الفصل السابع
الحقيقة: مشكلة بيلاطس – ومشكلتنا
من أكثر اللحظات درامية — ومن أقربها قطعًا إلى الفلسفة — في قصة المسيح في العهد
الجديد،
تلك التي اقتيد فيها المسيح أمام بيلاطس، الحاكم الروماني لجوديا، لكي يحقق معه. ففي
خلال
المحادثة التي دارت بين المحقق وبين المتهم، يقول بيلاطس: «أملِكٌ أنت إذن؟» فيكون الرد
هو
تلك العبارة المشهورة: «إنما كانت الغاية التي من أجلها ولدت، والغرض الذي من أجله أتيت
إلى
العالم، هو أن أكون على الحقيقة شاهدًا. وإن كلَّ مَن كان من أهل الحقيقة ليصغي إلى ما
أقول». أما رد بيلاطس فكان أشهر حتى من ذلك. فقد تساءل: «ما الحقيقة»، وبذلك كشف عن موقف
فلسفي معين ما زال إلى اليوم قائمًا كما كان منذ عشرين قرنًا — بل ربما كان اليوم أكثر
شيوعًا مما كان من قبل.
على أن هذا ليس معناه أن المحقق الروماني قد أدرك كل النتائج الضمنية التي ينطوي عليها
سؤاله الشامل. كما أن من غير المحتمل أن يكون قد تنبأ بأنه سيحقق لنفسه خلودًا مريبًا
في
تاريخ الفكر البشري بتساؤله هذا السؤال. ومع ذلك فقد كشف عن نوع من نزعة الشك العنيدة،
التي
حظيت باحترام الفلاسفة المحدثين. وإذا كان من الصعب على من تشبعوا بالتعاليم المسيحية
أن
ينظروا إلى بيلاطس دون تحامل. فمن الواجب أن نتذكر أن عصره كان عصر غليان اجتماعي. فقد
كان
في فلسطين في ذلك الوقت كثير من المصلحين والتقدميين والأنبياء، كلهم ينادون «بالحقيقة».
فليس من المستغرب إذن أنه قد سئم تكرار اللفظ بكل هذه السهولة وعدم الاكتراث؛ إذ إنه
قد شعر
بأنه ليس كل شاهد على الحقيقة يستطيع أن يروي نفس القصة، وكان من الطبيعي أن يتساءل عما
تكونه الحقيقة بالضبط. وقد يشعر المسيحيون بأنه كان أعمى إذ لم يستطع أن يرى الحقيقة
عندما
ظهرت له في شخص المسيح، غير أن موقفه الساخر كان هو الموقف الطبيعي لرجل في مثل
مركزه.
كذلك فإن هذا هو الموقف الطبيعي لأي شخص في مركز الفيلسوف المحترف؛ إذ إنه بدوره قد
صادف
أنصارًا عديدين لمذاهب متعددة، كلهم يدعون أن لديهم «الحقيقة»، وكلهم تقريبًا يدهشون
حين
يجدون أي شخص يتحدى ادعاءهم بسؤال بيلاطس الملح. ذلك لأن قرارات الفيلسوف قد أوصلته إلى
فهم
كثير من المذاهب، التي تدعي كلها أنها مبنية على «الحقيقة»، بل إن القليل منها هو الذي
يتواضع فيعترف بأنه قد لا تكون هناك إلا حقيقة جزئية فحسب. فالفيلسوف إذن قد وصل إلى
نقطة
يكون له فيها كل الحق في أن يتساءل: «ما الحقيقة؟» ولكن من المؤسف أن موقف بيلاطس وموقف
الفيلسوف ينبغي أن يفترقا عند هذه النقطة: فليس في وسع الفيلسوف أن يستبعد المشكلة بهزة
من
كتفه، أو بتسليم من هم شهود على الحقيقة إلى أعدائهم ليعدموهم، وإنما ينبغي له مواجهة
السؤال الملح، وبذل كل جهد لحله.
تعقد المشكلة: تعد مشكلة الحقيقة من أعقد المشكلات التي
يتعين على الفلسفة بحثها. ذلك لأنه ليست هناك كثرة من «الحقائق» فحسب، بل إن الناس نادرًا
ما يعنون نفس الشيء عندما يصفون عبارة بأنها «حقيقة». وإن تحليلًا بسيطًا لكفيلٌ بأن
يبين
لنا أن كثيرًا من تلك الحجج التي تنتهي بصياح أحد الفريقين أو كليهما: «كذاب!» إنما تصل
إلى
هذه النهاية المؤسفة، لا بسبب تزييف متعمد أو حتى خطأ غير مقصود، بل لأن الخلاف الأساسي
يكمن في أن أحد الفريقين يستخدم نظرية أو معيارًا معينًا للحقيقة، في حين يرتكز الآخر
على
مفهوم مختلف كل الاختلاف. فلا غرو إذن ألا يشاهد كلٌّ من المتنازعَين خصمه وجهًا لوجه،
بل
إنهما لا يتكلمان لغة واحدة، حتى وإن كانا يستخدمان نفس الألفاظ. ذلك لأن المعاني، لا
الأصوات، هي التي تكون ماهية اللغة — وهو أمر لا نكاد نكون بحاجة إلى التنبيه إليه. فإذا
قلت «حقيقي» وكان في ذهني معنًى معين، وقلت أنت نفس اللفظ وكان في ذهنك معنى آخر، لكان
في
مواصلة الحديث مضيعة للوقت — ما لم نتمكن بالطبع من التوقف وتحليل خلافاتنا من أجل كشف
أساس
معقول للتفاهم يتيح مواصلة الحديث.
ولكي يفعل المرء ذلك فلا بد له من القيام بدور الفيلسوف. فمن المؤكد أننا عندما نتساءل
جديًّا: «ما الحقيقة؟» نكون قد وضعنا أقدامنا في قطار الفكر النظري التأملي. وفي وسعنا
أن
نضيف إلى ذلك أننا إذا كنا جادين في هذا السؤال بحق، فلا بد أن نكون قد قضينا وقتًا معينًا
في هذا القطار. ولكي نصل إلى نقطة نهاية تكون فيها محطة مريحة، فلن نجد الأمر نزهة ممتعة
في
عصر يوم من أيام الإجازة، أو سياحة عقلية مريحة هادئة، بل إننا سنجد الرحلة طويلة
وشاقة.
(١) النظرية الأولى: الحقيقة بوصفها تطابقًا
رأينا في الفصل الأول الخاص بالمشكلات الرئيسية في الفلسفة أن هناك ثلاثة مفاهيم
أساسية للحقيقة، تعرف عادةً باسم «نظريات الحقيقة»: أول هذه المفاهيم هو ذلك الذي يقول
به كل شخص، بلسانه على الأقل، وهو يمثل ما نعتقد عادةً أننا نعنيه عندما نصف عبارة
بأنها «حقيقة». تلك هي نظرية «التطابق Correspondence»
ومفادها أن العبارة (أو «القضية» أو «الحكم» حسب المصطلحات الفنية التي يفضلها
الفلاسفة) تكون حقيقة إذا كانت تطابق واقعًا موضوعيًّا. فإذا قلت: «إن الكتاب على
المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة، كانت هذه العبارة حقيقة إذا كان الكتاب بالفعل
موجودًا في ذلك الموضع. وبعبارة أخرى، فإن الموضع الفعلي للكتاب واقعة، وإذا كانت
عبارتي تطابق النظام الموضوعي للوجود، الذي تكون فيه للكتاب والمنضدة والحجرة المجاورة
علاقات محددة بعضها ببعض، فعندئذٍ تكون العبارة صحيحة، فهي تصف موقفًا واقعيًّا، ومن
هنا كانت منطوية على حقيقة.
كل ذلك يبدو غاية في البساطة والوضوح، على الرغم من بعض المصطلحات الفنية المبعثرة
هنا وهناك. إذ يبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مأخذ على القول بأن كلماتي تكون
«حقيقة» إذا كانت تصف الأشياء بدقة كما هي بالفعل، فكيف يمكن أن يكون هناك أي جدال حول
موضوع كهذا؟ بل ما الذي يمكننا أن نعنيه «بالحقيقة» غير هذا؟ أليس المثل الأعلى لكل
جملة إخبارية أن تصف الأشياء كما هي بالفعل، وبأدق الطرق الممكنة وأقربها إلى الواقع؟
أما الفيلسوف فيرد بقوله: إن هذا دون شك هو المثل الأعلى لكل عبارة صادقة. ولكن لا بد
هنا من بحث نقطة صغيرة: فكيف نعرف أن عبارتنا الإخبارية المثالية قد فعلت ما يتعين
عليها أن تفعله؟ وما وسيلة اختيار العبارات للتأكد من أنها تؤدي وظيفتها المفروضة؟ لو
قلت إن عبارتي تعبر عن واقعة موضوعية وقلت أنت إنها لا تفعل ذلك، لعدنا معًا من حيث
بدأنا؛ إذ يكون كلٌّ منها عندئذٍ معرَّضًا لأن يطلق عليه الآخر مرة أخرى اسم «الكذاب».
وبعبارة أخرى، فما هي محكمة النقض والإبرام التي تبت في واقعية أية قضية؟
النطاق المحدود الذي تنطبق عليه النظرية: هناك
صعوبة أخرى تواجهها نظرية التطابق هذه، التي تبدو بسيطة ظاهريًّا. فماذا تكون فائدتها
في ميدان ليست فيه «وقائع»، بمعنى أشياء موجودة يمكن التحقق منها على نطاق شامل؟ مثال
ذلك أن الشخص المؤمن يرى أن المعجزات المنسوبة إلى قديس أو نبي هي «واقعة»، على حين أن
الشكاك يرى فيها أسطورة خرافية. أما الفيلسوف فيضطر هنا إلى الوقوف إلى جانب الشكاك،
وإنكار واقعية المعجزات التي تواترت أنباؤها من العصور الماضية، وليس ذلك بالضرورة
لأنها تبدو مناقضة للعلم الحديث، بل لأنه يشعر أن الأفضل الاحتفاظ بلفظ الواقع للأمور
التي يمكن التحقق منها على نحو يقرُّه الجميع. ولنتأمل مثالًا آخر لعدم كفاية نظرية
التطابق، مستمدًّا من ميدان الرياضيات. فمن الممكن تشييد نسق كامل للتفكير الرياضي ليست
له علاقة وثيقة «بالموقف الطبيعي»، بل يمكن أن يكون متنافيًا معه. وفي هذه الحالة لا
يمكن أن يكون للفظ «الواقع» إلا معنى ضئيل. فتأكيد وجوب مطابقة القضايا الرياضية
للأشياء كما هي، هو تأكيد ممتع، ما دامت الأشياء كما هي، في ذاتها قد تعني في الرياضيات
علاقات لا توجد إلا في ذهن الشخص الذي يصوغ النسق.
فأين يؤدي بنا هذا كله إذن؟ من الواضح أن نظرية
التطابق، بدلًا من أن تكون بمنأى عن الشك كما يعتقد معظم الناس، لا يمكن الاعتماد عليها
إلا عندما تستخدم بدقة في مجالات معينة، بل إنه حتى في الحالات التي تنطبق فيها بالفعل
على موقف ما، فلا بد أن تكون هناك وسيلة مكملة لإثبات أن عبارتنا القائلة «الكتاب على
المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة» تمثل بالفعل واقعة أو تنطوي عليها. وبعبارة أخرى،
فإن مشكلتنا الأولى هي إيجاد معايير إيجابية لتحديد الواقعية. وإلى أن نفعل ذلك، فسيظل
الادعاء بأن هذا الشيء أو ذاك «واقعة» خلوًا من المعنى. شأنه شأن الادعاء بأن هذا الشيء
أو ذاك «حقيقة». والواقع أن كلَّ مَن يعلن أنه يقدم إليك «الوقائع» لا يفعل ذلك
بالضرورة. بل إن من المحتمل جدًّا ألا تكون لمحدثك هذا إلا فكرة شديدة الغموض عما تكونه
الواقعة. وإنا لنسمع أحيانًا عبارات «الوقائع الصلبة» أو «الوقائع الثابتة» أو «الوقائع
الإيجابية» أو حتى «الوقائع المطلقة». والنتيجة الضمنية التي تنطوي عليها هذه الأوصاف
صحيحة: ففي كثير جدًّا من الأحيان لا تكون الوقائع صلبة ولا ثابتة ولا إيجابية ولا
مطلقة. وقد لا تكون هذه الوقائع في نظر الذهن التحليلي وقائع على الإطلاق، وإنما مجرد
مسلَّمات أو مصادرات أو فروض أو نظريات أو ادعاءات من أنواع شتى، تعاني حالة شديدة من
حالات التفكير المغرض.
(٢) التحقيق الحسي بوصفه معيارًا للحقيقة
إن أهم وسيلة لإثبات العلاقة الواقعية بين
العبارات وبين النظام الموضوعي للأشياء هي التحقيق الحسي. فإذا أمكن الاستعانة بحاسة
أو
أكثر لإثبات أن الأشياء على النحو الذي نقول إنها عليه، لأدى ذلك إلى أن تبدو صحة
القضية في نظر معظمنا ثابتة بلا أي جدال. فلنفرض أنني قلت مرة أخرى إن «الكتاب» على
المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة»، ثم دخلنا هذه الحجرة ورأينا أنه في المكان
المحدد. عندئذٍ لا يمكن أن يكون هناك أي شك فيما إذا كانت هذه القضية صحيحة أم غير
صحيحة. غير أن للفيلسوف مطالب أخرى ينبغي تحقيقها قبل أن نوافق جميعًا على أن لدينا هنا
مثلًا لا شك فيه «للحقيقة». فما الذي نفعله مثلًا عندما لا تتفق حاستان أو أكثر من
حواسنا فيما يبلغاننا به، كما يحدث عندما تبدو العصا للعين ملتوية في الماء ولكنا نجدها
عند اللمس مستقيمة، أو عندما تبدو المادة صلبة على حين أنها لا تكون كذلك، إننا قد
جربنا جميعًا تلك الخدع التي يمكن أن توقعنا فيها حواسنا، والواقع أن مختلف أنواع
الأوهام أكثر شيوعًا من أن تسمح لأي شخص بأن يؤكد أن التحقيق الحسي يكفي وحده في كل
الأحوال لإثبات الواقعية الموضوعية.
الهلوسة: والأهم من ذلك من الوجهة الفلسفية تلك
الظواهر التي يدركها عالم النفس تحت فئة «الهلوسة». ولفظ الهلوسة لفظ واسع، يشتمل على
أنواع متعددة من «الرؤى» وحالات الوجد الديني، وحالات الغيبوبة. ففي حالة «الخداع
Illusion» تكون لدينا استجابة حسية فعلية لمؤثر خارجي
أخطأته الحواس (أي أخطأت تفسيره) — أو بعبارة أخرى، تكون لدينا تجربة لها أساس في
النظام الموضوعي الخارج عنا. أما في حالة الهلوسة فلا يوجد مصدر خارجي يسبب التجربة،
وإنما تنشأ التجربة من أحوال في كياننا العضوي ذاته، كالإفراط في شرب الخمر، الذي
يجعلنا نرى «أفيالًا وردية» أو كالجوع الشديد الذي يسبب أنواعًا من الرؤى ومن حالات
الغيبوبة. وبينما الأفيال الوردية والثعابين القرمزية ليست لها أهمية ميتافيزيقية، فقد
تكون لتجارب أخرى في الهلوسة مثل هذه الأهمية. مثال ذلك أن أشخاصًا كثيرين يجدون قدرًا
كبيرًا من «الحقيقة» في حالات النشوة الدينية عند مختلف القديسين أو حتى في تجاربهم
الصوفية الخاصة، وهم يجدون في رؤى جان دارك والقديسة تريزا دليلًا على وجود نظام خارق
للطبيعة.
١ فإذا كان لدى شخص معين نوع من التجارب الصوفية الخاصة به، فمن المستحيل
عادةً زعزعة إيمانه بوجود عالم فوق الطبيعي أو موجود فوق الطبيعي. فهو يقول — بطريقة
طبيعية تمامًا — أن الرؤية كانت بالنسبة إليه حقيقية شأنها شأن أية تجربة حسية. وهو
يعلم أن الله موجود، أو أن الحقيقة النهائية «واحدة»، بنفس اليقين الذي يعلم به أنك
أنت، الذي توجه إليه سؤالك موجود، ولنفس السبب بالضبط؛ فهو قد رأى كلًّا منكما، وأحس
بحضوركما وربما سمع كلامًا منكما. وهو لم يعد يستطيع الشك في الوجود الموضوعي والحقيقة
الفعلية لما مر به في تجربته، أكثر مما يستطيع الشك في أية «واقعة» أخرى كشفتها له
حواسه. فهو يعرف لأنه قد أدرك حسيًّا.
هنا يجد الفيلسوف نفسه في موقف حرج إلى أبعد حد. فالشك في الحقيقة الموضوعية
«للوقائع» الصوفية يعني إلقاء ظل من الارتياب على قدر كبير من مضمون الإيمان الديني.
ومن جهة أخرى فإن إعطاء هذه «الوقائع» نفس المكانة المعرفية التي نعطيها لموضوعات
التجربة اليومية الشاملة يبدو أمرًا مستحيلًا. ذلك لأننا إذا فتحنا الباب على مصراعيه
وسمحنا بدخول الرؤى الدينية إلى مجال الحقيقة الواقعة، لكان هناك دائمًا خطر اتساع هذا
الباب لكل تجربة ذاتية، بحيث يكون لخيالات المجنون ذاتها نفس الحق في ادعاء الواقعية.
وعلى العكس من ذلك، فإننا إذا استبعدنا من فئة الأمور الواقعية أية تجربة لا تصمد
لاختيار العمومية (أعني أية تجربة لا يمكن أن يشارك فيها كل شخص) فعندئذٍ نكون قد
أغلقنا الباب في وجه مجموعة من أروع تبصرات الجنس البشري. فمن الجائز أن جان دارك كانت
مصابة بالرؤيا الذهنية، ومع ذلك يظل من الصحيح أن القديس ميخائيل كان بالنسبة إليها
حقيقيًّا مثلما كانت أغنامها التي ترعاها، وأنها قد تخلت عن رعي الأغنام بناء على
تعليماته ومضت لتنقذ فرنسا.
وهنا نعود مرة أخرى إلى سؤالنا: إلى أي مدى يمكن الاعتماد على التحقيق الحسي بوصفه
دليلًا على صدق أية عبارة؟
الإحساس في مقابل الموقف الطبيعي: هناك سبب آخر
يدعونا إلى الامتناع عن وضع ثقة لا حد لها في التحقيق الحسي بوصفه دليلًا على التطابق
بين أفكارنا وبين الواقع. وهذا السبب هو الخلط الذي يحدث كثيرًا بين التحقيق الحسي
بمعناه الصحيح وبين مقابلة المزيف، المسمى «بالموقف الطبيعي». ويقدم العلم الحديث إلينا
مثلًا جيدًا لهذا الخلط. «فالموقف الطبيعي» مثلًا ينبئنا بأن قرص المنضدة المصنوعة من
خشب البلوط صلب؛ لأن من المؤكد أنه يقاوم حاسة اللمس لدينا مقاومة كبيرة. ومع ذلك فإن
الفيزياء الحديثة تصف قرص المنضدة هذا نفسه بأنه أبعد ما يكون عن الصلابة. فهو بدلًا
من
ذلك كتلة من الذرات، تتألف بدورها من نواة مركزية من الطاقة الكهربية تحيط به شحنة
سلبية واحدة أو أكثر تسمى بالإلكترونات، التي تتحرك في مداراتها بسرعة هائلة. فلا
البروتون المركزي ولا الإلكترونات المحيطة به تعد «صلبة» بأي معنى يقول به الموقف
الطبيعي، على حين أن المكان الذي يفصل بين النواة وبين الشحنات المحيطة به قد يكون
مشابهًا نسبيًّا للمكان الذي يفصل الكواكب من الشمس في مجموعتنا الشمسية.
وعلى الرغم من أن قدرًا كبيرًا من هذا النظام الذي يظل تأليفًا نظريًّا، فإن هناك
من
«الأدلة التجريبية» ما يكفي لإثبات أنه على الأرجح أكثر من مجرد نظرية. ومع ذلك فإن
«الأدلة التجريبية» تعني التحقيق الحسي، وبذلك تكون لدينا مفارقة واضحة من وجهة النظر
الإبستمولوجية (المعرفية) ذلك لأن لدينا هنا شهادة حسية أو أولية (هي شهادة «الموقف
الطبيعي») على أن قرص المنضدة صلب، ولدينا أيضًا شهادة حسية تجريبية أو غير مباشرة على
أن قرص المنضدة غير صلب، فما هو إذن مدى إمكان اعتمادنا على التحقيق الحسي بوصفه دليلًا
على «الحقيقة»؟
ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال في عبارة واحدة نعمل فيها حسابًا لآراء كل مدرسة
فلسفية؛ ذلك لأن إجابتنا تتوقف هنا، كما تتوقف في حالة الكثير من المشكلات الفلسفية،
على المدرسة الفكرية التي ننتمي إليها. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن
لشهادة الحواس أهمية كبرى بوصفها واحدًا من معايير الحقيقة، ولكن من المستحيل الاعتماد
عليها بوصفها المعيار الأوحد. وقد أبدت بعض المدارس اهتمامًا كبيرًا بشهادة الحواس،
مؤكدة أنها، على الرغم من نواقصها المعترف بها، تظل أفضل وسيلة منفردة لتحديد صحة
عباراتنا أو بطلانها. ومن جهة أخرى فإن صاحب المذهب العقلي لا يقدر التجربة الحسية إلا
بوصفها معيارًا ثانويًّا للحقيقة، ولا يبدي بها ثقة كبيرة بوصفها دليلًا مستقلًّا،
مكتفيًا بذاته، على الحقيقة، وقد لا يثق بها في هذا الصدد على الإطلاق. ومع ذلك فإن
المدارس كلها تتفق في النظر إليها على أنها واحد من معايير الحقيقة، ولكن التحديد
الدقيق لمكانتها بوصفها معيارًا كهذا هو مسألة غير هينة.
(٣) ردود الأفعال المتعارضة للمذهبين الطبيعي والمثالي
يتخذ المذهبان المثالي والطبيعي — كما قد يتوقع المرء — موقفين متعارضين من هذه
المسألة. فالمثالية، بتأكيدها للذهن وأوجه نشاطه العقلية، قد أبدت دائمًا اهتمامًا
بأوجه الفكر والتجربة التي تنطوي على استدلال عقلي وتصور ذهني. ونتيجة ذلك، فقد اتجهت
هذه المدرسة إلى عدم الثقة بالحواس بوصفها مصادر للمعرفة ووسائل لكشف الحقيقة. ذلك لأن
كل ما تنقله إلينا الحواس هو مظهر الأشياء، أو الظواهر؛ ومن هنا لم تكن لإحساساتنا
علاقة ضرورية بالواقع الكامن من ورائها، بل إنها كثيرًا ما تكون حائلًا دون الاتصال
بالواقع؛ لأن ما تنقله إلينا قد يكون «مثيرًا» إلى حد أنه يصرف أنظارنا عن الواقع
الحقيقي، أو مشوها إلى حد أنه يضللنا كل التضليل. وكما قال أفلاطون، فنحن سجناء أجسامنا
وأجهزتها الحسية. ولما كنا معتمدين تمامًا على هذا الجهاز في معرفتنا للعالم الخارجي،
فإنا لا نعرف إلا بقدر ما يستطيع الذهن أن يقدم إلينا؛ أي إننا لا نعرف إلا الظواهر أو
المظاهر. فالمثالي يرى أنه لولا عقلنا، الذي يتمكن من اختراق حاجز الإحساس المضطرب
المختلط والنفاذ إلى الواقع الكامن من ورائه، لظللنا منعزلين أبديًّا عن أية معرفة أو
حقيقة نهائية. فوظيفة الذهن الرئيسية عند المثالي هي تنظيم إحساساتنا، «وغربلتها» من
أجل استخلاص ما فيها من «قمح» أنطولوجي، والانتقال من عملية التجريد هذه، عن طريق
التعميم ووضع التصورات، إلى صياغة صورة «حقيقية» للواقع.
ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تتجه المثالية
إلى النظر إلى «الحقيقة» على أنها نتيجة صراع دائم بين الإحساس والعقل — ينتصر فيه
العقل دائمًا قبل أن تظهر «الحقيقة». هذه الثنائية التي يوضع فيها العقل في مقابل الحس
(والأهم من ذلك: الذهني في مقابل المادي) موجودة ضمنًا في كل مثالية ميتافيزيقية. وهي
تظل أحيانًا ضمنية فحسب، ولكن الأكثر شيوعًا أن يظهر التقابل الأساسي بوضوح تام، كما
هي
الحال في المذهب الأفلاطوني، الذي يغدو فيه هذا التقابل أساسًا لمذهب ميتافيزيقي معرفي
أخلاقي جمالي ضخم، يبدو فيه الفيلسوف وكأنه قد أصبح بالفعل «شاهدًا على كل زمان وكل
وجود».
المذهب الطبيعي: يرى المذهب أن عكس هذا هو الصحيح:
فالتجربة الحسية على الرغم من نواقصها المعترف بها، هي وسيلة للاتصال بالواقع أفضل
بكثير من عمليات الذهن التجريدية التصورية، التي يبدي المثالي كل هذا الإعجاب بها. ومع
ذلك فإن السذاجة لا تبلغ بأي واحد من أنصار المذهب الطبيعي حد القول بأن الإحساس البحت
يستطيع بذاته أن يعطينا قدرًا كبيرًا من المعرفة أو «الحقيقة». فهو يعترف بأن الذهن
ينبغي أن ينظم معطياته الحسية قبل أن يتسنى لها أن تصبح قابلة للفهم، وهو يوافق على
عبارة كانت المشهورة، القائلة إن «الإدراكات (أي الإحساسات) بلا تصورات عمياء». ومع ذلك
فإن القائل بالمذهب الطبيعي يظل في صميمه ذا نزعة تجريبية؛ بحيث يجعل من التجربة سلطة
نهائية — والمقصود بالتجربة بالطبع، التجربة الحسية. فهو يرى أن الأفكار والمفاهيم وكل
نواتج النشاط الفعلي ينبغي أن يحكم عليها في النهاية بمعيار التجربة الصارم. وهكذا يشك
صاحب المذهب الطبيعي دائمًا في المذاهب المثالية والعقلية، بما فيها من اتجاه إلى
التركيز على العقل على حساب التجربة الحسية. وهو يشعر بأن الدليل التجريبي هو الرقيب
الأوحد على قدرة الإنسان الهائلة في التخيل والحكم والتبرير. ولو ارتكبنا، في سعينا إلى
الحقيقة أو الواقع، خطأ وضع الأدلة التجريبية في مكانة ثانوية، فما الذي يمكن أن يحول
عندئذٍ بين العقل، بما لديه من قدرة على أن يجعل الأشياء تبدو على نحو ما نريد لها،
وبين تقديم صورة مزيفة ولدتها الأحلام للواقع؟ إن المعطيات الحسية ينبغي أن تكون هي
محكمة النقض والإبرام. فإذا لم تكن هذه المعطيات متفقة مع «نظرتنا العقلية إلى الأمور»،
فعندئذٍ يكون من واجبنا تغيير هذه النظرة، لا استبعاد هذه المعطيات على أنها
«مظاهر».
(٤) النظرية الثانية: الحقيقة بوصفها ترابطًا
وهكذا يتضح لنا أن نظرية التطابق أكثر تلاؤمًا مع نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم
مما
هي مع النظرة المثالية. أما النظرية الرئيسية الثانية فتلائم الموقف المثالي تمامًا.
تلك هي نظرية الترابط Coherence، ومفادها باختصار أن
العبارة أو القضية تكون صحيحة إذا كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة أو مع معرفتنا ككل.
وأفضل مثل لذلك هو ميدان الرياضيات. ففي هندسة إقليدس مثلًا نجد نسقًا مستمدًّا
بالاستنباط، خطوة فخطوة، من البديهيات والمصادرات الأصلية. وما إن تؤخذ هذه البديهيات
والمسلَّمات على أنها صحيحة، حتى يلزم عنها بقية النسق منطقيًّا، وعلى نحو يكاد يكون
محتومًا. فنحن في هذه الحالة ننتقل في سلسلة لا تنقطع، قوامها استدلال غاية في الدقة،
من البديهيات الأصلية إلى عبارة «وهو المطلوب إثباته» التي يختم بها البرهان على
النظرية الهندسية. وبالوصول إلى النتيجة تكون لدينا سلسلة تامة التكامل من التفكير
المنطقي، تترابط بدورها مع نسق كامل من الاستدلال.
في مثل هذه الأنواع من التفكير الاستنباطي، يكون من الواضح أن الحقيقة والبطلان
يتحددان تبعًا لكون القضية المطلوب بحثها تنسجم مع النسق الذي يفترض أنها تكون جزءًا
منه. وهنا يصبح الترابط هو المعيار الوحيد للحقيقة: فالعبارة لا تكون باطلة إلا إذا لم
تتكامل مع مجموع معرفتنا أو اعتقادنا.
وفي حالة هذه النظرية بدورها نجد أن أول رد فعل
لنا على مثل هذا المعيار هو — كما كان في حالة نظرية التطابق — رد فعل ملائم على
الأرجح؛ إذ لا يبدو هناك اعتراض واضح على النظرية. وفضلًا عن ذلك فإن الإحكام المنطقي،
بوصفه مثلًا أعلى. يمتدح أمامنا إلى حد يجعلنا نبدي أشد الإعجاب بهذا الهدف. أعني هدف
النسق الفكري التام الإحكام، ولا سيما إذا كان هذا الهدف طموحًا إلى حد يشمل معه كل
معرفتنا وتجربتنا، كما في حالة الميتافيزيقا. غير أن الفيلسوف (عندما يكون تجريبيًّا)
يسارع عادةً إلى القول بأن جنة نظرية المعرفة هذه تربط فيها حية رقطاء. هذه الحية هي
أن
نظرية الترابط، وكذلك كل النسق والاستنباطية المبينة عليها، لا تنطوي على «حقيقة» على
الإطلاق، إذا شئنا الدقة. فكل ما لدينا في هذه الحالة هو اتساق منطقي Logical Consistency الذي يستحسن أن يسمى بالصواب
Validity، والذي لا تربطه علاقة ضرورية بالواقع، أو
بالعالم الموضوعي أو بالنظام الخارجي للطبيعة. فكل ما لدينا هنا نوع من النظام والترابط
المنطقي، قادر تمامًا على أن يقوم في فراغ بالنسبة إلى الواقع الموضوعي.
الفرق بين «الحقيقة» و«الصواب»: لا شك أن الطلاب
الذين درسوا مقررًا دراسيًّا في المنطق، يذكرون بعض النتائج الغريبة التي انتهت إليها
أقيستهم، والتي كانت مع ذلك صائبة تمامًا بالنسبة إلى قواعد التفكير المنطقي. ففي
محاضرات المنطق وحدها يميز المرء عادةً تمييزًا دقيقًا بين «الصواب» و«الحقيقة المطابقة
للواقع». فلنتأمل مثلًا مستمدًّا من منطقة الحدود الواقعة بين الفلسفة واللاهوت.
فالمؤمن بمذهب الألوهية يشيِّد مذهبه على مسلَّمات معينة، كوجود الله وعلمه المحيط
ومقدرته الشاملة، وخلود النفس، وحرية الإرادة، إلخ … هذه المسلَّمات هي المقدمات التي
يبدأ منها استدلاله. فهو يبدأ بهذه المسلَّمات، ويصوغ منها بالاستنباط بناءً فكريًّا
ضخمًا، يحوي في داخله كل التجربة البشرية، ومصير الفرد والجنس البشري معًا. أي إن هذا
المذهب الألوهي يؤدي إلى نتائج معينة، يبدو أنها تلزم منطقيًّا وحتميًّا من المسلَّمات
أو المقدمات التي بدأت بها السلسلة الاستدلالية. غير أن هذه النتائج لا تلزم منطقيًّا
إلا من هذه المسلَّمات الأصلية بعينها. فلو بدأنا من مجموعة أخرى من المسلَّمات (مثل
عدم وجود الله، وفناء النفس، والحتمية الكونية، إلخ) فإننا سنصل بنفس الضرورة المنطقية
المحتومة إلى مجموعة مختلفة تمامًا من النتائج. وفي هذه الحالة تغدو كلٌّ من المجموعتين
صائبة، ومرتبطة بالمقدمات التي بدأنا بها (بل لازمة عنها). ولكن أيهما هي «الحقيقة» —
إن كانت إحداهما تتصف بهذه الصفة، وماذا يكون المقصود «بالحقيقي» في هذه الحالة؟ إذا
كنا نفكر على أساس نظرية التطابق، فمن الواضح عندئذٍ أن مجموعة النتائج التي تعبر عن
وقائع الوجود الموضوعي على أفضل نحو هي الأكثر حقيقة. ولكن عندما تكون هذه النتائج
متعلقة بقضايا مثل «الله خير»، و«الكون روح شاملة»، و«الكون آلة ضخمة لا روح فيها»، وما
شابه ذلك، فأية قيمة يمكن أن تكون لنظرية التطابق في هذه الحالة؟ وبالاختصار، كيف
نستطيع أن نثبت، على أي نحو، التطابق بين أمثال هذه العبارات وبين الواقع الموضوعي؟ أو
بعبارة أخرى — وهذا هو السؤال الأهم — ما قوام «الواقع» في هذا المجال؟ وإذا اتبعنا
الاقتراح الذي قلنا به من قبل، واقتصرنا على استخدام لفظ «الواقع» للدلالة على تلك
التجارب التي يمكن تحقيقها على نطاق شامل؛ أعني تلك التي يمكن أن تدخل في تجربة كل
الملاحظين — فهل يكون من الممكن أن نتحدث عن «وقائع» في صدد الفلسفة أو الدين على
الإطلاق؟
(٥) حدود الصواب المنطقي
إن أفضل وسيلة لإيضاح العلاقة بين «الصواب» و«الحقيقة» هي شرحها بضرب أمثلة من
الاستدلال المنطقي والرياضي. فمثلًا، إذا كانت لدينا معادلة مثل س = ص، تليها معادلة
ص
= ع، فعندئذٍ يكون من الصواب أن نستنتج من ذلك أن س = ع. غير أننا نصل إلى هذه النتيجة
دون أية معرفة لمعنى الرموز أو قيمتها؛ لذلك لا تكون لدينا معرفة متعلقة «بالحقيقة
المطابقة للواقع» في نتيجتنا هذه؛ لأننا لا نعرف أي معنى واقعي للمعادلة س = ع.
٢ وكل ما نستطيع أن نتحقق منه هو أنه إذا كانت لدينا المقدمتان س = ص وص = ع.
فإننا، نستطيع أن نستخلص منهما نتيجة صائبة هي أن س = ع. ولنتأمل مثلًا آخر مستمدًّا
من
مجال المنطق الاستنباطي أو الصوري، هو القياس الآتي:
كل أشجار البلوط لها لحاء خشن
هذه الشجرة شجرة بلوط
إذن هذه الشجرة لها لحاء خشن
من الواضح أن هذه النتيجة صائبة، ولكنها لا تكون حقيقة مطابقة للواقع إلا إذا كانت
المقدمتان بدورهما مطابقتين للواقع. فإذا استطاع شخص أن يثبت أنه ليس لكل أشجار البلوط
لحاء خشن، أو إذا استطعنا أن ننجح في تحدي «الواقعة» القائلة إن نفس هذه الشجرة التي
نبحثها هي شجرة بلوط، عندئذٍ لا يمكن أن تكون نتائج القياس صحيحة؛ أي مطابقة للواقع أو
للنظام الموضوعي للطبيعي، مهما تكن سلامة القياس وصوابه، من حيث هو سلسلة استدلالية.
ومن جهة أخرى، فلنقم بتغيير طفيف في هذا القياس بحيث يكون نصفه:
كل أشجار البلوط لها لحاء خشن
هذه الشجرة لها لحاء خشن
إذن هذه شجرة بلوط
مثل هذا القياس يتضح لنا للوهلة الأولى أنه غير صائب؛ إذ لا يوجد في المقدمات ما يؤكد
أن أشجار البلوط وحدها هي التي لها لحاء خشن. فالاستدلال غير قاطع؛ إذ إن كل ما نستطيع
استنتاجه من هاتين المقدمتين هو: «إذن هذه الشجرة قد تكون شجرة بلوط». ولكن لا سبيل لنا
إلى أن نستخلص منها تأكيدًا قاطعًا هو: «إذن هذه شجرة بلوط». وستظل النتيجة على صورتها
هذه غير صائبة، حتى ولو تصادف أن كانت مطابقة للواقع. وبعبارة أخرى، فلو تصادف أن كانت
الشجرة بالفعل شجرة بلوط، فإنها تكون كذلك بالمصادفة، لا بسبب أية ضرورة منطقية منبعثة
عن المقدمات الموجودة.
هذا هو الفارق بين «الحقيقة المطابقة للواقع» وبين «الصواب» وكما قلنا من قبل، فإن
النظرية التي تجعل من الحقيقة ترابطًا تمتاز بالبساطة، من حيث إنها لا تهتم إلا بالصواب
والاتساق. فإذا ما ترابط نسق فكري منطقيًّا لم نكن نحتاج إلى شيء آخر من أجل قبوله،
تبعًا لهذه النظرية. وإنها لميزة غير قليلة أن يكون لدينا مثل هذا المعيار البسيط، لا
سيما وأن من الممكن عادةً (كما أوضحنا من قبل) أن نصل إلى اتفاق حول ما هو متسق وما هو
غير متسق مع أي نسق في مجموعه. ولكن من سوء الحظ أن نقاط الضعف الواضحة في هذه النظرية
تفوق مزاياها بكثير. ومن ثم فهي تستخدم معيارًا أوحد للحقيقة في ميادين قليلة جدًّا،
ولا سيما في الرياضيات.
نقاط الضعف الرئيسية في نظرية الترابط: أوضحنا في
الفقرات السابقة، بطريقة ضمنية، أبرز نقاط الضعف في هذه النظرية؛ ذلك لأنه لو لم يكن
لدينا هذا الشرط المقيد، وهو أن تتفق نتائجنا مع الواقع الموضوعي على نحو قابل للإثبات،
لغدا من الممكن عندئذٍ تشييد أروع وأعقد البناءات الفكرية على مقدمات لا يزكيها شيء سوى
كونها تتفق مع مصالحنا الأنانية (كما في مذاهب الأيديولوجية السياسية أو الاقتصادية)،
أو كونها تتفق مع تطلُّعنا إلى نظرة إلى العالم تعطينا ثقة وأملًا. والخطر الأساسي هو
أن الذهن غير النقدي قد يعجب بالبناء في صورته النهائية، وبنتائجه (ولا سيما إذا كانت
ترضي رغبته في الاطمئنان العاطفي أو التبرير الأخلاقي) إلى حد يؤدي به إلى إغفال ملاحظة
الأسس التي شيد عليها البناء بأكمله. وكثرًا ما يحدث، عندما يقوم مفكر تحليلي بكشف هذه
الأسس، أن يتغير موقف الذهن الذي كان قبل ذلك يقبل النسق بأكمله، فيتحول إلى رفض الكل
لأنه لم يعد يقبل المقدمات الأصلية. ولكن الأكثر من ذلك حدوثًا أن ينقب هذا الذهن من
حوله ويحاول أن يضع أسسًا خاصة به تتألف من مقدمات مقبولة أكثر من الأولى، ثم ينقل
البناء الفكري بأكمله سليمًا فوق الأساس الجديد. وقد يحدث أحيانًا أن يدرك ذهن أن
المقدمات الأصلية مسلَّمات غير مقبولة، ويعترف بأنها غير مرضية، وربما ممتنعة، ولكنه
يظل يؤكد في عناد أن أي نسق يبلغ هذا الحد من الروعة، ويصل إلى مثل هذه النتائج البديعة
التي تطرب لها النفس، لا بد أن يكون صحيحًا بغضِّ النظر عن اسمه. ومن الأوضح أنه عندما
يكون لأي شخص «إرادة اعتقاد» كهذه، فأغلب الظن أننا نكون مضيعين لوقتنا لو قمنا حتى
بمناقشة مشكلة الحقيقة معه. وعندما يكون البناء الفكري الذي يصر على الاحتماء في داخله،
قد ظل صامدًا قرونًا طويلة، فعندئذٍ يكون من الأكثر عقمًا أن نحاول إقناع المؤمن غير
النقدي بأن هذا البناء ليس مشيدًا على أسس واقعية موضوعية يمكنها أن تصمد للاختبار الذي
يتخذ من التطابق معيارًا للحقيقة.
(٦) النظرية الثالثة: النظرية الحقيقية عند البرجماتيين
لن يكون من الإنصاف أن نحكم على من يختار نظرية الترابط، بدلًا من نظرية التطابق،
بأنه يسلك اعتباطًا، أو يفكر على النحو الذي يرضي رغباته فحسب. فهناك احتمال في أن يكون
قد استعان، عن وعي أو دون وعي، بثالث النظريات الكبرى عن الحقيقة في الاختيار بين
النظريتين اللتين ناقشناهما من قبل. هذه النظرية الثالثة هي المفهوم «البرجماتي» للحقيقة
٣ وأهم ما تقول به هذه النظرية هو أن معيار الحقيقة الوحيد الذي له دلالة هو
معيار النجاح العملي
Workability أي الثمار التي تحملها
والنتائج التي تؤدي إليها. وهكذا تكون العبارة صحيحة في نظر البرجماتي إذا كانت تعبر
عن
واقع أو تصف موقفًا نستطيع أن نسلك على أساسه ونحقق النتائج المتوقعة. فقضيتنا القديمة
«الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة» ليست في حقيقة الأمر إلا خطة للسلوك
الممكن، فهي تعني أنني إذا ذهبت إلى الحجرة المجاورة ونظرت إلى المنضدة، فسوف أجد
الكتاب. ولو تصرفت على أساس هذه الخطة، ووجدت الكتاب بالفعل في المكان المذكور، فعندئذٍ
تصبح العبارة صحيحة — أو بتعبير أدق، تكتسب الصحة أو الحقيقة.
على أن النظرة المثالية العامة إلى الحقيقة هي
شيء مختلف كل الاختلاف — فبينما المدارس الفرعية داخل المذهب المثالي تتباين أفكارها
إلى حد ما، فإن هذه المدارس كمجموعة تنظر إلى الحقيقة على أنها شيء ينبغي أن يكون
شاملًا من الوجهة المنطقية. فهي ترتبط مباشرة بالواقع النهائي؛ ذلك لأن من النظريات
المميزة للمثالية، كما رأينا من قبل، أنها تدمج «الخير والجمال والحق» لتكون الواقع من
الكل. ومن ثم فإن «للحقيقة» وجودًا مستقلًّا، وتجربتنا معها تتخذ دائمًا طابع الكشف.
فالحقيقة موجودة، ونحن نكتشفها؛ ومن هنا تؤلف «مطلقًا» من نوع ما. أما البرجماتي فلا
يرى أن هناك شيئًا اسمه الحقيقة المطلقة بوصفها كيانًا له وجود مستقل مكتفٍ بذاته.
وإنما هي على الأصح شيء نصنعه. فنحن نصوغ أحكامًا من أنواع شتى لأننا نحتاج إلى عوامل
ذهنية تساعدنا على التعامل مع تجربتنا. ولا تصبح هذه الأحكام حقائق إلا عندما نسلك على
أساسها. وهكذا فإن أية عبارة هي بالنسبة إلى البرجماتية فرض ينبغي تحقيقه بالسلوك على
أساسه وملاحظة النتائج.
البرجماتية والعلم: المصدر الرئيسي للبرجماتية هو
مناهج البحث العلمي. ذلك لأن العلم، من حيث نظرته إلى «الحقيقة» هو برجماتي بطبعه. فبعد
أن يصوغ العالم فرضه لتفسير الوقائع المراد بحثها، يكون المعيار المألوف الذي يتخذه
للتحقق من ذلك الفرض هو تصميم تجربة نقدية تؤدي إلى نتيجة قاطعة تنتهي «بنعم أو لا».
وفي استطاعة الباحث أن يتنبأ بالنتائج التي يتوقع من التجربة أن تسفر عنها (إذا كان
الفرض صحيحًا) على أساس معرفته بهذا الميدان العلمي ومبادئه المقررة. وهكذا فعندما تجري
التجربة، «ويوجه الأسئلة إلى الطبيعة ويرغمها على الإجابة»، تكون حقيقة الفرض متوقفة
تمامًا على كونه مؤديًا إلى النتائج المتوقعة أو غير مؤد إليها. وإذن فالبناء الكامل
للعلم يبنى على القدرة على النجاح العملي: فالفرض الذي ينجح أو يسفر عن نتائج هو الذي
يقبل بوصفه حقيقة.
٤
والواقع أن البرجماتي، شأنه شأن أي شخص آخر، يتأثر كل التأثر بمنجزات العلم الحديث.
ولما كانت هذه المنجزات قد تحققت بفضل استخدام هذه النظرية عن الحقيقة، التي تتصف بأنها
عملية، غير مثالية، وثيقة الصلة بالحياة اليومية، فمن الطبيعي أن تقترح مدرسة فلسفية
ما، التوسع في هذه النظرية بحيث تنتظم التجربة بأسرها. إذ يبدو من المنطقي أن نفترض أن
أية نظرية تثبت أنها مثمرة إلى هذا الحد في مجال معين، ستثبت قيمتها في المجالات الأخرى
بدورها. غير أن الهجمات الرئيسية على هذا التوسع البرجماتي للنظرية قد أتى من جانب
أنصار المثالية المطلقة، وتركز على ادعائها أن النجاح العملي وحده هو معيار الحقيقة.
ومن الجائز أن بعض البرجماتيين الأوائل قد ارتكبوا خطأ تبسيط مشكلة الحقيقة إلى حد
الإفراط، وحاولوا — في حماسة الرواد — أن يقيموا نظرية يكون فيها معيار النجاح العملي
الأوحد هذا هو الذي يتحكم بذاته في تحديد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. غير أن
البرجماتية الناضجة في أيامنا هذه قد انتفعت من هذه الانتقادات، وهذبت نظريتها بحيث
تحذف منها أية زوائد كهذه.
العوامل المساعدة التي تلجأ إليها البرجماتية في تحديد
الحقيقة: يدرك معظم البرجماتيين أنه، بينما النجاح العملي قد يكون أهم
معيار للحقيقة، فمن الممكن الاستعانة بمعونة إضافية من مصادر أخرى. أول هذه العوامل
المساعدة هو «الترابط» الذي عرفناه من قبل: فليس في وسعنا أن نحتفظ بحقائقنا ومعتقداتنا
منعزلة وكأنها ذرات تنفصل كلٌّ منها عن الأخرى، بل لا بد أن تنسجم في كل. (ولو سألنا
في
ذلك برجماتيًّا من الطراز القديم لقال على الأرجح إنه يفضل هذا الاتساق المنسجم على
أساس أن حقائقنا ستحرز «نجاحًا عمليًّا أكبر» إذا كونت نسقًا مترابطًا). والعامل
المساعد الثاني الذي تستعين به البرجماتية من آن لآخر هو عامل مميز لهذه المدرسة
٥ فعندما نعجز عن الاختيار بين عبارتين على أساس الأدلة التجريبية، أو
الترابط، أو «القيمة النقدية
Cash Value» للنتائج
المباشرة، فعندئذٍ يكون لنا الحق في تحديد أي القضيتين «صحيحة» على أساس مقدار ما يمكن
أن تسهم به كلٌّ منهما من «القيم العليا» أو «قيم الحياة». فمعتقداتنا، ولا سيما تلك
التي تتعلق بتجربتنا ككل، تستطيع التأثير في موقفنا من الحياة والعالم الذي نعيش فيه.
وهي تستطيع أن تجعل العالم يبدو عقيمًا أو يبدو جديرًا بأن نعيش فيه، وفي إمكانها أن
تكسبنا استقرارًا عاطفيًّا «وطمأنينة النفس»، أو أن تؤدي إلى عكس ذلك. وعلى هذا، فعندما
يكون علينا أن نقرر ما هي العبارة «الصحيحة» من بين عبارتين متناقضتين — مثل: «النفس
خالدة» و«النفس فانية» — فمن الواضح أننا لن نجد عونًا كبيرًا من معيار النجاح العملي
أو الترابط، ولن نجد عونًا على الإطلاق من معيار التحقيق الحسي. وإذن فمن الواجب أن
نختار بين العبارتين على أساس آخر. وفي مثل هذه الحالات، نجد أن المعيار الذي نحدد على
أساسه أي القضيتين تؤدي إلى تحقيق «القيم العليا للحياة» على أفضل نحو هو معيار لا يصلح
للتطبيق فحسب، بل ربما كان معيارًا لا مفر منه.
٦
وينبغي أن يلاحظ أن البرجماتية لا تلجأ أبدًا إلى تبرير اختيار عبارة معينة على أنها
صحيحة بالنسبة إلى قضية أخرى على أساس «القيم العليا» وحدها. ذلك لأنه لا يحق لنا في
نظرها أن نلجأ إلى هذا المعيار الأخير بوصفه محكمة نقض وإبرام إلا عندما تخفق المعايير
الأخرى في تحديد «حقيقتها». فإذا استطاعت النتائج التجريبية، أو «القيمة النقدية»، أو
الترابط، أن تقوم بالاختيار لنا، فإن أي التجاء إلى «القيم العليا» يبدو أمرًا مريبًا،
وكأنه نوع من التزييف العقلي. وإذن فلا يحق لنا أن نسمح لسعادتنا الروحية وحاجاتنا
العاطفية بأن تتحكم في اختيارنا للحقيقة إلا عندما يستحيل تطبيق المعايير الأخرى، أو
عندما تنتهي إلى حالة من التوقف نعجز فيها عن اتخاذ أي قرار.
(٧) المعايير المختلفة للحقيقة
لا بد أن القارئ يشعر الآن بأنه أكثر تعاطفًا مع بيلاطس عندما سأل سؤاله الخالد عن
طبيعة الحقيقة. ومع ذلك فإن بحثنا لم ينته بعد. فقد ناقشنا حتى الآن ثلاث نظريات عن
الحقيقة، بالإضافة إلى أحد معايير الحقيقة وهو التحقيق الحسي. ولكن هناك عدة معايير
أخرى كهذه يتعين علينا بحثها، كلها لا تقل عن معيار التحقيق التجريبي شيوعًا، وربما
أهمية. ويفضل أشخاص كثيرون أن يطلقوا على هذه اسم «مصادر» الحقيقة لا «معاييرها»، ولكن
اللفظ لا أهمية له ما دمنا نفهم علاقة هذه المعايير بالمشكلة الرئيسية.
السلطة: ربما كان معيار الحقيقة الأكثر تداولًا،
بعد معيار التحقيق الحسي، هو السلطة. فاعتمادنا على السلطة يبلغ من القوة حدًّا يجعلنا
لا نكاد نشعر بذلك عن وعي، ولما كان من الصحيح أن السلطات الأخلاقية والكنسية القديمة
قد انهارت إلى حدٍّ بعيد، فإن سلطات جديدة من نوع مخالف قد حلت محلها. مثال ذلك أننا
نعتمد الآن، في اكتساب «حقائقنا» على سلطة العلم أكثر بكثير مما نعتمد على سلطة
الكنيسة. ومن حسن حظنا أننا لسنا مضطرين هنا إلى البت في مسألة كون هذه السلطة الجديدة
أكثر فاعلية من حيث هي مرشد لنا في الحياة أم لا. فالمسألة الهامة هي أننا على الأرجح
قد أصبحنا معتمدين في اكتساب حقائقنا على مصادر خارجنا أكثر مما كنا في أي وقت مضى. فقد
نكون على ثقة من أن العلم سلطة يعتمد عليها أكثر من غيرها. ومع ذلك يظل من الصحيح أنه
بدوره مصدر خارجي بالنسبة إلى معظم الأشخاص. وقد نشير إلى النتائج البرجماتية للعلم
بوصفها دليلًا على إمكان الارتكان إليه، أو قد نؤكد اعتماده المطلق على التحقيق
التجريبي بوصفه ضمانًا لقبول ما يدعيه من سلطة. كما أن من الجائز أن نكون قد اشتغلنا
نحن أنفسنا في المعامل إلى الحد الذي يكفي لتأييد حقائق واحدة من العلوم. ومع ذلك فحتى
الباحث المعملي المحترف لا يكون لديه من التدريب ومن الوقت ما يكفي للقيام بعمليات
التحقيق هذه في أي ميدان ما عدا ميدانه الخاص. وقد نقول إننا بعد أن نكون قد اختبرنا
بعض قضايا العلم عن طريق تجاربنا الخاصة، يكون لنا الحق في افتراض أن الوقائع العلمية
الأخرى «صحيحة» بدورها. ومع ذلك، فإن هذا يعني أننا نأخذ بهذه الوقائع الأخرى على أساس
السلطة، مهما كان درجة ثقتنا بها.
دور السلطة في التعليم: لا تتاح لمعظمنا من فرص
التحقق من السلطات التي يخضع لها ما يتاح حتى للعالم الهاوي ذاته. ومثل هذا يصدق على
كل
ميادين النشاط البشري. وأغلب الظن أن كمية المعرفة التي نكتسبها بالخبرة المباشرة تمثل،
عند الشخص المتعلم، الجانب الأقل بالنسبة إلى مجموع معرفته. وكلما ازددنا تعلُّمًا
واتسع الأساس الذي نبني عليه ثقافتنا، اتسع حتمًا نطاق السلطات التي نعتمد عليها؛ إذ
إن
ارتفاع مستوى التعليم يعني ازدياد كمية المعرفة النظرية والتعلم غير المباشر. فالتلميذ
في روضة الأطفال يتعلم إلى حدٍّ بعيد بالعمل، وبأداء أوجه نشاط شتى، أما طالب الكلية
المتقدم فإن المصدر الأهم لتعليمه هو قراءة موجزات وتلخيصات لأعمال أناس آخرين. ولكن
هذه الطريقة المتقدمة، مهما يكن من فعاليتها بوصفها طريقة للتعلم، فإنها تؤكد أهمية
السلطة إلى حد الإفراط. وما يصدق على التعليم الرسمي يصدق على كل الميادين. ففي مدنية
تبلغ من التعقد والتشعب الهائل ما بلغته مدنيتنا، يكاد كل شيء نقوم به يكون منطويًا على
تجربة غير مباشرة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك، مصادر أنبائنا، كما أننا في ميادين كالطب
والاقتصاد وما إلى ذلك نكاد نقف عاجزين إزاء موكب السلطات التي تتفاوت أنواعها ودرجة
إمكان الاعتماد عليها.
وهكذا تصبح المشكلة هي مشكلة التمييز بين مختلف أنواع السلطة ودرجاتها، وفي بعض
الأحيان بين الآراء المتعارضة للخبراء في الميدان الواحد. ومع ذلك، فلما كان لكل ميدان
معاييره الخاصة، فلا يمكن أن يكون في هذا الكتاب مجال لمحاولة القيام بتقييم مفصل
لأنواع السلطة. وحسبنا أن يكون القارئ قد أصبح أكثر إدراكًا لحتمية الالتجاء إلى السلطة
في تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي أن نعده «حقيقة». والواقع أن الفيلسوف كثيرًا ما يتملكه
اليأس من أن يتمكن من التمييز بين «الحقيقة» وبين «الظن»، وذلك من فرط خضوع الأذهان غير
النقدية «للسلطة» (التي تكون عادةً آخر سلطة سمعتها أو قرأت لها) وسهولة انخداعها بحيث
تصدق أن المعرفة التي اكتسبتها على هذا النحو هي معرفتها الخاصة. ولقد كافح كلٌّ من
سقراط وأفلاطون من أجل تحقيق هذا التمييز بين الحقيقة والظن، ثم خلفاءه للفلسفة بوصفه
ميراثًا دائمًا. وفيما يتعلق «بالحقيقة» اليومية العملية، تحتل السلطة، من حيث الأهمية،
مكانًا يلي التحقيق الحسي والنجاح العلمي مباشرة. «ما الحقيقة؟» إنها — كما يبدو أن
بيلاطس قد أدرك بوضوح — هي إلى حدٍّ بعيد ما تحدده السلطة السائدة. وهو ذاته قد اعترف
بهذه الحقيقة، إذ قبل أن يحكم في القضية المعروضة عليه، على الأساس الذي أوصى به أولئك
الذين كانوا، وفقًا للقانون العبري، هم «السلطات» المختصة.
(٨) معيار الاتفاق الاجتماعي أو اليقين الباطن
هناك معيار آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعيار السلطة، وقد يكون في ظروف معينة أكثر
إقناعًا حتى مما كانت الكنيسة ذاتها في وقت ما، أو من العلم في وقتنا الحالي. ذلك هو
معيار الاتفاق الاجتماعي. «فالحقيقة» هي، إلى حدٍّ بعيد، ما يقول الجميع إنه حقيقة.
والشخص الذي يتعين علينا أن نقول له إن «كل شخص يعلم أن هذا صحيح!» لا بد إما أن يكون
شخصًا ناقص المعلومات وإما أقل من العادي في الذكاء، أو كليهما معًا. وعلى حين أن
الاتفاق الاجتماعي يمارس تأثيرًا قويًّا على أحكامنا عن «الحقيقة» في جميع الميادين،
فإنه أقوى ما يكون في ميادين العرف والعادات الاجتماعية والأخلاق. فقبول عادةٍ أو معيار
أخلاقي معين على نطاق واسع جدًّا، هو في نظر معظم الناس سبب كافٍ للنظر إليه على أنه
«حقيقة»، بل إن كثيرًا من الناس يصدمون إذ يرون شخصًا يتشكك في حقيقة وجهة نظر أخلاقية
يشيع قبولها على نطاق واسع. فقبول الجميع — أو حتى الأغلبية — لرأي معين، هو بالنسبة
إلى هذه الأذهان ضمان كافٍ لحقيقة هذا الرأي.
أما الفيلسوف فقد تخصص منذ وقت طويل في تحدي قوة الاتفاق الاجتماعي. فقد يجد لذة خاصة
في أن ينبه الأذهان إلى ما في هذا الاتفاق من تقلب وتهافت، حتى عندما يكون الاتفاق
عامًّا. وفي الواقع إن عدم دوام العادات والسنن الاجتماعية المألوفة هو أمر أوضح من أن
يحتاج إلى تعليق فلسفي. ومع ذلك، فإن الفلسفة تشعر بوجود خطر شديد عندما يسيطر الاتفاق
الاجتماعي وحده على المعايير الأخلاقية. ذلك لأن القدر الأكبر من التقدم الأخلاقي قد
أتى من جانب أقلية ضئيلة من الأشخاص الذين لم يرهبوا القوة الطاغية للاتفاق الاجتماعي
—
وهم الشهداء والمصلحون وأعداء التفرقة العنصرية، الذين لا يجدون علاقة بين الحقيقة وبين
رأي الأغلبية. «فالحقيقة» في نظر هؤلاء الرواد الأخلاقيين هي شيء مكتفٍ بذاته، مستقل
عن
قبول الجموع الكبيرة له.
هذه النفوس المنعزلة الشجاعة كانت دائمًا تختبر «حقيقتها» بمعيار غير الاتفاق
الاجتماعي. ففي بعض الأحيان كان هذا المعيار هو السلطة؛ أعني سلطة الإنجيل، أو سلطة نبي
أو زعيم ما. وفي حالات أخرى كان أساس حججهم هو نظرية الترابط؛ إذ إنهم قد رأوا أن هناك
عادات أو معايير معينة لا تتسق مع المُثل العليا الأخلاقية الشاملة السائدة في المجتمع
الذي يعيشون فيه، وربما قد لا تتسق مع تعاليم المسيح. وفي أحيان أخرى كانوا يستعينون
بالنظرية البرجماتية إذ اتضح لهم أن النتائج الفعلية للعادة الاجتماعية كانت شرًّا،
بغضِّ النظر عن التبريرات الأخلاقية التفصيلية التي تقدم لها. والمثل الكلاسيكي لعادة
اجتماعية هوجمت في البداية لأسباب برجماتية في المحل الأول هو الرق.
المعيار الصوفي أو الحدسي: ومع ذلك فهناك معيار آخر
لم نكد نذكر عنه شيئًا، يلتجئ إليه الرائد الأخلاقي أكثر مما يلتجئ إلى أي معيار آخر
من
المعايير السابقة؛ هذا هو المعيار الصوفي أو الحدسي — وهو «نور باطن» أو اعتقاد عميق
راسخ يبدو أكثر إقناعًا، ويحمل من اليقين المعصوم قدرًا أعظم، من كل المعايير الأخرى
للحقيقة مجتمعة. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا المعيار بالنسبة إلى الفلسفة، هو معيار
شخصي وذاتي إلى حد لا يسمح بكثير من التحليل. فالفيلسوف يجد لزامًا عليه أن يعترف
بحقيقة هذه التجارب وتأثيرها في الفرد، ولكنه لا يستطيع أن يقول الكثير بعد ذلك، بل إن
عالم النفس ذاته لا يستطيع تقديم الكثير، إلا أن يشير إلى مسألتين ينبغي أن تؤخذا بعين
الاعتبار عند الحكم على صحة هذه التجارب. أولى هاتين المسألتين سلبية، فالشعور باليقين
الباطن هو في ذاته شعور لا يعول عليه مطلقًا، كما يدل على ذلك كون المجانين، على
الأرجح، أكثر «يقينًا» بحقيقة معتقداتهم من أية مجموعة أخرى من البشر. أما من الناحية
الإيجابية، فينبغي أن نسارع إلى الإشارة إلى أن هذا الإحساس الباطن باليقين موجود في
نهاية الأمر، في كل تجربة للحقيقة، أيًّا ما كانت النظرية أو معيار الحقيقة الذي
نستخدمه عن وعي. وحتى لو تأملنا حالة التحقيق الحسي (الذي يبدو أصح المعايير وأكثرها
شمولًا) فما الذي نعتمد عليه آخر الأمر لكي نثبت أننا «نرى» أو «نشم» أو «نسمع» ما نظن
أننا نراه أو نشمه أو نسمعه؟ أهو شيء آخر غير هذا الشعور الباطن ذاته باليقين؟ ولنعد
إلى المثل الذي ضربناه عن جان دارك: ألا يحتمل أنها كانت موقنة بأنها «رأت» القديس
ميخائيل «واستمعت» إليه وهو يأمرها بأن تذهب لإنقاذ فرنسا، بقدر ما كانت موقنة بأنها
رأت الغنم ترعى حولها واستمعت إلى أصواتها؟ أليس الدليل على أي شيء نحكم عليه في
تجربتنا بأنه «حقيقي» مرتكزًا على نفس معيار اليقين الباطن هذا؟ وهل يمكن القول إن يقين
القارئ بأنه يرى الكتاب الذي يقرؤه الآن هو في أساسه أعظم بأي قدر من يقيم جان دارك
عندما رأت القديس ميخائيل، أو أعظم من يقين المصاب بالبارانويا الذي يعاني من جنون
الاضطهاد، بأنه يرى أعداء متربصين به في كل ظل؟ صحيح أن الكتاب يستطيع أن يفي بما
تشترطه معايير أخرى لا يستطيع أن يفي بشروطها القديس ميخائيل أو «أعداء» المصاب
بالبارانويا — وأهم هذه المعايير الأخرى هو اتفاق الجميع عليه. غير أن هذه المسألة لا
تدخل في صميم الموضوع. ذلك لأن عرض الكتاب على مئات من الملاحظين الآخرين لكي يؤكدوا
وجوده الموضوعي لا يؤدي إلا إلى مائة يقين آخر مساوية ليقين القارئ ويقين جان دارك
ويقين المصاب بالبارانويا.
وهكذا فإن الشعور باليقين الباطن هو في الوقت ذاته أهم معيار ذاتي للحقيقة، وهو أقل
المعايير من حيث إمكان الاعتماد عليه. ويبدو أن أفضل حل لهذا الموقف المحير هو الآتي:
من المعترف به أنه لا يمكن أن تكون لدينا تجربة بحقيقة ما لم يكن هذا الشعور الحدسي
باليقين موجودًا، ولكن هذا الشعور في ذاته غير موثوق منه. فوجوده ضروري، ولكن من الواجب
أن يكون مصحوبًا بعدة معايير أخرى. إنه وسيلة التصديق على المعايير الأخرى الأكثر
موضوعية، وهو أداة لتحقيق المعايير الأخرى للحقيقة، ولكنه ليس معيارًا صحيحًا عندما
يكون قائمًا بذاته.
(٩) حكم نهائي على نظريات الحقيقة
بعد القيام بتحليل لفكرة الحقيقة على النحو الذي قمنا به، يكون من الطبيعي أن يثار
في
ذهن القارئ هذا السؤال: «أهناك أية حقيقة؛ أعني أية حقيقة بالمعنى الذي يفهم به معظم
الناس هذا اللفظ، وبالمعنى الذي كنت أفهمها به قبل قراءة هذا الفصل؟» هذا سؤال ينبغي
على كل قارئ أن يجيب عنه بنفسه، وسوف يكون من العوامل التي تتوقف عليها إجابته عنه، ما
يعتقد أنه هو المقصود من هذا اللفظ بوجه عام. فإذا عدت الحقيقة شيئًا سكونيًّا مطلقًا،
فالأرجح أن معظم القراء هم الآن على استعداد للشك في وجود شيء كهذا. أما إذا كنا نعني
باللفظ شيئًا نسبيًّا وديناميًّا، فمن المؤكد عندئذٍ أن معظمنا سيوافق على أنها موجودة.
بل إن معظم القراء قد يشعرون أنه على الرغم من الانتقادات التي وجهناها إلى كل معيار
ونظرية عندما استعرضناها، فإن واحدة منها على الأقل قد اجتازت المحنة ونجحت في ذلك إلى
حد يجعل منها معيارًا معتمدًا عليه للحقيقة.
المعيار المركب: ومع ذلك فأغلب الظن أن معظم الطلاب
سيوافقون على أن الدليل الوحيد الكافي على الحقيقة ينبغي أن يكون مركبًا من كل النظريات
والمعايير المتعددة. ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نقول، دون خوف من الخطأ على الأرجح، إننا
نكون قد قلنا الحقيقة:
- (١)
إذا أمكن عن طريق التحقيق الحسي بيان أن القضية تطابق الواقع
الموضوعي.
- (٢)
وإذا كانت تترابط مع كل معارفنا «وحقائقنا» الأخرى.
- (٣)
وإذا استطعنا بسلوكنا على أساسها أن نحقق النتائج المتوقعة.
- (٤)
وإذا كان هناك قدر كبير من الاتفاق الاجتماعي حول هذه الأمور الثلاثة
الأولى.
- (٥)
وإذا اتفقت عليها كل السلطات ذات العلاقة بالموضوع.
- (٦)
وأخيرًا، وإذا كان هناك، من وراء ذلك كله ومن خلاله، يقين باطن واقتناع
طبيعي بشأن تلك التجربة. ومع ذلك فقد لا تكون هذه الحقيقة ذاتها هي النوع
الذي ينبغي أن نصفه بأنه «حقيقة» بالمعنى الكامل، ولكنها تقدم إلينا على
الأقل شيئًا يمكننا أن نعتمد عليه ونبني حياتنا حوله.
ولكن هناك تعبيرًا شعبيًّا ساخرًا يلخص الموقف على أفضل وجه، هو أن «هذا شيء رائع،
إذا أمكنك القيام به». فمعظمنا على أتم استعداد لبناء حياتنا على حقائق وطيدة الأركان
كهذه. غير أن أمثال هذه الحقائق قليلة ومتباعدة. وفضلًا عن ذلك، فإن حالات الحقيقة التي
تبلغ هذا القدر من التوطد هي عادةً أبسط من أن تحل مشكلاتنا الأكثر إلحاحًا. مثال ذلك،
أن قضيتنا القديمة: «الكتاب على المنضدة الموجودة في الغرفة المجاورة» قد تكون قادرة
على مواجهة كل هذه الاختبارات، مثلما تقدر على ذلك معظم العبارات البسيطة المعبرة عن
أمر واقع، والخاصة بالعلاقات الزمنية والمكانية للأشياء المادية، بل إن التصنيف الأساسي
لأمثال هذه الموضوعات قلما ينطوي على مشكلات خطيرة متعلقة بالحقيقة. فإذا قلت: «هذا
الكتاب أخضر»، كان من الممكن إثبات حقيقة هذه العبارة أو بطلانها على نحوٍ قاطع — على
شرط ألا أكون متحدثًا، بالطبع، عن كتاب مشكوك فيه أو لون باهت، وإلا اشترط اتفاق
الأشخاص المصابين بعمى الألوان، أو ألا أكون أنا ذاتي مصابًا بعمى الألوان.
حدود المعيار المركب: ولكن من سوء الحظ أن جزءًا
فقط من القضايا التي يتعين علينا الحكم عليها بأنها «حقيقة» أو «بطلان» هو وحده الذي
يستطيع الصمود لكل هذه المعايير. فلنأخذ حكمًا مثل: «الانتحار لا مبرر له أبدًا». فكيف
نستطيع أن نقرر إن كان هذا الحكم حقيقة أم؟ من الواضح أن من المحال الالتجاء إلى أي
تحقيق حسي، أو إلى أية نظرية للتطابق. كذلك فإن المعيار البرجماتي لا قيمة له، ما لم
يكن ذهننا من النوع الذي يتأثر بالحكم العام، الذي لا تربطه بموضوعنا صلة وثيقة،
والقائل: «تصور أن الجميع قد انتحروا!» أما معيار السلطة فلا يكون مقيدًا إلا لأولئك
الذين يقبلون السلطة الخاصة التي ترد في حديثنا: فالنهي الصارم للكنيسة الكاثوليكية عن
الانتحار، مثلًا، ليس ملزمًا إلا للكاثوليكيين. وقد تكون نظرية الترابط مفيدة، ولكن ذلك
يتوقف على الأساس الكامل لمعرفتنا وتجربتنا. ففي استطاعتنا أن نشترط أن تتفق القضية
القائلة إن: «الانتحار لا مبرر له أبدًا» مع كل الحقائق والمبادئ. ولكن لما كانت لكل
شخص مجموعة مختلفة من الحقائق والمبادئ، فإن ذلك يؤدي إلى جعل حكمنا عليها بالحقيقة أو
البطلان حكمًا ذاتيًّا بحتًا. ومع ذلك فلما كان المعيار الوحيد الباقي، وهو الاتفاق
الاجتماعي، معيارًا لا قيمة له؛ إذ إننا كلنا نعرف مدى اختلاف الآراء حول الانتحار،
فربما أدى بنا ذلك إلى القول بأن نظرية الترابط هي على أية حال تلك التي يمكن الاعتماد
عليها أكثر من غيرها. ولكن ما حدث لنظريتنا المركبة الرائعة عن الحقيقة بعد هذا كله؟
من
الواضح أننا لا نستطيع أن نأمل في الحصول على موافقة مختلف نظريات الحقيقة وجميع
معاييرها، وفي استخلاص التأييد القاطع منها، إلا في ميدان التجربة الحسية. ويبدو أن
معنى لك هو أن ميدان التجربة الحسية هو وحده الذي نستطيع أن نحصل فيه على أية حقيقة
مطلقة أو حقيقة لا ترد. أما بالنسبة إلى بقية جوانب التجربة البشرية، فيبدو أننا مضطرون
إلى الاقتصار فيها على معيار الحقيقة، أو مجموعة معاييرها، التي تثبت التجربة أنها هي
الأفضل في ذلك الميدان بعينه.
بل إن هناك احتمالًا يدعو إلى المزيد من القلق، تؤدي إليه هذه المناقشة، ألسنا نجدها
توحي أيضًا بأن كل حقيقة قد تكون شخصية خالصة أي بأن كل شخص يصنع حقيقته الخاصة، ويعيش
في عالم خاص من «حقائقه» الخاصة، وهو عالم قد يتداخل مع عالم الحقيقة الخاص بشخص غيره،
ولكنه لا يمكن أن يكون في هوية تامة معه؟ وبالاختصار يمكن أن تكون هناك أية حقيقة عامة،
أو شاملة، ولا نقول أية حقيقة مطلقة؟
الكلمة الأخيرة للبرجماتي: ربما كانت للبرجماتي
الكلمة الأخيرة في هذا المجال. فنحن لا نرى شيئًا يدعو إلى الفزع في وجود أنساق فردية
للحقيقة ذلك لأن كل شخص سيصوغ في هذه الحالة، عن وعي أو بلا وعي، نسقًا للحقائق يفي على
نحو معقول بشروط الحقيقة الثلاثة، التي يضعها البرجماتي. أول هذه الشروط هو أن يكون
نسقه محكمًا إلى حد معقول، وفيه من الاتساق ما يكفي لإرضاء ما قد يكون لديه من حاسة
الاتساق المنطقي، وثانيها أن يكون مطابقًا للعالم الخارجي إلى حد يكفي لتحقيق النجاح
العملي له، وأهم هذه الشروط جميعًا أن يكون مرضيًا وقابلًا للتطبيق العملي في مجموعه.
فيجب أن يؤدي هذا النسق إلى نتائج، ويحافظ على سعادته أو يزيدها، ويرضي اهتمامه
ورغباته، ويتيح له، على وجه العموم، أن يشق طريقه في الحياة. ومن الجائز أنه لو وُجد
نسق أمثل — أعني أكثر تطابقًا، وأكثر نجاحًا عمليًّا — لأدى إلى نتائج أفضل، ولكان
بالتالي «أكثر حقيقة». ولكن، مثلما أن المفروض أن تحصل كل أمة على نوع الحكومة التي
تستحقها، فكذلك يحصل كل شخص على نسق الحقيقة الذي يستحقه: وهو نسق ينجح بالنسبة إليه،
ويرضي مطالبه من الحياة والعالم المحيط به. وإذن فالبرجماتي ينتهي إلى موقف يمكننا
تلخيصه في عبارة نستخدم فيها بيتًا مشهورًا للشاعر كيتس في غير موضعه، ونحور نصه
قليلًا، وهي:
«هذه كل الحقيقة التي تعرفها في الأرض، أو تحتاج إلى معرفتها».