كيف تكون «أسطورة الدولة العربية الحديثة» أحد جذور العنف؟!
«إن تغييرًا في مصر لن يكون نتاج أنوار العقل، أو اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، وإنما تغيير تجريه قوة قاهرةٌ على قوم وادعين جهلاء.»
هكذا قطع المصري المقامر «المعلم الجنرال يعقوب»، عند مطلع القرن التاسع عشر، بأن مبدأ «القوة» هو ما سيؤسس للتغيير في هذا العالم الراكد. وبالطبع فإنه سوف يكون لازمًا أن تستدعي القوة أداتها (التي هي الدولة)، وسوف يكون لتلك الدولة/الأداة أجهزتها التي تحقق بها مبدأ «القوة» في مجال الممارسة؛ التي هي — في الجوهر — محض ممارسةٍ للاستبداد والعنف.
وإذ تكشف عبارة «المعلم الجنرال» عن وعيٍ مدهش، بأن الأصل في فعل «التغيير» هي «أنوار العقل» التي هي، بدورها، نتاج «اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة»، فإن خُلُوَّ مصر من شيءٍ منهما عند أواخر القرن الثامن عشر، قد جعله يدرك أن «القوة القاهرة» هي المؤهلة وحدها للقيام مقامهما. ومن هنا جاء تسلل «القوة» لترقد — في رسوخٍ — ضمن التلافيف العميقة لبنية ما يُقال إنها «الدولة العربية الحديثة». فقد كشفت انتفاضات المصريين، التي بلغت ذُراها مع علي بك الكبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، عن أن التغيير كان مطلبًا يلحُّ عليهم، وذلك قبل أن يفاجئهم القائد الكورسيكي الكبير (الذي هو نابليون)، على رأس جيش الشرق عند نهاية هذا القرن بالضبط. ولكن أداة التغيير الرئيسة (التي هي العقل) لم تكن حاضرةً آنذاك، وربما ليست حاضرةً أيضًا للآن، بحسب ما تنطق الشواهد التي يتتابع — لسوء الحظ — ظهورها في مصر. فلا تزال «القوة» هي آلية التغيير وأداته، وإن راحت تتغير أشكال حضورها التي يبدو أن مصر تشهد، بعد ثورتها الأخيرة بالذات، شكلًا مُستجِدًّا لحضورها يتمثل في ممارستها بالحشد للجمهور/المتحمس، بعد أن كان «الجيش» هو شكل ممارستها الغالب على مدى عقود. ولسوء الحظ، فإن ذلك يعني أن ثورة المصريين الأخيرة لم تدفع، بعد، في اتجاه الانتقال إلى دولة «الحق»، بقدر ما يبدو أن دولة «القوة» قد راحت تُعيد إنتاج نفسها، ضمن شروطٍ متحوِّلة. وبالطبع، فإن ذلك يُحيل إلى أن «أنوار العقل» لا تزال خافتةً في مصر؛ بما يعنيه من أن ما جرى في مصر على مدى القرنين الفائتين لم يتمخض، تقريبًا، عن تغييرٍ ذي بالٍ في طبيعة «الأصل» المُنشئ للتغيير فيها. فقد ظلت «القوة» على نفس حالها، كفاعلٍ رئيسٍ، وظل «العقل» مجرد هامشٍ على حوافِّ المشهد، بعد أن كان قد بدا أن تحوُّلًا يحدث في مصر، سوف يدفع به إلى الصدارة. ولكن تحليلًا متأنيًا يكشف عن أن ما جرى من التحولات في مصر لم يتمخض عن تغييراتٍ عميقة في نظام العقل المهيمن، على النحو الذي يجعل منه مركزًا لفعل التغيير فيها. وذلك إلى حدِّ أن تعرية لهذا العقل مما يتحلى به من زخارف الحداثة السطحية، لا بد أن تضع المرء مباشرة أمام نفس العقل الذي كان هناك في الحقبة العثمانية/المملوكية.
فإذ يلوح — أو يكاد — للناظر إلى ما تموج به مصر الراهنة من نشاط الإسلامويين، أن الثورة قد اندلعت في هذا البلد من أجل تثبيت عقل الاتباع للسلف، فإن المتابع للحركة العقلية في مصر العثمانية/المملوكية لا يكاد، بدوره، يتبين فيها إلا عقلًا تابعًا مطواعًا لا يعرف غير اجترار أصول أسلافه التي كانت هي قبة سمائه الزرقاء التي يجد تحتها «الجواب الخالد» على كل ما يعنُّ له من سؤال. فكل شيء تحت قبة السماء قد استقرَّ في دورته الأبدية المرسومة؛ ولا مجال لجديدٍ يفتح باب الاندهاش أو السؤال. فالله (سبحانه) يستوي على عرشه في السماء، حارسًا لما يقع تحتها، وضامنًا لاستقراره الأبدي، والسلطان يعتلي كرسيَّ الخلافة في الآستانة، وواليه يتربع على أريكته في القلعة، وأهل الذكر في الأزهر يتداولون أصول العلم الشريف، ودورة الأفلاك على حالها، والنيل يجري لا يزال، والإسلام هو أكمل الأديان، والمسلمون سادة العالم، والناس يعيشون .. يتناسلون ويموتون، «وكل شيء قدَّرناه تقديرًا»؛ ولا مجال — لذلك — لأي دهشةٍ أو سؤال.
وفجأة يتهدد النظام، ويبدأ في الظهور ما يستجلب الاندهاش ويستدعي السؤال. وكان ذلك مع نهاية القرن الثامن عشر، حين اصطدم هذا العالم المكتفي المغلق، بما كان يحدث خارجه، مما جرى الاصطلاح على أنها مغامرة الحداثة الأوروبية، التي كانت دورة تشكُّلها قد بدأت قبل ثلاثة قرون تقريبًا. وهكذا فإن ثغرة قد انفتحت في جدران هذا العالم الراكد؛ وعلى النحو الذي بدا معه غير قادرٍ على استعادة سلامه الراسخ القديم. وأصبحت مصر التي اضطر جيش القائد الكورسيكي (نابليون) إلى مغادرتها بعد ثلاث سنوات من مجيئه، غيرَ تلك التي كانت قبل مجيئه. حيث لم يعد بإمكان هذا البلد الكبير أن يغضَّ الطرْف عما يجري خارجه؛ وبالذات على الجانب الآخر من البحر الذي قُدِّرَ له أن يكون حوضًا فالقًا بين مركزين حضاريين كبيرين. فقد تخلخل اليقين الراسخ، بعد أن راحت آفة «السؤال» تتلاقح في واقعٍ فَجَعَتْه ما جرى الاصطلاح على أنها «صدمة الحداثة». إنه السؤال: «لماذا تخلَّف المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم؟» الذي سيظل يفرض سطوته — من دون أي تحدٍّ — على مدى القرنين لاحقًا.
كانت آخر المواجهات الكبرى بين المسلمين والأوروبيين — التي دارت وقائعها على مدى النصف الثاني من القرن الخامس عشر — قد انتهت إلى ما بدا وكأنه التوازن بين القوتين اللتين قُدِّرَ للصراع بينهما أن يصوغ تاريخ البحر المتوسط على مدى العصر الوسيط. فإذ حقق المسلمون انتصارهم الحاسم في «القسطنطينية» مع مطلع النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وتحديدًا في العام ١٤٥٣م، فإن الأوروبيين سرعان ما سيحققون التوازن، بعد أربعة عقودٍ بالضبط، بنجاحهم في طرد المسلمين من بقعة الوجود الأخيرة لهم في شبه الجزيرة الأيبيرية، مع سقوط «غرناطة» في العام ١٤٩٢م. وهكذا كان الانحسار الأوروبي في الشرق (بسقوط القسطنطينية) يوازيه الانحسار الإسلامي في الغرب (مع سقوط غرناطة). ثم انسدل ستار الصمت على مدى القرون الثلاثة اللاحقة، التي لم تشهد أي مواجهاتٍ كُبرى بين الفريقين؛ حيث استنام المسلمون إلى انتصارهم الكبير، ودخلوا في نوبةٍ من الركود الطويل، تحت سيطرة العثمانيين الذين لم يملكوا ما يقدمونه للإسلام إلا ما يتميزون به كقوة من الرعاة المحاربين الأشدَّاء، وذلك فيما كان الأوروبيون يلقون بأنفسهم في قلب الأطلنطي سعيًا وراء توابل الهند وبَخورها المقدس، التي انسدت إليها طرق الشرق. وإذ أدركوا — مع اكتشاف كروية الأرض — أن المسير في اتجاه «الغرب» سوف يصل بهم إلى الوجهة التي يريدون في «الشرق»، فإنهم قد ابتدءوا مغامرة الاتجاه غربًا التي ربحوا معها، ليس العالم الجديد فحسب، بل والحداثة التي سيتمكنون بها من امتلاك العالم القديم أيضًا.
وبعد أن فرغ هذا الأوروبي المغامر من امتلاك العالم (الجديد والقديم) بأسره، فإنه قد جاء يدقُّ أبواب عالم المسلمين الراكد. وحين أفاق المسلمون من الدهشة التي صنعها الفارق الهائل بين مستوى ونوع القوة التي جاء بها هذا الأوروبي العجيب، وبين ما كانوا عليه، فإنهم قد انشغلوا بمجرد امتلاك أدوات تلك القوة (التي تجلَّت لهم جيشًا وأسطولًا وعتادًا وتنظيمًا)، ولم يفكروا في شروط إنتاجها، مما يتعلق بما يقف وراءها من أنظمة عقلية وقيميَّة كامنة. ورغم أن هذا الضرب من الانشغال قد يكون مفهومًا في لحظات الصدمة الأولى، فإن استمراره على مدى القرنين بعد ذلك — رغم ما أظهر من الإخفاق والعجز — يبقى من قبيل ما لا يمكن قبوله أو فهمه.
والمهم أن هذا الضرب من الانشغال قد أدى إلى سيادة نمطٍ من التحديث البَرَّاني الذي لم يجاوز سطح الواقع إلى ما يرقد تحته من أنظمة عقليةٍ ومعرفيةٍ يرتبط التغيير الحقيقي للواقع بمدى القدرة على التأثير فيها. ولعله يلزم التأكيد هنا على أن سيادة هذا النمط من التحديث ترتبط بحقيقة أن التغيير قد كان مطلبًا سياسيًّا بالأساس. وإذ السياسة لا تنشغل إلا بالمُنتَج الجاهز «النهائي»، وليس بالفكر «التأسيسي» الحامل له، فإنها قد راحت تعزل هذا المُنتَج النهائي الجاهز/الحديث عن حامله الفكري المؤسس له (وهو هنا فكر الحداثة)، لتسعى — بعد ذلك — إلى تركيبه فوق نظام الفكر التقليدي القائم (في المجتمع الذي تحكمه). ولسوء الحظ، فإن هذا التركيب لم يكن فعلًا ليِّنًا، في أغلب الأحوال، بل كان — وبحسب عبارة المعلم يعقوب — فرضًا قسريًّا تُجريه قوة قاهرة على قومٍ وادعين جهلاء، لم يكن مطلوبًا منهم، أو مسموحًا لهم — حتى حين نالوا قدرًا من التعليم — أن يجاوزوا مقامهم كمجرد خدمٍ طائعين لتلك القوة/الدولة القاهرة. وبالطبع، فإن ذلك يُؤشر على نوع العلاقة القائمة بين دولة «القوة القاهرة» من جهة، وبين مجتمع «الوادعين الجهلاء» من جهة أخرى؛ والتي هي علاقة القمع، ولا شيء سواه، حتى وإن حدث أحيانًا أن سَعَى هذا القمع إلى أن يُداري خشونته وراء قُفَّازات ناعمة. ومن هنا فإن القمع قد كان — ويظل — هو الخصيصة البنيوية لما يُقال إنها الدولة العربية الحديثة، ومتلازمتها التي لا ترتفع، بصرف النظر عن نوع الشعار (الإسلامي أو العلماني) الذي تحكم تحت راياته.
وقد كان القمع هو أساس شرعية السلطة في تلك الدولة، وذلك حتى في اللحظات التي ارتدَتْ فيها مسوحًا لِيبْرالية (حيث الليبرالية لم تجاوز كونها مجرد إجراء تدير به النخبة الحاكمة تناقضات شرائحها، ومن دون أن يمسَّ طبيعة علاقتها بالمجتمع). وبدوره، فإن المجتمع كان مستعدًّا للقبول بشرعية هذه السلطة ما دامت الدولة قادرة على الوفاء باحتياجاته الأساسية، ولو على حساب حاجاته الروحية والمعنوية. وأما في حالات عجزها المزمن عن الوفاء بتلك الاحتياجات، فإن القمع الغليظ (صريحًا وباطشًا)، قد ظل هو المصدر الأوحد لشرعية السلطة في تلك الدولة. وهنا، بالذات، تقوم الجذور العميقة لأزمة «الشرعية» التي أوصلت النظم العربية الحاكمة إلى مأزقها الراهن.
وغنيٌّ عن البيان أن فقدان الدولة لرضا المجتمع — الذي حدث لأحقابٍ متطاولة — كان لا بدَّ أن يدفعها إلى التعويل على أجهزة تشغيل القوة التي أصبحت آلتها المثلى في فرض شرعية سلطتها على المجتمع. وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان الطابع العسكري/البوليسي لهذه الأجهزة قد ترك بصمته المؤثرة على ملامح تلك الدولة، فإن ذلك لا ينبغي أن يطمس حقيقة أن هذا الطابع العسكري/البوليسي نفسه هو مجرد عَرَضٍ لقمعيتها الكامنة التي ترتبط بنمط التحديث البَرَّاني الذي جعل منها محض قوة للفرض الإكراهي للتحديث الجاهز على مجتمع الوادعين الجهلاء. وإذن فإن مبدأ «القوة» الذي تأسست عليه هذه الدولة يبقى هو الأصل العميق لكل ما تمارسه من ضروب القمع (الناعمة والغليظة)؛ وبما يعنيه ذلك من أنها، ومعها أجهزتها، هم محض أدوات يحقق من خلالها هذا المبدأ الكامن نفسه. لا بد إذن من ردِّ القمع إلى جذره الكامن في السياق المعرفي والتاريخي لتشكُّل هذه الدولة، وأما تعليق وِزْره على عاتق أجهزتها التي تقوم على تشغيله، فإنه سوف يسمح له بالتخفِّي، وإعادة إنتاج نفسه من جديد.
وبالطبع فإن ذلك يعني أن مشكلة الاستبداد والعنف اللذين تفيض بهما عوالم العرب ليست محض مشكلةٍ سياسية ترتبط بممارسات شخصٍ أو نظامٍ بعينه، بقدر ما إنها ذات طبيعةٍ ثقافية؛ ابتداء من ارتباطها بالمبدأ التأسيسي الذي قامت عليه الدولة العربية الحديثة. وغنيٌّ عن البيان أن هذا المبدأ التأسيسي هو مبدأ ثقافي بامتياز؛ لأنه ينبني على نظامٍ في الاشتغال المعرفي يقوم على الفرض الإكراهي لنموذجٍ مكتملٍ جاهز (بصرف النظر عن مصدره) على الواقع.
وإذ تكون الثقافة هي حقل انبناء ما يؤسس للاستبداد والعنف، فإن ذلك يعني أن كافة المنضوين تحت مظلتها الواسعة — وعلى تباين انتماءاتهم الأيديولوجية — سوف يكونون حاملين لجرثومة الاستبداد والعنف، حتى ولو كانت في حال الخمول وعدم الفاعلية عند البعض من هؤلاء. وبحسب ذلك، فإنه ليس ثمة من فارق بين الدولة والقائمين عليها وبين خصومها من دعاة الإسلام السياسي وغيرهم، فإن الفارق بينهم يتمثَّل فقط في نوع البيارق التي يمارس تحتها الفرقاء عنفهم واستبدادهم. فإذ ظلت الدولة العربية موصومة بالتسلطية، بكل ما يُصاحبها من القمع والعنف، على تنوع الأيديولوجيات الحداثية (ليبرالية – قومية – علمانية – يسارية … إلخ) التي تبرقعت بها، فإن الأمر لم يختلف حين أصبحت أيديولوجيا الإسلام السياسي هي البرقع الذي التفَّ على رأس الدولة — في مصر مثلًا — في أعقاب ثورتها. وإذن، فإن وحدة الثقافة وتماثل الآليات التي تشتغل بها عند جميع المنضوين تحت مظلتها، لا بد أن تؤدِّي إلى تماثل ما تنتجه في الجوهر. لكن التماثل الجوهري لما تنتجه الثقافة لا يلغي أن تتباين سماته الشكلية؛ على النحو الذي يبدو معه الاستبداد مثلًا ناعمًا حينًا، وفظًّا غليظًا في حينٍ آخر. ويرجع هذا التباين الشكلي إلى تباين المضمون الثقافي الذي يُحدد شكل هذا المُنتَج، في لحظةٍ ما، عنه في لحظة أخرى. فإنه إذا كان انتماء المضمون إلى السياق الحديث سوف يفرض عليه أن يُزخرف نفسه بمفردات الديمقراطية والدستور والبرلمان وحكم القانون وغيرها؛ على النحو الذي يجعل ما ينتجه خطاب الثقافة المهيمن من الاستبداد ناعمًا ورقيقًا، فإن انتماء المضمون إلى اللحظة ما قبل الحداثية بما تفيض به من مفردات أحكام الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإجماع والبيعة وغيرها، سوف يجعل الاستبداد غليظًا فظًّا لا يتخفى. وهكذا فإنه إذا كان الجذر الأعمق للاستبداد والعنف يكمن في قلب الثقافة، وخطابها المهيمن بالذات، فإنه يلزم التمييز في الثقافة وخطابها، بين نظامٍ يقوم ثابتًا في العمق، رغم تحولات المضمون وتبدلاته على سطحها. وفي حين يتعلَّق النظام بطريقة التفكير وآليات إنتاج المعرفة المهيمنة داخل الثقافة، فإن المضمون يتعلق — في المقابل — بالأيديولوجيات المتعددة التي يجري تداولها على السطح بحسب هذه الطريقة في التفكير. وهنا يلزم التنويه بأن ما ظهر من عجز الأيديولوجيات الحديثة المتبدلة على سطح الواقع العربي عن إخراجه من أزمة جموده وتقليديته إنما يرتبط بخضوعها لهيمنة نظام الثقافة الذي ينتجها كنماذج لا بد من فرضها من الأعلى على نحوٍ إكراهيٍّ، وليس كمجرد تجارب مشروطة بسياقات تاريخية ومعرفية لا فعالية لها خارجها. وبالطبع فإن ذلك يعني أن البحث عن أصل الأزمة العربية لا بد أن يتجاوز مجرد نقد المضامين الأيديولوجية السطحية إلى تفكيك نظام الثقافة الأعمق.
وأما أن أصل الاستبداد والعنف يرقد ساكنًا في النظام العميق للثقافة السائدة، فإنه يأتي من أن الطريقة التي يشتغل بها العرب، والقائمة على الفرض الإكراهي لنموذجٍ مكتملٍ جاهز (بصرف النظر عن مصدره؛ التراث أو الحداثة)، إنما هي محض تجلٍّ لهيمنة عقل التفكير بالأصل أو النموذج الذي يجد كل ما يؤسس له في قلب الخطاب الذي تحققت له الهيمنة في فضاء الثقافة العربية الإسلامية؛ وهو الخطاب الأشعري الذي يحتاج إلى قولٍ لا يتسع المقام له الآن.