قولٌ عن الحرية الدينية وخطاب تسييس الإسلام
يكاد العالم أن يتحول — على مدى العقود الأخيرة — إلى ساحة للتداعيات المدمرة لما يمكن القول إنه الانفجار العظيم لظاهرة تسييس الإسلام التي بدأت إرهاصاتها الأولى مع جمال الدين الأفغاني عند أواسط القرن التاسع عشر. وللغرابة، فإن أرض الإسلام التقليدية، في عوالم العرب، لم تكن هي التي شهدت الانبعاث الأول لتلك الظاهرة، بل كانت الهند التي شهدت — في هذا الوقت — إسقاط الحداثة الأوروبية لحكم المسلمين لها. إنها مفارَقات التاريخ وتصاريفه التي تجعل للهند دورًا في ولادة الحداثة وفي انبعاث الإسلام السياسي. فإذ كان المسلمون قد منعوا الأوروبيين من الوصول إلى توابل الهند وبخورها المقدَّس في نهايات العصور الوسطى حين سدُّوا طرق الشرق إليها في أواسط القرن الخامس عشر، فإن الأوروبيين قد اندفعوا في مغامرتهم الكبرى التي قادت إلى اكتشاف العالم الجديد، وبما آل في النهاية إلى انبثاق عصر الحداثة الذي تغيَّر معه تاريخ العالم بأسره. كان الأوروبيون قد اكتشفوا كروية الأرض، فاستنتجوا إمكان الوصول إلى الهند من خلال الإبحار غربًا، ترتيبًا على أن إبحار الإنسان على كرة الأرض في اتجاه الغرب سوف يصل به حتمًا إلى النقطة التي يريد في الشرق. لقد كانت الهند، والحال كذلك، هي نقطة البَدء في المغامرة الكبرى التي صنعت بها أوروبا مَأثُرة الحداثة؛ تلك المأثرة التي عادت بعدها أوروبا إلى الهند ذاتها لتقوم بإسقاط حكم المسلمين لها. ومع إسقاط حكم المسلمين للهند، فإن البعض ممن قيل إنهم المجددون فيها قد راحوا يرادفون بين إسقاط «الحكم» وإسقاط «الدين»؛ وبما رتبوه على ذلك من استحالة «إقامة دين الإسلام» إلا من خلال «إقامة حكم الإسلام». ومن هنا تحديدًا بدأ المسار الطويل لتسييس الإسلام الذي انتهى إلى اعتبار «الحكومة» جزءًا من الإسلام وركنًا من أركانه وفروضه التي يموت المرء مِيتة جاهلية إذا لم يكن من الساعين إلى إقامتها. فإن اعتبار إقامة «الحكومة» شرطًا لإقامة «الدين» قد أدى إلى اعتبار إقامتها واجبًا دينيًّا؛ لأن ما يتم به الواجب هو واجبٌ أيضًا. ولسوف يترتب على ذلك أنه إذا كانت إقامة الحكومة واجبًا دينيًّا، فإن السبيل إلى إقامتها — ولو كان الجهاد والقتال — سيكون من قبيل الواجب الديني بدوره. ويعني ذلك بالطبع أن النزوع القتالي أو «الجهاد» العنيف سوف يكون هو النهاية المنطقية لخطاب تسييس الإسلام الذي هبَّت رياحه على أرض العرب من خارجها. والمدهش أن الهند قد أبت إلا أن تُقدِّم للإسلام أيضًا هذا الوجه القتالي العنيف بعد قرنٍ من بدء تبلور خطاب تسييس الإسلام في فضائها. ولقد تحقق ذلك مع «أبي الأعلى المودودي» الذي قدم التسويغ العقيدي والفقهي لهذا الإسلام القتالي العنيف. وهنا فإنه إذا كان تأثير الأفغاني قد امتدَّ في العالم العربي، لا من خلال «محمد عبده» كما هو شائع عن خطأ، بل خلال من يمكن القول إنه تلميذه الأكبر؛ وهو «السيد رشيد رضا» الذي أخرج من عباءته «حسن البنا»، فإن تأثير المودودي سوف يتمدد من خلال «سيد قطب» الذي هو الوريث المباشر للبنا. ويعني ذلك بالطبع أن الشرط الهندي قد ساهم في صياغة الوجهين السياسي والجهادي للإسلام.
وجديرٌ بالملاحظة أن تيار تسييس الإسلام — الذي يبلغ ذروة حضوره في هذه الآونة — يمثل خطرًا داهمًا، ليس فقط على مبدأ الحرية، بل على كل ما يتصل بحقوق الإنسان على العموم. فإذ تنزع السياسة، على العموم، إلى خلق قواعد عينية محددة لكي تحكم من خلالها كل ما يحدث في المجال العام، فإنه سيكون من المنطقي أن يؤدي اعتبارها جزءًا من الدين إلى الإلحاح على تحويل هذا الدين ذاته إلى مجموعة من الأحكام والتكاليف والقواعد الإجرائية الضابطة التي يكاد معها أن يفقد كل محتواه العقلي والروحي. إذ تدرك السياسة أن تحويل الدين إلى جملة قواعد وأحكام تضبط بها المجال العام سوف يهبها قداسة يستحيل معها تحدِّي قوتها المُلزمة. ومن هنا فإن تسييس الإسلام يكون مصحوبًا باختزال الشريعة في مجرد جوانبها البَرَّانية الإجرائية من الحدود والأحكام والتكاليف. ولقد كان لا بد أن يؤدي هذا الاختزال إلى إقامة بناء الشريعة على مرويات الأخبار والنصوص، وليس على المقاصد الكليَّة والأصول. فإن إقامة الحكم الشرعي على الأخبار والنصوص المأثورة عن أصحاب السيادة العليا في الإسلام (في القرون الثلاثة الأولى المفضلة) تجعل له قوة إلزام تفوق مثيلتها في حال إرجاعه إلى المقاصد والأصول التي تكون في حاجة إلى الاشتغال عليها بالعقل. ويرتبط ذلك بالطبع بما استقر بين جمهور المسلمين من النظر إلى العقل بوصفه ميدانًا للنقص والقصور؛ على النحو الذي كان لا بد أن يجعل للنص سلطة تَفُوق بكثير تلك التي للعقل. وإذ تجد السياسةُ نفسَها في وضع الاختيار بين النص كأصلٍ للحكم، وبين العقل كمصدرٍ له، فإنها ستختار تأسيس أحكامها على النص؛ لأن ذلك يُقلل من إمكان أن تكون هذه الأحكام موضوعًا لأي مساءلةٍ أو نقاش. فإن تأسيس الحكم على العقل — من خلال تفكيره في مقاصد الشريعة وأصولها — سوف يفتح الباب أمام جعل الحكم موضوعًا لنقاشٍ ومساءلةٍ لا تقبل بها السياسة، وخصوصًا حين تكون مستبدةً وباطشة.
وهنا يلزم التنويه بأن السياسة — في خطاب تسييس الإسلام — لا يمكن أن تكون إلا مستبدة وباطشة. ويرتبط ذلك بأن جعل السياسة ركنًا من أركان الدين وفروضه لا يعني إلا أن تكون من سياسة «القول الواحد»، وليس «الأقوال المتعددة». والحق أن القصد من تَديِين السياسة ليس شيئًا إلا إبعاد أي قولٍ غير ذلك الذي يتبناه القابضون على سلطة الحكم، باعتباره محض كفرٍ وهرطقة. وليس من شكٍّ في أنه لا معنى لأن تكون السياسة مجرد ساحة للقول الواحد إلا أن تكون ساحة إكراه وإجبار؛ بالمعنى الذي يستحيل معه أن تكون ساحة لأي حريةٍ، ناهيك عن الحرية الدينية بالذات.
وفي المقابل، فإن فهمًا مغايرًا ينأى بالسياسة عن أن تكون ركنًا من أركان الإسلام وفرائضه، بل يبلغ إلى تصور أنها لا تفعل إلا أن تحول الإسلام إلى قناعٍ تغطي به على استبدادها، كان لا بد أن ينتهي إلى تصورٍ للشريعة يلحُّ على اعتبارها من جهة مقاصدها الكليَّة وأصولها التأسيسية الكبرى. وإذا كان تسييس الإسلام قد أدى إلى اختزال الشريعة في جوانبها «الإجرائية» (من أحكام وتكاليف)، وبما ترتب على ذلك من إقامة الأحكام على «النصوص»، فإن تحرير الإسلام من السياسة يئول إلى اعتبار الشريعة من جهة جوانبها «التأسيسية» (من المقاصد والأصول)؛ وبما يترتب على ذلك من استناد الأحكام إلى «العقول»، وليس «النصوص». وفي هذا التباين بين خطابين؛ ينبني أحدهما على تسييس الإسلام، بينما يقوم ثانيهما على السعي إلى تحريره من السياسة، يكمن الجذر الغائر للصراع حول مبدأ الحرية الدينية في الإسلام بين الشيخ عبد المتعال الصعيدي وبين خصومه. فإذ يكاد تفكير خصومه، من المعارضين لمبدأ الحرية الدينية، أن يعكس نظام خطاب تسييس الإسلام، بما يلازمه من اختزال الشريعة في جانبها الإجرائي، وبما يرتبط بذلك من جعل «النص» هو مستند الحكم الشرعي المانع لمبدأ الحرية في الاعتقاد، فإن تفكير الشيخ الجليل يعكس، في المقابل، نظام خطاب تحرير الإسلام من السياسة، بما يلازمه من اعتبار الشريعة من جهة جانبها التأسيسي، وبما يرتبط بذلك من جعل «العقل» هو الفاعل الرئيس في بناء الحكم الشرعي المؤكد لمبدأ حرية الاعتقاد. وهكذا فإنه إذا كان خصوم الشيخ قد استندوا في تقرير الحكم المانع لحرية الاعتقاد على نص الحديث المنسوب إلى النبي الكريم «من بدَّل دينه فاقتلوه»، فإن الشيخ الصعيدي قد استند في تقريره لحرية الاعتقاد على قراءةٍ تحليلية لبنية ونظام أصول الإسلام الكبرى، ومن أهمها أصل التوحيد. فإن «الحرية» — على العموم — هي الجوهر العميق لشهادة التوحيد «لا إله إلا الله». حيث تقوم الشهادة على ركني النفي والإثبات؛ بمعنى نفي الألوهية عن مدعي السيادة من طغاة البشر الذين كانوا يُلزمون الناس بالخضوع لهم وعبادتهم، وإثبات السيادة لله وحده — كموجود مفارق — على نحوٍ يكون معه الإقرار هو الضامن لحريةِ البشر. ومن هذا ما يبلغ إليه الشيخ من أن «التوحيد هو دين الحرية.» ولا يقف الشيخ الصعيدي عند تأسيس الحرية على أصل التوحيد، بل يؤسسها، من جهة أخرى، على أصل التكليف. وهو يرتب ذلك على ما هو معلومٌ من أن قبول التكليف يفترض أن المرء حرٌّ في قبوله أو رفضه أصلًا؛ بما يعنيه ذلك من أن «الحرية» هي الشرط الأولي المؤسس للإيمان. ومن هنا فإنه لا تكليف على الفاقد لأصل الحرية. وإذ تكون «الحرية» هي أساس التكليف المُنشئ لفعل الإيمان، فإنه لا يمكن أن يكون فعل التكليف نافيًا للحرية. حيث الفرع الناشئ لا يمكن أن يكون نافيًا للأصل المنشئ له. ومن هذا ما صار إليه من أنه «يمكننا أن نُضيف إلى دليل العقل، في ثبوت الحرية للمرتد، أن من يُسلِم يؤخذ إلى الإسلام بالاختيار في الابتداء، ليكون إسلامه إسلامًا صحيحًا على ما سبق من اشتراطهم للاختيار في صحة الإسلام، وهذا الشرط يجب أن يكون في الدوام كما يجب أن يكون في الابتداء، كشرط الطهارة في الصلاة، فإنه يُشترط للصحة في الابتداء والدوام، فيجب أن يكون المسلم مُختارًا في إسلامه دائمًا، ليستمر إسلامه إسلامًا صحيحًا، وحينئذٍ لا يكون لأحد إكراهه عليه إذا أراد تركه بمقتضى استمرار اختياره فيه؛ لأن حقَّه في الاختيار فيه باقٍ بعد إسلامه لم ينقطع، ولا يصح لأحد أن يسلب منه هذا الحق.»
وهكذا يؤسس الصعيدي مبدأ الحرية الدينية على أَصلَيِ التوحيد والتكليف التأسيسيين؛ وبما جعله ينتهي إلى تفنيد الحُجَج التي يستند عليها نُفاة مبدأ الحرية. وإذا كان نُفاة الحرية قد أقاموا حُجَّتهم على الآثار المنسوبة إلى النبي من جهةٍ، وإلى ما قيل إنه إجماع الصحابة من جهة أخرى، فإن الصعيدي قد قام بتفنيدها — بل حتى إسقاطها — منطلِقًا من أولوية التأسيسي (أصل الحرية) على الإجرائي (حد الردة) في الشريعة، بما يترتب على ذلك من تضعيف النص — أو إسقاطه — لحساب الأصل أو القصد. ولعل في هذا المنطلَق ما يصلح أساسًا لبناء خطابٍ بديل لذلك الذي يدرك الجميع الآن أنه قد بلغ بالإسلام والمسلمين معًا إلى ذروة الأزمة. فهل يدرك أصحاب الفضيلة، من حرَّاس الإجرائي والنصِّي، أنه لا سبيل إلى بناء دورٍ فاعلٍ للإسلام في عالم متغير إلا عبر اعتباره من زاوية أصوله ومقاصده التأسيسية الكبرى؟!