الفصل الرابع
المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
مثلما أن الدين يجد المثالية أقرب المذاهب الفلسفية إلى قلبه، فكذلك كان العلم رفيقه
الفلسفي الخاص، هو المذهب الطبيعي. هذا المذهب هو في أساسه الاعتقاد بأن العالم الطبيعي
أو
«الواقعي»؛ أي عالم التجربة البشرية — هو المجال الوحيد الذي يمكننا أو يجب علينا أن
نهتم
به. وهذا التحديد لم يوضع اعتباطًا؛ إذ إن العالم الطبيعي هو الذي رسم حدود بحثنا، نظرًا
إلى كونه العالم الوحيد الذي تكشف لنا التجربة وجوده. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد الأساسي
في المذهب الطبيعي يعني آليًّا رفض الاتجاه إلى العالم الآخر، والنزعة المتعالية أو فوق
الطبيعة بكل صورها. فأية معرفة أو قيمة أو مثلٍ أعلى لا يمكن إرجاعه إلى التجربة البشرية
وإلى ما فيه صالح البشر، لا يمكن أن يكون له معنى في نظر المفكر المؤمن بالمذهب
الطبيعي.
وينظر صاحب المذهب الطبيعي عادةً إلى الميتافيزيقا المثالية الرحبة على أنها بناء
منطقي
رائع، لم يشيد على أساس من التجربة، على حين أن النموذج الذي يقدمه الدين، والذي يمتلئ
أملًا وتبشيرًا، يبدو في نظره ناتجًا عن تفكير مغرض مبني على افتقار مماثل إلى أساس من
الواقع. وصاحب المذهب الطبيعي يكون عادةً على استعداد لترك المثالي ورجل الدين والمتصوف
مع
مذاهبهم، غير أنه يؤكد ضرورة النظر إلى هذه على أنها مسائل إيمانية خالصة، ليست لها أية
علاقة بالبرهان التجريبي. وهو يفخر عادةً «بصرامته الذهنية»، ويميل إلى النظر بطريقة
تمتزج
فيها السخرية بالسخط، إلى ما يعدُّه «رقَّة ذهنية» لدى المثالي، الذي يبدو عاجزًا عن
الحياة، إن لم يشيِّد لنفسه عالمًا يلائمه ويحميه، والمذهب الطبيعي يتَّهم المثالية بأنها
تجعل أماني الإنسان وأحلامه تؤثِّر في بحثه عن الحقيقة، بل تشوهه، على حين أن القائل
بالمذهب الطبيعي يكون عادةً واثقًا من أن صفحته في هذا الصدد بيضاء. غير أن ما قلناه
عن
المذهب الطبيعي حتى الآن يكفي للتأثير في كثير من القراء مثلما يؤثر في المرء إناء من
الماء
البارد يلقى على وجهه، فالأفضل إذن أن نرجع ونضع بعض الأسس ريثما يلتقط القراء
أنفاسهم.
(١) المركز التاريخي للمذهب الطبيعي
يرجع تاريخ الفلسفة في العالم الغربي إلى حوالي عام ٦٠٠ق.م. أي إن عمره حوالي خمسة
وعشرين قرنًا. وعلى حين أن هذه الفترة الطويلة من الزمان والتغير قد شهدت بالطبع مولد
كثير من المدارس ووجهات النظر الفردية، فإن جهد الفيلسوف في يومنا هذا ما زال مماثلًا
لجهده في العصور اليونانية الأولى، وهو أن ينفذ من وراء الاضطراب والتغير الذي تنطوي
عليه التجربة اليومية، ويكشف الطبيعة الثابتة للأشياء. على أن الطريقة المثالية في
القيام بهذا البحث كانت ولا تزال، كما أوضحنا من قبل، أقوى الطرق في وصف الحقيقة
تأثيرًا وأوسعها انتشارًا. ولو تصورنا الفلاسفة على أنهم يكونون لجنة تحقيق دائمًا،
مكلفة بمهمة كشف طبيعة الحقيقة النهائية، لأمكن القول إن المثالية هي التقرير الرسمي
أو
تقرير الأغلبية عادةً. ولقد اكتسب هذا القبول، على مر القرون، قوة زائدة مستمدة من
السوابق التاريخية، بحيث إن أية وجهة نظر معارضة كانت تجد نفسها عادةً في مركز من يهاجم
«الوضع القائم» بكل ما يستتبعه هذا الوضع من مزايا.
المذهب الطبيعي بوصفه وجهة نظر الأقلية: إذا تأملنا
تاريخ الفلسفة في عمومه، وجدنا أن المذهب الطبيعي يمثل تقرير الأقلية. وقد تفاوتت هذه
الأقلية في الحجم من أقلية كبيرة (في أوائل العصر اليوناني، وفي العصور الأخيرة) إلى
أقلية لا تكاد تُذكر. كما أن جهودها تراوحت ما بين إثارة الضجيج الزائد (كما هي الآن)
وبين الصمت الذي يكاد يكون مطبقًا. ولكن مهما كان صغرها، فقد كانت دائمًا موجودة، تطلق
النيران بطريقة حرب العصابات على المواقع المحصنة للأغلبية المثالية. ولقد كان تدفق
تفكير المذهب الطبيعي في بعض الأحيان أشبه بقطرات ضئيلة لا يكاد يلاحظها أحد، وكان
أحيانًا أخرى — كما هو الآن — أشبه بالفيضان الذي يدفع المثالية إلى التحصن بأرض أكثر
منعة. ولكنه سواء أكان قطرات أم فيضانًا، فقد كان يشكل تيارًا من الاحتجاج والنقد على
المسلَّمات الأساسية والنتائج النهائية للتأملات المثالية. ولما كان هذا المذهب يمثل
جماعة الاحتجاج أو حزب «الخوارج»، فقد كان بطبيعته عدوانيًّا؛ ذلك لأنه لما كان منذ
البداية في مركز اجتماعي أقل، نظرًا إلى أنه يمثل موقف الأقلية، فلم يكن لديه الكثير
مما يخشى فقدانه. ومن ثم فقد كان في استطاعته أن يخوض بصدره غمار المعركة الفلسفية.
وكانت نظرة المثالية إلى المذهب الطبيعي — شأنها شأن نظرة كل المدافعين عن «الوضع
الراهن» إلى من يهاجمهم — هي أنه يفتقر إلى التهذيب وإلى احترام الوقار التقليدي
للفلسفة. وكان رد الفعل الشائع في المعسكر المثالي هو أن «الشغب» لا يليق بالفيلسوف.
ومع ذلك فقد استمر المشاغبون في مظاهراتهم، حتى أصبحوا اليوم يلقون معاملة أفضل، بل
أصبح لهم صوت أكبر في إدارة شئون الفلسفة. غير أن التقابل الأساسي بين وجهتَي النظر ما
زال قائمًا، وأغلب الظن — بناء على أسباب سنحاول إيضاحها في هذا الفصل — أنه سيظل يمثل
دائمًا أهم مظاهر الانقسام داخل الفلسفة.
(٢) ما هو العالم في صميمه؟
من الملاحظ أولًا أن التقابل بين قطبَي التفكير يظل باقيًا لأن المسألة الأساسية
ليست، كما يعتقد الكثيرون، هي كون طبيعة الواقع النهائي مادية أم ذهنية، بل إن هذه
المسألة، كما رأينا في الفصل السابق، هي: هل نظام العالم آلي في صميمه، أم هو نظام
أخلاقي؟ وهل الكون شبيه بآلة هائلة، بلا ذهن، وبلا غاية؛ وبالتالي خارج عن مجال
الأخلاق، أم هو بناء أخلاقي، يسير على أساس غاية عاقلة، وفي اتجاه تحقيق القيم والمُثل
العليا؟ لا بد أن يتضح لنا على الفور أن هذا تباين أساسي، لا يمكن التغلب عليه حتى لو
تم الاتفاق على «جوهر» العالم. فقد تتفق المدرستان على أن الطاقة هي الأساس النهائي
لتركيب العالم (وهذا يبدو أمرًا محتمل الوقوع). ولكن ما دامت إحدى المدرستين تنظر إلى
هذه الطاقة على أنها في أساسها ذهنية أو روحية، وتتجه إلى الحديث عنها بصيغة التفخيم
(وبذلك توحد بينهما ضمنيًّا — على الأقل — وبين الذهن الشامل أو الله)، على حين أن
المدرسة الأخرى تنظر إلى الطاقة كما ينظر إليها العلم، فإن الانقسام سيظل
قائمًا.
مركز القيمة: وهناك سببٌ ثانٍ يؤدي إلى استمرار
التعارض بين المدرستين: فالقيمة في نظر المثالية الكامنة في الكون، وهي موجودة في صميم
الأشياء، كما أن الحوادث والعمليات الكونية تتجه إلى تحقيق الخير إلى أقصى حد ممكن.
وعلى ذلك فالقيمة شيء موضوعي يكتشفه الإنسان بوصفه أساسيًّا في الكون، ولا شيء في نظر
المثالي يثبت القرابة بين الإنسان وبين بيئته الملائمة بمثل الوضوح الذي تثبتها به هذه
الحقيقة، ألا وهي أن الإنسانية والكون معنيان معًا بالخبر. أما المذهب الطبيعي فيرى أن
العالم لا يتضمن من القيمة والخير إلا بقدر ما نستطيع نحن أنفسنا تحقيقه بجهودنا الخاصة
من بيئة غير مكترثة. فالقيم لا وجود لها إلا بالنسبة إلى الكائنات العضوية الحية،
ويعتقد صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو سعينا إلى إسقاط هذه المُثل العليا على
شاشة الكون، وادعينا أن للكون أي شأن بها. ذلك لأن الكون يظل مترفعًا عن آمال الإنسان
ومُثله العليا، غير مكترث بها، ولا يستطيع صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو
سعينا إلى إسقاط هذه المثل معنى (أو حتى أي وجود) خارج مجال الأمور البشرية.
تلك هي الحجة القديمة، التي أحسن عرضها
اسبينوزا ومفكرون كثيرون غيره. فهل نحن نرغب في أشياء ومُثل عليا معينة لأنها خيرة، أم
نحن نسميها خبرة لأننا نرغب فيها بطبيعتنا، ونحاول على هذا النحو أن نبرر رغباتنا
بإطلاق أسماء تمجيدية عليا؟ إن الخيرية في نظر المثالية، تكمن في أشياء معينة وأفعال
معينة لأن هذه الأشياء والأفعال تكون جزءًا له دلالته من الخطة الكونية. أما المذهب
الطبيعي فيرى أن هذه «الأمور الخيرة» لا توجد إلا سبب طبائعنا البيولوجية وحاجاتها.
فلدينا بوصفنا أفرادًا وبوصفنا جنسًا في آن واحد، حاجات ينبغي الوفاء بها إذا أردنا
استمرار بقائنا الفردي وتحقيق مصالح النوع الذي ننتمي إليه. ولذا فنحن نطلق اسم «الخير»
على تلك الأشياء (كالطعام) أو النظم (كالزواج) أو الأفعال (كتضحية الوالدين) التي تفي
بأي من الحاجات الأولية، وهذا هو كل ما يمكن أن يعنيه اللفظ في نظر المذهب الطبيعي. أما
الحديث عن «الخير» بوصفه ما يعلو على مصالح البشر فهو بالنسبة إلى تفكير المذهب الطبيعي
حديث لا معنى له.
الآراء المتضاربة حول طبيعة الإنسان: هناك سبب آخر
غير الأسباب السابقة، للتعارض الدائم بين هاتين المدرستين. فعلى الرغم من كل ما قد
تقوله المثالية عن وجود قرابة بين الإنسان وبين الكون الملائم له، فإنها تبني مذهبها
الأخلاقي على أساس وجود انفصال بين «الطبيعة» وبين «الطبيعة البشرية»؛ فالمثالي، مع
إصراره على تأكيد الطابع العقلي والأساس الروحي لعالم الطبيعة، يرى أن الإنسان بما له
من ذهن وإرادة روحية ينفرد بهما عن غيره، له كيان مستقل عن بقية الطبيعة. وفضلًا عن
ذلك، فالطبيعة البشرية ليست مستقلة فحسب، وإنما هي أعلى؛ أي إنها حلقة اتصال — إن جاز
هذا التعبير — بين الطبيعة والذهن الشامل، أو بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعي. ومن
هنا فإن المثالي لا يتأثر عندما يقول صاحب المذهب الطبيعي مثلًا أنه ليس ثمة دليل على
وجود العدالة في الكون إلا بوصفها مثلًا أعلى بشريًّا محضًا، ويبين أن القانون الأساسي
للطبيعة يبدو شيئًا أشبه بقاعدة «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»؛ ذلك لأن المثال
يعترف بأن للطبيعة «أنيابًا وأظفارًا مخضبة بالدماء»، ولكنه يؤكد أن امتلاك الإنسان
للعقل ينأى به عن هذا القانون البدائي الذي هو مجرد قانون للصراع المرير من أجل البقاء.
فالطبيعة البشرية تنال الخلاص بفضل اقترابها من مصدر «العقل» و«الخيرية» وبهذا تعلو على
أصلها الحيواني.
أما في رأي المذهب الطبيعي، فإن الإنسان أحد أفراد النوع الحيواني، وهو لا يستطيع
الخلاص أبدًا من هذا الأصل، على الرغم من امتلاكه العقل أو الوعي. فعالم الطبيعة شامل
لكل ما فيه على نحو متصل، والإنسان جزء من هذا العالم، شأنه شأن أي نوع آخر: وهو لا يقل
عن أي شيء آخر في الكون من حيث خضوعه لقوانين العالم، وتحكم مبدأ العلة والمعلول في
أفعاله؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف استثناءات، صحيح أن لكل نوع قدرات وخصائص فريدة، غير
أن امتلاك هذه الخصائص لا يفصل هذا النوع بأية حال عن بقية النظام الطبيعي. كذلك فإن
القدرات الفريدة للنوع لا تضفي عليه أهمية تزيد على ما للأشكال الأخرى للحياة. ولا جدال
في أن الحيوان القارض تبدو له القدرة على الهضم أهم «وبالتالي ذات دلالة كونية أعظم»
من
القدرة على الاستدلال المجرد. كذلك فإن السرعة في نظر الغزال، تجعله على الأرجح فريدًا
في عينه هو؛ وبالتالي أهم في أعين الكون. أما بالنسبة إلى السمك، فكل القيم ترتكز على
أساس من السيولة والقدرة على العوم.
١
نظرة المذهب الطبيعي إلى الذهن: نستطيع الآن أن
ندرك، بناء على ما قلناه في الفصل السابق، أهمية المكانة المركزية التي يحتلها الذهن
في
النظرة المثالية إلى الأشياء. أما المذهب الطبيعي فيرى في الذهن مجرد أداة فحسب. ذلك
لأن قدرة الإنسان على البقاء في الصراع على العيش لا تجد معونة من الألوان التي تحميه،
ولا من السرعة الفائقة، أو المخالب الحادة، أو القدرة على إطلاق رائحة ساطعة، أو إصدار
زئير مخيف. ففي استطاعة الحيوانات الأخرى أن تتفوق عليه في سرعة الجري، وفي القدرة على
السباحة، وأن تقهره في أية معركة تنشب دون أسلحة. غير أن للإنسان، بدلًا من هذه القدرات
والأجهزة الخاصة، أداة أخرى، هي عقله، تمكنه من أن يعوِّض نفسه وزيادة، عن طريق اختراع
شتى أنواع الأسلحة والأدوات، وتسخير قوى الطبيعة لخدمته. غير أن هذا الذهن الفذ الذي
يمتلكه، والذي هو بالفعل أكثر أدوات التكيف مرونة، يظل مع ذلك (بالنسبة إلى بقية الكون)
مجرد أداة من أدوات البقاء والتكيف. إنه حقًّا فريد، وذو أهمية قصوى للإنسان، ولكن هذا
ليس دليلًا على أن له أية أهمية كونية تزيد على أهمية مخلب النمر أو زعانف السمكة. صحيح
أن الإنسان يستطيع أن يفعل بعقله أمورًا تفوق ما تفعله الحيوانات الأخرى «بأدواتها»
ولكن من الصحيح كذلك أنه يستطيع أن يستخدمه في اتجاه الشر مثلما يستخدمه في اتجاه
«الخير». وبالاختصار، فكل ما يعنيه امتلاك العقل هو المزيد من القوة واتساع نطاق
السلوك، وليس بالضرورة المزيد من الخير.
وهكذا فإن هذه الفكرة المألوفة لدى أصحاب المذهب الطبيعي، تسير على النحو الآتي؛ ففي
البدء كانت الطبيعة، ثم ظهر الإنسان بعد عملية تطور طويلة شديدة البطء. والنوع البشري
هو ارتقاء (أو ازدهار، إن كان هذا اللفظ يسعد المثالي) للطبيعة، ولكنه ليس أكثر أو أقل
أهمية من الأنواع الحيوانية الأخرى، التي تفصل الإنسان عنها فوارق أقل أهمية بكثير، من
وجهة النظر البيولوجية، من الحاجات والسمات التي يشترك فيها مع هذه الأنواع. فالنظام
الطبيعي متصل، والإنسان، على الرغم من فردانيته الذهنية، وأهميته العامة في نظر نفسه،
لا يشكل انقطاعًا في هذا النظام.
«الطبيعة» في الإطار العام لتفكير المذهب الطبيعي:
يوجه خصوم المذهب الطبيعي أحيانًا إلى القائل به تهمة توسيع تصور «الطبيعة» وجعله
شاملًا إلى حد يغدو معه هذا اللفظ بلا معنى، مثلما أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم خصمه
بالتوسع في تصور «الذهن» إلى حد يصبح معه شاملًا لكل شيء، وبذلك يجعله بلا معنى. غير
أن
ما يعنيه المذهب الطبيعي بلفظ الطبيعة شيء مختلف كل الاختلاف. فهو عندما يسمي «الطبيعة»
بالحقيقة الوحيدة، ويبدو ذلك كأنه يوحد بينها وبين الوجود، لا يكون معنى ذلك أنه قد
افترض «مطلقًا» جديدًا يكون أشبه «بالليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء».
٢ وإنما يفترض صاحب المذهب بدلًا من ذلك، عالمًا لا يمكن أن يكون فيه للعالي
وجود. فهو يدعو إلى نزعة طبيعية تستبعد أي مبدأ فوق الطبيعة. والأمر الذي يؤدي به إلى
تعريف الطبيعة على نحو يؤدي إلى استبعاد كل «عالم آخر» أو «ما وراء هذا العالم» من
مقولة الوجود، هو ارتيابه العميق في المذاهب التي لا تقوم على أسس تجريبية، مهما تكن
منطقية أو محكمة البناء.
ويفترض المذهب الطبيعي ثلاث مسلَّمات بشأن الطبيعة. وهذه المسلَّمات تبلغ من الأهمية
ومن الدلالة حدًّا يجعلها تتحكم في تجديد الطابع الكامل لهذه المدرسة الفلسفية. ومن ثم
فإننا لو فهمنا هذه المسلَّمات فهمًا كاملًا، ومعها نتائجها السلبية لأمكننا أن نكون
صورة لا بأس بها عن نظرة هذه المدرسة إلى العالم.
-
(١)
يؤكد المذهب الطبيعي أولًا أنه لا يوجد إلا نظام أو نسق واحد للواقع
ومستوى واحد للوجود. وهذه المسألة تؤدي ضمنيًّا إلى استبعاد كل ميتافيزيقا
ثنائية، وتجعل من المستحيل وجود أي نوع من العالم العلوي أو فوق
الطبيعي.
-
(٢)
ويرى المذهب الطبيعي ثانيًا أن هذا
النظام الواحد للحقيقة يتألف من كل الأشياء والحوادث الموجودة في المكان
والزمان، ومن هذه وحدها. ولهذه المسلَّمة بدورها نتائج سلبية هامة، فهي
تؤدي إلى استبعاد إمكان الكلام عن ألوهية «خارج الزمان» أو عن عالم علوي
«بمعزل عن المكان». كما أن أية قضايا متعلقة بالموضوعات والحوادث التي لا
يمكن إدراجها ضمن مقولتَي الزمان والمكان تصبح في نظر ذلك المذهب قضايا لا
معنى لها.
-
(٣)
وأخيرًا، يرى المذهب الطبيعي أن
سلوك هذا النظام الواحد للوجود — أي العملية الكونية بأسرها، وجميع الحوادث
الفردية التي تتألف منها هذه العملية — يتحكم في تحديده طابع هذا النظام
وحده، ومن الممكن إرجاعه إلى نسق من قوانين العِلِّية. وهنا أيضًا نجد
للنتائج الضمنية أهمية قد تفوق أهمية المسلَّمات ذاتها، وهي قطعًا تكشف عن
أمور أكثر مما تكشفه هذه المسلَّمة؛ ذلك لأن قبول هذه المسلَّمة يعني تأكيد
إيماننا بأن الكون منطوٍ على ذاته، ومكتفٍ بذاته، ومعتمد على ذاته، ومدبر
لذاته. كما يعني أننا نعتقد أن الكون يوجِّه ذاته، دون أن يتأثر بأية
فاعلية «خارجية» أو قوة «أعلى»، بل إن قبول هذه المسلَّمة يعني إنكار إمكان
تدخُّل أي فاعل على أي نحو في نظام العالم، أو في سلسلة الحوادث الطبيعية.
وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلَّم كيف يتحكم في الطبيعة بكشف
قوانينها وتطبيقها. فلما كان الإنسان ذاته، تبعًا لفرض المذهب الطبيعي،
جزءًا من نظام الطبيعة. فإن تدخُّله في هذا النظام، حتى عندما يصبح أظهر ما
يكون (كما في حالة تحريك الجبال) أو أعمق ما يكون (كما في حالة الانشطار
الذري)، لا يشكل تدخلًا من خارج الطبيعة كتلك المعجزات أو «التجليات
الإلهية» التي يفترض وقوعها.
(٣) المذهب الطبيعي والعلم
من الواضح أن فيلسوف المذهب الطبيعي يؤمن
إيمانًا تامًّا — كما هو متوقع — بمناهج العلم ونتائجه. أما المثالية فهي، كما رأينا
من
قبل، تقبل النظرة العلمية إلى العالم في حدودها الخاصة، ولكنها تنكر أنها تصل إلى حد
إعطائنا معرفة نهائية قصوى. ومن جهة أخرى فإن صاحب المذهب الطبيعي ينكر من جانبه أن
يكون في وسعنا تجاوز هذا التنظيم المنهجي للمعطيات التجريبية، الذي نطلق عليه اسم
العلم، ونظل مع ذلك على أرضٍ موثوق منها. ففي رأي هذا المذهب أن المعرفة (أعني أية
معرفة جديرة بهذا الاسم) ينبغي إما أن تكون مستمدة من التجربة الحسية مباشرة، كما هي
الحال في الموقف الطبيعي، وإما أن تكون قابلة للتحقيق الحسي عندما تتوافر الشروط
اللازمة، كما هي الحال في العلم.
الخلط بين المذهب الطبيعي والمذهب الوضعي: أدى قصْر
المعرفة على المستوى التجريبي أو العلمي، على نحو ما رأينا، إلى سوء فهم كثير للمذهب
الطبيعي، سواء من جانب خصومه المثاليين، ومن جانب المثقفين بوجه عام. ولسوء الفهم هذا
جذوره التاريخية التي تمتد طوال الأعوام المائة الأخيرة من التطور العقلي. فهناك من
المدارس الفرعية في المذهب الطبيعي بقدر ما في المذهب المثالي تقريبًا، كما رأينا من
قبل. وقد اضطرت كلتا المدرستين الكبيرتين إلى أن تدفع في بعض الأحيان ثمنًا من فقدان
هيبتها العقلية لقاء المواقف المتطرفة التي اتبعتها مدرسة فرعية صغيرة ما، من بين
المدارس التي تسير في ركابها. وفي حالة المذهب الطبيعي، كانت الجماعة المتطرفة هي
الوضعيين ولقد كان مؤسس مذهبهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، الذي نشر
كتابه الرئيسي منذ أكثر من مائة عام (١٨٣٩–١٨٤٢م). ولقد اندثرت مدرسته الآن تقريبًا —
وهو أمر يدعو إلى ارتياح المعتدين من أصحاب المذهب الطبيعي، الذين أرهقهم في العقود
الأخيرة تبرير موقفها المتطرف. ولكن من سوء الحظ أن كثيرًا من خصوم المذهب الطبيعي لا
يدركون أنها اندثرت بالفعل. ومن ثم تراهم يواصلون محاسبة المذهب الطبيعي ككل على خطايا
الموتى.
كانت الوضعية توحد بين المعرفة وبين العلم توحيدًا تامًّا. فلم يكن العلم في نظرها
هو
السلطة الوحيدة في كل أمور الحقيقة أو المعرفة فحسب، بل إن أية تجربة لا تقبل التحقيق
العلمي كانت تُرَد إلى فئة الأقوال المنعدمة المعنى، بل إلى فئة اللاوجود. ولقد أدت
وجهة النظر القطعية هذه، وهي نظرة لم يكن من الممكن أن تنشأ إلى عندما كان العلم الحديث
في عنفوان الثقة بالنفس، التي تتصف بها فترة المراهقة — أدت بطبيعة الحال إلى استثارة
سخط كل أولئك الذين تبدو لهم تجارب الإنسان الأخلاقية أو الفنية أو الدينية تجارب
حقيقية، بل تجارب لها مغزاها ودلالتها. ومن ثم هوجمت الوضعية بعنف، وامتد عنف الهجوم،
في كثير من الأحيان، بحيث شمل كل رفاق الطريق من أصحاب المذهب الطبيعي. ولكن أغلب الظن
أننا لن نجد اليوم أي مفكر بارز يؤيد هذا الموقف الوضعي المتطرف، بل إن الاتجاه اليوم
قد تحول إلى المسار العكسي: ففي نصف القرن الأخير، كان هناك تطوير فلسفي مطرد، داخل
الحدود العامة للمذهب الطبيعي في عمومه، لمدرسة يطلق عليها اليوم عادةً اسم «المذهب
الطبيعي النقدي». وتحاول وجهة النظر هذه، التي ربما كانت تمثل موقف المذهب الطبيعي في
أعمق اتجاهاته الفكرية، أن تتجنب تطرف الوضعية وتطرف مادية القرن التاسع عشر، بأن تجد
مكانًا لكل الظواهر، وضمنها الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والجمالية.
٣ فالمذهب الطبيعي النقدي، مع تعريفه لكل شيء (وضمنه الذهن) من خلال العالم
الطبيعي، ومثابرته على مهاجمة النزعة فوق الطبيعة بكل أشكالها، لا يوجد بين مجال الواقع
العلمي وبين مجال التجربة البشرية الكاملة. والأهم من ذلك أنه يرفض تعريف الطبيعة من
خلال المادة والحركة وحدهما، أو من خلال الحوادث التي تقع في الزمان-المكان من جهة
أخرى. فهو يعد هذه مفاهيم منهجية ضرورية لعمل العلم، ولكنه يأبى أن يعزو إليها مركزًا
ميتافيزيقيًّا بوصفها الوسائل الوحيدة لتحديد طابع الطبيعة أو الواقع.
أما الأمر الذي يقبله المذهب الطبيعي النقدي — وهو هنا يتحدث باسم جميع أنصار المذهب
الطبيعي — فهو الموقف أو الاتجاه العلمي، ولا سيما الإطارات العامة المستخدمة في صياغة
المبادئ العامة للعلم. فهو يوافق على أن هذه المبادئ ينبغي أن تكون مبنية على وقائع
تجربتنا المشتركة؛ أعني ذلك العالم الموضوعي القابل للتحقيق المفتوحة أبوابه لكل
الملاحظين — وينبغي ألا تتجاهل هذه الوقائع أو تدَّعي العلو عليها بطريقة ما.
قانون الاقتصاد في الفكر: ينبغي لنا، لكي ندرك
الدلالة الكاملة لوجهة النظر الأخيرة هذه، أن نبحث واحدًا من المبادئ العامة للعلم، وهو
المبدأ المعروف «بقانون الاقتصاد
في الفكر Law
of Parsimony». هذا المبدأ، الذي صاغه في الأصل وليام الأكامي William of Occam في القرن الرابع عشر (والذي
يعرف أحيانًا باسم سكين أوكام Occam’s Razor) ينص على
وجوب عدم تعديد مبادئ التفسير أو عوامله أكثر مما تدعو إليه الحاجة. ولقد كان الهدف من
هذا «السكين» هو إيجاد سلاح لبتر الشوائب العديدة من الكيانات والجواهر والعلل، إلخ،
التي تراكمت طوال قرون عديدة من التفكير في العصر الوسيط. وكانت نتيجته غير المباشرة
هي
تمهيد الطريق للصيغ العلمية التي وُضعت في عصر النهضة، وإعطاء العلوم الجديدة — آخر
الأمر — أداةً من أهم أدواتها العقلية. ويقول هذا المبدأ، بلغة أبسط، إنه إذا كانت
لدينا عدة تفسيرات محتملة لأية ظاهرة بعينها، كلها تبدو متساوية في قدرتها على تعليل
الوقائع، وكلها منطقية بدرجة متساوية، فإن أساس الاختيار بينها ينبغي أن يكون هو
البساطة. وهناك تعبيرات شائعة عن هذا المبدأ، مثل «الطبيعة تحابي أبسط المناهج» أو
«الطبيعة تسلك بأيسر الطرق». ولو طبقنا مبدأ الاقتصاد في الفكر على فقرتنا السابقة،
لكان مؤداه أنه إذا كانت العلل الطبيعية كافية لتعليل كل الظواهر؛ أي إذا كانت المعرفة
العلمية تقدم تفسيرًا كافيًا — فما الذي يدعونا إلى الإتيان بفرض المثالية الذي لا يمكن
إثباته؟
وبطبيعة الحال فإن لب المشكلة هو ما إذا كانت الصيغ العلمية تأتي بإجابات مُرضية لنا
في سعينا إلى المعرفة القصوى أم لا. ففي رأي المثالي أن العالم الذي تكشفه العلوم
المختلفة قد يكون عالمًا حقيقيًّا، ولكنه لا يمكن أن يكون العالم الكامل مطلقًا، بل إن
المثالي يشك حتى في كونه نموذجًا يمثل الواقع تمثيلًا صحيحًا، فكيف إذن يقال إن قوانينه
تشكل تفسيرات كافية ترضينا؟ ويواصل المثالي كلامه قائلًا إن قانون أوكام قد يكون صحيحًا
بالفعل، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن المطلوب منا هو انتقاء أبسط تفسيرٍ كافٍ. على أن
التفسيرات العلمية ليست كافية إلا بالنسبة إلى أغراض العلم، وهي في ذاتها قد تعطي صورة
صحيحة عن الواقع المادي، ولكنها لا تنبئنا إلا بالقليل جدًّا عن «الواقع» الحقيقي
الكامن من ورائه.
الآراء المتضاربة بشأن «الطبيعة»: ذلك لأن المثالي يرى أن «الاكتفاء الذاتي الظاهري
ما هو إلا وهم».
٤ فالعالم الطبيعي ليس إلا قناعًا على وجه الواقع، وما الطبيعة بأسرها إلا
مظهر، أو ظاهرة، يوجد من ورائها «شيء في ذاته» مختلف كل الاختلاف. وأساس العالم الطبيعي
إنما هو هذه الحقيقة غير المادية، التي يتوقف عليها بناء الكون بأسره. أما صاحب المذهب
الطبيعي فإن وجهة النظر هذه تبدو خيالية في نظره، فهي تبدو أشبه بوضع العربة قبل
الحصان، ولكن على مستوى الكون بأسره. فالمذهب الطبيعي يرتكز على وجهة نظر الموقف
الطبيعي، القائلة إن ما يبدو للطبيعة من اكتفاء ذاتي هو حقيقة أصيلة. والنظام الطبيعي
لا يعتمد على شيء خارجه في وجوده أو بقائه، بل إن كل شيء في الكون، وضمنه الإنسان
وذهنه، يعتمد إلى وجوده على النظام الطبيعي. فالكون يرجع أساسه إلى ذاته فحسب، ولسنا
بحاجة إلى افتراض مصدر خارجي أو قوة علوية لإضفاء الوجود أو المعقولية عليه. أي إن
الكون يقف على أرجله، غير معلق «بأربطة حذاء» كونية. ومن ثم فإن السؤال عما يقع خارج
الكون أو وراءه هو سؤال لا معنى له، فاللفظ يشمل مجموع كل وجود — وكيف يمكن أن يكون
وراء «الوجود» شيء؟
حول هذه المسألة يحدث الانقسام الأساسي بين المثالية وبين المذهب الطبيعي. فالحقيقة
القصوى في نظر المثالي هي شيء روحي، يوجد من وراء الواقع الظاهري الذي يكشفه لنا عالمنا
اليومي التجريبي، عالم اللحظة الحاضرة والمكان الحالي. أما في نظر صاحب المذهب الطبيعي
فإن عالم التجربة هذا؛ أي النظام الطبيعي، هو في ذاته نهائي؛ ومن ثَم فإن قانون
الاقتصاد في الفكر يحتم علينا ألا نفترض أية عوامل تفسيرية غير ضرورية لتعليمه. فقوانين
العلة والمعلول — كما يفهمها العلم وكما تطبق فيه — هي تفسيرات كافية، لا للعلم وحده،
ولكن للفلسفة والحياة العملية أيضًا. وهكذا فإن المذهب الطبيعي يرى أن الصيغ المفصلة
التي تضعها المثالية والأديان معًا، تبتر بواسطة سكين أوكام، ولا يوجد مبرر معقول
لاستمرار وجودها.
وهنا قد يتساءل القارئ: «ولكن، إذا كان موقف المذهب الطبيعي سليمًا إلى الحد الذي
يدعيه أنصاره، وكانت المثالية غير ضرورية، فلماذا ازدهرت هذه الأخيرة طوال تاريخ
الحضارة الغربية، ولماذا كانت لا تزال تحتفظ بقدرتها الفائقة على النمو؟ لا بد قطعًا
أن
يكون في المثالية شيء أكثر من التراث، هو الذي يحفظها حية!» وفي اعتقادي أن القارئ محق
في ذلك تمامًا، وهذا «الشيء» هو أن وجهة نظر المذهب الطبيعي ليست كافية في نظر كل شخص
بل ليست كافية في نظر أغلب الأشخاص. ذلك لأن وجهة النظر هذه، مهما تكن قدرتها على إرضاء
العقول، لا ترضي قلوب أناس كثيرين.
كذلك فليس ثمة احتمال كبير في أن نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم سوف تتمكن في أي
وقت
من إرضاء المطالب العاطفية لمعظم الناس على النحو الذي تستطيع أن ترضيها عليه النظرة
المثالية. فسوف تضطر النظرة الطبيعية دائمًا إلى أن تواجه الاتهام القائل إن أنصارها
قوم لا قلوب لهم، وإنهم لا يكادون يكونون بشرًا، وإن نظرتهم باردة قاتمة بالقياس إلى
ما
تستطيع المثالية تقديمه من دفء وأمان. وكما قلنا من قبل، فإن هذا الاتهام الموجَّه
لصاحب المذهب الطبيعي بأنه غير مكترث بمطالب القلب، هو في نظر معظم الناس أخطر وأهم من
أية نقاط ضعف عقلية في المذهب. فمعظم الناس الذين يُقبلون على الفلسفة ملتمسين لديها
إجابات عن أسئلة تحيرهم، يكونون عادةً على استعداد للتغاضي عن بضع هفوات في المنطق، وعن
بضع مسلَّمات لم تختبر، تسللت إلى الاستدلال، أو بضع ثغرات لم تُسَد، لو كان من شأن
النغمة العامة والاتجاه العام للإجابة أن ترضي عواطفهم. ومن المؤكد أن المثالية تتيح
مثل هذا الإرضاء، فهي قد تقف مع المذهب المنافس لها على قدم المساواة من حيث المنطق،
ولكنهما ليسا ندَّين من حيث الإرضاء العاطفي. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتعليل الشعبية
الواسعة والحيوية الدائمة للمثالية.
(٤) المثالية الميتافيزيقية مقابل المثالية الأخلاقية
يكاد يكون من المحتم أن يكون القارئ قد شعر
فجأة بمفارقة في موضع ما من هذا الفصل. وربما كانت تجربته مشابهة لتجربة أناس كثيرين.
فمن الجائز أن أصدقاءه وأقرباءه يسمونه «مثاليًّا» ولكنه يكتشف الآن أن آراءه في الكون
والواقع أقرب إلى آراء المذهب الطبيعي. فإذا كانت الفكرة الرئيسية التي ألَّف حولها هذا
الكتاب صحيحة، وكانت المثالية والمذهب الطبيعي هما القطبين المتقابلين في الفلسفة، فكيف
يمكن إذن أن يكون المرء في كلا المعسكرين دون أن يكون مفتقرًا أساسًا إلى الاتساق —
الذي يشعر القارئ على الأرجح أنه لا يفتقر إليه؟
إن تفسير هذه المفارقة أبسط مما يعتقد، وذلك
على الأقل من وجهة نظر المثالي. ذلك لأن الخلط ينشأ من وجود نوعين من المثالية، يفرق
بينهما لفظ المثالية الميتافيزيقية والمثالية الأخلاقية (أو التقويمية
Axiological). والأولى هي التي كنا نتحدث عنها حتى
الآن. ولكن الواقع أننا لو شئنا الدقة فكان من الواجب تسمية هذه النظرة الميتافيزيقية
الكبرى باسم «الفكرية Ideaism». ولكن من المؤسف أن نطلق
الكلمة على هذا النحو الصعب في اللغة الإنجليزية؛ ولذا فقد أضيف إليها الحرف «I» منذ
وقت بعيد لتحسين وقع اللفظ. وترتب على ذلك أن اللفظ الواحد أصبح يستخدم الآن للتعبير
عن
مفهومين مختلفين (بل لا يوجد بينهما ارتباط في نظر صاحب المذهب الطبيعي): أولهما هو تلك
النظرة إلى العالم، التي تكون فيها الفكرة، أو التفكير، أو الذهن، هي الحقيقة الأساسية،
والثانية هي ذلك المذهب في الاعتقاد أو السلوك، الذي تكون فيه المُثل العليا؛ أي
الغايات أو المعايير المرغوب فيها — هي الدافع الأساسي. ولو كان من الممكن استخدام لفظ
الفكرية للتعبير عن الميتافيزيقية ولفظ المثالية للتعبير عن المذهب الأخلاقي، لأمكن
استبعاد قدر لا حدَّ له من الخلط.
ادعاء الاحتكار لدى المثالي الميتافيزيقي: ومع ذلك
فالأمر هنا يزيد على مجرد تحسين وقع اللفظ. فهناك سبب آخر أدى إلى عدم استخدام لفظين
مستقلين هو أن المثالية الميتافيزيقية قد حاولت الاحتفاظ باحتكار اللفظ الواحد،
بتأكيدها القاطع أن من المستحيل الفصل بين النظرتين. فهي تذهب إلى أن من المستحيل أن
يكون لديك مذهب مثالي في السلوك، إن لم تكن تفترض مقدمًا نظرة إلى الكون تصور الواقع
بأنه ذهني أو روحي. وباختصار فالمثالي الميتافيزيقي يؤكد أن من المحال أن يكون لأي مذهب
أخلاقي قوة أو حتى معنى، ما لم يكن يفرضه نظام كوني هو في صميمه نظام أخلاقي، ويوجد فيه
الله بوصفه الماهية العميقة للواقع. ففي نظر هذه المدرسة من مدارس المثالية، يكون تعبير
«أخلاق المذهب الطبيعي»، أو «الأخلاق في إطار من المذهب الطبيعي»، تعبيرًا متناقضًا؛
إذ
لا بد أن يكون لمُثلنا العليا ومعاييرنا علاقة بمُثل عليا أعلى وأشمل؛ أي «بالمثل
الأعلى» الواحد الشامل — إذا ما شئنا أن تكون لها قيمة على الإطلاق. أما إذا نظرنا
إليها على أنها معايير بشرية محضة، لا تستمد إلا من التجربة البشرية، ولا يكون لها
معنًى إلا بالنسبة إلى أمور البشر، فإنها عندئذٍ لا تكون ذات أثر أو قيمة.
المثالية الأخلاقية في علاقتها بالمذهب الطبيعي: على
أن المثالية الأخلاقية لا ترتبط ارتباطًا ضروريًّا بوجهة النظر الصارمة هذه، وكثيرًا
ما
نجد مثاليين أخلاقيين لا يتمسكون بها. هذا النوع من المفكر الأخلاقي كثيرًا ما يكون
صاحب مذهب طبيعي في الميتافيزيقا، يرى أن القيم والمُثل العليا لا تفقد شيئًا من معناها
أو قوتها حين تكون «بشرية فحسب». فليس في تسميتنا إياها بالقيم البشرية، أو في تسمية
القائل بها باسم صاحب نزعة إنسانية، أيُّ إقلال من شأنه؛ ذلك لأنه لا يوجد في فلسفته
عنصر إلهي أو فوق الطبيعي يكون الطبيعي أو «البشري فحسب» أدنى مرتبة بالقياس إليه، بل
إن صاحب المذهب الطبيعي يرى في قدرة الإنسان على صياغة مُثله العليا ثم السير في حياته
بمقتضاها أمرًا عظيمًا له دلالته، غير أن هذه الدلالة لا تأتي إلا من السعادة البشرية
والازدهار البشري الذي يمكن أن يتحقق على هذا النحو، لا من أية علاقة مفترضة بالخير
الكوني. فللمثل العليا البشرية جدارة وقيمة خاصة بها، وهي تقف بذاتها، مستمدة معناها
وقيمها من علاقتها بالحياة البشرية وإمكاناتها. مثال ذلك أنه حتى لو لم تكن «للعدالة»
«صورة» أفلاطونية تكون هي مصدرها والضامن الميتافيزيقي لوجودها، فإنها توجد بوصفها
مثلًا أعلى له معناه وفعاليته في أي مجتمع مؤلف من كائنات تستطيع مشاعرها وعقولها أن
تحس بالظلم. وباختصار، فنحن نضع المُثل العليا ونسعى إلى تحقيقها لأننا شاعرون بوجود
قصور ونقائص في تجربتنا، لا لأننا مثقلون بأي إحساس بالكمال الإلهي أو الخير الأسمى.
فالسبب الذي يجعلنا نضع المُثل العليا هو نفس السبب الذي يجعلنا نتفلسف: أعني أننا بشر
لدينا قدرات تجعل كلًّا من وجهَي النشاط هذين ممكنًا، وأننا نعيش في عالم يجعل كلًّا
منهما أمرًا محتومًا.
وإذن فالمذهب الطبيعي لا يرى في كلٍّ من وجهَي النشاط هذين أكثر من رد فعل طبيعي
لكائنات بشرية تعيش في هذا العالم. فلا البحث عن معرفة قصوى، ولا السعي إلى تحقيق مُثل
عليا في حياتنا، يستتبع القول بعالم رحيم أو مملكة عليا «للخير والحق والجمال». قد يكون
غير مكترث بمُثلنا العليا وآمالنا، ولكن هذا أمر لا صلة له بالموضوع. فنحن نسعى إلى
تحقيقها لإرضاء أنفسنا، أو لتحقيق الرخاء لمن نعرف والسعادة لمن نحب. وهذا مسعى لا صلة
له باهتمام الكون أو عدم اكتراثه.
(٥) النتائج العامة للمثالية
لا بد أن يكون القارئ قد كوَّن في ذهنه الآن فكرة واضحة عن المعالم الجغرافية لنصفَي
الكرة الفلسفيين هذين. وبذلك نكون على استعداد لبدء دراستنا لمشكلات الفلسفة؛ إذ إن من
الممكن الآن أن نفهم هذه المشكلات والمدارس التي نشأت للإجابة عنهما لفهمهما أفضل. فبعد
أن أصبحنا متجهين في الاتجاه الصحيح، نستطيع منذ الآن أن نتوغل في خضمِّ الفكر التأملي
المتلاطم، واثقين أن لدينا من المعالم ما يكفي لضمان عودتنا إلى البر في أمان. ولكن قد
يكون من المستحسن لضمان المزيد من الأمان والمتعة في الرحلة المقبلة، أن نلقي حولنا
نظرة أخيرة شاملة؛ ذلك لأن معالم الأرض قد تبدو مؤكَّدة لا تخطئها العين ونحن راسون على
الشاطئ، ولكنها على الأرجح لن تظل بمثل هذا الوضوح أثناء محاولتنا الإبحار في طريقنا
من
خلال الأمواج المتلاطمة والتيارات المتشابكة.
لقد رأينا أن المثالية مذهب تفاؤلي مليء بالثقة. ومصدر هذه الحالة النفسية التي تتسم
بالوثوق هو تلك النظرة المحكمة إلى الواقع بوصفه عالم قيم عقلية وأخلاقية وروحية — أو
إطار يتخذ فيه نضالنا من أجل تحقيق القيم والمُثل العليا أهمية متزايدة؛ لأن الكون في
مجموعه لا يعطف على مثل هذا الجهد فحسب، بل أنه يشارك فيه إيجابيًّا. ففي هذه النظرة
إلى العالم يكون «الذهن» أو «العقل» هو مركز كل وجود. غير أن هذا العقل ليس مجرد مركز
محايد للعمليات العقلية، وإنما هو — على العكس من ذلك — يتصف بالخيرية مثلما يتصف
بالمعقولية.
السلوك الإنساني في ظل النظرة المثالية إلى العالم:
مثل هذه النظرة إلى العالم تنطوي ضمنًا على نتائج هامة بالنسبة إلى السوك البشري. فهي
تتضمن أولًا أن أوجه نشاط الإنسان العقلي والروحي لها أهمية تفوق بكثير ما يوحي به
مقدار الوقت الذي نكرسه لها عادةً. فعندما نكون في أكثر حالاتنا معقولية أو روحية، نكون
في أشد حالات الانسجام مع الكون. وعندئذٍ نصبح أقرب ما نكون إلى الحقيقة القصوى. وفي
هذه الحالة نحقق أكمل ما في ذاتنا، والغرض الرئيسي من وجودنا. وهناك نتيجة ثانية للنظرة
المثالية إلى العالم. هي ما تتيحه من تحقيق يكاد يكون لا متناهيًا للمثل العليا
الأخلاقية والروحية للإنسان. ولقد سبق لنا أن اقتبسنا عبارةً لواحد من أشهر المثاليين
الأمريكيين يقول فيها إن مدرسته تذهب إلى أنه «ليس ثمة شيء، يُحكم عليه سلفًا بأنه
مستحيل في اتجاه الأماني والرغبات البشرية العليا». فالكون الذي يكون عاقلًا ومتلائمًا
معنا يقدم إلينا أملًا — بل وعدًا محددًا — بأن أعمق أمانينا، وأسمى آمالنا، ليست عقيمة
أو عديمة المعنى. وبذلك لا يكون أمل الإنسان في الخلود وتوقع عدالة نهائية مجرد حلم
تعويضي، وإنما هو «الوعد الحق»، الذي تبرره طبيعتنا الخاصة، وكذلك طابع الكون
ذاته.
وفضلًا عن ذلك؛ ففي الكون المعقول، المفهوم، لا يمكن أن تكون هناك دعابات كونية
ساخرة، على حين أن شوق الإنسان إلى الأزلي لا بد أن يكون دعابة ساخرة كهذه لو كان مجرد
تفكير مغرض مبني على أمل كاذب. فمعقولية الواقع ذاتها تستبعد إمكان وجود مثل هذه
اللامعقولية الشنيعة. والتسلسل المنطقي لتفكير المثالي يمضي على النحو الآتي، الإنسان
لديه عقل، والعقل عند الإنسان لا يمكن أن يأتي إلا من العقل الشامل. وبناء على الأسباب
المنطقية التي سبق إيضاحها، فلا بد من التسليم بأن مصدر هذا العقل هو بدوره مصدر كل
وجود. «فالذهن» الشامل مصدر الوجود كله، البشري منه وغير البشري. ولما كان العالم الذي
يصدر عن الذهن الشامل لا بد أن يحمل طابع أصله، فإن في هذا الدليل الكافي على المعقولية
المشتركة بين الإنسان والعالم. غير أن كل الأجزاء، في العالم المعقول، المفهوم، ينبغي
أن تتألف وتتكامل. ولو لم يكن تصور الإنسان للحياة الأزلية والعدالة الكونية إلا
تعبيرًا عن رغبة حيوانية في شيء لا يملكه، لما كان الكون كلًّا موحدًا؛ إذ إن ذهن
الإنسان وعواطفه تغدو عندئذٍ متنافرة مع طبيعة الأشياء. وهكذا فإن ما يضمن تحقيق أعلى
أمانينا هو أن لدينا من العقل ما يكفي لكي نتطلع إلى هذه الأماني ونعبر عنها.
(٦) رد فعل المذهب الطبيعي على النتيجة المتضمنة في المثالية
تعد وجهة نظر المذهب الطبيعي رد فعل على هذه النظرة المثالية إلى حدٍّ بعيد. وكما
قال
بعضهم، فإن السبب الرئيسي الذي يدفع صاحب هذا المذهب إلى البحث في الميتافيزيقا هو
نفوره مما يعتقد أنه فيض زائد عن الحد من الميتافيزيقا الرديئة. فالعالم كما تُصوره
المثالية يبدو له مثلًا واضحًا كل الوضوح لقدرة الإنسان على التفكير من خلال غاياته
الخاصة وصبغ أحلامه بصبغة عقلية، ومن هنا يجد صاحب المذهب الطبيعي نفسه مدفوعًا إلى
الاحتجاج عليها. غير أن الاحتجاج على مذهب ميتافيزيقي معناه القول ضمنيًّا بمذهب آخر،
وما إن يوضع المذهب المضاد ضمنًا حتى تصبح صياغته أمرًا لا مفر منه. وهكذا يجد المفكر
القائل بالمذهب الطبيعي نفسه مدفوعًا إلى النظر الميتافيزيقي، مهما يبذل من محاولات لكي
يتوقف بعد أن يكون قد كوَّن مركَّبًا من نتائج العلوم والمباحث العقلية المختلفة.
والواقع أن اقتحام صاحب المذهب الطبيعي لساحة الميتافيزيقا على مضض، هو الذي يدفع
المثالي أحيانًا إلى اتهام خصمه بأنه يتخذ من الفلسفة ومشكلاتها موقفًا سلبيًّا، فهو
يميل إلى الاعتقاد بأن المذهب الطبيعي ليس فلسفة، وإنما هو إنكار للفلسفة. وبعبارة
أخرى، فإن خصم المثالية يتهم بأنه يتخذ موقف من لا ينفع الناس ولا يدع غيره ينفعهم؛ فهو
إذ يعجز عن أن يصوغ صورة «عقلية» كاملة للحقيقة (أعني صورة تجعل للذهن دور البطولة،
وتضمن للإنسان مقعدًا مريحًا في المقصورة الملكية)، فإنه يهاجم بعنف كل الجهود التي
تبذل للقيام بما يعجز هو عن القيام به. ولكن صاحب المذهب الطبيعي يرد على ذلك بعناد
قائلًا: «صحيح أن نظرتي إلى العالم أقل تناسقًا وإيحاء من نظرة المثالية، غير أنه راجع
إلى أن نزاهتي العقلية لا تسمح لي بملء الثغرات التي تنطوي عليها الصورة بمسلَّمات كتلك
التي أعتقد أن المثالي يلجأ إليها. فإن كان المثالي يود استخدام قلبه لإكمال صورة لا
يستطيع أي عقل حتى الآن أن يحققها، فهذا من حقه — ولكن ذلك لا يثبت أن مذهبه هو وحده
الذي يستحق أن يسمى فلسفة.»
(٧) تباين الجو العام للمدرستين
على أن معظم الناس، كما أشرنا من قبل، يهتمون بالجو أو المزاج العام للفلسفة أكثر
مما
يهتمون بتفاصيلها العقلية. فهذا الجو العام أو النغمة الأساسية لأي مذهب فكري هو الحاسم
بالنسبة إلى الإنسان العادي. ولا شك أننا ندرك الآن بوضوح أن الجو العام للمثالية
وللمذهب الطبيعي أشد تباينًا حتى من جوانبهما العقلية. فالمثالية تنطوي على جو من الثقة
الهادئة بالمعقولية الأساسية للإنسان والكون معًا. وهذه المعقولية لا تتضمن فقط القول
إن للواقع نظامًا وتركيبًا منطقيًّا مماثلًا لنظام الذهن وتركيبه، بل هي تشير إلى وجود
غاية واتجاه في العملية الكونية. ولما كانت هذه الغاية، أو هذه «الحالة التي تسود الطقس
الكوني» (كما أسماها وليام جيمس) تتجه إلى تحقيق القيمة أو بلوغ «الخير»، فكل ما علينا
هو أن نربط حياتنا وغاياتنا الفردية بالغاية الشاملة لكي نجد في الحياة دلالة وسعادة.
ومن هنا فإن المثالية تدعونا إلى البحث عن الواقع المعقول الذي يعترف بأنه كثيرًا ما
يكون مختفيًا وراء المظاهر الأقل معقولية — وإلى التمتع خلال هذا البحث بالصفاء الذي
يبعثه الإيمان بوجود مثل هذا الواقع المعقول وقابليته للكشف.
أما فلسفة المذهب الطبيعي، فليس في وسعها أن تقدم إلينا إلا مزاحًا إسبرطيًّا ومتعة
باهظة الثمن. من ذلك النوع الذي يجلبه أخذ حمام بارد في الصباح. فالجو الذي يسودها، وهو
جو عدم الاكتراث، والعيش في عالم لا تكون فيه أمور البشر وأمانيهم أهم من أوجه نشاط أي
نوع حيواني آخر ورغباته، هو جو لا يلقى استجابةً من معظم الناس. وأصحاب هذا المذهب
الطبيعي، شأنهم شأن أولئك الذين يأخذون حمامًا باردًا في الصباح، سيظلون دائمًا، على
الأرجح، أقلية عنيدة، تتسامح معها الأغلبية على أساس أنها فئة لا ضرر منها، وأن تكون
شاذة إلى حد ما. ذلك لأن المذهب الطبيعي لا يقدم إلينا حالة نفسية من الراحة واليقين،
ولا يزيل التناقضات بين كل العناصر المتنافرة في الحياة، بل هو بالأحرى يقول ما يغنيه
أ. أ. هوسمان على الدوام:
إن متاعب ترابنا الفخور الغاضب
موجودة منذ الأزل، ولن تغيب أبدًا
وليس معنى ذلك أن المذهب الطبيعي ينكر إمكان تحسين أحوال حياتنا — بل
إنه قطعًا ليس ملزمًا بالنظر إلى الطبيعة البشرية نظرة متشائمة — وإنما هو يؤكد أن كل
تحسين كهذا لا بد أن يأتي من جهودنا الخاصة التي نبذلها في هذا العالم الحاضر. ويعبِّر
جزء من مقطوعة شعرية لستيفن كرين عن هذه المسألة تعبيرًا محكمًا؛ إذ يقول:
قال الرجل للكون:
«سيدي، أنا موجود!»
فرد الكون قائلًا: «ولكن
هذه الحقيقة لم تولِّد فيَّ
عدم اكتراث العالم بأمور البشر:
نستطيع أن نعبر عن هذه الفكرة تعبيرًا أقرب إلى الطابع العملي، باستخدام تشبيه مستمد
من
الدراسة النفسية للتكيف. فمشكلة السعادة البشرية، كما يقول عالم النفس، هي مشكلة تكيف:
إذ إن السعادة هي النغمة الانفعالية المستمرة التي تقترن بحالة التكيف بين الكائن
العضوي السليم وبين بيئته. وبالاختصار فلا بد لنا، لكي نكون سعداء، من أن نصبح مندمجين
في العالم المادي والاجتماعي الذي نعيش فيه، إما بتغيير تلك البيئة، وإما (إذا كان ذلك
مستحيلًا)، بتغيير أهدافنا على نحو يجعلها قابلة للتحقيق. ولكن من واجبنا، حتى نبدأ
عملية التكيف، أن نتذكر هذه الحقيقة الأساسية، وهي أن بيئتنا ليست إلا شريكًا سلبيًّا
في هذه العلاقة. فالعالم يوجد حولنا بطريقة سلبية، على استعداد لأن يستغل إلى أي حد
يمكننا أن نفرض به إرادتنا عليه. أما أن نقبع في أماكننا وننتظر منه أن يخطو الخطوة
الأولى، أو يبدي أي اهتمام بمصالحنا وسعادتنا، فهذا دليل على الافتقار إلى النضج العقلي
والعاطفي.
والأمر هنا أشبه بحالة طائر يبني عشه تحت سقف مخزن للغلال. فالمخزن هناك، سلبي وغير
مكترث بنجاح عملية بناء العش أو إخفاقها. وقد يستهلك الطائر نفسه من فرط التعب دون
جدوى؛ إذ إنه ما لم يحل مشكلة تكييف مواده حسب هذا المكان، فإن مآله الحتمي سيكون إلى
الإخفاق. ولن يرفع المخزن لوحًا من الخشب أو يحرك عمودًا، بغضِّ النظر عن جهود الطائر
ورغباته. وليس ثمة شيء قادر على أن يحول المخزن عن عدم اكتراثه هذا، لنفس السبب الذي
لا
يستطيع من أجله أي شيء أن يحول الكون من عدم اكتراثه: فكلٌّ منهما لا يمثل إلا فعل
القوى الطبيعية. وليس في أي منهما «عقل» أو «روح» أو «شخصية». ولا يوجد في أيٍّ منهما
شيء يمكن تحريكه بالفكر وحده، سواء اتخذ هذا الفكر صورة أحلام اليقظة الخاملة، أم صورة
الميتافيزيقا المذهبية المحكمة، أو حتى صورة الصلوات الخاشعة. وهذه، في نظر صاحب المذهب
الطبيعي، هي الحقيقة الأساسية في علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه.
المذهب الطبيعي ليس تشاؤميًّا بالضرورة: على أن
موقف المذهب الطبيعي هذا من العالم الذي نعيش فيه لا يعني (كما يسارع أنصاره إلى القول)
أن السعادة مستحيلة، أو أن الحياة مهزلة، أو أن الكون دعابة ساخرة هائلة. فالمذهب
الطبيعي يهتم بالسعادة البشرية بقدر ما تهتم به أية فلسفة أخرى. ومع ذلك، فهو يختلف عن
معظم المدارس الأخرى، ولا سيما المثالية، في الوسيلة التي يمكن بها بلوغ السعادة على
أفضل نحو، وتحقيق أكبر قدر من إمكانيات الطبيعة البشرية. ففي رأي صاحب المذهب الطبيعي
أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف أن نبني حياتنا وحضارتنا معًا على أساس من المذهب
الطبيعي. ونحن لن نجني شيئًا من الحديث عن «قانون علوي»، أو «عدالة إلهية»، أو «خير
كوني» أو «السماء»، أو «المطلق». ولكننا يمكن أن نخسر منه الكثير؛ لأن هذه المفاهيم
الغامضة قد تصبح أدوات هروبية، ووسائل لتجاهل شرور اجتماعية واضحة، أو أساليب لتبرير
المظالم الكامنة في مجتمعنا. صحيح أن التفكير على أساس مثل هذا «الوحي» يجلب لنا
السكينة عندما ننوه بمشكلات فادحة، وعندما تبدو الحياة أعقد من أن تُفهم أو أصعب من أن
تُحتمل، ويتفق صاحب المذهب الطبيعي مع عالم النفس على أن هذه المعتقدات تكون لها في بعض
الأحيان قيمة علاجية، من حيث إنها تخفف مؤقتًا توتر الحياة اليومية. غير أن هناك خطرًا
دائمًا من أن تتحول هذه المعتقدات إلى فلسفة هروبية منظمة، وبذلك تكون عقبة في وجه
الإمكانيات الهائلة التي تتيحها الحياة لبلوغ الرضا والسعادة. والحق أن هذه الإمكانيات
لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا إذا نظمنا حياتنا داخل إطار الواقع؛ أعني الواقع كما
نعرفه من خلال التجربة الحسية والعلم. فنحن نحصل من الحياة على أكبر نصيب إذا ما
واجهناها، لا إذا هربنا منها، حتى بوسيلة موقرة كالفلسفة.
(٨) التقابل بين وجهتَي النظر لا يمكن التغلب عليه
والآن، ما الذي نصنع، في الختام، حيال هذا الصراع الدرامي بين وجهتَي نظر بينهما
هذا
القدر من التعارض العميق، كالمذهب المثالي والمذهب الطبيعي؟ كيف يكون من الممكن، أولًا،
أن يصل أناس أذكياء، متشابهون في تجاربهم وتكوينهم العلمي، ويعيشون في مجتمع واحد وعصر
واحد، إلى وجهتَي نظر بينهما كل هذا التعارض؟ وكيف يتسنى، مثلًا، لواحد من المتمسكين
بالمذهب الطبيعي، ولواحد من المتحمسين للمذهب المثالي، أن يمرا جنبًا إلى جنب بتجربة
مشتركة، وأن يخرج كلٌّ منهما بمزيد من الأدلة التي تؤيد وجهة نظره الخاصة؟ لقد أتيح
لمؤلف الكتاب مرة أن يقوم برحلة في جبال «هاي سييراز» في كاليفورنيا، برفقة اثنين من
أصحاب هذين الاتجاهين الفلسفيين، ووجد أن حججهما طريفة ومحيرة في آن واحد. فإزاء هذا
المنظر الهائل المترامي الأطراف، لقمم يبلغ ارتفاعها أربعة عشر ألف قدم، يجد المثالي
حتمًا دليلًا على «الخير والحق والجمال»، وإزاء جلال الطبيعة يشعر دائمًا بغائية الكون
وخطته وقد بدت واضحة. فالجبال الكبرى قد أثارت فيه أفكارًا كبرى بدورها، وهذه بدورها
نقلته إلى «الفكرة الكبرى» الكامنة من وراء هذا كله. وهو في الأعالي وقد وجد «المطلق»،
فجبال «سييرا High Sierras» لها في نظره دلالة رئيسية
هي أنها من صنع الله.
ولكن ما هو موقف صاحب المذهب الطبيعي؟ إنه بعد أن
أفاق من استجابات المثالي إلى حد يسمح له بالتعبير الكلامي عن استجاباته هو، ظهر
التباين في وجهة نظره بكل وضوح. فالمنظر كان بالنسبة إليه رائعًا بنفس المقدار، بل يمكن
القول إنه كان أقوى إحساسًا بالجمال الطبيعي. ولكنه لم يستطع أن يحس، في القمم الشامخة
والبحيرات البديعة؛ أي «ذهن» أو أية «خطة» أو «غاية». وإنما أوحت إليه هذه المناظر
بالاتساع الهائل في نطاق الطبيعة، وبعزلتها، وثباتها الذي لا ينال منه الزمان، وبالدورة
الأزلية لليل والنهار، والصيف والشتاء، والشمس والثلج. وهو لم يجد في ذلك «حضرة» باقية
«مقرها نور الشموس الغاربة»، أو لمحات على الخلود، بل إنه كان في معظم الأحيان يبدي
إعجابه بأزلية النظام الطبيعي في مقابل قِصر عمر الإنسان. وهكذا أشعرته كل هذه العظمة
والجمال بصرامة الطبيعة، وكذلك بعدم الاكتراث الهائل للكون إزاء الإنسان وحياته
القصيرة. ولعل لفظ «العزلة» كان أكثر الألفاظ ورودًا على لسانه وهو يصف أحاسيسه إزاء
قمة أو بحيرة. ولقد وجد في هذا المنظر حافزًا ومثيرًا، وكلنه لم يجده «ملهمًا» أو
«موحيًا»، فالحياة في مثل هذا الإطار لمدة أسابيع قليلة كفيلة بتطهير مخه من نسيج
العنكبوت الذي يعشش فيه، وبإشعاره بضآلة أمور البشر، (وضمنها أموره الخاصة. ولهذه
الحياة بوجه عام تأثير مقوٍّ — ولكنه كان التأثير المقوي الناتج عن الاستغراق في إحدى
تلك البحيرات التي يبلغ ارتفاعها ميلين. أما الجبال فلم يجد فيها «ذهنًا»، بل إن عزلتها
الموحشة لم يكن يعدلها إلا عزلة النجوم اللامعة التي تدور حول الرءوس في إطار مرصع يكاد
سناه يسلب عين الإنسان الكَرَى.
الأسباب المحتملة للتعارض بين الموقفين: وهكذا نعود
مرة أخرى إلى السؤال: كيف يستطيع الناس أن يمروا بنفس التجربة ويستخلصوا منها مثل هذه
النتائج المتباينة؟ إن من المستحيل الاختيار بين المثاليين من حيث هم جماعة وبين
الطبيعيين من حيث هم جماعة، على أساس الذكاء أو الإخلاص أو الحكمة أو الإرادة الخيرة.
ومن الواجب أن ننظر إلى ما هو أعمق من القدرة العقلية أو اتساع نطاق المعرفة، إذا شئنا
أن نفسر التقابل الأساسي بين قطبَي الفلسفة هذين. ولقد قسم وليم جيمس، في هذا القرن،
وفي البلاد الأمريكية، الناس إلى صنفَين كانا في نظره أساسيَّين: هم «ذوو العقول
الصارمة» و«ذوو العقول الرقيقة» وقد لقي هذان التعبيران قبولًا واسعًا.
ولقد كان جيمس يجمع بين وجهة نظر عالم النفس ووجهة نظر الفيلسوف. ولذلك فإن مما له
دلالته أنه ذكر أن الفارق هو على الأرجح فارق في المزاج — وبالتالي فهو في عمق جذوره
لا
يقل عن أية فوارق بشرية أخرى نعرفها. ومن سوء الحظ أننا لا نعلم عن أساس هذا «المزاج»
أو طبيعته أكثر مما كان جيمس يعلم منذ ثلاثة أجيال. فما زال هذا المجال، حتى اليوم،
سرًّا غامضًا، على الرغم مما بذله علماء البيولوجيا وعلم النفس من جهود لارتياده
وكشفه.
من الممكن اتخاذ قرار: لا بد أن يكون قد اتضح للقارئ الآن أن الجدل بين هاتين
المدرستين الكبيرتين يمكن أن يستمر إلى الأبد — وهو على الأرجح سيستمر بالفعل. وبغضِّ
النظر عن طريقة تفسيرنا للتقابل بين هذين القطبين الرئيسيين للفكر الفلسفي، فإن هذا
التقابل ذاته سيظل أبرز حقيقة في التاريخ الطويل للنشاط التأملي. وقد لا يكون في وسع
المبتدئ في الفلسفة بعد أن يحدد الفئة التي ينتمي إليها، أو أن يدرك أهو «مثالي» أم
«طبيعي»، ولكن هذا أمر لا يتوقع من المرء في المرحلة المبكرة من تطويره الفلسفي. ويكفي
أن نكون قد أحسسنا الآن بالتقابل الأساسي ونتائجه الرئيسية. ولعل القارئ قد شعر بأن
كلتا المدرستين لديها حجج قوية مقنعة، وبأن في استطاعة المرء الاختيار من بين هذه الحجج
من أجل تكوين مذهبه الخاص في الفلسفة. وبالفعل نجد كثيرًا من المبتدئين في هذا المجال
يحاولون القيام بهذا العمل، ولكن المرء كلما تقدم في الدراسة الفلسفية، كان الأرجح هو
أنه سينجذب إلى أحد هذين القطبين أو الآخر. وسوف يزداد موقف القارئ الخاص وضوحًا في
نظره خلال الفصول القادمة، عندما نقوم باستعراض عام لمختلف مشكلات الفلسفة داخل الإطار
الذي حددناه الآن.