الفلسفة وجيرانها
لا بد أن يكون القارئ قد شعر، عند هذه النقطة من دراستنا، بشيء من الحيرة حول العلاقات بين الفلسفة وبعض الميادين الفكرية الأخرى. فمن الجائز أن كثيرًا من التعريفات التي قدمناها توحي بأن الفلسفة تتداخل مع اثنين على الأقل من جيرانها، هما: العلم والدين، وربما تكرر عملهما بلا داع. أليس معنيًّا، في المحل الأول، بطبيعة العالم الفيزيائي وتركيب الكون؟ أليست هذه المسائل بعينها هي موضوع اهتمام الفيزياء والكيمياء والفلك والجيولوجيا؟ أوَلم تقدم هذه العلوم إجابات كاملة ومحددة إلى حد معقول؟ وما الذي يستطيع الفيلسوف أن يفعله أكثر من ذلك — بل ما الذي يستطيع أن يريده أكثر من ذلك؟ أما فيما يتعلق بالأسئلة العظيمة الأهمية، المتعلقة بدور الإنسان في الكون ومعنى تجربتنا، فأي هدف يمكن أن يكون للدين سوى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة؟ وهنا أيضًا نتساءل: أي دفاع نستطيع أن ندافع به عن الفيلسوف وعمله؟
في اعتقادنا أن أفضل وسيلة لاكتساب مزيد من الفهم لميدان الفلسفة، بعد التعريف المبدئي لميدانها، الذي عرضناه منذ قليل، هي أن نعالج الموضوع بطريقة سلبية ونوضح ما لا تكونه الفلسفة. فمع اعترافنا بأن ميدان الفلسفة له صلات هامة جدًّا بالعلم والدين معًا، وبأنه يسعى إلى الإتيان بإجابات أساسية من نفس النوع الذي يسعيان إلى الإتيان به، فإن الفوارق بين الميادين الثلاثة من ذلك أهم مما بينها من أوجه الشبه. فإذا استطعنا أن ننفذ إلى أعماق هذه الفوارق في الغاية والمنهج معًا، لقطعنا بذلك شوطًا لا بأس به في سبيل فهم روح الفلسفة ومضمونها.
إن للفلسفة، شأنها شأن كل ميادين النشاط البشري، صلات وثيقة بالبعض من جيرانها، وصلات سطحية فقط بجيران آخرين. وأقرب صلاتها هي تلك التي تجمعها بالعلم من جهة وبالدين من جهة أخرى. وهناك ارتباطات أقل وثوقًا، بين الفلسفة وبين الفن والأدب، على الرغم من أنه لا يوجد، كما رأينا من قبل؛ أي ميدان للنشاط وأي ميدان للفكر يعد خارجًا تمامًا عن مطلق البحث الفلسفي. فكل شيء يسهم في هذا البحث، وما كان اختيارنا للعلم والدين على التخصيص لإجراء هذه المناقشة الخاصة المتعلقة بالفلسفة إلا أن أهميتها بالنسبة للبحث الفلسفي أعظم. كذلك فإن الخلط بين مجال الفيلسوف وبين هذين الميدانين المجاورين له، هو أكثر وقوعًا من الخلط بينه وبين أي ميدان آخر. وهذا الخلط أمر طبيعي، وما دمنا في الفلسفة نعالج موضوعًا قريبًا كل القرب من الموضوعات التي يعالجانها. وبالإضافة إلى ذلك فإن المشكلات الخاصة بهذه الميادين الثلاثة تتداخل إلى حدٍّ بعيد. وهناك قدر كبير من التشابه في اللغة المستخدمة فيها. ولكن، مهما كان هذا الخلط أمرًا طبيعيًّا، فإن تخليص تفكيرنا منه أمر لا بد منه لأي فهم للفلسفة. ولقد كانت نتائج هذا الخلط خطيرة بوجه خاص في العلاقات بين الفلسفة والدين، وهي العلاقات التي سوف نستهل بها مناقشتنا …
(١) الفلسفة والدين
من أخطر العقبات التي اعترضت عمل المفكر الفلسفي خلال قرون طويلة، الفكرة القائلة إن الفلسفة والدين، نظرًا إلى ما في موضوعهما من تداخل جزئي هما توأمان عقليان متلاصقان، لا يستطيع أحدهما أن يذهب إلى أي مكان دون الآخر. ولقد كان هذا الربط مصدر متاعب للتوأم الفلسفي بوجه خاص؛ إذ إن الدين كان عادةً يحتل مركز السلطة السائدة؛ وبالتالي كان قادرًا على تحديد سرعة أي تقدم واتجاهه. ففي الجزء الأكبر من القرون الوسطى، مثلًا، كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره — شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس. ومن الجائز أن عددًا قليلًا من مفكري العصور الوسطى هو الذي وجد في هذا القيد من المضايقة ما قد يجده فيه معظم فلاسفة اليوم، ولكن من الواضح أن ذلك القيد لم يكن متمشيًا مع الحرية العقلية كما نفهمها في وقتنا الحالي. وعلى حين أن سيطرة الدين على الفلسفة لم تكن دائمًا كاملة بالقدر الذي كانت عليه في العصور الوسطى، فإن الكنيسة (في فرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي معًا) لم تكن على استعداد، خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل، للسماح للفكر النظري بالتنقل بحرية في جميع أرجاء عالم الفكر. ذلك لأن الكنيسة كانت عادةً تبدي رغبتها في أن تقوم هي، على الأقل، بإصدار جوازات السفر التي تبيح القيام بأمثال هذه الرحلات، وبذلك تحتفظ لنفسها بسلطة البت فيمن يسمح له بالسفر الفلسفي. والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت، في مجالات معينة، منذ وقت يذكره أناس ما زالوا أحياء. ولما كان هذا الاستقلال قد اكتُسب بعد كفاح مرير، فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديرًا بأن يُحفظ بأي ثمن.
(٢) الفرق بين الفلسفة والدين
الفارق الأول: الموضوع
تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلًا جزئيًّا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلًا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولًا أنه، بينما نجد أن جزءًا كبيرًا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءًا كبيرًا منها مختلف أيضًا. فالفلسفة مثلًا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادةً بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتمامًا بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العِلِّية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثَم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقًا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مُرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولًا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرَّضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرًا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.
الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان — أي يقبلها تصديقًا — على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد — دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته — أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادةً في الدوائر الدينية والفلسفية معًا، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادةً ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالًا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابًا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانًا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.
ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانًا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورًا رئيسيًّا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معًا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.
وهناك مشهد معين في إحدى التراجيديات اليونانية القديمة، يمكن أن يبصرنا بطبيعة هذا المسعى الفلسفي. في هذا المشهد يعود أجاكس، وهو أحد أبطال الجيش اليوناني في حربه الطويلة ضد الطرواديين، ولكنه بطل يتسم بشيء من الغباء، يعود إلى داره بعد سقوط طروادة، وهو يتيه فخرًا وخيلاء بفتوحاته في ساحة الوغى. وفي آخر الأمر، تشعر آلهة الأولمب المتسامحة ذاتها بالسأم من غروره، وتدبر له عقابًا مناسبًا؛ ففي ذات يوم تسلبه الآلهة عقله حيث يضطر إلى مهاجمة قطيع من الغنم، وذبح الكثير منها متوهمًا أنه ما زال يقاتل أهل طروادة. وعندما يستعيد رشده، يكون قد أصبح موضع سخرية اليونان بأسرها؛ فها هو ذا أجاكس، المحارب المغوار، يقضي وقته الآن في ذبح الغنم! على أن مثل هذه السخرية أمرٌ لا يُحتمل في نظر شخص لديه دوافع أنانية قوية كهذا البطل السابق؛ لذلك قرر أجاكس، بعد إمعان الفكر في موقفه، أن يعمد إلى الانتحار — وهو الحل التقليدي لمثل هذه المشكلة. فأخذ يشحذ سيفه الذي أصبح الآن مدنسًا، ثم تريث لحظة أخيرة محاولًا أن يفهم ما الذي حدث له بحيث جعل مكانته كبطل تنحطُّ إلى هذا الحد المؤسف. وقبل أن يغمد سلاحه في نفسه يهتف صارخًا للآلهة المنتقمة: «النور! النور! يا ليتني أموت فيه!» في هذه اللحظة الأخيرة من حياة أجاكس، ارتفع إلى المستوى الذي يحاول الفيلسوف أن يعيش فيه في كل الأوقات: فالشوق إلى المعرفة قد سما فوق كل شوق آخر، وهو قد رأى أن الموت يغدو أقل مرارة وإذلالًا لو أمكن أن يقترن بالفهم.
الاختلاف الثالث: المسلَّمات المبدئية
والعامل التالي الذي يفيد في التفرقة بين هذين الميدانين الكبيرين يتبع العاملَين اللذين أوضحناهما عن كثب. هذا العامل هو درجة التسليم التي يأخذ بها كلٌّ منهما قبل بدء عملياته العقلية. وهذا يشمل المسلَّمات والمصادرات وشتى أنواع الأفكار المفترضة.
ففي الفلسفة مثلًا يبذل جهد كبير لتجنب التسليم مقدمًا بأي شيء ما لم يكن ضروريًّا ضرورة مطلقة، بل إن الفيلسوف يبذل جهدًا أعظم للاحتراس من المسلَّمات الخفية أو اللاواعية. ويشعر الفيلسوف بأن وجود مسلَّمات غير معترف بها هو إحدى العقبات الكبرى في وجه التفكير الواضح؛ ومن ثَم فهو يسعى على الدوام إلى تطهير فكره من أي أثر لها.
هذا الموقف النظري المتجرد الذي تقفه الفلسفة، يجعل النتائج التي يصل إليها الفيلسوف أقل تعرضًا للاشتمال على مسلَّمات خفية. فهو يختبر تفكيره ويعيد اختباره مرارًا، لكي يتأكد من عدم تسلل أية مصادر لم يعترف بها، أو أي افتراض سابق، في لحظة لم يأخذ فيها حذره. والحالة المثلى هي تلك التي يبدأ فيها تفكيره دون أية مسلَّمات فيما عدا ما هو ضروري تمامًا لمزاولة هذا النشاط الفكري. وهو يتمنى لو أمكن إنقاص هذه المسلَّمات إلى اثنتين أو ثلاث، كوجوده الخاص مثلًا، ووجود العالم الخارجي ووجود نوع من علاقة المعرفة أو التجربة بينهما. وبينما أنه من المشكوك فيه أن يستطيع كل فيلسوف أن يدعي صادقًا أن عتاده العقلي قد أنقص في الأصل إلى هذه العناصر التي لا تقبل مزيدًا من النقصان، فإنه يدعي عادةً أنه بذل جهدًا واعيًا للكشف عن جميع المسلَّمات — وضمنها تلك المسلَّمات التي لا غناء عنها كهذه التي تحدثنا عنها.
الاختلاف الرابع: الأهداف
والفارق الرئيسي الأخير بين الفلسفة والدين يكمن في هدفهما أو غايتهما القصوى. وهذا يؤثر بطبيعة الحال في الموقف العقلي الذي يبدأ به نشاط من يمارسونهما كما يؤثر في المناهج التي يستخدمونها. ولقد ذكرنا من قبل أن أول شوق للفيلسوف هو شوقه إلى المعرفة، دون أن يهتم إلا قليلًا بالثمن الذي يكلفه بلوغ هذه المعرفة، ودون أن يهتم إلا أقل من ذلك بانسجامها أو عدم انسجامها مع آماله وأمانيه البشرية المتأصلة فيه بعمق. ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الهدف الأول للدين هو إعطاء إحساس بالأمان والطمأنينة «لا يستطيع العالم أن يعطيه إيانا أو ينتزعه منا». وهكذا يتضح لنا أن للدين هدفًا عمليًّا أكثر من الفلسفة — وذلك على الأقل من وجهة النظر المباشرة. كذلك يتضح أن الدين يكون على الأرجح أهم في حياة عدد من الناس يزيد كثيرًا على أولئك الذين يمكن أن تمسهم الفلسفة ولو من بعيد. وبطبيعة الحال فإن من يكرسون حياتهم للعمل الفلسفي يسارعون دائمًا بتأكيد أن الدافع إلى المعرفة لا يقل تأصلًا في الإنسان عن الرغبة في الأمان والطمأنينة الروحية. ولكن على الرغم من أن الدافعَين قد يكونان سواء في أهميتهما، فإنه لا يترتب على ذلك القولُ بأنهما موجودان بنفس القوة لدى الناس جميعًا. فمعظم الأشخاص يرون أن الوعد الذي يقدمه إليهم الدين أقوى جاذبيةً بكثير. وهم يشعرون بضرورة حصولهم على ضمان بأن الحياة جديرة بأن تعاش، ويؤمنون بأن الدين قادر على أن يعطيهم هذا الضمان على نحو أيسر مما تقدر عليه منافِسة الدين (أي الفلسفة). ذلك لأن الفلسفة لو استطاعت تقديم مثل هذا الضمان، فإن ذلك لا يكون عادةً إلا بعد تفكير طويل مُضنٍ.
وباختصار، فعلى الرغم من أن الفيلسوف قد ينتفع من أنظاره الميتافيزيقية في صياغة فلسفة للحياة تصلح للتطبيق عمليًّا (وبذلك يحقق نفس النتيجة «العملية» التي يحققها رجل الدين)، فإن معظم الناس يدركون أن الفلسفة تهتم بالنظر أكثر مما تهتم بالعمل. وهم يعتقدون أن الفيلسوف سيواصل تأملاته بنفس الإصرار سواء أدت إلى نتائج عملية — أو إلى «أية» نتائج — أو لم تؤد إليها. أما المفكر الديني، حتى إذا كان تفكيره يكتسب طابعًا لاهوتيًّا تجريديًّا في بعض الأحيان، فإن هدفه الأول يظل دائمًا إيجاد الأساس العقلي لنشاط عملي إلى أبعد حد: هو بلوغ سلام الروح وطمأنينة القلب.
(٣) الفلسفة والعلم
(٤) العلم بوصفه تخصصًا
في الوقت الذي بدأت فيه ما نسميها الآن «بالعلوم» تغادر لأول مرة بيت أمها الفلسفة وتكوِّن لنفسها حياة خاصة بها، لم تكن التقسيمات المحددة المعالم، والقائمة الآن، قد عُرفت بعد، بل إن لفظ «العلم» ذاته لم يكن موجودًا، بل إن تلك الدراسات الغامضة التي كانت لا تزال في مهدها، كانت تجمع معًا تحت لفظ «الفلسفة الطبيعية». وكان الرواد الأوائل في هذا الميدان أكثر انشغالًا بمعالجة مشكلات محدودة، من أن يهتموا ببيان حدوده المنتظرة أو بإدراك أنه قد يحدث شقاق بين المطالبين بأجزاء معينة من الأرض الجديدة التي لم يكن قد تم مسحها. ولقد كان الموقف مشابهًا لموقف رواد الحدود الأمريكيين. إذ إن انشغال المستوطنين الأوائل بقطع أشجار فردية كان أعظم من أن يترك لهم مجالًا للاهتمام بحجم الغابة، وكان الجزء الصغير من الأرض التي يطالبون بها لأنفسهم يشغلهم إلى حدٍّ لا يعبئون معه لو أن جارًا لهم اجتث بعض الأشجار في الأجزاء الأبعد من ذلك. ولم تبدأ التقسيمات التي نعرفها الآن في الظهور إلا بعد أن أصبحت الأجزاء المتباينة لأرض العلم مطروقة ولو جزئيًّا. ولقد ظهرت عندئذٍ عدة خطوط تقسيم طبيعية، ولا سيما حول التمييز الشائع بين العلوم «الفيزيائية» و«البيولوجية». وفيما بعد، نمت العلوم الاجتماعية، وادعت لنفسها الحق في أن تطلق على نفسها اسم العلوم، بحيث إنه لا يوجد اليوم إلا القليل من أوجه النشاط البشري العقلي الذي لا يظهر فيه تأثير وجهة النظر العلمية، وربما طريقتها الأساسية في التنظيم.
ولقد أدى تقسيم «الفلسفة الطبيعية» إلى كثير من الميادين شبه المستقلة، إلى مكاسب كثيرة، وإلى بعض الخسائر. أما التقسيم ذاته فكان شيئًا لا مفر منه. ففي أواخر القرن الخامس عشر، كان في استطاعة عبقرية شاملة مثل ليوناردو دافنشي أن يلم إلمامًا كافيًا بكل علوم عصره، وأن يقوم ببحوث أصيلة في كثير منها. وحتى عند نهاية القرن الثامن عشر كان في استطاعة جوته أن يقوم ببحوث في كثير من العلوم غير المرتبطة، إلى جانب كونه سياسيًّا بارعًا، وأعظم شعراء الأمة الألمانية. غير أن هذا النطاق العقلي أصبح اليوم مستحيلًا من الوجهة العملية؛ ذلك لأن كلًّا من أقسام العلوم، بل كثيرًا من الأقسام الفرعية، قد أصبح من التعقيد والتفصيل إلى حد صار لا بد معه من قضاء سنوات من التحصيل من أجل استيعاب أي واحد منها. ولا بد، عادة، من أجل الإسهام بأي نصيب أصيل في الميدان، من احتفاظ المرء بوحدة الهدف طوال حياته، بالإضافة إلى قدر من التخصص لا يكاد يكون من الممكن أن يتصوره الأشخاص الخارجون عن نطاق المعمل. ففي العصور الحديثة أصبح التخصص هو القانون الأول للتقدم العلمي.
وحتى عندما يكون الهدف من بحث العالم هو الوصول إلى نوع من التعميم الشامل الذي يجمع بين نتائج بحوث كثير من الأذهان المختلفة في وحدة مركبة، فإنه يكاد يكون من المحتم أن تكون التجارب الفاصلة والأساليب الخاصة اللازمة لإثبات هذا التعميم الجديد، بمثابة انتباه شديد التركيز على مجالات في الطبيعة تتزايد ضيقًا. والواقع أن التجربة الفاصلة التي تستخدم عادةً في تحقيق أي فرض جديد، تمثل عادةً طريفة في السيطرة والتحكم في عملية معينة، تتميز بأنها أكثر تخصصًا وتفصيلًا مما تم من قبل.
كان جاليليو يعلم أن الجسم الساقط يتحرك خلال المكان بسرعة تتزايد باطراد؛ ومن هنا فقد كانت المشكلة الحقيقية هي تحديد معدل هذه الزيادة، وخاصة بالنسبة إلى العوامل الأخرى المتضمنة في الموضوع. وبعد بداية باطلة (مبنية على فرض يؤمن به الذهن العادي، مؤداه أن السرعة تزيد بنسبة مسافة السقوط)، اهتدى إلى الفكرة القائلة إن السرعة تزيد مع زمن السقوط (لا مع مسافته). وكانت الخطوة التالية هي تلك التي تلي صياغة أي فرض علمي: وأعني بها استنباط النتائج التي يمكننا أن نتوقع أنها ستلزم لو كان الفرض صحيحًا، ثم إجراء التجارب التي تعطينا نتائج محددة يمكن مقارنتها بتلك التي استُنبطت من قبل (وتلك هي الخطوة الثالثة في التجريب العلمي). وسرعان ما اكتشف جاليليو أن التجارب المتعلقة بالأجسام التي تسقط سقوطًا حرًّا هي تجارب لا جدوى منها، ما دامت السرعات أكبر من أن تقاس بالأدوات التي كانت موجودة عندئذٍ. وإذن فقد كان لا بد من نقص هذه السرعة إلى حد يتيح القياس الدقيق، وهنا كان من الطبيعي أن تطرأ على ذهنه فكرة الحركة على سطح مائل. ومع ذلك يبدو أن جاليليو أجرى حسابات وتجارب كثيرة ليقنع نفسه بأن قوانين سرعة الكرات التي تتدحرج أسفل منحدر هي نفسها سرعة الأجسام التي تسقط سقوطًا حرًّا من نفس الارتفاع العمودي. وعندما اقتنع بهذا التماثل، كان في استطاعته أن يبدأ تجاربه دون تحفظات. وحينما قارن نتائجه بتلك التي استُخلصت بالاستنباط من فرضه (القائل إن سرعة سقوط الجسم تتناسب مع زمن السقوط)، استطاع أن يثبت هذا الفرض.
وبعد مضي حوالي أربعين عامًا، عاد مايكلسون إلى المشكلة، ولكنه أجرى بحوثه هذه المرة على نطاق أوسع بكثير. فقد كانت نقطتاه قمتَي جبلين في كاليفورنيا الجنوبية يفصل بينهما اثنان وعشرون ميلًا. وقد أسفرت المحاولات الخمس المنفصلة عن متوسط قريب جدًّا من رقمه الأول، غير أن الاختلاف بين النتائج المختلفة أدى به إلى زيادة المسافة أبعد حتى من ذلك، أملًا في بلوغ مزيد من الدقة. وعلى ذلك فقد اختار قمتين يفصل بينهما اثنان وثمانون ميلًا. ومع ذلك فقد كانت هناك صعوبة بدت ثانوية في المسافة الأقصر، ولكنها أصبحت شديدة الخطورة في مسافة الاثنين والثمانين ميلًا، وهي الدخان والغبار الموجود في الجو؛ ومن هنا كان من الضروري التخلي عن التجربة.
هذا المثال ينطوي على شيء يهمنا في غرضنا الحالي: هو الطريقة التي التمس بها مزيد من طريق اتباع أساليب متباينة، وأخيرًا عن طريق استبعاد ما كان يعد من قبل عاملًا لا يمكن التحكم فيه، وهو حالة الجو، بل إن الأهم من ذلك أن نلاحظ أنه، على الرغم من أن موضوع البحث كان هو الوصول إلى ثابت يكون مقياسًا أساسيًّا بالنسبة إلى العلم الطبيعي بأسره، فإن المشكلة الفعلية المتعلقة بتحديد هذا الثابت كانت مشكلة محدودة ومتخصصة إلى أبعد حد، وهي مشكلة كان من الضروري فيها تجاهل الاهتمامات الجزئية لمختلف العلوم الخاصة المتعلقة بالموضوع. وبينما أن للفلسفة بدورها مشكلاتها الفنية، التي يتعين لحلها كذلك تجاهل الاهتمامات العامة للميدان، فإن هذا التركيز المتخصص على مشكلة محددة بدقة يميز العلم أكثر مما يميز الفلسفة بكثير. ذلك لأن الفيلسوف، كما سنرى بعد قليل، كان دائمًا معنيًّا بالمشكلات العامة والمسائل الشاملة، وفي سبيل بلوغ هذه الغايات الأعم كان لا بد من التغاضي عن المسائل الجزئية أو المشكلات الفنية المحدودة.
ولقد أصبح من الشائع في السنوات الأخيرة، أن نجد أصحاب النزعات الإنشائية، وأنصار التعليم المتحرر، والمفكرين المتعمقين بوجه عام، ينددون بهذا التخصص على أساس أنه يهدد كثيرًا من القيم التي خلقتها المدنية، بل إن بعض المفكرين، وضمنهم بعض العلماء، يرون فيه تهديدًا ممكنًا للمدنية ذاتها. وهناك أسباب متعددة تساق تبريرًا لهذه المخاوف. فهناك أولًا الحقيقة القائلة إن التخصص المفرط يخلق شخصيات أقل من أن تكون شخصيات أناس كاملين. فالعملية التعليمية اللازمة لإنتاج متخصصين علميين ليست بالضرورة عملية تشجع على تكوين أفراد متعلِّمين تعليمًا واسع النطاق وملمين من كل شيء بطرف. ونتيجة لذلك كان الأصح أن يقال عن العالم أو الفني إنه «يدرب»، ولا «يتعلَّم»، بمعنى أنه لا يعد للحياة في العالم الحديث المعقد، ولا سيما عالم الناس ومشكلاتهم الاجتماعية. ونظرًا إلى أن هؤلاء العلماء والفنيين قد قدر لهم، على ما يبدو، أن يقوموا بدور متزايد الأهمية في الحياة القومية (والدولية)، فإن ضيق تكوينهم وأفقهم يشكل خطرًا مضافًا على مدنيتنا بأسرها.
وهناك خطرٌ ثانٍ يتمثل في الميل الطبيعي لدى كثير من العلماء إلى الاعتقاد بأن كل المشكلات الإنسانية يمكن أن تحل بنفس المناهج التي يجدونها مثمرة في ميادينهم. وليس معنى ذلك أن كل العلماء ماديون وآليون، يسعون إلى رد كل حادث في الكون (بما في ذلك أوجه نشاط الإنسان) إلى عوامل فيزيائية كيموية، بل إن المقصود، على الأصح، هو أن العالم المتخصص يميل في كثير من الأحيان إلى الاعتقاد بأن زيادة المعرفة تؤدي بطريقة آلية إلى حل الخلافات وتسوية المنازعات. وهذا يصدق إلى حدٍّ بعيد على العلوم المختلفة، ما دامت المنازعات في هذه الحالة تنشأ، في الأغلب، من عدم كفاية المعرفة، مما يتيح للفروض المتضادة والنظريات غير المحققة التصارع بعضها مع بعض فيما يعد في الواقع فراغًا معرفيًّا. ومع ذلك، فإن تزايد المعرفة لا يسهم إلا بدور ضئيل جدًّا في تيسير اتخاذنا للقرارات في ذلك المجال الواسع الذي يعيش فيه معظم الناس أغلب الوقت؛ أعني في مجال التقويم واتخاذ القرارات، بل إن نمو المعرفة قد يؤدي في الواقع إلى زيادة صعوبة اتخاذ القرارات؛ إذ إننا نواجه في هذه الحالة عددًا أكبر من الحلول التي يتعين علينا الاختيار بينها، أو نزداد شعورًا بالتفريعات والتعقيدات التي ينطوي عليها كل قرار. وباختصار، فإن من الأخطار التي يولدها التخصص العلمي لدى المشتغلين بالعلم، سذاجة تفكيرهم في المجالات الأخرى غير العلمية، ولا سيما تلك المجالات التي تقتضي عملًا اجتماعيًّا وقرارات أخلاقية سياسية.
وأخيرًا هناك خطر آخر هو أن التخصص العلمي قد يخلق شخصيات لا تكترث أو لا تشعر بالبشر وأحاسيسهم. وكثيرًا ما يوصف عدم الشعور هذا بعبارة «معاملة الناس وكأنهم آلات»، أو «النظر إلى الناس كما لو كانوا موضوعات فيزيائية فحسب». ولا جدال في أن الأنواع الأخرى من التخصص — بل التركيز المفرط على أي ميدان في الواقع — قد تؤدي إلى تبلد الشعور هذا إزاء البشر وحاجتهم الانفعالية. ولكنه عندما يحدث عند العالم يكون أمرًا ملحوظًا إلى أبعد حد؛ إذ إن المشتغلين بالعلم من حيث هم فئة، هم بالتأكيد أناس أذكياء ذوو نوايا طيبة. ولكن من سوء الحظ أن تدريبهم، مع استغلاله لذكائهم استغلالًا كاملًا، قد يبعث البلادة في حساسيتهم الاجتماعية الطبيعية.
(٥) الفلسفة بوصفها تعميمًا
إذا كانت العبارة القائلة إن العلم هو عملية تعلُّم الأكثر والأكثر عن الأقل والأقل هي عبارة تنطوي على قدر كبير من الصحة، فإن العبارة العكسية، القائلة إن الفلسفة هي عملية تعلُّم الأقل والأقل عن الأكثر والأكثر، هي من نواحٍ متعددة أصح حتى من السابقة. فبينما العلم يسير في طريقه بالتحليل الذي تتزايد تفاصيله، فإن ماهية الفلسفة كانت تعد، تقليديًّا، مركبًا يتزايد شموله على الدوام. والمثل الأعلى للفيلسوف هو شخص يتجنب التخصص في اهتماماته وتكوينه بقدر ما يحرص عليه العالم، فاتساع نطاق الاهتمام يكاد يكون مرادفًا للموقف الفلسفي. ومن أهم الشروط الضرورية لكي يكون النظر الميتافيزيقي مثمرًا، أن يكون نطاق النشاط العقلي للذهن غير محدود، ومجال معرفته شاملًا بالقدر الذي تسمح به حدود الحياة البشرة. ومن جهة أخرى فإن مثل هذا الاتساع في نطاق الاهتمام يعد أمرًا ضارًّا من وجهة نظر العلم؛ لأنه قد يصرف انتباه العالم عن التركيز في مشكلات محددة.
ولو كان الخطأ في هذه المسألة هو خطأ الجمهور وحده، حين يعجز عن التمييز بوضوح بين الواقع العلمي والتفسيرات الفلسفية، لكان العالم أكثر تعاطفًا مع الفيلسوف التأملي. غير أن الذهن العلمي يشك في أن الخطأ ليس خطأ الجمهور بقدر ما هو خطأ الفيلسوف ذاته. ففي بعض الأحيان كان الفيلسوف هو الذي أخفق في الاحتفاظ بالتميز واضحًا في ذهنه هو — لا لأنه يفتقر إلى الأمانة العقلية، بالطبع، وإنما نتيجة لشيء أصعب كشفًا بكثير، وأخطر من الوجهة الفلسفية؛ ذلك لأن أفضل الفلاسفة يظل مع ذلك بشرًا؛ وبالتالي يظل معرَّضًا للميل البشري الطاغي إلى أن يضفي على كل شيء معاني تؤيد مذهبه. وحتى لو ظل يمارس التفكير الدقيق طوال حياته، لما استطاعت ممارسته هذه في كل الأحوال أن تمحو كل أثر للتفكير المغرض من التأمل الفلسفي النظري.
(٦) العلم يكتشف، والفلسفة تفسر
ولا شك أن أية ادعاءات للفلسفة بأن لديها معرفة كاملة هي ادعاءات لم يعد لها مجال. فكل مفكر نظري تأملي قد أصبح يشعر شعورًا كاملًا بأنه، بالنسبة إلى العمل الفعلي للعلم، ليس إلا نحلة تمتص الرحيق. ومع ذلك فهناك مفكرون تقوم نظرياتهم وآراؤهم التعميمية الشاملة على معرفة بالبحث العلمي ومشكلاته ونتائجه تبلغ من العمق حدًّا يستحقون معه (وينالون في العادة) احترام نفس أولئك العلماء الذين هم الأكثر عداءً للنشاط الفلسفي. ذلك لأن من الواضح أنه عندما يُبنى رأي فلسفي على فهم دقيق لمعطيات العلوم المختلفة، وعندما يكون القائم بصياغة هذه النظرية قد ميز بوضوح تلك الوقائع وبين وسائله الخاصة التي يستخدمها ليجمع بينها في صورة محكمة (وهو أمر لا يقل أهمية عن الأول)، فإن النتيجة لا يمكن أن تكون شيئًا يستطيع أن يعترض عليه أي عالم بطريقة مشروعة، مهما يكن من دقة حساسيته النقدية.
وهناك سبب آخر هام يؤدي عادةً بالعالم إلى التردد في نقد عادة صياغة فروض تأملية شاملة: هو أن هذه الفروض العامة تقوم أحيانًا بدور ملهِم أو موجِّه في تطور أي علم، ولا سيما في مراحله الأولى. ولما كانت هذه الفروض تتجاوز عادةً نطاق المعرفة الماضية والحاضرة، بل إنها قد تكون من النوع الذي يستحيل إجراء أية تجارب مباشرة عليه، فإن التأملات من هذا النوع عادة «فلسفية» لا «علمية»، حتى لو كان مضمونها قريبًا كل القرب من مضمون علم معين.
وهناك عدة أمثلة مشهورة لقيام الفلسفة بهذا الدور الملهم بالنسبة إلى العلم — منها مثلًا تلك المفاهيم الرياضية الآلية التي وضعها الفلاسفة في القرن السابع عشر. والتي ساعدت على التمهيد لعمل رجال مثل جاليليو، ونيوتن، وفي مجال العلم البيولوجي، ظهرت فكرة التطور وطبقت على التاريخ قبل وقت طويل من تطبيقها على البيولوجيا والجيولوجيا، بل إن العامل الأكبر على إحياء فرض التطور على مر القرون كان هو الأجيال المتعاقبة من الفلاسفة، على حين أن معظم علماء البيولوجيا ظلوا يرفضون الفكرة رفضًا باتًّا حتى الوقت الذي نشرت فيه بحوث دارون العظيمة.
إلى أي مدى ينبغي أن تمضي الفلسفة في تجاوزها للعلم؟ ما زال أمامنا أن نجيب عن السؤال عن المدى الذي يجوز للفيلسوف أن يمضي فيه متجاوزًا حقائق البحث العلمي المقررة. حتى عندما يعترف صراحةً بأنه يسير متخلفًا عن المعطيات المتوافرة. وبعبارة أخرى، فإلى أي مدى ينبغي أن يظل الفيلسوف ملتزمًا دوره في الاقتصار على عملية التركيب، وإلى أي حد يحق له أن يجرؤ على تفسير هذه الوقائع؟ يقال أحيانًا إن مهمة العلم هي الكشف، ومهمة الفلسفة هي التفسير. وهذا القول صحيح في عمومه، ومع ذلك يظل أمامنا أن نحدد إلى أي مدى يستطيع «التفسير» أن يمضي دون أن يصبح وجهة نظر مستقلة لا يعترف أي عالم (أو جماعة من العلماء) بأنها مستمدة بطريقة مشروعة من أدلة تجريبية.
وهكذا يتضح أن العلاقات بين العلم وبين الفلسفة بوصفها مختصة بالتركيب هي علاقات غامضة متقلبة. ولكن يمكن القول بوجه عام أن العالم لا يعطف كثيرًا على هذا القسم من أقسام النشاط الفلسفي، بل إن هذه لو كانت هي العلاقة الوحيدة بين الميدانين، لما كانت الصلات بين الفلسفة وبين العلم أفضل كثيرًا مما كانت عليه الصلات بين الفلسفة وبين جارها الكبير الآخر؛ أي الدين في بعض الأحيان. ولكن من حسن حظ علاقات الجوار هذه أن هناك نشاطًا آخر تقوم به الفلسفة، ولا يعده العلماء مشروعًا فحسب، بل يرونه ضروريًّا لتقدم ميدانهم الخاص ذاته. فلننتقل إذن إلى بحث موجز للفلسفة بوصفها ناقدة محللة.
(٧) الوظيفة التحليلية للفلسفة
تتميز هذه العلاقة الأساسية الأخرى بين الفلسفة والعلم بأنها أقرب إلى الطابع الفني المتخصص بكثير من العلاقة الأخرى التي ناقشناها من قبل. ومع ذلك فإن لها أهمية اعظم بكثير بالنسبة إلى العلاقات اليومية المتبادلة بين الميدانين. ولذا كان من الضروري أن نلم على الأقل ببعض المعلومات عن المناهج والنتائج المتعلقة بهذا الموضوع. ولقد حاولنا، في مناقشتنا للعمليات التركيبية التي تقوم بها الفلسفة إزاء نتائج الكشوف المعملية، أن نعطي القارئ فكرة مؤداها أن العمل الأكبر للفيلسوف هو أن يجمع الأجزاء معًا، على حين أن العالم مهتم أساسًا بتجزيء الواقع الفيزيائي إلى أجزاء أصغر فأصغر. ومن هنا فلا بد من قدرٍ من التهيؤ الذهني لكي نتحول إلى هذه العلاقة الثانية بين الميدانين؛ إذ إن الفلسفة الآن هي التي تقوم بالتحليل، وتمضي في عملية التجزيء أبعد بكثير من العلم ذاته.
إن لكلٍّ من العلوم مفاهيمه الرئيسية ومسلَّماته الأساسية التي يأخذها المشتغلون في هذا الميدان قضية مسلَّمة إلى حدٍّ بعيد. وفضلًا عن ذلك فإن كل العلوم تفترض مقدمًا، دون سؤال تقريبًا، قدرة أذهاننا على اكتساب معرفة موثوق منها — وذلك على الأقل عن طريق مناهج البحث العلمي. فالعالم، بما أنه عالم، لا يناقش بعمق حدود المعرفة البشرية أو مدى صحتها، بل إن من النادر أن يسأل أي مشتغل بالعلم هذا السؤال الذي تعده الفلسفة أهم الأسئلة في هذا المجال بأسره؛ وأعني به: ما هو الشيء الذي تتعلق به المعرفة العلمية؛ أعني: ما الذي نحصل عليه بالفعل عندما نكتسب هذه المعرفة؟ هل نحصل على صورة للواقع، ونسخة طبق الأصل للطبيعة كما هي، مستقلة عمن يلاحظونها من البشر؟ أم أن من المحتم علينا ألا نحصل إلا على تمثيل تقريبي لا بد أن تشوهه أجهزة الإنسان الحسية وتركيب أعصابه؛ أعني تمثيلًا لا بد أن يكون متجهًا إلى تحقيق مصالحنا بوصفنا مخلوقات بيولوجية تحاول البقاء والتكيف في بيئة معينة؟
فإذا أصبح العالم المتعمق في الفكر شاعرًا بمشكلات المعرفة؛ أي إذا تجاوز الموقف الطبيعي الساذج فلسفيًّا، الذي تأخذ فيه أذهاننا وقدراتها على جمع المعلومات قضية مسلَّمة — فالأرجح أنه سينتقل إلى موقف آخر لا يقل عن السابق افتقارًا إلى الروح النقدية، وهو الموقف الذي يسلم فيه بأن كل المشكلات الإبستمولوجية (أي المشكلات المتعلقة بطبيعة المعرفة وحدودها وصحتها) هي مشكلات قابلة للحل. فأغلب الظن أنه سيؤمن بأن تحليلًا بسيطًا للموقف المعرفي. بالإضافة إلى قليل من الصبر وحسن النية من جانب كلِّ من يهمه الموضوع، سيؤدي فورًا إلى حل الصعوبة. غير أن الفيلسوف، الذي يعرف أن مشكلات المعرفة ظلت قرونًا عديدة موضوعًا للتحليل والنقد والخلاف، لا يمكن أن يقنع بهذا الفرض الساذج. فقد يكون في وسع أي من العلوم أن يدعي معرفة ما هو واقعي وما هو حقيقي، غير أن الفلسفة قد اكتشفت أن هذا الادعاء، إن كان مباحًا على الإطلاق، لا يمكن التقدم به إلا بعد تحليل طويل للذهن البشري وعملية البحث عن المعرفة بأسرها لديه.
وهكذا نشأ ذلك البحث الذي يعد دون شك أعظم خدمة تؤديها الفلسفة للعلم، وأعني به التحليل النقدي للأدوات العقلية المستخدمة في ميدان العلم، وشحذ هذه الأدوات من آنٍ لآخر. وبينما العالم كان في بعض الأحيان يقدم أدلة يحاول بها الدفاع عن طريقته الخاصة في استخدام مفهوم معين أداةً في بحثه، فقد كان على وجه العموم يشعر بالامتنان لهذا التحليل، بل لقد ظهر اتجاه متزايد من جانب العالم لترك هذه المهمة طواعية لصديقه المحلل، معترفًا بأنها ستكون في أيد أمينة؛ ذلك لأن الفيلسوف قد اكتسب خبرة طويلة في معالجة الألفاظ المجردة — بل إنه نادرًا ما يتعامل مع أي شيء غيرها — ومن هنا فهو قادر على القيام بهذا التحليل بوصفه خبيرًا متمكنًا.
وسوف تتاح لنا الفرصة في فصلٍ تالٍ، عندما نبحث في العلوم البيولوجية عامة وفي نظرية التطور خاصة، للقيام بتحليل كامل لمفهومين رئيسيين للعلم (هما «الحياة» و«التطور»). والأفضل ألا نحاول تقديم أي مثال للعملية التحليلية حتى نصل إلى هذه المرحلة في العرض الذي نقدمه. ذلك لأن أي مثال نأتي به في هذه الآونة لا بد أن يطيش عن هدفه. إذ سيبدو بسيطًا إلى حد التفاهة في نظر الطالب ذي التكوين العلمي المتين، كما أنه سيبدو على الأرجح مفرطًا في التجريد إلى درجة الاستغلاق التام في نظر الطالب الذي يفتقر إلى أي تكوين علمي. ومع ذلك فليس من المحتمل أن ينتهي أي قارئ من هذا الكتاب دون أن يكون قد فهم ما نعنيه عندما نتحدث عن الفيلسوف بوصفه ناقدًا أعلى أو محللًا أعلى؛ ذلك لأننا، ابتداء من الفصل القادم، سنقوم بتحليلات كهذه طوال الكتاب، على حين أن القسم الأخير الخاص بالله والخلود سيكون بأكمله ذا طابع تحليلي. وحسبن الآن أن يكون القارئ قد كوَّن في ذهنه فكرة معينة عن الوظيفتين المتضادتين اللتين تؤديهما الفلسفة في علاقتها بالعلم. ولا بد أن تؤدي الصفحات القليلة التي تمس المشكلات المشتركة بين الفلسفة وبين جاريها الرئيسيين إلى تعميق هذا التضاد وإيضاحه.