الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
كان المحور الرئيسي لتفكيرنا، في الفصول الثلاثة الخاصة بالأخلاق، والتي ختمناها منذ قليل، هو الأخلاق التقليدية أو الكلاسيكية. فالمصطلحات والمفاهيم والحجج قد توطدت كلها نتيجة لكثرة الاستعمال — فتلك هي الأدوات أو المقاييس التي ظل المفكرون الأخلاقيون يستخدمونها أجيالًا عديدة، بل إن كثيرًا من المفاهيم والخلافات ترجع إلى وقت سقراط وأفلاطون وأرسطو. والواقع أنه كان من المستحيل، في مدخل عام إلى الفلسفة كهذا، أن نتجنب هذه النزعة التقليدية في التفكير الأخلاقي. ولقد كان من الممكن حتى عهد قريب القول بأنه لا يوجد فرع في الفلسفة تم استطلاعه وكشف معالمه كالأخلاق، ومن المؤكد أنه كان أقل الفروع تبشيرًا بحدوث تطورات في المستقبل. وهكذا كان يبدو وكأن مختلف المدارس في ميدان الأخلاق قد حاربت بعضها بعضًا حتى وصلت إلى مرحلة توقف — أو على الأقل نفدت ذخيرتها — دون أن يلوح في الأفق أي مصدر جديد لإمدادها بالمزيد منها. وعلى الرغم من أن مبحث القيم أو نظريتها العامة قد تطور تطورًا ملحوظًا خلال العصور الحديثة، مما أتاح أساسًا نظريًّا أمتن للتأمل النظري الأخلاقي، فإن الأمور في ميدان الأخلاق ذاته بدت مستقرة تمامًا. وكل ما كان يمكن أن يقال في صف كل وجهة نظر كان قد قيل مرات متعددة على ألسنة الأجيال المتعاقبة من أنصار وجهة النظر هذه. وهكذا كان الملاحظ الذي يقوم باستعراض للأخلاق في مجموعها خلال العقد الأول أو العقدين الأولين من هذا القرن، خليقًا بأن يكوِّن في ذهنه انطباعًا بأن هذا ميدان فكري ساكن نسبيًّا.
ومع ذلك ففي خلال ربع القرن الأخير أو نحو ذلك. تجددت حيوية الأخلاق على نحو ملحوظ. فقد توقف إلى حدٍّ بعيد ذلك التسكع القديم الهادئ في الدروب المطروقة للتفكير الأخلاقي، وعاد هذا الفرع من الفلسفة في الوقت الحالي إلى النشاط على نحو لا يقل عن نشاط أي فرع آخر في هذا الميدان. ولسنا نستطيع أن نحدد بدقة سبب يقظة الأخلاق من حالة الركود هذه، ومن الجائز أن عوامل متعددة قد تضافرت لتحقيق ذلك. وحين يستعرض المرء المؤلفات التي نشرت في هذا الموضوع خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، يبدو له أن هناك عاملين كان لهما تأثير خاص: أحدهما كان تأثيره تراكميًّا بطيئًا، على حين أن الآخر كان انقلابيًّا مفاجئًا. وبين هذين العاملين أتيح للمفكرين المعنيِّين بالنظرية الأخلاقية أن يقضوا في الآونة الأخيرة وقتًا مليئًا بالحيوية، وتفجرت خلافات جديدة في أرض الأخلاق بكثرة مثيرة.
هذان العاملان الرئيسيان اللذان أثرا في الأخلاق المعاصرة هما: (١) نمو العلوم الاجتماعية، ولا سيما علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا (٢) والتجريبية المنطقية. ولو رجعنا بأنظارنا عدة عشرات من السنين، لوجدنا أن العامل الأول من هذين كان هو الأهم، أما بالنسبة إلى السنوات القلائل الأخيرة فقد كانت التجريبية المنطقية هي الأهم. وعلى أية حال فقد كان تأثير هذين العاملين معًا من الأهمية بحيث أدى إلى تغيير كبير في ميدان الأخلاق بأسره. ومن سوء الحظ أن الخلاف الذي أثارته التجريبية المنطقية يحتدم الآن بشدة، وما زال الغبار كثيفًا إلى حد لا نستطيع معه أن نذكر إلى أين تتجه المعركة. ومن ثم فإن أي عرض نحاول تقديمه قد يغدو بعد سنوات قلائل متخلفًا عن ركب الزمان، ويقدم إلى الطلاب صورة مزيفة عن حدث هام في تاريخ الأخلاق؛ ولذا يبدو أن من الأفضل التركيز على التأثير الأوضح بكثير الذي مارسته العلوم الاجتماعية على الأخلاق المعاصرة. وعلى حين أن كثيرًا من المشكلات التي أثارتها العلوم الاجتماعية لم يبت فيها بعد، من وجهة النظر الأخلاقية، فإن هذه المشكلات قد أصبحت الآن مبوبة ومعروضة بقدر من الدقة يتيح تقديم عرض متوازن لها؛ لذلك فسوف نكرس ما لدينا من حيز محدود لهذه المشكلات.
(١) الأخلاق والعلوم الاجتماعية
كان من المحتم، بمجرد أن وصلت العلوم الاجتماعية إلى مكانتها العقلية الراهنة، أن يكون لها تأثير في التفكير الأخلاقي. فعلى عكس الفكرة السائدة بين الناس، والقائلة إن الفلاسفة (وضمنهم فلاسفة الأخلاق)، يسكنون أبراجًا عاجية لا تربطها بالعالم الخارجي للحياة اليومية البشرية أدنى صلة، نجد أن التفلسف النظري في الأخلاق كان دائمًا وثيق الارتباط بالتفكير النظري والممارسة العملية المتعلقَين بالميدان الاجتماعي المحيط به. بل لقد كان هذا التفلسف عادةً مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالإطار الاجتماعي المباشر الذي يوجد فيه، ولو كان في التفكير النظري الأخلاقي ضعف عام واحد، فما ذلك إلا اتجاهه إلى أن يكون مجرد تبرير غير ظاهر أو «بطانة» عقلية صنعت بحيث يمكن أن تبنى عليها العادات الأخلاقية الرسمية أو المعترف بها في مجتمع معين وعصر معين. وبالاختصار فقد كانت الأخلاق، على وجه العموم، محلية أو إقليمية. ولم تكن معظم المذاهب الأخلاقية «شاملة» أو «أزلية» أو «مطلقة» أو «مثالية» كما تزعم عادة، وإنما كانت نسبية تبعًا للحضارة والعصر التاريخي اللذين ظهرت فيهما. وفضلًا عن ذلك كان الكثير منها ينتسب بوضوح إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفيلسوف، أو التي ارتبط بها دون وعي.
ولو كان علينا أن نلخص التأثير العام للعلوم الاجتماعية في الأخلاق، لكان من الإنصاف أن نصفه بأنه زيادة في اتجاه الدقة والعمق، ونقص في الاتجاه المضاد، وهو اتجاه الإقليمية أو المحلية. هذه الدقة والعمق هي في الواقع مزيد من الوعي الذاتي والموضوعية؛ أي الإدراك المتزايد بأن الأخلاق تتعرض دائمًا للخطر الذي وصفناه من قبل، وهو أن تغدو مجرد أساس نظري للقواعد الأخلاقية المعمول بها في العصر الراهن. ومعنى ذلك أن المفكرين الأخلاقيين يبذلون جهدًا مطردًا لعبور مجالات المناخ الحضاري وتجاوز حدود القواعد الأخلاقية السائدة محليًّا، من أجل الوصول إلى الأسس الحقيقية للحكم الأخلاقي. وقد أصبحنا الآن أقوى شعورًا مما كنا في أي وقت مضى بضرورة (وصعوبة) تحديد أساس نظام أخلاقي شامل بحق، بدلًا من ذلك الذي ينطبق على المدنية الغربية وحدها، ويلائم المسيحيين دون غيرهم.
ولقد أخذت تتزايد على الدوام، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر صعوبة مسايرة الأخلاق التقليدية — التي كانت تلتزم عادةً بالبحث عن مذهب واحد، ثابت على مر الزمان، للقيم — للنتائج النسبية الواضحة التي ترتبت على الكشوف الأنثروبولوجية. فكلما ازدادت الوقائع الأنثروبولوجية تراكمًا، أصبحت مهمة تفسير ذلك التنوع الهائل للمعايير الأخلاقية على أساس مفهوم واحد للخير أصعب إلى حد يبعث على اليأس. حتى ظهر بوضوح في أوائل هذا القرن أن من الضروري النظر إلى المشكلة بأسرها من زاوية جديدة. وكان السؤال الذي يتعين البحث عن إجابة له هو في أساسه: هل يمكن أن تبنى الأخلاق، أو أية نظرية في القيمة، على العلم — ولا سيما العلم الطبيعي. أم أن عالم القيم مجال لا يستطيع المنهج العلمي أن يغزوه أو أن يسهم فيه بأي نصيب مفيد؟ وبالاختصار، فهل تكون تقويمات الإنسان وأحكامه المعيارية عالمًا متميزًا تمامًا، لا صلة له ببقية تجربته؟
وهكذا الحال في التفكير الأخلاقي في القرن الحالي؛ فهل يجب على الأخلاق ونظرية القيم أن تبذل جهدًا مستمرًّا للانتفاع من المعرفة العملية، ولا سيما الأنثروبولوجيا وعلم النفس؟ أم أن عليها أن تتجاهل العلم على أساس أنه لا صلة له بمشكلتي «الخير» و«الحق»؟ إن أهم انقسام رئيسي في الأخلاق المعاصرة هو ذلك الذي يترتب على الإجابات المتعارضة عن هذا السؤال العظيم الأهمية. وعلى حين أن في علم الأخلاق المعاصر بالطبع مدارس متعددة، كما كانت الحال في الماضي، فإن هذه المدارس في عمومها تتبلور حول هذين القطبين الرئيسيين للتفكير الأخلاقي. ولو استطعنا أن نكون صورة واضحة عن هذا الاستقطاب الأساسي، لأمكننا تبديد كثير من الغموض والنزاع الناشب في هذا الميدان.
(٢) «مغالطة المذهب الطبيعي»
لقد اقتبسنا من قبل سؤال اسبينوزا المشهور في هذه النقطة: هل نرغب في الأشياء لأنها خير في ذاتها، أم أننا نقتصر على تمجيد رغباتنا وتبريرها إذ نسمي موضوعها «خيرًا»؟ لقد انحاز اسبينوزا إلى الرأي الثاني، كما فعل معاصره الإنجليزي «توماس هوبز»، الذي كتب يقول: «إن الإنسان يسمي «خيرًا» كل ما هو موضوع لشهوته أو لرغبته». وقد اتفقت معظم أشكال المذهب الطبيعي في الأخلاق مع مفكري القرن السابع عشر هذين. غير أن الحدسيين من أمثال مور يختارون الرأي الأول على نحوٍ قاطع. فالخيرية كامنة في بعض الموضوعات والمواقف، مثلما أن اللون الأصفر كامن في أشياء معينة. وفي استطاعتنا أن نمضي في التشبيه أبعد من ذلك: فكما أن اللون، من حيث هو تجربة، يستحيل تعريفه، ولا يمكن أن يعرف إلا بالمواجهة المباشرة لأشياء ملونة، فكذلك لا تعرف القيمة أو الخيرية إلا بالحدس، عن طريق كشفها في الموضوعات والمواقف. فمن المستحيل الاستدلال عليها أو المناقشة حولها. فالخيرية كامنة، وإذا كان هناك فرد معين يعجز عن إدراكها فلا بد أن نفترض أن هناك عمى أخلاقيًّا مثلما أن هناك عمى للألوان.
وبعبارة أكثر إيجازًا، فإن هيوم يقول إننا لا نستطيع استخلاص نتائج أخلاقية من مقدمات غير أخلاقية. ويمضي الحدسيون أبعد من ذلك بكثير، فيؤكدون أننا لا نستطيع تعريف المفاهيم الأخلاقية على أساس مفاهيم غير أخلاقية؛ ذلك لأن عالم الأخلاق أو القيمة منفصل تمامًا عن العالم غير الأخلاقي ولا يمكن أن يرد إليه، ما دامت الكيفيات الأخلاقية مختلفة في النوع كل الاختلاف عن الكيفيات غير الأخلاقية.
وهناك قائمة طويلة للأشياء التي ينكر الحدسيون أن القيمة يمكن أن ترد إليها على التخصيص، ولكن من المفيد أن نذكر بعضها؛ إذ إن من المحتمل أن يكون القارئ نفسه قد قام بعملية رد كهذه؛ ولذا يحسن به أن يتنبه إلى ما فعل. ولا شك أن إيراد قائمة «الرد» هذه سوف يقتضي الكلام عن كثير من المدارس المتنافسة في التفكير الأخلاقي، ولكن لما كنا قد ناقشنا من قبل عدة مدارس من هذه، فسوف يكون عرضنا لهذه المدارس موجزًا.
بل إن الحدسيين يأبون أن يدرجوا صفات بشرية رفيعة، كالتعاون والتعاطف (التي يعتقد بعض التطوريين، ومنهم دارون، أنها نواتج للانتقاء الطبيعي)، ضمن القيم التي يعترفون بها إذا كان أساس قبولها هو أنها تساعد البشر. وليس معنى ذلك أن مفكرًا مثل مور ينكر أن التعاطف والتعاون من ضمن القيم، وإنما هو ينكر أن تكون هاتان خيرًا لأن لهما قيمة تفيد في حفظ النوع، أو لأنهما تخففان من مصاعب الحياة البشرية، أو لأنهما تستتبعان نتائج طيبة. ولنقل مرة أخرى إن هذه الصفات كامنة؛ أي إنها خير لأنها خير، لا لأي سبب يعد وسيلة لشيء آخر.
كذلك يرفض الموقف الحدسي بشدة الرأي القائل إن العمليات الاجتماعية، المتميزة عن عملية بيولوجية كالتطور، تتحكم على أي نحو في تحديد القيم. وهو يهاجم بوجه خاص النظريتين الأكثر شيوعًا من بين النظريات القائلة بالعملية الاجتماعية، وهما الماركسية والبرجماتية، فالمذهب الماركسي مثلًا يرى أن القيم الرئيسية في أي مجتمع هي إلى حدٍّ بعيد تعبير عن مصالح الطبقة ذات السيطرة الاجتماعية والاقتصادية على هذا المجتمع. ولذا لم تكن هناك قيم شاملة، ولا سيما في ميدان الأخلاق. ولا يمكن أن يكون هناك إلا «أخلاق بورجوازية» (وهو تعبير أثير لدى الماركسيين)، أو «أخلاق رأسمالية»، أو «قيم جماعية عمالية». وهذا يؤدي إلى جعل القيم نسبية تمامًا، وتصبح النظرية الحدسية القائلة بقيم كامنة تدركها كل الأذهان ممتنعة تمامًا. فأقصى ما يمكن أن تكونه الأخلاق هو أن تكون مشتركة بين كل أفراد الطبقة الواحدة فحسب، وهم الذين يشتركون أيضًا في نفس المصالح الاقتصادية والسياسية.
ولعل أعنف نقد يوجهه الحدسي إلى النظريات التي تبني القيمة على الموافقة، هو أن هذه النظريات، آخر الأمر، تجعل القيمة ذاتية وشخصية تمامًا، وبذلك تسمح بحالة تقترب من الفوضى الأخلاقية؛ ذلك لأن من الواضح أن هذه النظريات تسمح لي بالموافقة على شيء ترفضه أنت. ولكن إذا لم يكن «الخير» يعني إلا الموافقة، فلا بد أنك ستصادف مواقف يوصف فيها الشيء الواحد بأنه «خير» و«شر» — مما يجعل هذين اللفظين خلوًا من المعنى في نظر أي مذهب شامل للقيم. ويرى الحدسي أن ما نحتاج إليه هو معيار عام أو شامل للقيمة، ولكن الاختلاف الواضح بين الناس حول ما ينبغي الموافقة عليه يجعل نظريات الموافقة مستحيلة. وحتى لو اشترطنا موافقة المجتمع أو الجماعة فسيظل هناك الاختلافات بين الجماعات الاجتماعية، وبذا لا نقترب من المعيار العام أكثر كثيرًا مما كنا عندما اتخذنا من موافقة الفرد مقياسًا لنا.
(٣) المذهب الحدسي والإلزام
والواقع أننا نبدأ في إدراك مدى التغيير الجذري الذي يمثله موقف برتشارد عندما نتريث لحظة ونتأمل كيف أننا نبث بانتظام في نفوس الصغار من أفراد مجتمعنا الفكرة القائلة إنه ينبغي أو لا ينبغي لهم أن يفعلوا أشياء معينة؛ لأن هذه الأفعال (١) تساعد الآخرين أو تضرهم (٢) تجعل الآخرين سعداء أو تعساء، (٣) تجعلهم هم أنفسهم سعداء أو تعساء (٤) تؤدي إلى استحسان المجتمع أو استهجانه، (٥) تنطوي على إطاعة أو عصيان لأوامر الله، بل إن الأمر المطلق ذاته عند (كانت)، وإن يكن قريب الشبه ما نحن بصدده إلى حدٍّ بعيد. يبدو أقل تطرفًا لأن «كانت» قد أوضح بعد ذلك أن خرق الأمر «افعل واجبك لأنه واجبك» ينطوي على تناقض منطقي، كما رأينا في الفصل الثالث عشر، بل إن برتشارد يخالف التراث على نحو أكثر تطرفًا عندما ينكر أن الالتزام بأداء فعل يتوقف على خيرية شيء متضمن في الفعل — كإطاعة القانون مثلًا. فالفعل يكون خيرًا لأنه يؤدى بوصفه واجبًا؛ أي إن سبب أداء الفعل هو الذي يمكن أن يجعله خيرًا، لا نتائجه.
كذلك تعتمد نظرية الإلزام هذه على إحساس بالإلزام يتصف بأنه مباشر، غير متوقف على العقل، هو الذي يكشف لنا عن واجبنا. فإذا كنا واعين لكل الوقائع في موقف معين، فعندئذٍ ندرك الإلزام إدراكًا كاملًا مباشرًا. ويشبه برتشارد هذا الفهم بفهم العلاقات الرياضية، ويرى أن الموقفين يتضامنان إدراكًا لحقائق واضحة بذاتها. وكما يقول هو ذاته في المثل الذي يضربه، فإذا لم نكن واثقين أننا أتينا بالحل الصحيح لمسألة رياضية، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نحلها مرة أخرى. فليس في استطاعتنا أن نلجأ إلى مصدر خارج عن الرياضيات لكي نتأكد منه. وهكذا الحال في المواقف الأخلاقية المتعلقة بالواجب: فإذا لم نكن واثقين من أن هناك واجبًا، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نعيد حل المسألة الأخلاقية — أرى أن نعيد النظر في الوقائع الأخلاقية.
ولا يستطيع برتشارد أن ينكر أن هناك أشخاصًا يجدون صعوبة في إدراك الالتزامات، مثلما أن هناك أشخاصًا يجدون أن من العسير عليهم فهم العلاقات الرياضية. ولكن، مثلما أننا عندما ندرك العلاقة آخر الأمر في الرياضيات، نعجب كيف غابت عنا من قبل، فإننا عندما ندرك الإلزام في النهاية قد نعجب كيف فاتنا من قبل — وكيف لا يزال يوجد من يعجزون عن رؤيته. وفي كلتا الحالتين تصبح الحقيقة مطلقة واضحة بذاتها، كما تصبح مكتفية بذاتها من حيث إن أي شيء من خارج الموقف لا يلزم لجعلها صحيحة.
ولكن من سوء الحظ أن هذه المدارس، بعد أن اتحدت في معارضتها للمذهب الحدسي، قد سلكت طرقًا متشعبة إلى حدٍّ بعيد. وهذا يزيد من صعوبة تقديمها إلى القارئ، بل يجعله مستحيلًا في حدود كتاب كهذا. فلا بد من صفحات كثيرة لتقديم عرض معقول للمدارس الرئيسية التي تؤمن بالمذهب الطبيعي في الأخلاق، أما إذا شئنا تقديم عرض شامل لها، فسوف نحتاج إلى فصول كاملة. ذلك لأن كل مدرسة تبذل جهودها الخاصة لاستخلاص القيمة من الواقع، و«الخير» من «الموجود». وكثير من هذه المحاولات بارعة، بل إن بعضها رائع — وكلها تقريبًا معقدة عسيرة، ولا بد من الاعتراف بأن أيًّا منها (أو حتى كلها مجتمعة) لم تفلح في تحويل الكثير من خصوم المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى هذا المذهب.
والأجدر بنا، بدلًا من أن نبعث الاضطراب في ذهن القارئ بتقديم موجزات لا بد أن تكون سريعة غير وافية لمدارس المذهب الطبيعي هذه، أن نلخص بعض الصعوبات التي تعترض أي مفكر لديه إحساس بالمسئولية، يحاول إدماج الأخلاق في العلوم الطبيعية. هذه الصعوبات هي نفسها بالطبع التي تقنع معظم الحدسيين بأن الأخلاق لا يمكن أن تستمد من العلم أو حتى أن ترتبط به، وتدفعهم إلى اتخاذ موقفهم المتطرف. وهذه كذلك هي المشكلات التي تؤدي إلى ظهور رد فعل ثالث ممكن، يتخذ على طريقته الخاصة موقفًا لا يقل تطرفًا من موقف المذهب الحدسي — هذا الاتجاه الثالث هو مذهب الشك الأخلاقي الذي ينكر إمكان قيام أية نظرية صحيحة في القيمة، أو إمكان الاهتداء إلى أي أساس منطقي للإلزام. ويرى الشكاك أن القيم كلها بلا استثناء، ليست نسبية فحسب، بل هي فردية وشخصية بالمعنى الدقيق، وهي أيضًا اعتباطية في نهاية الأمر؛ إذ إنها ترتد إلى حكم أو اختيار لا عقلي، وقد يكون لا شعوريًّا.
(٤) الصعوبات التي تواجه الأخلاق المعاصرة
فلننتقل الآن إلى الصعوبات التي لا مفر للعلم الاجتماعي من أن يثقل بها كاهل الأخلاق المعاصرة، وهي صعوبات تؤدي بأحد الأطراف إلى التراجع الصوفي، وبالآخر إلى الانهزام الشكي، وبالثالث إلى الإصرار العنيد. ولقد تكررت إشارتنا من قبل إلى النتائج النسبية التي يبدو أنها تتولد حتمًا عن التراكم الهائل للبيانات والوقائع الأنثروبولوجية التي أصبحت الآن في متناول أيدينا، بحيث لا نحتاج الآن إلى أن نضيف الكثير إلى ما قلناه في هذا الموضوع؛ ذلك لأن التنوعات في المعايير البشرية ونظم القيم تبدو في نظر علماء الأنثروبولوجيا لا نهائية العدد، ولا جدال في أنه يندر أن نجد مشتغلًا في هذا الميدان يؤمن بوجود عناصر مطلقة في الأخلاق والقيم، مستقلة عن إطارها الحضاري. ويرى علماء الأنثروبولوجيا عادةً أن أقصى ما يمكننا أن نفعله هو أن نكتشف قيمًا مشتركة محدودة مصدرها وجود عنصر أساسي مشترك لا يرد إلى غيره في الطبيعة البشرية، وهو عنصر لا يمكن أن تقضي عليه الاختلافات الحضارية؛ ومن ثم فإن هؤلاء العلماء الاجتماعيين يبدون أحيانًا استعدادهم للاعتراف على حذر بإمكان وجود مشاعر اجتماعية مشتركة بين الناس جميعًا، تسمح بوضع إطار أخلاقي عام غير محدد المعالم، ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن علماء الأنثروبولوجيا ينظرون إلى هذا الإطار على أنه شيء لو أمكن أن يتحقق، لما كان مستمدًّا إلا من الطبيعة البشرية. وهكذا فإنهم يقدمون بذلك عونًا لأصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق، لا للحدسيين؛ إذ إن إمكان استخلاص الأخلاق من الطبيعة البشرية على هذا النحو ينطوي، كما هو واضح. على «مغالطة» المذهب الطبيعي …
وبالاختصار، فإن المفكر الأخلاقي، حتى عندما يحاول بناء مذهبه على أسس من العلم، فهو لا يعبر إلا عن رغبة عندما يصوغ نظرية إيجابية في القيمة (وهذا الحكم يصبح أكثر انطباقًا عليه عندما يتجاهل هذا الأساس العلمي كما يفعل المذهب الحدسي). والأرجح من ذلك بكثير أنه إنما يبرر الأخلاق السائدة أو المعترف بها في عصره. ولما كانت هذه الأخلاق مهما كان من سموها، لا تعدو أن تكون تعبيرًا عن السنن الاجتماعية أو العادات الشعبية ذات الوجهة الاجتماعية فإن أرفع المذاهب الأخلاقية الشاملة وأكثرها معقولية إنما هو في أساسه خدعة وقور، من حيث إنه يدعي لنفسه ما لا يمكن على الإطلاق أن يكونه أي مذهب عقلي بحكم طبيعة الوقائع الاجتماعية ذاتها.
وهناك عالم أشهر في أوساط علم الاجتماع الدولية، هو العالم الإيطالي المعاصر «فلفريدو باريتو»، الذي ربما كان كتابه المؤلف من أربعة مجلدات: «الذهن والمجتمع» أقوى المؤلفات تأثيرًا من بين كل ما نشر في هذا الميدان في القرن الحالي. وهناك حقيقة تهم الفلاسفة والمناطقة بوجه خاص، هي أن باريتو قد تأثر بقوة بالتجريبية المنطقية — ولعل كتابه أفضل مثال لتفكير عالم اجتماعي يدور في إطار ذلك الموقف الإبستمولوجي الذي عرضناه في الفصل الحادي عشر، فهو يشترط أن تكون جميع النظريات والعبارات قابلة للتحقيق في التجربة. وكثيرًا ما يقول عندما يناقش النظريات الأخلاقية الكلاسيكية: «من المستحيل تصور الطريقة التي يمكن بها تحقيق قضية من هذا النوع في التجربة». وهكذا فإن قدرًا كبيرًا من شكه في الأخلاق والبحث النظري الاجتماعي يتسم بطابع التجريبية المنطقية، لا بطابع علم الاجتماع كما هي الحال عند «سمنر».
وتعد معظم أحكامنا الأخلاقية (من أمثال: «هذا خير» و«ذاك شر») مشتقات؛ أي تبريرات للرغبات، تتفاوت درجة إحكامها. وهي بوصفها مشتقات، ليس لها تأثير كبير في البواقي التي تزينها أو تبررها، فليس للمثل العليا الأخلاقية إلا تأثير ضئيل في المجتمع أو الفرد، وإن كانت قد ترغمه على بذلك جهد كبير لكي يضفي على سلوكه مظهر الاتفاق مع الأخلاق المعترف بها. ولا يتردد باريتو في وصف معظم النظريات والأحكام الأخلاقية بأنها ضرب من النفاق، على الرغم من أنه لا يدعي أن هذا يكون في العادة نفاقًا شعوريًّا.
وأخيرًا يبدو باريتو قريبًا كل القرب من كارل ماركس عندما يصف الطريقة التي يسهل بها على النظريات الأخلاقية أن تخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى إلى الاحتفاظ بالسلطة واستغلالها. فهو يرى أن نسبة كبيرة من النظريات الأخلاقية تعبيرًا عن رغباتنا ومصالحنا الأساسية، فليس من المستغرب أن تكشف هذه الأحكام في كثير من الأحيان عن العاطفة أكثر من المنطق، وعن التبرير أكثر من العقل. كذلك فإنه لما كانت المعايير الأخلاقية لجماعة أو طبقة تعبر كذلك عن مصالح الجماعة ورغباتها، فمن المحتم أن تكون هذه المعايير كذلك بعيدة كل البعد عن الطابع المنطقي أو الموضوعي، مهما تكن الصورة المنطقية المزعومة التي تتخذها.
لذلك فليس لنا أن ندهش إذ نجد باريتو يمتدح ماكيافيلِّي، الذي كان يسعى على الدوام إلى وصف أفعال الشر على ما هي عليه بالفعل، لا كما ادعوا أو ظنوا أنها عليه. وليس لنا أن ندهش من أن باريتو يبدو لبعض الناس ساخرًا بالقيم، ولا سيما إذا كان هؤلاء الناس أنفسهم يتصفون بأي قدر من الحساسية العقلية. ولكن سواء أكان عالم الاجتماع الإيطالي هذا ساخرًا بالقيم، أم كان شخصًا واقعيًّا فحسب، فمن المؤكد أنه كان مصدرًا هامًّا من مصادر نزعة الشك الأخلاقية المعاصرة.
وأهم نقطة أتى بها فرويد فيما يتعلق بنزعة الشك الأخلاقية هي أن سلوكنا الواعي، العقلي، الأخلاقي، يتحكم فيه اللاشعور و«الثلاثة الكبار» المتصارعون فيه. ولما كانت هذه القوى كلها لا عقلية ولا أخلاقية تمامًا، فكيف يمكن ألا يكون سلوكنا لا عقليًّا، غير متأثر بالأحكام الأخلاقية؟ ذلك لأن الأنا الأعلى ذاته، الذي يبدو أخلاقيًّا، لا يقل عماء عن «الهي»؛ لأنه لا بد أن يعبر عن مضمونه المتراكم من التحريمات والتهديدات والعقوبات الأبوية، ومظاهر الاستهجان والنواهي الاجتماعية، والتحذيرات الدينية، وما شابهها — وكلها أمور لا عقلية وتعسفية. وفضلًا عن ذلك فمن الممكن أن يكون الأنا الأعلى قاسيًا جبارًا إلى حد لا يتصور، فيعذب الشخص الذي عصى أوامره عن طريق «عقدة ذنب»، أو «عصاب قلق» أو غيرها من العقوبات التي تدوم إلى الأبد، والتي أحكم وضعها بحيث تجعل السعادة مستحيلة.
يرى علماء النفس أن أفكارنا «العقلية» المؤدية إلى حكم أخلاقي «موضوعي»، أو إلى وضع مذهب أخلاقي، ليست إلا واجهة تخفي القوى الحقيقة التي تحركنا؛ أعني الرغبات اللاشعورية، وأجهزة الدفاع وأساليب التوفيق والحلول الوسطى. فنحن نخدع لأن الأنا يبدو عقليًّا، غير أن هذا راجع إلى أن الرقيب الدائم اليقظة لا يسمح إلا للجوانب الأفضل للحياة النفسية بأن تظهر على عتبة الوعي. والواقع أن أكثر الناس معقولية وأخلاقية يظلون في أساسهم مجرد دمى تحركها قوى عمياء بدأنا بالجهد نعترف بوجودها.
وعلى حين أن التحليل النفسي، بوصفه ضربًا من ضروب العلاج، قد حقق أعظم نتائجه في الحالات التي تعمل فيها قوى لا عقلية واضحة — كحالات الحصر والمخاوف (الفوبيا) والمرض العقلي — فإن المحللين يؤكدون أن الأفراد الأسوياء المتكيفين تكيفًا سليمًا، تحركهم نفس الدوافع اللاشعورية التي تحرك الأشخاص العصابيين. وكل ما في الأمر أن ذلك الشخص الذي نسميه سويًّا هو شخص كان من حسن حظه أن مداولات «الثلاثة الكبار» فيه أقرب إلى المتوسط أو إلى ما يقره المجتمع أو إلى النمط الفعال للسلوك من الشخص العصابي. غير أن هذه مجرد مصادفة سعيدة، وليست دليلًا على مزيد من المعقولية أو الأخلاقية من جانبه.
أين نحن إذن؟ يمكن القول إننا حتى لو أقللنا من قدر أفكار «سمنر» و«باريتو» و«فرويد» على أساس أنها أنصاف حقائق مبالغ فيها، فإن النصف الباقي يظل يشكل كتلة هائلة تعترض مباشرة طريق التفكير الأخلاقي المعاصر. وهكذا نستطيع أن ندرك الآن السبب الذي جعل بعض المفكرين يتراجعون إلى اتخاذ الموقف الحدسي، وهم يهتفون: «مغالطة المذهب الطبيعي! …» وكأنها سبة. كذلك نستطيع أن ندرك السبب الذي جعل غيرهم ينسحبون إلى نزعة الشك وهم يصيحون: «لا أمل! لا أمل!» … ولكن قد يكون من العسير أن ندرك ما الذي يدعو صاحب المذهب الطبيعي في الأخلاق إلى أن يغرق في خضم تلك المجموعة الهائلة من المعطيات الاجتماعية النفسية محاولًا إيجاد أساس سليم لأحكام القيم.
ولو سألنا أصحاب المذهب الطبيعي الأخلاقي هؤلاء، الذين هم حقًّا أناس يتصفون بقوة العزيمة، عن هذا الموضوع، لكان ردهم: «أين هو الشيء الآخر الذي نستطيع أن نجد فيه أساسًا متينًا لنظريتنا في القيم؟ وأن نستطيع أن نأمل في إيجاد مكان لها، بعد رفض المذهب فوق الطبيعي القائل بأن للقيم أساسًا سماويًّا، والرأي الحدسي القائل إنها فريدة في نوعها، واضحة بذاتها، لا ترتبط بالطبيعة أو بالتجربة البشرية بأسرها؟ من الواضح أن الطبيعة (وضمنها الإنسان ذاته) هي المصدر الوحيد الباقي. ولما كانت معرفتنا بالطبيعة تأتي من العلم، وأفضل معرفة لنا بالطبيعة البشرية تأتي من العلم الاجتماعي، فلا بد لنا من التحالف مع هذين المصدرين.»
وكم كان يسرنا أن نترك لدى الطالب إحساسًا يقينيًّا بأن أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يسيرون بخطوات جبارة في المهمة التي أخذوها على عاتقهم وهي تشييد بناء للقيم على أساس من الواقع. ولكن من سوء الحظ أن أي انطباعٍ مُرضٍ كهذا لا بد أن يكون مضللًا. بل إن المتشبثين من أصحاب المذهب الطبيعي في الأخلاق يعلنون أن تقدمًا قد حدث في هذا الاتجاه، فقد مهدت الأرض على الأقل، وقيست أبعاد المشكلة. فإذا تذكرنا أن المفكرين الرواد من أمثال سمنر وباريتو وفرويد لم يكشفوا عن ضخامة المشكلة إلا منذ عهد قريب، لوجب علينا أن نعترف عندئذٍ بأن تمهيد الأرض من حولها ليس بالأمر اليسير.
فهل يعني ذلك كله أن التفكير الأخلاقي المنهجي في أيامنا هذه مضطرب منقسم على نفسه؟ من الواضح أنه يعني هذا بالفعل. وهل يعني أيضًا أن المستقبل في علم الأخلاق غير مشجع، بل ميئوس منه؟ إننا عندما نرجع بأنظارنا إلى التاريخ الطويل للتفكير النظري الأخلاقي، لكي نرى كم من الأزمات استطاع هذا التفكير أن يجتازها، لن نعود نصف الموقف الراهن بأنه ميئوس منه، والأفضل أن نصفه بأنه يدعو إلى التروي، وينطوي على تحد، ولكنه ليس مثبطًا للهمم. وخلال ذلك، فحتى يجيء الوقت الذي يتسنى فيه للمفكرين الأخلاقيين أن يلموا الشتات ويبدءوا عملهم مرة أخرى على أساس جديد، فقد تكون مهمتنا، بوصفنا أبناء وبنات للقرن العشرين العاصف المضطرب، أن نتعلم كيف نعيش في ظل اللايقين، ونبني حياتنا على الاحتمالات بدلًا من القيم المطلقة التي كان يدعيها أجدادنا. ولا يبدو أن لنا، من وجهة نظر الأخلاق؛ أي مخرج آخر، إلا أن نقبل المذهب الحدسي أو المذهب فوق الطبيعي.