعرفًا». فنحن نستمع إلى ما هو واجب علينا من
الخارج، عن طريق منبر الكنيسة وغيره من المصادر المألوفة للسلطة الأخلاقية، كما نستطيع
أن نستمع إليه من الداخل، عن طريق الصوت الخافت للضمير. وبذلك يمثل هذا المذهب عودًا
جزئيًّا إلى الرأي الرواقي في الواجب ومصادره.
الآراء الشعبية في الواجب: طرأ على الأخلاق في
القرن الثامن عشر تطور آخر كان له دون شك تأثير شعبي أقوى من ذلك الذي أوضحناه الآن.
وكان هذا التطور سهل الفهم، كما هي الحال عادةً في الأفكار التي تلقى استجابة شعبية.
كذلك فإنه كان يتميز بجاذبية انفعالية تفتقر إليها النظريات اللاهوتية والفلسفية
العقلية السائدة في تلك الأيام. هذا الرأي الشعبي كان يقول إن من الممكن معرفة واجباتنا
بنور العقل الطبيعي، وأن جزاءها (أي السلطة أو القوة التي تلزم الناس بإطاعتها) ليس إلا
المكافآت والعقوبات التي تترتب على إطاعتها أو عصيانها. هذه المكافآت أو العقوبات قد
تحدث في هذا العالم أو في العالم الآخر، غير أن ما يحدث منها في العالم الآخر خير
وأبقى. وهكذا فإن «الجنة» و«النار» يصبحان في هذا المذهب حافزين لهما أهمية قصوى في
السلوك الأخلاقي. وهناك حجة مشهورة على وجود الله، تقول: «لو لم يكن الله موجودًا لكان
من الضروري ابتداعه» — ونستطيع أن نتصور أنصار هذا الرأي وقد أعادوا صياغة هذه الحجة
بحيث تصبح: «لو لم تكن الجنة والنار موجودتين لكان من الضروري ابتداعهما» — وذلك لضمان
إقبال الناس على أداء واجباتهم المسيحية.
هذا المذهب يبدو أنه ينطوي ضمنًا على الرأي القائل إن الأخلاق هي في أساسها مسألة
«انتهازية» (أو «شطارة»)، وأن الأخلاقية ليست إلا «سياسة حكيمة». فلو أردنا اكتساب
البركة الإلهية، أو البقاء بمنأى عن المتاعب في هذا العالم وفي العالم الآخر معًا،
فعيلنا إطاعة أوامر الأخلاق، ولا سيما الأخلاق المسيحية. ومع ذلك فإن هذا الموقف لا
يقتصر على المسيحية الشعبية، بل إنه، على العكس من ذلك، قد انتشر على نطاق واسع منذ
كانت للناس آلهة يطيعونها أو يسترضونها أو يبتهلون إليها. فقد كانت الأذهان الساذجة
تميل دائمًا إلى أن تجعل من العبادة الدينية نظامًا للمقايضة، يعِد فيه العبد بعمل شيء
للرب؛ أي بطاعته أو التضحية له أو مجرد الاعتراف به — ويتوقع في مقابل ذلك نعمًا معينة
من الرب. وتكشف العقيدة الشعبية اليونانية عن مظاهر متعددة لروح المقايضة هذه، كما أن
هناك دلائل كثيرة على أنها كانت جزءًا هامًّا من العبادة الدينية الساذجة منذ العصور
السحيقة في القدم. ومن هنا فليس من المستغرب أن يعجز القرن الثامن عشر، بكل ما عرف عنه
من معقولية و«تنوير»، عن القضاء على هذا الميل القديم العهد إلى النظر إلى الدين على
أنه مساومة بين طرفين. ومن الواضح أن «واجبنا» يغدو في هذه الحالة مجرد أداء الجزء
الخاص بنا من الصفقة. وهكذا يعدو الواجب تعاقديًّا، بدلًا من أن يكون اعتباطيًّا أو
عقليًّا أو حدسيًّا.
(٥) فلسفة الواجب عند «كانت»
لا جدال في أن أشهر وأقوى المدافعين عن المذهب الأخلاقي المتركز حول الواجب هو
«إمانويل كانت». فلقد كان قدر كبير من تفكيره الأخلاقي ثورة على المذاهب الأخلاقية
الانتهازية، ومذاهب «السياسة الحكيمة» التي كان يدعو إليها المفكرون الأخلاقيون في
عصره. ومن المؤكد أن جزءًا من الصرامة الواضحة التي يتسم بها تفكيره لا بد أن يخفف لو
كان المجال يسمح لنا ببيان مدى انحطاط المستوى الذي وصلت إليه بعض هذه المذاهب
الانتهازية الخالصة. ومع ذلك فلا بد لنا من الخوض مباشرة في مذهب كانت الأخلاقي؛ إذ إن
هذا المذهب هو مصدر الكثير من الأفكار التي ظهرت عن الواجب في القرن التاسع عشر.
لا علاقة بين الميل الطبيعي والأخلاقية: رأى «كانت»
أنه لا توجد علاقة بين الميل الطبيعي وبين الأخلاقية. أي إن رغبتنا أو عدم رغبتنا في
القيام بعمل معين، لا صلة لها بخيرية هذا الفعل أو أخلاقيته؛ ذلك لأن ما أميل إلى فعله
اليوم، قد لا أميل إلى فعله غدًا. وفضلًا عن ذلك، فالميل دائمًا مسألة شخصية، وذاتية
بحتة. ولكن أساس الأخلاق، في رأي كانت، ينبغي أن يكون موضوعيًّا شاملًا بالمعنى الصحيح.
ولا بد أن يتحرر، لا من الغرض أو الهوى الشخصي فحسب، بل من عوارض الزمان والمكان
والبيئة الثقافية. فلا بد أن تكون الأخلاق الحقة واحدة في كل ثقافة وكل عصر تاريخي، ولا
بد أن تسري بغضِّ النظر عن «الجنس أو المذهب أو العقيدة». ذلك لأنه ما لم يكن «الحق»
هو
الحق، سواء شئنا أم أبينا — وهنا نصل إلى لب مذهب كانت — وما لم يظل هذا «الحق»
موضوعيًّا ملزمًا بغضِّ النظر عن أي ميل شخصي، فإن مفهوم الواجب يفقد معناه.
ولقد كان «كانت» صريحًا في هذه المسألة كل الصراحة. فهو لا يقتصر على القول إن الميل
الطبيعي لا صلة له بالأخلاق أو «الاستقامة»، بل إنه يرى أن الأفعال الوحيدة التي هي
أخلاقية بحق هي تلك التي تؤدى عن إحساس بالواجب. على أن من المعترف به أن هذا حكمٌ
قاسٍ. ومن المؤكد أن هذه العبارة الواحدة هي أقوى العوامل التي أدت إلى اشتهار كانت
بالصرامة الأخلاقية. فهو لا يعني فقط أن الأفعال ينبغي أن تؤدى وفقًا لمقتضيات الواجب،
بل ينبغي أيضًا القيام بها من أجل أداء الواجب، لا لأي سبب آخر وذلك إذا ما شئنا أن
تكون هذه الأفعال أخلاقية بالمعنى الصحيح. ولنقتبس فقرة موجزة من «كانت» توضح رأيه هذا:
إن مساعدة الآخرين حين يستطيع المرء واجب، وهناك إلى جانب ذلك نفوس كثيرة
لديها من النزوع إلى التعاطف ما يجعلها، دون أي دافع آخر من الغرور، تجد لذة
باطنة في نشر السعادة من حولها، وتغتبط لرضا الآخرين مثلما تغتبط لرضائها
الخاص. ومع ذلك فإني أذهب إلى أن أي فعل من هذا النوع، مهما كان قويمًا محببًا
إلى النفوس، ليست له مع ذلك قيمة أخلاقية أصيلة. فهو يقف على قدم المساواة مع
الميول الأخرى — كالميل إلى التكريم مثلًا، وهو الميل الذي لو أتيح له من حسن
الحظ ما يجعله يصيب شيئًا نافعًا قوميًّا؛ وبالتالي شريفًا، لكان يستحق الإطراء
والتشجيع، ولكنه لا يستحق الاحترام أو التبجيل؛ إذ إن القاعدة التي يسير عليها
تفتقر إلى المضمون الأخلاقي، ألا وهو أداء مثل هذه الأفعال، لا عن ميل، وإنما
بحكم الواجب.
١٠
وبعبارة أخرى، فنحن لا نحصل على امتياز في السماء، أو في أي كتاب يسجل استحقاقاتنا
الأخلاقية، جزاء على تلك الأفعال الصالحة التي نقوم بها نظرًا إلى كونها نافعة، أو لأن
دوافع الشفقة أو التعاطف أو الحب تحضنا على أدائها. أما إذا أديت نفس هذه الأفعال،
وربما أفعال أقل منها نفعًا وجلبًا للسعادة، بدافع الواجب المحض، فعندئذٍ تصبح على التو
أفعالًا أخلاقية تستحق كل احترام ممكن.
وكما يمكننا أن نتوقع: فقد ظل مذهب كانت الأخلاقي ينتقد ويتعرض للسخرية طوال ما يزيد
على قرن ونصف قرن. ومن المؤكد أنه يشجع لأول وهلة على السخرية. ولكنه يعد نتيجة منطقية
بالنسبة إلى الإطار العام لتفكير كانت، بل إن خصوم كانت أنفسهم قد اضطروا إلى الاعتراف
بأنه قد صرح بأمانة بحقيقة صلبة حاول عدد كبير من المفكرين الأخلاقيين تجنبها أو
تخفيفها على نحو ما — ألا وهي أنه إذا كان للواجب أي معنى، فهذا المعنى ليس هو «الميل»
أو «اللذة». وبعبارة أخرى، فالواجب لا يعرض علينا مساومة، وإنما هو يأمر، وليس أمامنا
إلا أن نطيعه أو نعصاه، ولكن لا جدوى من البحث عن حلول وسطى أو هروب من الإلزام الكامل
في منتصف الطريق.
نقد آراء كانت: على أن من الأسهل بكثير أن ننتقد
كانت على هذا الأساس الواضح، وهو أنه قد تجاهل العوامل الاجتماعية التي تكون المضمون
الفعلي للواجب، وتعمل على انتشاره. فهو، بالاختصار، كان مهتمًّا أكثر مما ينبغي بإثبات
أن أوامر الواجب مطلقة. ولكنه لم يدرك (أو على الأقل لم يعترف) بأن أوامر الواجب مهما
تكن مطلقة، فإن المجتمع هو الذي يحدد المضمون الفعلي لهذه الأوامر ويعمل على نشر هذا
المضمون. فقد يولد الأطفال ولديهم «ضمير» بمعنى القدرة الكامنة على إصدار أحكام
أخلاقية، ولكن لا يمكن أن يعترف أي عالم نفسي أو عالم اجتماعي في أيامنا هذه بأن لهذه
القدرة أية صفة أخرى غير كونها كامنة. فالضمير صفحة بيضاء، إن جاز هذا التعبير، يعمل
المجتمع (ممثلًا إلى حدٍّ بعيد في شخص الوالدين) على أن يسطر عليها الأوامر الأخلاقية
منذ ساعة ميلادنا.
كذلك يمكن اتهام كانت بأنه قد أفرط في تأكيد القيمة العليا للإرادة الخيرة. مثال ذلك
أنه قد أصدر هذه العبارة المشهورة: «لا شيء في هذا العالم أو خارجه يتصف بالخير دون قيد
أو شرط ما عدا الإرادة الخيرة». ويبدو أنه كان غافلًا عن حقيقة واضحة، هي أن الأحمق ذا
النية الطيبة يستطيع في كثير من الأحيان أن يرتكب من الشر بقدر ما يرتكبه الشرير
المتعمد. والواقع أن تأكيد «كانت» هذا كان جزءًا ضروريًّا من مذهبه الكامل، القائل إن
الأخلاق لا صلة لها بنتائج أفعالنا. وهو لا ينكر أن نتائج أفعالنا هامة لسعادة البشر،
ولكنه ينكر على وجه التحديد أن تكون لهذه النتائج، سواء أكانت سعيدة أم لم تكن صلة
بخيرية أفعالنا أو شريتها. ومن الواضح أن هذا يؤدي إلى وضع كانت، من الوجهة الأخلاقية،
في الطرف الآخر المقابل لكل القائلين بمذهب اللذة، الذين يحكمون بالطبع على الأفعال على
أساس تأثيرها في السعادة أو اللذة فحسب. ولكن لما كان «كانت» قد هاجم مذهب اللذة عن
وعي، فقد كان على استعداد تام للوقوف في الطرف المضاد لها.
ولنلخص الآن بإيجاز مذهب كانت الأخلاقي حتى هذه النقطة. فالمعيار الوحيد للأخلاقية
عنده هو دافع الفاعل. فإذا ما أدى الفعل بنية طيبة وعن إحساس بالواجب، كان فعلًا
أخلاقيًّا على الفور. أما الأفعال التي نؤديها بأي دافع آخر، فهي إما أخلاقية وإما غير
أخلاقية. وينبغي أن نلاحظ أن كانت لا يقول إن كل الأفعال البشرية ينبغي أن تؤدى بدافع
الواجب. ذلك لأنه قد أدرك، حتى على الرغم من كل صرامته الأخلاقية، أننا نفعل أشياء
كثيرة لا صلة لها بالأخلاق، كأن نقرر أية «فردة» حذاء نلبسها أولًا، أو ما إذا كنا
سنروي الحديقة قبل الظهر أو بعده. ولكنه يؤكد على نحوٍ قاطع أن الأفعال التي نقوم بها
عن طاعة لأوامر الواجب هي وحدها الأفعال الأخلاقية.
(٦) من الذي يصدر أوامر الواجب؟
عند هذه النقطة نصل إلى مسألة أخرى تتضمنها كل فلسفات الواجب — وأعني بها، من الذي
يصدر ما يسمى «بأوامر الواجب»؟ ألا يفترض الأمر دائمًا أمرًا من نوع ما؟ ألا ينطوي
مفهوم الواجب بأسره على القول بوجود مصدر ذي سلطة يحدد ما هو واجب وما ليس
بواجب؟
رد مذهب الألوهية المفارقة: إن كلَّ من يعترفون
«بالواجب» بوصفه العنصر الرئيسي في الحياة الخيرة، يعترفون أيضًا بالنتيجة الضمنية
السابقة. ولكنهم، كما هو متوقع، لا يتفقون على مصدر هذه الأوامر. ومن حسن الحظ أن
الكثيرين ممن تسيطر على أذهانهم فكرة الواجب هم في الوقت ذاته من المؤمنين بوجود إله
مفارق؛ إذ إن هذا الإيمان يحل المشكلة حلًّا تامًّا. فالله، في نظر مثل هذا المؤمن، هو
الآمر، وأداء المرء لواجبه يعني الامتثال للإرادة الإلهية. ونحن ملزمون بأداء الواجب
على هذا النحو بحكم نفس طبيعة علاقتنا بالله؛ إذ إننا مخلوقاته وعبيده، ومن البديهي أن
تطيع المخلوقات خالقها، وأن يطيع العبيد ربهم.
وبطبيعة الحال فإن للمذاهب الدينية المتباينة أراءها الخاصة في طريقة إبلاغ الله
أوامره إلى البشر. فمن بين المسيحيين مثلًا نجد أن البروتستانت يعترفون بالكتاب المقدس
أو الضمير الشخصي (أو مزيج منهما معًا)، على حين أن الكاثوليك يقبلون سلطة الكنيسة (أي
الإكليروس وبقية رجال الكنيسة). ولكن أي مؤمن بالألوهية المفارقة يرى أن الوسيلة التي
يتصل بنا الله عن طريقها أقل أهمية بكثير من حقيقة كونه يتصل بالفعل. ولذا فإن أصحاب
هذا المذهب، ممن تتسلط فكرة الواجب على أذهانهم، قلما يهتمون بالآراء المتعددة التي تصل
إلى حد التناقض، والمتعلقة بالوسائل التي تصلنا عن طريقها الأوامر الإلهية.
ولكن من الذي يصدر الأوامر لغير المؤمنين بالألوهية المفارقة؟ هذا الإيمان بالله
بوصفه مصدرًا لأوامر الواجب قد ينفع تمامًا مع المؤمنين بالألوهية المفارقة. ولكن كيف
يمكن أن تؤدي عبارة «إطاعة الأوامر الإلهية» إلى حل المشكلة بالنسبة إلى شخص ذي ضمير
حي، مستعد لأداء أي شيء يتطلبه الواجب، ولكنه لا يؤمن بإله — أو لا يؤمن على الأقل بإله
يصدر أوامر أخلاقية؟ إن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون في الحضارة الغربية، ويبدو أن
عددهم في ازدياد، بل إنَّ كانت ذاته، الذي كان مؤمنًا بالله، قد أدرك هذه المشكلة. وقد
حاول الإتيان بنظرية في الواجب تكون مستقلة عن الإيمان بالألوهية المفارقة، ومتحررة من
جزاء المكافآت والعقوبات فوق الطبيعية. وهكذا كان المقصود من نظريته الأخلاقية أن تكون
دنيوية ومسيحية في آن واحد — أو أن تكون، كما كان هو ذاته يفضل أن يصفها، عالمية
شاملة.
وقد وصل كانت إلى هذه النتيجة عن طريق إرساء الأخلاق على أساس عقلي بحت؛ أي إنه يحاول
أن يجعل الإلزام الخلقي مرتكزًا تمامًا على المنطق. وهو يحاول، بطريقة يتميز بها كل
مذهب عقلي، أن يثبت أننا كلما خرقنا قانونًا أخلاقيًّا، أو لم نؤدِّ واجبًا، كنا في
الوقت ذاته متناقضين منطقيًّا. فنحن نخرق قوانين المنطق والأخلاق معًا بفعل واحد، وبذلك
نعرض أنفسنا لنوع من الخطر المزدوج. ومن الواضح أن كانت يرى أنه إذا استطاع أن يثبت هذه
العلاقة الضرورية بين اللاأخلاقية وبين التناقض العقلي، فإنه يكون قد أوجد أمتن أساس
ممكن للإلزام. ولما كان أي فيلسوف من أصحاب المذهب العقلي يرى في التناقض المنطقي شرًّا
قد لا يقل عن اللاأخلاقية، فمن الطبيعي أن يعتقد كانت أن المذهب الذي يقضي على كلا هذين
الشرين في آنٍ واحد يستحق أن نكافح من أجل الوصول إليه.
العنصر الشكلي في مذهب كانت: فلنتأمل الآن كيف يحقق
«كانت» هذا الهدف المزدوج، وذلك بالطريقة التي ترضيه هو ورفاقه من العقليين على الأقل.
والواقع أن رأيه هو أفضل مثال للشكلية الأخلاقية، التي لا تقوم الأفعال إلا على أساس
اتساقها (أي اتفاقها الشكلي) مع بديهيات أو مصادرات معينة. فإذا اتفق الفعل مع واحد من
هذه المبادئ العامة أو أمكن أن يستمد منه، فعندئذٍ يكون أخلاقيًّا، بغضِّ النظر عن
نتائجه. وبعبارة أخرى، فإن الاتساق الشكلي الذي يعلي أفراد هذه المدرسة من قدره إلى هذا
الحد، يتم عن طريق كشف أو افتراض مبادئ أخلاقية عامة أولًا، ثم استخلاص مذهب أو نسق
أخلاقي من هذه. وما أشبه ذلك بنسق رياضي مثل هندسة إقليدس، التي تبدأ بحفنة من
البديهيات (مثل «الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين» و«الكل مساوٍ لمجموع أجزائه»)،
ثم تستخلص من هذه المصادرات الأولية نظريات متعددة.
ولقد كانت أهم بديهيات «كانت» بل هي في الواقع البديهية الوحيدة التي تتصل بهدفنا
في
هذا البحث) هي: افعل دائمًا بحيث تود أن يصبح فعلك قانونًا شاملًا للبشر. ولاشك أن لهذه
بعض الصلة «بالقاعدة الذهبية» التي تأمرك بأن تفعل للآخرين ما تود أن يفعلوه لك (أو تحب
لأخيك ما تحب لنفسك). غير أن تأكيد كانت لمعنى الشمول يضفي على بديهيته مذاقًا خاصًّا.
«فهل أود أن يفعل كل شخص كما أفعل؟» إذا أمكننا بإخلاص أن نجيب «بنعم» على هذا السؤال،
كان لنا أن نعد الفعل أخلاقيًّا، وإلا كان لا أخلاقيًّا.
مثال للتناقض: الكذب، مثلًا، لا أخلاقي لأن الكاذب
يفرض نفسه على المجتمع عن طريق جعل نفسه استثناء. فهو يتوقع من الآخرين أن يقولوا
الصدق، وإلا فكيف يمكن تصديق أكذوبته؟ وبعبارة أخرى، فما لم يكن القول الصدق عامًّا،
بحيث نأخذ عادةً أقوال الناس على أنها صادقة دون أن نشترط عليها دليلًا، فكيف يتسنى
للكاذب أن ينتفع من أكذوبته؟ إن موقفه مشابه لموقف مزيِّف النقود، الذي يستطيع أن يروج
تجارته ويجعل نقوده المزيفة المتداولة لأن الجزء الأكبر من النقود صحيحة غير مزيفة،
تتداول بحرية دون أن يشك فيها أحد. غير أن قليلًا من التزييف يكفي وحده للقضاء على نظام
كامل للعملة، ما دامت النقود الزائفة تؤدي إلى طرد الصحيحة. وعلى ذلك فلا يمكن أن يوجد
مزيف نقود يود أن تمارس حرفته الخاصة على نطاق واسع. والواقع أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث
له، باستثناء القبض عليه، هو أن يبدأ أناس آخرون في سك نقود زائفة بكميات تكفي لإلقاء
سحابة من الشك حول العملة المقبولة. فلا بد أن تكون العملة صحيحة من أجل أن ينجح
التزييف ولو مؤقتًا، وكذلك الحال في الكذب: فلو أصبح عامًّا، لما صدقت أية عبارة يقولها
أي شخص، ولما أمكن للكاذب أن ينجح على أساس تصديق الناس لأكاذيبه.
ولكن لا شك في أن هذا ينطوي على تناقض؛ إذ إن الكاذب يريد أن يصبح الصدق عامًّا،
وموثوقًا منه، ولكنه يريد أن يكون استثناء لهذه القاعدة العامة. وبالاختصار، فإنه لا
يود أن يعمم سلوكه الخاص؛ لأنه لو أصبح هو «القانون العام للبشر» لساء مصيره. وعلى ذلك
فهو يدعو أساسًا إلى معيار معين لنفسه، وإلى معيار آخر لكل شخص عداه. وهكذا فإن من يكذب
يقع في تناقض. فصاحبنا الكاذب هذا يقع في تناقض أساسي؛ إذ يجعل من نفسه استثناء — عن
خرق القاعدة القائلة إن كل شخص، في جميع المواقف الاجتماعية، ينبغي أن يحسب فردًا فحسب،
وأن كل فرد ينبغي أن تكون قيمته مساوية لقيمة كل فرد، آخر أو، كما نقول عادةً عن هؤلاء
الأفراد، فهم يعترفون بالمعايير بألسنتهم، ولكنهم لا يطبقونها في أفعالهم.
لا بد في كل فعل غير أخلاقي من شيء من التناقض:
يعتقد كانت أن كل سلوك غير أخلاقي ينطوي على هذا التناقض ذاته، ما دام ينطوي دائمًا على
سلوك لا نود أن يصبح شاملًا للجميع. ومن هنا فإن السلوك غير الأخلاقي هو في أساسه سلوك
لامنطقي ولا معقول؛ لأنه يؤدي بالضرورة إلى إيقاع من يمارسونه في تناقضات منطقية. وهكذا
يوجد أساس عقلي أو منطقي للأخلاق، مستقل عن الأمر الإلهي، وعن فروض الكنيسة أو العرف
الاجتماعي، بل إن هذا الأساس مستقل عن كل سلطة، سواء منها البشرية أو الإلهية. فهو
مستقل ذاتيًّا بالمعنى الدقيق. وربما كان الأوضح أن نصفه بأنه مكتفٍ بذاته، فهو ليس في
حاجة إلى دعامة من أي مصدر أو جهة خارجية. وكل ما يحتاج إليه من تبريرات يأتيه من
القوانين الأولية للاستدلال السليم. وهكذا يكون هناك أساس للحكم الأخلاقي حتى لدى
الشكاك والملحدين، على حين أن المؤمن بالألوهية المفارقة يكتسب أساسًا إضافيًّا يدعم
مذهبه الأخلاقي المستمد من الله.
على أن في استطاعة القارئ الناقد أن يكتشف أخطاء في موقف كانت، وذلك من حيث ادعاء
كانت أن هذا الموقف يصلح أساسًا لأخلاق شاملة ملزمة. فلنفرض مثلًا أن شخصًا يسلك سلوكًا
غير أخلاقي، لا يعبأ إن كان متناقضًا أم لا … فإذا اتهمنا هذا الشخص بأن سلوكه غير
منطقي، ومتناقض، واكتفى هو بأن يهز كتفيه ويقول: «وماذا في ذلك؟» فما الذي نفعله
عندئذٍ؟ وعلى أي أساس نستطيع أن نحرك مشاعره؟ وإذا لم يكن صاحبنا هذا من أنصار المذهب
العقلي، ولم يكن يعبأ بالاتساق العقلي، فماذا نفعل معه؟ من الواضح أن كانت، حين وضع كل
أسهمه في هذه الجعبة العقلية الواحدة، قد خاطر مخاطرة كبرى. فهناك دائمًا احتمال في أن
يقوم شخص لا أخلاقي، لا يعبأ بالاتساق المنطقي، بسرقة الأسهم والجعبة معًا.
الفضل الدائم «لكانت»: ولكن أيًّا كانت الأخطاء
التي تكتشف في مذهب كانت الأخلاقي، فإنها ليست أخطاء منطقية. ومن المؤكد أنه طبق مثله
الأعلى في الاتساق بكل اتساق. ومن المؤكد أيضًا أن مذهبه ما زال أدق وأكمل محاولة بذلها
فيلسوف من أجل إرساء الإلزام الخلقي على أساس عقلي بحت، مستقل عن الدعامة فوق الطبيعية
التي تتمثل في الإرادة الإلهية. وبناء على هذه المزايا وحدها فهو يستحق الاحترام، حتى
لو لم نكن نشعر بالميل الصادق إليه. فمن الجائز أن كانت لم ينجح في أن يجعل الحياة التي
نحياها من أجل الواجب تبدو في أعيننا جذابة، ولكنه قطعًا جعلها مثيرة منطوية على
التحدي. وقد وضع أساسًا لفلسفة في الواجب كان لها تأثيرها في أشخاص عديدين خلال أجيال
متعاقبة. وقد يكون الشرط الذي حدده، وهو أن نفعل بعض الأمور لمجرد كونها واجبًا علينا،
لا لأي سبب آخر — قد يكون هذا الشرط فلسفة صارمة، ومع ذلك فقد كان هناك أشخاص ارتفعوا
إلى مستوى تحدي هذه الصرامة الرفيعة، وكان عدد هؤلاء الأشخاص كبيرًا إلى حد يدعو إلى
الاستغراب.
(٧) «تحقيق الذات» بوصفه الخير الأسمى
من المرجح أن يكون أولئك القراء الذين كانوا يأملون أن يجدوا في المذهب الشكلي
ترياقًا فعالًا لمذهب اللذة قد شعروا بخيبة الأمل. فبغضِّ النظر عن مدى كراهية المرء
للنظرية الأخلاقية التي لا تعترف بالتزام نحو أي شيء فيما عدا السعادة البشرية، فإن
معظم الأذهان الحديثة تجد فكرة الأخلاق التي تتجاهل هذه السعادة تمامًا فكرة أكثر استحالة.
١١ وهكذا نجد أنفسنا مدفوعين بالطبع إلى البحث عن رأي يقف موقفًا وسطًا بين
طرفَي مذهب اللذة والمذهب الشكلي هذين. وتعرف وجهة النظر العامة التي تحاول اتخاذ هذا
الموقف الوسط بأسماء متعددة، من أكثرها شيوعًا: تحقيق الذات
Self-Realization، ومذهب الكمال
Eudaemonism، ومذهب الفاعلية
Energism، ومذهب السعادة
Endaemonism، والنزعة الإنسانية
Humanism ويبدو أن هناك ميلًا متزايدًا إلى الأخذ
باسم مذهب تحقيق الذات بوصفه أفضل لفظ؛ ولذا فسوف نأخذ بهذا الاستعمال الشائع.
إن مذهب تحقيق الذات يرى أن أسمى خير هو تحقيق الشخصية أو الذات. وهذا يعني التحقيق
الكامل لكل إمكانات الفرد وقدراته (أو نقلها إلى حين الفعل
Energizing ومن هنا كان اسم «مذهب الفاعلية
Energism»). وفضلًا عن ذلك فهو يعني أن كل هذه
القدرات ينبغي أن تنمَّى بحيث تصبح كلًّا واحدًا متكاملًا: فالهدف هو الكلية مثلما أنه
هو الاكتمال. والواقع أن تأكيد هذين الهدفين المتساويين هو الذي يميز مذهب تحقيق الذات
من المذهب الشكلي من جهة ومذهب اللذة من جهة أخرى. فالمذهب الشكلي يؤكد طبيعة الإنسان
العاقلة، ولكنه يضحي بمشاعره وأحاسيسه وحياته العاطفية بوجه عام. ومذهب اللذة يتطرف في
الاتجاه المضاد، فينظر إلى الإنسان على أنه كائن ذو شعور وإحساس فحسب. وهكذا فإن هدفَي
المدرستين المنافستين لمذهب التحقيق الذاتي يبدوان ناقصَين بالقياس إلى هدفها. فهي
وحدها (في رأي صاحب مذهب تحقيق الذات) التي تسعى إلى إدراج جميع طاقات الإنسان وقدراته
داخل كلٍّ متكامل. ولا بد أن يكون الخير الأسمى الصحيح الوحيد هو التطور المنسجم لجميع
جوانب الطبيعة البشرية.
وحسبنا هذا الإيضاح البسيط لمذهب تحقيق الذات. ومع ذلك قلما كانت نتائج هذا الموقف
هي
التي جعلته قوة فعالة إلى حدٍّ بعيد في التفكير الأخلاقي المعاصر، فلزام علينا أن نقدم
تحليلًا أكمل لهذه النتائج.
تحقيق الذات و«القيم العليا»: يتحدث أنصار تحقيق
الذات كثيرًا عن «القيم فوق العضوية»، ويبدون اهتمامهم الأول ببلوغ هذه القيم. والمقصود
من لفظ «القيم فوق العضوية» هو بوجه عام كل الخيرات أو القيم المغايرة لتلك التي تشبع
الحاجات المادية أو البيولوجية البحتة للكائن العضوي. فبينما الإنسان يشارك الحيوانات
جميع قيمه العضوية تقريبًا، فإنه هو المخلوق الوحيد القادر على تحقيق تلك القيم فوق
العضوية؛ أي تلك التي تعلو على الكائن العضوي بوصفه موجودًا ماديًّا؛ ذلك لأن للإنسان
حاجات وقدرات تتجاوز بكثير نطاق أعلى الحيوانات ذاتها. وهذه القدرات هي التي تهتم بها
هذه المدرسة الأخلاقية بوجه خاص. فأنصار تحقيق الذات يشيرون إلى أن الإشباع العضوي لا
يمكن أن يشكل إلا جزءًا من «الحياة الخيرة»؛ لأن هذا الإشباع ليس إلا وسيلة فحسب، فهو
الأساس المادي للحياة البشرية المتحققة على الوجه الأكمل. صحيح أن من الضروري إطعام
الجسم وإيواءه وإرضاءه جنسيًّا، غير أن هذه ليست إلا المقدمات الضرورية للغاية الرئيسية
للإنسان. والواقع أن تحقيق القيم العليا هو تحقيق الذات بمعناه الصحيح، وهذه القيم هي
التي يضعها أفراد هذه المدرسة في أذهانهم عندما يقدمون الحجج تأييدًا لموقفهم.
وهناك مدارس فرعية متعددة منتمية إلى حركة تحقيق الذات، تمضي في تأكيد هذه القيم
العليا إلى حد أنها تقول ضمنًا بمذهب ثنائي من نوع ما. فهي تهتم بالإرضاء فوق العضوي
إلى حد أنها قد تميل إلى الإقلال من أهمية سعادة الإنسان المادية إلى أدنى حد ممكن.
ويستخدم اسم «مذهب الكمال
المثالي Idealistic Perfectionism» عادةً للتعبير عن موقف هذا الجناح الروحي. وفي الطرف الآخر
نجد أنصار تحقيق الذات الذين ينظرون إلى قدرات الإنسان بمعنى مادي إلى حدٍّ بعيد. فهنا
يصب الاهتمام على التكيف مع البيئة، أو التكيف البيولوجي. ويعبِّر لفظ «مذهب الكمال الطبيعي Naturalistic Perfectionism» عن الطابع
العام لهذا الجناح اليساري داخل نطاق مدرسة تحقيق الذات.
موقف جامع: تتألف أغلبية مدرسة تحقيق الذات من
جامعة معتدلة تقف بين هذين الجناحين. وتقوم وجهة النظر المتوسطة هذه بجهد حقيقي لسد
الثغرة التي تفصل بين الموقفين المتطرفين. فهي تحرص على ألا تؤكد أيًّا من القيم فوق
العضوية على حساب الأخرى، وبدلًا من ذلك تجعل هدفها هو التحقيق الكامل لكل القدرات
البشرية، دون أن تركز اهتمامها الخاص على قدرة واحدة أو نوع واحد من القدرات. فهدفها
الرئيسي هو الشمول، وهي لا تضع سلَّمًا من القيم يجعل المادي خاضعًا للروح أو العكس.
وقد يبدو ذلك لأول وهلة موقفًا وسطًا ناجحًا، ومن يجد استجابة قوية لدى أشخاص كثيرين،
يرون فيه أفضل هدف أخلاقي. ولكن من سوء الحظ أن هذا الحل، شأنه شأن كل حل وسط آخر،
سرعان ما يظهر إخفاقه حالما نضعه موضع التطبيق؛ ذلك لأن الحياة ليست إلا سلسلة متصلة
من
أفعال الاختيار التي يتعين القيام بها. فلا بد لنا من أن نختار أي القدرات سنحققها،
وأيها سنقرر على كره منا أنها ينبغي أن تظل في حيز الإمكان فحسب. ولعله لا يوجد شخص
واحد يستطيع خلال حياته الخاصة وحدها أن ينمي كل القدرات الكامنة فيه. ولما كان
الاختيار ينطوي دائمًا على معيار معين نختار على أساسه، فسرعان ما نجد أننا قد عدنا من
حيث بدأنا دون أن تحل مشكلتنا الأصلية. فأي القيم سنحقق، وأي القدرات سننمي، وأي معيار
للكمال سنقبل؟
اعتراضات أخرى على مذهب تحقيق الذات: كانت توجه من
آنٍ لآخر اعتراضات أخرى على مذهب تحقيق الذات بوصفه مثلًا أخلاقيًّا أعلى. وعلى الرغم
من أن أحدًا من هذه الاعتراضات لا يبدو مؤدِّيًا إلى القضاء على المذهب، فلا بد أن
الإشارة إليها باختصار على الأقل. ولعل أكثر الانتقادات ترددًا هو ذلك الذي يقول إن هدف
تحقيق الذات هو في أساسه هدف أناني؛ ذلك لأن تركيز الاهتمام على الذات بهذه الطريقة
يؤدي — على ما يقال — إلى التعرض لخطر تقوية أسوأ مشاعر الأنانية والتركيز حول الذات.
ونحن لا ننمي ذاتنا إلى الحد الأقصى إلا عندما نمحو أنفسنا في سبيل قضية ما، أو في خدمة
من نحب. وكثيرًا ما تقتبس في هذا الوضع كلمة من أعمق كلمات المسيح، بوصفها حجة ضد دعوة
تحقيق الذات «من كسب حياته خسرها، ولكن من خسر حياته كسبها.»
وهناك اعتراض ثانٍ على هذا المذهب، هو القول إن الناس قد «يحققون» أنفسهم بطرق مضادة
للمجتمع. مثلما يحققونها بطرق يقرها المجتمع. فكلنا لدينا إمكانيات للشر تكون جزءًا
حقيقيًّا من «قدراتنا الكامنة» تمامًا كغيرها من القدرات المرغوب فيها بحق. ولكن الدعوة
إلى تنمية كل القدرات الكامنة فينا لا توضح أي هذه القدرات ينبغي أن تكون له الأولوية،
أو أيها ينبغي أن ننحاز إليه إذا اتضح أن كلًّا منها يتعارض مع الآخرين. وهنا أيضًا نجد
لمشكلة الاختيار أهمية قصوى، ولا يمكن أن يكون لمذهب التحقيق الكامل للذات قيمة بوصفه
موجهًا لنا في القيام بمثل هذا الاختيار.
رد أنصار تحقيق الذات: لا يجد أنصار تحقيق الذات
صعوبة في الرد على هذه الاعتراضات. فهم يردون على تهمة الأنانية بقولهم إن الإنسان كائن
اجتماعي لا يستطيع تحقيق أكبر قدر من إمكاناته إلا في علاقاته الاجتماعية. ولما كان من
المستحيل حدوث نمو حقيقي للشخصية في فراغ اجتماعي، فإن تحقيق القيم الاجتماعية ينطوي
بالضرورة أيضًا على تنمية الشخصيات أو الذوات الأخرى كذلك. أما إذا كان المرء أنانيًّا
فإنه يعوق بذلك نمو الذات الكلية. وعلى ذلك، فرغم أن سوء فهم المذهب — أو التصور الزائف
للذات، على الأرجح — يمكن أن يؤدي إلى الأنانية، فإن هذا لو حدث لكان تشويهًا لوجهة نظر
مذهب تحقيق الذات، لا نتيجة منطقية له. صحيح أن الاندماج الكامل في قضية أو في عمل
يمليه الحب قد يكون أفضل طريقة لتحقيق أكبر قدر من النمو للذات، ولكن هذا إنما يثبت أن
الذات نتاج اجتماعي قبل كل شيء.
ويلجأ صاحب مذهب تحقيق الذات إلى هذه الإجابة ذاتها للرد على التهمة القائلة إن الفرد
قد يحقق ذاته بطرق لا يرضى عنها المجتمع؛ ذلك لأنه إذا كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا،
فمن العسير عليه أن يحقق أعلى نمو لشخصيته بطرق تتعارض مع تقدم المجتمع ونموه. ويضيف
صاحب مذهب الكمال المثالي إلى ذلك حجة أخرى؛ إذ إنه يؤكد أهمية تنمية كل ما هو أعلى في
الإنسان. ففي استطاعة من يؤمن بهذا المذهب، عن طريق تأكيده لهذا السلم المتدرج للقيم،
أن يقول إن الواجب يحتم علينا وضع بعض قدراتنا الكامنة في مركز ثانوي إذا شئنا تحقيق
ذات أو شخصية متكاملة، ولما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، فلا بد أن تكون القدرات
المضادة للمجتمع هي التي توضع في مركز ثانوي.
ومن الواضح أننا لا نستطيع السير في المناقشة أبعد من ذلك كثيرًا دون أن نضطر إلى
خوض
ذلك المجال الذي ربما كان أعوص مجالات الفلسفة؛ وأعني به مشكلة «الذات». ومع ذلك فقد
يكون في استطاعتنا، إذا سرنا بحذر، أن نكتفي بالمرور عند طرف هذه المشكلة، ونختم
مناقشتنا لتحقيق الذات بعرض موجز لآراء عظم أنصارها، وهو أرسطو.
(٨) الأخلاق عند أرسطو
الحق أن العودة إلى التفكير الأخلاقي لأرسطو هي على الدوام تجربة تريح الذهن وتجدد
نشاطه. فعلى الرغم من أن آراءه لم تكن بمنأى عن الهجوم، كما أن انتشار الديمقراطية أدى
إلى ظهور بعضها بمظهر الترفع الكاذب، فإن تفكيره الأخلاقي يتسم بوضوح واتزان وجاذبية
للعقل العادي (والأخيرة أهم هذه الصفات جميعًا) تجعل هذا التفكير متعة في ذاته، مهما
يكن عدد المرات التي نرجع فيها إليه. فكتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس ليس فقط واحدًا من
أعظم المصادر في هذا الميدان، بل إنه أيضًا واحد من المنابع التي لا تنضب لتجديد الفكر
الفلسفي.
ولقد كان أرسطو يرى، على خلاف سلفه المباشر، أفلاطون، وأغلب المفكرين الأخلاقيين
الذين ساروا في خطاه، أن المجال الواقعي الوحيد هو العالم الطبيعي المنظور. فالواقع
والمثل الأعلى، والطبيعي والروحي، هما حقيقة واحدة لا تنفصم. مثل هذا الرفض للثنائية
يعني أن الحياة الخيرة ينبغي أن توصف على أساس عالمنا هذا، دون أية إشارة إلى المجال
العلوي أو المجال فوق الطبيعي. وقد عبر كاتب عن هذه الفكرة في الآونة الأخيرة بقوله إن
الفكرة الأخلاقية، عند أرسطو «توجد في تركيب الطبيعة البشرية ذاتها»
١٢ وعلى ذلك فلا بد لكشف طبيعة الحياة الخيرة أو صورة الخير الأسمى من دراسة
طبيعة الإنسان. فلكي نهتدي إلى «الخير» ينبغي أن نهتدي إلى إجابة عن سؤال أولي عظيم
الأهمية، هو: بمَ يكون الإنسان إنسانًا؟
بمَ يكون الإنسان إنسانًا؟ يجيب أرسطو عن هذا
السؤال بقوله إن الإنسان يكون إنسانًا بأدائه لوظائف معينة. بعض هذه الوظائف نشترك في
أدائه مع كل الكائنات الحية، وبعضها نشترك فيه مع الحيوانات وحدها، وبعضها الأخير ينفرد
به نوعنا. وهكذا فإننا نشارك كل الأشياء الحية الوظائف «الغذائية» البحتة، كالتمثيل
الغذائي، ونشارك الحيوانات عمليات الإحساس والحركة. غير أن قدرتنا على التفكير العقلي
فريدة، وممارسة هذه الوظيفة هي التي تحدد بوضوح كامل معنى كون الإنسان إنسانًا.
على أن هذه القدرة العقلية التي يختص بها الإنسان تمارس لدى مختلف الأفراد على أنحاء
شتى؛ ذلك لأن الناس ينشدون أمورًا متعددة، ولا شيء يتميز به نوعنا أكثر من تعدد
الاهتمامات التي يتجه إليها الناس وتنوع الغابات التي يستهدفونها. وعند هذه النقطة يقدم
أرسطو بعضًا من أمثلته الشهيرة التي يقبلها العقل العادي بسهولة: فصانع اللجام يسعى إلى
أن يصنع لجامات جيدة، والجندي يسعى إلى النصر أو إلى المهارة في التدريبات العسكرية،
والمشتغلون بالأعمال الطبية ينشدون الصحة، وهكذا دواليك. ولكن كل أنواع النشاط هذه ليست
في آخر الأمر إلا وسائل لغايات، وهكذا نعود مرة أخرى إلى النظر إلى ضروب النشاط البشري
على أنها تكون سلسلة متدرجة من مظاهر «الخير» أو «القيم» وهذا ينطوي ضمنًا على القول
بغاية نهائية تكون متأصلة بحق، هي الخير الأسمى، أو كما يعبر عنها أرسطو «الخير الذي
تستهدفه الأشياء جميعًا». وهذا الخير الأسمى هو ما يطلق عليه أرسطو اسم
Eudaemonia وهو لفظ يترجم عادةً بكلمة «السعادة
Well-Being» أو «السعادة الحيوية».
السعادة بوصفها الخير الأسمى: من الطبيعي أن تكون
سعادة كل نوع من الأنواع الحية مختلفة. ومع ذلك فإن قوامها في كل حالة هو النمو الكامل
لتلك الوظائف التي يتميز بها هذا النوع بعينه. ويرى أرسطو أن هذه تكون عادةً وظيفة
واحدة، ما دام يرى أن لكل شكلٍ من أشكال الحياة نشاطه النوعي المميز. وهكذا تكون
مشكلتنا هي كشف الوظيفة التي يؤديها الإنسان على أفضل نحو، والتي ينفرد بها عن غيره
ما دامت سعادة الإنسان إنما تنحصر في تنمية هذه الوظيفة أو هذا النشاط إلى أقصى حد.
ولقد رأينا أن هذه الوظيفة لا يمكن أن تكون هي عمليات التمثيل الغذائي التي يقوم بها
الإنسان، ما دامت كل الكائنات الحية تقوم بنفس هذه الوظيفة. كما أنها لا يمكن أن تكون
طبيعته الحاسة أو المتحركة. ما دامت الحيوانات تشارك الإنسان هذه الطبيعة. وعلى ذلك فلا
بد أن نجد الخير الأسمى للبشر في أوجه النشاط العقلية التي ينفرد بها الإنسان.
وهكذا يظهر في مذهب أرسطو الأخلاقي عرض منظم للفكرة القائلة إن تحقيق القيم فوق
العضوية هو الخير الأقصى. ولو شئنا أن نعرض رأي أرسطو بطريقة أدق لقلنا إن الخير الأسمى
للإنسان إنما يكون في رعاية وتنمية جميع وظائفه، مع الاهتمام بوجه خاص بتلك التي تجعل
منه مخلوقًا عاقلًا وكائنًا اجتماعيًّا. وكما أن فضيلة عازف الناي إنما تكون في براعته
في العزف على الناي وفضيلة المثَّال إنما تكون في مهارته في ممارسة فنه، فإن فضيلة
الإنسان إنما تكمن في المهارة التي يمارس بها الفن الذي يكون به إنسانًا. وهذا الفن،
كما رأينا، هو أن نعيش على أساس طبيعتنا العاقلة بقدر الإمكان. فحياتنا الخيرة إنما هي
تعبير عن العقل.
الوظيفة المزدوجة للعقل: من الممكن ممارسة طبيعة
الإنسان العقلية في اتجاهين. فهي تستخدم، لدى السواد الأعظم من البشر، في التحكم في
العنصر الحسي والنزوعي لدينا؛ أي التحكم في طبيعتنا اللاعاقلة. ولقد أكد أرسطو أهمية
الاعتدال أو «الوسط العدل» بوصفه أفضل مرشد يعيننا على تنظيم حياتنا وفقًا للفضيلة.
فالسلوك يكون فاضلًا بحق إذا كان يسير في طريق وسط بين طرفَي الإفراط أو التفريط، كما
هي الحال عندما نكون «شجعانًا» بدلًا من أن نكون «متهورين» من جهة، أو «جبناء» من جهة
أخرى. وفضلًا عن ذلك فإن الحياة الفاضلة هي حياة أصبح فيها السلوك الفاضل عادةً — أي
أصبح فيها العقل — يجدد آليًّا الوسط الموجود بين طرفين، وأصبح هو الحكم الموثوق منه
فيما يصلح الزمان والمكان والظروف الخاصة. وحين نحقق كل قدراتنا عن طريق تكاملها
والتحكم فيها بطريقة متوازنة، فلن يكون في ذلك أفضل تحقيق لذاتنا فحسب، بل سيكون فيه
سعادتنا أيضًا؛ ذلك لأن السعادة، كما يقول أرسطو آخر الأمر، هي في أساسها مصاحبة للأداء
الصحيح للوظيفة. فهي ناتج ثانوي، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الذي استعملناه من قبل،
فالسعادة تتوج الأداء الصحيح للوظيفة مثلما أن «نضرة الشباب تتوج من هم في زهرة
العمر».
ومع ذلك فإن أرفع معيار للخير البشري ليس هو اللذة ولا الفضيلة التي تكتسب عن طريق
التحكم العقلي في طبائعنا اللاعاقلة. وإنما هو يكمن في ممارسة التأمل النظري
Theoria. فأرفع سعادة يستطيع الإنسان الوصول إليها
هي التمتع بالعقل بوصفه غاية في ذاتها؛ أي التفكير من أجل التفكير. هذا النشاط يمثل
أكمل نمو لوظيفة الإنسان الفريدة. وفضلًا عن ذلك فإن تنزه هذا النشاط يجعل الرضاء الذي
ينجم عنه رضاء مضمونًا، حتى لو كانت طبيعته تجعله مستقلًّا إلى حدٍّ بعيد عن الظروف.
والواقع أن أرسطو يتفق تمامًا مع أبيقور في حماسته للذات الفلسفية. وهو يصف هذه بأنها
أنقى اللذات؛ إذ إنها لا تشوبها شائبة من الألم الذي تقترن به اللذة الباهظة الثمن أو
التي يترتب عليها شعور مُقبض بالألم. وحين يمجد أرسطو التأمل النظري، نراه يتخلى عن
طريقته المألوفة في العرض، وهي عادةً طريقة علمية هادئة، ويحلق في آفاق شاعرية. فهو يصف
السعادة القصوى لحياة التفكير التأملي بقوله:
غير أن حياة كهذه تكون أرفع مما ينبغي بالنسبة إلى الإنسان (أي إذا عاشها
المرء طوال عمره)؛ ذلك لأنه لا يحياها بما هو إنسان، بل بما يوجد فيه من عنصر
إلهي. وبقدر ما يسمو هذا العنصر على طبيعتنا المركبة، يكون نشاطه أرفع من ذلك
الذي نمارس فيه النوع الآخر من الفضيلة. فإذا كان العقل إلهيًّا بالقياس إلى
الإنسان، فإن الحياة وفقًا له تكون إلهية بالقياس إلى الحياة البشرية.
١٣
انتقادات: أخذ النقاد على أرسطو تعلقه الشديد بحياة
التأمل لسببين؛ أحدهما كان نتيجة سوء فهم، أما الآخر فصحته مشكوك فيها. فأحيانًا يساء
فهم أرسطو فيقال: إنه يقصد أن أسمى حياة هي حياة من يحرك نسيجًا تأصليًّا من النظريات
الميتافيزيقية الفارغة — وهو التصوير الساخر الذي يشيع وصف الفيلسوف به. غير أن القراءة
المتمعنة لكتاب «الأخلاق» تبين أن أرسطو لم يكن في ذهنه أي نشاط كهذا يتم في برج عاجي،
إذ يبدو أن العالم أقرب إلى مثله الأعلى من الفيلسوف التقليدي، على الرغم من أن هذا
المثل الأعلى يمكن أن ينطبق على الفيلسوف إذا كان تفكيره نابعًا من الحياة ويمثل تأملًا
في التجربة البشرية بمعناها العام. ويمكن القول إن العالم الرياضي أقرب إلى مثل أرسطو
الأعلى، في بعض النواحي، من كلٍّ من الفيلسوف والعالم؛ إذ إنه لو كان هناك مفكر يبدو
مستمتعًا بالتفكير لذاته، فذلك المفكر هو الرياضي. ومع ذلك فإن للفيلسوف ميزة يتفوق بها
على كل المشتغلين بالتأمل: هي اتساع نطاق معرفته وتجربته التي نسميها «بالحكمة». ذلك
لأن الفيلسوف، كما يقول أرسطو، «يستطيع تأمل الحقيقة … وكلما تعمق في تأمله لها كانت
حكمته أعظم».
أما الاعتراض الثاني الذي يثار أحيانًا ضد حياة التأمل؛ ففيه يتهم أرسطو بأنه يدافع
عن معيار أرستقراطي مترفع، لا يمكن أن يصل إليه إلا الشخص المثقف الذي يتمتع بموارد
اقتصادية وفيرة. وهذه التهمة تتصف بشيء من الصحة؛ إذ إن من المؤكد أن أرسطو يعترف بأن
الشخص الذي تتوافر لديه قدرة معينة على ممارسة التفكير المجرد المنزه هو وحده الذي يصل
إلى حالة السعادة هذه. وهو يذكر صراحة أن «الحياة وفقًا للعقل» هي بالنسبة إلى معظم
الناس تلك الحياة التي يستخدم فيها العقل أساسًا لكبح الجانب الشهواني من طبيعتنا. وهو
بعبارة أخرى يعترف بأنه يهتم بأرفع ما في الإنسان من حيث هو نوع، لا بما هو أرفع في كل
إنسان فردي. فإن كانت هذه أرستقراطية، فتلك هي أرستقراطية العقل وحده.
إمكان تحقيق المثل الأعلى عند أرسطو: كان من الممكن
أن تكون التهمة القائلة إن تحقيق هذه الطريقة في الحياة يحتاج إلى دخل مستقل، صحيحة إلى
حد بعيد في أيام أرسطو. ولكنه مع ذلك ينكر صراحة أنه لا بد من أي شيء أكثر من دخل محدود
— أعني دخلًا يكفي فقط لإتاحة وقت معقول من الفراغ لنا. أما في أيامنا هذه، فقد أتاحت
التكنولوجيا هذا الفراغ لجزء كبير من الناس، وتدل الدلائل على أنها ستتخذ في المستقبل
للناس جميعًا. وإذن فعلى الرغم من أن المثل الأعلى للسعادة البشرية عند أرسطو ربما كان
ينطوي على «إحساس طبقي» في الوقت الذي صيغ فيه، فإن هذه الصفة المعيبة تختفي بسرعة. وقد
يشهد الأشخاص الذين هم أحياء في وقتنا هذا، ذلك اليوم الذي يتمكن فيه الناس جميعًا،
بقدر ما تسمح لهم مقدرتهم واتجاهاتهم، من تحقيق نمط «الحياة الخيرة» هذا.
تلخيص: يحسن بنا تلخيص هذا الفصل بإيجاز؛ إذ إن ما
ذكرناه فيه من أسماء ووجهات نظر عديدة يجعل الخلط بينها يسيرًا، بل مرجحًا.
لقد بدأنا بالتمييز بين نوعين من مذهب اللذة، النوع النفسي والنوع الأخلاقي. وبعد
عرض
الحجج المؤيدة للموقف النفسي والمعارضة له، انتهينا إلى أن المذهب ربما كان أبسط من أن
يكون مقنعًا، وهذا هو علة رفض علم النفس الحديث له. أما مذهب اللذة الأخلاقي فقد رأيناه
حيًّا إلى حدٍّ بعيد، وما زال أنصاره العديدون يكونون مدرسة من المدارس الرئيسية في
الفكر الأخلاقي. وقد ناقشنا أربعة أمثلة لمذهب اللذة، اثنين من الفلسفة القديمة واثنين
من الحديثة. فمذهبا أريستيبوس وأبيقور يمثلان معًا مذهب اللذة الفردي أو «الأناني».
وكلاهما ينظر إلى اللذة على أنها الخير الأوحد، ولكن بينما أريستيبوس يؤمن بنظرية ساذجة
لا تقدر إلا شدة اللذة، فإن أبيقور يرتقي بهذا المذهب فيؤكد عنصرَي الدوام والثمن (من
حيث الطاقة المبذولة والألم أو رد الفعل السيئ الناجم عنها). وهذا يؤدي إلى امتداح
اللذات الاجتماعية والعقلية أكثر من اللذات البدنية، كما أنه يشيد بوجه خاص بالمتع التي
تجلبها الصداقة والفلسفة. كما لاحظنا أنه بينما أريستيبوس يتخذ موقفًا إيجابيًّا واضحًا
من اللذة، فإن مذهب أبيقور هو في أساسه سلبي من حيث إنه ينظر إلى الخير الأسمى أنه
التحرر من الألم أو الحزن.
ويمثل مذهب المنفعة عند بنتام تغيرًا رئيسيًّا في داخل مذهب اللذة؛ إذ إنه يتعلق
بالسعادة الاجتماعية أو الخير العام، لا باللذة الشخصية وحدها. ومع ذلك فإن هذا التغير
لا يمثل إلا إضافة إلى المذهب السابق، الذي يحاول بنتام أن يجعله أدق عن طريق وضع صيغة
حساب للذات، نزن فيه العناصر الإيجابية (كالشدة والمدة واليقين والانتشار الجماعي إلخ)
في مقابل العناصر السلبية، لكي نحدد قيمة أي فعل أو موقف. ومع ذلك فلعل أعظم فضل يرجع
إلى بنتام كان تأكيده أن من الواجب تقويم الأشياء على أساس السعادة البشرية، لا على
أساس اتفاقها مع مثلٍ أعلى نظري أو علوي أو ديني معين.
أما مل فقد أدخل على مذهب اللذة عاملًا جديدًا كل الجدة، بل ربما كان عاملًا فيه
«هرطقة» (من وجهة نظر المذهب)، وذلك إذ جعل من نوع اللذة (أو كيفها) عنصرًا في تحديد
قيمتها، على حين أن جميع المفكرين السابقين المنتمين إلى هذه المدرسة قد تمسكوا بمعيار
كمي خالص في تقويم اللذات البشرية.
وفي النصف الثاني من هذا الفصل تناولنا مختلف الانتقادات الموجهة إلى مذهب اللذة
(وردود الأفعال على هذا المذهب). فبحثنا أولًا الاعتراضات الأساسية التي توجه إلى
المذهب في صورته العامة. وكان هناك اعتراضان بارزان على نحو خاص، هما القائلان إن
النظرية (أ) غير جديرة بأسمى طبيعة للإنسان (ب) وغير كافية بوصفها معيارًا أخلاقيًّا.
أما أول هذين الاعتراضين فكان الرد عليه سهلًا؛ إذ إنه يبدأ بحثه عن «الخير» بفكرة
سابقة عما ينبغي أن يكون عليه الخير. أما تهمة عدم الكفاية فأخطر بكثير، وقد ناقشناها
بطريق غير مباشر عندما قدمنا تحليلًا كاملًا للفلسفتين الرئيسيتين المضادتين لمذهب
اللذة، وهما: المذهب الشكلي، ومذهب الكمال (أو تحقيق الذات).
وقد عرض المذهب الشكلي، أساسًا، من خلال دراسة الأخلاق الكانتية؛ إذ إن «كانت» دون
شك
أبرز ممثل لهذه المدرسة. ولاحظنا أن صاحب المذهب الشكلي يبحث عن سلطة أخلاقية معينة تحل
محل الإيمان المسيحي بإرادة عليا لإله واحد تعد مصدرًا لهذه السلطة، وهو الإيمان الذي
بدأت تتداعى قوته. كما لاحظنا القواعد الأولية (القبلية) والأمر المطلق، وكلها مبادئ
وضعها كانت لتحل محل السلطة الدينية الملزمة، وبحثنا في عناصر القوة في أي مذهب أخلاقي
مبني على هذه الأسس الشكلية، وكذلك في الحدود التي لا يتعداها مثل هذا المذهب.
أما مذهب الكمال أو «تحقيق الذات» بوصفه الخير الأسمى فيتخذ لنفسه مثلًا أعلى من
اكتمال الشخصية. ويتم ذلك عن طريق تحقيق كل الممكنات أو القدرات الموجودة لدى كل فرد
إلى أقصى درجة ممكنة. ومع ذلك فلما لم يكن من الممكن أن يكون ذلك مثلًا أعلى نظريًّا
(نظرًا إلى قصر عمر الإنسان)، فإن المدارس المختلفة لمذهب الكمال تختار فئات أو مستويات
معينة من المقدرة البشرية بوصفها الأكثر دلالة، وتجعل لما يتبقى مكانة ثانوية. وهكذا
فإن أقوى هذه المذاهب الفرعية تأثيرًا، وهو مذهب «الكمال المثالي» يؤكد القيم فوق
العضوية، ويصل في ذلك أحيانًا إلى حد الاستهانة بتحقيق الممكنات الجسمية. أما «مذهب
الكمال الطبيعي» فيؤكد، على عكس ذلك، أن الهدف هو التكيف مع البيئة أو التكيف
البيولوجي.
ويعد تفكير أرسطو الأخلاقي مثلًا قديمًا لنظرية تحقيق الذات، ولكنه مثل ما زال له
تأثيره. فهنا يكون الخير الأسمى في الممارسة الحرة لذلك النشاط الذي هو المميز بحق لأي
نوع بعينه وهو في حالة الإنسان، النشاط العقلي، ما دامت حياتنا الفعلية هي التي تميز
البشرية من بقية النظام الحيواني أوضح تمييز. وعلى الرغم من أن من الممكن ممارسة هذا
التفكير العقلي على أنحاء شتى، فإن أرسطو يرى أنه يحقق على ممكناته في النشاط التأملي
الفكري الذي يتمثل بأوضح صورة في الفلسفة.