الفصل التاسع
الميتافيزيقا: ما الواقع؟
نستطيع أن نقول إن الفصول السابقة قد عالجت مشكلات الوجود، والمعرفة، والاتصال معالجة
دقيقة إلى حد ما. وإذا كان القارئ قد تملَّكه أي قدر من حب الاستطلاع الأصيل بشأن هذه
المشكلة النظرية، فيكاد يكون من المحقق أن حب الاستطلاع هذا قد أشبع الآن، بل أتخم، بفضل
تلك المجموعة الكبيرة من الإجابات الممكنة التي قدمناها. أما بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة
المحترفين، فإن كل ما ذكرناه إلى الآن لا يعدو أن يكون تلميحًا إلى المسألة الفلسفية
الحقيقية؛ لذا فقد آن الأوان لخوض تلك المشكلة التي ينظر إليها عادةً عن أنها هي المشكلة
الرئيسية في الميدان النظري بأسره، وهي المشكلة التي تمكننا من أن ننظر إلى كل ما ناقشناه
حتى الآن على أنه مجرد مقدمة تمهد لها. فما هي طبيعة الواقع النهائي؟ وما العالم — أو
ما
الذي يكمن من وراء كل شيء؟ وما هو الشيء الأساسي (أو المادة، أو الفكرة أو الجوهر أو
المبدأ
الأساسي) في الكون؟
هذا السؤال يوجد ضمنًا من وراء كل الأسئلة الأقل منه أهمية، التي تساءلناها في الفصول
السابقة، كما أن كثيرًا من الإجابات التي اقترحناها للأسئلة السابقة هي في الوقت ذاته
إجابات ضمنية على هذه المشكلة الكبرى بدورها. فالعرض الذي قدمناه للنظريتين المتعارضتين
إلى
العالم، وهما المثالية والطبيعية، يشير بوضوح إلى رأيين متعارضين أيضًا عن طبيعة الواقع.
غير أننا لم نواجه المشكلة بعدُ بطريقة مباشرة. ويحق لنا أن نتوقع أن يؤدي هذا التحليل
إلى
الربط بين كل المناقشات والتحليلات التي عرضناها حتى الآن، بحيث يتمكن الطالب أخيرًا
من أن
يتأمل عالم الفلسفة في نظرة شاملة. أما أن النتيجة ستكون كلًّا متماسكًا، فهذا أمر لا
نستطيع إلا أن نرجوه. وعلى أية حال، فسوف نصبح عندئذٍ أقدر على معالجة المشكلات المتبقية
في
الميدان النظري، وهي المشكلات المتعلقة بطبيعة «الحياة
الخيرة»، ومسألة الواجب، وحرية الإرادة، والمشكلة الجمالية، ووجود الله، والخلود. وتلك
هي
المشكلات الأقرب إلى الطابع العلمي في الفلسفة، التي يستحسن أن ننتهي من تحليلنا
الميتافيزيقي قبل الانتقال إليها، ذلك لأن الإجابات التي نأتي بها لهذه المشكلات العملية
ستتوقف حتمًا، كما أوضحنا من قبل مرارًا، على حلنا
للمشكلة الميتافيزيقية.
تعقد المشكلة: تبدو المشكلة الميتافيزيقية لأول وهلة
مسألة بسيطة متعلقة «بعدد» الكيانات التي ينطوي عليها الواقع؛ أعني، هل الواقع النهائي
مفرد
أم مثنى أم جمع. والواقع أن المسألة في أساسها بسيطة على هذا النحو، غير أن هذه البساطة
الأصلية سرعان ما تتعقد كثيرًا لوجود مشكلات كيفية أخرى متضمنة بدورها في الموضوع. فمثلًا،
إذا كان الواقع مفردًا، فما طبيعة هذه المادة أو هذا المبدأ أو الكيان الواحد؟ وإذا كان
ثنائيًّا، فما طبيعتا الكيانين أو الماهيتين اللتين ينطوي عليهما، وما علاقات كلٍّ منهما
بالأخرى؟ وفضلًا عن ذلك، فهل هذان الاثنان نهائيان بحق، أم إنهما قد يكونان أشبه بتلك
النجوم المزدوجة المعروفة في الفلك، والتي تبدو دائرة حول مركز مشترك غير منظور قد يكون
أكبر وأهم من كلٍّ منهما؟ وبعبارة أخرى، ألا يمكن أن يكون هذان التوأمان الميتافيزيقيان
(اللذان يطلق عليهما عادةً اسم «الذهن والمادة» أو «الروح والجسد») مجرد وجهين متعارضين
لحقيقة واقعة واحدة تكمن من ورائهما، بحيث ينتهي الأمر بالثنائية الظاهرة لنا إلى واحدية
فعلية؟ وإذا انتهينا إلى أن الكون تعددي، فما هي تلك الكيانات التي يرتد إليها الكل الظاهر؟
وكم عددها، وما صفاتها، وما علاقاتها المتبادلة؟
لمَ كان الإجابات كثيرة؟ وهكذا يتضح لنا أن هناك عوامل
معقدة في مشكلتنا التي كانت في الأصل مشكلة كمية بسيطة — وأعني بها مشكلة معرفة ما إذا
كان
الكون وحدة أم ثنائية أم تعددًا، ولا بد أن تفيد هذه الحقيقة في جعل القارئ يتعاطف مع
الفيلسوف في محاولاته الوصول إلى جواب، ويقدر أيضًا أسباب إخفاقه حتى الآن في الوصول
إلى حل
يقبله الجميع. وإنه لمن الخير أن نواجه هذه الحقيقة، وأعني بها أنه لا يوجد حول هذه المسألة
من الإجماع أكثر مما وجدناه في حالة المشكلات الأخرى للفلسفة، بل إن الاتفاق على هذه
المسألة أقل. فهناك، إلى جانب التقابل المعتاد بين المذهبين المثالي والطبيعي، خلافات
بين
المدارس الكمية الثلاث، بحيث نجد مذهبًا تعدديًّا هو في أساسه مثالي، يتصارع مع مذهب
تعددي
ذي نزعة طبيعية، أو مثالية ذات نزعة واحدية قاطعة تعارض مثالية ثنائية في أساسها. وقد
يتساءل الناس أحيانًا «هل ينبغي أن يختلف الفلاسفة؟» ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا السؤال
قلما يوجهه أولئك الذين يعرفون الكثير عن الفلسفة ومشكلاتها. ومن المؤكد أنه لا يصدر
أبدًا
عن أي شخص ملمٍّ إلمامًا كافيًا بتعقُّد البحث الميتافيزيقي عن الواقع النهائي. أما الشخص
الذي تمرَّس طويلًا في هذا الميدان، فإن الأمر الذي يدعو إلى العجب في نظره هو أن الفلاسفة
قد وصلوا إلى هذا القدر من الاتفاق. وسوف يكون الهدف الذي نضعه نصب أعيننا، ونحن نبدأ
هذا
الفصل، هو أن نقلل عدد وجهات النظر الميتافيزيقية المتعارضة بقدر الإمكان.
(١) الآراء الأساسية للمذهب الواحدي
يدور بين مؤرخي الفلسفة أحيانًا جدال حول مسألة ما إذا كانت الواحدية أو الثنائية
هي
التي ينبغي أن تعد وجهة النظر البشرية «الطبيعية»، والنتيجة التي يسفر عنها مثل هذا
الجدل عادةً هي أن الاختيار لا بد أن يتوقف على وجهة النظر التي نقصدها، وهل هي وجهة
النظر الساذجة، غير النقدية، عند من يسمى «بالإنسان العادي»، أم هي الموقف العقلي
المعقد للفلسفة واللاهوت المنهجي. ففي نظر الذهن غير النقدي تبدو الثنائية مذهبًا يكاد
يكون غير قابل للنقد. ذلك لأن الشخص الساذج فلسفيًّا، متمدينًا كان أم بدائيًّا، يعتاد
بطبيعته النظر إلى عالم تجربته على أنه مؤلف من مجالين منفصلين: عالم مادي فيزيائي،
يوجد فوقه أو من ورائه عالم مستقل ذهني أو روحي. ويمكن أن يسمى هذا المذهب ﺑ «ثنائية
الموقف الطبيعي»، وهو منتشر إلى حد أنه يكون دون شك أكثر الآراء الميتافيزيقية شيوعًا،
وذلك طوال التاريخ وفي أيامنا هذه أيضًا. أما الفيلسوف فيبدو مهيأ منذ البداية، بنفس
المقدار، للانجذاب إلى موقف واحدي. ويبلغ هذا الميل من القوة ما يسوغ لنا القول بأن
الثنائية والتعددية معًا يمثلان أفضل اختيار ثانٍ بالنسبة إلى الفلسفة. ذلك لأن البحث
الميتافيزيقي هو عادة، في نظر من ينصرفون إليه جديًّا، بحث عن عنصر واحد نهائي من نوع
ما. وعندما تسفر النتيجة عن توأمين أو أكثر، فإن ذلك يكون راجعًا إما إلى سبب منهجي،
١ وإما لأن هناك اعترافًا ضمنيًّا بأن
الباحث قد أخفق في إرجاع الكون إلى مادة أو مبدأ كامن. ولما كان هذا الكتاب مدخلًا إلى
الفلسفة المنهجية لا إلى التفكير الشعبي، فسوف نبدأ تحليلنا ببحث الموقف
الواحدي.
العنصر المشترك بين كل المذاهب الواحدية: على الرغم
من أن الواحدية الميتافيزيقية تتخذ صورًا شتى، فإن لهذه الصور كلها رأيًا مركزيًّا
مشتركًا: وهو أن أساس العالم واحد، وأن كل وجود يرجع إلى «مادة» واحدة أو مبدأ واحد.
وعلى ذلك فإن الواحدية هي تلك النظرة إلى العالم، التي تبحث عن الوحدة في الواقع وتهتدي
إليها. وبذلك تجعل من التنوع الزاخر للتجربة البشرية مجرد جوانب متعددة لنعصر نهائي
واحد. وقد يتحقق هذا التوحيد على أساس مادة واحدة، أو على أساس روح أو ذات واحدة، أو
قانون أو مبدأ واحد، وربما على أساس نشاط واحد أو عملية واحدة. ولقد وجدت المذاهب
المتعددة التي تنتمي إلى المذهب الواحدي، مصدر الوحدة الذي تقول به في مواضع متباينة.
ونتيجة لذلك فإن المذاهب الفكرية الكاملة كانت من التباين بحيث إن «الفردانية Singleness» هي القاسم المشترك الوحيد بينها. وعندما
يبلغ التقابل بين بعض هذه المذاهب وبعضها الآخر ما يبلغه التقابل بين بعض الأشكال
المتطرفة للواحدية المثالية وللواحدية المادية، فإنه يصبح من الواضح أن المواقف
الميتافيزيقية الأخرى في داخل المذهب الثنائي أو المذهب التعددي قد يكون بعضها أحيانًا
أقرب إلى البعض الآخر من بعض المدارس الواحدية.
عبء البرهان يقع على عاتق المذهب الواحدي: ليست
الواحدية، كما أوضحنا من قبل، هي وجهة نظر «الموقف الطبيعي» أو رأي رجل الشارع في
الأمور، بل إن قدرًا كبيرًا من تجاربنا اليومية يسير في طريق مضاد تمامًا للمصادرة
الأساسية للمذهب الواحدي. ولكي نجد سببًا كافيًا للشك في آراء أي نوع من المذهب
الواحدي، فإن كل ما علينا هو أن ننظر إلى إنسان آخر — أو إلى أنفسنا في المرآة. ذلك
لأنه يبدو لنا بوضوح أننا مزيج من جسم وشيء واعٍ نسميه عادةً «بالذهن» أو «النفس» أو
«الوعي». كذلك لا يستطيع الإنسان في موقفه الطبيعي أن يتصور كيف يمكن رد أيٍّ من هذين
العنصرين إلى الآخر، فكلٌّ منهما يبدو نهائيًّا. ولو تحولنا من أنفسنا إلى العالم
الخارجي، لما كان من الضروري أن يكون المرء صوفيًّا أو شاعرًا لكي يحس وجود
«حضرة Presence» أو «روح» تكمن في الطبيعة، بل إن
الإنسان في موقفه الطبيعة ذاته كثيرًا ما يكون لديه شعور بشيء في الطبيعة غير المادة
التي تتخذ شكلًا عضويًّا. وهكذا فإن تجربتينا الداخلية والخارجية معًا تؤديان طبيعيًّا
إلى إثارة السؤال عن الطريقة التي يستطيع بها القائل بالمذهب الواحدي أن يثبت موقفه —
والأهم من ذلك، الطريقة التي يستطيع بها أن يحافظ عليه.
والواقع أن الواحدي ذاته، بغضِّ النظر عن نوع الوحدة الذي يدعو إليه، هو أول من يعترف
بأن موقفه لا يسهل الدفاع عنه. ذلك لأن الهجوم موجه إليه من كل النواحي. وكثيرًا ما
يتنافس «الموقف الطبيعي» والمذهب الثنائي، والتعددي، فيما بينهم، لكي يروا أيهم يستطيع
أن يدس أكبر القنابل تحت بنائه الواحدي المحكم. على أن للهجوم الموجَّه من الموقف
الطبيعي تأثيرًا خاصًّا، ولو شاء الفيلسوف أن يحتفظ بأي اتصال بعالم التجربة البشرية
اليومية، لكان عليه أن يصل إلى نوع من التفاهم مع الموقف الطبيعي في اعتراضاته هذه.
ولما كان يبدو بوضوح أن تجربتنا تثبت على نحوٍ قاطع وجود عالمين منفصلين، فإن عبء
البرهان (أو البينة) ينبغي أن يقع على عاتق أي شخص يزعم أن هذه الثنائية ليست إلا
مظهرًا.
الواحدية والموقف الطبيعي: لا شك في أن عبء البرهان
هذا أثقل على الواحدي منه على القائل بالمذهب الميتافيزيقي المضاد؛ أي التعددي؛ ذلك لأن
من الممكن إقناع معظم الناس بأن العالم أعقد مما كانوا يظنون، وأن مكوناته الأساسية قد
تكون مكونات لا حصر لها. ولكن الأصعب من ذلك بكثير أن نقنعهم بأن تباينه وتعقده الظاهر
ليس إلا مظهرًا فحسب، وأن كل الأشياء وكل التجارب — التي تشمل هذين العالمين المتعارضين
ذاتهما، عالم «المادة» وعالم «الذهن» ترتد أساسًا إلى وحدة نهائية واحدة. على أن من حسن
حظ الواحدي أن هذا لم يعد اليوم يقتضي من الإسراف في الخيال ما كان يقتضيه من قبل، أو
أننا أصبحنا اليوم على الأقل معتادين على مثل هذا الإسراف؛ ذلك لأن المثقفين مهيئون
ذهنيًّا في الوقت الحالي لقبول رأي العالم الفيزيائي، القائل إن المادة تخرج إلى حد
بعيد عن نطاق الموقف الطبيعي. وقد أصبح في استطاعتنا أن نقبل القضية العلمية القائلة
إن
قرص المنضدة ليس هو ذلك الشيء الصلب الساكن الذي تدركه حواسنا، كما أننا تكيفنا مع
الفكرة القائلة إنها كتلة دينامية مؤلفة من ملايين البروتونات والإلكترونات الدائرة.
وإذن فدهشتنا، على الأرجح، تكون أقل من دهشة أجدادنا عندما يعلن فيلسوف معين بكل جدية
أن التباين الظاهري للعالم ليس إلا قناعًا يخفي ما هو في أساسه واحد، أو أن كل الأشياء
في نطاق تجربتنا ليست إلا مظاهر لمادة واحدة أو روح واحدة. وليس معنى ذلك أن في استطاعة
الواحدي، باستخدام تشبيهات ضعيفة أو استدلالات متهافتة، أن يدعم موقفه الآن بسهولة أكبر
مما كان يستطيع به ذلك في الماضي، بل إن كل ما يعنيه هو أن احتمال مواجهتنا لمثل هذه
الاقتراحات بالهتاف «غير معقول» قد أصبح أقل. فنحن قد أصبحنا أكثر استعدادًا للاستماع
إلى وجهة نظر الواحدي، سواء أكنا متفقين معه أم لم نكن.
(٢) مدارس الواحدية: المادية
هناك وجهان لنظرية الوحدة الميتافيزيقية ينبغي التفرقة بينهما. هذان الوجهان ينشآن
من
كون مشكلة الواقع النهائي مسألة ذات طابع مزدوج في أساسها. فأولًا: ما طبيعة الوجود؟
وثانيًا: ما عدده؟ وعلى حين أن قليلًا من الفلاسفة هم الذين يحتفظون فعلًا بالتفرقة بين
المشكلتين الكمية والكيفية، فمن المهم أن ندرك أن المشكلتين متميزتان من الوجهة
المنطقية. ولو لم نقم بهذا التمييز لشعرنا بالحيرة والارتباك عندما نصادف مفكرًا يقول
بأن هناك نوعًا واحدًا فقط من الوجود (أي مادة أو جوهرًا أو مبدأ واحدًا)، ولكن يؤكد
بنفس القوة أن عدد الموجودات الفعلية غير محدودة.
٢
إن من الصعب أن نحدد لأول وهلة أي نوع من الأنواع المتعددة للمذهب الواحدي هو الأكثر
إقناعًا من غيره؛ ذلك لأن الاختيار محدود في نظر معظمنا، ممن نشئوا على نوع من
الثنائية. ويرى الفلاسفة أنفسهم عادةً أن المادية هي النوع الأكثر إقناعًا عندما يصادفه
المرء لأول وهلة، ولكنهم لا يقصدون من ذلك أن مجرد كونه يبدو أكثر إقناعًا هو دليل
ضروري على حقيقته. وهناك مدرسة مادية متطرفة تذهب إلى أن المادة في مختلف صورها هي التي
تؤلف الوجود كله. فلا شيء يوجد ما عدا المادة، على الرغم من كل المظاهر التي تبدو
مخالفة لذلك، ولكن النوع الأكثر شيوعًا بكثير في أيامنا هذه، هو ذلك النوع المعتدل من
المادية، الذي يرى أن المادة، وإن تكن هي الحقيقة الأساسية، فإن الذهن يمكن أن تعزى
إليه حقيقة ثانوية أو نصف حقيقة، تستمد من المادة أو تتوقف عليها. وتبعًا لهذا الرأي
المعتدل يعد الذهن تطورًا للمادة، أو تنظيمًا عضويًّا لها، أو ثمرة لها «مثلما تزدهر
النورة على الشجرة».
بعض مشكلات التعريف: نستطيع أن ندرك على الفور أن
أي توحيد كهذا بين المادة وبين الواقع لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا عرِّف اللفظ
تعريفًا مرضيًا. ولكن من سوء الحظ أن المادي ذاته كان في كثير من الأحيان غير دقيق في
استخدامه لمصطلحاته الرئيسية. فقد كان، على وجه العموم، يكتفي بأن يستخدم لفظ «المادة»
بنفس المعنى الذي يستخدمها به العالم. وهكذا نصل إلى نظرة إلى الواقع تجعله في هوية مع
العالم الفيزيائي، الممتد مكانيًّا، والذي يسير وفقًا لقوانين الحركة، بل إن المذاهب
المادية القديمة كانت في العادة تعرف «المادة» و«الحركة» بأنهما هما الحقيقتان
النهائيتان، ثم تحاول وضع مذاهب يرتد كل شيء فيها إلى هذين. أما اليوم فإن الفيلسوف
المادي يعرف الواقع عادةً بأنه مرادف لعالم الحوادث الفيزيائية الكيميائية. وعلى ذلك
فالعالم الفيزيائي له الأولوية في نظر المذهب المادي؛ وبالتالي فإن المجالات الذهنية
والروحية الأخلاقية ينبغي أن تخضع لهذا العالم الفيزيائي، وتقنع بأن تعد أنفسها أوجهًا
له.
وكثيرًا ما تثار أمام المادي مسألة كون مفهوم المادة يمر بتغير مستمر على يدي العلم،
ويكون المقصود من هذه الإشارة هو أن تشييد نظرة إلى العالم على أساس مفهوم غير مستقر
كهذا هو إجراء ميتافيزيقي مشكوك فيه. والواقع أن المادية تعترف بهذا التغير، ولكن
دعاتها لا يخشون هذه الحقيقة. فهي بوصفها فلسفة، على استعداد تام لتشييد بنائها على
العلم. وهي تفخر بصلتها الوثيقة بالعلوم، وتنظر إلى وصفها بأنها «فلسفة للعلم» وهو
الوصف الذي يوجه إليها أحيانًا بازدراء، على أنه مديح يدعو إلى الفخر. وفضلًا عن ذلك،
فإنها ترد على هذه التهمة القائلة إنها مبنية على مفهوم متغير، بالإشارة إلى أن المذهب
الذهني، والمذهب الروحي، والمذهب المثالي، وجميع المذاهب الميتافيزيقية التي تبنى على
الذهن أو الفكر بوصفه هو العنصر النهائي، تقف بدورها نفس الموقف. ذلك لأن مفهوم الذهن
بدوره يمر بتغير مستمر، بل إن «الذهن» قد مر في نصف القرن الأخير بتغير أكبر مما مرت
به
«المادة». فقد أدى نمو علم النفس الحديث إلى تغيير عميق في مفاهيمنا عن أصل الذهن
وطبيعته ووظيفته. ومن الجائز أن فرويد وحده، بنظريته في اللاشعور، قد أحدث في أفكارنا
عن طبيعة الذهن تغييرًا أعظم من كل ما أحدثه علماء الفيزياء في الأعوام الخمسين الأخيرة
من تغييرات في آرائنا عن طبيعة المادة.
المادية الكلاسيكية في مقابل المادية الحديثة: كان
المذهب الذي يمكن تسميته بالمادية الأقدم عهدًا، أو الكلاسيكية، ينظر إلى المادة على
أنها مؤلفة من جزئيات صلبة دقيقة يؤثر بعضها في بعض بطريقة آلية محضة؛ أي بالتصادم
بعضها مع بعض ككرات البلياردو. وكانت المادة تعد جامدة أو «ميتة»، وكل التغيرات أو
الحوادث تعد نتيجة لتعديل هذه الجزئيات لمواقعها. غير أن تقدم الفيزياء الحديثة قد أدى
إلى القضاء على هذه النظرية القديمة، التي تعرف عمومًا باسم المذهب الذري الآلي. فلم
تعد المادة تعد «ميتة»، أو حتى صلبة. والشيء الوحيد الذي ظل دون تغير هو تركيبها
الانفصالي، أو طابعها الذري العام. وبدلًا من الجزئيات الصلبة الجامدة، أصبحت المادة
تعد الآن «طاقة منظمة مرتبة في نماذج أو أنماط»
٣، بحيث إن العالم المادي يعد اليوم متصفًا بكثير من الخصائص الدينامية التي
كانت من قبل ترتبط بعالم الذهن أو الروح وحده. ولم تعد المادية اليوم تتحدث عن «المادة»
وكأنها حد نهائي، وإنما أصبحت تقتدي بالعلم وتتحدث عن «الطاقة». وكثيرًا ما أصبح يعترض
اليوم بأن لفظ «المادية» لم تعد له أية صلة بالمذهب الذي يفترض أنه يصفه، وقد اقترح لفظ
«مذهب الطاقة
Energism» بديلًا عنه. ومع ذلك فإن
المفكرين الذين يرون أن العالم الفيزيائي الكيموي هو النهائي، يفضلون في عمومهم
الاحتفاظ باللفظ التقليدي — ولكن على أن يكون مفهومًا أن «المادة» لا تعني تفسير الواقع
على أساس ذرات متحركة، وإنما تشير إلى إرجاع التجربة والوجود معًا إلى أية وحدات أساسية
تقول بها العلوم الفيزيائية.
٤.
وسواء أقمنا بتغيير في المصطلح أم لم نقم، فمن الضروري أن نفهم الفارق بين المذاهب
المادية القديمة والمعاصرة. ولو لم نفهم هذا الفارق لما كانت انتقاداتنا لهذا النوع
الأول الكبير من المذهب الواحدي إلا من قبيل ذلك النشاط العقلي العقيم المعروف باسم
«مهاجمة رجل من القش». والواقع أن كثيرًا من الهجمات الموجهة إلى المادية، والتي تسمع
اليوم في الأوساط المثالية، إنما تستهدف آراء لم يعد أي ممثل للمدرسة المادية يقول بها.
ومما لا شك فيه أن الهجوم على الأشكال المعاصرة للواحدية المادية هو عمل يمكن أن يشغل
المثالي بما فيه الكفاية، دون أن يضطر إلى أن ينفض الغبار عن آراء تاريخية لكي يسدد
حربة إلى أجسادها التي تسهل إصابتها بالجروح.
نظرة أوسع إلى المثالية: سوف تتكون لدينا صورة أوضح
للمادية، الماضية منها والحاضرة، إذا نظرنا إليها على أنها المذهب الذي يرى أن الواقع
في هوية مع العالم الفيزيائي، بدلًا من أن ننظر إليها على أنها مذهب مبني على المادة.
والواقع أن هناك مزايا واضحة للأخذ بهذا التفسير للمادية. فهو أولًا يوفر علينا أي جدل
فني متخصص حول طبيعة المادة. وهو ثانيًا رأي يمكن أن يظل صامدًا لكل التغيرات التي تطرأ
على الفهم العلمي «المادة». وهو ثالثًا يؤدي بنا إلى وضع التأكيد في الموضع الذي يضعه
فيه المادي ذاته؛ أعني في العالم الطبيعي في مقابل أي نوع من العالم فوق الطبيعي. فإذا
نظرنا إلى المادية على هذا الأساس، لاتضح لنا أنها هي اللب الأنطولوجي لنظرة إلى العالم
أوسع منها بكثير، هي المذهب الطبيعي. وعلى هذا النحو تتضح لنا علاقة الواحدية المادية
بميدان الفلسفة بأسره، ونعود مرة أخرى إلى مواجهة القطبين الميتافيزيقيين اللذين طالما
واجهناهما من قبل، وأعني بهما المذهبين المثالي، والطبيعي.
الآراء المادية في الذهن: من الواضح أنه، أيًّا كان
المذهب الذي نختاره من بين المذاهب الواحدية الكبرى، فلا بد لنا أن نواجه على الفور
مشكلة كبرى: هي كيفية تفسير الوجه المضاد في تجربتنا من خلال المذهب الذي اخترناه.
وهكذا فإن المادية تواجه أشق اختبار لها عندما تحاول تفسير الذهن أو الوعي من خلال
العالم الفيزيائي، على حين أن النقطة التي يرجح أن الواحدية الروحية تنهار عندها هي تلك
التي تحاول فيها استخلاص العالم الفيزيائي من الذهن أو الروح. وعلى ذلك فإن المهمة التي
تواجهنا الآن هي أن نبين كيف تفسر المادية وجود الذهن في الكون.
إن هناك طرقًا ثلاثًا لتحديد العلاقة بين الذهن والمادة في إطار المذهب المادي، ولهذه
الطرق أهمية تاريخية؛ ففي استطاعتنا أولًا أن ننظر إلى الذهن على أنه مجرد صفة
Attribute للعالم المادي، تربطه به العلاقة المعتادة التي
تربط بين الصفة وجوهرها. ونستطيع ثانيًا أن ننظر إلى الذهن على أنه نتيجة (أو معلول)
للمادة، بحيث إن اللفظ المستخدم للتعبير عن هذا الرأي، وهو «المادية العِلِّية»، يوضح
العلاقة بين عالمَي الذهن والمادية. وأخيرًا توجد «مادية توحيدية
Equative Materialism» ترى أن النشاط الذهني في
حقيقته ذو طبيعة مادية.
٥ ومن الواضح أن هذا الأخير هو أكثر المواقف الواحدية تشددًا من بين المواقف
الثلاثة الممكنة؛ لأنه يحاول تأكيد أن الذهني إنما هو ذاته المادي. أما «المادية
الصفاتية
Attributive» فتكاد تكون أغمض من أن تلقي
ضوءًا على الموضوع؛ لأن العلاقة بين الجوهر وصفاته علاقة يصعب تعريفها. وأما الموقف
الثاني أو العِلِّي، فهو الموقف الذي يفضله علم النفس الحديث على غيره. وهذا ما ينبغي
أن نتوقعه؛ لأن علم النفس، شأنه شأن أي علم آخر، يحرص أساسًا على تنظيم ظواهر داخل إطار
من القوانين العِلِّية.
الموقف المعاصر: يمكننا أن نصف العلاقة بين العامل
الفيزيائي والعامل الذهني، في ضوء موقف المادية المعاصرة، على النحو الآتي: فالذهن أو
الوعي يعتمد على حركة المادة؛ أي على العنصر المادي المؤلف من المخ والجهاز العصبي
المركزي، أو بعبارة أدق، فهو يعتمد على الحركة في داخل المادة؛ إذ إن العمليات الذهنية
تعد نوعًا من الطاقة العصبية، يرتبط بتغيرات الطاقة داخل الجهاز العصبي كله. ويحاول
البعض أحيانًا التوحيد تمامًا بين العمليات الذهنية والعصبية، كما رأينا من قبل في
الفصل المتعلق بالذهن. وهذه «المادية التوحيدية» ترى أن العملية الذهنية أو الحادث
الذهني في الوعي ليس إلا تغيرًا عصبيًّا — وهو موقف يختلف عن الموقف الأقل تطرفًا
للمادية العِلِّية التي نحن بصدد وصفها والتي ترى أن العنصر الذهني نتيجة لتغيرات
الطاقة في الجهاز العصبي أو معتمد عليها. والواقع أن وجهة النظر التوحيدية المتطرفة
سرعان ما تصادف صعوبات، وذلك في نظر معظم الفلاسفة على الأقل؛ ذلك لأنه، رغم أن من
الأمور التي لا يكاد يتطرق إليها شك أن الوعي يستقر في المخ، ويرتبط بالتغيرات العصبية
التي تحدث فيه، فإن أي توحيد بين الاثنين هو أمر يتنافى مع الفكر واللغة. فالقول إن
الوعي هو ذاته «الحركة» أو «الطاقة» هو إما استخدام لهذين اللفظين في غير معناهما
المقبولين، وإما قول لا يعني شيئًا على الإطلاق.
والاعتراض في هذه الحالة هو أن مثل هذا الرأي ينطوي على القول بأن العمليات الذهنية
ليست إلا مظهرًا خداعًا لخصائص معينة للمادة، على حين أن تجربتنا في الموقف الطبيعي
تمنع من إرجاع الوعي إلى المادة على هذا النحو، بل إن أصحاب هذا الاعتراض يرون أننا لا
نستطيع حتى أن نتصور كيف يمكن أن يكون الإحساس نتيجة لحركة من نوع ما، ميكانيكية كانت
أم عصبية. ومع ذلك فإن المادي التوحيدي يرد، كما رأينا في فصل سابق، بأن «استحالة
التصور» ليست دليلًا على الإطلاق، كما اتضح مرارًا خلال تاريخ الفلسفة. وهو يواصل رده
قائلًا إنه لما كانت الحركة تبدو هي الظاهرة الشاملة المصاحبة لكل الحوادث في الكون،
فهلا يكون من المنطقي أن نفترض أنها موجودة أيضًا في كل حادث ذهني؟
مشكلة المصطلح: من الواضح أن المناقشة في هذا الصدد
سرعان ما ترتد إلى مسألة تعريفات ومصطلح. فيبدو أن المسألة الرئيسية هي ما إذا كانت
الحركة الفيزيائية سببًا وعنصرًا مصاحبًا Accompaniment
أم هي المعادل الفعلي للعملية الذهنية. والواقع أن أغلب الماديين المحدثين يلجئون إلى
الشكل العِلِّي للمذهب، فيرون أن كل تغير ذهني ناتج عن تغير فيزيائي من نوع ما — وكما
يعبر عالم النفس عن هذه الفكرة، «فليس ثمة حادث نفسي بدون حادث عصبي». أما التحديد
الدقيق للطريقة التي يستطيع بها التغير العصبي أن يؤدي إلى إحداث تغير ذهني، فهو مشكلة
تترك لعالم الأعصاب وعالم النفس. وللعلماء في هذين الميدانين نظريات متعددة، بعضها
منطقي ومقنع، ومع ذلك فإن الطريقة التي تسبب بها الحوادث العصبية حوادث نفسية تظل، آخر
الأمر، نوعًا من اللغز الغامض، ويعترف المادي بأننا لا نعرف حتى الآن إلا القليل جدًّا
عن هذه المسألة الحاسمة، ولكن ثقته الكبيرة بالعلم من حيث هو أسلوب لحل «الألغاز»،
تجعله لا يشعر بالهزيمة من جراء حالة الجهل هذه، وإنما هو يؤمن بأن افتراض وجود أساس
مادي من نوع ما للذهن، هو افتراض أكثر منطقية (وأكثر اتساقًا بالتأكيد مع بقية معارفنا
العلمية) من الاقتداء ببعض المذاهب المثالية وافتراض وجود «ذهن» لا صلة له بالأصول
الفيزيائية، ومستقل عن التغيرات الفيزيائية.
ولعلنا نذكر مما قلناه في الفصل الذي قدمناه عن «الذهن» (الفصل السادس) من أن مثل
هذا
الاعتماد السببي للذهن على الجسم لا يؤدي بالضرورة إلى واحدية فيزيائية تامة. ففي وسع
المرء أن يقول، مع أنصار نظرية الانبثاق بأن الذهن قد ظهر نتيجة لمستوى جديد من التنظيم
العصبي، ولكنه يستطيع في الوقت ذاته أن يقول إنه، بمجرد انبثاقه، قد أصبح يكون حقيقة
مستقلة في الكون، تتميز كيفيًّا عن العالم المادي. وعلى حين أن مثل هذا الموقف ليس
مستبعدًا منطقيًّا، فإن معظم دعاة الانبثاق كانوا من الماديين السببيين، من ذلك النوع
الذي نصفه الآن؛ لأن أي اعتماد سببي يبدو أنه يحيلنا إلى ميتافيزيقا واحدية. ومن الواضح
أنه لما كان الرأي الحالي يجعل الذهن متوقفًا على الجسم والعمليات الجسمية في وجوده
ذاته، فإن الحصيلة النهائية لا بد أن تكون نظرة مادية إلى العالم. وفي مثل هذه النظرة
يكون الواقع النهائي فيزيائيًّا أو ماديًّا، ومع ذلك يكون للعالم الذهني نوع مشتق أو
غير مستقل من الحقيقة.
(٣) مدارس الواحدية: المذهب الروحي
ينبغي أن يلاحظ أن الواحدية التي وصفناها الآن هي واحدية حقيقية، وليس فردانية.
فالواحدية فيها ترجع جذورها إلى «مادة» واحدة نهائية، لا إلى موجود واحد من نوع ما.
وبينما الواحدي المادي قد يذهب إلى أن كل ما هو موجود متضمن في الكون الفيزيائي، فإنه
يؤكد تفرد «المادة» التي صنع منها الكون، لا كليتها الشاملة الجامعة. أما إذا انتقلنا
إلى المذاهب الواحدية الروحية، فهناك احتمال أقوى بكثير في أننا سنجد أنفسنا إزاء مذهب
فرداني Singularism وقد وصفنا هذا المذهب من قبل بأنه
يقول إن الأشياء كلها ليست إلا أجزاء أو فتاتًا من الكل أو المجموع الشامل، وتحدثنا عن
المثالية المطلقة بوصفها المثل الكلاسيكي لهذا المذهب. ولقد كان هناك دعاة للمذهب
الروحي التعددي (مثل ليبنتس وباركلي مثلًا)، يرون أن الأذهان الفردية أو «الأرواح»
مستقلة بعضها عن البعض بدرجات متفاوتة، ولكن المذهب الفرداني والواحدية الروحية قد
أصبحا في الفلسفة القريبة العهد شبه مترادفين.
الحجج الرئيسية للواحدية المثالية: هناك عدة حجج
تساق لتأييد الواحدية المثالية أو الروحية، غير أن من الممكن إرجاع هذه الحجج إلى حجتين
أساسيتين:
الأولى: هي حجة باركلي التي أصبحت الآن مألوفة، والتي هي أساس نظرية المعرفة المثالية
الحديثة: فكل وجود كما نعرفه متوقف على التجربة، ومن ثم فكل وجود متوقف على القائم بهذه
التجربة، الذي هو الذهن أو الروح أو الوعي. وعلى ذلك فإن الأذهان أو الأرواح وأفكارها
هي كل ما يوجد؛ وبالتالي فإن الذهن أو الروح هو الحقيقة النهائية. والحجة الثانية تشير
إلى واقعة لا يمكن إنكارها، هي أننا نحس بأنفسنا أو «ندرك» أنفسنا على أننا موجودات لا
مادية أو روحية، لا يمكن التوحيد بين وجودها وبين وجود الأجسام المادية. وقد قبل كثير
من المفكرين المثاليين هذا الشعور الحدسي دون مناقشة، وهو في نظرهم يمثل حجة قوية في
صف
الواحدية الروحية. وقد يُعترَض على ذلك بأن شعورنا بأنفسنا بوصفنا موجودات روحية، حتى
لو كان حدسًا صائبًا لا يثبت أن الكون في مجموعه ذو طبيعة نهائية روحية. غير أن لهذا
الحدث أهمية عظمى في البحوث الميتافيزيقية بالنسبة إلى المثاليين من جميع المدارس،
الذين يرون أن طبيعة الإنسان تكشف خصائص الطبيعة الكونية. «فتركيب الواقع مماثل لتركيب
أذهاننا». ولما كنا نعرف أننا موجودات روحية، فإن لنا الحق في القول إن العالم ذو طابع
روحي.
التفسير الروحي للمادة: من الواضح أنه، مثلما أن
أكثر الصعوبات التي تواجهها الواحدية المادية هي تفسير مصدر الذهن وطبيعته، فإن المذهب
المضاد لها، وهو الواحدية المثالية، ينبغي أن يواجه صراعًا عاتيًا مع المشكلة المضادة.
فلم توجد المادة — أو إذا شئنا أن نرد السؤال إلى أقرب أمثلته إلى البشر، فلنقل: لمَ
كان للذهن جسم؟ إن الموقف الطبيعي يرى أن كثيرًا من الردود التي تقدمها المثالية إنما
هي أمثلة بارزة لمغالطة وضع العربة قبل الحصان. غير أن بعض هذه الردود منطقية صائبة،
وهي تغدو مقنعة تمامًا إذا ما قبلنا المسلَّمة الأصلية لكل تفكير مثالي. ولعل أقوى هذه
الحجج اثنتان؛ الأولى: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للعمل الفعال؛ إذ إن
الأفكار لا تغدو فعالة إلا إذا تم السلوك بمقتضاها، وهذا السلوك يحتاج إلى كائن عضوي
مادي. والثانية: هي أن الذهن يحتاج إلى الجسم بوصفه أداة للاتصال. فنحن، بوصفنا كائنات
عضوية، أشبه «بعوالم من الجزر»، منعزلون عن غيرنا من الكائنات الروحية، ولا يمكننا أن
نتصل بعضنا ببعض إلا من خلال حواسنا — «فالنفس تخاطب النفس من خلال البدن» — والجهاز
الحسي فيزيائي أو مادي بالضرورة. ومن هنا كانت حاجة الذهن إلى الجسم.
على أن لدى الواحدي المادي — كما قد نتوقع — ردودًا على كلٍّ من هاتين الحجتين، أو
لديه على الأصح ردًّا واحدًا يسري عليهما معًا. فهو يرى أن الحجتين معًا تفترضان نفس
الشيء الذي نسعى إلى إثباته؛ أعني ضرورة وجود عالم فيزيائي أو مادي. «فالجسم» لا يكون
لازمًا للعمل الفعال إلا في عالم فيزيائي موجود من قبل. وبعبارة أخرى فنحن لا نحتاج إلى
الأجسام لكي نخرج الأفكار إلى حيز التنفيذ. إلا لأننا نحيا في عالم من الأشياء المادية،
وضمنه الأجسام الأخرى. ولو كان الكون بأسره روحيًّا أو ذهنيًّا، لما احتجنا إلى الأجسام
المادية لكي تكون أدوات للفعل أو وسائل للاتصال. ففي وسعنا أن نتصور قطعًا، في عالم من
الوجود اللامادي، أن تتمكن الأذهان من الاتصال بالأذهان الأخرى والتأثير فيها مباشرة،
دون أن تضطر إلى استخدام الأداة القاصرة التي تتيحها آليات الإحساس.
معركة المذاهب الواحدية: في معركة المذاهب
الواحدية، يشعر كل جانب بأن موقفه يحتاج إلى مسلَّمات أصلية أقل، ولا يترك من النهايات
غير القابلة للتفسير إلا عددًا أبسط، فكلٌّ من الطرفين يعترف بأنه يلاقي صعوبة في تفسير
وجود العالم المضاد، ولكن كلًّا منهما يشعر أيضًا بأنه يستطيع القيام بهذا التفسير على
نحو أفضل مما يقوم به خصمه. مثال ذلك أن المثالي يعترف بأن الأجسام وأجهزتها الحسية
تبدو وسائل غير كافية للاتصال، أو أدوات غير كافية للعمل. ولكنه يرى أن القول بأن
الوسائل المادية عاجزة عن تحقيق الأغراض الذهنية هو أمر أقرب إلى المعقول من القول بأن
المصدر الذهنية كافية لتفسير وجود الذهن. وبعبارة أخرى، فإذا سلمنا بأن لكل موقف نقاط
ضعفه، فإن المثالي يرى أن الأجزاء الواهنة عنده أقل ضعفًا من تلك الموجودة في المذهب
المادي. وينظر المادي من جانبه إلى مسألة بطريقة مماثلة؛ فهو يسلم بأن من الصعب تفسير
الذهن على أساس الفرض المادي، غير أنه يذهب إلى أن هذه الصعوبة ليست إلا لهو أطفال إذا
ما قورنت بالمشكلات التي تواجهها المثالية عندما تبدأ مقدماتها الذهنية. وينتهي المادي
من ذلك إلى القول بأن من أكبر المشكلات التي تواجه المثالي كيفية إرضاء الموقف الطبيعي.
ذلك لأن الاعتقاد بأن الذهن قد تطور أو انبثق من المادة، هو قطعًا أقرب إلى المعقول من
الاعتقاد بأن «الذهن» الشامل كان عليه أن يولد العالم المادي لكي يجعل منه مسرحًا يمارس
عليه فاعليته. ولا يبدو هذا الرأي الأخير، في نظر صاحب المذهب المادي، أقل إقناعًا من
نظرية «فشته» القائلة إن «الذهن» (أو الأنا، في مصطلحه الخاص) يخلق لذاته عالمًا
خارجيًّا ماديًّا لأن الإنسان في أساسه موجود أخلاقي يحتاج إلى عالم مادي صلب يقاومه
—
فالأنا في نظر «فشته» يعتمد أن يضع أمام ذاته حدًّا من أجل أن يتغلب على هذا الحد،
والإرادة تخلق المادة بوصفها عقبة لذاتها، حتى تمارس طبيعتها الأخلاقية في ذلك السعي
المستمر. والواقع أن الواحدي المادي يرى أن موقف فشته هذا، رغم ما يتصف به من امتناع،
إنما هو النتيجة المنطقية لذلك الانقلاب الذي يعكس به المثالي وضع العربة والحصان
الميتافيزيقيين. فهو يحذرنا قائلًا: إذا بدأت بالمقدمة المثالية الروحية، فسوف ينتهي
بك
الأمر، بطريقة منطقية خالصة، إلى حماقة فشته.
(٤) الواحدية المحايدة
لا بد أننا قد أدركنا الآن أن كلًّا من هذين المذهبين الواحديين يمثل تبسيطًا مفرطًا
للمسألة الأساسية. فكلاهما يبدو وقد وقع أحيانًا في مغالطة الرد Reductive Fallacy، وكلاهما يبدو مصابًا بعمًى
جزئي فطري بالنسبة إلى إدراكه لأهمية جوانب معينة في التجربة البشرية. ومع ذلك فإن
الجدل الذي احتدم بين المدرستين قرونًا طويلة قد أفاد الفلسفة في نواح متعددة. فقد كشف
هذا الجدل عن الطابع الأساسي للمسألة موضوع البحث، وبيَّن عقم الحلول المبسطة لمشكلة
الواقع، كما أنه أرغم كلًّا من الجانبين على أن يزداد تعمقًا، فكشف بذلك عن متضمنات
كثيرة جديدة للتجربة أصبحت جزءًا من تراثنا العقلي الدائم. وأخيرًا فإن هذا الجدل حين
كشف عن عدم كفاية الموقفين المتطرفين (أعني حين كشف ذلك للجميع فيما عدا أولئك الذين
يقولون بوجهة النظر نفسها) قد دفع المفكرين إلى البحث عن حلول أشمل وأكثرًا إقناعًا.
وهكذا فإن ذلك الخلاف، الذي كان في بعض الأحيان مريرًا، كان نافعًا بقدر ما كان
محتومًا. فقد تعلمنا منه الكثير، حتى وإن يكن عدد أولئك الذين وجدوا فيه إجابات مُرضية
تمامًا قليلًا بحق.
ولقد اقترح اسبينوزا، في أوائل عهد الفلسفة الحديثة، حلًّا يعد واحدًا من الحلول
الشاملة لهذه المشكلة الميتافيزيقية. هذا الحل هو النظير الأنطولوجي لنظرية «الوجهين»
التي قال بها اسبينوزا بشأن العلاقة بين الذهن والجسم، وهي النظرية التي عرضناها في
الفصل السادس. ويعرف موقف اسبينوزا أحيانًا «بالواحدية المحايدة Neutral Monism»، كما يشار إلى مذهبه بالقول إن الواقع النهائي
ليس ذهنيًّا ولا ماديًّا، وإنما هو جوهر محايد، يكون الذهن والمادة مجرد صفات له. هذا
الرأي، كم قلنا من قبل، ينظر إلى ذهن الإنسان وجسمه على أنهما مجرد وجهين لنفس الجوهر
الواحد الكامن من ورائهما. وهكذا فإن تسميتنا للحادث «ماديًّا» أو «ذهنيًّا» تتوقف على
الطريقة التي ننظر بها إليه. فإذا ما نظرنا إليه من خلال وجه معين (أي علاقات معينة)
لبدا لنا حادثًا ذهنيًّا، وإذا نظرنا إليه من خلال الوجه المادي، لبدا لنا بالطبع
حادثًا جسميًّا، ولكن الواقع أنه هو نفس الحادث، لا يمثل إلا تعديلًا لنفس الجوهر
الواحد.
مذهب اسبينوزا: على الرغم من أن الواحدية المحايدة
لا ينبغي أن تعد هي ومذهب اسبينوزا شيئًا واحدًا، فإن تفكير اسبينوزا هو الممثل
الكلاسيكي لوجهة النظر هذه؛ لذلك فإن خير ما يمكننا عمله هو أن ندرس بعض تفاصيل هذا
المذهب. فاسبينوزا يرى أولًا أن هذا الجوهر الشامل هو الموجود الحقيقي الوحيد، وليست
كل
الأشياء الأخرى، المادية منها والذهنية على السواء، إلا صفات أو أحوالًا له. وهو يعرف
هذا الجوهر صراحة بأنه «ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته»، وفضلًا عن ذلك فالجوهر هو ذاته
الله. فكل ما يوجد هو الله أيضًا، ولما كان الجوهر أو الله واحدًا أزليًّا لا متناهيًا،
فإن الواقع بدوره واحد أزلي لا متناهٍ. ويمتد هذا التوحيد بين الله والجوهر والواقع،
في
مذهب اسبينوزا، بحيث يشمل الطبيعة. ويقتصر اسبينوزا عادة، في مصطلحه الخاص، على استخدام
اللفظين الأخيرين من هذه السلسلة الشاملة، ويتحدث في العادة عن «الله أو الطبيعة
Deus Sive Natura».
وسوف تتاح لنا في فصولنا الأخيرة فرصة الكلام بمزيد من التوسع عن هذا التوحيد بين
الله والطبيعة، الذي يعرف في المصطلح الفلسفي باسم «مذهب شمول الألوهية
Pantheism»: على أن التفاوت في ردود الفعل على مذهب
اسبينوزا، سواء في حياته وفيما بعد، يوضح مدى صعوبة تقدير هذا المذهب بطريقة مرضية. فقد
لقي أثناء حياته اضطهادًا من الكاثوليك والبروتستانت واليهود معًا (وكان هو ذاته
يهوديًّا)، وكان يطلق عليه اسم ذلك «الملحد اللعين»، وبعد قرن من الزمان وصف بأنه «رجلٌ
منتشٍ بالله»، ومنذ ذلك الحين رُفع إلى مرتبة هي أقرب المراتب التي عرفتها الفلسفة
الحديثة إلى القديسين. وحقيقة الأمر هي، على ما يبدو، أن إرجاع الذهن والمادة إلى جوهر
واحد مشترك لا يستتبع بالضرورة أية نظرية بعينها في وجود الله، ومع ذلك فإننا لو بدأنا
بمصادرة الواحدية المحايدة، فإن أية ألوهية تبدو في مذهبنا ينبغي بالضرورة أن تكون ذات
طابع شمولي أو حلولي.
تقدير نهائي: إن حكمنا العام على الموقف الحيادي لا
بد أن يكون إلى حدٍّ بعيد تكرارًا لحكمنا على نظرية «الوجهين» في طبيعة الذهن. ولا بد
لنا أن نؤكد مرة أخرى أن الإنسان في موقفه الطبيعي لا يجد في طريقة وصف الواقع على هذا
النحو معنى كبيرًا. كما ينبغي أن نشير إلى أن أي رأي كهذا إنما يوجد في فراغ، من حيث
قابليته للتحقيق؛ إذ لا توجد أية وسيلة يمكن تصورها، نستطيع بها أن نثبته أو نفنده.
وحتى لو تسنى لعالم النفس في يوم ما إن يحقق نظرية «الوجهين» في علاقة الذهن بالجسم،
فإن هذا لا يثبت أن من الممكن التوسع في النظرية بحيث تصبح نظرة شاملة إلى العالم.
وهكذا فإن مذهبًا كمذهب اسبينوزا لا بد أن يظل، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية،
عقيمًا من الناحية العلمية، مهما تكن أهميته الأخلاقية.
ولكن لا بد لنا، لكي نكون منصفين لهذا النوع من الواحدية، أن نعترف بأن جميع المذاهب
الميتافيزيقية توجد بدورها، في نهاية الأمر، في فراغ كهذا من حيث قابليتها للتحقيق.
فكلها تمثل تركيبات منطقية، لا بناءات فكرية مستمدة من التجربة. والواقع أن المذاهب
الميتافيزيقية ليست امتدادًا منطقيًّا هائلًا لتجربة الإنسان فحسب، بل إنها تعترف صراحة
بتجاوزها للتجربة؛ أي بأنها بعيدة عن منال التجربة. وهذا الطابع البعيد عن التجربة
للمذهب الميتافيزيقي يظهر بوجه خاص في حالة الواحدية المحايدة؛ إذ إننا لا نستطيع حتى
أن نتصور ما يمكن أن يكون طابع ذلك الجوهر الثالث الذي لا يكون الذهن والمادة إلا وجهين
له. فهو لا يتجاوز تجربتنا وحدها، بل يتجاوز خيالنا أيضًا. وحتى لو أمكننا أن نتصور هذا
الكيان المحايد — وهو أمر مشكوك فيه — فإننا لا نستطيع قطعًا أن نتخيل أو نتصور على أي
نحو يمكن أن تكون طبيعته. ولن يعيننا في فهمنا على الإطلاق أن نطلق اسم «الله»، ما دامت
الأفكار الغامضة الموجودة في أذهان معظمنا عن الله، لا تتفق هي ذاتها مع هذه الألوهية
الاسبينوزية.
وبالاختصار، فعلى حين أن الواحدية المحايدة تتجنب المواقف المتطرفة، والتبسيطات
المفرطة الممكنة لدى كلٍّ من منافسيها الواحديين، فإنها تبدو أقل منهما ذاتهما تقديرًا
لثراء التجربة البشرية وتعقدها. صحيح أن هذا المذهب يدمج هذه التجربة في كل موحد، على
حين أن المذهبين الواحديين الآخرين يشطرانها فيما بينهما إلى حد يؤدي إلى اليأس من
استعادة وحدتها. ومع ذلك فإن كلًّا من الحلين المتطرفين اللذين يأتي بهما كل مذهب، يبدو
أقرب إلى الصواب بوصفه تفسيرًا للواقع أو لتجربتنا في الكون المحيط بنا.
ولكن لنتأمل الآن ما تستطيع المواقف الميتافيزيقية الممكنة الأخرى أن تقدمه
إلينا.