الفصل السادس عشر
علم الجمال: ربيب الفلسفة
قد يجد الدارسون الجدد للفلسفة صعوبة في تصور الطريقة التي يمكن أن يندمج بها علم
الجمال
وفلسفة الفن داخل الإطار العام للفلسفة. ومن أسباب هذه الصعوبة أن معظم الطلاب أقل اهتمامًا
بمشكلات الفن والجمال، وربما أقل معرفة بها، مما هم ببعض المشكلات الأخرى في الفلسفة،
كالمشكلات المتعلقة بعلم الأخلاق وبالأخلاق العملية. وينبغي لنا أن نعترف بأن هذا الفرع
الذي سندرسه الآن، يحتاج إلى تجربة متخصصة تفوق ما يتسنى لبعض القراء اكتسابه. ولقد أشرنا
من قبل إلى أن للمشكلات الأخلاقية طابعًا لا يمكن التخلص منه؛ إذ إن من الضروري أن يمارس
البشر جميعًا، في كل ساعة من ساعات يومهم تقريبًا، ملكة الاختيار لديهم بطريقة تنطوي
على
نتائج أخلاقية. أما ميدان علم الجمال، فعلى حين أنه مجال متعلق بالقيم، شأنه شأن الأخلاق،
وفيه فرص ممكنة للاختيار لا تقل عما توجد في الأخلاق، فإن أناسًا قليلين هم الذين نظموا
حياتهم بحيث يجدون ممارسة هذا الاختيار الجمالي أمرًا لا مفر منه. ففي استطاعة المرء
أن
يعيش حياة كاملة دون أن يصدر أكثر من حفنة من الأحكام الجمالية، ومن المؤكد أن هناك أناسًا
كثيرين يعيشون راضين تمامًا فيما يمكن أن يعد فراغًا جماليًّا.
ومع ذلك فمن المستحيل، كما ذكرنا في فصل سابق، أن يفكر المرء تفكيرًا عميقًا في أي
ميدان
دون أن يواجه أولًا مشكلات عقلية عامة. ثم يصادف بعد ذلك مسائل لها قطعًا طابع فلسفي.
وليس
ميدان الفن والجمال استثناء من هذا الحكم العام. فعلى الرغم من أن البقاء خارج هذا الميدان
أسهل من تجنب مجال الأخلاق، فإننا مجرد أن تطأ أقدامنا الميدان الفني أو الجمالي، نتعرض
في
أية لحظة للتعثر في حقل ألغام فلسفي شديد الانفجار.
على أن هذا الميدان ربما كان هو الذي شهد أكثر المحاولات إلحاحًا لتجنب المشكلات
الفلسفية
النهائية (وقد يكون ذلك موقفًا دفاعيًّا بالنسبة إلى أي شخص ما عدا المفكر الميتافيزيقي)،
بل لتجنب أشد المشكلات الجمالية وضوحًا. وقد كانت محاولات التهرب هذه متفاوتة أشد التفاوت،
ما بين موقف عقيم يقول فيه المرء: «لست أعرف أي شيء عن الفن، ولكني أعرف ما أفضله». وموقف
جمالي فوضوي صريح، يصف فيه ناقد تأثر Impressionistic مثل
«أناتول فرانس» نشاطه النقدي الخاص وصفًا دقيقًا بأنه «يروي قصة مغامرات روحه مع الأعمال
الفنية الكبرى». على أن هذا الرأي الأخير في النقد لا يعبر عن نفس القدر من السذاجة العقلية
الذي يعبر عنه موقف: «إنني أعرف ما أفضله»؛ ذلك لأن الناقد، بإشارته إلى «الأعمال الفنية
الكبرى»، قد اعترف ضمنًا بمعيار للتقويم خارج نطاق تفضيله الشخصي الخاص. صحيح أن مغامراته
شخصية دون شك، ولكنه لا يزعم أن الحكم على العمل الفني بأنه «عمل كبير» هو تقويم شخصي
كذلك.
فهو إذن يفترض ضمنًا نوعًا من المعيار النقدي، وهذا يستتبع منطقيًّا مجال التأمل الجمالي
بأسره. وهكذا، فبينما معظم الناس لا يشعرون بضرورة عملية تحتم عليهم بحث مشكلات الفن
وعلم
الجمال، فإن أولئك الذين يودون التبصر في حياة الذهن وعالم النشاط العقلي يجدون أن بحث
هذا
الميدان ملزم لهم منطقيًّا على نحو لا يقل عن سائر فروع الفلسفة.
(١) حداثة عهد علم الجمال
علم الجمال هو أصغر أبناء الفلسفة؛ إذ إنه احتفل منذ عهد قريب جدًّا بعيد ميلاده
المائتين بوصفه فردًا معترفًا به في الأسرة الفلسفية. فقبل أواسط القرن الثامن عشر، كان
كثير من المفكرين يشيرون إلى مشكلة الفن وطبيعة الجمال، ولكن القليلين جدًّا منهم هم
الذين تعمقوا بالفعل في المسائل الأساسية. وكان أفلاطون قد أثار أسئلة حول طبيعة الفن
وعلاقته بالأخلاق، كما تضمن كتاب الشعر لأرسطو نظرية من أوسع النظريات تأثيرًا في الفن
التراجيدي. ومع ذلك فإن الوعي الجمالي، كما نفهمه اليوم، لم يكن له وجود تقريبًا في ذلك
الوقت، كما يشهد بذلك كل لفظ في نظرية أفلاطون.
١ بل إن قدرًا كبيرًا من التفكير الحديث في هذا الموضوع، في أوائل عهد هذا
التفكير عند الفلاسفة مثل «باومجارتنر
Baumgartner»
(الذي أعطى علم الجمال اسمه) كان محدودًا مبدئيًّا إلى حدٍّ بعيد. ومن هنا فإن علم
الجمال، في معناه الجديد الزاخر، ما زال دراسة حديثة العهد جدًّا.
ونظرًا إلى حداثة عهد علم الجمال، فليس من المستغرب أن نجد هذا الميدان أقل تنظيمًا
وترتيبًا من الفروع الأخرى للفلسفة. كذلك ينبغي ألا ندهش إذ نجد اختلافًا في استخدام
المصطلحات ونصادف من آنٍ لآخر خلطًا في المسائل الأساسية. والواقع أن قدرًا من هذا
الخلط يرجع إلى أسباب غير حداثة عهد الموضوع؛ ذلك لأن أي مذهب فلسفي تام، مجهز تجهيزًا
كاملًا، كان يشتمل تقليديًّا على بحث في الفن والجمال. ولقد أدى ذلك في بعض الأحيان إلى
نتائج سيئة؛ إذ نجم عنه بعض البحث النظري غير المدقق، وبعض الكتابات التي تتسم بالغموض
والتخبط غير العادي. وفي بعض الأحيان لم يكن لدى الفيلسوف إلا اهتمام حقيقي ضئيل بعلم
الجمال، وكان تقديره للفن أقل حتى من هذا القدر. كذلك نجم عن هذا السعي وراء الاكتمال
ضرر آخر؛ إذ كان يعني في بعض الأحيان أن الأفكار الجمالية لا تجد ما ترتكز عليه بذاتها،
وإنما يتعين عليها أن تدخل في إطار مذاهب ميتافيزيقية صيغت من قبل. وهكذا كان علم
الجمال في كثير من الأحيان ربيبًا للفلسفة، وكان أحيانًا يدرج ضمن أفراد الأسرة لمجرد
الشعور بالواجب، لا بدافع أي إحساس حقيقي بالحب الأبوي.
بعض الدلائل على النضج المتزايد: من حسن الحظ أنه
قد ظهرت خلال نصف القرن الأخير دلائل على تزايد الحكمة في هذا الموضوع. ويبدو أن هذا
التحسن في مركز علم الجمال يرجع إلى أمرين، أولهما سلبي، فمعظم الفلاسفة اليوم أقل
طموحًا في تكوين مذهب فكري شامل مما كان أسلافهم، وهم على استعداد لإغفال تلك الأجزاء
من الفلسفة، التي لا يهتم بها المفكر اهتمامًا أصيلًا، أو التي لا يشعر بأنه على
استعداد كافٍ لبحثها. وهناك سبب آخر أوضح ظهورًا، لتزايد أهمية البحث النظري الجمالي
في
الوقت الراهن، هو التغير الذي طرأ على المزاج الفلسفي في الآونة الأخيرة. فحتى عهد
قريب، كالجزء الأخير من القرن التاسع عشر مثلًا، كان الطابع الغالب على الفلسفة هو
الطابع العقلي. فقد كانت الفلسفة مبنية على المنطق إلى حدٍّ بعيد — لا بمعنى أنها كانت
تستخدم المنطق أداة عقلية، بل بمعنى أنها كانت تنبعث مباشرة عن العمليات المنطقية وتتخذ
طابع هذا النشاط العقلي الصرف. «فالعقل Reason»، كان
هو الأداة الرئيسية للنشاط الفلسفي. وباستثناء شوبنهور وقليل من المفكرين أصحاب المذهب
الإرادي، الأقل منه شأنًا، فإن الفلاسفة لم يجعلوا للمشاعر أو الانفعالات مكانة كبيرة
في مذاهبهم، بل إن معظم المفكرين منذ عهد أفلاطون فصاعدًا كانوا يتجهون إلى الحط من شأن
المشاعر والإقلال من قيمتها بوصفها وسائل للكشف عن طبيعة الواقع. ذلك لأن الحواس
والمشاعر والانفعالات (وهي ألفاظ كانت تستخدم في معظم الكتابات الفلسفية بمعنى مترادف
تقريبًا) كانت تعد إما عاجزة عن كشف الواقع، وإما عقبات إيجابية في وجه هذا الكشف. وقد
بدا أن الكثير من المثاليين، ولا سيما أولئك الذين كانوا أساسًا من أصحاب الاتجاهات
العقلية، يأبون أن يعترفوا للحواس والانفعالات بأية أهمية، حتى فيما يتعلق بإدراك
الجمال.
غير أن ظهور الفلسفات ذات النزعة الإرادية، ولا سيما البرجماتية، مقترنًا بالمزاج
التجريبي العام للفكر المعاصر، قد أرغم المفكرين على إعادة النظر في دور الانفعال في
عملياتنا المعرفية. وهذا بدوره قد شجع على صياغة نظريات فلسفية تعترف بالأهمية الفائقة
لمشاعر الإنسان ورغباته، حتى بالنسبة إلى عملياتنا المنطقية وأعمالنا العقلية. وهكذا
استعيض عن التفكير الجمالي ذي الاتجاه العقلي الجاف، الذي كان في كثير من الأحيان
مبنيًّا على أسس فنية هزيلة، والذي عرف في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع
عشر (مع استثناء واضح هو شوبنهور مرة أخرى)، بتأملات جمالية تكشف في كثير من الأحيان
عن
إلمام واسع جدًّا بالفنون، بالإضافة إلى تجربة جمالية شخصية غنية متعمقة إلى حد يفوق
كل
ما كان يتصوره مفكر مثل كانت.
٢
وقد يكون من العسير أن نقنع الطلاب الذين ليس لديهم إلا إلمام محدود بالفنون، أو لا
يستجيبون للجمال في أية صورة إلا استجابة محدودة، بأن للتفكير الجمالي من الأهمية ما
يبرر الكلام عنه في مدخل عام إلى الفلسفة (كهذا الكتاب). ومع ذلك فإن أي قارئ توصل إلى
إدراك وجود التجربة الجمالية وإمكاناتها الهائلة، سيجد في الصفحات التالية على الأقل
بعض المفاهيم والتفرقات التي قد تلقي ضوءًا على هذه التجربة، من حيث ما تكونه في ذاتها،
ومن حيث علاقاتها ببقية أوجه النشاط العقلية والروحية للإنسان.
(٢) مشكلات علم الجمال
لعل عدم إيضاح المفاهيم المستخدمة في علم الجمال هو أهم أسباب الخلط الذي يشيع في
التفكير الجمالي على نطاق واسع. فلا توجد في هذا الميدان إلا مصطلحات أساسية قليلة
العدد، ومع ذلك يبدو أن هذه الحقيقة ذاتها قد شجعت على استخدام هذه المصطلحات بطريقة
فيها خلط وغموض. فالمصطلحات التقليدية الرئيسية في علم الجمال كانت ثلاثة، أضيف إليها
مصطلح رابع في الآونة الأخيرة. أما المصطلحات التقليدية فكانت بسيطة مألوفة إلى حد
الإملال، وهي: الجمال، والفن، والطبيعة. ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من الجدل الدائر في
ميدان علم الجمال قد تركز حول طبيعة هذه المعاني الثلاثة ومكانتها، سواء في ذاتها أو
في
علاقة كلٍّ منها بالأخرى. وقد أدى إدخال مصطلح التعبير في العصر الحديث إلى إثراء
المشكلة إلى حدٍّ بعيد، وتعقيدها كثيرًا في نفس الوقت، بحيث أصبح هذا المفهوم الجديد
محور الجدل في الوقت الراهن. وعلى الرغم من أن مجال علم الجمال بأسره يمر في الوقت
الحالي بحالة من السيولة، فقد بدأت تظهر وسط هذا التدفق الشامل جزر ممكنة معينة، وهناك
من الأسباب ما يبرر الاعتقاد بأن هذا الموضوع قد يحقق في وقت قريب مزيدًا من الوضوح،
وتصبح له مكانة أعظم في عالم العقل.
ما الجمال؟ إذا قفزنا بجرأة في قلب الدوامة الصاخبة، لبدا لنا أن أعظم قدر من الخلط
كان يتركز دائمًا حول لفظَي «الفن» و«الجمال». ولهذا الخلط أسباب متعددة. فإذا ما نظرنا
إلى الجمال في ذاته، بغضِّ النظر عن كونه يتبدى في الطبيعة أم في الفن، لواجهتنا أولًا
مشكلة تقديم تعريفٍ مُرضٍ لهذا اللفظ. وترتبط مشكلة مكانة الجمال ارتباطًا وثيقًا
بالمشكلة السابقة المتعلقة بطبيعته. فهل الجمال ذاتي أو موضوعي؟ وهل هو يكمن في
الموضوع، أم أنه لا يوجد إلا في ذهن المشاهد؟ وإذا اتخذنا موقفًا وسطًا وقلنا إن الجمال
ينشأ من نوع من الجمع بين العاملَين الموضوعي والذاتي، ففي أي نوع من الجمع يظهر؟ وإذ
قررنا أن الجمال موضوعي، فما علاقته بالواقع ككل؟ وما مكانة الجمال في الكون؟ ومن جهة
أخرى فإذا نظرنا إلى الجمال على أنه ذاتي، فهل هو يكشف أي شيء عن طبيعة الواقع الخارجي،
أم أنه لا أهمية له إلا من حيث هو يكشف عن الطبيعة البشرية؟
وعندما نبحث، بصورة أخص، في الجمال من حيث علاقته بالطبيعة والفن كل على حدة، نجد
أنفسنا إزاء مشكلات أشد من هذه تعقيدًا. فهل الجمال الذي يخلقه الفنان من نفس نوع
الجمال الموجود في الطبيعة — وهل يؤدي عنصر الغرضية؛ أعني كون الجمال الفني يخطط ويبعث
إلى الوجود عن قصد وعمد، إلى إيجاد فارق يؤدي إلى إدراج نوعَي الجمال ضمن فئتين
مستقلتين؟ إن جميع النقاد والفنانين والباحثين الجماليين تقريبًا متفقون على أن الجمال
الفني معبر إلى حد يستحيل أن يبلغه الجمال الطبيعي، وليس من شك على الإطلاق في أن
الجمال الفني أشد تعقيدًا. وما هو بالضبط دور الجمال في الفن؟ لقد كان من المسلَّم به
دون أي شك تقريبًا، حتى عهد قريب، أن أي عمل فني ينبغي قبل كل شيء أن يكون جميلًا وكان
معظم المفكرين الجماليين في الماضي يرون أن خلق الجمال هو الهدف الأول للفنان. وما زالت
عامة الناس تؤمن بذلك، كما يتضح أن أكثر الانتقادات التي يوجهها الأشخاص العاديون إلى
الفن المعاصر شيوعًا هو أن الأعمال التي يبدعها ليست جميلة بالقياس إلى أعمال «أساطين
الفن القدماء» — وهي عبارة تعني في هذه الحالة عادةً أي فنان أنتج قبل عام
١٨٩٠م.
(٣) مشكلات الفن
إذا نظرنا إلى الفن بأعين المفكر الجمالي التحليلية، لوجدنا أنفسنا على التو إزاء
مشكلات مثل: ما هدف الفن؟ هل ينبغي أن يحاكي الطبيعة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي أوجه
الطبيعة لاتي ينبغي أن يحاكيها — ما دامت أية محاكاة كاملة تكاد تكون مستحيلة؟ وهل يجب
على الفن أن يضفي على الطبيعة صبغة مثالية، أو أن يقتصر في تصويره على الأقل على الأوجه
الأكثر مثالية للعالم الطبيعي؟ أم أن من الواجب أن نتخلى عن نظرية المحاكاة برمتها،
ونقول إن الفن تعبير عن استجاباتنا للطبيعة؟ وإن كان الأمر كذلك، فأية استجابات نعني؟
أهي استجابات الفنان الشديد الحساسة، أم تلك التي يمارسها الناس جميعًا، بغضِّ النظر
عن
تعليمهم أو خبرتهم أو ذكائهم أو حساسيتهم؟
وماذا نقول عن العلاقة بين الفن والأخلاق؟ لقد
تفاوتت وجهات النظر في هذه المشكلة إلى حدٍّ بعيد، بل إننا حتى في الوقت الحالي، حين
أصبحت الأخلاق أكثر تحررًا في عمومها مما كانت عليه طوال أجيال عديدة، ما زلنا نجد
اتجاهات تتباعد إلى حد يوحي باستحالة الوصول إلى اتفاق في الرأي. فهل ينبغي الحكم على
موضوع أي عمل فني بنفس المعايير الأخلاقية التي نستخدمها في الحكم على هذا الفعل أو
الموقف (الذي يمثله هذا الموضوع) لو حدث في الحياة الواقعية؟ أم أن للفنان الحرية في
معالجة أي موضوع بالطريقة التي يراها مناسبة؟ وهل يقف العمل الفني في فراغ أخلاقي، أم
أن هناك نوعًا من «الأخلاقية العليا»، توصف بأنها أكثر تحررًا، وربما تعمقًا، من أية
أخلاق اجتماعية مألوفة، يتعين على الفن الخلاق أن يراعيها؟
الفن والتعليم: هناك مشكلة أخرى تقف إلى جوار هذا
الخلاف الحاد: هي مشكلة العلاقة بين الفن والتعليم. هذه المشكلة الجديدة، حين تكون
متعلقة بالتعليم الأخلاقي، تعود بنا إلى المشكلة السابقة، غير أنها تمتد عادةً بحيث
تشمل علاقات الفن بكل نوع من أنواع التعليم. وقد سبق لأفلاطون، وهو أول مفكر جمالي هام،
أن ناقش هذا الموضوع مناقشة تفصيلية، وما زالت النتائج التي انتهى إليها تجد قبولًا لدى
كثير من ذوي النزعات المحافظة أو الاتجاهات المثالية. فهل يكون من المأمون أن نعرض
الأذهان الفتية، السهلة التأثر، لتلك الحوادث التي تتصف بالعاطفة المشبوبة،
وباللاأخلاقية أحيانًا، والتي تصورها كثير من الأعمال الفنية، وبخاصة في الوقت الذي
تكون فيه تلك الأذهان مفتقرة إلى النضج الكفيل بأن يجعلها تشعر بالفارق بين هذه الأفعال
حين تحدث في الحياة الواقعية وبين التصوير الفني لها؟ هذا السؤال يؤدي بنا إلى مشكلة
الرقابة في الفن — وهي مشكلة ربما كانت ملحة في وقتنا الحالي أكثر مما كان في أي وقت
مضى، بعد ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية كالإذاعة والتليفزيون والسينما.
ما مدى أهمية الموضوع في الفن: وماذا نقول عن
استخدام الفن لأغراض الدعاية، أو حتى ما يسمى بالدعاية ذات القصد النبيل، كما نجد في
حالة الدين أو في الأعمال التي ترمي إلى تحريك مشاعر التعاطف مع المضطهدين اجتماعيًّا
أو المظلومين اقتصاديًّا؟ وإذا قدر لهذا النوع من الفن أن يبلغ حد العظمة (ويكاد إجماع
النقاد ينعقد على أنه كثيرًا ما يبلغ هذا الحد) فهل تتحقق هذه العظمة بسبب مضمونه
الدعائي، أم على الرغم منه، أم على نحو مستقل عن هذا المضمون؟ وإذ قررنا أن هذا المضمون
الفكري لا تربطه بروعة العمل الفني أو ضآلة قيمته إلا صلة واهية، أو لا تربطه بهما صلة
على الإطلاق، فإن هذا يؤدي بنا منطقيًّا إلى مشكلة يتميز بها الفكر الجمالي المعاصر على
التخصيص، وهي: ما أهمية موضوع أي عمل فني في تقديرنا له بوصفه تجربة جمالية؟ وهل ينبغي
أن يكون الهدف الأول للفنان هو أن يروي لنا قصة، أو يعيد بعث ارتباطاتنا النفسية، أو
ينبهنا إلى موعظة، أو يحرك فينا دوافع الشفقة أو السلوك الاجتماعي؟ أم أن هدفه الأول
—
إذا انتقلنا إلى الطرف الآخر المضاد — ينبغي أن يكون خلق الجمال لذاته؟ أعني هل هو
يقتصر على أن يحاول خلق تنظيم معقد من التراكيب السطحية والعلاقات الشكلية الكاملة
التحقق، التي لا يكون لها «معنى»، ولا تعبر إلا عن زخرف جمالي وعن قيم شكلية
غنية؟
مشكلات أخرى في هذا الميدان: على أن هذه المشكلات
الصعبة، على الرغم من تعددها ومن كل ما تثيره من الجدل، لا تشكل المجال الكامل لعلم
الجمال. فنحن لم نذكر شيئًا عن المشكلات التكنيكية التي يثيرها كل فن من الفنون على
حدة، ولم نشر إلى التمييز (الفعلي أو المفترض) بين الفنون «الجميلة» والفنون
«التطبيقية». كذلك فإن إية قائمة كاملة للمشكلات الكبرى عي علم الجمال ينبغي أن تشتمل
على التقابل بين الفنون المكانية (وهي التصوير والنحت والعمارة، إلخ) وبين الفنون التي
ينطوي عرضها على عنصر الزمان (كالموسيقى والشعر والدراما والرقص). وربما كان أهم ما
أغفلناه هو تلك المشكلات التي يحاول علم النفس حلها عن طريق التحليل العلمي للتجربة
الجمالية وملاحظة الأذهان الخلاقة وهي تمارس عملها. ومع ذلك، فلما كانت هذه الدراسة لا
تعدو أن تكون فصلًا واحدًا ضمن مدخل عام إلى الفلسفة، فينبغي أن نكتفي بتخصيص بقية
المكان المخصص لنا لعرض بعض الأفكار المتعلقة بمشكلتين من المشكلات التي أثرناها من
قبل. ولعل كل ما نأمل في تحقيقه في مثل هذه المقدمة الموجزة هو إيضاح المصطلحات
الرئيسية والحديث عن بعض التفرقات الأساسية في الميدان الجمالي.
(٤) مكانة القيم الجمالية
فلنبدأ ببحث مشكلة الموضوعية الجمالية — أو بعبارة أدق، المكانة الوجودية للقيم
الجمالية. فحتى عهد قريب نسبيًّا كان من المسلَّم به عمومًا، ودون جدل كثير، أن اللذات
التي يجلبها الموضوع الجمالي شاملة. فكان يفترض أن جميع المشاهدين يجدون نفس الكمية
ونفس النوع من اللذة تقريبًا عند تأمل العمل الفني أو الشيء الطبيعي الجميل. ولكن هذا
الافتراض قد أصبح يواجه تحديًا مستمرًّا في الآونة الأخيرة، بعد زيادة القدرة النقدية
وقوة الاتجاه النسبي في الفكر الحديث، حتى إن المفكر الذي يؤمن بأن القيم الجمالية وجود
موضوعي أصبح يتخذ اليوم موقف الدفاع.
٣ ولكن في استطاعة القائل بموضوعية القيم أن يقدم حججًا قوية تؤيد رأيه
القائل إن بعض أنواع التجربة الجمالية على الأقل مشتركة بين الناس جميعًا، وإن اللذات
التي تنشأ عن هذه التجارب تمثل بالتالي قيمًا موضوعية.
أنواع ثلاثة من القيمة الجمالية: يبني القائل
بموضوعية القيم موقفه عادةً على تمييزات معينة يعتقد أن المدرسة الذاتية في القيم
تتجاهلها أو تقلل من قيمتها. هذه التمييزات تؤدي إلى تقسيم ميدان القيمة الجمالية إلى
ثلاثة أنواع، وهذه الأنواع مستقلة بعضها عن بعض، وكلٌّ منها يؤدي إلى استجابة من نوع
خاص لدى المشاهد. ويمكن تقسيم القيم الناتجة عن هذه الاستجابات المختلفة إلى حسية،
وشكلية، وترابطية.
-
(١)
القيم الحسية: القيم الحسية هي تلك
التي تنشأ عن إدراك ألوان أو أشكال أو أصوات معينة، على نحو مستقل عن
التنظيم الشكلي الذي تتجسد فيه هذه العناصر، وعن الفكرة أو «المعنى» الذي
يفترض أن العمل الفني يعبر عنه. مثال ذلك أن السطح المصقول للرخام
والجرانيت وبعض أنواع الخشب وكثيرًا من المعادن، يجتذب مباشرة حاستَي
الإبصار واللمس لدينا. وكثير من الألوان تبعث لذة حتى لو كانت تبدو بقعًا
منفصلة. ويؤدي اللون النغمي لآلات موسيقية معينة، وكذلك عدد من الأصوات
التي تُسمع في الطبيعة، إلى إعطائنا لذة سمعية مستقلة تمامًا عن اللحن، أو
الهارموني، أو الإيقاع الذي تتجسد فيه هذه الأصوات.
-
(٢)
القيم الشكلية: القيم الشكلية عادةً
أقل وضوحًا من نظائرها الحسية، ويكاد يكون من المؤكد أنها أعقد منها. وهي
تنشأ من اللذة التي يجدها الذهن في إدراك جميع أنواع العلاقات. وقد تكون
هذه علاقات هوية، أو تشابُه، أو مماثلة، أو تضاد … إلخ. وقد تقع هذه
العلاقات بين العمل الكامل وبين أجزائه، أو بين بعض الأجزاء وبعض، أو بين
كليات (Wholes) فنية مختلفة من أنواع شتى.
وهكذا نجد في العمارة أن واجهة المبنى تمثل علاقات شكلية متعددة، كنسبة
ارتفاع المبنى إلى عرضه، والحجم النسبي للأبواب والنوافذ وشكلها، والتضاد
بين المساحات التي تنار بقوة، وتلك التي توجد في الظل. وفي التصوير، توجد
تلك العلاقات الواضحة في التشابه والتضاد والاستجابة التجاوبية بين الأقواس
أو المنحنيات وبين الزوايا، أو بين مختلف الأشكال الهندسية في التكوين
الكامل. وفضلًا عن ذلك نجد كل إمكانيات العلاقات الكامنة في اللون، وهذه لا
تشتمل فقط على التقابل بين الأصباغ والدرجات اللونية، بل تشتمل أيضًا على
التعارض بين الألوان الباردة المنكمشة (الأزرق والأخضر مثلًا) وبين الألوان
الحارة العدوانية (الأحمر والأرجواني مثلًا). وفي الموسيقى يمكننا أن نستغل
علاقات السلم، والمقام، واللون الصوتي، والارتفاع والانخفاض، والإيقاع
والحجم الصوتي، فضلًا عن التقابل الأوسع مدى بين الموضوع والموضوع المقابل
في «الفوجة» Fugue أو بين الموضوعين
(Themes) الرئيسيين في قالب السوناتا.
ولكلٍّ من الفنون الأخرى إمكانيات غنية أخرى في العلاقات، ونخص منها بالذكر
إمكانيات الشعر. فالقيم الشكلية تنشأ كلما أدرك الذهن هذه العلاقات، حتى لو
كان إدراكه هذا مبهمًا، ووجد فيها لذة أو دلالة.
-
(٣)
القيم الارتباطية: القيم الارتباطية
(وتسمى أيضًا بالقيم اللفظية، أو التصويرية، أو الأدبية، أو الرمزية، أو
قيم المضمون) هي تلك التي تضفي على الموضوعات الجمالية معنى يمكن التعبير
عنه بالكلمات، وتصبح مرتبطة بالموضوعات لأنها تذكِّر المشاهد أو السامع
بأشياء أو أفكار أو حوادث توجد (أو كانت توجد) خارج المجال الجمالي. وهكذا
فإن صورة رجل يضحك، تعبر عن المرح أو الطرب؛ لأن هذا هو المعنى المرتبط
بالضحك في الحياة اليومية، على حين أن قطعة موسيقية معينة قد تطربنا لأن
لها ارتباطًا وثيقًا بمناسبة سعيدة معينة في الماضي.
وينبغي أن نشير إلى تمييز آخر داخل فئة القيم الارتباطية، تنقسم فيه هذه القيم إلى
أولية وثانوية.
٤ فالارتباطات الأولية هي تلك التي يفترض أنها تسري على الناس جميعًا،
كالعلاقة التي أشرنا إليها منذ قليل بين الضحك والمرح. أما الارتباطات الثانوية فهي
فردية وشخصية بالمعنى الدقيق، كالذكريات السعيدة المرتبطة بمصنف موسيقي معين.
ما مدى موضوعية هذه الأنواع الثلاثة من القيم؟ تختف
هذه الأنواع المتباينة من القيم الجمالية اختلافًا كبيرًا في موضوعيتها، فاللذات الحسية
تبدو ذات جاذبية تعم النوع بأكمله قطعًا، على افتراض أن الفرد ليس فيه عيب عقلي أو حسي
(كأن يكون مصابًا بعمى الألوان أو الصمم). وهكذا فإن القيم الجمالية التي تنشأ من
استغلال المادة ذاتها ينبغي أن يعترف لها بمكانة موضوعية. أما بالنسبة إلى القيم
الشكلية فإن الموقف أعقد. فمن المعترف به أن كثيرًا من القيم الشكلية تبلغ من الخفاء
والدقة حدًّا قد يقتضي معه إدراكها خبرة، بل تدريبًا منظمًا. ومع ذلك فلما كان
الملاحظون الأسوياء يستطيعون الوصول إلى إدراكها بالمرانة، فمن العسير أن نرى كيف يمكن
أن تعد أقل شمولًا (وبالتالي أقل موضوعية) من تلك التي تنشأ عن اللذة الحسية.
٥
أما عندما نصل إلى فئة القيم الارتباطية فإن الموقف يتغير، فعلى حين أن هناك ارتباطات
معينة هي دون شك مشتركة بين النوع بأسره، فإن عددها أقل مما يفترضه معظم الناس. وربما
كان أقل من أن تكون له أهمية في علم الجمال. فكثير من الاستجابات التي كانت من قبل تعد
«غريزية» أو «طبيعية»، قد ثبت أنها مكتسبة، وكثير من الاستجابات التي كانت تعد من قبل
عامة شاملة، قد اتضح أنها مجرد «أنماط حضارية»، منتشرة على نطاق واسع داخل جماعة حضارية
معينة، ولكنها ليست عامة شاملة على الإطلاق. وحسبنا أن نضرب مثلين لارتباطات شاملة
مزعومة، يبينان مدى خطر التأكيد القطعي بشأن شمول أية استجابة كهذه. فنحن ننظر مثلًا
إلى المقام الصغير (Minor) في الموسيقى على أنه يعبر
بطبيعته عن أحوال نفسية جادة أو كئيبة أو استبطانية، ولا سيما بالنسبة إلى المقام
الكبير Major. ومع ذلك فقد كان لليونانيين القدامى رأي
عكسي تمامًا: فالمقام الكبير هو الذي كان حزينًا، كئيبًا، بل مخنثًا عندهم، على حين أن
المقام المماثل لمقامنا الرئيسي الصغير كان في نظرهم رجوليًّا عدوانيًّا مرحًا واثقًا
بنفسه. وإذا شئنا مثلًا آخر، فلنتساءل: ماذا نقول عن تلك الحقيقة المعروفة من أن الحداد
يرمز له في أرجاء شاسعة من الشرق باللون الأبيض؟
وعلى ذلك ينبغي أن نستنتج أن الترابطات الأولية ذاتها كثيرًا ما تكون مصادر غير موثوق
منها للقيمة الأخلاقية، على الرغم من أن هناك رموزًا معينة قد يصبح لها في جماعات
حضارية أو «مدنيات» خاصة تأثير ارتباطي يكاد يكون شاملًا، فالصليب، في حدود المسيحية،
هو مثال واضح، والمطرقة والمنجل
٦⋆ قد
يكونان في أيامنا هذه رمزًا عامًّا كذلك. أما بالنسبة إلى الارتباطات الثانوية، فلا
نكاد نكون بحاجة إلى القول إنها في عمومها شخصية؛ وبالتالي ذاتية تمامًا.
العنصر الشخصي: تمثل أية تجربة جمالية فردية لأي
شخص مزيجًا من ثلاثة أنواع من اللذة أو الإشباع. فالمشاهد العادي غير الخبير يبدي أكبر
قدر من الاهتمام، كما رأينا من قبل، بالمضمون الارتباطي، وقدر أقل منه بالحسي، وأقل قدر
من الجميع بالقيمة الشكلية. أما الفنان فيكاد يكون من المؤكد أنه إذا تأمل نفس العمل
الفني فسوف يعكس هذا الترتيب، كما يفعل معظم النقاد الفنيين، فسوف ينظر إلى العناصر
الحسية أو الشكلية على أنها أهم بكثير من العنصر الارتباطي، وقد تكون القيمة الكاملة
للعمل الفني — في عالم الفن المعاصر على الأقل — منحصرة في الجمع بين هذين العنصرين.
ومع ذلك فإن النقطة الرئيسية في مناقشتنا ليست هي السؤال عن «أفضل» الأنواع الثلاثة من
القيم الجمالية أو «أكثرها مشروعية»، وإنما نحن نبحث في هذه الحقيقة البسيطة، ألا وهي
أن الجزء الأكبر من التجربة الفنية يمثل مزيجًا كهذا. ولما كانت نسب كل نوع من القيم
تتفاوت تبعًا لكل مشاهد — من لحظة إلى أخرى في المشاهد الواحد — فإن القيمة الكاملة لكل
تجربة ينبغي أن تكون متباينة، شخصية؛ وبالتالي ذاتية.
ومن الممكن أن يكون الأفراد متسقين مع أنفسهم إلى حد معقول فيما يعزونه إلى أنواع
القيم الثلاثة من أهمية نسبية، وقد يتعلمون أن يعملوا حسابًا للأحوال النفسية المتغيرة،
وللأهواء الشخصية العابرة، كما ينبغي أن يفعل الناقد — كما أن من الممكن أيضًا أن يصل
شخصان أو أكثر، عن طريق الجمع بين مرانة مماثلة، وخبرة مماثلة، ومزاج مماثل، إلى اتخاذ
مزيج شبه متماثل من هذه القيم معيارًا شخصيًّا للدلالة الجمالية أو الامتياز الفني في
نظرهم. ومع ذلك فإن الأهمية النسبية لكل نوع من القيم تمثل في آخر الأمر اختيارًا ليس
شخصيًّا فحسب، بل هو فريد في نوعه؛ لذلك يبدو من المنطقي أن ننتهي من مناقشتنا هذه إلى
أن عالم التجربة الجمالية ليس أصلح مكان للبحث عن القيمة الموضوعية.
٧
وبطبيعة الحال فإن هناك أمورًا كثيرة أخرى تقال عن الخلاف بين الذاتية والموضوعية،
ولكن ليس هذا موضع الكلام عنها. ويكفي، بالنسبة إلى غرضنا الحالي، أن تكون التمييزات
التي أشرنا إليها الآن قد أعطت القارئ فكرة معينة عن تعقد المشكلات الجمالية والمناهج
التحليلية التي تستخدم في معالجتها.
(٥) مقارنة بين القيم الجمالية في الفن والطبيعة
في وسعنا أن نفيد من نفس هذه التمييزات التي تفرق بين مختلف أنواع التجربة الجمالية،
في بحثنا للمشكلة الكبرى الأخرى في هذا الميدان، وهي المشكلة الخاصة بالصلة بين «الفن»
و«الطبيعة». ولقد كانت الصيغة التي عبر بها التفكير الجمالي الأقدم عهدًا عن هذه
المشكلة هي صيغة التقابل بين «الجمال في الطبيعة» وبين «الجمال في الفن»، ولكن الاتجاه
الحديث إلى توسيع نطاق الفن والاستطيقا معًا بحيث يتجاوزان كثيرًا نطاق مفهوم «الجمال»
التقليدي، يدفعنا إلى بحث العلاقة بين الجمال والطبيعة في أعم صورها.
الفن بوصفه محاكاة للطبيعة: لعل أوسع الآراء عن
وظيفة الفن وغايته انتشارًا، وأكثرها دوامًا، هو النظرية المسماة بنظرية «المحاكاة».
ولهذه النظرية صورتان؛ الأولى: تمثل التفكير الجمالي الكلاسيكي والوسيط، وكانت ترى في
الفن مجرد نسخة من الطبيعة، ولا أكثر ولا أقل. ومن أشهر أمثلة هذه النظرية، آراء
أفلاطون، وإن كانت هذه الآراء القديمة في الموضوع، لم تقل إلا القليل عن أوجه الطبيعة
التي ينبغي محاكاتها. على أن التفكير النظري الجمالي في عصر النهضة والعصر الكلاسيكي
المحدث في القرن السابع عشر، قد هذب هذا الموقف الساذج إلى حد ما، وأدى هذا التهذيب إلى
ظهور النوع الثاني من نظرية المحاكاة، الذي لا يزال يؤيده كثير من الأشخاص غير
المتخصصين، ومن المفكرين ذوي النزعات المثالية في الوقت الراهن. ويذهب هذا الرأي المعدل
بدوره إلى أن وظيفة الفن هي محاكاة العالم الطبيعي، ولكن هذه المحاكاة ينبغي أن تنصب
على أوجه معينة منه؛ أعني الأوجه الأكثر مثالية. وتحفل النظريات الفنية في القرنين
السادس عشر والسابع عشر بنصائح إلى الفنان عن محاكاة الطبيعة والفنانين القدامى معًا.
وبطبيعة الحال فقد كان المفهوم ضمنًا في كل الأحوال هو أن هذين الاثنين كانا متشابهين
(بالنسبة إلى كل الأغراض العملية) إلى حد أنهما كانا تقريبًا في هوية تامة. ولكن رجال
عصر النهضة أدركوا أن الجزء الأكبر من الفن الكلاسيكي كان مثاليًّا بصورة واضحة. ولذا
كان من الضروري، لكي يحققوا الاتساق لمعيارهم المزدوج الخاص «بالطبيعة» و«الفن القديم»،
أن يقولوا بوجوب الاقتصار على محاكاة الأوجه الجميلة، النبيلة، البطولية، المثالية
للطبيعة. ولقد كانت وجهة نظر عصر النهضة هذه هي التي ورثناها، وما زال عامة الجمهور،
وكذلك الناقد المحافظ، يرون أن الغرض الأساسي للفن هو خلق صور محاكية جميلة للطبيعة
الجميلة.
الجمال في مقابل التعبير: على أن التفكير الجمالي
قد أصبح، منذ القرن الثامن عشر، أقوى شعورًا بالعنصر التعبيري في الفن.
٨ وكان من أسباب هذا التغير في الاتجاه، اتساع نطاق معرفة الأعمال اليونانية
الأصيلة، التي هي في عمومها أكثر «تعبيرية» (وهي قطعًا أقل تجردًا «وجمالًا» باردًا)
من
نسخها الرومانية. وقد أثار هذا الوعي المتزايد بالتعبير عدة مشكلات عقلية جديدة، أهمها
كيفية التوفيق بين شرط الجمال بوصفه القيمة العليا، وبين مطلب القدرة التعبيرية الجديد.
والواقع أن الحلول النظرية لهذه المشكلة تؤلف جزءًا كبيرًا من الكتابات التي ظهرت في
علم الجمال خلال الفترة الواقعة بين عام ١٧٦٠م و١٨٣٠م، وخاصة في ألمانيا. بل إننا ما
زلنا حتى اليوم نستمع في بعض الأوساط الجمالية إلى جدل يدور حول أولوية الجمال أو
التعبير. ولقد كانت النتيجة العقلية الشكلية للمعارك الأولى التي دارت حول هذه المسألة
هي وضع «المقولات» الجمالية: كالجميل، والجليل
Sublime
والتراجيدي (أو الأسيان
Comic) والكوميدي (أو الهزلي
Tragic)، والمميز
Characteristic، والعجيب. وكان سبب وضع هذه
المقولات هو محاولة تقديم وصف أدق لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الجمال والعناصر
الأكثر تعبيرية في الفن. ومن هنا كان من المسلَّم به عادةً أن المقولات الخمس الأخيرة
المذكورة من قبل تقف في مقابل الأولى، وإن كان من الممكن تآلفها مع «الجميل» بدرجات
متفاوتة — فالجليل مثلًا يتحد مع الجميل نحو أكثر طبيعية مما يتحد مع الهزلي.
وما دامت نظرية المحاكاة العامة كانت هي التي تسود الإنتاج الفني والتفكير الجمالي
معًا، فإن المسألة الوحيدة الحقيقية المتعلقة بالصلة بين الفن والطبيعة كانت: أي أوجه
الطبيعة ينبغي محاكاته؟ غير أن زيادة الاهتمام بالتعبير — حتى لو كان يعني التضحية
بالجمال — قد استوجبت قيام الحاجة إلى صيغة جديدة تعبر عن هذه العلاقة، وقد كرس جزء
كبير من الفكر الجمالي في الآونة الأخيرة لمحاولة وضع هذه الصيغة.
القيمة الجمالية في الطبيعة: من الجائز أن نتائج
هذا الاهتمام المتزايد بالتعبير أكثر ثورية مما أدركه أي مفكر في القرنين الثامن عشر
أو
التاسع عشر. ذلك لأن التغير كان ينطوي، بصورة ضمنية على الأقل، على سؤال عميق عظيم
الأهمية، هو: هل الطبيعة معبرة بحق؟ وإذا كانت كذلك، فما الذي تعبر عنه؟ فإذا ما أعدنا
صياغة هذا السؤال على أساس تقسيمنا الثلاثي السابق لأنواع اللذة أو الإرضاء الفني،
لأصبح كما يلي: ما هي القيم الجمالية التي توجد في الطبيعة، وما علاقتها بنظائرها في
الفن؟
-
(١)
القيم الحسية: لا جدال في أن الطبيعة
زاخرة بأمثلة اللذة أو الإرضاء على المستوى الأول، وهو المستوى الحسي،
المستمد من إدراك التركيبات المادية والألوان والأصوات. إلخ. فتركيب ورقة
زهرة، أو شاطئ مغطى بالطحالب، أو قطعة من الجرانيت المصقول كالزجاج، ولون
الأشياء التي لا حصر لها في الطبيعة، وخصائص أصوات بعض الطيور وغيرها من
الأصوات الطبيعية، كهزيم الريح خلال أشجار الصنوبر — كل هذه الأمثلة تقف
أندادًا لنظائرها الفنية من حيث القيم الحسية. ومن المعترف به أن تنوع
اللذات الحسية التي تقدمها الطبيعة أضيق نطاقًا مما يقدمه الفن (مثال ذلك
أن الفن يستخدم أنواعًا متعددة من السطوح المصقولة، على حين أنه لا يوجد في
الحالة الطبيعية إلا القليل منها) غير أن تلك الأمثلة التي توجد في العالم
الطبيعي قد تكون مصادر للذة الجمالية لا تقل تأثيرًا عن نظائرها في الفن
على الإطلاق.
-
(٢)
القيم الشكلية: أما على مستوى القيم
الشكلية، وهي التي وصفناها بأنها هي القيم الناشئة عن إدراك شتى أنواع
العلاقات، فأنا نجد نطاق الطبيعة محدودًا بالقياس إلى الفن. ولكن هناك مع
ذلك أمثلة طبيعية أصيلة كثيرة، ولا سيما في المجال البصري: فالزخارف التي
تصنعها نتف الجليد والبلورات، والأزهار، والقواقع، والخطوط المتعرجة التي
تحدثها الرياح والمياه في الرمال، والتركيب التماثلي لبعض الأشجار ولكل
أشكال الحياة الحيوانية تقريبًا — كل هذه تقدم أمثلة واضحة للقيم الشكلية.
ومع ذلك فإن قليلًا من التحليل كفيل بأن يبين لنا مدى بساطة هذه العلاقة
الشكلية الطبيعية وتكرارها بالقياس إلى ما نجده في الفن. مثال ذلك أن
التماثل الذي يظهر في الطبيعة على نطاق واسع يكاد يقتصر في كل الأحوال على
التماثل الكامل، الذي يكون فيه نصفا الشيء متناظرَين بكل دقة. فليس في وسع
الطبيعة أن تقدم إلينا إلا القليل جدًّا من أنواع التوازن التي يقدمها
الفن، والتي تتصف بالتعمق، والامتلاء، والإرضاء المتكرر. فالتوازن في
الأشكال الطبيعية يعني في كل الأحوال تقريبًا التماثل البسيط وحده، وهو
التماثل الذي ندركه على الفور، ونملُّه بسرعة، على حين أن التوازن الذي
يتمثل في كل من الفنون يمكن أن يكون مصدرًا لسرور دائم ولكشف لا يكاد ينضب
معينه. وأقصى ما يمكن أن تصل إليه القيم الشكلية الموجودة في الطبيعة هو أن
ترتفع إلى مستوى لا يتجاوز أبدًا مستوى «الأرابيسك» والزخارف التجريدية
البسيطة، كتلك التي توجد في ورق الحائط والقوالب المعمارية، على حين أن
معظم الأشكال أو الصورة الطبيعية أدنى مستوًى بكثير من تلك الأشكال الفنية
البسيطة ذاتها. ولا جدال في أن الطبيعة عاجزة عن أن تقدم شيئًا يعادل في
تعقده تلك التكاملات الشكلية التي تتحقق في التصوير، والشعر، والعمارة،
والموسيقى.
هذا القصور الشكلي للطبيعة كثيرًا ما يلخص بالقول إن الطبيعة تفتقر، من
وجهة النظر الجمالية، إلى التنظيم والوحدة. فالجمال الطبيعي قلما يكون له
«بداية، وسط، ونهاية»، على حين أن ما نسميه «بالذروة» لا يكاد يكون معروفًا
في العالم الطبيعي. وأية مركزية قد نصادفها إنما هي عادةٌ مؤقتة، كما يحدث
عندما يتعين علينا أن نتأمل منظرًا طبيعيًّا من موضع معين بالذات لكي يبدو
بديعًا. وتبدو الطبيعة فقيرة بوجه خاص في القيم الجمالية عندما نقارنها
بالفنون الزمنية. فلا توجد إلا ظواهر طبيعية نادرة، كالعواصف، توحي على أي
نحو بالتعاقب الذي نجده في سيمفونية أو دراما، والذي يبدأ بالتمهيد، ويليه
العرض الموسع، والذروة والخاتمة. ونستطيع أن نجد تشابهًا غامضًا بين تفتح
الزهرة وذبولها، شأنه شأن أية عملية عضوية ذات طابع متدرج، وبين تقديم
العمل الفني في الزمان، أما أقرب حالات الطبيعة شبهًا، وهي تدرج الحياة
البشرية ونموها، فإنها، رغم احتمال كونها أعقد من أي شيء في الفن، هي قطعًا
أقل توحدًا وتنظيمًا وتكاملًا من الأعمال الخلاقة الكبرى.
-
(٣)
القيم الارتباطية: وأخيرًا، ماذا نقول
عن القيم الارتباطية في الطبيعة؟ إلى أي شيء ترمز الطبيعة — وما الذي
«تعنيه» الطبيعة؟ عند هذه النقطة نقترب من لب مشكلة التعبير في الطبيعة،
ويكون لزامًا علينا أن نبحث في الأهمية النسبية للجمال الطبيعي
والفني.
إننا لا نحتاج إلى تفكير كثير لكي نكشف أن ما نقرره بشأن «معنى» الطبيعة أو ما ترمز
إليه، لا بد أن يتوقف آخر الأمر على نظرتنا الشاملة إلى العالم. فالمثالي والمتدين
معًا، على سبيل المثال، يجدان الطبيعة معبرة عن «الذهن الشامل» أو «المطلق» أو «الله»،
بحيث إننا لو نظرنا إلى الأمر في ضوء مشكلتنا الجمالية لقلنا إن الطبيعة تمثل في هذه
الحالة الإنتاج الخلاق للفنان الإلهي. فالنظام الطبيعي بأكمله يمثل مظهرًا «للفكرة» في
قالب مادي. ولقد كان المفكرون المثاليون يميلون بوجه خاص إلى وصف الطبيعة بأنها عرض
«للفكرة» في صورة حسية على حين أن أنواع التفكير الديني الأقل تمسكًا بالنزعة العقلية
كانت تكتفي بأن تسمى الطبيعة الجميلة «صنعة اليد الإلهية» أو «فن الله»، وهو الفن الذي
يفترض أن الله خلقه ليكون منه متعة وآية لمن يرضى عنهم من عباده.
أما صاحب النزعة الطبيعية في الفلسفة، فلا يمكن في نظره أن يكون للجمال الطبيعي مثل
هذا المضمون الرمزي؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن علم الجمال، عند المذهب الطبيعي، يرى
أن
كل ما نجده في الطبيعة من معنى وقدرة تعبيرية؛ أي من القيم الارتباطية، إنما هو أمثلة
للمغالطة الوجدانية؛ أعني الميل العام لدى الناس إلى صبغ العالم الطبيعي بصفة حية أو
بشرية عن طريق إسقاط مشاعرهم على موضوعها وحوادثها، كما هي الحال عندما نتحدث عن أسماء
«غاضبة» أو بحر «يتوعدنا» أو نسيم «يداعبنا». فمن السهل أن تؤدي ألفة الناس الطويلة مع
الطبيعة إلى الوقوع في هذه التشبيهات المتخلقة من الاتجاه البدائي إلى القول بحيوية
الطبيعة، وهو الاتجاه الذي كان يضفي فيما مضى على كل صخرة وتل وشجرة روحًا وإرادة خاصة
بها. وإنه لمن العسير على المرء أحيانًا أن يدرك أنه لو كانت نظرة المذهب الطبيعي إلى
العالم صحيحة، لما كان أي معنى تعبيري يوجد في الطبيعة — حتى الطبيعة الفائقة الجمال
—
إلا ما «قرأناه» نحن أنفسنا في بيئتنا.
وهناك بالطبع بعض الارتباطات الرمزية الموجودة في الطبيعة، والتي تتصف بأنها عامة
شاملة، بغضِّ النظر عن اتجاهنا الميتافيزيقي. ففي تجربة الناس جميعًا في كل مكان، نجد
أن الشمس تدفئ، والظل ينعش، والمطر يبلل، والنار تحرق. مثل هذه الاستجابات البشرية
الأساسية لبيئتنا الطبيعية تمثل ارتباطات حقيقية، ويكاد يكون من المؤكد أن لها قدرًا
من
الموضوعية يفوق ما لأية محاكاة لها في الفن. ومن هنا ينبغي أن نستنتج أن الطبيعة تنطوي
بالفعل على بعض القيم الارتباطية الموضوعية ذات الطابع الجمالي، على الرغم من أن هذه
نفسها تعدل، على الأرجح، تعديلًا غير ظاهر نتيجة لتفضيلاتنا الفردية والميتافيزيقية.
٩ وبطبيعة الحال فإن هذه الارتباطات أولية، ومن الواضح أن أية ارتباطات
ثانوية نكونها مع الأشياء الطبيعية (كرائحة نوع معين من الزهر أو تغريد طائر معين) لا
تختلف في طابعها الشخصي الذاتي عن نظائرها في مجال الفن.
هل العنصر الشخصي هام في الطبيعة بدورها؟ ما زال
أمامنا سؤال أخير ينبغي أن نجيب عليه في هذه المقارنة بين الإمكانيات الجمالية للفن
والطبيعة. فهل يقوم من يلاحظ الجمال الطبيعي بنفس عملية المزج الشخصي بين ثلاثة أنواع
من القيمة، التي أشرنا إليها في حالة من يلاحظ الفن؟ من الواضح أنه يفعل ذلك حقًّا، ولا
يقل عن ذلك وضوحًا أن هذا المزيج يتفاوت حسب تجربة الشخص ومرانه ومزاجه، فضلًا عن
حالاته النفسية المتغيرة. ومع ذلك فهناك، في حالة الطبيعة، احتمال آخر قد يكون هامًّا،
ولا سيما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الطويلة؛ ذلك لأن الفرد قد يتغير أثناء نضجه، كأن
ينتقل من المذهب المثالي إلى المذهب الطبيعي، أو بالعكس. ويكاد يكون من المؤكد أن هذا
التحول في الاستقطاب الميتافيزيقي يترتب عليه تغير في «المعنى» الذي يجده في الطبيعة،
وبخاصة الطبيعة الجميلة (وهي التي تهمنا الآن). وبإضافة هذا العامل المتغير الجديد إلى
العناصر التي تكون مزيجنا الشخصي من القيم الجمالية، نجد أن الصورة النهائية الناتجة
عن
هذا الاندماج أكثر ذاتية على نحوٍ قاطع، في حالة الجمال الطبيعي، مما هي في حالة
الفن.
ولنلخص مقارنتنا بين ميدانَي التجربة الجمالية، فنقول إن الطبيعة والفن يقدمان إلى
المشاهد، كما رأينا، نفس الأنواع الثلاثة من القيمة الجمالية. وفضلًا عن ذلك فقد لاحظنا
أن اثنين من هذه الأنواع، وهما الحسي والشكلي، يبدوان موضوعيين في كلا المجالين، على
حين أن القيم الارتباطية هي مزج من الذاتية والموضوعية، أو ذات مكانة وجودية مشكوك
فيها. ومن هنا فإن الفارق الرئيسي بين الميدانين، من حيث قيمتهما الجمالية، إنما يكمن
في أن القيم الموجودة في الفن أشد تنوعًا وتعقدًا وامتلاء بكثير، وخاصة في علاقاتها
الشكلية وقدرتها التعبيرية.
فارق أخير: وهناك اختلاف أخير بين الفن والطبيعة
بوصفها مصدرًا للقيمة الجمالية، يتعلق بمسألة القصد التعبيري؛ ذلك لأن كل فن، كما رأينا
من قبل، ينتج بقصد أن يكون تعبيريًّا، حتى لو لم يكن يعبر إلا عن قيم حسية وشكلية، كما
هي الحال في كثير من الأعمال الفنية المعاصرة. والواقع أن معظم الملاحظين والمستمعين
غير المدققين خليقون بأن يخطئوا فهم المقصد الحقيقي للفنان؛ إذ إنهم يفترضون عادةً أنه
يهتم أساسًا بتوصيل القيم الارتباطية والمعاني اللفظية، ولكننا لا نكون على خطأ إذا
قلنا إن مقصده ينطوي على قدر من الدلالة التعبيرية. وعلى الرغم من أننا قد نخطئ معرفة
طابع هذا المقصد، فإن حقيقة وجود مقصد يمكن أن تفترض دائمًا في حالة العمل الفني. أما
في الموضوعات أو المناظر الطبيعية فإننا لا نستطيع أن نأخذ المقصد قضية مسلَّمة. فقد
يؤدي بنا ولاؤنا الفلسفي أو اللاهوتي إلى افتراض وجود قدر كبير من المضمون التعبيري في
الجمال الطبيعي، وحتى لو تجنبنا ذلك، فهناك دائمًا خطر وقوعنا في المغالطة الوجدانية
عندما نكون إزاء الطبيعة. وهكذا يبدو من المعقول أن نستنتج أن في استطاعة الفنون لا أن
تقدم إلينا قيمًا جمالية أغنى وأعمق مما تقدمه الطبيعة فحسب، بل أن تقدم أيضًا عالمًا
يقل فيه احتمال وقوف التحيزات الميتافيزيقية والمغالطات الإبستمولوجية حائلًا بيننا
وبين الواقع الجمالي.
ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هناك أشخاصًا كثيرين يجدون في الطبيعة لذة جمالية أعظم
مما
يجدونه في الفن، وذلك نتيجة لمزاجهم الخاص أو افتقارهم إلى التجربة الفنية. كذلك لا
يمكننا أن نقول إن موضوعًا فنيًّا من الدرجة الثالثة ينطوي على قيمة جمالية تزيد على
ما
يتضمنه مثل من الدرجة الأولى للجمال الطبيعي، لا سيما إذا كان العمل الفني الضعيف
المستوى محاكاة لمثال رائع من أمثلة الجمال في الطبيعة. ومع ذلك فإن مما له دلالته أن
الأشخاص الذين كانت لهم تجربة واسعة في ميدان الظواهر الجمالية معًا، والذين كرسوا
للنقد وللتقويم وقتًا طويلًا وتفكيرًا كثيرًا، يرون عادةً أن مجال الفن يتيح لذَّات لا
يمكن أن توجد في الطبيعة، مهما يكن من جمال الطبيعة أو جلالها في بعض الأحيان. وهكذا
فإن الخلط الشائع بين «علم الجمال» وبين «فلسفة الفن»، وإن يكن أمرًا مؤسفًا من الناحية
العقلية، له بعض المبرر؛ لأن الفن هو المقر الرئيسي للقيمة الجمالية.
(٦) فلسفات أخرى في الفن
في هذه المقارنة الموجزة بين القيم الجمالية التي يخلقها الفن وتلك التي تكتشف في
الطبيعة، بدا أننا نفكر على أساس نظرية المحاكاة في الفن، التي أشرنا إليها في هذا
الفصل من قبل. ولقد كان ذلك أمرًا لا مفر منه؛ إذ يبدو أن أية مقارنة بين الطبيعة والفن
تنطوي ضمنًا على القول بأن الأخير يحاكي الأولى على نحو ما. وإنه لمن العسير على معظم
الأشخاص غير المتخصصين أن يتصوروا الفن، ولا سيما في وسائط التصوير والنحت، إلا على أنه
تصويري أو مقلد. وهذه الصعوبة تفسر إلى حدٍّ بعيد الثغرة الواسعة التي تفصل بين النقد
الفني المحترف وبين التقويمات الشعبية للفن. فالفنانون والنقاد يأخذون عادةً فلسفة
للفن؛ أي بنظرية تتعلق بهدف الفن أو وظيفته — تختلف عن نظرية المحاكاة التي يفضلها
الشخص العادي. ومن ثم فإن المحترف يقبل على العمل الفني وفي ذهنه توقعات وشروط مختلفة
بشأن ما ينبغي أن يفعله الفنان بما لديه من مواد.
فلنلقِ نظرة، في ختام هذا المدخل الموجز إلى عالم الجمال، على الفلسفات الرئيسية التي
لا تقول بالمحاكاة في الفن؛ إذ يكاد يكون من المؤكد أن الناقد يستعين بواحدة أو أكثر
من
هذه الفلسفات ويتخذ منها نقطة ارتكاز عندما يقوم بمهمته في التقويم. والأرجح أنه، بوصفه
قاضيًا محترفًا في الفن، سيختلف عن الشخص العادي اختلافًا ملحوظًا في ناحية أخرى: فسوف
يدرك أن هناك نظريات فنية عديدة، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيعرف تلك التي يأخذ بها
ويحكم على أساسها، أما الشخص العادي يكون على الأرجح غير شاعر بوجود فلسفات فنية عديدة،
ومن الأمور شبه المؤكدة أنه لا يدرك أنه يأخذ بنظرية معينة من هذه النظريات.
وأغلب الظن أن الناقد يقدر، والفنان يخلق، في أيامنا هذه، في إطار نظرية شكلية تؤكد
القيم الجمالية الشكلية التي أشرنا إليها من قبل. ولا بد أن يتم هذا التأكيد على حساب
القيم الارتباطية، ولا سيما القيم ذات النوع الأدبي أو الحاكي
Story-telling.
١٠ والواقع أن معظم النقاد المعاصرين يصدرون أحكامهم على أساس القيم الشكلية
وحدها، على حين أن الشخص العادي، الذي يغفل القيم الشكلية عادة، ولا يتأثر بالأوجه
الحسية لأي فن إلا تأثرًا وقتيًّا، يستجيب على أساس وظائف الفن المحاكية أو الحاكية.
ولما كان الشخص المحترف والشخص العادي يبحثان عن أشياء مختلفة في الفنون، فليس من
المستغرب أن نجدهما يكتشفان فيها أشياء مختلفة.
الفن بوصفه تعبيرًا انفعاليًّا: هناك مدرسة كبرى
ثالثة من المدارس الفنية (بعد مدرسة المحاكاة والمدرسة الشكلية) تلقى بين الأشخاص
العاديين إقبالًا أشد مما تلقاه بين المحترفين المعاصرين، على الرغم من أن الفنانين
والنقاد بدورهم كانوا يفضلونها منذ قرن من الزمان. والواقع أن المفكرين النظريين في
الفن، في القرن التاسع عشر، قد نجحوا في إقناع أنفسهم والجمهور بأن الفن ينبغي أن يكون
قبل كل شيء تعبيرًا عن انفعال (لا نسخة واضحة للطبيعة أو تجسيدًا لقيم شكلية) إلى حد
أن
جزءًا كبيرًا من الجمهور العام ما زال يميل إلى النظر إلى مختلف الفنون على أنها وسائط
لتوصيل الانفعالات. ويشيع النظر إلى الموسيقى بوجه خاص على هذا النحو، كما أن فلسفة
الفن التي يأخذ بها الشخص العادي فيما يتعلق بالفنون البصرية هي عادةً مزيج غير محدد
المعالم من نظريتَي المحاكاة والتعبير الانفعالي — مع الاتجاه دائمًا إلى تجاهل القيم
الشكلية بنفس القدر الذي يؤكدها به الشخص المحترف.
الفن بوصفه مؤثرًا اجتماعيًّا: أما آخر الفلسفات
الكبرى في الفن فهي فلسفة يصعب وصفها وإدراجها تحت اسم معين؛ إذ إنها تشمل آراء متباينة
يوجد بينها تشابه، ولكن لا توجد بينها هوية. ومن الممكن تسميتها بنظرية التأثير
الاجتماعي، أو النظرية التعليمية، أو نظرية الدعاية، وربما النظرية الأخلاقية. ولقد سبق
لنا أن أشرنا إلى هذا الرأي في هذا الفصل، عندما تحدثنا عن الفن والتعليم، وذكرنا أن
المتحدث الرئيسي باسم هذه النظرية هو أفلاطون. وفي استطاعتنا، دون أن نحاول تقديم تعريف
محدد لهذه الفلسفة، أن نكون على ثقة أن الأشخاص الذين يؤمنون بها ينادون بأي مبدأ من
المبادئ الآتية أو يمارسونه: (١) الرقابة على الفن، (٢) استبعاد ضروب معينة من الفن على
أساس أنها «ذات تأثير على المجتمع» أو «منحلة» — كما هي الحال مثلًا في حملة التطهير
التي شنها هتلر على الفن «المنحل» والفنانين المنحلين وطردهم فيها من الدول النازية،
(٣) تقويم الفنون على أساس مضمونها الديني أو أيديولوجيتها السياسية، (٤) استخدام الفن
في بث معايير أخلاقية وتعاليم اجتماعية معينة في نفوس النشء، بدلًا من تنمية قدرتها على
تذوق الفن أو حساسيتهم الجمالية العامة.
هذه الفلسفة التي تتخذ من الفن وسيلة للمنفعة الاجتماعية تستعين بنظرية المحاكاة
والنظرية التعبيرية كشريكين غير متفرغين لها. وأسباب ذلك واضحة: فإذا كنت تستخدم الفن
في التحكم أو التأثير، فلا بد عندئذٍ من استغلال إمكانياته في المحاكاة استغلالًا
كاملًا. ولا بد لك من تصوير أفراح أولئك الذين وصلوا إلى الخلاص أو التحرر الاجتماعي،
أو تصوير أطماع من يعارضونهم وجشعهم. وبالاختصار، فلا بد لك من تصوير مواقف إنسانية
معينة (حقيقية أو متخيلة) بطريقة تبلغ من الواقعية أو القدرة على التعبير حدًّا يكفي
للحض على العمل الاجتماعي. ومن الواضح كذلك أنه سيتعين عليك عندئذٍ أن تنتفع من
إمكانيات الفن الهائلة في توصيل الانفعالات؛ إذ إنه ليس أقدر من الانفعال الثائر على
دفع الإنسان إلى العمل، وقليل من الأشياء هي التي يمكنها إثارة الانفعال في الجماهير
العريضة بنفس السهولة التي يثيرها بها كتاب أو مسرحية أو فيلم سينمائي أو أغنية أو صورة
تستهدف هذا الغرض ذاته. والواقع أن النظرية الشكلية في الفن هي وحدها التي تأبى أن تجند
لمساعدة فلسفة التأثير الاجتماعي. ذلك لأنه إذا كان هدفك الرئيسي هو التأثير الاجتماعي،
فإن القيم الناشئة عن إدراك العلاقات الشكلية لن يكاد يكون لها قيمة، بل إنها قد تكون
عقبة من واقع الأمر، ما دامت قد تصرف نظر المشاهد أو السامع عن الهدف التأثيري الرئيسي
للعمل الفني.
لذلك لم يكن من المستغرب أن يكون أنصار فكرة التأثير الاجتماعي وأنصار الشكلية
خصومًا، بل أعداء صريحين في بعض الأحيان
١١. أما النظريتان الرئيسيتان الأخريان فلا تستبعد كلٌّ منهما الأخرى على هذا
النحو، وإن كان من السهل أن تصبحا كذلك في حالات معينة. فأنصار التصوير غير الموضوعي
(أي التجريدي) مثلًا، إذا ما مضوا في رأيهم إلى حد التطرف، فأكدوا أن مثل هذا الفن هو
وحده الذي يمكن أن يكون له معنى في نظر الأذهان الحديثة، فإنهم يتمسكون، كما هو واضح،
بالموقف الشكلي إلى حد استبعاد كل المواقف الأخرى. على أن هذا النوع من استبعاد كل
المواقف الأخرى نادر؛ إذ إن معظم النقاد، وكذلك أغلبية المبدعين في الفنون، يخففون من
غلواء شكليتهم عن طريق نوع من الاعتراف بوجود قيم لمحاكاة الطبيعة وللتعبير عن
الانفعالات معًا. وما دامت القيم الشكلية هي التي تظل لها المكانة الأولى، فإنهم على
استعداد لإثراء هذه القيم عن طريق تكملتها بالنوعين الآخرين من القيم الجمالية بطريقة
حكيمة، على أن تكون لهذه القيم الأخيرة مكانة ثانوية.
١٢
كلمة تحذير: يحسن بنا، ونحن نختم هذه الدراسة
الموجزة لعلم الجمال، أن نحذر القارئ من الاعتقاد بأن الاطلاع على هذا الفصل الواحد قد
أعطاه فكرة عن «كل ما يتناوله علم الجمال». ففي كتاب كهذا، نحاول تقديم مدخل أول إلى
الفلسفة في مجموعها ينبغي أن يقتصر عرض أي فرع من فروع الفلسفة على فصل واحد أو فصلين.
ولا بد أن يترتب على ضيق الحيز إلى هذا الحد الشديد، معالجة كل فرع بطريقة غاية في
الإيجاز. ومع ذلك فلما كانت الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والمنطق والأخلاق قد اندرجت
ضمن الفلسفة بوصفها وحدات منظمة طوال فترة أطول كثيرًا من علم الجمال، فقد أتيح لنا أن
نعرض تلك الفروع الأخرى بطريقة أوفى بكثير. والواقع أن حداثة عهد علم الجمال، وعدم
استقرار وضعه الراهن، يحول دون الاتفاق على كنه المشكلات الرئيسية في هذا الميدان. ومن
ثم يكاد يكون من المحتم أن يشعر كثير من المفكرين بأن المشكلتين اللتين اخترناهما على
أنهما هما الأهم — وأعني بهما موضوعية القيم والإمكانيات الجمالية النسبية لكلٍّ من
الفن والطبيعة — أقل أهمية من مشكلات معينة أخرى. ومع ذلك فيكفي لتحقيق غرضنا، كما قلنا
في هذا الفصل من قبل، أن يكون القارئ قد اكتسب مزيدًا من التبصر في طبيعة علم الجمال
والمناهج التي تعالج بها مشكلات هذا الميدان. فإذا ما أضيف إلى ذلك كسب آخر، هو أن
القراء الذين بدءوا قراءة هذا الفصل وهم يشكُّون في قيمة التفكير النظري الجمالي أو
صحته، قد أصبحوا بعد قراءته أقل تشككًا، فإن كتابة هذا الفصل وقراءته تكونان قد حققتا
هدفهما بما فيه الكفاية.