عن داعش وفقه الدم وإسكات القرآن
تكاد ممارسات جماعات الإسلام السياسي، التي تُعربد الآن في العالم العربي، أن تنطق بأن جوهر مسعاها هو بناء صورة الإسلام على أنه دين الدم والرءوس المقطوعة التي يتلاعب بها الأطفال. فإنه لا يتواتر عن هذه الجماعات، التي تكاد جميعًا أن تعقد لواء البيعة للخليفة الداعشي القابع في أرض العراق، إلا أخبار الذبح والرجم والتفجير والغصب. وهم يمارسون ذلك كله باسم إسلام لا يحتجُّون عليه — في الأغلب — بشيءٍ من القرآن، بقدر ما يرجعون بكل دلائلهم وشواهدهم على ممارساتهم الدامية إلى ما يقولون إنها «السُّنَّة»؛ على النحو الذي لا بد أن ينفتح معه الباب أمام التساؤل عن أصل الأصول الذي يقيمون عليه «فقه الدم» الذي يعتمدونه. إذ يلحظ المرء الضمور شبه الكامل لدور القرآن في بناء الفقه الذي تعتمده كافة جماعات الإسلام السياسي، لحساب ما يظهر من اعتمادها الكامل تقريبًا على ما تقول إنه «السنَّة» المنسوبة للنبي الكريم. بل إنه يبدو، وللغرابة، أن الأمر يبلغ إلى حدِّ إسكات صوت القرآن تمامًا، وإسقاط حكمه، ليصبح ما يجري نسبته إلى السنَّة هو الناطق بالحكم؛ حتى ولو كان هذا الحكم مُغايرًا لحكم القرآن.
إذ يبدو، لسوء الحظ، أن الكثير مما يجري نسبته إلى السُّنَّة هو نتاج خبرةٍ تاريخية اتجه القصد إلى تثبيتها من خلال ردِّها إلى مصدر السيادة العُليا في الإسلام؛ الذي هو النبي الكريم. وضمن هذا السياق فإنه قد نشأ وضعٌ غريبٌ يتمثل في أن الحكم لم يعد نتاجًا لحديثٍ قائمٍ نطق به النبي بالفعل، بل بات الحكم المرغوب فيه يُوجَد أولًا ثم يجري اصطناع الحديث الذي يؤسس له، وجعلُ النبي ينطق به. ومن هذا ما أورده «ابن الجوزي» عن البعض من القول: «انظروا هذا الحديث ممن تأخذونه، فإنَّا كنا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا …» (بل يبلغ الأمر حدَّ تجاوز الرأي إلى الهوى عند آخرين؛ وبحيث قال آخرون: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم، فإنَّا كنا إذا هوينا أمرًا صيَّرناه حديثًا …) وكذا قال بعضهم: «كنَّا إذا اجتمعنا واستحسنا شيئًا جعلناه حديثًا.» وقد ترتب على ذلك أن المرء «لا يكاد يجد فرعًا فقهيًّا مُخْتَلَفًا فيه إلَّا وحديثٌ يُؤيد هذا، وحديثٌ يؤيد ذاك.» وبما يئول إلى تعرية المأزق الذي ينتهي إليه التفكير في الفقه بمجرد الحديث، حيث تتعارض الأحكام تبعًا لتعارض الأقوال التي يرجع تعارضها إلى صدورها — بحسب ما يظهر — عن الميل أو الهوى.
ومن هذا ما مضى إليه البعض من أنه «في إطار القصد إلى إكساب الأحكام شرعية اجتماعيةً ودينية أسند أصحاب المدارس التشريعية القديمة آراءهم إلى التابعين الذين كانت لهم مكانةٌ دينية مرموقة مثل: إبراهيمَ النخَعي وسعيد بن المُسَيَّب وغيرهما، ثم انتقلوا إلى نسبة آرائهم إلى الصحابة، ثم تدرَّجوا إلى نسبتها إلى النبي، وبذلك اتَّخذتْ آراؤهم طابعًا إلزاميًّا. وهذا الوضع هو الذي أنتج ما سيجري تسميته بحركة المحدِّثين في القرن الثاني للهجرة، والذين أكَّدوا على أن أي حكمٍ يجب أن يكون مستندًا إلى السُّنة النبوية، فلا يجب الاقتصار على الرأي أو العادة والعرف.» وبالطبع فإن ذلك يعني أنه يلزم الحذر فيما يتعلق بصحة نسبة الكثير مما تجري نسبته إلى النبي الكريم فعلًا. وحتى على فرض أن النبي الكريم قد قام ببعض ما تجري نسبته إليه من ممارساتٍ يردها فقهاء الدم إليه، فإنه يبقى التساؤل قائمًا عمَّا إذا كان يمكن التعاطي معها بما هي جزءٌ من تجرِبةٍ تاريخيةٍ قابلة للفهم ضمن ظروفها، أم أنه يلزم قبولها بما هي من أصول الدين واجبة الاتباع؟
وإذ يُحيل كل ذلك إلى أن فقه الدم الذي تعمل بحسَبه جماعات العنف الإسلاموي الراهنة هو نتاج خياراتٍ وانحيازاتٍ بشرية تاريخية راح يجري التعالي بها إلى مقام الأصل الديني عبر إلحاقها بالسنَّة النبوية؛ فإن ذلك يعني أن انحيازات البشر هي الأصل المتخفي في إسكات صوت القرآن وتضعيفه. ولعله يبدو واضحًا أن آلية إسكات القرآن قد انطلقت من إخفاء تلك الانحيازات البشرية في ثنايا السنَّة التي كانت قد خضعت — مع نهاية القرن الثاني الهجري — لتحولٍ جرى معه اعتبارها وحيًا كالقرآن؛ ثم جرى ترتيب العلاقة بينها وبين القرآن على النحو الذي راح معه البعض — من الحنابلة بالذات — يتجاوز بها حدود كونها مُبيِّنةً للقرآن إلى اعتبارها حاكمةً عليه. لكن الغريب حقًّا هو ما يبدو من أن هذا الإسكات للقرآن إنما يتحقق بأسانيد من القرآن ذاته؛ وعلى النحو الذي يظهر معه أن القرآن يكاد يعمل ضد ذاته. لكن قراءة مدققة تكشف عن أن هذه الأسانيد (القرآنية) كانت — ولا تزال — ساحةً لضروبٍ من التوجيه الدلالي الذي اضطرها — تحت ضغوطه المتعسفة الغليظة — إلى النطق بما كان يُراد لها أن تنطق به.
ولعل ذلك ما تؤكده قراءة للشاهد القرآني: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى الذي لا يزال متداولًا بين الجمهور للآن، ويجري استخدامه للبرهنة على أن كل ما ينطق به النبي هو من الوحي. فإن المرء ما إن يبدأ في التساؤل عن مدى جواز التسليم الآن ببعض ما يُنسب إلى النبي مما يتعلق بمسائل يجوز التحاور — أو حتى الاختلاف — معها، إلا ويكون الاحتجاج في مواجهة مثل هذا التساؤل بأنه لا ينطق عن الهوى، بل عن الوحي. وبالطبع فإن أصحاب هذا الاحتجاج يصرفون دلالة الآيتين؛ ليس فقط إلى كل ما ينطق به النبي، على العموم، من القرآن وغيره، بل — وهو الأخطر — إلى ما يُنسب إليه النطق به.
وعلى العكس من ذلك، فإن المفسرين الكبار يُلحُّون على قصر دلالة الآيتين في النطق بالقرآن وحده. ومن هذا ما صار إليه الطبري من أن دلالة الآيتين تُشير إلى أن محمدًا ما ينطق بهذا القرآن عن هواه، لأنه ما هو إلا وحيٌ يوحيه الله إليه. ولعل ذلك ما يؤكده سياق نزول الآيتين الذي يربطهما بقصة «الغرانيق» التي نَسبتْ إلى النبي النطقَ بما ينفي القرآن أنه من الوحي؛ بما يعنيه ذلك من أن القرآن ينفي عن أي شيء عداه — ولو كان مما ينطق به النبي — أن يكون وحيًا.
إن ذلك يعني أن الداعشيين لا يفعلون — تبريرًا لدمويتهم — إلا التلاعب بالدلالة على النحو الذي يجعل كل ما يُنسب إلى النبي النطق به من الوحي؛ ولو كان مما يتعارض مع القرآن.