الفصل السادس
الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
ربما كانت مسألة التعريف أكثر المشكلات الفلسفية دوامًا وإثارة للمتاعب. صحيح أن كل
ميدان
للنشاط العقلي يتعين عليه أن يصارع مع مشكلة تقديم تعريف وافٍ لمصطلحاته، غير أن الفلسفة
تواجه مع هذه المشكلة وقتًا عصيبًا بوجه خاص. ومن الأسباب التي يرجع إليها ذلك أن الفيلسوف
— كما قلنا من قبل — هو عادةً شخص ذو نزعة فردية متطرفة؛ إذ إن من المستحيل أن يجعل أيُّ
شخص من الكون كله، ومن التجربة البشرية بأسرها، مشكلة عقلية، لو لم يكن ذا نزعة فردية
صارمة. ومع ذلك فإن هذا الخلط يرجع في الأغلب إلى طبيعة الموضوع. فالفيلسوف لا يتعامل
إلا
مع تصورات معظمها شديد التجريد. ومن ثم فإنه يشتغل في جو عقلي أثيري، يبلغ الهواء فيه
من
الرقة حدًّا لا يكاد يحتمل معه نشاطًا.
فإذا ما انتقلنا إلى تحليل الذهن، لصادفتنا مشكلة التعريف هذه بكل ضخامتها. وهذا أمر
يدعو
إلى الأسف الشديد؛ إذ إن «الذهن» من أهم المقولات في الفلسفة. فهو يشكل واحدة من أهم
نقاط
الارتكاز في هذا الميدان، بل إن من العسير أن نجد نقاط ارتكاز أشمل منه، يمكنه أن يرتبط
بها
بدورها، وأن يعرف من خلالها. وهكذا نكون إزاء مقولة أو فئة رئيسية للتجربة، تبلغ من التفرد
حدًّا يجعلها توجد فيما يشبه الفراغ الميتافيزيقي. فالذهن، كما يقول عالم المنطق، هو
شيء
فريد في نوعه، يؤلف فئة قائمة بذاتها. ولكن لما كان مفهوم الذهن أساسيًّا في مجال المصطلحات
الفلسفية، فلا بد لنا من الوصول إلى نوع من الفهم لمعناه.
التمييز بين الذهن والمخ: يلاحظ أولًا أن الطلاب يخلطون
على الدوام تقريبًا في تحديد العلاقة بين «الذهن» و«المخ» بدقة. ومن حسن الحظ أنه ليس
من العسير على أذهاننا فهم هذا التمييز، من حيث ما
يتضمنه من مصطلحات. ولنضرب لذلك مثلًا: فالجملة السابقة قد تضمنت لفظ «أذهاننا»، ومن
غير
المحتمل أن يجد القارئ أية صعوبة في فهم عبارة «ليس من العسير على أذهاننا فهم هذا
التمييز». ولو كانت هذه الجملة قد تضمنت لفظ «مخنا» لكان من المؤكد أن يشعر القارئ بشيء
من
الدهشة؛ ذلك لأن المخ عضو مادي، وهو موجود في الزمان، وله وزن يقدَّر بحوالي خمسين أوقية
(في الذكر البالغ)، كما أن له علاقة وظيفية محددة ببقية التركيب المادي للكائن العضوي.
ولقد
رأى معظمنا أمخاخًا، محفوظة في زجاجات على رفوف المعامل، أو في مكانها الطبيعي من تجويف
جمجمة ضفدعة أو قطة يجري تشريحها في درس البيولوجيا. وبالاختصار فالمخ شيء مادي، يتميز
بأنه
ملموس و«موضعي» شأنه شأن الكرسي أو الحجر. وهو بهذا الوصف خاضع لكل القوانين التي تؤثر
في
الأشياء المادية (كالجاذبية)، فضلًا عن تلك التي تسري على المادة العضوية (كالتحلل).
وهكذا
تكون الجملة السابقة قد تضمنت معنًى هزيلًا جدًّا لو كانت قد تحدثت عن ضرورة «فهم مخنا
لهذا
التمييز»؛ ذلك لأننا لا نفهم التمييزات بواسطة أشياء مادية، ولكن نوضح التمييزات المتعلقة
بالأشياء المادية. أما إذا كانت الجملة قد ذكرت شيئًا عن «ثقب في المخ»، فإن الجملة عندئذٍ
يكون لها معنى.
فما هو «الذهن» إذن؟ إن لفظ «الذهن» من أكثر الألفاظ استخدامًا في المناقشات العقلية،
وقد
أوردنا وصفًا لنظرة إلى العالم (هي المثالية) ترتكز على الذهن بوصفه الحقيقة النهائية.
فإن
لم يكن الذهن يشمل مكانًا، أو له ثقل، ولم يكن يتأثر بالقوانين الآلية أو الفيزيائية،
ولا
يمكن تحديد موقعه في بقعة مكانية محددة، فما هو إذن؟ وأين هو؟ وما علاقاته بعالم الأشياء
المادية، وضمنها الجسم والعالم الطبيعي بأسره؟
هذه المسائل، ومعها عدة مسائل ثانوية، هي موضوع الفصل الحالي. فسوف نبدأ أولًا ببحث
الآراء الرئيسية في طبيعة الذهن ذاته. ثم ننتقل إلى مشكلة العلاقات بين الذهن والجسم،
ولا
سيما ذلك الجزء من الجسم، الذي يُعرف بالجهاز العصبي المركزي، والذي يشمل المخ. وبعد
ذلك
ينبغي علينا أن نستكشف منطقة الحدود الواقعة بين مشكلة الذهن ومشكلة المعرفة، وهي المنطقة
التي تعد أهم مشكلاتها هي العلاقة بين الذهن وبين العالم الخارجي الذي يمر بتجربة الذهن.
وأخيرًا ينبغي أن نكون ميتافيزيقيين لفترة وجيزة، ونتأمل نظريًّا في العلاقة بين الذهن
وبين
الواقع بوجه عام. وكما هو واضح، فإن أمامنا فصلًا بأكمله لمعالجة هذا الموضوع.
(١) النظرة الجوهرية إلى الذهن
كانت هناك آراء متعددة حول طبيعة الذهن، ما زالت كلها تقريبًا تجد لها أنصارًا بين
جماعات كبيرة أو صغيرة من المفكرين. ومن حسن الحظ — فيما يتعلق بالتحليل الذي نقدمه —
أن هذه الآراء المتعددة يمكن أن ترد بشيء من السهولة إلى أربعة مواقف أو خمسة، وحسبنا
في مدخل إلى الفلسفة كهذا أن نكوِّن فكرة واضحة عن هذه الآراء، أو هذه الآراء، وأهمها
من الوجهة التاريخية، هو النظرة الجوهرية.
١ وكما توحي هذه التسمية، فهي تنظر إلى الذهن على أنه جوهر؛ أي شيء أو كيان.
على أن المفهوم العام للجوهر لا يتضمن الوجود المادي وإنما الوجود المستقل، كما رأينا
في الفصل السابق، فالجوهر هو ما يوجد في ذاته وبذاته، لا بوصفه حالًا لشيء آخر. فهو ما
يتلقى التعديلات ولكنه لا يعتمد على هذه التعديلات (أو على أي نوع من العلاقات) لكي
يستمد منها وجوده. وإذن، فمهما تكن علاقات الذهن بالجسم أو بالعالم الخارجي. فإنه
(تبعًا لهذا الرأي الجوهري) لا يعتمد على هذه العلاقات في وجوده. فهو، بوصفه جوهرًا
روحيًّا، مكتفٍ بذاته وموجود في ذاته.
هذه النظرة إلى الذهن كان لها من التأثير في الفكر الغربي ما يسمح لنا بالتنبؤ بأن
تسعة على الأقل من كل عشرة طلاب يكونون مؤمنين بها عند بدء دراستهم للفلسفة أو علم
النفس. فهي تمثل الموقف التقليدي للمسيحية، وهي تنسجم مع ذلك الموقف الذي سنرى بعد قليل
أنه أكثر المواقف الميتافيزيقية شيوعًا، وهو «ثنائية الموقف الطبيعي Common-Sense Dualism» (الفصل العاشر)، بل إننا نكون منطقيين تمامًا
لو أطلقنا على هذا الرأي اسم «المذهب الجوهري للموقف الطبيعي»: إذ إننا بطبيعتنا ننظر
إلى ذهننا على أنه كيان لا مادي يوحد بين تجاربنا التي تحدث من لحظة لأخرى. فنحن ننظر
إلى الذهن على أنه ما تكون لديه هذه التجارب المتعددة؛ أي ما يدركها أو يفكر فيها أو
يريدها. ونحن نتصوره كيانًا يكمن من وراء كل الحوادث الذهنية، وفاعلًا تحدث بواسطته
وتنتمي إليه. والذهن، في لغة الحديث اليومي، هو «ما يمر بالتجارب». فمما يتفق مع الموقف
الطبيعي أن نعتقد أن هناك لبًّا ثالثًا لا يتغير أساسًا، تكمن فيه هذه التجارب وتتوحد
بواسطته. ويستخدم دعاة الجوهرية عادةً لفظ «النفس»، بدلًا من لفظ «الذهن» الأحدث عهدًا،
غير أن المفهوم ذاته متشابه إلى حدٍّ بعيد، سواء أكان من يستخدمه هو أفلاطون أم المثالي
الحديث. وهكذا فإن الألفاظ الرئيسية التي يشيع استخدامها في هذه المدرسة هي ألفاظ
المفارقة للجسم، والوحدة، والجوهرية، ويضاف إلى هذه الألفاظ الثلاثة عادةً لفظ رابع
مستمد منها منطقيًّا، هو الخلود.
نقد هيوم لفكرة الجوهرية: على الرغم من أن
الاعتراضات قد أثيرت على هذه النظرية الجوهرية حتى قبل أن ينتهي أفلاطون من تعريفه له
فإن هذه الهجمات لم تبلغ حد العنف الكفيل بجعل أنصار الجوهرية يلتزمون موقف الدفاع إلا
في القرن الثامن عشر. فقد كان هيوم، الشكاك الاسكتلندي الكبير، من حدة الذهن بحيث أدرك
أن الإيمان بجوهر روحي، مهما يكن منطقيًّا أو مرضيًا من الوجهة الدينية، لا يستند إلى
أي أساس من تجربتنا الفعلية. ولقد كان المفكرون السابقون مباشرة على هيوم، ولا سيما
ديكارت وباركلي، قد ذهبوا إلى معرفتنا لذهننا أو ذاتنا هي أكثر المعارف التي يمكننا
اكتسابها يقينية. فديكارت، الذي بدأ استدلاله بالعبارة المشهورة «أنا أفكر … إذن أنا
موجود»، قد جعل من الوضوح الذاتي المزعوم للذهن الجوهري أساسًا لمذهبه كله. وهكذا فإن
هؤلاء المفكرين السابقين على هيوم قد جعلوا من الاستبطان أو المعرفة الذاتية نقطة بداية
لكل بحث عقلي. وقد وافق هيوم على هذا المعيار الاستبطاني على مضض، ثم شرع يطبقه نقديًّا
على الموضوع المفضل لدى القائل بفكرة الجوهرية؛ أعني الذهن ذاته، فكانت النتائج سليبة
تمامًا؛ إذ لم يستطع أن يهتدي إلى كيان جوهري من أي نوع. والحق أن الحجة التي دلل بها
هيوم على وجهة نظره هي مثال للاستدلال النقدي يبلغ من الروعة حدًّا جعله واحدة من أكثر
الفقرات التي يشيع اقتباسها بين المؤلفات الفلسفية كلها:
«من الفلاسفة من يتصورون أننا في كل لحظة واعون داخليًّا بما نسميه ذاتنا،
وأننا نشعر بوجودها واستمرارها في الوجود، وأنننا واثقون من هويتها وبساطتها
الكاملة إلى حد لا نحتاج معه إلى دليل … أما أنا، فإني عندما أتوغل بكل عمق
فيما أسميه ذاتي، أعثر دائمًا على إدراك أو إحساس محدد معين، بالحرارة أو
البرودة، والضوء أو الظل، والحب أو الكراهية، والألم أو اللذة، ولا أستطيع
أبدًا أن أقتنص ذاتي في أي وقت دون إدراك، أو أن ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك.
وعندما تتوقف إدراكاتي خلال أية فترة، كما في حالة النوم العميق، فإني أظل طول
ذلك الوقت غير شاعر بذاتي، ويمكن القول حقًّا إنني لا أوجد … فما الذات إلا
حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بسرعة لا يمكن تصورها، وتظل
في صيرورة وحركة دائمة … إن الذهن نوع من المسرح، تظهر فيه عدة إدراكات
متعاقبة، فتمر، وتمر من جديد، وتتباعد، وتمتزج على أنحاء لا حصر لها من المواقف
والأوضاع. غير أن من الواجب ألا ندع التشبيه بالمسرح يضللنا. فالإدراكات
المتعاقبة وحدها هي التي تؤلف الذهن …»
وهكذا فإن هيوم بعد أن أفرغ من النظرة الجوهرية إلى الذهن كل ما فيها من حشو، صاغ
رأيًا يمكن تسميته بالنظرة الفعلية Actualist إلى
الذهن. هذه النظرية تنمو منطقيًّا من الاستدلال الذي اقتبسناه منذ قليل: فما الذهن إلا
مجموعة كومة من التجارب. و«حزمة الإدراكات»، تربطها معًا قوانين معينة للتداعي.
وليس ثمة لبٌّ باطن أو أساس روحي يستخدم في توحيد مختلف الحوادث الذهنية. ولا توجد
إلا الحوادث ذاتها، التي ترتبط عشوائيًّا وفقًا لما يطلق عليه هيوم اسم «العادات».
وبغضِّ النظر عما في افتراض وجود فاعل يقوم بالتوحيد أو كيان في قلب تجربتنا، من إرضاء
لتفكيرنا المنطقي أو حاستنا الجمالية، فإن هيوم يتشبث بموقفه: فلا الاستبطان، ولا أية
طريقة أخرى في المعرفة، تكشف لنا عن شيء كهذا. والأمر المشاهَد بالفعل هو أن أذهاننا
ليست إلا تلك التجارب الدائمة التغير. التي ترتبط فيما بينها ارتباطًا غير وثيق عن طريق
التداعي.
رأي «كَانْت» في الذهن: على الرغم من أن «إمانويل
كانت» قد استيقظ بفضل تحليل هيوم من الإيمان القطعي بوجهة النظر الجوهرية، فإنه لم
يستطع أن يظل قانعًا بتلك النتائج التي هي أقرب إلى الفوضوية، والتي انتهى إليها هيوم؛
لذلك انتقل إلى إدخال تعديل على هيوم كان له تأثيره الهائل. ففي رأي كانت أن عيب الموقف
الجوهري التقليدي ليس تعارضه مع التجربة، بقدر ما هو تناقضه الذاتي المنطقي؛ ذلك لأن
المذهب الجوهري يرى أننا نستطيع معرفة ذهننا أو ذاتنا بوصفها موضوعًا للمعرفة بنفس
الطريقة التي نعرف بها أي شيء في العالم الخارجي. غير أن من المستحيل في رأي كانت، أن
تكون الذات في آن واحد موضوعًا وذاتًا في علاقة المعرفة. فأنا لا أستطيع أبدًا أن أعرف
نفسي بوصفي ذاتًا، ولكني أعرف نفسي فقط بوصفي موضوعًا. ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا
إلا بوصفنا «مفعولًا به» لا بوصفنا «فاعلًا». وعندما ننظر إلى هذا المفعول به القابل
للمعرفة، نكتشف ما سبق أن اكتشفه هيوم بالضبط: أعني تعاقبًا متصلًا للحالات الذهنية أو
«التجارب».
ولقد كان الأمر الذي أخذه كانت على تحليل هيوم هو إخفاقه في تأكيد وحدة الذهن بما
فيه
الكفاية. فليست قوانين التداعي وحدها؛ أعني التلاصق Contiguity والتعاقب والتشابه — بكافية لتحويل حزمة متجمعة من الإحساسات
إلى كلٍّ من أي نوع. فالتداعي مثلًا يفترض الذاكرة، والذاكرة بدورها تفترض شيئًا يقوم
بالتذكر. وعلى الرغم من أن كانت قد أطلق على هذا العامل الموحد اسمًا شديد التعقيد هو
«الوحدة
التركيبية للوعي الذاتي The Synthetic Apperception of
Unity»، فيكفي — بالنسبة إلى غرضنا الحالي — أن
نفهمه على أنه عامل ليس جوهرًا ولا كيانًا، وإنما هو مبدأ منظم أو موحد يقوم بمهام أكثر
كثيرًا من مجرد «الربط» بين مجموعة الإحساسات والحوادث الذهنية. وفضلًا عن ذلك فإن هذا
المبدأ أو الفاعلية إيجابي نشط؛ ومن ثَم فهو مختلف تمامًا عن ذلك الكيان السلبي السكوني
الذي تصوره أفلاطون ومعظم القائلين بالجوهرية منذ عهد أفلاطون. وعلى حين أنه قد استخدمت
أسماء كثيرة للتعبير عن هذه النظرة الكانتية إلى الذهن، فإن اسمَي «الترنسندنتالي»
و«العضوي» هما الأفضل. وسوف نستخدم اللفظ الأخير، على سبيل التيسير، ما دام يفيد في
تأكيد الطابع الموحد والعضوي للذهن.
وأخيرًا، فمن الواجب أن نلاحظ أن رأي كَانْت يمثل موقفًا توفيقيًّا. فهو يحاول وضع
نظرية في الذهن تتمشى مع ملاحظتنا الفعلية للذهن عن طريق الاستبطان، وتعمل أيضًا حسابًا
للوحدة الخاصة التي يبدو أنها تميز أذهاننا كما تعرف بالنسبة إلى ملاحظ آخر. وهكذا تصور
كَانْت أنه، بافتراضه فاعلًا موحدًا، قد تمكن من تلبية كلٍّ من المطلبين — حتى لو كان
ذلك يحتم إخفاء جهلنا بطبيعة هذا الفاعل وراء اسم مهول. أما المنطقي التجريبي الحديث
(كما سنرى في الفصل الحادي عشر) فيرى أن مثل هذه الموجودات غير القابلة للتحقيق ليس لها
في الفلسفة مكان أكثر مما لها في العلم. ولكن «كَانْت» كان يتفلسف على أساس التراث
السائد في عصره عندما قال بهذا الفاعل الموحد الفرضي.
(٢) النظرة المادية إلى الذهن
وفي الطرف المقابل للنظرة الجوهرية التي يقول بها المثالي، نجد ما يمكننا أن نسميه
بنظرة الهوية Identification Theory التي يقول بها
المادي المتطرف ومعظم السلوكيين المعاصرين. والقضية الرئيسية لهذه المدرسة بسيطة؛
«فالذهن» وكل أوجه نشاطه يتألف من حركات شديدة التعقيد في المخ، الجهاز العصبي المركزي،
وأعضاء جسمية أخرى (أحيانًا). وبعبارة أخرى، فالظواهر النفسية في هوية مع الظواهر
المادية، وما الحوادث الذهنية إلا تغيرات جسمية معينة، ولا سيما تلك التي تتعلق بالجهاز
العصبي المركزي. وهكذا ينتهون إلى رأي يتمشى مع الموقف المادي العام، ويقول إنه ليس ثمة
شيء اسمه «العالم النفسي»، فلا وجود للذهن بما هو كذلك ولا مبرر للفظ «الذهن» أو
«الذهني» إلا بوصفه تصنيفًا مريحًا لأنواع معينة من الأحداث المادية.
النتائج الواحدية للمادية: هذا العرض الموجز للفرض
المادي هو ذاته كافٍ لكي يبين لنا أننا لسنا إزاء مذهب متطرف فحسب، بل مذهب ينتمي إلى
فئة مختلف تمامًا عن تلك التي تنتمي إليها الآراء الثلاثة التي نوقشت من قبل. فنحن هنا،
في الواقع، إزاء رأي مختلف من الوجهة الميتافيزيقية، كما سنوضح بالتفصيل في فصلٍ تالٍ
(الفصل التاسع)؛ ذلك لأن الآراء الثلاثة الأولى، مهما يكن اختلافها فيما بينها، تنطوي
كلها على نظرة ثنائية إلى الواقع. وهي كلها تفترض تمييزًا كيفيًّا بين الذهن والجسم:
فأيًّا كانت طبيعة الذهن، فهو شيء منفصل عن التركيب المادي للجسم، بل إن الموقف المتطرف
الذي اتخذه هيوم ينطوي ضمنًا على تمييز كيفي بين الإحساسات أو الإدراكات، التي تكوِّن
الذهن بتجميعها سويًّا، وبين المخ المادي أو الجهاز العصبي الذي تحل فيه هذه التجمعات.
كذلك فإن «الوحدة التركيبية للوعي الذاتي» كانت هي قطعًا ذات طابع نفسي أو روحي، أيًّا
كانت طبيعتها الأخرى. ولما كانت النظرة الجوهرية تعرف بأنها الرأي القائل إن الذهن كيان
أو جوهر روحي، فإن النتائج الضمنية الثنائية لهذا الموقف بادية للعيان.
وفي مقابل هذه الآراء الثلاثة، تقول المادية بنظرية واحدية صارمة: فالذهن هو ذاته
التغيرات المعقدة الدقيقة التي تحدث في الجهاز العصبي وجهاز الغدد، ولا شيء غير ذلك.
وليس ثمة فارق كيفي هنا، ما دام العالم المادي أو الجسمي هو كل ما يوجد. والنشاط (الذي
يعني نوعًا من الحركة) في أجزاء معينة من العالم المادي هو ما نطلق عليه، على سبيل
التيسير، اسم «الذهن». وبالاختصار «فالذهن» اسم سهل لخرافة منهجية مريحة، ولكنه لا يدل
على كيان أو فاعل منفصل.
مغالطة الرد: لقد وصفنا الموقف المادي بأنه
«متطرف». غير أن خصومه المستائين (ولا سيما المثاليين) يطلقون عليه أوصافًا أعنف من هذه
بكثير، بل إن صاحب المذهب الطبيعي ذاته، الذي قد ينتظر منه أن يكون أكثر الناس تعاطفًا،
يشعر عادةً بأن المادية تقع هنا في ذلك الخطأ المسمى بمغالطة الرد
The Reductive Fallacy — وهو الخطأ الفكري الذي
تتعرض له بوجه خاص المذاهب المتطرفة، الروحية منها والمادية، والمغالطة في الحالة
الراهنة تتعلق بالادعاء بأن الذهن «ليس إلا» مادة. فعلى حين أن كل علماء النفس
المعاصرين، على الأرجح، قد يعترفون بأن الظواهر الذهنية لا يمكن أن توجد إلا بوجود
أحوال جسمية سابقة، فإن السلوكيين المتطرفين هم وحدهم الذين يستدلون من ذلك على أن
الذهني «ليس إلا» الجسمي، ولكن باسمٍ آخر؛ ذلك لأن أية هوية كهذه بين فئتَي الوجود
هاتين، كما سنرى فيما بعد عندما نتعمق في مشكلة الميتافيزيقا، تتنافى مع تجربتنا ومع
لغتنا معًا. فمهما يكن مقدار اعتماد الظواهر الذهنية في وجودها على الظواهر المادية،
فإن فئتَي التجربة هاتين ليستا فئة واحدة، ولا يمكن أن يفيد أي تبسيط ردي
Reductive كذلك الذي تحاول المادية القيام به، في
الوصول إلى التوحيد بين كلٍّ منهما. وحتى لو سلَّمنا بأن الذهني لا يمكن أن يظهر بدون
المادي (وهو موقف يقول به المذهب الطبيعي وينكره المذهب المثالي)، فإن الذهني ما إن يصل
بالفعل إلى هذا الوجود المعتمد، حتى يصبح منتميًا إلى نمط مختلف تمامًا من أنماط
الوجود. فقد لا تكون للذهن أوَّلية ميتافيزيقية (حسب قول المثالي)، غير أن لديه قطعًا
وجودًا متميزًا من الناحية الكيفية.
٢
(٣) النظرة الوظيفية إلى الذهن
اقترح البعض النظرية الوظيفية Functional، في محاولة
لصياغة رأي عن الذهن يعمل حسابًا لتجربتنا، ويتمشى تمامًا في الوقت ذاته مع العلم
الحديث، ولكن من سوء الحظ بالنسبة إلى أغراضنا الراهنة، أن هذا الرأي الوظيفي هو عادةً
رأي يصعب على الطلاب فهمه ما لم يكن لديهم، قبل الشروع في دراسة الفلسفة، إلمام واسع
بعلم النفس. ومع ذلك فإن دراستنا الموجزة للمذهب الوظيفي في الفصل السابق كفيلة بأن
تجعل هذا المفهوم مألوفًا إلى حد ما.
يبدأ صاحب النظرة الوظيفية بنقد مغالطة الرد في المذهب المادي، وهي المغالطة التي
عرضناها منذ قليل. وإذ يرفض المذهب الوظيفي كل الآراء الثنائية (ولا سيما الرأي
الجوهري)، فضلًا عن الواحدية المتطرفة للمذهب المادي، فإنه يعترف بأن من المحال وجود
تفكير بلا مخ، ولكنه يرفض أن يوحد بين الاثنين على أساس هذه الحقيقة. فالاعتراف باعتماد
س على ص ليس معناه إرجاع س إلى ص، ولا هو ضمان لاستنتاج أن س هي بالتالي غير حقيقية.
فصاحب النظرية الوظيفية يرى أن «الذهن» هو مجموعة أو فئة من الوظائف، وليس مجرد مخ
مادي، أو جوهرًا روحيًّا بسيطًا. ذلك لأن القول بأن الذهن كيان أو جوهر روحي لا يعني
شيئًا؛ إذ إن علاقة هذا المفهوم بتجربتنا تبلغ من الضآلة حدًّا يجعل اللفظ لا يعني
شيئًا. ومن جهة أخرى فالقول بأن الذهن هو المخ ليس إلا كلامًا فارغًا — أو على الأصح
كلام لا معنى له: فمثل هذا الحكم لا يقع خارج نطاق التجربة (كما هي الحال في المذهب
الجوهري) وإنما الأصح أنه يناقض تجربتنا، التي هي — كما هو واضح — تجربة فيها نمطان أو
عالمان للوجود.
الذهن هو ما يفعله الذهن: وباختصار فالمذهب الوظيفي
يرى أن الذهن هو ما يفعله الذهن. وأفضل تشبيه هنا هو التشبيه بمجال الفيزياء.
فالفيزيائي يرى أن الكهرباء لا يمكن أن تعرف إلا على أساس نشاطها. فليس في وسع أي عالم
أن ينبئنا بما تكونه الكهرباء «في ذاتها»، وإنما هو لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال
إلا بتعداد لما تستطيع الكهرباء أن تفعله. فالكهرباء في نظر علم الفيزياء هي ما تفعله،
وهي لا تعرف إلا على أساس وظيفتها. ومن ثم فإن أي تعريف علمي لها ينبغي أن يكون
وظيفيًّا بالمعنى الدقيق. وكذلك الحال في كثير من المفاهيم الأساسية الأخرى للعلم.
«فالطاقة» مثلًا تعرف بأنها القدرة على القيام بالعمل، و«طبيعتها» هي هذه القدرة أو
وظيفة أداء العمل هذه، وهذا هو كل ما تعرفه الفيزياء، أو تحتاج إلى أن تعرفه، عنها. أما
الكهرباء أو الطاقة كما هما في ذاتهما؛ أي بمعزل عن وظائفهما — فالعلم لا يعرف عنهما
شيئًا، بل إن نفس تصور تعريف غير وظيفي لأي منهما هو شيء لا معنى له في نظر العلم.
والواقع أن معظم العلماء يتفقون مع التجريبيين المنطقيين المحدثين الذين يذكرون أن مجرد
الكلام عن طبيعة الكهرباء «في ذاتها» هو لغو لفظي، ما دامت أية نظريات تتعلق بهذه
الطبيعة المزعومة غير قابلة للتحقيق.
والواقع أن النظرة الوظيفية إلى الذهن تتوسع في هذا الرأي بحيث تمده إلى المجالين
النفسي والفلسفي. فهي تذهب إلى أن قوام الذهن هو أوجه نشاط وقدرات معينة للكائن العضوي.
فالذهن هو، إلى حدٍّ بعيد، ما يفعله الكائن العضوي. وهناك، إلى جانب أوجه نشاطنا
الجسمي، أوجه نشاط ذهنية، كالتفكير والشعور والتذكر. والذهن هو مجموع أوجه النشاط هذه؛
ومن هنا فهو وجه من أوجه النشاط الكلي للكائن العضوي، أو سلوكه. ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ
أن هذا الرأي الوظيفي لا ينظر إلى الذهن على أنه «شيء» يقوم بأوجه النشاط الخاصة أو غير
الجسمية هذه. فليس ثمة لب مركزي أو فاعل موحد أو «شخصية» تقف من وراء أوجه النشاط هذه،
كما لو كانت مشجبًا تعلَّق أوجه النشاط هذه عليه. ذلك لأن الشخصية ليست بأقل وظيفة من
الذهن، بل إننا نستطيع تعريف الشخصية بأنها الأوجه الاجتماعية للذهن؛ فهي مجموع أوجه
الذهن القاهرة «للشخصيات» الأخرى. وفي الفرد السوي، تتكامل هذه الأوجه المتباينة أو
تتوحد، غير أن «الشخص» أو «الذات» لا ينبغي النظر إليه على أنه فاعل مستقل له هذه
الأوجه أو يقوم بهذا النشاط. فهو وهي شيء واحد. ومرة أخرى، فلنقل إن الذهن هو ما
يفعله.
(٤) مشكلة الذهن والجسم
من المنطقي أن ننتقل من هذه المشكلة الشائكة، مشكلة طبيعة الذهن، إلى بحث العلاقة
بين
الذهن والجسم. وعلى الرغم من أن علم النفس قد أخذ على عاتقه، جزئيًّا، بحث هذا الميدان
الخاص، فإن الفلسفة ما زالت تهتم بهذه المسألة اهتمامًا كبيرًا. كذلك فإن التطورات التي
طرأت على علم النفس لم تفلح في حل المشكلة؛ ولذا فلا يزال هناك مجال للفيلسوف ليدلي
بدلوه، ويتقدم بنظرياته وتأملاته، في هذا الميدان.
والقسمان الواضحان اللذان تتشعب إليهما الآراء المتعددة حول هذه العلاقة هما النمط
الواحدي والنمط الثنائي. ولقد كانت الآراء الثنائية هي الأقوى تأثيرًا بكثير، من الوجهة
التاريخية، من بين هاتين الفئتين. وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن الثنائية، كما أوضحنا من
قبل، تعبر عن وجهة نظر الموقف الطبيعي. وفضلًا عن ذلك فإن المسيحية تستتبع القول بنزعة
ثنائية واضحة، ومن المعروف، بالنسبة إلى الفلسفة الغربية، أن أكثر الآراء عن الذهن
تمشيًا مع تعاليم المسيحية هي التي كانت تتفوق على غيرها عادةً. وبالنسبة إلى الموقف
الطبيعي، فإنه يبدو لنا من الواضح تمامًا أننا مكونون من جسم وذهن مجتمعين، بحيث إن
إرجاع أحدهما إلى الآخر (على النحو الذي يقتضيه أي مذهب واحد) يبدو أمرًا لا يُتصور.
لذلك فإننا سنبدأ بعرض النظريات الثنائية، محاولين بذلك الانتفاع من وجهة نظر الموقف
الطبيعي، ومن تجربة الطالب في آن واحد.
نظرية التأثير المتبادل: تعد نظرية التأثير
المتبادل Interactionism أشمل النظريات الثنائية في
العلاقة بين الجسم والذهن وأوسعها تأثيرًا. وهذه النظرية تذهب بالاختصار إلى أن الذهن
والجسم يمثلان نظامين مستقلين للوجود لا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، غير أن في
استطاعة كلٍّ منهما أن يمارس فاعليته على الآخر أو يؤثر فيه. ولهذه النظرية ميزة كبرى،
هي أنها تبدو متفقة مع تجربتنا اليومية؛ ذلك لأننا نستطيع أن نقرر أن نرفع ذراعًا (أي
أن تكون لنا تجربة «ذهنية» خالصة بشأن موضوع مادي) فنجد الذراع قد ارتفع بالفعل. وعلى
العكس من ذلك، فكلنا قد جربنا تأثير التعب أو المرض أو العقاقير المخدرة في عملياتنا
الذهنية، فعندما يضطرب الجسم على أي نحو، يكون التفكير عادةً مضطربًا أو مشوهًا.
والواقع أن هذه التجارب تبلغ من الشيوع حدًّا يصعب معه على الطلاب أن يدركوا إمكان وجود
أي رأي آخر غير نظرية التأثير المتبادل. غير أن هناك، لسوء الحظ، اعتراضات خطيرة جدًّا
توجه إلى الموقف القائل بالتأثير المتبادل. ولقد أدت نقاط الضعف هذه، التي يرى كثير من
المفكرين أن منها واحدة أو اثنتين تقضيان على النظرية تمامًا، إلى ظهور النظريات
المنافسة. ويمكن القول إن كل هذه الآراء البديلة تقريبًا قد وضعت من أجل تجنب العناصر
المعترض عليها في نظرية التأثير المتبادل؛ ومن هنا فإن من الضروري لنا أن نكون صورة
واضحة عن هذا المذهب وعن الاعتراضات الأساسية التي أثيرت ضده.
الحجج المضادة لنظرية التأثير المتبادل: أولى نقاط
الضعف في نظرية التأثير المتبادل هي أننا نجهل تمامًا كيف يحدث هذا التأثير المتبادل
المزعوم. فإذا سلمنا بأنه يبدو من الممكن في نظري أن أرغب في رفع ذراعي ثم أنفذ هذه
الرغبة، فإن علم النفس الحديث ذاته لا يستطيع أن ينبئنا إلا بالقليل جدًّا عن الطريقة
التي يؤثر بها الفكر في العضلات والمفاصل اللازمة لرفع الذراع بالفعل؛ وهكذا فإن جهلنا
بهذه المسألة لا يكاد يقل عما كان عليه عندما قدم ديكارت، في أوائل القرن السابع عشر،
عرضه الكلاسيكي للمذهب الثنائي. فقد كان ديكارت يقول بنظرية تبدو لنا اليوم ممتنعة،
مؤداها أن الغدة الصنوبرية (التي توجد في منتصف المخ) هي نقطة الالتقاء أو «البوابة»
التي تتحول بها الأفكار غير الممتدة وغير الجسمية إلى تنبيه يحرك الجسم المادي الممتد
(الذي يشغل مكانًا). وعلى العكس من ذلك فإن هذه الغدة الصنوبرية كانت هي الوسيلة التي
يتحول بها حادث جسمي (كوخزة الدبوس مثلًا) إلى إحساس أو إلى «فكرة».
والاعتراض الرئيسي الثاني على نظرية التأثير المتبادل هو استحالة تصوره؛ ذلك لأن
الكثير من خصوم هذه النظرية يرون أن فكرة ديكارت ليست أكثر امتناعًا من الفكرة القائلة
أن شيئين بينهما هذا القدر من التنافر الذي يوجد بين الذهن والجسم يمكن أن يكون بينهما
تأثير متبادل من نوع ما. فالفرق الكيفي بينهما أعظم بكثير من أن يسمح لنا حتى بتصور
إمكان حدوث تأثير سببي متبادل. ذلك لأنه لا يوجد سر واضح في الطريقة التي يستطيع بها
شيئان ماديان أن يؤثر كلٌّ منهما في الآخر (كما في حالة الاصطدام مثلًا)، كما أن تأثير
حادث ذهني في الآخر هو قطعًا ظاهرة مألوفة أخرى — كما يحدث عندما تؤدي رائحة (وهي
إحساس) إلى استعادة ذكرى (وهي صورة). أما تصور قيام حادث ذهني بإحداث تغيير في موضوع
مادي أو العكس، فهو أمر واضح الامتناع.
رد القائل بنظرية التأثير المتبادل: توجد لدى
القائل بنظرية التأثير المتبادل ردود عاجلة على هذين الاعتراضين الأولين الموجهين إلى
نظريته. فهو يتناول هذين الاعتراضين بالترتيب العكسي، فيشير إلى أن حجة «استحالة
التصور» ليست حجة على الإطلاق؛ ذلك لأن تاريخ العلم حافل بأمثلة تحول فيها شيء يعد
تصوره مستحيلًا إلى حقيقة واقعة. فبالنسبة إلى الذهن الذي كان يعيش في العصر الوسيط،
كان من المستحيل تصور إمكان أن يعيش الناس على الجانب السفلي للعالم؛ إذ إن من الواضح
أن هذا يؤدي إلى سقوطهم — وفضلًا عن ذلك فمن ذا الذي يستطيع أن يعيش معلقًا إلى الأرض
بقدميه، مثلما تتعلق الذبابة بالسقف؟ وفيما بعد كان من «غير المتصور» أن يستطيع الإنسان
الطيران؛ إذ كيف يتسنى لوسيط رقيق كالهواء «عقلًا»، أن يحمل شيئًا ثقيلًا كجسم الإنسان؟
وهكذا يشير القائل بالتأثير المتبادل إلى أن المسألة بالاختصار هي أن الدليل الوحيد على
الواقعية هو الواقع ذاته. ففي استطاعتنا أن نقدم حججًا منطقية على أن هذا الشيء أو ذاك
لا يمكن عقلًا أن يحدث أو يوجد، ولكن إذا كانت تجربتنا الحسية تبين لنا أنه قد حدث أو
وجد بالفعل، فلن يؤدي افتقاره إلى المنطق أو استحالة تصوره إلى تغيير هذه
الحقيقة.
وفضلًا عن ذلك فإن «الغموض» المزعوم، المتعلق بطريقة إمكان حدوث تأثير متبادل بين
المادي والذهني ليس حجة على الإطلاق. ففي النظام الطبيعي حوادث متعددة تعد «غامضة»
بالمعنى الصحيح. فمن الجائز أنه لا يوجد قانون علمي توطدت دعائمه بقدر ما توطدت دعائم
صيغة نيوتن العامة للجاذبية، ومع ذلك فلا نيوتن ولا نحن نعرف كيف يتسنى لأشياء مادية
تفصل بينها مئات الملايين من الأميال أن يؤثر بعضها في بعض. وعلى حين أن أينشتين قد قدم
إلينا بضعة اقتراحات رائعة عن سبب حدوث ظاهرة — «التأثير عن بعد» هذه، فإن الطريقة
الأساسية التي يحدث بها هذا التأثير ما زالت سرًّا غامضًا. وإنه لمن «غير المتصور» أن
يكون في استطاعة الأشياء التأثير بعضها في بعض دون أن يحدث بينها اتصال ميكانيكي مباشر،
أو دون أن تبعث حركات في وسيط معلوم معين، قادر على نقلها، مثلما يستطيع الهواء أو
الماء نقل الموجات. ومع ذلك فلا يمكن أن يكون ثمة شك في حقيقة الجاذبية، مهما يكن من
غموض هذا التأثير. وينتهي صاحب نظرية التأثير المتبادل إلى أن الأمر قد يكون كذلك في
حالة التأثير النفسي المتبادل: فسواء أكنا قادرين على «تصوره»، أم على تقديم تفسير
مُرضٍ له، أم لم نكن، فإنه، بوصفه واقعة خالصة، يبدو أمرًا لا يمكن إنكاره. ومن ثم فعلى
المنطق وعلم النفس أن يتهادنا مع هذه الواقعة، سواء أكانا بهذه المهادنة سعيدين أم لم
يكونا.
(٥) المذهب الآلي ومبدأ بقاء الطاقة
هناك اعتراض أخطر بكثير على نظرية التأثير المتبادل، وذلك من وجهة نظر ذوي العقليات
العلمية على الأقل، ألا وهو ما يبدو أن هذه النظرية تستتبعه من خروج على مبدأ بقاء
الطاقة. هذا المبدأ هو واحد من أشمل المبادئ التي صاغها العلم وأكثرها أساسية. ومفاده
باختصار أن كمية الطاقة في أي نظام فيزيائي تظل ثابتة. فمن الممكن تحويل هذه الطاقة،
أو
حتى تبديدها في جميع أرجاء النظام الكامل بحيث تظل داخليًّا في سكون، غير أن المجموع
الكلي للطاقة لا يمكن أن يزيد أو ينقص. على أن نظرية التأثير المتبادل بين الذهن والجسم
تبدو متعارضة مع هذا المبدأ. ولنوضح ما نقول بذلك المثال الذي سبق لنا استخدامه: فإذا
قررت أن أرفع ذراعي ثم نفذت هذا القرار، فإن الحادث الذي بدأ في أول الأمر نفسيًّا
بحتًا، ينتهي حادثًا ماديًّا. وفي هذه الحالة يبدو أنه قد أضيفت كمية معينة من الطاقة
إلى النظام المادي للجسم من لا شيء. وبالعكس فلو أن تغيرًا معينًا في العالم المادي،
مثل دق جرس، قد انتهى إلى إحساس أو إدراك للصوت في وعيي، لبدا أن الطاقة الجسمية أو
المادية قد تلاشت في «الذهن» الذي هو عدم من النواحي المادية. وفي كلتا الحالتين يبدو
أن مبدأ بقاء الطاقة قد خولف.
وهنا أيضًا نجد لدى القائل بنظرية التأثير المتبادل إجابات سريعة، وإن لم تكن تبدو
مقنعة بقدر ما كانت تبدو إجاباته على الاعتراضات السابقة. فهو يرد أولًا بأن العلاقة
السببية لا تنطوي بالضرورة على تحويل الطاقة.
٣ فكل ما يلزم لإقامة علاقة سببية بين شيئين أو حادثين هو نوع من الاعتماد
الضروري لأحدهما على الآخر. وهذا الاعتماد قد ينطوي أو لا ينطوي على تحويل للطاقة.
وثانيًا فإن تعبير أصحاب نظرية التأثير المتبادل عن العلاقة بين الذهن والجسم لا يحول
دون إمكان حدوث تحويل فعلي للطاقة. فمن الجائز أن الطاقة النفسية تتحول إلى طاقة جسمية،
والعكس بالعكس، بحيث لا يكون في الأمر خلق للطاقة أو تبديد لها. وبعبارة أخرى فإن فرض
التأثير المتبادل لا يستلزم افتراض نظامين مغلقين، فمن الممكن النظر إلى الكائن العضوي
على أنه نظام كامل، لا يكون الجسم والذهن إلا أجزاء منه.
(٦) نظرية التوازي
ليس في وسع أحد أن ينكر أن فرض التأثير المتبادل، مهما يكن حكمنا النهائي عليه، يستند
بقوة على تجربة الإنسان في موقفه الطبيعي. أما النظرية التي سنعرضها بعد ذلك، عن
العلاقة بين الجسم والذهن، فإنها تدير ظهرها للموقف الطبيعي. وتحاول بهذه الطريقة
الجذرية أن تستبعد بعض الاعتراضات الموجهة إلى الآراء الأخرى. هذه هي نظرية التوازي
Parallelism ويكاد هذا اللفظ يشرح نفسه بنفسه:
فالذهن والجسم يمثلان سلسلتين من الحوادث تتميزان بأنهما منفصلتان، ومستقلتان، ولا توجد
بينهما رابطة سببية، بل توجدان جنبًا إلى جنب في توازٍ كامل. ويعترف أنصار هذا الرأي
بأن لكل تغير ذهني تغيرًا جسميًّا مناظرًا له، وأن هذين التغيرين يصاحب كلٌّ منهما
الآخر دائمًا وبالضرورة في ارتباط وثيق. غير أن ما تتميز به هذه النظرية عن كل ما عداها
هو أنها تنكر أية علاقة سببية بين الاثنين. فمهما يكن من حتمية الارتباط بينهما، فإنه
ليس ارتباط تأثير، فالذهن والجسم دائرتان مقفلتان، لا تؤثر إحداهما في الأخرى. وهما،
كما اقترح البعض، أشبه بشريكين في رقصة أشباح دائمة لا تنتهي بعناق أبدًا.
الاعتراضات على نظرية التوازي
وجه خصوم نظرية التوازي — كما يمكننا أن نتوقع — انتقادات شديدة إليها. ولعل أكثر
الألفاظ تداولًا في وصف هذه النظرية هو صفة «الاستحالة» أو «الامتناع». ومع ذلك فقد
دعا إليها اثنان من أعظم الشخصيات في الفلسفة الحديثة، هما اسبينوزا وليبنتس، وكان
لها مؤيدون قديرون حتى اليوم. ويبدو أن أقوى الاعتراضات الموجهة إليها هي: أنها
أولًا تخالف مبدأ التطور البيولوجي، الذي يقول إن الكائنات التي تظل باقية في
الصراع من أجل الوجود هي تلك التي تكون لها قيمة وظيفية أو قيمة تمكنها من البقاء؛
أي تساعد الكائن العضوي على تحقيق تكيف أفضل مع بيئته. وهكذا فإن فرض التوازي يجعل
الذهن غير قابل للتفسير على الإطلاق، ما دام لا يؤثر في الجسم أو في بيئته المادية.
فكيف إذن أتيح للذهن أن يستمر في الوجود، وأن يزيد مقدرته وأهميته طوال مجرى
التطور؟
ويُعترض ثانيًا على نظرية التوازي بأن نتائجها ممتنعة. فلا يمكن أن تكون نتيجتها
المنطقية إلا نوعًا من مذهب شمول النفس
Panpsychism؛ أعني المذهب القائل إن هناك «ذهنًا»
في كل الأشياء وفي كل مكان من النظام الطبيعي؛ ذلك لأنه إذا صح ما تقول به النظرية
من وجود نوع من الارتباط الحتمي المتبادل بين الحوادث الجسمية والذهنية، فإن كل
حادث ذهني لا يناظره حادث جسمي فحسب، بل إن كل حادث جسمي لا بد أيضًا أن يكون له
نظير نفسي من نوع ما. وهكذا فلن يكون هناك فقط نظير واعٍ لكل التغيرات الجسمية
(كالحركة اللولبية للأمعاء أو نمو الخلايا مثلًا)، بل إن الحوادث المادية البحتة في
الطبيعة، كتحلل الصخور، لا بد أن يكون لها بدورها نظير نفسي من نوع ما. ولقد اعترف
بعض القائلين بنظرية التوازي صراحة بهذه النتائج التي تؤدي إلى القول بشمول النفس —
ومنهم ليبنتس مثلًا — ولكن غيرهم ينفر من هذه النتائج المنطقية التي تبدو لا مفر
منها في نظر معظم خصوم هذه النظرية.
موقف ليبنتس
ربما كان أكثر دعاة نظرية التوازي اتساقًا بين كبار الفلاسفة هو ليبنتس نفسه، وهو
عالم رياضي وميتافيزيقي ألماني في القرن السابع عشر.
٤ والواقع أن المأزق العقلي الذي أدت به النظرية إليه، فضلًا عن الوسيلة
اليائسة التي اضطر إلى اتباعها للتخلص من هذه النتيجة، تكشف عن تهافت وجهة النظر
هذه. فقد واجه ليبنتس، شأنه شأن كل المدافعين عن هذه النظرية، مشكلة تفسير طريقة
حدوث هذا التوازي، وكذلك (إن أمكن) سبب وجود هذا الارتباط الدائم والعقيم بين
الطرفين. ولعل الحل الذي أتى هو الحل الوحيد الذي يمكن اقتراحه في هذا الصدد: فالله
قد خلق مملكتين توأمتين، هما مملكتا الذهن والمادة، ثم ربط بينهما ربطًا دائمًا عن
طريق نوع من «الانسجام
المقدر
Pre-established Harmony» وقد استخدم ليبنتس، لإيضاح رأيه هذا، تشبيه الساعتين
المشهور. فمن الممكن أن نتصور صانع ساعات خبيرًا يمكنه صنع ساعتين بلغتا من دقة
التركيب وكمال الصنعة حدًّا يجعلهما، بمجرد بدئهما معًا، يظلان يدلان دائمًا على
نفس الوقت في انضباط تام. في هذه الحالة لن يكون هناك تأثير من الواحدة في الأخرى،
ولا علاقة مع الأخرى، ويظلان يعملان جنبًا إلى جنب في موازاة مطلقة. وهكذا الحال في
سببية — من أي نوع — إذ لا حاجة إلى هذا أو ذاك؛ ومع ذلك فإن حركاتهما تظل متوازية
على الدوام، بحيث تطابق كل دقة دقة، وتتفق كل ساعة تمامًا مع الأخرى، ويظلان يعملان
جنبًا إلى جنب في موازاة مطلقة. وهكذا الحال في عالمَي الجسم والذهن التوأمين.
فالله قد وفق بين سلسلتيهما المستقلتين من الحوادث، بحيث يتلاءمان على أكمل نحو،
والانسجام المقدر لا يخفق أبدًا، بل إن ظواهر العالمين تنسجم في توازٍ مطلق طوال
وجودها.
(٧) مذهب الظاهرة الثانوية
أدى عدم الاكتفاء بنظرية التأثير المتبادل وبنظرية التوازي معًا إلى وضع مجموعة من
الآراء التي يمكن أن تعد كلها احتجاجات على هاتين النظريتين. ويتصف أحد هذه المواقف
المحتجة بأنه ثنائي بدوره، غير أن معظم الآراء المعارضة تحاول الوصول إلى حل واحدي
لمشكلة الذهن والجسم.
أما الحل الثنائي البديل فهو مذهب الظاهرة الثانوية
Epiphenomenalism هذه النظرية، رغم ما يبدو على
اسمها من تعقيد، بسيطة نسبيًّا، وهي تحظى بقبول غير قليل في الوقت الحالي. ولقد صيغت
في
الأصل على أنها رأي مادي في الذهن، وكانت لها على هذا الأساس شعبية كبيرة بين أنصار
المادية في القرن التاسع عشر، بل إن دعاتها اليوم لا يأتون إلا من معسكر المذهب الطبيعي
الآلي، وذلك لأسباب ستتضح بمجرد أن نشرح النظرية. وتقول هذه النظرية، بالاختصار، إن
العلاقة بين الذهن والجسم علاقة سببية غير أن هذه ليست سببية متبادلة، كما هي الحال في
مذهب التأثير المتبادل. فالتأثير يسير في اتجاه واحد فحسب؛ إذ إن التغيرات الجسمية تؤدي
إلى حدوث تغيرات ذهنية، لا العكس. فليس النشاط النفسي إلا نتاجًا ثانويًّا، والعملية
الأساسية ذات طابع فيزيائي بحت. وهكذا يصبح الذهن مجرد ظاهرة مصاحبة أو ظل للنشاط
الجسمي، لا تأثير لها فيه. وكما يعبر برجسون عن هذا الرأي، فإن الذهن يغدو تبعًا له
مجرد هالة تتراقص فوق عمليات المخ. وهناك تشبيه أشهر من ذلك، هو التشبيه بظل تلقيه عجرة
دائرة. فليس للظل تأثير على العجلة أو على حركتها، ولكنه هو ذاته معتمد تمامًا عليها
في
وجوده وفي طابعه. وهكذا يصف سانتيانا الذهن في عبارة رائعة بأنه «صيحة غنائية في زحمة
العمل». فالشيء الأساسي والهام بحق هو النشاط الجسمي. أما الوعي المصاحب له فلا يمثل
إلا زخرفًا غير وظيفي لهذا النشاط. ويضيف صاحب هذا المذهب قائلًا إننا، مثلما نتأثر في
كثير من الأحيان بالمظهر الخلاب أو الزخرف أكثر مما نتأثر بالشيء الأساسي، فإننا هنا
أيضًا نتجه إلى أن نجد في هذه «الصيحة الغنائية» شيئًا أهم بكثير مما يسمح لنا به الحكم
الموضوعي الرزين على الأمور.
مذهب الظاهرة الثانوية والعلم: كانت أقوى مزايا هذه
النظرية شبه الثنائية؛ أعني نظرية الظاهرة الثانوية، هي تأثيرها المثمر في علم النفس
وعلم وظائف الأعضاء معًا. فهي قد شجعت دعاتها على البحث عن تفسيرات جسمية خالصة للظواهر
الذهنية، وقد أمكن القيام بكثير من الأعمال التجريبية المفيدة على قياس هذا الفرض. بل
فرض الظاهرة المصاحبة هذا كانت له من النتائج المثمرة بوصفه منهجًا، مما يجعل المرء
مترددًا في مهاجمته، وإن كان من الواجب أن نتذكر أن نجاحه بوصفه فرضًا منهجيًّا لا يثبت
كفايته من حيث هو موقف ميتافيزيقي شامل. فمن الملاحظ مثلًا أن الحجة التطورية التي
سقناها ضد مذهب التوازي، يمكن أن تساق بنفس القوة ضد النظرية الحالية. فإذا كان ما
يساعد الكائن العضوي في الكفاح للحصول على وسائل العيش وفي استمرار النوع هو وحده الذي
يقدر له البقاء في الصراع من أجل الوجود، وإذا كان الذهن أو الوعي مجرد «صيحة غنائية»
وسط هذا الصراع، فكيف أتيح له إذن أن يستمر في الوجود ويزداد أهمية في حياة الإنسان؟
وهكذا نستطيع أن نختتم كلامنا عن مذهب الظاهرة الثانوية بتقديم حكم موجز عليها، فنقول
إن نتائجها قد أثبتت قيمتها بوصفها فرضًا عمليًّا ينطوي على منهج للبحث العلمي، أما من
حيث هي نظرة شاملة إلى الذهن، فإن قيمتها تقل عن ذلك إلى حد ما.
(٨) آراء اسبينوزا وليبنتس
تمثل نظرية الظاهرة الثانوية التي عرضناها الآن مذهبًا ثنائيًّا يتحول بالنسبة إلى
جميع الأغراض العملية، إلى واحدية منهجية. أما النظرية التي يتعين علينا بحثها بعد ذلك،
فتمثل واحدًا من الموقفين اللذين يقولان بالواحدية. ولقد كان الهدف من اتخاذ كلٍّ من
هذين الموقفين هو محاولة تجنب الصعوبات التي تبدو حتمية لا مفر منها في أي حل ثنائي
لمشكلة الذهن والجسم. ومع ذلك، فإن الحل الذي تقدمه إحدى هاتين النظريتين يبدو مصطنعًا،
شأنه شأن الحل الذي تأتي به نظرية التوازي. هذه النظرية هي نظرية الوجهين Double-Aspect Theory، التي ارتبطت بوجه خاص
باسم اسبينوزا، وهي تذهب باختصار إلى أن الذهن والجسم ليسا إلا وجهين متقابلين لحقيقة
نهائية واحدة تكمن من ورائهما. فهما أشبه بجانبي الورقة، أو إذا شئنا تشبيهًا أفضل
لقلنا إنهما أشبه بالوجهين المقعر والمحدب لعدسة زجاجية. وبعبارة أخرى فإن تسميتنا
للحادث بأنه «جسمي» أو «ذهني» تتوقف على الوجه الذي نلاحظه منه؛ أي على العلاقات التي
ننظر إليه من خلالها — مثلما أن حكمنا بأن العدسة ينبغي أن توصف بأنها مقعرة أو محدبة
يتوقف على العلاقات التي ننظر إليها من خلالها.
الاعتراضات على نظرية الوجهين: على الرغم من أن
المدافع عن هذا الفرض القائل إن الذهن والجسم ليسا إلا صفتين توأمين لجوهر نهائي واحد
يستطيع أن يتجنب الانتقادات الموجهة إلى مذهب التوازي، فإنه يقع في صعوبات خاصة به.
فلما كان يرى الذهن والمادة حقيقة واحدة، فإنه لا يحتاج إلى الإتيان بتفسير مسرف في
الخيال كذلك الذي التجأ إليه لبينتس. ومع ذلك يتعين عليه أن يحاول إقناع الموقف
الطبيعي، الذي ينظر إلى المسألة عادةً على النحو الآتي: أن تشبيه القوسين المحدب
والمقعر تشبيه دقيق جدًّا. ولكنه لا يكاد يكون تفسيرًا للحقيقة القائلة إن تجربتنا
بأسرها تشتمل على مجالين مختلفين تمامًا من مجالات الوجود. ففي استطاعتنا أن نسميها
شيئًا واحدًا، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع أن نثبت أنهما شيء واحد. وفضلًا عن ذلك،
فمن الممكن الاعتراض بأن هذا التوحيد بين المجالين لا يكاد يكون تفسيرًا على الإطلاق.
فهو يحاول أن يتخطى مشكلة الذهن والجسم بأسرها عن طريق إنكار وجودها: ولو كان الاثنان
في أساسهما شيئًا واحدًا فحسب، لما كانت هناك أية صعوبة في موضوع الصلة بينهما.
وكثيرًا ما تشعر الأذهان المعاصرة بأن نظرية الوجهين هذه تقف موقفًا يائسًا، بطريقتها
الواحدية، مثلما أن نظرية التوازي تقف موقفًا يائسًا بطريقة ثنائية؛ ففي كلتا الحالتين
يثور العقل في موقفه الطبيعي، ويجد الطلاب المبتدئون عادةً أن المذهبين متساويان في
عمقهما. ومن المؤكد أن كلًّا من هاتين النظريتين لا تقدم أي تفسير يستطيع العلم أن يتخذ
منه فرضًا مثمرًا، وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة وحدها لا تكفي لاستبعادهما من مجال
البحث الفلسفي. فإنها تحمِّلهما عبء البيئة الأثقل. أما أنهما قادرتان أو غير قادرتين
على حمل هذا العبء، فذلك أمر ينبغي تركه للقارئ.
مذهب شمول النفس: أما المحاولة الأخرى للوصول إلى
حل واحد لمشكلة الذهن والجسم فهي تلك التي أشرنا إليها من قبل باسم مذهب شمول النفس
Panpsychism وأساس هذا المذهب هو الامتداد بالوعي،
أو بنوع من النشاط النفسي على الأقل بحيث يشمل جميع أرجاء الكون. وليس هذا مجرد افتراض
لذهن شامل من نوع ما، كما تفعل كثير من أنواع المذهب المثالي، وإنما هو نسبة عمليات
ذهنية إلى كل جزء من النظام الطبيعي. وهكذا ينظر القائل بهذا المذهب عادةً إلى الطبيعة
بأسرها على أنها مؤلفة من مراكز نفسية، كلٌّ منها مشابه للذهن البشري، فتكون النتيجة
نظرة يمكن تسميتها بالمذهب الذري
الروحي Spiritual Atomism. وبذلك يصبح الواقع، كما كان في المذهب المادي القديم والمذهب
الفيزيائي الحديث، مجموعة مؤلفة من عدد لا متناهٍ من الذرات. غير أن مذهب شمول النفس
يرى، على خلاف هذه الأنواع المألوفة للمذهب الذري، أن الوحدات النهائية ذات طابع ذهني
أو نفسي أساسًا. وهنا أيضًا نجد أن ليبنتس هو المثل الكلاسيكي لهذا الرأي: ففي مذهبه،
يتألف الكون من عدد لا متناهٍ من «الذرات الروحية
Mondas» أو مراكز الإدراك. وتتفاوت درجة الإدراك أو
مستواه في هذه المراكز من العلم الشامل في الله، الذي هو «موناد المونادات»، حتى
«الذرات الروحية الناعسة» التي تتألف منها المادة الفيزيائية. فليست لهذه الذرات
الروحية الأخيرة إلا «إدراكات
بسيطة Petites Perceptions» أو حالات ذهنية لا واعية، غير أن ماهيتها مع ذلك تظل نفسية
أساسًا. وهكذا فإن الفكرة الأساسية في مذهب ليبنتس هذا، كما في كل مذهب يقول بشمول
النفس، هي أن «الذهن حاضر في الأشياء جميعًا» — أو بالاختصار أن «الذهن في كل
مكان».
في هذه الحالة بدورها ندرك بوضوح أن هذا الحل لمشكلة الجسم والذهن لا يتفق مع وجهة
نظر الموقف الطبيعي إلا اتفاقًا ضئيلًا. كذلك فإن وجهة النظر الجديدة هذه، شأنها شأن
نظرية التوازي ونظرية الوجهين، عقيمة عمليًّا، بل إن نظرية شمول النفس لا تكاد تكون
نظرية قابلة للإثبات بالمعنى المألوف لهذا اللفظ، فلو كنت أكدت أن هذه الصخرة حية
وحاسة، فلا يكاد يكون في وسعي مناقشتك، وكل ما أستطيع أن أرد به عليك هو أنك لا تستخدم
الألفاظ بمعناها المعتاد، وأنك تدير ظهرك لتجربتنا المألوفة في الموقف الطبيعي، وهي
التجربة التي نجد فيها فارقًا بين الصخور وبين الأشياء ذات القدرة الواضحة على
الحساسية، التي نطلق عليها اسم الحيوانات. ومن المعترف به أنك، كالقائل بنظرية الوجهين،
قد «حللت» مشكلتك بإلغائها. أما كون الثمن العقلي لهذا الحل أبهظ مما ينبغي. فهذا أمر
ينبغي أن يُترك البت فيه للقارئ. وعلى الرغم من أننا لا نود التأثير في الحكم الذي
سينتهي إليه القارئ، فمن الواجب أن نشير إلى أن الرأي منعقد على أن الثمن مبالغ فيه إلى
حد بعيد.
(٩) الذهن بوصفه منبثقًا
ما زال أمامنا أن نبحث رأيًا أخيرًا في علاقة الذهن بالجسم. وقد أرجأنا هذا الرأي
إلى
النهاية لسببين: أولهما أنه ربما كان أفضل نظرية موجودة حاليًّا في هذا الميدان المزدحم
بالنظريات، وثانيًا لأنه رأي يلقى استجابة من الذهن العلمي، ويتفق أيضًا مع الموقف
الطبيعي الذي تأثر به الطالب المبتدئ. وبذلك يشعر القارئ بتخفيف لحدة الضجر الذي قد يحس
به إزاء بعض النظريات اليائسة المتطرفة الأخرى، ونستطيع أن نأمل أن نختتم هذا الفصل دون
أن نترك الطالب ثائرًا أو مرتبكًا إلى حدٍّ قد يأبى معه الانتقال إلى بحث مشكلات أخرى
في الفلسفة.
هذه النظرية الأخيرة في الذهن تتصف بأنها ليست رأيًا في العلاقات بين الظواهر الجسمية
والذهنية فحسب، وإنما هي على الأصح رأي في مركز الذهن في النظام الطبيعي بوجه عام. وهي
تبنى مباشرة على نظرية الانبثاق التي عرضناها في الفصل الأخير، بل إن الارتباط بين
المذهبيين يبلغ من الوثوق حدًّا يجعل النظرية التي سنعرضها تسمى في كثير من الأحيان
باسم النظرية الانبثاقية Emergence Theory في الذهن.
هذه النظرية تتوسع في الفرض القائل إن الحياة ظهرت أو «انبثقت» عندما تكوَّن نمط جديد
أشد تعقيدًا، من المواد غير العضوية؛ أي عندما ظهر مستوى جديد من التنظيم بظهور أنواع
جديدة من الاستجابة، فنقول إن الذهن هو بدوره نتيجة لتنظيم أعقد للتركيب الجسمي (أو على
الأخص، العصبي). وبعبارة أخرى، فبازدياد تعقد تركيب العمليات الآلية العصبية، وظهور
جهاز عصبي مركزي يربط بين كل أجزاء الكائن العضوي، «انبثق» من هذا المستوى التكاملي
الجديد نوع جديد من الاستجابة. وظهر الوعي — أو الذهن بمعنى أعم — بوصفه نتيجة مباشرة
لهذا التنظيم الناتج؛ ومن ثَم فإنه يعتمد على هذا التركيب العصبي في استمرار
وجوده.
النتائج الضمنية للنظرية الانبثاقية: من المفيد أن
نناقش بعض نتائج النظرية الانبثاقية وتشعباتها. أولى هذه النتائج هي أنه لا يوجد على
الأرجح واحد من المدافعين عن هذه النظرية، يقول إن هذا المستوى الجديد للتنظيم العصبي
قد ظهر بقصد إتاحة ظهور الذهن في الكون. فالكون يعد نتيجة للتنظيم، لا سببًا له. ومن
الواضح أن هذا يؤدي إلى الربط بين نظرية الانبثاق وبين النظرية الطبيعية
Naturalistic إلى العالم، بل إن هذه النظرية هي
الأثيرة لدى القائل بالمذهب الطبيعي، ما دامت تذهب إلى أنها تقدم تفسيرًا طبيعيًّا
بحتًا لتلك المشكلة التي يعدها أصحاب المذاهب الآلية والمادية والطبيعية مشكلة حساسة
بحق — وأعني بها: كيف دخل الذهن إلى المجال الكوني؟ وهناك نتيجة ثانية، لنظرية
الانبثاق، هي أنها توحي بميل إلى نظرية «الظاهرة الثانوية»، وقد يصبح هذا الميل من آن
لآخر أكثر من مجرد الإيحاء. فكثير من أنصار هذه النظرية يعترفون بأنه إذا كان الذهن قد
ظهر متأخرًا في التاريخ التطوري، ولم يكن ظهوره إلا نتيجة لازدياد التعقد والتخصص
الوظيفي في الجهاز العصبي، فإن من الواضح نتيجة لذلك أن أهميته السببية ليست كبيرة
جدًّا. ومثل هذا الاعتراف يعود بنا مرة أخرى إلى نظرية «الظاهرة الثانوية»، ويظل علينا
أن نواجه الاعتراضات التي أثيرت في وجه هذه النظرية. ومع ذلك فإن أولئك المفكرين الذين
يؤيدون نظرية الانبثاق يكونون عادةً ميالين إلى نوع من مذهب التأثير المتبادل. فمهما
يكن من اعتماد الذهن في وجوده على مستوى جديد من التكامل العصبي، فسيظل من الممكن أن
ينظر إليه على أنه يؤثر في الجسم؛ ذلك لأن اعتماد أصله على غيره ليس دليلًا على عجزه
من
ناحية السببية. ومن جهة أخرى فهناك أنصار لنظرية الانبثاق يفضلون الفرض المادي، ويذهبون
إلى أن نتيجة النمو التطوري للجهاز العصبي لا يمكن، على أحسن الفروض، أن تكون إلا
مجموعة جديدة من ردود الأفعال والوظائف الجسمية الأخرى.
وهكذا يتضح لنا أن نظرية الانبثاق ليست وجهة نظر في طبيعة الذهن بقدر ما هي تفسير
لأصله. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن أن ينطبق عليها الوصف الذي قيل عن فلسفة حديثة
مشهورة؛ فهي أشبه بممر تطل على جانبيه أبواب متعددة؛ إذ إن في استطاعة الأفراد الذين
ينتمون إلى مدارس فرعية متباينة داخل إطار المذهب الطبيعي أن ينتقلوا إلى حجراتهم
الخاصة، عبر هذا الممر الواحد. ومع ذلك فهناك شيء ينبغي أن نكون على يقين منه، فليس من
المحتمل أن نجد مثاليًّا واحدًا يتجول خلال ممر الانبثاق هذا. ذلك لأنه، وإن يكن من
الممكن منطقيًّا أن نقول بأن أذهاننا البشرية الفردية؛ أعني الذهن المتناهي دون أي
تفخيم — قد انبثقت بالطريقة التي وصفناها الآن، فإن المثالي يضطر إلى القول بأن
الانبثاق لم يكن إلا الوسيلة التي تدخل بها «الذهن» الكوني الشامل في العالم الجسمي.
ذلك لأن المثالية لا تستطيع أن تؤمن بأن هذا الظهور المتأخر للذهن في العملة التطورية
هو أول ظهور «للذهن» الشامل في الكون. وحتى لو أثبت البحث البيولوجي يومًا ما إن فرض
الانبثاق قد أصبح بمنأى عن الشك، فإن المثالي يستطيع مع ذلك أن يظل يعتقد (ويكاد يكون
من المؤكد أنه سيظل يعتقد) بأن الانبثاق لم يكن إلا الأداة أو الاستراتيجية التي حقق
بها «الذهن» الشامل ذاته في العالم العضوي. فهو سيقول، تمشيًا مع نظرته العامة إلى
العالم، إن الانبثاق ليس إلا مفهومًا منهجيًّا، وليس مفهومًا كونيًّا (كسمولوجيا)، فقد
يكون في استطاعة النظرية أن تنبئنا بالطريقة التي ظهر بها الذهن، ولكنها لا يمكن أن
تنبئنا بسبب حدوث ذلك ولا بالعلاقة بين الذهن وبين الواقع.
تلخيص: قد يكون من المستحسن أن نتريث ونلقي نظرة
إلى الوراء على الأرض التي استكشفناها في هذا الفصل؛ إذ إن من المعترف به أن مشكلات
الذهن من أصعب المشكلات في الفلسفة.
فقد بدأنا بإيضاح الخلط الشائع بين «المخ» و«الذهن»، وبيَّنَّا أن الأول جزء من
العالم المادي وله كل الخصائص التي يتصف بها أي موضوع مادي، على أن الذهن يبدو محتاجًا
إلى مقومات خاصة تنطبق عليه وحده، وبعد ذلك عرضنا الرأي التقليدي أو الجوهري في الذهن،
وهو الرأي الذي يعد جوهرًا روحيًّا فريدًا له وجود مستقل ولا يتوقف وجوده بأية حال على
علاقاته (بالجسم أو بالعالم الخارجي). وقد لاحظنا كيف أن هذه النظرة إلى الذهن تؤدي
بسهولة إلى الثنائية أو المثالية، فضلًا عن الاعتقاد بأولوية العالم الروحي وخلود
النفس.
ثم أشرنا بعد ذلك إلى نقد هيوم لهذه النظرية الجوهرية، وهو نقد مبني على نظرة تجريبية
خالصة إلى المشكلة، ولا يجد أساسًا تجريبيًّا للاعتقاد بوجود جوهر روحي مستقل. وجاء بعد
ذلك رد فعل كانت على هجوم هيوم الثوري هذا على الرأي التقليدي، ولاحظنا كيف صاغ المفكر
الألماني العظيم مذهبًا وسطًا يترك مجالًا كاملًا للعنصر الذهني القبلي أو الأولي
A Priori وللعنصر الذهني المستمد من الحواس.
وقد حللنا بعد ذلك الرأي المادي، الذي يناقض تمامًا النظرة إلى الذهن على أنه روحي.
وفي هذا الصدد أكدنا بوجه خاص النقص الواضح للموقف، المتطرف لدى الماديين الأوائل، على
الأقل، وهم المفكرون الذين اتهمهم الكثيرون «بمغالطة الرد»؛ أعني إرجاع الذهن إلى
«مجرد» مادة ولكن بشكل آخر. ومن ذلك انتقلنا إلى وجهة نظر إلى الذهن، محببة جدًّا إلى
قلوب علماء النفس، تؤكد التعريف الإجرائي Operational
أو الوظيفي للذهن. هذه النظرية تقول إن الذهن لا ينبغي أن يوصف إلا من خلال ما يفعله
—
أي كيف يؤدي عمله — وتذهب إلى أن أية محاولة للنفاذ من وراء العمليات الذهنية إلى كشف
طبيعة «الذهن في ذاته» ينبغي التخلي عنها على أنها عقيمة غير ضرورية.
وقد حللنا في النصف الأخير من الفصل مختلف حلول مشكلة الذهن والجسم. فعرضنا أولًا
رأي
الموقف الطبيعي، وهو فكرة التأثير المتبادل، التي تبشرنا بالكثير، ولكنها تثير أمامنا
بالفعل مشكلات جديدة تبلغ من الكثرة حدًّا جعل الكثير من المفكرين يرفضونها. وأوضحنا
الجهد اليائس الذي يبذله «مذهب التوازي» لتجنب المشكلات المتصلة بأية نظرية في التأثير
المتبادل، كما بيَّنَّا الأسباب القوية التي دعت إلى انتشار رفض هذا المذهب. وبحثنا بعد
ذلك نظرية «الظاهرة الثانوية» (التي كانت مفضلة لدى علماء القرن التاسع عشر وفلاسفته
الماديين)، وهي النظرية التي تضفي على الذهن وجودًا حقيقيًّا، ولكنه وجود ثانوي فحسب،
على حين أنها تنكر عليه الفاعلية السببية أو الدلالة الكونية.
وتلا ذلك عرض سريع لمحاولتَي نظرية «الوجهين» ونظرية «شمول النفس» في حل هذه المشكلة،
إذ إن النواقص الواضحة لهاتين النظريتين جعلت من غير الضروري تخصيص وقت طويل لهما.
وأخيرًا انتقلنا إلى النظرية الانبثاقية في الذهن، وهي النظرية التي تبدو اليوم أفضل
إجابة ممكنة على مشكلة الذهن والجسم القديمة العهد. وقد أشرنا إلى تفضيل العلماء
المعاصرين لها في الوقت الراهن. ولكنا لاحظنا أيضًا أنها لا ترضي أفرادًا كثيرين في
مجال الفلسفة؛ إذ إنها لا تنبئنا إلا بطريقة ظهور الذهن، ولا تقول إلا القليل عن طبيعته
أو عن مكانته في النظام العام للأشياء.
وأغلب الظن أن كثيرًا من القراء سيخيب أملهم لنتائج العرض الذي قدمناه للذهن، ما دام
من الواضح أنه لا توجد وجهة نظر واضحة المعالم، أو رأي للأغلبية، يستطيع الطالب أن يأخذ
به بأكمله على أنه رأيه الخاص. بدلًا من ذلك نصادف في هذه الحالة، كما في حالة جميع
المشكلات الفلسفية الكبرى، مواقف متباينة، يتناقض الكثير منها بعضه مع بعض، ولا يبدو
أحدها كافيًا تمامًا. على أن هذه نتيجة لا مفر منها، ولا سيما في كتاب من هذا النوع،
يهدف إلى أن يقدم للقارئ أنواع الفلسفة ومشكلاتها، لا إلى أن يفرض عليه أي نمط معين أو
أية مجموعة جاهزة من الإجابات. فما يهمنا قبل كل شيء هو أن نزود الطلاب حديثي العهد
بالفلسفة بالمواد الخام التي يبنون منها نظرتهم الخاصة إلى العالم؛ إذ إن أي موقف فلسفي
إذا حكمنا عليه حكمًا نهائيًّا فلن تكون له قيمة إلا بقدر ما يكون موقفًا خاصًّا
بنا.