تجديد الخطاب الديني
يلحظ المرء ازديادا في الحديث عن «التجديد» منذ أشار رأس الدولة المصرية إلى وجوب «تجديد الخطاب الديني». ولأن المفاهيم تعاني في مصر، على العموم، من ثقل الحمولات الأيديولوجية التي يجري تحميلها بها على النحو الذي يجعل منها أسلحةَ تَقاتل، بدل أن تكون ساحات تواصل، فإنه يلزم البَدء من الضبط المعرفي لمفهوم التجديد لكي لا يتحول إلى مجرد موضوعٍ لثرثرة لن يكون لها أي تأثيرٍ في الواقع. ولعل نقطة البدء في السعي إلى ضبط المفهوم معرفيًّا تنطلق من وجوب الوعي بأن التجديد لا يكون فعلًا معزولًا وقائمًا بنفسه خارج أي سياقٍ يحدده ويؤثر فيه، بل إنه يتحقق ضمن شروطٍ لا يكون قابلًا للفهم خارجها؛ هي شروط العمران التي ينشأ فيها. وإذا كانت التجرِبة العربية قد عرفت — حسب ابن خلدون — نمطين من العمران؛ أحدهما «بدوي»، والآخر «حضري»، فإنه يبدو أن الطبائع الخاصة بكل واحدٍ من النمطين لا تزال هي المحددة لفعل التجديد في عوالم العرب للآن، على أن يكون معلومًا أن طبائع العمران البدوي لا تزال حاضرةً رغم غياب الحامل المادي لها. وتتأتى المشكلة الحاصلة في عوالم العرب الآن من تصور أن التجديد المرتبط بنمط العمران البدوي هو بمثابة أصلٍ مطلقٍ وغير مشروطٍ بطبيعة عمرانه، وقابلٍ لذلك للتحقق ضمن شروط أي واقعٍ.
وهكذا يتبلور المأزق الأعتى للتجديد الذي يأتي من تصوره بمعزل عن طبيعة العمران الذي ينبثق ويتحقق داخله. حيث إن طبيعة العمران تحدد جوهر التجديد على النحو الذي يستحيل معه أن يكون التجديد المشروط بظروف عمرانٍ بعينه قابلًا للتحقق في ظروف عمرانٍ مغاير. وللغرابة فإنه يبدو أن بعضًا ممن يُشار إليهم على أنهم من رموز السلف الكبار قد كانوا من العاملين بقاعدة الترابط الحاسم بين التجديد والعمران. حيث إن هذا الترابط، ولا شيء سواه، هو ما يقف وراء رفض فقيه الحجاز الكبير الإمام مالك أن يعمل فقهه خارج ظروف العمران الحجازي الذي تبلور فيه؛ وألمح إلى أن تشغيله ضمن العمران العراقي — بحسب ما أراد العباسيون — سوف يكون جالبًا للعسر والمشقة. وإذ يكاد هذا الإدراك أن يكون غائبًا عن الوعي الراهن، فإنه يلزم بيان الارتباط، غير القابل للانفكاك، بين التجديد الديني وشروط العمران الذي يتحقق داخله، لكي لا يبقى للتجديد باب واحد لا يُؤتى إلا منه فقط.
وكمثال على هذا الارتباط الحاسم بين التجديد والعمران، فإنه يمكن الإشارة إلى التجديد الذي قدمه مجدد الجزيرة العربية الكبير في القرن الثامن عشر؛ وهو الشيخ ابن عبد الوهَّاب الذي تمحورت دعوته حول تنقية عقيدة التوحيد مما لابَسَها من شوائبِ ما رأى أنه من الشرك. حيث يتعلق الأمر ببدعٍ شركية داخلت المعتقد النقي، ولا بد من إعلان البراءة والتطهُّر منها. وهنا يلزم التأكيد على أن الطبيعة المعزولة والقاسية لمنطقة «نجد» — التي نشأ فيها الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب — قد فرضت تبلور التجديد على النحو الذي يكون فيه استرجاعًا لنموذج الإسلام الأول في تعاطيه مع عرب شبه الجزيرة. ويتفرَّع ذلك عن حقيقة أن هذه العزلة القاسية قد عملت على استمرار قيام العمران البدوي على نفس الحال الذي كان عليه وقت ابتعاث النبي محمد بالإسلام لأول مرة. وبالطبع فإن هذا العمران البدوي يرتبط بطرائق في التفكير والسلوك، وحتى التعبُّد، بدا معها للشيخ ابن عبد الوهَّاب أن أهل نجد قد عادوا إلى نفس ما كان عليه أعراب الجاهلية. وهنا يلزم التأكيد على أن ما بدا لابن عبد الوهَّاب وكأنها عودتهم للجاهلية لم يكن اختيارًا لهم، بقدر ما كان من تداعيات استمرار قيام العمران البدوي الذي لا بد أن يفرض على أصحابه هذا النوع من السلوك والتعبُّد. فإذ يتمحور العمران البدوي — بحسب ما يكشف عنه ابن خلدون — حول مفهوم العصبية القبليَّة التي تحيل إلى السطوة الغالبة لقيم القوة والتقليد والاتباع والتأسي بالكبراء، والتوسُّل بهم كوسطاء، فإن ذلك بعينه هو ما أدرك الشيخ ابن عبد الوهَّاب غلبته على ممارسات أهل نجد في عصره. ومن هنا فإن ما تبيَّنه ابن عبد الوهَّاب عند أهل نجد «من مسائل الجاهلية» المائة يكاد بأسره أن يتوزَّع على منظومة القيم الغالبة على العمران البدوي من قبيل القوة والتقليد والاتباع والتوسُّل بالكبراء وغيرها. فهم يتوسلون بالوسائط في العبادة، ويقلدون في الدين، ويحتجون بما كان عليه الآباء بلا دليل، ويعتبرون عدم الانقياد لوليِّ الأمر فضيلة؛ وهي الأمور التي تكاد أن تكون جميعًا من لوازم عمران البداوة.
وإذا كان ابن خلدون قد كشف، فيما سلف، عن أن ما يؤسس لهذه المنظومة البدوية هو «اعتياد أهلها الشظف وخشونة العيش … (الذي يتولَّد عنه) خُلق التوحُّش الذي يجعلهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلَّما تجتمع أهواؤهم.» فإنه قد رتب على ذلك «أن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينيةٍ من نبوَّة أو ولاية أو أثرٍ عظيمٍ من الدين على الجملة.» بما يعنيه ذلك من جوهرية الدين في الخروج بالعرب من خُلق التوحُّش/الطبيعي إلى التهذُّب بالمُلك/المدني. إذ الحق أن مفهوم «المُلك» يحمل عند ابن خلدون دلالة حضارية، تتجاوز به مجرد دلالته السياسية الضيقة إلى دلالةٍ أوسع تُشير إلى انتقاله بالبشر من حال الاجتماع الحيواني/الهمجي إلى الاجتماع التأنُّسي/المدني. ولعل هذا هو ما حدا بابن عبد الوهَّاب إلى إدراك أنه لا سبيل إلى إخراج أهل الجزيرة العربية في عصره مما هم عليه من حال الاجتماع شبه الجاهلي — الذي تفرضه طبائع العمران البدوي — إلا باسترجاع إسلام العصور الأولى المفضَّلة. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الوهَّابية هي من قبيل التجديد الذي فرضته طبائع العمران البدوي، ومن دون أن تكون قابلةً للفهم — أو الاشتغال — خارج شروط هذا العمران أبدًا. وبالطبع فإنه يمكن القطع — ترتيبًا على ذلك — بأن دعوة ابن عبد الوهَّاب تُحيل إلى نوعٍ من التجديد الذي يختلف بالكلية عن ذلك الذي ستعرفه لاحقًا مراكز العمران الحضري في مصر وتونس والشام، التي كانت تعيش تجرِبة الانفتاح على حضارة أوروبا التي حالت العزلة دون أن تتعرض جزيرة العرب لرياحها العاتية.