الحتمية في مقابل اللاحتمية
(١) تاريخ النزاع حول حرية الإرادة
تتبعنا، في مناقشتنا المبدئية لمشكلات الفلسفة (الفصل الأول) الأصول التاريخية للنزاع حول الحتمية. وبيَّنَّا كيف أن مبدأ العِلِّية قد أخذ يمتد تدريجيًّا ليشمل ميدانًا تلو الآخر، فقد أخذ نطاق مبدأ العِلِّية يتسع، منذ صياغته الأولى في أبسط قوانين الميكانيكا، حتى أصبحت تدخل في إطاره آخر الأمر ميكانيكا الوراثة ذاتها. ذلك لأن استتباب النظام والقانون العلمي قد أدى في البداية إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب. وعندما تبين أخيرًا أن سلوك الحيوانات يمكن التنبؤ به على الأقل، وكشفت نظرية دارون عن تلك العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، بدا كأن الزحف المطرد للحتمية قد بلغ أقصى مداه. فقد تبين عندئذٍ أن كل الحوادث في المجال الطبيعي هي نتائج مباشرة لحوادث سابقة، وأن الظواهر الواقعة في نطاق تجربتنا تكاد كلها تكون قابلة للتفسير (أو يلوح أنها ستكون قابلة للتفسير) على أساس قوانين العلة والمعلول الصارمة. وظهر بوضوح متزايد أن العمل الرئيسي للعلم إنما هو صياغة هذه القوانين العِلِّية. واقتنع العلماء أنفسهم بأن في استطاعتهم تلبية كل ما يطلبه الذهن من تفسيرات، وذلك إذا أمكنهم إعلان الاندماج التام بين مختلف أوجه تجربتنا في نسق واحد هائل من علاقات العلة والمعلول. وفي هذه الأثناء، ازداد الفلاسفة اهتمامًا بمشكلة العِلِّية، وأصبحوا بدورهم يشعرون بأن مفهوم «العلة» مفهوم رئيسي في التجربة البشرية. وهكذا أصبح نطاق الحتمية، عند نهاية القرن التاسع عشر، يكاد يكون شاملًا.
ومع ذلك فقد ظلت هناك قطعة أخيرة صغيرة من الأرض التي لم يتم غزوها، فقد ظل الإنسان ذاته خارج نطاق القانون العِلِّي. وكانت «الطبيعة البشرية» لا تزال شيئًا منعزلًا عن «الطبيعة»؛ إذ إنها كان تعد مستقلة عن مبدأ الحتمية. وبالاختصار، فقد كان ينظر إلى الإنسان على أنه استثناء. ومهما يكن من أحكام السلاسل العِلِّية التي تربط بقية الكون، فإن أفعال الإنسان ودوافعه كانت تعد حرة إلى حد ما: ذلك لأن في استطاعته في أي وقت أن يتخذ قرارًا أو يؤدي عملًا لا صلة له بقراراته أو أعماله السابقة. صحيح أن سلوك الحيوان يبدو مجرد استجابة للقوى المادية (التي تسمى بالمنبهات)؛ وبالتالي فإن كل فعل تقوم به هو فعل عِلِّي. غير أن الإنسان يستطيع على ما يبدو أن يسبب أفعاله الخاصة، أما بكسر سلسلة عِلِّية مستمرة بالفعل، وإما ببدء سلسلة جديدة من أول الأمر.
وقد وصفنا من قبل هذا الفيلسوف اليهودي العظيم بأنه كان منبوذًا من أبناء طائفته ومن المسيحيين المتمسكين معًا، وينبغي أن نشير الآن إلى أن مذهبه الحتمي ربما كان هو الذي أدى إلى طرده من الديانة اليهودية أكثر من إلحاده المزعوم ذاته. وعلى الرغم من أن هيوم وغيره قد انتقدوا فيما بعد مفهوم العِلِّية عند اسبينوزا، فإن موقفه الحتمي العام، ولا سيما في تطبيقه على الإنسان ما زال في الأذهان وقع حديث إلى حد يدعو إلى الدهشة. ولن نكون مبالغين إذا وصفنا هذا الجانب من تفكيره بأنه كان سابقًا لزمانه بقرنين كاملين.
ولقد قال البعض أن ديكارت قد اضطر إلى اتخاذ موقف الحذر بعد اضطهاد محاكم التفتيش لجاليليو وغيره من المفكرين التقدميين، وأنه بالتالي قد صاغ هذا المذهب الثنائي لكيلا يقع تحت طائلة الكنيسة التي كان سلطانها ما زال طاغيًا. على أن من المؤكد أن نتيجة هذا التشعب المزدوج للواقع كانت تحرير العالم الطبيعي، الفيزيائي منه والحيواني، من تلك المفاهيم العقيمة علميًّا، من أمثال «العلة الغائية» و«القصد النهائي». وترتب على ذلك أن العلم تمكن من أن يبدأ سيره على أساس حتمي بحت. ومنذ ذلك الحين كانت للعلم الحرية في أن يسير في طريقه الخاص، ما دام مبتعدًا عن مجال اللاهوت؛ أي عن موضوعات مثل أصل الإنسان وطبيعته ومصيره … ومن الجائز أن ديكارت كان مخلصًا في إيمانه بالثنائية، غير أن نتيجة هذا التقسيم الثنائي قد حققت كل ما كان يمكن أن يرغب فيه كان قد حاول عن عمد أن يفصل العلم الفيزيائي عن اللاهوت. ولكن من سوء الحظ أنه حين حرر العلم الفيزيائي من سيطرة الكنيسة على هذا النحو، قد كبل علم النفس، دون أن يدري، في أغلال عقلية؛ إذ إن نفس هذا العلم، الذي يتخذ من الذهن أو الوعي موضوعًا، بدأ داخلًا في المجال اللاهوتي. وترتب على ذلك أن استبقيت في هذا الميدان على التخصيص تلك المفاهيم القديمة في الغائية والغرضية، التي استبعدت من كل العلوم الأخرى.
ولقد كانت إعادة تأكيد خضوع البحث في الإنسان للاهوت على هذا النحو هي التي دفعت اسبينوزا إلى الثورة؛ إذ إنه كان يعتقد أن أفعال الإنسان خاضعة للحتمية الدقيقة، شأنها شأن أي شيء في الطبيعة. فمع اعتراف اسبينوزا بقدرة الإنسان على تصور أي هدف والسلوك في اتجاه ذلك الهدف، فإنه مع ذلك قد وضع للسلوك الإنساني قانونًا عِليًّا يربطنا ببقية العالم الطبيعي ربطًا مباشرًا. أما شعورنا بالحرية فما هو، باختصار، إلا وهم. وعلى أية حال فسوف نقول المزيد عن تفكير اسبينوزا بعد قليل.
(٢) الوضع الحالي للنزاع
لم تتوصل الفلسفة إلى النتائج الكاملة للمذهب الحتمي عند اسبينوزا إلا بعد ما يقرب من مائتي عام. وخلال هذه الفترة تطور العلم من حالة عدم الثقة بالنفس، التي كانت تميز عهد مراهقته، حتى اقترب من عهد نضجه الحالي، وكان هذا التطور دائمًا في اتجاه الحتمية الأكثر شمولًا. فكل كشف يتم في معمل، وكل فرض يحقق، يعني أن جزءًا آخر من العالم الطبيعي قد خضع لقوانين العلة والمعلول. وهكذا أخذت حدود الحتمية تتسع باطراد، وفي الوقت ذاته ازدادت باطراد أيضًا ضرورة تحدي العلم لمركز الإنسان الفريد خارج حدود العِلِّية. وأخيرًا، استهل عهد هذا التحدي في نصف القرن الماضي، وعند مطلع القرن العشرين كان هذا التحدي قد بلغ من القوة حدًّا جعل الرأي المحافظ يقف موقف الدفاع.
ولكن من سوء الحظ أن محاولات توسيع نطاق الحتمية بحيث تمتد إلى المجال البشري قد أدت إلى زيادة في التوتر ونقصان في الموضوعية؛ ذلك لأن الناس يستطيعون مناقشة المسائلة المتعلقة بالنجوم بقدر كبير من التنزه، ولكنهم يجدون تحليل أفعالهم أمرًا مختلفًا كل الاختلاف. وقد كانت هناك صعوبة أخرى هي أن توسيع نطاق المفاهيم العِلِّية الدقيقة بحيث تشمل الأمور البشرية، كان يتطلب تعديلًا عميقًا ودقيقًا في المصطلح المستخدم في هذا الموضوع. وفي كثير من الحالات لم تكن هذه التعديلات تدرك عن وعي، فأدى ذلك أحيانًا إلى التوسع في استخدام المفاهيم الآلية إلى حد الإفراط الشديد. ولذلك كان من الواجب علينا أن نعرف ألفاظنا الرئيسية ونستخدمها بأكبر قدر ممكن من الدقة والحذر.
وترتبط القدرية تقليديًّا باتجاه أقرب إلى أن يكون شرقيًّا منه إلى أن يكون غربيًّا. ففي الفكر الإسلامي يعبر لفظ «القسمة» عن مذهب مشابه، وكثيرًا ما يترجم اللفظ (ولكن بطريقة غير كاملة الدقة) بلفظ يعني «المكتوب». وقد عبر عمر الخيام عن هذا الاتجاه تعبيرًا كلاسيكيًّا إذ قال:
وينبغي أن نؤكد أن القدرية تنظر إلى المصير أو «العلة» على أنه شيء خارج تمامًا عن الكائن العضوي. فالكون، أو بمعنى أدق، القوى الهائلة للكون — هو الذي يحكم حياتنا. وطوال أعمارنا نتحرك ونحن في قبضة قوى لا سلطان لنا عليها. والموقف الوحيد الذي يمكننا اتخاذه إزاء ذلك هو موقف الاستسلام الشرقي التقليدي (وربما جاز لنا أن نستعين على ذلك بكأس عمر الخيام)، أو موقف عدم الانفعال وعدم الاكتراث الباطن الذي دعا إليه الرواقيون. أما القوى الكونية والنجوم التي تكتب فيها كل المصائر، فإن أي شيء يستطيع الإنسان أن يبعثه من داخله لا يقدر حيالها شيئًا.
(٣) الحتمية في مقابل اللاحتمية
(٤) حجج كلٍّ من الجانبين
اقتصرنا حتى الآن على عرض موقف كلٍّ من الحتمية واللاحتمية بطريقة قطعية إلى حد ما. وعلينا الآن أن نبحث في الحجج الرئيسية التي يرتكز عليها كل فريق؛ لأن من الواضح أننا لا نستطيع الاختيار بطريقة واعية بين وجهتَي النظر هاتين إلا عن طريق تقدير الأدلة التي يستند إليها كلٌّ منهما. ولما كانت اللاحتمية قد ظلت هي الرأي «الرسمي» للفكر الغربي، فسوف نبدأ بعرض حججها. وسيتضح لنا فيما بعد أن معظم الحجج الحتمية هي في حقيقتها ردود على حجج المذهب اللاحتمي؛ ولذا كان الأفضل هو الاستماع إلى الأصل أولًا.
-
(١)
إن من أوضح حقائق حياتنا النزوعية، شعورنا بالحرية. فأيًّا كان القرار الذي نحاول اتخاذه، ومهما تكن صعوبة بلوغه، فإننا عندما نتخذ قرارنا أخيرًا يكون لدينا شعور بأن الاختيار لم يتحكم فيه شيء سوى إرادتنا الخاصة. وقد تؤدي القوى الخارجية، أو العجز الشخصي، إلى قصر اختيارنا على بديلين فقط، كلاهما غير مرغوب فيه، ولكنا نشعر بأن القرار النهائي هو دائمًا عمل اختياري إرادي صادر عنا نحن. فنحن نوقن في هذه الحالة بأنه كان في استطاعتنا اختيار البديل الآخر بنفس السهولة وبنفس «الحرية». ويترتب على هذا الإحساس بالاختيار غير المحتوم، الشعور الحتمي «بالإلزام»، بل إن هذا الشعور بالإلزام هو في نظر كثير من اللاحتميين مثل «كانت»، دليل على الحرية أكثر إقناعًا حتى من الحدس الذي نشعر فيه بأننا قد اتخذنا قرارًا غير مسبب؛ إذ إن هذا الشعور بالإلزام، في رأيهم، لا يكون له أي معنى لو لم يكن الاختيار الأصيل ممكنًا. فعبارة: «ينبغي لي» لا بد لها من شرط مفروض مقدمًا، هو: «أنا أستطيع».
-
(٢)
والحجة الثانية المؤيدة للاحتمية تتعلق بهذا الشعور بالإلزام. ذلك لأن حرية الإرادة شرط ضروري لكي يكون هناك معنى لأي تصور نكونه عن المسئولية الأخلاقية (أو حتى القانونية). وإنه لمن غير المنطقي أن نعد الشخص مسئولًا عن فعل معين ما لم يكن هذا الفعل صادرًا عنه؛ أي ما لم تكن لديه قدرة أصيلة على الاختيار بين أمور بديلة واتخاذ قرارات أخلاقية. فجميع الأحكام التي نصدرها عادةً بشأن «صواب» السلوك أو «خطئه»، لا تفترض مقدمًا إرادة غير محكومة فسب، بل إنها تغدو ظالمة متجنية في أية ظروف أخرى غير تلك التي يفترضها اللاحتمي.
-
(٣)
والحجة التالية تترتب بدورها على السابقة. فاللاحتمية هي الرأي الوحيد المعقول — ليس فقط لأن تقويماتنا الخاصة بالاستحسان والاستهجان تعدو بلا معنى في ظل الموقف الحتمي، بل أيضًا لأن كل القيم، وضمنها التفكير ذاته، تصبح بدورها بلا جدوى. ذلك لأنه لو كان كل ما يحدث نتيجة ضرورية لما حدث من قبل، بل لطبيعة الأشياء ذاتها، التي يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. فعندئذٍ يكون من التعقيم أن نتحدث عن «أفكار» أو «مُثل عليا» أو «مقاصد»، بل إنه يستحيل عندئذٍ تفسير العقل ذاته، ما دامت وظيفته الرئيسية هي التقويم والتمييز، فإذا كانت «كل الأشياء تحدث بالضرورة»، كما قال اسبينوزا وغيره من الحتميين، فعندئذٍ يكون النشاط العقلي عقيمًا، بل غير مفهوم.
-
(٤)
وأخيرًا يرى اللاحتمي أنه لا يوجد وسط الحرية التامة والقدرية. فمحاولة التوفيق التي تقوم بها الحتمية مستحيلة لأنها غير مستقرة؛ إذ إنها ترتد آخر الأمر إلى الحل القدري، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها لكي تتجنب هذه النتيجة. ذلك لأننا إذا استخلصنا من الموقف الحتمي كل نتائجه المنطقية، لوجدناه ينكر تلك الحرية التي يزعم أنه يجعلها ممكنة. إذ لو كانت الذات قبل كل شيء حصيلة لتجاربها؛ أي للقوى الخارجية التي تؤثر فيها — لكان من الواضح أن الاختيار في لحظة القرار الفعلي، سيكون نتيجة لهذه القوى، لا لإرادة غير محتومة كتلك التي يقتضيها فرض الحرية. وفضلًا عن ذلك، فإذا كان الحتمي على حق، ألن يكون السؤال عن القوى التي تكون شخصيتنا متوقفة جزئيًّا على طبيعة الكائن العضوي التي نتوارثها؟ وهكذا يكون اختيارنا محدودًا وخاضعًا للتأثير بمعنى مزدوج: إذ نكون، من جانبٍ، ما صنعته منا بيئتنا، ونكون من جانبٍ آخر، ما أتينا به إلى العالم من مادة خام. فإذا أكد أي شخص بعد هذه الحقائق كلها أننا أحرار، فإنه بكل بساطة، لا يستخدم اللغة بطريقة استخدامها العادية؛ ذلك لأنه ما لم تكن الذات عالية، بمعنى كونها قادرة على الارتفاع فوق مستوى علاقة العلة والمعلول التي تقيد بقية الكون، لما كانت حرة. وما لم تكن إرادتنا مستقلة عن المنبهات، والوراثة، والتجارب السابقة؛ أي ما لم تكن قادرة في كل لحظة على القيام باختيار كان من الممكن دائمًا أن يأتي بصورة مخالفة — لكانت الحرية البشرية وهمًا …
-
(١)
فالفرض الحتمي أولًا يتفق مع مسلَّمة من أهم مسلَّمات العلم. هذه المسلَّمة ضرورية بصفة مطلقة بالنسبة إلى كل العلوم، بل إنه ليقال عادةً إن البناء الكامل للعلم الحديث مرتكز على مفهوم العِلِّية. ويذهب القائل بالمذهب الحتمي إلى أن أي مبدأ له مثل هذه الأهمية، وينتشر تطبيقه على مثل هذا النطاق الواسع، يمكن افتراض أنه يسري على جميع الظواهر — ليس فقط على تلك التي يدرسها العلم، وإنما على كل حوادث الكون. وباختصار، فالحتمية لا يمكنها قبول الرأي القائل إن الإرادة البشرية تقوم في فراغ خالٍ من العلل، بل إن مبدأ العِلِّية ذو نطاق شامل، ولا يمكن أن يعد الإنسان استثناء له. والواقع أن الكشف العلمي لا يكون ممكنًا إلا لأن في استطاعة العالم أن يفترض عالمًا منظمًا عاقلًا، يوجد فيه كل حادث بوصفه طرفًا في علاقة عِلِّية.٣
-
(٢)
وفضلًا عن ذلك فإن علم النفس — وهو أقوى العلوم ارتباطًا بمشكلات السلوك البشري — قد حقق كل ما أحرزه من تقدم بالارتكاز على مصادرة العِلِّية. والأمر الأكثر من ذلك إقناعًا هو أن علم النفس قد تمكن من تحليل فعل الاختيار، وكشف هذا التحليل عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائمًا نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط، يحدث اختيار، وعندما تغيب، لا يكون هناك اختيار. وبالاختصار فإن كل القرارات إنما هي نتيجة لدوافع، والدافع الأقوى هو الذي تكون له الغلبة دائمًا.٤ وينتهي صاحب المذهب الحتمي من ذلك إلى قوله إنه لما كان التحليل النفساني عاجزًا عن كشف أي مثال لاختيار لا دافع له (أي غير مسبب)، فلنا أن نقول إنه لا يوجد اختيار كهذا.
-
(٣)
كذلك يعتقد صاحب المذهب الحتمي أن موقفه هو أساس كل سلوك معقول. فكلما ازدادت معرفتنا لأي شخص وثوقًا، استطعنا أن ندرك على نطاق أوسع أن من الممكن الوثوق بسلوكه والتنبؤ به في آن واحد. وفضلًا عن ذلك فإن من الممكن، بوجه عام، الوثوق من سلوك الناس إلى حد معقول، كما يتضح من أن كل مجتمع مبني على الثقة المتبادلة بين أعضائه بعضهم وبعض. فنحن نتوقع من الناس أن يسلكوا بطرق معينة؛ لأننا اكتشفنا أن منبهات (أو عللًا) معينة تؤدي إلى استجابات (أو معلولات) محددة. وعندما يخيب الناس أملنا يكون ذلك دائمًا استثناء من الطابع العام لسلوكهم. ولولا هذه النسبة الغالبة من القابلية المأمونة للتنبؤ، لما كان الاتصال الاجتماعي العادي عشوائيًّا تمامًا فحسب، بل لما وجدت علوم كعلم الاجتماع وعلم النفس.
-
(٤)
وأخيرًا، فإن اللاحتمي على خطأ عندما يقول إن المسئولية الأخلاقية تفترض حرية كاملة للإرادة؛ إذ كيف يكون لنا الحق في أن نعد الشخص مسئولًا عن أفعاله إذا كانت ناتجة عن قرار اعتباطي اتخذ في لحظة الاختيار؛ أعني قرارًا لا صلة له بشخصيته أو عاداته أو تجاربه السابقة؟ إنه لا يمكن أن يمتدح عليها أو يلام، ويثاب أو يعاقب، إلا بقدر ما تكون قراراته صادرة عنه هو، ومرتبطة بذاته الكاملة ارتباطًا لا ينفصم. وهكذا فإن الأخلاقية والتشريع الاجتماعي معًا يفترضان الحتمية، من وجهة النظر العملية. فالتشريع الاجتماعي مثلًا مبني على افتراض إمكان التحكم في السلوك البشري بالوسائل الصحيحة، إلا فلمَ كنا نسن القوانين لو لم نكن نفترض أنها ستؤثر في سلوك الناس؟ ولنضرب مثلًا آخر: فما هو التعليم الرسمي، إن لم يكن عملية طويلة باهظة لتدريب الفرد (أو «تكييفه»، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الأثير لدى عالم النفس)، بحيث يستجيب بطرق مرغوب فيها لكثير من المنبهات التي لا بد أن تأتي إليه من التجربة اليومية، ولم نكرس للتعليم كل هذا الوقت والجهد إن لم نكن واثقين — بدرجة معقولة — من أن عملية التكيف هذه ستنجح؛ أي ما لم نكن متأكدين من أن في استطاعتنا إيجاد نمط سلوكي يكون له ثبات نسبي، ويكون من الممكن الاعتماد عليه؟ ولو كان في استطاعة الفرد، بعد سنوات من التحاقه بالمدارس، أن يدير ظهره للنمط الذي استحدث ويسلك بطريقة اعتباطية، وعلى نحو مستقل تمامًا عن الاستجابات التي تعلمها، فأي مبرر يكون للتعليم عندئذٍ؟
على أن أنصار مذهب الحتمية لا يجدون صعوبة في الرد على هذه الحجة. فهم يشيرون أولًا إلى أن هذه الحجة اللاحتمية ترتكز على فهم عتيق عفَّى عليه الزمان لمعنى العقوبة القانونية؛ إذ هي تفترض أن الغرامة، والسجن، إلخ، لها مقصد انتقامي؛ أي إن المجتمع يلجأ إليها لكي يثأر من المجرم. على أن هذه الفكرة الهمجية لا مكان لها في فلسفة العقوبة الحديثة المستنيرة، التي تجعل للعقوبات مقصدين: (١) حماية المجتمع عن طريق الحد من خطورة مرتكب الجرم، لا سيما إذا كان من معتادي الإجرام، وهذا يعني عادةً نوعًا من الحبس. (٢) إصلاح مرتكب الجرم عن طريق إعطائه مجموعة جديدة من الدوافع، قد تكون مُثلًا عليا اجتماعية أعلى قيمة، أو (إذا اتضح أنه غير قابل للتأثر بهذه المثل) عن طريق الخوف الناتج عن تجربته الراهنة مع القانون. وهذا الهدف الثاني للعقاب؛ أعني هدف «إعادة التكييف»، هو الذي يحتل أهمية متزايدة في فلسفة العقوبة الحديثة. ومن الواضح أن مثل هذا الهدف يفترض التسليم بالحتمية؛ إذ إن السلوك البشري يرجع إلى عوامل معينة هي دوافعه، والقانون يتدخل لتغيير دوافع المجرم. ولو كان هذا كله وقتًا ضائعًا أي لو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة المجرم أن يسلك بطريقة اعتباطية دون نظر إلى العوامل المتحكمة — فكيف نفسر عندئذٍ ارتفاع نسبة المجرمين السابقين الذين ينصلحون وتستقيم أحوالهم؟
(٥) الاختيار بين الموقفين
لا بد للقارئ، كما هي الحال على الدوام، أن يزن حجج طرفَي هذا النزاع الكبير ثم يتخذ قراره الخاص حول ادعاءاتهما. والواقع أنه لا مفر من الاختيار بين الطرفين، ما لم نكن راغبين في السير في طريق التطرف إلى حد القول بمذهب القدرية. على أن الأرجح أن هذه الطريقة في التخلص من الصعوبة لا تلقى قبولًا لدى الكثيرين؛ ولذا فسوف ننظر إلى المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة التقابل بين الحتمية واللاحتمية.
ونستطيع أن نختتم عرضنا للمشكلة الكاملة باقتراح نقاط متعددة يكشف عنها أي بحث محايد للموقف. وسوف تبدو بعض هذه الاعتبارات مؤيدة لأحد الطرفين، وبعضها الآخر مؤيدًا للطرف الآخر. على أننا لا نهدف من عرض هذه النقاط إلى التأثير في القارئ بحيث ينحاز إلى هذا الجانب أو ذاك، وإنما نهدف إلى زيادة احتمال اختياره بين الطرفين على أساس معقول.
وفي موضع آخر يلجأ اسبينوزا إلى تشيبه الحجر الطائر في الهواء، الذي لو كان لديه وعي، لغدا على الثقة من أنه يتحرك بإرادته الحرة، نظرًا إلى جهله بالقوى التي حركته.
وعلى الرغم من أن المرء لا يكاد يجد ما هو أفضل من كلمات اسبينوزا السابقة؛ ففي استطاعتنا أن نزيدها تأكيدًا بالإشارة إلى كثرة الأدلة التي أثبت بها علم النفس الحديث هذه النقطة. فقد كانت نظرية اللاشعور موردًا لا ينضب للأدلة المؤيدة للحتمية. والواقع أن التحليل النفسي هو، إلى حدٍّ بعيد، أسلوب لكشف الأسباب الخفية والدوافع المكبوتة التي تمارس تأثيرًا فعالًا في سلوك الفرد حتى حينما لا يكون شاعرًا بها على الإطلاق. كذلك فإن علم النفس جعل الشخص العادي ذاته يدرك في الوقت الحالي مدى التأثير الخفي الملتوي الذي يمكن أن تمارسه الرغبة في التبرير على تفكيرنا وسلوكنا. ويعرف التبرير أحيانًا بأنه البحث عن أسباب جيدة لأفعال رديئة — هي عادةً أفعال أنانية نخجل منها بحق. ففي هذه العملية الذهنية التي نبرر بها تصرفاتنا، نحاول أن نجعل سلوكنا مقبولًا لنا بالاهتداء إلى أسباب دفاعية لهذا السلوك، نستطيع أن نقنع عقولنا بأنها هي الأسباب الحقيقية. وقد نكون بالفعل جاهلين بدوافعنا، أو قد نكون خادعين لأنفسنا فحسب، غير أن علم النفس قد تمكن من كشف السبب الحقيقي لسلوكنا في حالات تبلغ من الكثرة حدًّا يجعل عبارة اسبينوزا، التي كانت تبدو في عصره مذهلة، تبدو اليوم أشبه ببديهية من بديهيات علم النفس. فنظرًا إلى عدم رغبتنا في أن نكون أمناء مع أنفسنا فيما يتعلق بالأمور القبيحة، فإننا نسمي أفعالنا التي هي في أساسها أنانية أفعالًا «قابلة للتبرير». ونظرًا إلى جهلنا بالسبب الذي يجعلنا نسلك كما نسلك، فإنا نسمي أنفسنا «أحرارًا».
أما المعنى الحالي للفظ فيعبر عن النظرية الوظيفية للذهن، التي يقول بها علم النفس المعاصر، فلم تعد الإرادة تعد كيانًا أو واسطة مستقلة، بل إن عالم النفس بفضل الكلام عن «الفعل الإرادي» الذي يراه وظيفة ترتبط بالكائن العضوي الكامل. ففي استطاعة الفرد، عن طريق عملية استبصار وتدبر، أن يبعث التآزر في رغباته والتكاسل في دوافعه، فتكون نتيجة هذا التآزر — بعد التوفيق بين الرغبات المتعارضة — فعلًا، أو على الأقل قرارًا يتحقق في فعل. هذا الفعل يمكن أن يسمى «فعلًا إراديًّا»، ولكن من الواجب أن نضع نصب أعيننا تلك النظرة الوظيفية العضوية إلى الذهن عندما نصف فعلًا كهذا بأنه ذو طابع إرادي.
ومن الواضح أن للنظرة العتيقة إلى الذهن من خلال مفهوم «الملكة» صلة وثيقة بالموقف اللاحتمي. فمن السهل القول بأن «الملكة» المستقلة أو «الوسيط» المستقل متحرر من القوانين العِلِّية، ولكن من الصعب الادعاء بأن الكائن العضوي الكامل يؤدي وظائفه في فراغ من اللاتحدد، بل إن نفس تعريف الإرادة، في ظل الرأي القديم، بأنها «كيان مستقل»، ينطوي على حكم مسبق على الموضوع قبل أن تبدأ المناقشة. ولما لم يكن هناك تخصيص للطريقة التي تكون بها الإرادة مستقلة، فلا يكاد يكون من حقنا أن نلوم اللاحتمي على تفسيره لهذا الاستقلال بأنه استقلال «عِلِّي». أما اليوم فقد انقلبت الآية: فلما كان النشاط الإرادي يعد الآن جزءًا لا يتجزأ من استجابتنا الكاملة للبيئة، فإنا لا نستطيع أن نلوم الحتمي على استخدامه هذه الحقيقة في دعم مركزه هو. وهكذا يقدم إلينا التاريخ الكامل للنزاع حول حرية الإرادة مثلًا رائعًا للعلاقات المتبادلة بين الفلسفة وبين المفاهيم العلمية الشائعة في أي عصر. ويبدو أن للعلم اليوم من التأثير في الفلسفة ما يفوق تأثيره فيها في أي وقت مضى، غير أن هذا ليس إلا انعكاسًا للتأثير الهائل للعلم في جميع ميادين الفكر البشري. والواقع أن الفلسفة كانت دائمًا تستجيب للأفكار الجديدة والأيديولوجيات المتداولة حولها، وحتى في الحالات التي بدا فيها الفيلسوف منعزلًا غاية ما يكون الانعزال في برجه العاجي، فإن «رياح الفكر» التي تهب عليه من الخارج كانت تؤثر حتمًا في تفكيره. والحق أننا لا نكاد نجد لذلك مثلًا أفضل من النزاع الذي نحن بصدد مناقشته.
(٦) الدور الدائم الذي أسهم به كل رأي
وقد يصف القدري هذا القول بأنه وهم بحت، كما أن من المؤكد أن أنصار مذهب الحتمية يصفونه بأنه نصف حقيقة فحسب. ومع ذلك فإنه اعتقاد أنقذ أشخاصًا لا حصر لهم من اليأس، وربما من الانتحار. فإذا استطعت أن أومن، بوصفي لا حتميًّا، بأن السيادة الكاملة لقوانين العلة والمعلول تتوقف فجأة عندما تصل إلى مجال الحكم الشخصي والقرار الأخلاقي، فإني أكون عندئذٍ محصنًا ضد بعض من أسوأ ضربات الحياة. ففي استطاعة هذا الاعتقاد أن يزودني بدرع داخلية يمكن أن تظل فيها نفسي أو شخصيتي المتكاملة (أي «الأنا الباطن»، كما تسميه إحدى مدارس الفكر الملهم) في سلام وهدوء مهما يحدث. وهكذا يتيح لي الإيمان اللاحتمي الاحتفاظ بيقين راسخ بأنني حتى لو لم أستطع التحكم في الظروف الخارجية، فسيظل في استطاعتي ألا أدع هذه الظروف تسيطر عليَّ سيطرة كاملة. ذلك لأنني أستطيع أن أقاوم تحكمها فيَّ، وحتى عندما تبلغ الأمور أسوأ مداها، فسيظل في إمكاني وضع إرادتي في مقابل كل قوتها الهدامة، متحديًا إياها أن تفعل أقصى ما تستطيع.
ولما كان قليل من اللاحتميين هم الذين يعترفون بأن هذا الإيمان الأساسي بقدرة الفرد على الانتصار داخليًّا على الظروف الخارجية هو كل ما تستطيع هذه المدرسة أن تقدمه، فأغلب الظن أنهم يتفقون جميعًا على أن هذا هو أعظم نصيب تسهم به اللاحتمية. فمن الواضح أنها تتيح ملجأ يعصمنا من الهجوم، نستطيع أن نحتمي به دائمًا عندما تبدو الحياة ثقيلة الوطأة علينا، ويمكننا أن نستجمع فيه قوانا لمواجهة الحياة ثانية. وعلى ذلك فإن اللاحتمية تقدم إلينا الكثير، وذلك إذا نظرنا إلى الأمور بمنظار برجماتي. فإذا ما كنا نقدر وجهات النظر الأخلاقية المختلفة على أساس ما يمكنها الإسهام به في السعادة البشرية، فمن المؤكد أن اللاحتمية تحتل عندئذٍ مكانة رفيعة في القائمة. فهي مصدر إلهام دائم لأولئك الذين يمكنهم الإيمان بهذا الاعتقاد، بل إن أولئك الذين يخالفون هذا الإيمان مضطرون إلى الاعتراف بأن مذاهب قليلة أخرى هي التي تستطيع أن تفعل أكثر مما تفعله اللاحتمية لرفع الروح المعنوية للإنسان.
من وجهة أخرى فلو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة الإنسان أن يتخذ قرارات غير مسببة على الإطلاق، فعندئذٍ يكون التعليم والجهد الذي يبذل للتحكم في البيئة الاجتماعية، كما رأينا من قبل، مضيعة للوقت إلى حدٍّ بعيد. ولهذا السبب كان القائل بالحتمية يتهم خصمه بأنه أكثر قدرية من القدري الصريح. ذلك لأنه إذا كان في استطاعتنا في أية لحظة أن ننكر تاريخنا الفردي بأسره، ونسلك اعتباطًا وكأننا قد ولدنا فجأة من جديد في عالم لا عِلِّية فيه. فمن الواضح عندئذٍ أننا لا نملك أية سيطرة على السلوك البشري. وإن مجتمعًا يتألف من إرادات غير متحددة أصلًا بأي شيء لا يكون إلا فوضى أخلاقية، بل إن العالم كما تصوره القدرية لينطوي على نظام يفوق ذلك الذي تصوره النظرة اللاحتمية إلى الأمور.
(٧) المشكلة في صلتها بالمثالية والطبيعية
والواقع أن الموقفين المتعارضين للمدرستين الميتافيزيقيتين الكبريين إزاء الحتمية يلزم منطقيًّا من مسلَّماتهما ومصادرتهما الخاصة. فبالنسبة إلى المثالية، التي تؤمن بأن الواقع روحي، يكون من المنطقي الاعتقاد بأن أوجه نشاطنا الذهني والإرادي قد تكون عالية على القوانين التي تحكم العالم غير الذهني أو خارجة عنها. وفضلًا عن ذلك فإذا نظر إلى الواقع على أنه قوة خلاقة من نوع ما، فعندئذٍ يمكن أن ينظر إلى مثل هذه القوانين (أي قوانين العلة والمعلول مثلًا) على أنها مخلوقة لكي تسري على العالم المادي على التخصيص. ومعنى ذلك أن تلك القوانين لا يقصد منها أن تسري على الذهن وأوجه نشاطه. وهذا موقف أشبه ما يكون بموقف المشرع الذي يضع قوانين لا تنطبق عليه هو نفسه.
وسوف نعود في الفصل الأخير من هذا الكتاب إلى بحث هذا الموضوع العلمي الشائق، موضوع أصل تلك المواقف المتباينة من العالم والتجربة البشرية، كالمثالية والطبيعية. ومع ذلك فلا بد لنا، قبل محاولة القيام بتحليل نهائي، أن نواجه عدة مشكلات فلسفية رئيسية أخرى، بعضها يرتبط بعلم الأخلاق المعاصر ارتباطًا وثيقًا.