هل يقدر أصحاب الفضيلة على إنجاز التجديد؟!
أوكلت الدولة المصرية إلى شيوخ مؤسستها الدينية العتيدة مهمة إحداث ثورةٍ في الفكر الديني لكي تتمكن من تجاوز المأزق الذي تواجهه، والذي بدا أن سؤال الدين يحتل موقعًا مركزيًّا فيه. وآنئذٍ فإن أصحاب الفضيلة، من القائمين على رأس المؤسسة العريقة في إنتاج القداسة، قد بادروا إلى إعلان احتشادهم من أجل إنجاح هذه الثورة المأمولة. لكن ما تواتر عن هؤلاء الفضلاء بخصوص كيفية إحداث هذه الثورة يكشف عن أن إنجاحها يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد إعلان «النية» على التجاوب معها؛ حيث الأمر يقتضي وجوب امتلاك «القدرة» التي تؤهل لإنجازها.
ولأن الأمر يتعلق بثورةٍ في الفكر، وبما يعنيه ذلك من أنها ثورة ذات طبيعةٍ معرفيةٍ بالأساس، فإن «القدرة» المطلوبة هنا تتحدد بامتلاك الشروط المعرفية التي تجعل تحقيق مثل هذه الثورة ممكنًا حقًّا. وتتمثل هذه الشروط المعرفية في جملة الأدوات والمناهج والمفاهيم التي أثرى بها العقل المعاصر ميادين النظر في الإنسانيات وغيرها. وضمن هذا السياق، فإن الأمر لا يتعلق بالسعي إلى الثرثرة بتلك النتاجات المعرفية المعاصرة بقصد التجمُّل وبيان الانتساب إلى عصر الحداثة، بقدر ما يتعلق بأدواتٍ ومفاهيم تفرض نفسها على الناس، فلا يقدرون إلا على استخدامها، وبما يعنيه ذلك من وجوب فهمها واستيعابها، وإلَّا فإن الأمر لن يتجاوز حدود الثرثرة بها. فالناس لا يستخدمون الأدوات والمفاهيم الحديثة لكي يتجمَّلوا بها، بل لأنه يستحيل عليهم من دون استيعابها أن يتمكنوا من الإمساك بالأصول الغائرة للمشكلات التي يواجههم بها عالمهم.
ولعل مثالًا على أحد المفاهيم الحديثة التي لا يتوقف الناس عن التعامل بها في الوقت الراهن، مع ما يبدو من عدم قدرتهم جميعًا على تعيين حدوده والإمساك بحمولته المعرفية العميقة، يتمثَّل في مفهوم الخطاب. فقد شاع استخدام هذا المفهوم حتى بين الجمهور، وإلى حدِّ أنه لو جاز للمرء أن يُحدد مفهومًا هو الأكثر استعمالًا في التداول اليومي بين الناس في الوقت الراهن لكان هو مفهوم «الخطاب». وقد ارتبط الشيوع العمومي لهذا المفهوم بما جرى من الاقتران بينه وبين الدين، فيما بات يُعرَف بالخطاب الديني الذي يتعاظم الحديث عن ضرورة تجديده بعد تزايد الانفجارات المُنبعثة من المخزون الديني الراكد كأحد تداعيات ثورات العرب الأخيرة. ورغم هذا الشيوع، فإنه يبدو — ولسوء الحظ — أن وعيًا بالمفهوم يكاد أن يكون هو الأكثر فقرًا على الإطلاق، وحتى بين المستعملين له من شيوخ المؤسسة الدينية الموكول إليهم مهمة القيام بتجديده.
فقد بدا أنَّ التداول الكثيف للمفهوم على ألسنة أصحاب الفضيلة غير قادرٍ على إخفاء الغياب الكامل لحمولاته المعرفية التي لم يكن للمفهوم أن يحضر، مع غيابها، إلا كمجرد حِليةٍ لامعةٍ يزركشون بها بلاغتهم العتيقة. وهنا يلزم التنويه بأن الحمولات المعرفية لمفهوم الخطاب بالذات إنما تفرض على شيوخ المؤسسة ما لا يقدرون على قبوله والاشتغال بحسَبه. ومن هذا أنهم، وحتى على فرض امتلاكهم للوعي بحدوده وحمولاته، قد اختاروا أن يكتفوا بترديد المفهوم دون أن يتورَّطوا في تشغيله. إذ الحق أن تشغيل هذا المفهوم سوف يئول إلى تقويض جدران هياكل التقليد التي تستمدُّ المؤسسة مبرر وجودها من القيام على حراستها.
وإذ ينبني هيكل التقليد، الذي تحرسه كل مؤسسات الدين، على أعمدة العقيدة والفقه، فإن ذلك يئول إلى وجوب التمييز داخل «الخطاب الديني» بين سياقين يتشكَّل فيهما؛ أحدهما هو التشكُّل الفقهي، وأما الآخر فهو العقيدي. وانطلاقًا من أن الخطاب يتضمن داخله وحداتٍ خِطابيةً أصغر، فإنه يجوز الحديث عن خطابٍ فقهيٍّ وآخر عقيدي يندرجان معًا تحت مظلة «الخطاب الديني» الذي بادر شيوخ الأزهر إلى الإعلان عن تصدِّيهم لمهمة تجديده الآن. والحق أن اشتغالًا بمفهوم الخطاب على كلٍّ من الفقه والعقيدة سوف يئول إلى تبلور الشروط التي ستؤدي في النهاية إلى خلخلة الشكل المستقر لوجود المؤسسة الدينية في مصر. وإذ لا معنى لذلك إلا أن المؤسسة سوف تزلزل وجودها ذاته إذا اشتغلت بمفهوم الخطاب على ما تقوم بحراسته، فإن في ذلك تفسيرًا لحقيقة أن أصحاب الفضيلة من الشيوخ الأجلَّاء لن يتجاوزوا حدود الثرثرة بمفهوم الخطاب، من دون أن يكونوا قادرين على تشغيله. ولعل ذلك ما ينكشف جليًّا مع الاشتغال بمفهوم الخطاب على الفقه بالذات.
فإذ ينصرف معنى الخطاب إلى الفكرة الكلية التي ينبني حولها مجال معرفيٌّ تندرج داخله جملة أقوالٍ جزئيةٍ متباينةٍ، من دون أن يؤثر ما يقوم بينها من التباين على استغراقها جميعًا داخل المجال المعرفي الذي تحكمه تلك الفكرة الكليَّة، فإن ذلك يئول إلى أن تجديد الخطاب يكون بتجديد تلك الفكرة الكليَّة، وليس بإبراز قولٍ وإخفاء آخر من الأقوال الجزئية التي تندرج تحتها. وهكذا فإنه إذا كان الخطاب الفقهي يتسع لأقوالٍ جزئيةٍ تتعدد وتتباين بحسب تعدد الفقهاء وتباينهم، فإن تجديدًا له لا بد أن ينصرف إلى الفكرة الكليَّة التي تندرج تحتها كل أقوال الفقهاء وأحكامهم. ولسوء الحظ، فإن تصوُّر شيوخ المؤسسة لتجديد الفقه لا يتجاوز حدود إحلال قولٍ فقهيٍّ محل آخر من دون أن يتطرقوا أبدًا إلى الفكرة الكليَّة الحاكمة لتلك الأقوال، والتي لن يكون ممكنًا تجديدها أو التأثير فيها من خلال الإحلال لقولٍ جزئيٍّ محل آخر.
وإذ يئول ذلك إلى أن تجديد الفقه هو في حقيقته تجديدٌ للفكرة الكليَّة التي ينبني عليها خطابه، فإنه يلزم التنويه بأن هذه الفكرة تتمثَّل فيما يبدو من أن «التمييز» بين الرعايا في الحقوق بحسب النوع (ذكر وأنثى)، والدين (مسلم وغير مسلم)، والمكانة الاجتماعية (أحرار وأرقَّاء)، يكاد أن يكون هو المبدأ الذي ينتظم كل تفكيرٍ في الفقه. وهكذا فإن المراكز القانونية للمشمولين بأحكام هذا الفقه ليست متساويةً، بل تتباين باختلاف أوضاعهم في النوع والدين والمكانة. وإذ تنسرب هذه الفكرة في كل أبواب الفقه وأحكامه، فإنه لا مجال لتجديد الفقه من دون تجديدها قبل أي شيءٍ. ولعل القيمة القصوى لتجديد تلك الفكرة لا تتأتى فحسب من ضرورته لبناء دولةٍ حديثةٍ تتساوى فيها المراكز القانونية للأفراد من دون تمييزٍ بينهم، بل ومن ضرورته لتحقيق ما يؤكد عليه القرآن من التسوية بين البشر. فهل يقدر على ذلك أصحاب الفضيلة أم أن الأمر يتجاوز طاقتهم النفسية والمعرفية؟!