القرآن: ما بعد أبي زيد وما قبل المصحف
إذا كانت مقاربة أبي زيد للقرآن قد ابتدأت من التعاطي معه كنص. ثم
تطورت إلى حيث راح يقاربه كخطاب، فإن أهم ما يمكن ملاحظته على هذه
المقاربة أنها — في مستوَيَيْها — تنطلق من القرآن كواقعة مكتملة في
المصحف. وإذ تكاد المقاربة النصيَّة للقرآن تنبني على كونه «المُدون
بين دَفَّتَي المصحف»، فإنه يبدو أن الوقت لم يتوفر لأبي زيد
١ لقراءة المآلات التي تنشأ عن مقاربته للقرآن كخطاب؛
وبالخصوص على صعيد لغته وتاريخه. وإذن فالأمر في حاجة لمتابعة
التداعيات المصاحبة لسيرورة الانتقال من قرآن (النبي) إلى مصحف
(عثمان).
وهنا يلزم التنويه بما يكاد أن يكون من الثوابت الراسخة في وعي
المسلمين على العموم أن الشكل الذي استقرَّ عليه القرآن (تركيبًا
وترتيبًا ولغةً) في المصحف هو ذات الشكل الذي تركه عليه النبي الكريم؛
وبما يعنيه ذلك من الاعتقاد الجازم في تطابق القرآن مع المصحف. ولسوء
الحظ، فإن ثمة ما يخلخل هذا التصور المستقر، ويفتح الباب أمام افتراض
عدم التطابق بينهما؛ حيث إن خمس عشرة سنةً تفصل بين القرآن الذي تركه
النبي عند وفاته، وبين المصحف الإمام الذي أقرَّه الخليفة الثالث عثمان
(بعد عامين تقريبًا من ابتداء ولايته)، كانت زاخرةً — سواء على مستوى
التركيب أو اللغة — بما يحيل إلى اختلاف المسلمين في القرآن «حتى كاد
يكون بينهم فتنة.»
٢ وبالطبع فإن بلوغ الاختلاف إلى حدِّ الفتنة إنما يعكس مدى
اتساعه وشموله على هذا النحو المُهدِّد.
وبالرغم من الخطر الداهم للفتنة على وحدة الجماعة، فإنه يبدو أن
اختلاف المسلمين حول القرآن الذي تَبَدَّى، من جهة، في تعدد القراءات
(على أن يكون مفهومًا أن الأمر بخصوص هذا الاختلاف لا يتصل بالتباين
حول مخارج الألفاظ وكيفية نطقها، بل يتجاوزه إلى إبدال الألفاظ والحروف
بأخرى غيرها)، وفي الشكل أو التركيب (البنائي) والترتيب الذي استقر
عليه القرآن في المصحف. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الفترة السابقة على
تثبيت القرآن في المصحف قد اتسعت لضروبٍ من التدخل الإنساني في القرآن؛
على النحو الذي يُحيل إلى استحالة أن يكون المصحف مطابقًا للقرآن الذي
تركه النبي قبل وفاته. فالاختلاف الذي حفظته المصادر حول اللغة
والتركيب البنائي يعني أن وجهًا واحدًا من هذه الاختلافات هو الذي جرى
تثبيته في المصحف، وأنه لا يوجد ما يقطع بأن هذا الوجه، دون غيره، كان
هو ذلك الذي تركه النبي عند وفاته. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك يعني أن
الشكل الذي جرى به تثبيت القرآن في المصحف (لغةً وتركيبًا) قد شهد
نوعًا من التدخل الإنساني؛ على النحو الذي يئول إلى استحالة النظر إلى
هذا الشكل على أنه انعكاسٌ مطابق للقرآن القائم في الأزل، بما هو صفة
الله القديمة.
فإن «القرآن الكريم الذي يتداوله المسلمون اليوم بين دَفَّتَي
المصحف، لم يكن على هذا الترتيب في حياة الرسول
ﷺ. فقد قُبِضَ —
عليه السلام — ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيءٍ.»
٣ فقد «كان القرآن كُتِبَ كله في عهد رسول الله
ﷺ،
لكن غير مجموع في موضعٍ واحدٍ، ولا مُرتَّب السور.»
٤ ولقد كان مما ترتب على ذلك أن أصبح لكل واحدٍ من الصحابة
الكبار مجموعُه الذي يخصه من القرآن؛ والذي اصطُلِحَ على تسميته بالمصحف.
٥ وهكذا تعددت المصاحف المنسوبة لأصحابها؛ والتي كانت نسبتها
لأصحابها مرتبطةً بمخالفتها للمصحف الإمام الذي جرى الإجماع عليه؛
فإنما «قلنا مصحف فلان لِما خالف مصحفنا (يعني الإمام) من الخط أو
الزيادة أو النقصان.»
٦ بل إنه حتى بعد وضع المصحف الإمام، فإن ثمة مِن أصحاب هذه
المصاحف من تمسَّك بمصحفه، رغم مخالفته لمصحف عثمان؛ ومن هذا ما قيل من
أن «ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن
قراءته، ولا على إعدام مصحفه، فكان تأليف (ترتيب) مصحفه مُغايرًا
لتأليف مصحف عثمان.»
٧ وبما لا بد أن يدل عليه ذلك من أن الشكل أو الترتيب الراهن
الذي استقرَّ عليه القرآن لم يكن هو الشكل الذي تركه عليه النبي، وذلك
على فرض أن الترتيب الذي تركه عليه قد كان أصلًا هو ترتيبه في اللوح
المحفوظ. وبالرغم من ذلك فإن ثمة من يقطع — وأعني به البغوي في (شرح
السنَّة) — بأن القرآن «مكتوبٌ في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب.»
٨
وفي تفسير عدم جمع النبي للقرآن في المصحف، فإن ثمة من مضى إلى أنه
«إنما لم يَجمع (النبي)
ﷺ القرآن في المصحف لِمَا كان يترقبه من
ورودِ ناسخٍ لبعض أحكامه أو تلاوته.»
٩ وبالطبع فإنه كان يمكن قبول مثل هذا التفسير لو أن النبي
كان قد قُبض قبل أن يكتمل نزول الوحي؛ وهو ما تعارضه الرواية عن ابن
عباس من أنه «كان بين نزول آخر آية (من القرآن) وبين موت النبي
ﷺ أحد وثمانون يومًا.»
١٠ وحتى على فرض أن المدة الفاصلة بين نزول آخر آية من القرآن
وبين موت النبي كانت — حسَب رواية أخرى — بِضعة أيامٍ فقط، فإن ترك
النبي للقرآن على غير الشكل والترتيب الذي استقر عليه بعد رحيله، إنما
يعني أنه قد أراد للقرآن أن يظل خطابًا مفتوحًا.
١١ ولقد ظل القرآن هكذا، لمدة خمس عشرة سنة، حتى اتخذ الشكل
والترتيب الراهن الذي استقر عليه مع الخليفة الثالث عثمان؛ وهو الترتيب
الذي جرى التأكيد على أنه من فعل البشر. حيث إنه «لما كُتِب مصحف عثمان
رتَّبوه (يعني الناس) على ما هو عليه الآن.»
١٢ ومما استُدِلَّ به على أن ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة
«اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور؛ فمنهم من رتبها على النزول، وهو
مصحف عليٍّ، كان أوله (اقرأ) ثم البواقي على ترتيب نزول المكي، ثم
المدني. ثم كان أول مصحف ابن مسعود (البقرة) ثم (النساء) ثم (آل عمران)
على اختلافٍ شديد. وكذا مصحف أُبيِّ بن كعب وغيره.»
١٣ وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان القائلون بأن ترتيب سور
القرآن هو باجتهاد من الصحابة يستندون إلى وقائع عينية تتعلق بوجود
مصاحف مختلفة الترتيب (لعليٍّ وابن مسعود وأُبيٍّ)،
١٤ فإن أصحاب الرأي القائل بأن هذا الترتيب قد كان بتوقيفٍ من
النبي لا يجدون ما يستندون إليه في هذا التقرير إلا بعض الروايات التي
تجري نسبتها إلى النبي؛ على النحو الذي تُوضَع معه «الرواية» في مواجهة
«الواقعة».
ولعل هذا الانفتاح الذي ترك النبي عليه القرآن هو ما يقف وراء ضروب
الاختلاف حول عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه.
١٥ فأما سُوَره «فقال أبو الحسين بن المنادي: جميع سور القرآن
في تأليف زيد بن ثابت على عهد الصدِّيق وذي النورين؛ مائة وأربع عشرة
سورة، فيهن الفاتحة والتوبة والمعوذتان، وذلك هو الذي في أيدي أهل
قبلتنا. وجملة سوره، على ما ذُكِر عن أُبي بن كعب — رضي الله عنه —
مائة وست عشرة سورة. وكان ابن مسعود — رضي الله عنه — يُسقِط
المعوذتين، فنقصت جملته سورتين عن جملة زيد. وكان أُبي بن كعب
يُلحِقهما ويزيد إليهما سورتين هما الحَفدة والخَلع.»
١٦ وبخصوص الآيات، فإن «عدد آي القرآن مُختلَفٌ فيه على حسب
اختلاف العادِّين. والعدد منسوبٌ إلى خمسة بلدان هي مكة والمدينة
والكوفة والبصرة والشام.»
١٧ وإذ يُقال إن «سبب اختلاف السلف في عدد الآي: أن النبي
ﷺ كان يقف على رءوس الآي للتوقيف، فإذا عُلِم محلها وَصَلَ
للتمام، فيحسب السامع حينئذٍ أنها ليست فاصلة.»
١٨ وهكذا فإن الشرط الإنساني يدخل في تَعداد الآيات؛ بما
يعنيه ذلك من أن التَّعداد المتحقق في المصاحف المتباينة، لآي القرآن،
يخلخل فكرة أن يكون عدد الآيات في المصحف القائم بأيدي المسلمين الآن
هو نفس عددها في اللوح المحفوظ، بحسب ما يروِّج أصحاب القول بأن ما في
المصحف هو انعكاسٌ مطابقٌ لما في اللوح المحفوظ، من دون أن يكون للشرط
الإنساني الخاص بالمتلقين أدنى تأثير في ذلك.
وإذا جاز قبول الاختلاف بخصوص عدد السور والآيات لارتباطه بالشرط
الإنساني المتمثل في طريقة أداء النبي للقرآن من جهة، وفي كيفية تلقِّي
السامعين له من جهة أخرى، فإن الاختلاف لا يجوز أبدًا بخصوص عدد كلمات
القرآن. إذ تبقى الكلمات بمثابة الوحدات الأولية الصغرى التي يمكن أن
تدخل في تراكيب (آيات وسور) يجوز الاختلاف بشأن أعدادها، بينما ينبغي
أن تظلَّ أعدادها — هي نفسها — ثابتةً وغير قابلةٍ للتغيُّر. فالتراكيب
قد تتباين عددًا بحسب طرائق التعامل معها، بينما تظل الوحدات الأولية
التي تتشكَّل منها هذه التراكيب ثابتة. ولسوء الحظ، فإن الاختلاف حول
عدد كلمات القرآن ليس من النوع الذي يُمكن تجاهله، لضآلة الفارق بين
التَّعدادات المذكورة للكلمات. إذ يروي «المنهال بن عمرو عن ابن مسعود
أنه قال: كلام القرآن سبعٌ وسبعون ألف كلمة، وتسعمائة كلمة، وأربع
وثلاثون كلمة. ورُوِيَ عن مجاهد وابن جبير: سبع وسبعون ألف كلمة
وأربعمائة وسبع وثلاثون كلمة. ورُوِيَ عن عطاء بن يسار: تسع وسبعون ألف
كلمة، ومائتان وسبع وسبعون كلمة. وعن أبي المعافي يزيد بن عبد الواحد
الضرير أنه قال: ست وسبعون ألف كلمة.»
١٩ وهكذا يصل الفارق بين بعض العادِّين إلى أكثر من ثلاثة
آلاف كلمة تقريبًا؛ وهو ما يجاوز حجم سورة متوسطة الطول من القرآن.
وبالطبع فإنه لو كان النبي، قبل رحيله، قد وضع للقرآن شكله النهائي
الذي كان يريد له أن يستقرَّ عليه، لما كان لمثل هذه الاختلافات أن
تنشأ أبدًا. لكنه يبقى أن هذه الاختلافات تظل كاشفةً عن دورٍ للمتلقين
في تركيب القرآن على النحو الذي استقر عليه في المصحف؛ وبكيفية يتأكد
فيها عدم التطابق بين قرآن «المصحف» وقرآن «اللوح المحفوظ». ولعل غياب
مثل هذا التطابق يبدو حجر الزاوية في السعي إلى استعادة «الطبيعة
التداولية للقرآن بوصفه خطابات متعددة السياقات من جهة، ومتعددة
المستقبلين التاريخيين من جهة أخرى.»
٢٠