الفصل الثالث
المثالية: العالم ملائم لنا
لا بد أن القارئ قد أدرك الآن أن الفلسفة ليست بالموضوع الهين. فهو قد اكتشف أنه حالما
تبدو المشكلة وكأن حلها بات وشيكًا، فإن فروعًا جديدة تظهر لها. وهذه تؤدي فورًا إلى
مشكلات
أخرى لم تكن تخطر من قبل ببال أحد ثم تؤدي هذه إلى غيرها. ولقد وصف الفيلسوف «بالرجل
الذي
يسأل دائمًا السؤال المقبل»، وبأنه هادم اللذات يحطم كل حل يبدو قريبًا بقوله: «نعم،
ولكن
…» أو «ومن جهة أخرى …» أو «هذا صحيح، ولكن ألا يترتب عليه …؟» والواقع أن الفلسفة بالفعل
موضوع معقد، وربما كانت أعقد مما يتصوره القارئ. وفي وسعنا عند هذه النقطة أن نعكس عبارة
هاملت المشهورة «في السماء والأرض، يا هوراشيو، أمورٌ تزيد على ما تحلم به فلسفتك» بحيث
تصبح في الفلسفة أمورٌ تزيد على ما يحلم به معظم الطلاب المبتدئين. فالفلسفة، بوصفها
تلك
الدراسة العامة أو العلم العام الذي يسعى إلى أن يدمج في ذاته كل الدراسات والعلوم الأخرى
ويلخصها في داخله، لا تجد لها مفرًّا من أن تكون معقدة. فإذا شئنا أن ندرك على نحو صائب
مدى
ثراء هذا الموضوع وتعقده، فسيكون من الضروري القيام ببعض التبسيطات التمهيدية الشديدة.
فلا
بد لنا من أن نخاطر بإغضاب الفلسفة؛ وذلك بأن نتجاهل الفوارق ونغفل التمييزات، بحيث لا
نبقي
إلا الهيكل اللازم للتصنيف؛ ذلك لأننا الآن على استعداد لخوض ذلك البحر الواسع المتلاطم
من
«المدارس» الفلسفية. ولقد كنا حتى الآن حريصين على ألا نورد — إلا في حالة الضرورة القصوى
—
أية إشارة إلى وجود هذا البحر العاصف الذي كنا نتبادل الحديث ونحن واقفون على شاطئه.
ولكن
هدير الأمواج المتلاطمة وتيارات الفكر المتصارعة قد أصبح الآن ملحًّا إلى حد لم يعد من
الممكن معه الاحتفاظ بموقف التجاهل إزاء صراعها هذا.
تاريخ الفلسفة بوصفه صراعًا بين تيارين فكريين رئيسيين:
يمثل هذا الفصل، والفصل التالي، محاولةً للنظر إلى الفلسفة نظرة جامعة مبسطة. وسيكون
معنى
ذلك — كما هي الحال في كل تبسيط شديد آخر — حذف كثير من الفوارق ومحو الحدود بين المدارس
الصغرى. ومن الممكن إضافة هذه العناصر المحذوفة فيما بعد — كلما دعت الحاجة إليها. أما
الآن
فحسبنا أن ندرك بوضوح وعلى نحو دائم، التقابل الأساسي بين الحركتين الميتافيزيقيتين
الكبريين.
وبعبارة أخرى فإن الصورة التي سندركها ونحن ننظر من
مكاننا المرتفع إلى أسفل، ستكون أشبه بخريطة للمحيطات توضح عليها الاتجاهات الرئيسية
للمياه، كتيار الخليج والتيار الياباني. وفي هذه الحالة، لا يحاول واضع الخريطة أن يبين
كل
تنوع في متوسط الحركة التي تحدث طوال العام. بل إنه حيث يتلاقى تياران رئيسيان، تصور
الخريطة اتحادهما بأنه هادئ تم بلا أي عنف تقريبًا. أما الدوامات والحركات العنيفة التي
يسفر عنها هذا الالتقاء، فلا يشار إليها إلا إشارة عابرة، وقد تُغفَل تمامًا. ومع ذلك
فلو
أتيح لنا أن نعبر هذا المحيط ملاحةً، لكان الانطباع الذي يتكون لدينا مختلفًا كل الاختلاف
عن تلك المنحنيات البديعة المنسابة التي رسمها صانع الخريطة، بل إن إحساسنا بالمظهر السطحي
للمحيط يطغى علينا إلى حد لا نصدق معه أن هناك أي اتجاه عميق ثابت للحركة في هذا المكان.
وهكذا نجد تعقدًا متصارعًا حيث أظهر لنا صانع الخريطة وعالم البحار بساطة منسابة. ومع
ذلك
فكلٌّ من الطرفين على صواب. إذ إن الصورة نسبية لوجهة النظر.
وسنحاول في هذا الفصل والفصل التالي أن نُحاكي صانع الخرائط. وفيما بعد، سنُقدِّم
عرضًا
نُفصل فيه إلى حدٍّ ما ذلك التبسيط الشديد الأول. وسيكون لزامًا علينا أن نوضح أهم التيارات
الفرعية على الأقل. أما في البداية، فسنبحث أولًا أهم حركتين. ولنغير الاستعارة التي
كنا
نستخدمها مؤقتًا فنقول إننا في دراستنا لهاتين المدرستين سنحاول إيجاد تقسيم في مجال
الفلسفة له من الأهمية في هذا الموضوع ما لفكرة الشحنات الإيجابية والسلبية في الفيزياء
الحديثة؛ ذلك لأن هاتين المدرستين هما الدعامتان الرئيسيتان للتفكير الفلسفي، وحولهما
تتحرك
معظم المدارس والمفكرون الأفراد فيها.
(١) وجهة النظر العامة للمثالية
إن نظرةً واحدةً نلقيها على تاريخ الفكر في الحضارة الغربية لكفيلة بأن تبين لنا
أن
المثالية كانت، على الأرجح، أكثر الفلسفات شيوعًا وأعظمها أهمية. ولقد انتشرت هذه
الفلسفة في العصور الحديثة بوجه خاص، وامتد تأثيرها إلى حد أن الطالب المبتدئ كثيرًا
ما
تتملكه الدهشة حين يكتشف أن «المثالية» و«الفلسفة» ليسا لفظين مترادفين. ولقد كان مركز
السيطرة الذي احتلته هذه المدرسة، مقترنًا بما لقيته من قبول لدى جميع أنواع السلطات
السائدة مؤديًا إلى أن تبدو منافستها الكبرى، وهي المذهب الطبيعي
Naturalism كما لو كانت دخيلًا أقحم نفسه في حديقة
الميتافيزيقا، أو قريبًا فقيرًا تسلل إليها. وكان من الأسباب التي أدت إلى احتلال
المثالية مركز السيطرة هذا، وجود نقاط اتصال وتقارب بين آرائها وآراء المسيحية، وكان
منها أيضًا ذلك الموقف التفاؤلي من الحياة والعالم، الذي كانت تتميز به العقلية
الغربية. وأيًّا ما كان المصدر الذي أتى منه التأييد، فإن المثالية قد ظلت قائمة طويلًا
بوصفها، التراث الأرستقراطي في الفلسفة، ووجد أنصارها أوسع استجابة ممكنة.
وليس معنى ذلك أن المثالية لا تتضمن في ذاتها من المزايا ما يعلل سيادتها على الفكر
الغربي، بل إن الأمر على عكس ذلك تمامًا، فتعاليمها تلقى استجابة قوية من العقل
والعاطفة معًا، وقد كان بين دعاتها مجموعة من أقدر المفكرين الذين ظهروا بين البشر وهي
فضلًا عن ذلك ترضي العقل والقلب معًا على نحو قد تعجز عنه أية نظرة أخرى إلى العالم.
ولما كان هذا الإرضاء المزدوج هو ما ينتظره معظم الناس من الفلسفة، فإن تأثير المثالية
وحيويتها قد يظلان باقيين بحق، بل إن خصوم المثالية أنفسهم يعترفون عادةً بأنها تتم،
بوصفها صياغة ميتافيزيقية، بجلال يبهر النفوس.
الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية: فما هي الآراء
الرئيسية لهذه المدرسة الفكرية؟ إذا تجاهلنا مؤقتًا كل المدارس الفرعية المتباينة،
وأرجعنا المثالية إلى ماهيتها الأصيلة، كانت هي الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية ذات
طبيعة نفسية أو روحية، وأن الكون تجسُّد للذهن أو الروح. فالمثالية ترى أننا إذا شئنا
أن نكتسب أوضح تبصُّر بطبيعة الواقع، فلزام علينا ألا نبحث في العلوم الفيزيائية، بما
فيها من اهتمام بالمادة والحركة والقوة، ومن إلكترونات وبروتونات وما شاكل ذلك، بل إن
من واجبنا أن نتجه إلى الفكر والعقل وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري. وليس
معنى ذلك أن الصورة التي يقدمه إلينا العلم عن العالم فيها أي شيء من الخطأ — بل إن من
الجائز أنها صحيحة جدًّا، وفي حدودها الخاصة، غير أنها ناقصة. فالعلم يدع جانبًا كثيرًا
من الأمور التي يراها المثالي ضرورية لكي تكون الصورة صحيحة أو كاملة. مثال ذلك أنه
يحذف الاعتبارات المتعلقة بالقيمة بل إنه لا يكاد يعترف بوجود ما يعد (من وجهة نظر
المثالي) أهم شيء في الكون — وأعني به الشخصية. وفضلًا عن ذلك فالعلم، بما يتسم به من
موضوعية ولا شخصية كاملة، لا يملك أن يتجنب تقديم صورة مشوهة لطبيعة الأشياء. فهو
يتجاهل بالضرورة أهم عنصر في المعرفة أو التجربة: وهو الذهن أو الأنا المجرب: ذلك لأن
من الواضح أن كل إدراك أو معرفة يقتضي ذاتًا عارفة، غير أن العلم يتجاهل هذه الحقيقة،
والمذهب الطبيعي ينكر أهميتها القصوى. أما المثالية فترى أن هذه الذات العارفة المجربة
هي مصدر كل معنى وقيمة، بل مصدر كل وجود. ومن هنا فإن أي مذهب لا يتخذ من الذهن أو
الذات العارفة دعامة رئيسية، ينبغي بالضرورة أن يقدم صورة ناقصة (إن لم تكن باطلة) عن
الحقيقة.
ومن الواضح أن مثل هذا الكون الذي يكون فيه لب الحقيقة ذهنيًّا أو روحيًّا، لا
ماديًّا، هو نظام للعالم وثيق الصلة بالإنسان وأعماله، وأمانيه ومُثله العليا. فهو عالم
يقدم للفرد تأكيدًا بأن له رسالة، وبأن البيئة الكونية تعطف على جهود الإنسان في سبيل
تحقيق هذه الرسالة. فالمثالية هي نظرة إلى «الأشياء كما هي»، تجعل من العالم مكانًا
نستطيع أن نشعر فيه بعلاقة وثيقة بيننا وبين الكون. في مثل هذا العالم نشعر بأننا في
وسط ملائم لنا عقليًّا وعاطفيًّا؛ إذ إننا نحن وبيئتنا جزء من نظام كوني واحد، ومصدرنا
هو نفس «الذهن» أو «الروح».
ومن الأفكار المثالية الأساسية الأخرى، الاعتقاد بأن أذهاننا والعالم الفكري الذي
تتحرك فيه ترتبط بالواقع على نحو وثيق وذي دلالة خاصة. ففي نشاطنا العقلي أو الذهني
نقترب كل الاقتراب من تلك «الفاعلية» الشاملة التي تشكل الكون. فإذا شئنا أن نعلم ما
يكمن في قلب العالم، فعلينا أن نتأمل داخل أنفسنا. ففي أذهاننا ونفوسنا نحن، وفي طبيعة
الشخصية الإنسانية، نجد أوضح تعبير عن طبيعة هذه «الفاعلية» الشاملة.
النتائج الرئيسية للمثالية: هذا التوازي الخاص بين
أذهاننا وبين الواقع له عدة نتائج هامة، وهذه النتائج هي التي تكسب المثالية أقوى
جاذبية لها بين الناس. ذلك لأننا نستطيع أن نفترض أولًا. على أساس الحقيقة القائلة إن
أذهاننا المتناهية تعمل على أساس المنطق والنظام والإحكام، أن «الذهن المطلق» يعمل على
نفس النحو. ولما كان الكون تجسدًا أو خلقًا لهذا «الذهن» فلنا أن نتوقع أيضًا أن تتكشف
بيئتنا الطبيعية عن نفس خصائص النظام والإحكام والمنطق. ومن هذا التوازي نستطيع أن
نفترض أن الكون في أساسه يتسم بالمعقولية؛ إذ إنه لما كان هذا الكون من خلق العقل
الشامل، فمن الطبيعي أن تكون المعقولية متغلغلة في تركيبه الأساسي. وأخيرًا، نستطيع أن
نفترض من هذه المعقولية والقابلية للفهم، أن أذهاننا البشرية قادرة على التعامل مع
العالم الذي نعيش فيه. فذهننا قادر على فهم العالم لأن كليهما معقول في أساسه، وكلاهما
معقول لأنهما يعتمدان على «العقل» الكوني.
(٢) التمييز بين «المظهر» و«الحقيقة»
إلى هذا الحد وجدنا المثالي يبني حججه على أسس منطقية خالصة. فهذا القدر من مذهبه
مستخلص من المصادر الأصلية، وهي أن الكون تجسد «للروح» أو «الذهن». والآن، بعد أن أثبت
ذلك، نراه يقفز إلى نتيجة جريئة. فلما كان الكون معقولًا ومفهومًا، فلا يمكن أن يكون
فيه اضطراب أو لامعقولية أو تنافر دائم. فهو ليس معقولًا فحسب، وإنما هو كل معقول.
فالذهن يعمل في جميع أرجائه، ولا يمكن أن يظل ركن أو جزء من الكون الذي يكمن فيه العقل،
بمنأى عن تأثيره الطاغي.
ولكن، مهما تكن هذه النتيجة لازمة منطقيًّا من المصادرة المثالية الأساسية المتعلقة
بالطبيعة الذهنية للواقع، فمن الواضح أنها ليست مستمدة من التجربة اليومية التي يمر بها
الرجال والنساء في حياتهم. فاتصالنا اليومي المباشر بالعالم المحيط بنا يكشف لنا عن أمر
واقع لا تكاد تربطه صلة بهذا الفرض النظري الجريء؛ ذلك لأن الحياة تبدو في نظر الإنسان
خليطًا مضطربًا من التقدم والتدهور، والانتصار والهزيمة، والحرب والسلام، والجوع
والوفرة، والطبيعة العطوف والطبيعة المعادية إلى حد التوحش. وفي حياة الفرد، تكون
معقولية الكون وقابليته للفهم أقل حتى من ذلك: فالإحباط والألم والهزيمة تحتل في
تجربتنا مكانةً لا تقل عن مكانة النجاح والسعادة والانتصار، بل إن أنجح حياة وأكثرها
تنظيمًا، تكشف عن جوانب كبيرة من المعاناة التي لا يبدو لها هدف، ومن الألم الذي لا
يبدو له معنى. كذلك فإن أكثر أجزاء طبيعتنا معقولية، وهو ذهننا، يخفق بدوره في تحقيق
هذا الشرط النظري كاملًا. فخبرته في التبرير (أي في الاهتداء إلى أسباب جيدة لإيجاد
مبرر لأفعال أنانية أو شهوانية) لا تقل عن خبرته في الاستدلال العقلي، ونحن — بوصفنا
أفرادًا — لا نكون مخلوقات عاقلة إلا في أوقات قليلة غير منتظمة. أما الحياة الأقل
نجاحًا وتنظيمًا فهي عادةً صراع بين اللذة والألم، فالحياة لا تكاد تكون محتملة بالنسبة
إلى جزء كبير من الجنس البشري، وهناك ملايين لا يحول بينهم وبين الانتحار إلا إرادة
حياة غريزية عمياء، وأمل خادع يعللهم دائمًا بغدٍ أفضل لا يأتي أبدًا.
أهمية التمييز: إزاء هذه الحقيقة الأساسية للحياة
البشرية، يكون لنا أن نتوقع من المثالي دعم موقفه بشيء آخر إلى جانب التجربة المباشرة،
إذ إنه أكثر الناس شعورًا بأن كسب المناقشة ينبغي أن يكون على أسس أخرى غير هذا الأساس،
ولا يمكن أن يهيب المرء بالتجربة عندما تكون الشواهد المستمدة من هذا المصدر غير قاطعة
على أحسن الفروض، وسلبية إلى أبعد حد على أسوئها. وهكذا فإن المثالي، لكي يواجه مشكلة
إثبات أن الكون معقول ومنسجم على الرغم من كل الشواهد المضادة، يضع أولًا تمييزًا له
أهمية كبرى في تفكيره، وأعني به التمييز بين المظهر والحقيقة.
هذا التمييز يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدر كبير من تجاربنا الشائعة. فالمثالي يؤكد مدى
الخلط الذي نقع فيه بين المظهر والحقيقة؛ إما نتيجة للإهمال في الملاحظة، وإما لعدم
كفاية التفكير. كذلك فإننا كثيرًا ما نظن أننا قد تغلغلنا من وراء المظاهر السطحية
للأشياء، ونفذنا إلى ما نعتقد أنه هو الحقيقة ذاتها ثم نجد أن هذه الحقيقة الموهومة
ليست إلا مظهرًا لحقيقة أعمق منها وأهم — ونظل نسير هكذا حتى يكون لدينا سلم كامل من
«الحقائق» التي لا يكون كلٌّ منها إلا «مظهرًا» لحقيقة أعمق. غير أن كل سلم كهذا ينطوي
ضمنًا على نقطة نهائية من نوع ما. ومن هنا يظهر حتمًا السؤال: ما هي الحقيقة النهائية؟
ألا يجوز أنها شيء يختلف تمامًا عن المظهر السطحي «للأشياء كما هي»؟ وفضلًا عن ذلك،
فلما كان من الممكن أن نخطئ كثيرًا في تجربتنا اليومية، فهلا يجوز (بل يرجح) أن نكون
قد
ارتكبنا خطأ جسيمًا في حق الواقع الحقيقي إذا ما تركنا الاضطراب واللامعقولية الظاهرَين
في العالم يؤثران فينا؟
من الضروري أن نوضح أن المثالية تتجاوز بكثير ذلك التمييز الذي نقول به في موقفنا
الطبيعي دائمًا بين المظهر والحقيقة. عندما نقول مثلًا أن منظرًا مسرحيًّا يظهر كأنه
شارع في مدينة، اصطفت على جانبيه الأبنية، ولكنه في الحقيقة قطعة من القماش المرسوم،
فإننا نقارن شيئًا ماديًّا ملاحظًا (هو القماش) بشيء آخر ملاحظ أو قابل للملاحظة، هو
الشارع. وهكذا فإن التقابل الذي نضعه بين المظهر والحقيقة يظل داخلًا في إطار التجربة،
ويكون كلٌّ من طرفَي هذا التقابل تجريبيًّا بنفس المقدار، وقابلًا للبحث والتحقيق بنفس
المقدار أيضًا؛ فمن الممكن إصدار أحكام لها معناها، وقابلة للاختيار، عن كلٍّ منهما،
ومن الممكن تحقيق هذه الأحكام. وباختصار فالمظهر والحقيقة هما معًا. في هذه الحالة،
وقائع في التجربة.
ولكن المثالية تقوم بتمييز أعمق وأجرأ بكثير —
وأعني به التمييز بين العالم التجريبي أو القابل للملاحظة («المظهر») وبين «الحقيقة»
الترنسندنتالية أو غير التجريبية. ومعنى ذلك أن المثالي على استعداد لأن يضفي على شيء
ليس غير ملاحظ فحسب، بل هو أيضًا غير قابل للملاحظة، قدرًا من الحقيقة يفوق ذلك الذي
ينسبه إلى العالم المادي الذي نعيش فيه. ومن الواضح أن هذا هو عكس الرأي الذي نقول به
في موقفنا الطبيعي، وهو الرأي القائل إن الأشياء المادية هي أكثر الأشياء التي نعرفها
حقيقة، وهي التي يبدو أي شيء «ذهني» أو «روحي»، بالقياس إليها، أشبه بالمظهر. ومن
المؤكد أن الجرأة التي تنطوي عليها هذه الفكرة تضفي على المثالية، في نظر أناس عديدين،
قدرًا كبيرًا من سحرها وجاذبيتها.
(٣) مشكلة الشر
تستخدم المدارس الفرعية المختلفة، المنتمية إلى
المذهب المثالي، أساليب مختلفة في تفسير هذا التعارض بين المظهر والحقيقة. ومن المهم
أن
نختبر بعضًا على الأقل من أهم هذه المدارس الفرعية؛ إذ إن إجاباتها ستكشف لنا الكثير
عن
المثالية بوجه عام. ومع ذلك فلما كانت هذه المشكلة الضخمة تتداخل مع مسألة أخرى أوسع
انتشارًا بين الناس بكثير، ويتعين على المثالية مواجهتها، فإن من المستحسن بحث الأمرين
معًا. هذه المسألة الأوسع انتشارًا هي «مشكلة الشر» المشهورة التي هي دون شك أصلب
بندقية يتعين على أي مذهب مثالي كسرها.
والمشكلة باختصار هي: إذا كان الكون هو تجسُّد
«الذهن» أو «العقل» فكيف حدث أن تجربتنا تكشف لنا الكثير مما هو لا معقول ولا مفهوم؟
وكيف يحدث أننا كثيرًا ما نضطر إلى التوفيق بين ما هو بوضوحٍ اتفاقٌ أعمى أو مصادفة
أليمة، وبين الغاية العاقلة التي يفترض أنها تكمن من وراء ذلك كله؟ ولو كان نظام
الأشياء معقولًا بحق، أكنا نجلس الآن في هذا المكان نتصارع مع مشكلة الشر؟ إننا لا نسمع
قط عن «مشكلة الخير»، مع أن لنا الحق — منطقيًّا — أن نتوقع، في ذات الكون الذي هو
معقول في جميع أرجائه، ألا يكون هناك شرٌّ يقتضي تفسيرًا، بل إن الأصعب من ذلك تلك
الصورة الخاصة لهذه المشكلة الكبرى، وهي الصورة التي يتعين على كل الأديان مواجهتها —
وأعني بها: لو كان الله ذا قدرة شاملة وحكمة شاملة، ولكن ليس ذا خير شامل، لأمكننا أن
نفهم وجود مثل هذا العالم الذي نعيش فيه بالفعل، أو لو كانت لديه أسمى حكمة وخيرية،
ولكن مع قدرة محدودة، لأمكننا أن نفهم ذلك أيضًا. ولكن كيف نوفق بين وجود إله لا متناهٍ
وبين حقيقة الشر؟ إما أنه لا يكترث وإما أنه يكترث ولكن لا حيلة له في الموقف على
الإطلاق. وهناك احتمال ثالث هو أن تكون لديه الحكمة الضرورية اللازمة، ولكن سلطته
محدودة، مما يجعله يعمل بالتدريج على محو الشر، ولكن هذا بدوره يقتضي لتحقيقه آمادًا
هائلة من الزمان.
بعض الإجابات الدينية: يرى التوحيديون المؤمنون بإله
مشخص ولكنه لا نهائي، أن المشكلة تقتضي بالضرورة تحليلًا مطولًا لطبيعة الألوهية،
والعلاقات بين الله والكون الذي خلقه … إلخ. وسوف نبحث كثيرًا من هذه التحليلات في
الفصلين الأخيرين، ولكن يكفينا هنا أن ننظر إلى الإجابات التي يقدمها الإنسان في موقفه
الطبيعي على هذه الأسئلة المحيرة. إن أوضح جواب وهو قطعًا أوسع الإجابات انتشارًا — هو
أن «زمان الله هو الأفضل». فهو يعلم ما يفعله، وما هو أفضل لعالمه وكل المخلوقات فيه.
ومن المسلَّم به أن أساليبه ليست أساليبنا، وزمانه ليس دائمًا زماننا، ولكن سوف يتضح
لنا في آخر المطاف، عندما يكون كل شيء مفهومًا، وعندما نتمكن من أن نرى كل شيء في ضوئه
الحقيقي، أن شكنا في عدم اكتراث الله أو عدم قدرته أمر لا مبرر له. وعندئذٍ سنرى أن
«مظهر» الأشياء هو وحده الذي خدعنا، أما «الحقيقة» (التي كان يعرفها بالطبع منذ البداية
إله عالم بكل شيء) فكانت معقولة، مفهومة، خيرة، وبالاختصار، فصاحب هذا المذهب في
الألوهية يرى، مثلما يرى المثالي، أن المشكلة الحقيقية هي أن نخترق حجاب أي المظاهر
وننفذ بأنظارنا إلى الحقيقة.
على أن هناك ثلاثة حلول رئيسية لمشكلة الشر واللامعقولية الظاهرَين في العالم. ففي
استطاعتنا أن نتخذ موقفًا متطرفًا ونقول إن ما يسمى بالشر ليس إلا خطأ في أذهاننا نحن.
ففي الذهن الإلهي أو اللامتناهي، لا يمكن أن يوجد إلا الخير والحق، بحيث إن أي خطأ أو
شر لا بد أن يكون ناتجًا عن أذهاننا نحن المتناهية الفانية. وكل ما علينا هو أن نطرح
جانبًا فكرة الشر (ما دامت لا توجد إلا في أذهاننا) لكي نمحو تحقيق الشر؛ ذلك لأن
الفكرة والتحقق هنا شيء واحد. والحل الثاني لمشكلة الشر أقل تطرفًا وأقرب إلى «الذهن
العادي». في هذا الحل يعترف بحقيقة الشر، ولكن يقال إننا لو نظرنا إلى الأمور من منظور
طويل الأمد؛ أي إذا تعلَّمنا أن نرى الأشياء «من منظور الأزل» — لأدركنا أنه مهما تكن
أصالة الأمم والشقاء والحمق الموجود في العالم، فإن هذه الأمور تتناقص بالتدريج. ومن
الممكن أن يسمى هذا بالموقف التاريخي من المشكلة. فأنصار هذا الموقف يؤمنون بالتقدم،
ويرون أن في استطاعة الإنسان، باستخدام العقل وجهوده الخاصة، أن يعجل مسيرة التقدم
ويمضي بحركته إلى تحقيق نتائج لا حد لها، من بينها محو الكثير مما نعده الآن شرًّا.
وتُعرف وجهة النظر هذه باسم «مذهب التحسن
Meliorism»؛
أي المذهب القائل إن الأمور قابلة لأن تنصلح. ويوحي هذا المذهب في الدين — حيث تدعو
إليه كثير من الكنائس المتحررة اليوم بأن الله يحتاج إلى مساعدتنا في الكفاح، وبأن
الحياة (وربما العملية الكونية بأسرها) تمثل صراعًا لا يرحم بين قوى الخير وقوى الشر.
في هذا الصراع لا بد من تجنيد كل مقاتل، وفيه يساعد اختيار الخير على قطع دابر الشر من
جذوره. وباختصار، فالشر حقيقي بالفعل، غير أن حقيقته ستزول بانتصار الخير بمضي الوقت،
وهو انتصار يمكن تحقيقه بتضافر الجهود بين الله والإنسان.
١
(٤) الأفلاطونية
هناك وجهة نظر تقع بين التفسيرين الدينيين (اللذين هما في أساسهما عمليان) للعلاقة
بين المظهر والحقيقة، وهي وجهة نظر لها أهمية ميتافيزيقية أعظم بكثير. تلك هي
الأفلاطونية، التي هي مذهب من أسمى ما أنتجه النظر الفلسفي. وعلى الرغم من أن تفكير
أفلاطون ليس مثاليًّا بالمعنى الدقيق، ما دام للعناصر الأساسية في مذهبه وجود خارج عن
الذهن (أما مسألة كونها ذات طبيعة روحية أو مادية أم منطقية فحسب، فهي من المسائل التي
تثير أعظم الجدل في تاريخ الفلسفة)، فإن الأفلاطونية تتميز مع ذلك بسمات متعددة تتضح
في
المثالية المحدثة. وهي تمثل المزاج والموقف العام لهذه المدرسة الكبيرة تمثيلًا
جيدًا.
يشيد أفلاطون مذهبه على أساس التقابل بين المظهر والحقيقة، وهو التقابل الذي نناقشه
الآن. فالطبيعة الحقيقية لأي شيء هي في نظره «الفكرة» التي تتجسد في هذا الشيء. وهو
ينظر إلى هذه الأفكار أو الماهيات على أن لها وجودًا مستقلًّا وحقيقة أرفع، بل إنها هي
الحقيقة بعينها، أما الأشياء المادية فتقتصر على أن تعكس أو تحاكي هذه الحقيقة القصوى،
التي هي ماهية الشيء المادي وأنموذجه الأزلي الثابت في نفس الآن. وهكذا يوجد، من وراء
قناع التجربة الحسية، عالم مثالي من الماهيات. ومن هذا المجال الأعلى تأتي كل حقيقة:
وكلما كان الشيء أكثر تجسيدًا «للفكرة» أو «المثال» الكامن من ورائه، كان له مزيد من
الحقيقة.
٢
مستويات للحقيقة: غير أن هذا كله عرضٌ مركَّز مجرد؛
ولذا سنقوم بتحليله وتخفيفه إلى حد ما. فأفلاطون يقول بوجود مستويين أو حالتين للحقيقة؛
أولهما هو الحقيقة الواضحة التي لا تنكَر في الموضوعات اليومية الملموسة؛ أعني حقيقة
الكراسي والصخور والأشجار والجبال والكائنات الحية. غير أن الوجود على هذا المستوى لا
يمثل الحقيقة بمعناها الصحيح، بل إن هذه الحقيقة الحقة إنما تكمن من وراء قناع الحقيقة
الظاهرية، وتستقر في عالم أعلى. (ولا يفصح أفلاطون بوضوح عن رأيه في المكان المحدد لهذا
العالم الأعلى، إلا لكي يوحي بأنه في مكان ما «في السموات العليا»). هذا العالم يكون
نظامًا مثاليًّا للماهيات الأزلية، التي توجد في سلم متدرج مبني على مبادئ أخلاقية
ويسوده مثال الخير. ولكن ما هي هذه الماهيات الأزلية المثالية، وما علاقاتها بهذا
العالم اليومي الأدنى للأشياء المادية أو الطبيعية؟ يطلق أفلاطون على هذه الأحوال
المثالية للحقيقة اسم «المثل» أو «الصور» Forms على
التخصيص، وقد أصبح اللفظ الأخير هو المفضل في اللغة الإنجليزية. غير أن لكلمة «الصورة»
عدة معان، أحدها مضاد تمامًا لمقصد أفلاطون. فكثيرًا ما يكون المقصود من اللفظ هو الشكل
الخارجي أو التخطيط العام للشيء؛ أعني قسماته الكلية أو مظهره العام. غير أن هذا اللفظ
في نظر أفلاطون، يعني التركيب الباطن أو الفكرة المحدودة التي تتجسد في الشيء. فكيف
يكون الشيء شيئًا؛ أعني مثلًا كيف يكون البيت بيتًا؟ هذا هو السؤال الذي تستطيع الصورة
أو المثال الإجابة عنه بأن تعرض ماهية الشيء. وبذلك تكون صورة البيت هي خطته أو تصميمه
أو تنظيمه، وهذا التصميم أو التنظيم يتكشف في مجموعة من اللوحات الهندسية أكثر مما
يتكشف في نموذج أو سلسلة من المقاطع الأمامية والجانبية، أو حتى في الصورة الفوتوغرافية
للمبنى الكامل؛ ذلك لأن الصورة الأفلاطونية هي دائمًا الفكرة غير الملموسة، أو التصور.
الذي قد يتجسد أو يتمثل جزئيًّا في الأشياء المادية، ولكنه لا يمكن أن يتحقق فيها
كاملًا.
وعلى ذلك فإن عالم الحقيقة الحقة هو عالم من الصور التي هي أزلية ثابتة كاملة. فتلك
هي نماذج كل فئات الأشياء الأرضية أو أنواعها. ويرى أفلاطون أنه لا يوجد شيء ليست له
صورة مناظرة له، يستمد منها ما له من حقيقة.
الصور بوصفها تصورات: العلاقة الأساسية بين أي
موضوع وبين صورته هي ذاتها العلاقة بين المدرك الحسي
Percept وبين التصور الذهني
Concept المناظر له؛ أي بين شيء عيني يمر بتجربتنا،
وينتمي إلى فئة أو نوع (يدل عليه اسم مشترك، كالكتاب أو الكرسي أو الكلب، إلخ) وبين
فكرتنا أو تصورنا الخاص بهذه الفئة. فنحن مثلًا قد رأينا جميعًا مئات من الكتب. ولكن
في
ذهن كلٍّ منا، بغضِّ النظر عن صورة أي كتاب محدد أو انطباعه في الذاكرة، فكرة عن
«الكتاب بوجه عام»، أو الكتاب مجردًا. هذه الفكرة هي التي تطرأ فورًا على الذهن لو كان
قد سألنا أحد: «ما الذي يجعل الكتاب كتابًا بوجه عام؟» وهذه الفكرة تسمى
«تصورًا».
هذا التصور أو «الشيء في ذاته»، كما هو في حقيقته مجردًا عن كل الصفات العرضية، هو
في
الميتافيزيقا الأفلاطونية صورة أو مثال. ولقد كانت مشكلة التحديد الدقيق لمكانة
التصورات من المشكلات الرئيسية في التاريخ الطويل للفلسفة، ويمكن القول إن فلسفة العصور
الوسطى قد تركزت كلها تقريبًا في خلاف لا نهاية له حول مسألة كون التصورات ذات وجود
حقيقي خارج الذهن. فهناك مدرسة كانت ترى أن «الكتاب» فكرة لها وجود فعلي منفصل ومستقل
عن أي كتاب مادي وعن كل الكتب المادية. أما خصومهم فيرون أن أي تصور ليس إلا اسمًا؛ أي
أداة مريحة نصنعها لكي تتيح لنا التعامل مع فئة معينة من الأشياء التي تدخل في نطاق
تجربتنا. (ولنتصور ما يحدث لو كانت كل شجرة أو كلب نصادفه طوال حياتنا يحتاج إلى لفظ
مستقل يدل عليه). أما موقف أفلاطون في هذا الخلاف فهو محدد تمامًا؛ فهو ما زال أشهر
المدافعين عن أحد جانبَي هذا الخلاف وأقواهم تأثيرًا. ومذهبه كله يتوقف على الرأي
القائل أن التصورات (أو الكليات، إذا شئنا استخدام اللفظ الشائع في العصور الوسطى) لها
قدر من الحقيقة أكبر مما لأي شيء يمر بنا في تجربتنا الحسية. ولنقل، بلغة العلم
والرياضة الحاليين، إن أفلاطون كان يرى أن الفئة أكثر حقيقة من أفرادها.
والنقطة الرئيسية في المذهب الأفلاطوني هي أن الصور لا توجد فحسب بل إنها هي الحقيقة
الحقة الوحيدة. أما الأشياء الأرضية التي تتجسد فيها هذه الصور فما هي إلا «انعكاسات»
أو «ظلال» أو «نسخ محاكية» لهذه النماذج الأزلية، تتصف بقدر محدود من الحقيقة لا تكتسبه
إلا بالاستعارة، أو حسب التعبير الذي يفضله أفلاطون، بالمشاركة في المثال المناظر. وهنا
نجد فكرة كانت على الدوام من المعتقدات الأساسية للمذهب المثالي: هي أن الواقع تصوري
أو
عقلي؛ ومن ثَم فإن أفضل سبيل إلى فهمه هو من خلال العقل وتحليل أوجه نشاطنا الذهنية
الخاصة. فبنيان الواقع هو ذاته بنيان أذهاننا، وعن طريق نشاط عقولنا نحن في الفهم ووضع
التصورات، نستطيع أن نصل إلى أفضل إدراك لطبيعة الحقيقة القصوى.
نتائج الأفلاطونية: على الرغم مما يتسم به هذا
المذهب الميتافيزيقي العام الذي وضعه أفلاطون من أهمية في ذاته، فإنه ينطوي أيضًا على
نتيجة ضمنية لها أهميتها، وكان الشغل الشاغل للمثاليين منذ عهد أفلاطون هو إظهار
مكنوناتها. فإذا كان الوجود الحق يكمن في عالم من الصور المثالية أو الماهيات التي
ندركها عن طريق العمليات العقلية، فمن الواضح إذن أن التجربة الحسية وموضوعاتها تغدو
ذات أهمية ميتافيزيقية أقل نسبيًّا. والواقع أن مؤلفات المثاليين حافلة بالعبارات التي
تقلل من شأن الحواس وتزدريها، وتؤكد عجز التجربة الحسية عن كشف الحقيقة وعرضية
الموضوعات التي تعالجها الحواس في مقابل الطابع الثابت للمعرفة التي يكشفها لنا العقل.
ويذهب أفلاطون إلى حد وصف الحواس ونشاطها بأنها عقبة في طريق كشف الحقيقة، فالتجربة
الحسية حجاب بيننا وبين «الوجود» الحق؛ إذ إنها لا تستطيع أن تنقل إلينا إلا ما يحدث
في
عالم التغير أو «الصيرورة». وهكذا تسير المثالية في طريق مضاد لما يمكننا أن نسميه
بفلسفة الموقف الطبيعي، وهي الفلسفة التي ترى أن الصورة التي تقدمها إلينا حواسنا عن
«الأشياء كما هي موجودة» هي صورة صحيحة (في حدودها الخاصة على الأقل). ولا جدال في أن
مما يذهل الإنسان في موقفه الطبيعي أن يقال له إن عملياتنا الحسية ليست كافية فحسب، بل
هي أيضًا تحول إيجابيًّا دون فهم الطبيعة الحقيقية للأشياء. أما في نظر المثالي فإن هذه
النتيجة ليست منطقية فحسب، بل هي أيضًا نتيجة لا مفر منها.
(٥) الطابع الأخلاقي للمثالية
هذا الإعلاء المثالي للنشاط العقلي فوق التجربة الحسية، لا يبنى على أسس منطقية أو
معرفية فحسب، بل إن في معظم المذاهب المثالية، كما في الأفلاطونية طابعًا أخلاقيًّا
واضحًا يتسم به الجزء الأكبر من تفكيرنا. وكما رأينا من قبل فإن الصور المثالية عند
أفلاطون لا تمثل ماهيات فقط بل تمثل كمالات أيضًا، والصورة ليست متوسطات وإنما هي مُثل
عليا، وهذه المُثل العليا، هي التي يتوق الذهن إلى كشفها من وراء حجاب الحس. وبعد أن
يفهمها الذهن، يصبو إلى أن يحيا حياة قوامها ما في المثل من كمال، بقدر ما يتيح له ذلك
عبء الجسد وحاجز الحواس. هذه النغمة الرئيسية التي تصف البدن. بما فيه من حواس وشهوات،
بأنه عبء أو سجن أو مقبرة، تتكرر مرارًا في المذهب الأفلاطوني. وتوجد على الأقل أفكار
ضمنية مخففة من هذا النوع ذاته في كل مدارس الفكر المثالي. والنتيجة الحتمية لهذا
الموقف هي الميل إلى الثنائية. فتقسيم أفلاطون الأساسي للحقيقة إلى عالم مادي أدنى،
مستمد من غيره، هو عالم «الصيرورة»، وعالم أعلى من «الوجود» الحقيقي، يؤدي بسهولة إلى
نظرة إلى الحياة يكون الجسد فيها مقابلًا للنفس، والمادة مقابلة للذهن، والحس مقابلًا
للعقل. وفي كثير من الأحيان يترتب على ذلك مذهب زاهد أو مذهب تطهري
Puritanism من نوع ما، ويصبح الجسم، حتى برغباته
الصحية السوية، موضوعًا للارتياب الأخلاقي. وبطبيعة الحال فإن المسيحية، التي تنطوي على
ثنائية عميقة، قد وجدت تأييدًا فلسفيًّا كبيرًا في المثالية، على حين أن أفلاطون قد
أطلق عليه وصف «مسيحي قبل أربعمائة عام من المسيح».
مثال الخير: يبلغ مذهب أفلاطون قمته في صورة الخير.
وعلى حين أنه لا يعرف هذه الفكرة بدقة، فمن الواجب أن تُفهم بمعنًى أخلاقي عام. وهكذا
فإن المذهب بأسره قائم على دعامة من القيم. ومن الواضح أن أفلاطون، مهما يكن مقدار
اهتمامه بأن يثبت أن العالم المادي ليس إلا ظلًّا أو انعكاسًا لعالم معقول أعلى هو عالم
الصور، فإنه كان أكثر اهتمامًا بأن يثبت أن الكون مبني على أساس من القيم. وفي هذه
المحاولة للتوحيد بين الخير والحقيقي، كان أفلاطون مثاليًّا بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن
أمثاله من المفكرين يرون أن من المستحيل، حسب تكوينهم المزاجي الخاص، أن يتصوروا الكون
إلا على أنه مرتبط بالخير ومتجه إليه. وهناك مدارس فكرية أخرى تبدي استعدادها للاعتراف
بإمكان أن يكون الواقع محايدًا من الوجهة الأخلاقية، أو شرًّا في أساسه، غير أن أية
إمكانية كهذه تقع خارج حدود تصور المثالي. وهكذا نستطيع أن نتكهن بالإجابة التي سيرد
بها على ذلك السؤال الذي يعده بعض المفكرين أكثر الأسئلة الفلسفية إلحاحًا، ألا وهو:
هل
الكون في أساسه نظام أخلاقي، أم نظام آلي؟ هل الكون جهاز آلي هائل، يسير بطريقة لا
شخصية عمياء غير مكترثة، شأنه شأن أي جهاز آلي آخر؟ أم هو في أساسه بناء أخلاقي، تكون
للقيم والمثل فيه مكانتها العليا، ويكمن في قلبه الخير، لا العقل والغاية فحسب؟ إن
المثالي يذهب إلى أن الرأي الثاني هو وحده الممكن، وأية إجابات أخرى لا تؤدي فقط إلى
هدم مذهبه بأسره، بل هي في رأيه تكيل للآمال البشرية ضربات أشد. ذلك لأنه يشعر بأن
النظام الكوني الآلي كفيل بأن يقطع الطريق على كل هذه القيم التي لها أهمية عليا في
الحياة البشرية، والتي تشكل القوة الدافعة الأساسية لنشاطنا الروحي. ففي مثل هذا الكون
الآلي، تدور محاولات الإنسان لكي يعيش حياة خيرة ويحقق غاياته الأخلاقية في فراغ أخلاقي
هائل، ومثل هذا الكون إنما هو خواء لا يشعر على الإطلاق، ولا يكترث قط، بكل ما يهم
البشرية وأمانيها العليا.
الخير بوصفه كونيًّا: يتفق المثاليون من جميع
المدارس بوضوح على مسألة واحدة: هي أن أي نظام من القيم البشرية البحتة — أي الأخلاقية
في إطار النزعة الطبيعية مثلًا — لا يمكن أن تكون له غاية أو معنى. فقيمنا، ومُثلنا
العليا، لا تكون لها حقيقة إلا إذا كانت تستند إلى تأييد من الكون. أما لو كان نظام
العام آليًّا أو طبيعيًّا خالصًا، لكانت هذه القيم تتصف بنفس الفراغ وانعدام الدلالة
اللذين يتصف بهما الكون ذاته. وبالنسبة إلى البشرية ذاتها، فن مثل هذا الكون يجعل
الميتافيزيقا والأخلاق أسوأ من أن يكونا بلا معنى؛ فهما يصبحان فيه «دعابة أو مهزلة»
ضخمة. وباختصار، فالمثالية تجد أن من المستحيل التفرقة بين الأخلاق والميتافيزيقا. فلا
يمكن أن يكون لكفاحنا الأخلاقي، بل لقيمنا كلها؛ أي معنى إلا عندما نتأكد من أن لهما
علاقة بالكون في مجموعه. وسوف نرى بعد قليل ما يقوله المذهب الطبيعي في هذا الصدد ولكنا
نود أن نشير، خلال ذلك، إلى أن هذه النقطة هي التي يبلغ فيها التعارض بين المدرستين
الكبريين ذروته. فهذه المسألة أساسية بالنسبة إلى المثالية؛ ومن ثَم فلا مجال بها
للحلول الوسطى: فإما أن يكون الكون ملائمًا للإنسان وقيمه جميعًا، وإما أن تكون هذه
القيم دعابة ساخرة — أو مهزلة كونية. ويخلص المثالي من ذلك إلى القول بأن من المؤكد،
في
عالم كهذا، أن المُثل العليا تغدو شيئًا غير جدير بأن نموت في سبيله، بل إنها تغدو
شيئًا لا يستحق أن نعيش من أجله.
ويشير بعض الملاحظين المحايدين لهذا الخلاف بين
المثالية والمذهب الطبيعي أحيانًا، إلى أن الميتافيزيقي المثالي يبدو وكأنه يشيد مذهبه
وفي ذهنه هدف محدد مقدمًا: هو أن يصور الكون بحيث لا تكون القيم مأمونة فيه فحسب، بل
تكون القوى الكونية مشايعة لها. ويسارع خصوم المثالية باستغلال هذا الحكم المحايد،
بوصفه دليلًا على أن المثاليين أقل موضوعية من أصحاب المذهب الطبيعي، (وبالتالي فإنهم
مرشدون غير موثوق بهم كل الثقة في مجال الفلسفة). فخصوم المثالية هؤلاء يرون أننا لو
قررنا مقدمًا أي نوع من العالم سوف نجد، فهل يكون من المستغرب أن ينتهي بنا الأمر إلى
تكوين صورة رائعة عن عالم كهذا بالضبط؟ وهكذا فإن صاحب المذهب الطبيعي يتهم المثالي
بأنه ميال مقدمًا إلى عالم ضامن للقيم، على نحو يجعل منه شخصًا متحيزًا على أحسن
الفروض، ومتهمًا بالتفكير المغرض على أسوئها، وهو على أية حال شخص لا يعتمد عليه بوصفه
مصدرًا للحقيقة الفلسفية. والتحدي الذي يحب أنصار المذهب الطبيعي دائمًا أن يوجهوه في
هذه الحالة هو: «أين كان يصبح العلم لو كان قد استهدف غايات محددة مقدمًا، ومرضية
للمشاعر الذاتية كهذه؟» ولكن المثالي يرد على ذلك عادةً بقوله إنه ليس عالمًا، وإنه لا
يعترف بأن الموقف العلمي وعلم المناهج العام هما بالضرورة أفضل المصادر الموثوق منها
للحقيقة. ولكنا سنتحدث بمزيد من الإسهاب في هذه المسائل الخلافية عندما نتعرض للمذهب
الطبيعي في فصلنا التالي؛ لأن المسألة كما هو واضح أكبر وأهم من أن تعالَج
بإيجاز.
(٦) المثالية الذاتية
لا بد لنا أن نحرص على ألا يفهم القارئ مما نقول إن اهتمام المثالية مركز في فرع
الأخلاق وحده؛ إذ إن كثيرًا من الأفراد المعاصرين لهذه المدرسة يبدون اهتمامًا أعظم
كثيرًا بالمشكلات المعرفية والميتافيزيقية؛ لذلك فإننا سننتقل من «المثالية الأخلاقية»
عند مفكرين مثل أفلاطون إلى المثالية الأقرب إلى الطابع «الميتافيزيقي» (أو المعرفي)
عند مفكرين مثل باركلي وهيجل. ومن حسن الحظ أن عرضنا لتفكيرهم يمكن أن يكون أكثر
إيجازًا بكثير من عرضنا لتفكير أفلاطون. وليس ذلك راجعًا إلى أنهم أفراد أقل في هذه
المدرسة — فهم في نواحٍ كثيرة أقرب إلى الطابع الحقيقي للمثالية كما هي معروفة في عصرنا
الحالي مما كان الفيلسوف اليوناني — وإنما السبب هو أن الاتجاه العام لتفكيرهم هو في
أساسه نفس اتجاه تفكير أفلاطون. وسوف تظهر نتائج أخلاقية ضمنية واضحة لدى هؤلاء
الفلاسفة المتأخرين، ولكن لما كانت تحليلاتهم الأكثر دقة وتخصصًا هي التي تهمنا، فسوف
نقصر مناقشتنا عليها.
إن المثالية المعرفية (الإبستمولوجية)، وهي أهم صور المثالية في عصرنا الحالي، هي
الاعتقاد بأن الذهن وحده هو الحقيقي. أما المادة، بكل مظاهرها، فما هي إلا مضمون ذهني،
وبالتالي فهي متوقفة على الذهن في وجودها. إن المادة موجودة بلا شك، غير أن وجودها هذا
يمكن تحليله إلى إدراكات. ولو شئنا أن نستخدم المصطلح الحديث، لقلنا إن المادة ليس لها
وجود موضوعي (أي مستقل خارج عن الذهن)، بل هي معتمدة في وجودها على الذات (أي الذهن
الذي يلاحظ ويجرب). وينبغي أن يلاحظ أنه قد طرأ هنا تغيير على المذهب كما كان عند
أفلاطون. فللمثل أو الصور، في مذهب أفلاطون، وجود مستقل عن الفكر. وليس المهم هنا هو
أنه جعل لهذه الصور نوعًا من الوجود العيني أو المادي أو لم يجعل لها، وإنما الذي
يعنينا هو أن في الأفلاطونية شيئًا لا يمكن ردُّه إلى مضمون ذهني للعقل البشري أو للعقل
اللامتناهي.
٣
فلسفة باركلي: أصبح مذهب المثالية الذاتية هذا
سائدًا لأول مرة في القرن الثامن عشر. ففي ذلك الوقت كانت الفلسفة قد أصبحت تشعر شعورًا
واضحًا بمدى صعوبة تقديم تفسير مُرض للعلاقة الدقيقة بين «المعرفة» و«الواقع»؛ أي بين
تجاربنا أو إدراكاتنا الحسية، وبين العالم الطبيعي الخارجي الموضوعي الذي يفترض أن هذه
التجارب والإدراكات تشير إليه. والحق أن من الصعب مقاومة إغراء الدخول في تفاصيل قصة
التطورات الفذة التي أدت إلى هذه النزعة الذاتية. ومع ذلك فسوف نضطر إلى الاكتفاء
بالخطوط العامة لمذهب أبرع المدافعين عن النزعة الذاتية، وهو جورج باركلي. فاستدلال
باركلي يسير على النحو الآتي: إن كل الأشياء التي نسميها «مادة» هي موضوعات لتجربتنا.
وهي بهذا الوصف لا توجد في نظرنا إلا بوصفها إدراكات. فعندما نقول مثلًا أن الشجرة
توجد، فنحن نقول إن لدينا إدراكًا حسيًّا أو تجربة نطلق عليها اسم «الشجرة». غير أن هذه
التجربة، مهما تكن حيويتها، لا تضفي على أي نحو وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا على «الشجرة»
التي تظل مجرد تجربة. وبالاختصار، فالقول إن أي شيء يوجد، مرادف للقول إنه يدرك من خلال
حاسة واحدة أو أكثر من حواسنا. ويلخص باركلي المسألة كلها في عبارته المشهورة: وجود
الشيء هو كونه مدركًا Esse est Precipi فليس ثمة وجود
بمعزل عن الذهن الذي يدخل هذا الوجود في تجربته. وبلغة علم النفس الحديث، فإن شجرتنا
ليست إلا مجموعة من الإحساسات، والإحساس ذاتي. وهكذا يتضح أن ما نسميه «بالموضوع» ما
هو
إلا تجربة ذهنية — لأن وجوده ما هو إلا دخوله في التجربة — وكذلك الحال في المادة بكل
صورها. وإذن فالواقع ذهني بحت، والعالم بأسره ذهني، ولا وجود إلا للأذهان
وإدراكاتها.
نقد الموقف الطبيعي لباركلي: اعترف باركلي صراحةً
بالغرض من وضعه لمذهبه، فقال إنه تفنيد المادية الشائعة في عصره. فقد رأى أنه إذا أثبت
استحالة وجود المادة مستقلة، فلن تكون للمادية أرجل تقل عليها — وهو رأي منطقي تمامًا.
غير أن خصومه أهابوا بالموقف الطبيعي، وأراد أحدهم، وهو العالم اللغوي المشهور
«صامويل جونسون Samuel Johnson» أن يفند المثالية
الذاتية بضربة هائلة من رجله في حجر، ويقال إنه هتف: «على هذا النحو أفند الأسقف
باركلي!» ولكن لا الموقف الطبيعي، ولا ركل الحجر، بكافٍ للرد على حجته، كما بادر
الفيلسوف الأيرلندي الذكي إلى القول. فكل ما أثبته الدكتور جونسون هو ما اعترف به
المذهب الذاتي بالفعل وهو أن لدينا حزمًا من الإحساسات — هي في هذه الحالة إحساسات
بالمقاومة العضلية ووخزة من الألم موضعها إبهام القدم. ولكن هل يثبت ذلك أن هناك أي شيء
له وجود خارجي، فيما عدا أذهاننا الخاصة الواعية بوصفها مراكز للإدراك الحسي؟ إن حجة
الموقف الطبيعي هي أن من الممتع الادعاء بأن موضوع الإدراك الحسي. كالكتاب الموضوع على
المنضدة، لا يعود موجودًا عندما نغادر الحجرة أو نتوقف عن إداركه لحظة لأي سبب آخر. غير
أن باركلي يرد على الفور بقوله: «ما هي الصفات أو الخصائص التي يمكن أن يتصف بها الكتاب
«الموجود» في هذه الظروف؟» فإذا ما رد الموقف الطبيعي — كما يتعين عليه أن يرد — بقوله
إن هذه الصفات تنتمي إلى حاسة واحدة أو أكثر، «كالأخضر» أو «الثقيل» أو «السميك» أو
«الكبير»، فعندئذٍ يكون باركلي قد أحكم إغلاق الفخ: فماذا تكون هذه الصفات كلها، إن لم
تكن معطيات حسية؛ وبالتالي صفات ذهنية أو ذاتية خالصة؟ وهكذا يظل الوجود حزمة من
الإحساسات؛ وبالتالي ذهني الطابع، على الرغم من كل ما يستطيع الموقف الطبيعي أن يعترض
به عليه.
غير أن الموقف الطبيعي؛ إذ يقتنع بضرورة وجود
خدعة في مذهب كهذا، يعود فيوجه هجومًا جديدًا. فكيف يستطيع باركلي أن يفسر اتساق عالمنا
الإدراكي واتفاق الناس عليه؟ لو كان كل وجود متوقفًا على الذهن، فكيف يحدث أن تتسق
إدراكاتي الحسية المتعددة لتلك الشجرة بعضها مع بعض إلى هذا الحد؟ وكيف تدرك على الدوام
على أنها شجرة صنوبر، مثلًا، بدلًا من أن تدرك أحيانًا على أنها شجرة بلوط أو زان؟
وفضلًا عن ذلك، فكيف تفسر تلك الأدلة العملية الكثيرة التي تثبت أنني أنا وأنت ندرك نفس
الشجرة عندما نحول أعيننا إلى اتجاه معين؟ إذا كانت شجرتك وشجرتي متشابهتين إلى حد تدل
معه كل الدلائل على أنهما شجرة واحدة، فلا بد أن يكون هناك مصدر مشترك واحد أو سبب
لإدراكاتنا. وأين يمكن أن يكمن هذا السبب إلا خارج ذهني وذهنك؛ أعني في العالم
الخارجي؟
يرد باركلي على ذلك بأن يذكِّرنا بأنه لا ينكر على الإطلاق وجود عالم خارجي وإنما
هو
ينكر فقط وجود عالم مادي يوجد مستقلًّا عن كل إدراك؛ أعني عالمًا لا يكون فكرةً في ذهن
ما. وهو يعبر عن رأيه هذا بقوله:
«إنني لأذهب بالفعل إلى أن موضوعات الحس ليست
إلا أفكارًا يستحيل أن توجد ما لم تدرك. ومع ذلك فليس لنا أن نستنتج من ذلك أنها لا
توجد إلا عندما ندركها نحن، فقد تكون هناك روح أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها. ولا
يلزم عن ذلك أن الأجسام تفنى وتُخلق من جديد في كل لحظة، أو لا توجد على الإطلاق خلال
الفترات الواقعة بين إدراكنا لها.»
«قد تكون هناك روحٌ أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها.» ماذا يمكن أن تكون الروح
الأخرى أو الذهن الآخر؟ من الواضح أن باركلي لو استطاع أن يثبت وجود هذا الذهن الآخر،
لأصبح أقدر على مواجهة مقتضيات الموقف الطبيعي. ولا يحتاج المرء إلى وقت طويل لكي يدرك
الاتجاه الذي يسير نحوه استدلاله:
«ولكن مهما يكن لديَّ من قدرة على بعض أفكاري، فإني لا أجد أفكارًا أخرى لا تتوقف
كذلك على إرادتي. فعندما أفتح عيني في رائعة النهار مثلًا، لا يكون في مقدوري أن أختار
أن أرى أو لا أرى، أو أن أحدد ما أراه. ومثل هذا يقال عن السمع وغيره من الحواس.
فالأفكار التي تنطبع على هذه الحواس ليست مخلوقات صنعتها بإرادتي. ومن ثم فهناك إرادة
أو روح أخرى، أو عقل آخر، هو الذي أنتجها.
هذه الأفكار التي لا أستطيع التحكم فيها؛ أعني هذه الأفكار الحسية، أقوى وأشد حيوية
وأوضح تميزًا من تلك التي أستطيع التحكم فيها. وهي تتميز أيضًا بثبات ونظام وإحكام لا
تتصف به تلك التي تنتج بإرادتي. وهي تنم بذلك عن كونها ناتجة عن ذهن أقوى وأحكم من
أذهان البشر.
إن هناك حقائق قريبة من الذهن البشري وواضحة له إلى حد أن كل ما يحتاج إليه الإنسان
هو أن يفتح عينيه ليراها. ومن قبيل هذه الحقائق في نظري، هذه الحقيقة الهامة، وأعني بها
أن كل ما في قبة السماء وما تحمله الأرض؛ أي باختصار، كل الأجسام التي تكون الهيكل
الجبار للعالم، ليس لها وجود بدون ذهن ما، وأن وجودها هو أن تدرك أو تعرف، وأنها
بالتالي، ما لم أكن أدركها بالفعل، أو لم تكن موجودة في ذهني أو في ذهن أية روح مخلوقة
أخرى، لا بد إما ألا يكون لها وجود على الإطلاق، وإما أن تظل قائمة في ذهن روح أزلية
ما.»
وهكذا فإن الفرض الذي يقول به باركلي لا بد له، لكي يرضي الموقف الطبيعي للإنسان،
من
أن يسلم بوجود ذهن معين غير ذهننا (وأعظم منه). فليس ثمة وسيلة أخرى تحفظ وجود الكون،
وليس ثمة وسيلة أخرى تتيح تفسيرًا كافيًا لإحكام إدراكاتنا واتساقها. وهكذا ربط باركلي
مذهبه كله بذلك المفهوم الواحد، مفهوم «الله». فإدراك الله يحفظ للكون وجوده، سواء
أكانت أية أذهان بشرية تقوم بواجبها الإدراكي أم لا. وذهن الله يضمن أيضًا اطراد
إدراكاتنا: فعندما ننظر من نفس النافذة كل يوم نرى نفس الأشجار والمباني في الخارج؛ لأن
وجودها الحقيقي يتوقف على الوعي الإلهي بها. إننا نحن قد نذهب ونجيء، وننظر من النافذة
أو لا ننظر، غير أن الله يحفظ باطراد وجود كل الأشياء الطبيعية التي تمر بتجربتنا
مرورًا عارضًا غير منتظم ولا دائم. والواقع أننا مهما نقُل عن إله باركلي، فمن المؤكد
أنه ليس متهاونًا أو مهملًا في الاضطلاع بواجباته الإدراكية! فهو مواظب على القيام
بالعمل، أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، كل يوم من أيام السنة. وبطبيعة الحال، فإنه لما
كان ذا علم محيط، فإنه يدرك كل ما يوجد، وضمنه الكثير مما لم يره الناس ولن يروه
قط.
الدور الرئيسي لله في مذهب باركلي: لن نكون مغالين
إذا قلنا إن لله من الأهمية في مذهب باركلي ما له في أي بناء لاهوتي؛ ذلك لأن باركلي،
حين استعان بالذهن الإلهي ورصيده اللامتناهي من الإدراكات، قد ضرب عدة عصافير بحجر
واحد: (١) فهو علَّل وجود العالم الخارجي كما يطلب الموقف الطبيعي. (٢) وفسَّر استمرار
إدراكاتنا واتساقها (فالذهن الإلهي يتولى العمل عندما ننام أو ننشغل بإدراكات أخرى،
وبذلك يحفظ وجود الأشياء جميعًا، ويجهزها لكي تدركها الأذهان المتناهية عندما تستيقظ
من
جديد أو تتحول مرة أخرى إلى هذا الاتجاه)، (٣) وفسَّر التشابه في إحساساتنا عندما ندرك
شيئًا واحدًا مشتركًا (ما دام الشيء يوجد بوصفه فكرة واحدة في الذهن الإلهي، فليس من
المستغرب أن ندركه كلنا على نفس النحو): (٤) وحطم المادية بالقضاء على العالم المادي
المستقل عن الفكرة، (٥) وفند الإلحاد بأن جعل الله حقيقة لا غناء عنها في كل وجود. وليس
من شك في أن بركلي كان يؤمن بإخلاصٍ بأن محو فكرة الله من الذهن سيؤدي إلى تدمير الكون
— ناهيك بتدمير مذهب باركلي ذاته.
وإذن فقد اعتقد باركلي أنه تمكَّن من تفسير كل هذه الأمور وإثباتها. وكان لا بد
للفلسفة أن تنتظر جيلًا آخر حتى يبين هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك اللامع، أن منطق
باركلي سلاح ذو حدين، يبتر من هذا الجانب ومن ذاك. ذلك لأننا إن لم نبدأ بالإيمان بوجود
الله، فليس ثمة وسيلة لإثبات أن إدراكاتنا لها ركيزة موضوعية في الذهن الإلهي. فمثلًا،
لو كان وجود أي شيء يتوقف على كونه مدرَكًا، فمن أين يأتي وجود الله، ومن الواضح أنه
ليس موضوعًا إدراكيًّا إلا بالطبع إذا شنقنا أنفسنا بالمنطق فأكدنا أن الله يستطيع أن
يولد ذاته بإدراك ذاته؟!
وأيًّا كان تقديرنا النهائي لمذهب باركلي، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح سبب إطلاق اسم
«النزعة الذاتية» عليه، وسبب اعتماد كل المذاهب المثالية التي تطورت عنه على المنطق
ونظرية المعرفة اعتمادًا كبيرًا. فكل هذه المذاهب تبني نظرتها إلى العالم على حقيقة لا
تنكَر هي أن كل شيء يوجد، يبدو مرتبطًا بإدراكنا له ارتباطًا لا ينفصم. ومن هذه المقدمة
يعتقد المثالي أن من المنطقي أن نستنتج أن الوجود بما هو كذلك يتوقف على الإدراك
Esse est Percipi على أن صاحب هذه النظرية الواقعية
في المعرفة، كما سنرى في فصلٍ تالٍ — يجد هذا الاستدلال فاسدًا. ومع ذلك فإن الأقرب إلى
تحقيق غرضنا، عند هذه النقطة من العرض الذي نقدمه، هو أن نناقش بإيجاز ما يسمى «بمأزق
التمركز حول الذات»، الذي ظهر أصلًا بوصفه حجة ضد النزعة الذاتية، ولكن من الممكن
تقديمه من زاوية محايدة على نحوٍ يبدو معه الموقف المثالي أقرب إلى الفهم، وربما أجدر
بأن يُقبل.
مأزق التمركز حول الذات: لسنا نود أن نخوض في
تفاصيل النتائج المترتبة على الحجة المسماة بمأزق التمركز حول الذات Egocentric Predicament ولكنا سنعرض مقدماتها بإيجاز على النحو
الآتي: لا بد لأي موضوع — لكي يصبح موضوعًا للمعرفة، من أن يكون موضوعًا للتجربة — أي
إن أي شيء لا يمكن أن ينفذ إلى أذهاننا ما لم يدخل في علاقة ما. هذه العلاقة هي علامة
المعرفة cognition (أي الإدراك والتجربة والتعرف،
بأوسع معانيها جميعًا) فالأشياء لا تنفذ إلى وعينا إلا من خلال العملية المعرفة.
وبطبيعة الحال فليس هناك من سبيل إلى معرفة ما عسى أن تكون عليه الأشياء بمعزل عن هذه
العلاقة المعرفية — أي ما قد تكونه في ذاتها أو لذاتها — لأن من الواضح أنه في اللحظة
التي تبحث فيها أي شيء محاولًا أن تعرف طبيعته الحقة، فإنه يصبح موضوعًا للمعرفة.
وبعبارة أخرى فنحن لا نستطيع أبدًا أن نخرج عن أذهاننا ونتحرر من عملياتنا الحسية بحيث
نقابل الأشياء وجهًا لوجه. وليس في وسعنا أن نتسلل من الخلف ونمسك بالأشياء خلسة وهي
«على غير استعداد». فنحن محصورون داخل وعينا الخاص، وكأننا مسجونون سجنًا مؤبدًا داخل
جهازنا الحسي والمعرفي. ومن هنا كان «مأزق التمركز حول الذات» الذي لا يستطيع إنسان أن
يجد منه مهربًا.
ونتيجة هذا الموقف، في نظر المثالي الذاتي، واضحة وضرورية منطقيًّا. فالذهن المدرك
هو
الحقيقة النهائية في الكون. والأشياء الوحيدة الموجودة هي الأذهان وإدراكاتها، وفيما
عدا هذه لا يوجد شيء. أما الواقعي فيرى أن حقيقة هذا المأزق لا يمكن إنكارها، ولكنه لا
يؤمن بهذه النتائج. فالواقعي لا يرى داعيًا إلى تأكيد قصور مؤسف يتصف به الذهن،
والارتفاع به إلى حد جعله أساسًا لنظرتنا إلى العالم. صحيح أن كل ما نعرفه عن العالم
هو
ما يأتينا من خلاله التجربة، غير أن حتمية العلاقة المعرفية لا تبرر إضفاء تلك المكانة
الميتافيزيقية العليا على هذه العلاقة. ومع ذلك فإن المثالي هو الذي له الكلمة الأخيرة
هنا (إذ إن هذا الفصل خاص به). فهو لا يرى شيئًا «مؤسفًا» في مأزق التمركز حول الذات،
وفي رأيه أن هذا المأزق لا يدل على قصور في الذهن، بل يعبر عن طبيعة الواقع ذاته.
فالمشكلة عند المثالي ليست في الخروج عن أذهاننا؛ إذ إن هذه الأذهان هي الواقع، ولا
يمكن أن «يخرج» عن الواقعي إلا غير الواقعي؛ أي ما هو غير موجود.
(٧) مذهب الذات الوحيدة
من الواضح أن مذهب باركلي مذهبٌ تعدُّدي؛ إذ إنه يرى أن الواقع يتألف من أذهان (أو
«أرواح»، حسب تعبير باركلي) وإدراكاتها. وحتى الذهن الإلهي، على ما له من أهمية في جمع
شتات المذهب، ليس إلا مركزًا إدراكيًّا مضافًا إلى غيره، وبذلك تظل التعددية
باقية.
ويبدو أن أي مذهب يجمع بين التعددية والذاتية معرَّض دائمًا لأن يتهدده خطر شبح لا
يمكن التخلص منه نهائيًّا بأي التجاء إلى الذهن الإلهي. هذا الخطر الذي يتهدد المذاهب
الذاتية على الدوام هو مذهب «الذات الوحيدة Solipsism»
الذي يعترف الجميع بأنه أشد المواقف الفلسفية تطرُّقًا وأكثره تخريبًا من الوجهة
العقلية. والقائل بالذات الوحيدة هو مفكر ذاتي متطرف لديه الجرأة على أن يخطو الخطوة
المنطقية الأخيرة التي يشعر جميع أعداء النزعة الذاتية بأنها خطوة لا مفر منها بالنسبة
إلى هذا النوع من المثالين. فهو على استعداد للسير في منطقه حتى نهايته المريرة. وذلك
بأن ينتهي إلى أنه لا يوجد شيء في الواقع إلا هو ذاته وإدراكاته الفردية. «فأنا وأفكاري
(أو إدراكاتي) كل ما يوجد» — هذا هو الموقف الأساسي للقائل بمذهب الذات الوحيدة، وكل
ما
عدا ذلك؛ أي كل الأشخاص والأشياء والكون المادي بأسره، لا وجود له إلا بقدر ما يتحقق
على الدوام في ذهن صاحب مذهب الذات الوحيدة.
وأهم ما يفعله صاحب هذا المذهب هو أنه يتحدى أي شخص، وكل شخص، أن يأتي عن طريق المنطق
بردٍّ إيجابي على السؤال: «ما الذي يوجد غير ذاتي وتجربتي؟» ومن الواضح أن هذا ليس إلا
امتداد للسؤال المتضمن في الأنواع الأقل تطرفًا من المثالية الذاتية، كمثالية باركلي.
ولكن بينما باركلي (ومعه كل مثالي في الواقع) يتساءل: «كيف تستطيع أن تُثبِت أن أي شيء
يمكن أن يوجد إلا وهو معروف لذهن ما؟» فإن صاحب مذهب الذات الوحيدة يزيد السؤال حدَّة
بأن يقول: «كيف يمكن إثبات أن أي شيء يمكن أن يوجد إلا وهو معروف لذهني أنا؟» ويلح هذا
المذهب على طلب ردٍّ منطقيٍّ، فهو لا يَقنع بأية إهابة بالموقف الطبيعي، ولا بأية إهابة
برأي الأغلبية الساحقة. فلما كان صاحب هذا المذهب قد أعلن منذ البداية أنه أقلية تتألف
من واحد له من الأهمية ما يجعل أفكاره وتجاربه تضفي الوجود على كل شيء آخر له وجود،
فإنه لا يتأثر أبدًا بالحجة القائلة إن معظم الناس لا يتفقون معه. فمن هم أولئك
الملايين الذين لا يوافقون؟ إنهم مدينون بوجودهم ذاته لإدراكه لهم، وإذن فعلى أي أساس
ترجح كفة آرائهم على النتائج المنطقية للذهن الذي بعثهم إلى الوجود؟ …
ولعل القارئ قد بدأ يدرك الآن لمَ كان مذهب الذات الوحيدة، من الوجهة المنطقية،
موقفًا أقوى مما يبدو لأول وهلة. فبغضِّ النظر عن مدى نفور الموقف الطبيعي منه، فإن هذا
الموقف يصعب تنفيذه ما دمنا نمارس اللعبة الفلسفية على أساس قواعد المنطق الدقيق (وهو
ما يصر صاحب الذات الوحيدة على أن نفعله). وعلى حين أن شوبنهور لم يكن من أصحاب هذا
المذهب، فإن العبارة التي استهل بها كتابه الفلسفي الأكبر تعد تعبيرًا كلاسيكيًّا عن
الفكرة الأساسية لهذا المذهب: «العالم فكرتي». وفي ذلك يتفق معه صاحب مذهب الذات
الوحيدة قائلًا: «بالضبط! وإنني لأتحدى أي شخص أن يثبت أن العالم وكل ما فيه هو على أي
نحوٍ أكثر من فكرة لي.»
وإنه لمن العبث أن نردَّ على صاحب هذا المذهب بالإشارة إلى الحقيقة التي يعترف بها
الموقف الطبيعي، والقائلة إن العالم قد وُجد قبل وقت طويل من ميلاد صاحبنا هذا، وسيظل
موجودًا بعد وقت طويل من مماته؛ إذ إن رده يكون دائمًا على نحوٍ مماثل لهذا: «كيف أعلم
ذلك — وكيف يمكن إثباته لي» إن كل ما أعلمه (وكل ما يمكن إثباته بالمنطق) هو أنني الآن
أدرك بيئة محيطة بي. أما منذ أي وقت ظلت هذه البيئة موجودة، وإلى أي وقت ستكون موجودة،
وإلى أي حد تمتد فيما وراء نطاق إدراكي، فتلك كلها أمور لا أعلم عنها، ولا يمكن أن أعلم
عنها، شيئًا. صحيح أن هناك أقوالًا متواترة، وإشاعات، بل سجلات من أنواع شتى، غير أن
هذه بدورها لا توجد إلا بوصفها جزءًا من تجربتي. وفضلًا عن ذلك فهي ليست معرفةً بالمعنى
الذي أُصِر على أن نعرف به المعرفة؛ أعني ما هو معروف لي شخصيًّا بتجربة مباشرة أمر
«بها».
أما فيما يتعلق بوجود الكون بعد أن تنتهي التجربة الخاصة لصاحب مذهب الذات الوحيدة،
فإن صاحبنا هذا يتفق تمامًا مع ما ورد في إحدى قصائد أ. أ. هوسمان
A. E. Housman بأن كل ما على من يود الانتحار أن يغمد الخنجر الذي
يمسك به في صدره، لكي ينهار الكون كله فيصبح عدمًا. وقد عبَّر شاعر آخر، وهو الشاعر
الأمريكي «جون هول ويلوك
John Hall Wheelock» عن فكرةٍ
تكاد تكون مماثلة لهذه تعبيرًا رائعًا في قصيدته الطويلة «التوسط
Mediation».
٤ فبعد تأمل في سر الوجود والتعبير عن هذا السر في الفن والأدب، يقول:
الأرض تأخذ معها؛ فهي في صمت تدور
حول المدار القديم، تحمل في صدرها
ذلك الفم الوسنان، الفم الذي يغني.
•••
لكن هذا كله لا يحيا إلا في ذهني،
وعندما يظلم هذا الذهن، ستظلم الدنيا كلها
فجأة؛ ستصبح الدنيا كلها عمياء …
•••
إن كل ما مسَست، وكل ما أحببت وعرفت
سيتخلى عني؛ وسوف يتراجع صدر الحياة
تاركًا إياي وحدي في الظلام …
•••
أيها الكون الحاشد بالنجوم، المعلَّق في جرَس
ذهني الصداح، لتعِش فيَّ الآن!
ولتسكن فيَّ هنا لحظة!
•••
فلكَم ولدت في أذهان الكثير من
الناس،
لتنقضي سراعًا …
•••
وتموت مرة أخرى مع كل ذهن!
إنها لفكرة ما أقساها عليَّ:
فما أشد مرارة التفكير …
في أن هذا كله سيكون، بالنسبة إليَّ،
كأنه لم يكن، عندما ينقضي أجلي …
ولكن قد يحسُن بنا نحن أيضًا أن نتراجع. ولنكرر مع هامات تعبيره
البليغ، الذي قاله بعد التأمل في مشكلات مماثلة: «في هذا الطريق يقبع الجنون».
(٨) المثالية الموضوعية أو المطلقة
كانت الرغبة في التخلص من ورطة مذهب الذات الوحيدة من بين الأسباب التي دعت مدرسة
من
الفلاسفة الألمان في أوائل القرن التاسع عشر إلى وضع آخر صورة مثالية يتعين علينا
بحثها. هذه المثالية تعرف باسم المثالية المطلقة
٥ أو «فلسفة المطلق»، وهو الاسم الأكثر شيوعًا. ولقد كان أهم دعاتها هم نتشه
وشبلنج وهيجل، الذين كان آخرهم يفوق الباقين في تأثيره بمراحل. ولقد كان لهذه المدرسة
تأثير هائل في المذهب المثالي في إنجلترا والولايات المتحدة. ويبدو أن هذا التأثير قد
تعدَّى نقطة السمت قبل الحرب العالمية الأولى بفترة ما. ولكن أحدًا لا يستطيع أن يقرأ
بفهمٍ فلسفة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولاهوته أو حتى شعره، ما لم يكن على
شيء من الإلمام بهذه المدرسة وتعاليمها.
وأهم ما يميز المثالية المطلقة هو أنها تتجه بقوة إلى الواحدية بقدر ما يتجه مذهب
باركلي إلى التعددية. «فالوحدة» و«الشمول» و«الكل» ألفاظ رئيسية في هذا المذهب. وربما
كانت تمثل أجرأ محاولة بُذلت حتى الآن لفرض الوحدة والتكامل على العالم والتجربة
البشرية. وهي قد حققت هذه الوحدة بوسيلة تبدو بسيطة، هي التوحيد بين الطبيعة والذهن.
وبطبيعة الحال فإن باركلي كان قد حاول أن يقوم بشيء مشابه لهذا في توحيده بين الطبيعة
والجربة، غير أن مذهبه كان يشتمل على عدد من الأذهان الفردية أكبر من أن يتيح سد الثغرة
بينهما. أما مذهب هيجل فقد حاول التخلص من هذه الصعوبة عن طريق مفهوم الذهن الشامل أو
المطلق (الذي يطلق عليه عادةً «المطلق» فحسب)، والذي لا تكون أذهاننا المتناهية إلا
أجزاء منه فحسب.
من باركلي إلى هيجل: والواقع أن الخطوات المنطقية
التي أدت إلى ظهور هذا «المطلق» طريفة إلى أبعد حد، لا سيما بعد أن أصبحنا قادرين على
فهم هذا التطور المحتوم من النزعة الذاتية عند باركلي. فصاحب المذهب المطلق شأنه شأن
صاحب النزعة الذاتية، يبدأ بما هو في نظر المدرستين معًا أهم الوقائع المجردة: ألا وهو
الاعتماد التام لكل وجود كما نعرفه على التجربة. من هذا الموقف المعرفي المعترف به،
يقفز كلٌّ من نوعَي المثالية قفزة هائلة إلى الرأي القائل إن الوجود يتوقف على التجربة
— لا الوجود — كما نعرفه فحسب (أي بقدر ما تمتد تجربتنا)، وإنما الوجود بما هو كذلك.
ولكن في الوقت الذي ينتقل فيه باركلي إلى افتراض ذهن إلهي لكي يحفظ وجود العالم الطبيعي
(بوصفه موضوعًا للإدراك). فإن منطق المذهب يؤدي إلى تصور أعمق وأدق من الوجهة العقلية
إلى حد ما. فهذا «المطلق» هو، من وجهة النظر المعرفية، ذاتٌ شاملة لكل شيء، تناظر الكون
بوصفه موضوعًا شاملًا. ذلك لأننا لو اعترفنا مع باركلي بأن «وجود الشيء هو كونه
مدرَكًا»، وبأن كل موضوع في العالم ليس إلا موضوعًا للإدراك (أو منسوبًا إلى التجربة)،
فعندئذٍ يلزم عن ذلك منطقيًّا أن نفترض فعلًا إدراكيًّا مطلقًا يضفي الوجود على المجموع
الشامل للأشياء الطبيعية، الذي نسميه الكون؛ أي إن نفس وجود هذا الكون، الذي لا تعرفه
أذهاننا المتناهية إلا معرفة جزئية (أي بوصفه موضوعات فردية) يقتضي هنا أن نؤمن «بمجرب
مطلق» يحقق تكامل كل تجربة ممكنة لا كل تجاربنا الجزئية فحسب.
وأيًّا ما كان حكمنا الشخصي على المثالية بالمطلقة بوصفها الرأي النهائي عن العالم،
فلا مناص من الاعتراف بأن منطقه محكم. فما إن نقبل أن نخطو أول خطوة ودية مع الأسقف
الطيب باركلي، في أيامه الغابرة في القرن الثامن عشر، حتى يكون صاحب المذهب المطلق قد
امتلكَنا جسدًا وروحًا. ولا يبدو أن هناك مفرًّا من منطقه الصارم؛ إذ إن أبسط غزل بريء
مع «وجود الشيء هو كونه مدركًا» يؤدي حتمًا إلى الوقوع في أحضان «المطلق» التي لا يفلت
منها شيء. أما الواقعي، الذي هو حريص قبل كل شيء على الإفلات من هذا المصير العقلي، فإن
لديه طريقته الخاصة في الاحتفاظ بحريته. غير أن هذه خاصة أخرى، ينبغي أن تنتظر فصلًا
آخر.
خصائص المذهب المطلق عند هيجل: نود، قبل أن نختم
هذا البحث الذي هو أوجز بحث ممكن للمثالية المطلقة، أن نعدد بعضًا من سماتها الهيجلية
الخاصة التي كان لها أوسع تأثير. فأولًا، يلاحظ أن هذا الشامل، أو الكل الذي هو «مطلق»
ليس شيئًا جامدًا لا حياة فيه. وقد أخذ هيجل هذه البادرة (كما يفعل المثالي دائمًا) من
طبيعة الإنسان، ولا سيما طبيعة عمليات الإنسان العقلية، وجعل منها مفتاحًا رئيسيًّا يفض
به أسرار الحقيقة. ولما كان يؤمن بأن الطبيعة والعقل موحدان في كلٍّ عضوي، فإن من
المنطقي في نظره أن يجد في طبيعة الإنسان العقلية ماهية «المطلق»؛ فهو روح أو عقل كوني
شامل. وهناك فكرة أخرى، تعدُّ من أجرأ إسقاطاته، هي أن العملية التاريخية أو التطورية
للكون ما هي إلا تكشُّف أو تحقُّق متزايد «للروح». وفي هذا التحقق المتزايد نجد نموًّا
مزدوجًا، فالروح تحقق ممكناتها، وتزداد وعيًا في نفس الآن. وكل تغير تاريخي، وكل حادث
في الزمان، وكل نمو تطوري، يمثل مرحلة في النمو التدريجي «للروح». وأن هذه المراحل (أي
أكملها تحققًا وأكثرها وعيًا) هي النظم البشرية، ولا سيما الفن والدين والفلسفة.
وإذن فكل ما يتبقى هو تحقيق الوحدة النهائية. فإذا كان كل وجود تعبيرًا عن «الروح
المطلقة»، إذا كان هذا «المطلق» هو بالتالي الواقع الكامل فعندئذٍ لا يمكن أن يكون
وعينا إلا الوعي الذاتي المطلق. وإذن فالتاريخ، أو مرور الحوادث، وتجربتنا، أو وعينا
بهذه الحوادث، هما النصفان المحدودان أو الناقصان لعملية واحدة.
٦ وهكذا فإن العملية الكونية غائية، وكل ما يحدث يهدف إلى تحقيق الإمكانات
الكامنة في «الروح». «فالحدوث» يعني تحقيق إمكان آخر معين للمطلق.
(٩) تلخيص للمثالية
كان تقديم المثالية بالطريقة الشاملة المعممة التي قدمناها بها في هذا الفصل أمرًا
بالغ الصعوبة. ذلك لأنه كان هناك خطر دائم من أن نرتكب، خلال محاولتنا الأخذ بيد القارئ
خلال هذه الغابة الفلسفية في جولة سريعة شاملة، خطأ تجاهُل هذه الحقيقة الهامة. وهي أن
أية غابة مؤلَّفة من أشجار لا تتشابه منها اثنتان. ومن المعلوم أن الفوارق بين المدارس
الفرعية المتعددة داخل المذهب المثالي كثيرًا ما تكون فوارق ملحوظة، بل إن المفكرين
الأفراد يختلفون في آرائهم اختلافًا أكبر. ولقد كان أصعب الأسئلة إجابة، في تقديمنا
لهذه الصورة العامة لمثل هذا الميدان المعقد، هو سؤال أفلاطوني، وأعني به: كيف يكون
المرء مثاليًّا؟ … أو بعبارة أخرى: إذا استبعدنا كل الفوارق «المظهرية» وتغلغلنا في
«الحقيقة» فما هي ماهية المثالية؟
تلخيص عام: إذا شئنا أن نلخص هذا الفصل ونختمه،
فلنقل إن المثالية هي نظرة إلى العالم يكون فيها الذهن أو الفكر أو الروح الحقيقة
الأساسية، وهي مذهب يتخذ من الذات العارفة (أي الذهن البشري الفردي المتناهي أو العارف
المطلق، أيًّا كان نوعه) مركزًا للأشياء، ثم ينظم الكون حول هذا الوجود المركزي. وفضلًا
عن ذلك فإن الكون مرتبط ارتباطًا منظمًا بهذه الذات المركزية العارفة على أنحاء شديدة
الوثوق بوجه خاص. فالكون هو على نحو معين — يتفاوت من مدرسة مثالية إلى أخرى — إسقاط
أو
امتداد للذهن أو الروح. ومن ثم فإن الواقع يتصف بكثير من الخصائص التي يعدها الذهن
أساسية فيه هو. فالمثالية تصوِّر لنا عالمًا غالبًا، معقولًا، مفهومًا، والأهم من ذلك
كله أنه إما خير في ذاته، وإما معنيٌّ أساسًا بالخير. إنه عالم لا يكون للقيم فيه وجود
موضوعي فحسب، وإنما يعمل مسار الكون ذاته على تحقيقها وحفظها، بل إننا نستطيع أن نجد،
في النظرة المثالية إلى العالم، أسبابًا للاعتقاد بأن الهدف الأول لهذه العملية الكونية
تحقيق القيم إلى أقصى حد ممكن. وبذلك «لا يستبعد شيء مقدمًا بوصفه مستحيلًا في اتجاه
أعلى أمانينا البشرية.»
٧ ذلك لأن الكون في صميمه ملائم للإنسان ومُثله العليا.