النزعة الإنسانية والوجودية
توجد فلسفتان، من بين الفلسفات الشائعة في أيامنا هذه، تحتلان مركزًا خاصًّا، وتقف كل منها على الحد الفاصل بين المذاهب الفلسفية بمعناها الفني وبين «فلسفة الحياة» الشعبية، وكل منهما وجدت من الكتاب و«المثقفين» اهتمامًا يفوق ما وجدته من الفلاسفة المحترفين. ولكلٍّ من الفلسفتين نظريات ميتافيزيقية مجردة، وذلك على الأقل بصورة ضمنية، ولكن كلًّا منهما لا تكاد تعرف إلا على أساس أحكامها الأخلاقية وآرائها العينية في الموقف الإنساني فحسب. وتبدو كلتا الفلسفتين حديثة إلى حد يلفت الأنظار بحق (رغم أن لكلٍّ منهما جذورها التي تمتد إلى قرن وربما أكثر من قرن فيما مضى). ذلك لأن كلًّا منهما تعبر عن أحوال واتجاهات لا يمكن أن تسمى إلا «معاصرة».
ويكاد يكون من المؤكد أن كل طالب قد سمع عن هاتين الفلسفتين. فإذا كانت أية مصطلحات فلسفية قد ترامت إلى سمعه قبل أن يبدأ دراسته المنظمة لهذا الميدان، فالأرجح أن «الإنسانية» و«الوجودية» من أول المصطلحات التي اكتسبها. ومن الجائز أن الشعبية التي نالتها هاتان المدرستان ترجع إلى إعجاب الكتاب، ولا سيما كتاب القصة والمسرح، بهما، أكثر مما ترجع إلى أية أهمية خاصة لهما في المجال العقلي. ولكن، بغضِّ النظر عما إذا كان التاريخ سيحكم على هاتين الفلسفتين بأنهما عميقتان، أم سيكتفي بتأكيد أنهما فلسفتان روجتهما الدعاية الذكية فحسب، فإن تأثيرهما خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين سيظل قويًّا إلى حدٍّ بعيد. ولن يكون من الممكن تحديد العلاقة بين الإنسانية والوجودية بدقة إلا بعد بحث كلٍّ منهما على حدة. وسوف نبدأ بأقدمهما، وهي النزعة الإنسانية.
ولقد كان قدر كبير من طريقة الحياة والتفكير في عصر النهضة، كما هو معروف، رد فعل واعيًا على المُثل العليا الزاهدة في العصور الوسطى. فلم يعد إنسان عصر النهضة على استعداد للتضحية بقدر كبير من إنسانيته في سبيل ثواب العالم الآخر، وأصبح الرهبان والراهبات (الذين كان يفترض من قبل أنهم يقومون بتضحيات كبيرة في هذا الصدد)، موضوعًا للسخرية والازدراء بين كثير من كتاب ذلك العصر ومفكريه. ولقد أدت عودة ظهور الاهتمام بكثير من مواد الحضارة الكلاسيكية، واكتشافها من جديد، إلى شعور رجال القرنين الخامس عشر والسادس عشر شعورًا قويًّا بما يمكن أن تكون عليه الإنسانية في أحسن أحوالها. وكان العقل في عصر النهضة ينظر إلى الحياة اليونانية والرومانية على أنها النتاج المثالي لتطور النزعة الإنسانية، ويشعر باليأس من إمكان بلوغ هذه القمم مرة أخرى. غير أن إدراك رجال عصر النهضة لتعلق الإنسان الكلاسيكي الشديد بهذا العالم الحاضر، وعزوفه عن العالم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، شجعهم على محاولة السعي إلى تحقيق القدرات البشرية على نحو أكمل مما كان يحدث في العصور الوسطى.
فالمعنى الأول والأقدم للفظ «النزعة الإنسانية» هو ذلك الذي يعبر عن تلك المحاولة التي بذلت في ميدان الأدب والنقد الأدبي. كذلك فإن هذه الحركة التي ظهرت في عصر النهضة قد وضعت على الأساس الاشتقاقي للفظ؛ أعني التركيز الدائم على الإنسان، وحياته في هذه الدنيا، والإمكانات الرائعة لهذه الحياة. وينبغي أن يلاحظ أن هذه النزعة الإنسانية الأصلية لم تكن ترفض الدين بوصفه أحد العناصر المكونة للحياة الخيرة، وإنما هي قد نبذت على وجه التحديد، الرهبنة والتعصب وكل محاولات إعطاء القيم الدينية المكانة العليا، لا سيما إذا كانت المكانة العليا تعني التضحية بأي جزء من الماهية الأساسية للإنسان.
(١) المعاني الحديثة «النزعة الإنسانية»
أما المعاني الرئيسية الأخرى «للنزعة الإنسانية» فلها أصل أحدث عهدًا، إذ إنها وُضعت، إلى حدٍّ بعيد، خلال القرن الحالي. ويعد كلٌّ من هذه المعاني تأكيدًا لجانب معين من المعنى الشامل للفظ. فهناك مثلًا نوع من الفلسفة البرجماتية وضعه أكبر البرجماتيين الإنجليز، وهو ف. ك. س. شيلر أطلق عليه اسم «النزعة الإنسانية» على وجه التحديد. ويتلخص موقف شيلر الأساسي في تلك الجملة المشهورة التي اقتبسها من بروتاجوراس، المفكر المعاصر لسقراط وأفلاطون: «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا». ومع ذلك فلما كان اهتمام شيلر الرئيسي منصبًّا على مجال المنطق ونظرية المعرفة، لا على مجال الأخلاق، فقد كان من الطبيعي أن يؤكد المعايير البرجماتية والإنسانية «للحقيقة» و«الصواب»، أكثر مما يؤكد معايير «الخير». وكان يعتقد، بوجه عام، أن أي حديث عن الحقائق المطلقة أو العالية أو الأولية هو حديث عقيم. فنحن نعرف ما نعرف نتيجة لتجربتنا الإنسانية البحتة، نظرًا إلى أن هذه التجربة تتغير من جيل إلى جيل، فلا بد أن نتوقع تغير معرفتنا وحقائقنا بدورها.
وعلى الرغم من أن شيلر قد وضع مذهبه في الأعوام الأولى من القرن العشرين، قبل أن تصل التجريبية المنطقية الحديثة إلى مرحلة نموها الحالية، فمن السهل أن ندرك وجود علاقات معينة بين هذه النزعة الإنسانية الإنجليزية وبين التفكير الوضعي الحديث الذي ناقشناه في الفصل الحادي عشر. مثال ذلك أن المدرستين تتفقان على أنه لا توجد وسيلة يستطيع بها الإنسان تجاوز تجربته من أجل اكتساب معرفة عن حقيقة مزعومة تعلو على التجربة. ومن هنا فإن أي حديث عن «حقائق أزلية» أو «مطلقة» لا يعدو أن يكون لغوًا … صحيح أن في استطاعتنا أن نحلم بهذه الماهيات غير القابلة للمعرفة، وقد نود لو كان في إمكاننا إثبات وجودها. ولكن لما كان من المستحيل إثبات هذا الوجود — لأن إثباته لا يكون إلا عن طريق التجربة، وليس ثمة وسيلة ممكنة للخروج عن التجربة من أجل الاهتداء إلى ما يوجد «خارج التجربة — فإن أية عبارة تزعم أنها تعبر عن حقيقة فوق التجريبية، أو غير بشرية، هي عبارة لا معنى لها. ذلك لأن الإنسان — كما لا يمل شيلر تذكيرنا — هو «مقياس الأشياء جميعًا»: مقياس ما هو موجود، على أنه موجود، وما هو غير موجود على أنه غير موجود». فالتجربة الإنسانية هي وحدها التي تستطيع أن تنبئنا بما هو موجود وما هو غير موجود، ولا يمكن أن نستمد من أي مصدر غيرها معرفة بشأن حقيقة التجربة الفعلية أو طبيعتها. وهكذا فإن الوضعية الحديثة، وكذلك المذهب الذي يمكن تسميته «بالنزعة الإنسانية الإبستمولوجية»، تتخذ من المبدأ السابق أول حقيقة أساسية بسيطة لحياتنا الذهنية، وهما معًا متفقان في الحملة على ذلك العدد الهائل من المدارس الفلسفية، واللاهوتية التي تنكر هذه الحقيقة البسيطة.
(٢) النزعة الإنسانية الدينية
هناك نوع آخر من النزعة الإنسانية أشهر بكثير من النوع السابق، كما أنه أثار حوله قطعًا مزيدًا من الجدل، هو ذلك الذي يعرف عادةً باسم «النزعة الإنسانية الدينية». ومن سوء الحظ أن هذا اللفظ بدوره ينطوي على خلط غير قليل؛ إذ إن نفس الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بالإنسانيين الدينيين ليسوا متفقين حول ما يعنيه هذا الاصطلاح. وكل ما يتفق عليه هؤلاء جميعًا هو معارضتهم للمذاهب المسيحية ذات الاتجاه السلفي التقليدي الكلفيني الأشد تمسكًا. فالإنسانيون يعارضون بوجه خاص الاهتمام الذي تبديه هذه الطوائف بالخطيئة الأولى، وانحطاط الإنسان وعجزه بدون المعونة الإلهية. ولكن الإنسانيين الدينيين، بعد تفنيدهم لهذه المذاهب المتطرفة التي تؤكد الكمال المطلق لله والنقص المطلق للإنسان، قلما يتفقون على مضمون العقيدة التي يدعون إليها.
وأخطر الصعوبات التي تواجه هؤلاء المفكرين تنشأ من تعريف لفظَي «الدين» و«الله»، بل من مفهومَي هذين اللفظين. فلقد حاول جميع هؤلاء الإنسانيين الدينيين تقريبًا تخفيف العنصر الخارق للطبيعة في الدين، بل إن بعضهم حذف تمامًا كل ما هو خارق للطبيعة. وكان معنى ذلك بطبيعة الحال إعادة تعريف لفظ «الدين» إذ إن الدين، والقول بما هو خارق للطبيعة، لا ينفصلان بالنسبة إلى العالم الغربي. وفي بعض الحالات اقترن حذف هذا العنصر الخارق للطبيعة، أو الإقلال من أهميته، إلى استغناءٍ مُناظرٍ عن فكرة الله، ولكنه أدى في حالات أخرى إلى إعادة تعريف هذا اللفظ. ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن إعادة التعريف هذه بلغت في كثير من الأحيان حدًّا جذريًّا أدَّى إلى الاستغناء عن فكرة الله بطريقة مستترة غير مباشرة، بدلًا من أن يكون ذلك بطريقة صريحة مباشرة.
ولسنا بحاجة إلى القول إنه، مهما يكن سمو هذه المفاهيم الخاصة بالله، فإنها قطعًا لا تكاد تشترك في شيء مع التعريفات التقليدية للألوهية. مثال ذلك أنه لا توجد صلة بينها وبين المفاهيم المختلفة لله، التي نوقشت في الفصل الذي عرضنا فيه من قبل مذهب الألوهية المفارقة، بل إن من العسير في الواقع أن نتصور كيف يتسنى للقائل بالنزعة الإنسانية، مهما يكن حسن نيتهما، أن يتجنبها الغموض والخلط إذا ما حاولا أن يتفاهما عقليًّا حول موضوع الألوهية في عمومه. وليس معنى ذلك أن أصحاب مذهب الألوهية المفارقة «على صواب» وأن الإنسانيين «على خطأ» في مفاهيمهم، بل إن قصدنا الوحيد هو أن نذكر الإنسانيين بأن عبء البينة اللغوية إنما يقع عليهم إذا ما اختاروا الاحتفاظ بلفظ ظل طوال قرون عديدة يحمل معنًى عامًّا واحدًا، مع تأكيدهم ضرورة استخدام هذا اللفظ بحيث يؤدي معنًى مختلفًا. إن لكل متحدث أو كاتب الحق في تعريف ألفاظه كما يشاء، غير أن الإنسانيين الدينيين كثيرًا ما يتهمون بأنهم يطلبون من قرائهم أو سامعيهم أكثر مما ينبغي عندما يستخدمون معنًى تقليديًّا بمعنًى غير تقليدي على الإطلاق، ثم يتوقعون من القارئ أن يقوم بالتعديل اللغوي المناسب في كل مرة يظهر فيها اللفظ.
وبالاختصار، فإن الإنسانيين الدينيين قد سعوا إلى الاحتفاظ بمفهوم «الدين» لكي يدل على كل نشاط ينطوي على مبادئ رفيعة، وله اتجاه اجتماعي، بغضِّ النظر عن وجود أي عنصر عالٍ أو خارق للطبيعة فيه أو عدم وجوده. ولهذا التعديل ميزة واضحة، هي أنهم يستطيعون بفضله النظر إلى أوجه نشاطهم في ميدان النزعة الإنسانية ذاتها على أنها «دينية»، ويمكنهم أن يؤكدوا للعالم أن للإنسانيين، كما لمعظم الناس دينًا. ولكن فيه عيبًا واضحًا هو أنه يولد الخلط والاضطراب، ما دامت النزعة العلوية — في شكلٍ من أشكالها — كانت على الدوام أساسية للدين، في العالم الغربي على الأقل.
والواقع، كما أشار نقاد النزعة الإنسانية الدينية، أن من الصعب أن نرى شيئًا لا يدخل ضمن نطاق هذا التعريف، ما دامت لمعظم أوجه النشاط الإنسانية دلالة إنسانية. ومن المؤكد أن هذا التعريف يشمل الفن، والتعليم، والخدمة الاجتماعية، والسياسية، والنشاط النقابي، والتشريع، والعلم، وما شابهها. غير أن كلَّ من يسعى إلى أن يكون تفاهمه العقلي مع الآخرين دقيقًا، قد اكتشف أن أي تعريف يشتمل على كل شيء لا يكون له معنى. وعلى ذلك فإن معظم الناس لا يفهمون من التعريف، في هذه الحالة بعينها، إلا القليل.
وينبغي أن نعترف بأن النزعة الإنسانية الدينية قد أخذت على عاتقها مهمة تكاد تكون مستحيلة؛ ولذا ينبغي أن نتعاطف معها عندما يبدو أنها تواجه صعوبات. فهي تحاول الإتيان برأي في الحياة البشرية ومصير الإنسان يسير في اتجاه مضاد لمذهب الألوهية المفارقة المسيحي في كل نقطة تقريبًا. ولكن لما كان ذهب الألوهية المسيحي هذا هو ذاته ما يعنيه معظم الناس في أوروبا وأمريكا «بالدين»؛ فإن من المستحيل على معظمنا أن نغير طريقة فهمنا للمعاني في كل مرة نستمع فيها إلى كلمة «الدين». على أن هذا هو بعينه ما تطلب إلينا النزعة الإنسانية الدينية القيام به. فهي تستخدم لفظ «الدين» و«الديني» بتوسع كبير، تمامًا كما تفعل مع لفظ «الله»، و«الإلهي». ومع ذلك فهي تتوقع منا أن نقوم بعملية تحويل ذهنية في كل مرة يظهر فيها اللفظ، وهو قطعًا عمل أشق من أن يؤديه معظمنا بسهولة وهم يقرءون أو يسمعون.
وبالاختصار، فإن الإنساني الديني يحاول تشييد دين يظل الجزء الأكبر من مضمون الدين التقليدي خارج عنه. وهو يؤمن بالله — ويعني بذلك مجموع كل الأماني الاجتماعية للجنس البشري، والقوى الفكرية التي تعمل في التاريخ. وهو يؤمن بالخلود — بمعنى حفظ المجتمع للدور الذي أسهم به كل فرد في التقدم الإنساني. والأهم من ذلك كله أنه يؤمن بالإنسان، ولا سيما غايات الإنسان وإنجازاته المثالية. فكل ما يسهم في تحقيق سعادة البشر إلهي، وكل أوجه النشاط التي تعمل على بلوغ البشرية أعلى درجات التقدم والتطور هي أوجه نشاط دينية. هذه هي الدعوة المقدسة كما تراها النزعة الإنسانية الدينية المعاصرة.
(٣) النزعة الإنسانية الطبيعية
أما الفرع الرئيسي الأخير الذي سنعرض له بالبحث، من بين فروع النزعة الإنسانية، فلعل أفضل تسمية له هي النزعة الإنسانية الطبيعية وإن كان لفظ النزعة الإنسانية العلمية أوسع انتشارًا. وكما توحي كلتا التسميتين، فإن لهذه الفلسفة صلة وثيقة بالمذهب الطبيعي الفلسفي، الذي درسناه دراسة مفصلة في الفصل الرابع، وبالنظرة العلمية إلى العالم في عمومها. بل إن من الدقة أن ننظر إلى هذا النوع من النزعة الإنسانية على أنه هو النظرية الأخلاقية، أو فلسفة القيم، التي تستخلص من المذهب الطبيعي بأكبر قدر من الإحكام المنطقي. ولو أطلقنا عليها اسم المذهب «الطبيعي التطبيقي»، لما كان في ذلك خروج على النزعة الإنسانية ولا على المذهب الطبيعي.
ولا جدال في أن أبرز تعاليم النزعة الإنسانية الطبيعية هو تفنيدها القاطع لكل أشكال العلو على الطبيعة. وترى هذه الفلسفة، بدلًا من ذلك، أنه لا يوجد إلا نظام واحد للوجود — هو العالم الطبيعي — وأن الإنسان كائن طبيعي فحسب، ليس لسعادته ورخائه من مصدر سوى جهوده الخاصة التي لا يعتمد فيها على شيء. وكما سبق لنا أن رأينا في الفصل الخاص بالمذهب الطبيعي، فإن هذا المذهب ينظر إلى الكون على أنه سوى أو غير مكترث بالبشر، وكذلك بالحياة بجميع أشكالها. فالطبيعة لا تمدنا إلا بما يمكننا أن نسميه بالمواد الخام التي نستطيع أن نشيد على أساسها حياة مرضية لنا وربما لذريتنا. غير أن الطبيعة لا تضمن لنا شيئًا. فنحن مستقلون، معتمدون على أنفسنا، في بيئة لا تضع خططًا، ولا تعرف تفضيلات أخلاقية، ولا تعد أحدًا بشيء.
كذلك يرفض الإنسان الطبيعي، بنفس اللهجة القاطعة، ما يسميه «بأوهام الخلود». فهو يعتقد أن «هذه الحياة هي كل شيء، وهي كافية». وهو لا ينكر أن معظم الناس يتوقون إلى البقاء؛ ومن هنا فلا بد أن يعد شعورهم هذا أمرًا طبيعيًّا. ولكن هذا أمر لا علاقة له بإمكان البقاء؛ أي إننا لا نستطيع أن نستدل من وجود هذا الحنين لدى الناس، على أن من الضروري إرضاء شعورهم هذا. ومع ذلك فإن الاهتمام الحقيقي للقائل بهذا النوع النزعة الإنسانية، لا ينصبُّ على النتائج السلبية لهذه الفكرة الرئيسية، وإنما على إثبات أن هذه الحياة ذاتها يمكن أن تكون مرضية إلى حد يكفي لجعل توقع الموت أمرًا مقبولًا من الوجهة النفسية. أما كونه ينجح في مهمته هذه أم لا، فذلك بالطبع قرار يتوقف على مقدار صلابة ذهن قارئه — أو سامعه — أو رقته. فالطبيعيون والماديون وأمثالهم لا يجدون صعوبة في قبول حجج صاحب النزعة الإنسانية في هذه المسألة، غير أن هناك بالطبع مدارس أخرى تخالفه بكل قوة. ويرى صاحب النزعة الإنسانية الطبيعية أن كل الجهود العديدة التي تبذل لإثبات وجود الله أو الخلود تنطوي على تفكير مبني على التمني، ويرى في هذا كله دليلًا على افتقار كل من يبذل هذه الجهود إلى النضج الانفعالي والعقلي.
وهكذا نستطيع أن ندرك، حتى من هذا العرض الموجز للنزعة الإنسانية الطبيعية، أن مهمتها الرئيسية هي أن تستخلص صراحة بعض النتائج الضمنية الموجودة في النظرة العامة للمذهب الطبيعي إلى العالم، كما عرضناها من قبل. ومع ذلك فإن النزعة الإنسانية تعرض بتوسع بعض النتائج الضمنية الأقل وضوحًا (وربما الأقل سلبية) للمذهب الطبيعي. ولما كانت هذه النتائج هي التي تضفي على النزعة الإنسانية طابعها المعاصر المميز، فلا بد لنا من بحثها بشيء من التفصيل.
(٤) المجتمع المثالي عند النزعة الإنسانية
إن النزعة الإنسانية هي وجهة النظر القائلة بأن الإنسان لا يحيا إلا حياة واحدة، وأن عليه أن يستغلها بقدر استطاعته في العمل الخلاق وتحصيل السعادة، وأن السعادة البشرية تبرر نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وأن العالي على الطبيعة، الذي يتصور عادةً في شكل آلهة سماوية أو جنات مقيمة، ليس موجودًا على أية حال، وأن البشر يستطيعون، باستخدام عقولهم الخاصة والتضافر معًا بحرية، أن يشيدوا صرحًا من السلام والجمال على هذه الأرض.
على أن المجتمع المبني على أساس النزعة الإنسانية يرفض هذا المعيار العقلي المزدوج، ويشجع بدلًا من ذلك جميع أفراده على أن يعيشوا بمعيار واحد، هو معيار تقدم الإنسان في هذا العالم الراهن. فأخلاق النزعة الإنسانية تبني قيمها بأسرها على طبيعة الإنسان ومنطق العلاقات الإنسانية. والجزاءات الوحيدة فيها اجتماعية وقانونية؛ أي إن المقاطعة الاجتماعية والعقوبات القانونية هي الأدوات الوحيدة التي تستخدم لحفظ النظام. غير أن الإنسانيين يعتقدون أن من الممكن تحقيق التعاون الودي بين كل أفراد المجتمع بتعليمهم كيف أن مصلحتهم الشخصية ترتبط ارتباطًا لا ينفصم بتطبيق هذه القوانين الاجتماعية والتشريعية.
ولقد تبيَّن لي، في تجربتي الخاصة، أن الإنسانيين — حتى أكثرهم تفاؤلًا وتحمسًا — قلما يستهينون بمثل هذا البرنامج التعليمي. كذلك فإنهم يدركون ضخامة الصعوبات التي ينطوي عليها التحول من مذهبنا الأخلاقي الحالي، المبني على فكرة العلو على الطبيعة، إلى مذهب يتخلص من أية دعامات علوية. ولكن الإنساني يؤمن بأن هذا أمر يمكن تحقيقه، ويرى أن من الواجب تحقيقه إذا ما أراد الناس أن يحيوا بوصفهم أفرادًا أحرارًا ناضجين. فوضْع أسس مثل هذه الثقافة الأخلاقية هدف رئيسي لكل «الثورات» الإنسانية المقترحة، وهذا أمر لا يصعب علينا أن ندرك سببه. فنظرًا إلى أن مذهب الألوهية المفارقة المسيحي، في صوره المتعددة، كان أوضح الدعامات الاجتماعية في المجتمع الغربي، فمن المعترف به أن اقتراح نزع هذه الدعامة والاستعاضة عنها بمادة بناء جديدة بدون ملاط، هو تغيير جذري. ويعتقد صاحب النزعة الإنسانية أن لديه مثل هذه المادة الجديدة، التي يطلق عليها أسماء متباينة مثل «التعليم» و«الثقافة الأخلاقية» و«التكييف الاجتماعي» وما إلى ذلك. أما خصوم النزعة الإنسانية فأقل ما يقال عنهم هو أنهم يشكون في هذا الادعاء، وهم يفضلون أن يولوا ثقتهم للدعامة القديمة؛ أعني فكرة العلو على الطبيعة.
وينبغي أن نذكر أن المذهب الطبيعي في الفلسفة يبدي مثل هذا الاهتمام بالعلم. ولا شك أن هذا الاهتمام المشترك يكشف عن الصلة الوثيقة بين النزعة الإنسانية والمذهب الطبيعي. بل إن هذه النقطة بعينها هي التي تندمج فيها المدرستان: «فالمنهج العلمي» (وعبادة هذا المنهج) هو المدخل المفتوح على مصراعيه دائمًا، الذي يستطيع الطبيعيون والإنسانيون من خلاله أن يتبادلوا الاتصال، بل أن ينتقلوا بسهولة من مدرسة إلى أخرى. والواقع أن سهولة الانتقال بين الموقفين في هذا الاتجاه وذاك، دون اشتراط جوازات سفر، تسهم بدور كبير في دعم الفكرة الشائعة، القائلة إن النزعة الإنسانية ما هي إلا «مذهب طبيعي تطبيقي».
على أن أنصار المذهب الطبيعي يفضلون أن يحكم على نظرتهم العقلية إلى العالم بمعزل عن أية تطبيقات لها صلة بالنزعة الإنسانية، لا سيما وأن أصحاب النزعة الإنسانية لا يقومون جميعًا بهذه التطبيقات بطريقة واحدة، بل إننا نجد عادةً أن حرص الإنسانيين على ادعاء الارتباط بالمذهب الطبيعي أعظم من حرص الطبيعيين على الارتباط بالنزعة الإنسانية؛ ذلك لأن الطبيعيين يجدون الإنسانيين في بعض الأحيان سذجًا أو حالمين. كما أن الطبيعيين قد أبدوا في بعض الأحيان سخطهم على ادعاءات الإنسانيين بأن المذهب الطبيعي ينطوي ضمنًا على برنامج اجتماعي معين، أو يؤيد حزبًا سياسيًّا معينًا، أو يستتبع إصلاحات اقتصادية محددة. ولكن الذي حدث على وجه الموم هو أن المدرستين قد تفاهمتا إلى حد يدعو إلى الدهشة، رغم أن الاهتمامات الأساسية عند كلٍّ منهما متباينة. فاهتمام المذهب الطبيعي يظل نظريًّا أو عقليًّا، على حين أن النزعة الإنسانية تركز اهتمامها على الميدان الأخلاقي إلى حدٍّ بعيد؛ وبالتالي فهي أساسًا عملية لا نظرية.
ومع ذلك فإن النزعة الإنسانية تختلف عن الموقف المثالي، وكذلك عن المذهب الطبيعي في عدم اكتراثه يكون وجهة نظره مرضية أم غير مرضية. ذلك لأن صاحب النزعة الإنسانية يرى أن الحياة في عالم غير مكترث ليست فقط كل ما يمكن أن يتاح للإنسان وهو ما تتفق فيه مع المذهب الطبيعي، بل ينتقل إلى القول إن هذه الحياة كافية. «فمن الممكن أن تكون الحياة جميلة — بلا أصل أو دعامة أو مصير ينتمي إلى عالم ما فوق الطبيعة». هذه هي الفكرة الأساسية في النزعة الإنسانية الطبيعية. غير أن صاحب هذه النزعة يدرك أن الحياة لا يمكن أن تكون جميلة إلا إذا حدثت أولًا إعادة توجيه أساسية في اتجاهات مجتمعنا بأسره وفي الأسس الأخلاقية التي يرتكز عليها. ومن ثم فإن معظم جهوده العملية تستهدف تحقيق إعادة التوجيه هذه.
(٥) الوجودية
غير أن الوجودي يرى أن عبارة «الإنسان مقياس الأشياء» (التي هي في نظره عبارة فيها طنطنة وتفاهة) لا تعني قطعًا الجنس البشري بأكمله. فمن المبادئ الرئيسية في الوجودية، القول إن الفرد وحده هو مقياس الأشياء جميعًا، ولا سيما كل القيم. فالحياة عملية متصلة من اتخاذ القرارات، وكل قرار هو في آخر الأمر شخصي وفردي. وإن كلًّا منا ليختار حياته، إن جاز هذا التعبير، بتلك السلسلة التي لا تنقطع من القرارات التي يتخذها يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، بل دقيقة بعد دقيقة. فكلٌّ يختار ما يود أن يركز انتباهه عليه، وأن ينفق دخله فيه، وأن يكرس له وقته وجهوده. وما حياة الإنسان إلا مشروع، وكلٌّ منا مهندس ذاته وبنَّاؤها.
وتعتقد الوجودية أن الإنسان ليست له «ماهية» بهذا المعنى الذي تكون فيه شيئًا يسبق الوجود الفردي. فليس ثمة شيء اسمه «الإنسان بوجه عام» أو «الجنس البشري» بالمعنى التجريدي. وبالاختصار، فليس ثمة إنسان أفلاطوني، وإنما هناك فقط «أناس»؛ أعني أفرادًا يوجدون في زمن محدد وموقع معين من التاريخ، يأتون إلى العالم دون أن يحملوا أية «ماهية»، واقعية أو ممكنة. فأهم الأفكار الأساسية في الفلسفة الوجودية بأسرها هي ببساطة الفكرة الآتية: الوجود يسبق الماهية، لا العكس، كما هي الحال في النظرية التقليدية في الإنسان، كما عرضناها منذ قليل. فنحن نصنع ماهيتنا الخاصة — كلٌّ منا بطريقة فردية، ودون أن يشترك مع غيره في شيء — ونحن نصنعها في كل لحظة من لحظات حياتنا. وهذا يفسر العبارة الوجودية القائلة إننا لا نكسب «ماهية» حتى لحظة موتنا، عندما لا يكون علينا القيام بمزيد من الاختيار، ويكون «المشروع» قد تم. وعلى ذلك فإن عمرًا كاملًا من الوجود يسبق اكتساب «ماهية». وحتى عندما نكون قد أتممنا المشروع بالموت، واكتسبنا هذه الماهية، فإن هذه الماهية تظل مع ذلك فردية، بل متفردة لا نظير لها. فالطابع الذي حققناه، والشخصية التي نميناها، والتاريخ الفردي الذي صنعناه عن طريق المرور بأحداث معينة خلال حياتنا — كل هذه أمور شخصية وفردية تمامًا. ومن المحال أن تصبح جزءًا من «ماهية الجنس البشري»، حتى بعد الموت.
ويعترف الوجودي بأن التحقيق الكامل لهذه الحرية، والشعور بمسئوليتنا الكاملة عن كل اختيار نقوم به، يبعث في نفوس معظم الناس ضيقًا وقلقًا شديدًا. غير أن الشخص الأصيل لا يستطيع الهروب من هذا «القلق الأخلاقي» ولو كان هناك علاج نفسي تدعو إليه الوجودية، لكان هذا العلاج معينًا للفرد على أن يعيش مع القلق، لا على البحث عن وسائل للقضاء عليه؛ ذلك لأن القلق يغدو أمرًا لا مهرب منه، حالما ندرك نتائج اختيارنا إدراكًا تامًّا. على أن هذا «القلق الأخلاقي» ليس هو الهم أو الانشغال المعتاد الذي يخشى فيه الأشخاص المخلصون أو ذوو الضمائر الحية من أن يرتكبوا «خطأ»، وإنما هو شيء أعمق وأبعث على الخوف بكثير؛ فهو الشعور الدائم بأن كل اختيار له دلالته وأهميته، وبأن ذلك لا يقتصر على الاختيار الأخلاقي المألوف فحسب. ذلك لأن كل اختيار يحمل في طياته مسئوليتنا الشخصية الكاملة، وبذلك يصبح كل اختيار جزءًا من تاريخنا «وماهيتنا» الدائمة.
وتزيد الوجودية من حدة هذا التوتر، ومن «القلق الأخلاقي»، حين تصور الكون بأنه عرضي تمامًا، وذلك بالنسبة إلى تجاربنا المنعزلة. ويترتب على ذلك أن تكون الحياة لا معقولة بالضرورة، ويكون وجود كل فرد أمرًا لا تحكمه أية ضرورة. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى ألفاظنا الضخمة الغامضة، ولكنا أصبحنا الآن أكثر استعدادًا لتحليلها بطريقة مفهومة. وسوف نكرس بقية مناقشتنا في موضوع الوجودية لهذا التحليل.
وعندما يقول الوجودي إن «كل وجود عارض»، فإنه لا ينكر إمكان الاعتماد على قوانين الطبيعة، أو إمكان التنبؤ والتحكم العلمي. فقد تكون الطبيعة مماثلة في حتميتها وانتظامها للصورة التي صورها بها العلم في القرن التاسع عشر، أو قد يكون اللاتحدد كامنًا في ماهيتها، كما يبدو أن الفيزياء المعاصرة تقول. غير أن هذا أمر لا شأن للوجودي به. وإنما المهم بالنسبة إلى الناس — وكذلك بالنسبة إلى كل الكائنات الحية — هو هذه الحقيقة الأساسية، وأعني أنه بالنسبة إلى تاريخ حياتهم الفردية، يكون العالم عارضًا تمامًا. فمن الممكن أن يحدث أي شيء لأي شخص. وبغضِّ النظر عن مدى ما قد تصير إليه القدرة التنبؤية في المستقبل، فإن هذا الموقف الأساسي لن يتغير. إن من الممكن أن يكون العلم دقيقًا كل الدقة بالنسبة إلى الاحتمالات العامة (الطبيعية والاجتماعية معًا). فهو يستطيع أن يقول مثلًا إن الشخص الذي يقود سيارته بسرعة ثمانين ميلًا في الساعة، والذي يرتكب حادثًا، يكون احتمال موته في الحادث أكبر من مرات احتمال موته لو كان يقود سيارته بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة، أو يستطيع أن يقول إن السائق الذي يتجاوز على الدوام السرعة المصرح بها بنسبة خمسين في المائة يكون احتمال ارتكابه حادثًا أقوى من احتمال ارتكاب غير المسرعين له. ولكن العلم لا يستطيع أن ينبئنا بشيء عن احتمال ارتكاب السائق الفرد؛ أي الإنسان الفعلي، لا «السائق المسرع» بالمعنى العام — للحوادث، أو عن العمر المتوقع له. فالسائقون المتمهلون يرتكبون بدورهم حوادث، بل يلقون مصرعهم فيها. صحيح أن الاحتمال في الحالة الأخيرة أقل، غير أن الإمكان قائم. ومن الممكن أن يحدث أي شيء لأي شخص، بل إن الشخص الذي لا يقود سيارة يمكن أن يُقتل في أول مرة يركب فيها سيارة.
فتاريخ الحياة في نظر الوجودي ليس إلا سلسلة من الأحداث العارضة؛ ذلك لأن الناس الذي نقابلهم، ونصادفهم، ونحبهم أو نحاربهم، كل هؤلاء نلتقي بهم مصادفة. وكثيرًا ما يحاول المحبون إقناع أنفسهم بأن القدر هو الذي دبر التقاءهم — «فالزيجات تُصنع في السماء» — غير أن هذا وهم. فالناس قد ينتقلون إلى بيت معين في حين معين ويجدون فيه السعادة أو الشقاء، ولو كانت المصادفة قد جلبتهم إلى الشارع المجاور، وأحاطتهم بجيران آخرين وأشخاص آخرين يمكن أن يكونوا أصدقاء أو أحباء لهم، لكان من الجوائز أن تتحول سعادتهم أو شقاؤهم إلى عكسها.
وتمضي الوجودية في هذه الفكرة حتى نهايتها المريرة؛ ففي منظر في إحدى روايات سارتر، يجلس البطل في حديقة، وفجأة يدرك الطابع العرضي الكامل للموقف: أعني وجوده في الحديقة في هذه اللحظة بعينها، وشكل جذر الشجرة البارز من حفرة في الأرض بالقرب منه، بل كونه حيًّا في هذا العصر بالذات. فقد كان من الممكن بنفس السهولة أن تكون الأحداث قد وضعته في مكان آخر في تلك اللحظة، وأن يكون للجذر شكل آخر أو يكون قد نما بحيث لا يظهر في الأرض عند حفرها. أما كون البطل حيًّا في هذه اللحظة، بدلًا من أن يكون حيًّا في قرن ماضٍ أو مقبل، فهو أكثر الحوادث عرضية، بل إن كونه قد ولد — وكون هذا الحيوان المنوي الخاص قد أخصب هذه البويضة المعينة — إنما هو حادث وقع بالمصادفة المطلقة. ولماذا ولد في بلد معين، مع أن أبويه كان من الممكن أن يعيشا في أي مكان آخر؟ ولماذا نجا من كل أخطار الحياة لكي يصل إلى سن النضج، ونجا من كل أخطار الحرب التي مات فيها عدد كبير من معاصريه؟
إن في استطاعة أشخاص كثيرين أن يقنعوا أنفسهم بأن كل هذا الطابع العرضي في تاريخ حياة الفرد ليس إلا أمرًا ظاهريًّا فحسب؛ فهم يعتقدون أن هناك غاية أو منطقًا أو تدبيرًا خفيًّا يحول بين الأشياء وبين أن تصبح «مجرد حوادث عارضة». غير أن الوجودية ترفض تمامًا كل هذه «الأوهام»، وتستخدم أقسى النعوت في وصف أولئك الذين يؤمنون بهذه «القصص الخرافية» أو ينادون بها. وأقصى ما يمكننا أن نقوله (أو يقوله ملاحظ خارجي) هو أن هذا الشيء أو ذاك حدث لنا لأننا قررنا أن نفعل هذا أو ذاك. ولكن ما الذي جعلنا نقرر أن نفعل هذا أو ذاك، في الوقت الذي كان هناك فيه إمكان متساوٍ لتقريرنا أن نفعل شيئًا آخر كان من الممكن ألا يترتب عليه هذا الحادث أو ذاك؟ إن صاحب مذهب الألوهية المفارقة قد يقول إن تلك هي «المشيئة الإلهية»، وقد يقول القدري «إنه كان مكتوبًا» أو «كان في اللوح»، أو «في النجوم». بل إن صاحب المذهب الحتمي، رغم كل معارضته لمذهب الألوهية في أمور شتى، يستطيع أن يقول إن الحادث كان جزءًا من سلسلة غير منقطعة (أو غير قابلة للانقطاع) من علاقة العلة والمعلول التي تتسلسل في الزمان تسلسلًا راجعًا لا نهائيًّا. غير أن الوجودي يرفض كل هذه بوصفها تفسيرات مزيفة. فهو، وإن لم يكن يؤله «المصادفة» أو «الاتفاق»، يرى أنها هي الصفة الأساسية المميزة لكل وجود.
وهنا أيضًا نجد أن التقابل بين الوجودية وبين مذهب الألوهية المفارقة. يلقي ضوءًا على الموضوع. ذلك لأن الألوهيين (ومعظم المثاليين) يرون أن هناك غاية أو خطة شاملة، تضم حياتنا الفردية والحوادث التي تؤثر فيها. وهذه المدارس نادرًا ما تدعي أن تلك الخطة معروفة لنا، ولا سيما في تفاصيلها اليومية، ولكنها تؤكد أن هناك بالفعل خطة. وهناك حجج متعددة تساق لإثبات وجود مثل هذا التدبير الكوني، غير أن أهم هذه الحجج وأهمها هي أنه لا بد أن تكون هناك خطة، وإلا لكان الكون بلا معنى ولكانت حياة الفرد عبئًا. ويرد الوجودي على ذلك بقوله: «يسرني أننا متفقان، فما لم تكن هناك خطة وغاية، لكان الكون بلا معنى ولكانت حياتنا عبثًا. ولكن نظرًا إلى عدم وجود أدلة تثبت أن هذه الخطة «الضرورية» موجودة، فلا بد لي من أن أستنتج أن الحياة عبث. وكلُّ من يصل إلى النتيجة المخالفة إنما يسلك على أساس إيمان أعمى لا دافع له سوى التفكير المبني على التمني.»
إن القائل بمذهب الألوهية المفارقة، حين يتأمل موقف الإنسان في الكون الواسع، ينتهي إلى: «أننا وحدنا، لولا الله»، والمثالي يقول: «إننا وحدنا، لولا أننا أذهان متناهية تشارك في أفكار العقل اللامتناهي». ويقول صاحب النزعة الإنسانية: «إننا وحدنا، لولا صحبة الطبيعة ورفاقنا من الناس». أما الوجودي فيؤكد: «إننا وحدنا وكفى». وفيما يتعلق بمصدر القيم، يقول صاحب مذهب الألوهية المفارقة «إن «الخير» هو ما ينسجم مع إرادة الله». وترى المثالية أن «الخير» هو ما يتسق مع تفكير العقل المطلق. وتعتقد النزعة الإنسانية أن «الخير» يعني أي شيء يحقق السعادة البشرية. أما الوجودية فترى أن «الخير» هو كل ما يجده الفرد خيرًا، أو يجعله خيرًا، بفضل اهتمامه به أو ولائه له. وقد اقتبسنا من قبل نصًّا «لهوبز»، كتب في القرن السابع عشر حول هذا الموضوع، قال فيه: «إن كل ما يكون موضوعًا لشهوة أي شخص أو رغبته. يسميه ذلك الشخص من جانبه خيرًا.» ومع ذلك فإن النظرية الوجودية في القيمة تمضي أبعد حتى من هذا، فتذهب إلى أن ما يسميه الإنسان «خيرًا»، وما هو خير، هما شيء واحد. فكل تقويم إنما هو أمر شخصي؛ لأنه نتيجة تاريخ فردي لا نظير له، وتعبير عن مشروع حياة فردية.
ومن الواضح أن الوجودية المعاصرة، من حيث هي نظرية في القيمة، ثورية مجددة. فعلى نفس النحو الذي تعمل فيه التجريبية المنطقية، باتجاهها المعادي للميتافيزيقا، على هدم الجزء الأكبر من الفلسفة التقليدية، نجد أن الوجودية تهدم معظم المذاهب الأخلاقية التقليدية. وبينما الأخلاق التقليدية كانت تنشد معايير شاملة للقيمة والسلوك، فإن الوجودية تنكر صراحة وجود أية معايير كهذه. وبينما الأخلاق التقليدية قد أيدت إلى حدٍّ بعيد. عن قصد أو دون قصد، معايير السلوك المتعارف عليها، والسلوك الاجتماعي المقبول فإن الوجودية قد تعمدت مهاجمة معظم هذه المعايير ذاتها. وعلى حين أن التقليديين كانوا في صف الملائكة، إن جاز هذا التعبير، وأن الإنسانيين كانوا في صف الإنسان في حالاته المثلى، فإن الوجودية كانت في صف الناس — بكل ما فيهم من نواحي ضعف وقوة فردية، ومن حكمة وغباء، وأفعال خيرة وأفعال شريرة. أما أن الوجودية، حين نبذت الفكرة المعتادة التي تقول بطبيعة بشرية مثلى، ومعايير مثلى للسلوك، قد حطت من قدر الإنسان أم أنها استحدثت أول نظام نزيه للقيم بالمعنى الصحيح، فتلك مسألة ينبغي أن نترك البت فيها لكل قارئ ولحكم التاريخ.
(٦) كلمة الختام
يشعر كاتب الفلسفة أو معلمها دائمًا بوطأة المسئولية عندما يصل بقرائه أو طلابه إلى النقطة التي يريدها ثم يتركهم فجأة في ليل الفلسفة مودعًا إياهم بقوله: «حسنًا، من الآن فصاعدًا أصبحتم مستقلين. وداعًا، وحظًّا سعيدًا!» ومع ذلك يبدو أنه لا مفر من هذا الافتراق؛ إذ إن على كل إنسان، آخر الأمر، أن يقرر، بنفسه ولنفسه فقط، ما الذي يمكنه أن يؤمن به — بل ما الذي ينبغي أن يؤمن به إن شاء أن يشعر في حياته بأي نوع من الرضا. فليس ثمة بديل فلسفي لاتخاذ هذا القرار الذي هو أهم القرارات جميعًا. قد نرجئ اتخاذ هذا القرار إلى حين، بل قد نسعى إلى تجنبه تمامًا عن طريق اتباع سلطة معينة، ولكننا سواء سلكنا هذا الطريق أم ذاك، فلن نستطيع، كما رأينا عند مناقشتنا لنظرية المعرفة، أن نتجنب المشكلة تجنبًا دائمًا. حتى لو لم نعرب عن إيماننا بكل هذه الألفاظ، فلا بد أن نسلك كما لو كنا نقول بصحة أشياء معينة، ولا بد أن تنطوي أفعالنا على اعتقاد معين، سواء أكنا نصرح به أم لم نكن. ولو سعينا إلى التهرب من مسئولية تفكيرنا الميتافيزيقي باتباع سلطة معينة، لألقيت على عاتقنا مسئولية جديدة هي أن نقرر أي السلطات نتبع، وإلى أي مدًى نتبعها. على أن شتى أنواع التهرب هذه لا جدوى منها، فتحديدنا للمعتقدات النهائية التي نأخذ بها ينطوي على نتائج فلسفية ضمنية واضحة: ذلك لأن كلًّا منا — سواء أدرك ذلك أم لم يدركه — يتخذ قراراته الخاصة بشأن طبيعة الحقيقة النهائية ونوع العالم الذي نؤمن بأننا نعيش فيه. ولذا فإن رأس الحكمة إنما هو أن نتخذ هذه القرارات بأعقل صورة ممكنة، حتى تكون نظرتنا الفردية إلى العالم أصح وأنجح وأبقى ما يمكن أن تكون. ذلك لأننا، كما قال أرسطو منذ وقت بعيد، وكما أكدنا نحن عندما بدأنا رحلتنا الفلسفية هذه معًا، سواء أردنا أن نتفلسف أم لم نرد، فلا بد لنا من التفلسف. وإن مجرد انتمائنا إلى الجنس البشري ليلقي على أكتافنا هذا العبء، والمسألة الوحيدة هي مدى إنجاحنا أو إخفاقنا في تحمله.
واقتباسات كلها مأخوذة من هذه الطبعة. ونحن نوصي كلَّ من يريد الاستزادة عن النزعة الإنسانية بقراءة هذا الكتاب.