عن النخبة الصاخبة وعقلها اللاهوتي البائس!
لا تزال النخبة المصرية، وخصوصًا الأجنحة الأكثر صخبًا منها على ساحات الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي، تُمارس «التفكير بالاختزال» على طريقة أسلافها؛ وبكيفية لا تَعرف معها تفسير أي شيء إلا بالارتداد به إلى «سببٍ» واحد لا نظير له. وهكذا فإن أطيافًا واسعةً من هذه النخبة تتسع لساسةٍ وفنانين ولاعبي كرة يتوافقون جميعًا على أن الحدث — أي حدث — هو نتاج الفاعلية المطلقة لفاعلٍ أصليٍّ واحدٍ؛ بحيث لا تحضر أي عناصر أخرى إلا باعتبارها محض وسائط وأدوات يشتغل من خلالها هذا الفاعل الأصلي الرئيس. وبحسَب ذلك، فإن الحدث لا يكون نتاج سيرورةٍ معقدة يتعدد فيها الفاعلون، بل يكون مجرد انعكاسٍ لإرادة فاعلٍ واحدٍ هي ما يلزم التعويل عليه في تفسير الحدث وفهمه، أو حتى محاولة التأثير عليه وتغيير وجهته.
وغنيٌّ عن البيان أن هذا الضرب من التفكير الذي ينزع إلى تفسير الظواهر — طبيعية واجتماعية وسياسية — بردِّها إلى سببٍ واحدٍ، هو نتاج العقل الميتافيزيقي اللاهوتي الذي لا يعرف تفسيرًا لشيءٍ إلا بردِّه إلى الله. وإذ لا ينشغل هذا العقل اللاهوتي إلا بربط الظواهر بفاعلها الأول، وبالكيفية التي يكون معها قصد هذا العقل هو إدراك الوجه الذي تدلُّ به هذه الظواهر على وجود فاعلها الأول، فإن ذلك يؤدي إلى نتيجةٍ مباشرةٍ تتمثل في إغلاق الباب أمام أي إمكانية لإنتاج معرفةٍ علمية بالظواهر جميعًا (طبيعية وسياسية وغيرها). وينشأ ذلك عن حقيقة أن رد الظواهر جميعًا إلى سببٍ أول، هو الفاعل حقًّا، يؤدي إلى اعتبار كل الأسباب الثواني هي مجرد وسائط يُمكن تعطيلها والقفز فوقها؛ وبما يتجلى في مبدأ إنكار السببية الأشعري. إن ذلك يعني أن العقل اللاهوتي لا يتصور أن ثمة أسبابًا أو قوانين موضوعية، مستقلة عن إرادة الفاعل الأول، تكون هي الحاكمة لحركة هذه الظواهر، بل تبقى جميعًا مشروطةً بإرادة فاعلها الأول (الذي هو «الله» في العالم الطبيعي، و«الحاكم» في العالم السياسي). ومن دون شكٍّ فإنه يستحيل قيام معرفة علمية من دون وجود هذه الأسباب والقوانين الموضوعية.
وإذ يئول ذلك إلى ربط الوضع الذي عليه الظواهر (سواء كانت طبيعية أو سياسية) بإرادة فاعلها الأوحد، وليس بشروطٍ موضوعيةٍ تتحكم فيها، فإنه لا معنى لذلك إلا أن العقل اللاهوتي لا بد أن ينتهي إلى إحلال «إرادة الفاعل» محل «القوانين الموضوعية»، باعتبار أن هذه الإرادة هي المحدِّدة لحركة الظواهر. وبالطبع فإنه يترتب على ذلك أنه لا إمكان لإحداث أي تغييرٍ في هذه الظواهر إلا بالتأثير في «إرادة الفاعل»، ما دام أنه لا وجود لقوانين موضوعية يكون فهمها هو المقدمة اللازمة للتأثير في الظواهر المحكومة بها. ومن هنا فإن العقل اللاهوتي لا يعرف إلا محض «الدعاء والطلب» من الفاعل الأوحد لعله ينجح بهذا الدعاء والاستجداء في التأثير في إرادته على نحوٍ يكفل تغيير الواقع نحو الأفضل. وعلى العكس، فإن العقل العلمي يُعوِّل على الوعي بالقوانين الموضوعية الحاكمة لحركة الظواهر باعتبار أن ذلك وحده هو السبيل الممكن للتأثير فيها وتغييرها.
وللغرابة، فإن القناع الحديث الذي تُزركش به النخبة المصرية تفكيرها لا يقدر على إخفاء الطابع الميتافيزيقي اللاهوتي لعقلها. ولعل ذلك يتجلَّى صريحًا فيما يقوم عليه خطابها السياسي بالذات من الارتداد بالحدث السياسي إلى إرادة فاعلٍ أوحد يتمثل في الحاكم القائم على رأس النظام. وبالطبع فإنه ما دام كل ما يحصل في الواقع السياسي يرتدُّ إلى إرادة الحاكم الذي هو وحده الفاعل حقًّا، فإنه يجري النظر إلى كل ما يمكن اعتباره من قبيل الشروط الموضوعية المحدِّدة للحدث السياسي على أنها وسائط يمكن تعطيلها والقفز فوقها؛ فيما يبدو وكأنه التجلِّي الحديث لمبدأ إنكار السببية الأشعري.
ويترتب على ذلك أن كل ما يحصل في المجال السياسي، مما لا تقبله هذه النخبة الصاخبة، هو مما لا بد من ربطه مباشرة بإرادة الفاعل الأوحد؛ الذي هو الحاكم. وبالمثل، فإن ما تبتغيه من التغيير المأمول يكون مربوطًا، بدوره، بالتأثير في إرادة الحاكم الفاعل؛ سواء باستجدائها أو قلبها. ومن هنا فإن هذه النخبة لا تعرف إلا مجرد التصويب على رأس النظام السياسي (بصرف النظر عن شخصه) باعتبار أن ذلك هو السبيل لإحداث ما تبتغي من التغيير، وتنسى أن الواقع السياسي يكون نتاج سيرورةٍ معقدة من الفاعليات التي يتعدد فيها الفاعلون، وتتضافر فيها عوامل موضوعية شتَّى ذات طبيعةٍ تأسيسية. وإذ تمارس النخبة هكذا، فإنها لا تفعل إلا ما درجت عليه من اختيار الأيسر؛ والذي يتمثل في الوقوف عند مجرد «الإجرائي» الظاهر، مع الإهمال الكامل للعوامل الموضوعية التأسيسية العميقة. وحتى ضمن سياق الانشغال بالإجرائي، فإن الأمر لم يتجاوزْ مجرد سعي هذه النخبة إلى إبراء ذمتها، مكتفيةً بمجرد الهتاف بالشعارات النبيلة، ثم الجلوس بعدئذٍ في مقاعد الشامتين أو الشاتمين. ولأنه يستحيل، من دون تفكيك هذه العوامل الموضوعية التي تضرب بجذور غائرةٍ في الأبنية التاريخية والذهنية، إحداث أي تغيير حقيقيٍّ في الواقع القائم، فإن انشغال النخبة عن إنجاز مثل هذا التفكيك سيؤدي بها إلى الاستمرار في السير على نفس النهج الزاعق — ولكن غير المنتِج — في مواجهة التردِّي القائم.
وليس من شكٍّ في أن ذلك هو ما أورثها العجز الهيكلي الذي تُعاني منه، والذي جعلها غير قادرةٍ على الوفاء بمتطلبات التحول الديمقراطي الذي ترنو إليه مصر. بل إن هذا العجز قد جعل تلك الشرائح الصاخبة تلجأ — وللغرابة — إلى استدعاء أحد أهم عوائق التحول الديمقراطي — وهو الإسلام السياسي — للتعويل عليه في إنجاز هذا التحول. ومن هنا فإنه ليس غريبًا أن شرائح من هذه النخبة الصاخبة لا تُمانع الآن في العمل كوكيلٍ للإسلام السياسي، وفي أكثر أشكاله عنفًا ودمويةً، من أجل ما تقول إنه بناء الديمقراطية. وإذ يبدو أنهم يَحذُون، هكذا، حَذْو قطاعات النخبة المدنية السورية التي تحالفت مع الإسلام السياسي (الذي لبس القناع الإخواني الرقيق أولًا ثم تكشَّفت حقيقته الداعشية العنيفة لاحقًا) فألقت بسوريا إلى الهاوية، فإن ذلك يعني أن عمل هذه القطاعات الصاخبة من النخبة العربية هو أن تهدم الدولة، لا أن تبنيها.