«الإسلام وأصول الحكم»
لعل بعضًا من المصريين الذين صافحتْ عيونَهم — قبل ما يقرب من عامين — لافتاتُ الدعاية الملونة التي بعثرها دُعاة «حرب التحرير الإسلامي» في شوارع المدن المصرية، يُبشِّرون فيها بسعيهم إلى إقامة «الخلافة على منهاج النبوة»، قد بدا لهم أن مصر تستعيد، بعد الثورة التي أضرمتها في مطلع القرن الحادي والعشرين، ذات الأجواء التي عاشتها قبل تسعين عامًا بالضبط مع إعلان سقوط الخلافة. فقد اندلعت آنذاك ما يمكن القول إنها «معركة الخلافة» التي دارت رحاها بين المتنازعِين حول ما إذا كانت الخلافة دينًا وعقيدة أم أنها محض تاريخٍ وسياسةٍ. ورغم ما بدا من خفوت الزوابع التي أثارها الفُرقاء المتنازعون في عراكهم الذي انطلق مع ظهور كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، فإن عودة الخلافة لتكون موضوعًا للجدل في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، إنما يعني أن «سؤال الخلافة» لم يزل معلَّقًا كغيره من الأسئلة الكبرى المُثارة في عوالم العرب.
ولسوء الحظ، فإن الأمر لم يقف عند مجرد استمرار السؤال مُعلَّقًا فحسب، بل إنه بدا أن ما تراكم على مدى التسعين عامًا الماضية — منذ بدء اندلاع معركة الخلافة — قد جعل ثورات العرب التي أضرموها قبل سنواتٍ قليلةٍ تكاد تُعيدهم إلى عصور الخلافة، بعد أن كان الظن أن هذه الثورات قد اندلعت من أجل أن تدخل بهم إلى عصر الحداثة. ومن هذا ما جرى من أن مدينة الموصل العراقية — التي توقَّع لها السيد رشيد رضا قبل قرنٍ تقريبًا أن تكون عاصمة الخلافة لمكانها المتوسط بين العرب والترك — قد أصبحت فعلًا المَقَرَّ المُختار لمن جرى تنصيبه — وسط بحارٍ من الدم — كأول خلفاء المسلمين في القرن الحادي والعشرين. وهكذا فإنه إذا كانت المعركة الأولى، التي أعقبت إعلان سقوط الخلافة، قد وقفت عند حدِّ جعلها موضوعًا للمساجلات الشرعية النظرية، التي سرعان ما هدأت، بين الفرقاء المتنازعين، فإن المعركة الراهنة التي أعقبت ثورات العرب قد أحضرت لهم دولةً للخلافة بالفعل؛ ولو أنها كانت خلافة نيرانٍ ودماء. حيث يلحظ المرء أنه إذا كان الأمر قد اقتصر على العنف اللفظي الذي تعرَّض له صاحب «الإسلام وأصول الحكم» — لِمَا صار إليه من أن الخلافة هي «تاريخٌ وسياسة» وليست «دينًا وعقيدة» — فإنه قد تحوَّل إلى عنفٍ دمويٍّ يُمارسه المحاربون الدواعش، قطعًا للرءوس وإحراقًا للأحياء، تحت الرايات السوداء التي يرفعونها الآن. ولعله يبقى لزوم السؤال عن السبب في هذا التحوُّل الذي جعل «سؤال الخلافة» مُنتجًا لكل هذا العنف الدامي، بعد أن كان قبل قرن مجرد مُثيرٍ للسجالات العاصفة.
بل إنه يبدو — وللغرابة — أن الناقضين لاجتهاد صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، من الذين صاروا إلى اعتبار الخلافة شأنًا دينيًّا، هم الذين ينقطعون مع ما استقر عليه التقليد السنِّي من اعتبارها من ضرورات الاجتماع. وإذ يئول هذا القطع بصاحبه إلى الاندراج تحت مظلة التقليد الشيعي، فإنه يُجَلِّي مفارقة أن القائلين — في مواجهة صاحب «الإسلام وأصول الحكم» — بالطابع الديني للخلافة هم الأكثر خصومة مع التقليد الشيعي الذي يتميز باعتبار الإمامة شأنًا دينيًّا. وإذ لا يتعلق الأمر — والحال كذلك — بتحوُّل ناقضي دعوى الشيخ عبد الرازق إلى تبني التقليد الشيعي الذي لم تفتر سخونة خصومتهم معه، بل لعلها زادت، فإنه لا مجال لفهم هذه المعضلة إلا من خلال المصير إلى أن انقلابًا قد طال التقليد السنِّي، على النحو الذي جعل من التعالي بالخلافة إلى حيث تصبح من أصول الدين قولًا مقبولًا داخله. والمدهش هو ما يبدو من أن هذا الانقلاب قد تحقق كأحد تداعيات التلاقي العنيف بالذات بين هذا التقليد وبين الحداثة.
وهنا يلزم التنويه بأن استجابات التقليد السنِّي للتحدي الذي فرضته الحداثة الأوروبية على العالم الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن من طبيعةٍ واحدةٍ. بل المُلاحظ أنها قد تباينت في بعض المجتمعات الإسلامية عنها في الأخرى بحسب تباين الكيفية التي جرى بها التلاقي مع الحداثة. فإذ جرى التلاقي مع الحداثة في مصر مثلًا بطريقة مباينة لتلك التي جرى بها في الهند، فإن ذلك قد ترك أثرًا واضحًا على طبيعة التفكير في «المسألة السياسية» وغيرها. إذ فيما آل هذا التلاقي في الهند إلى إسقاط حكم المسلمين الذي استقر فيها على مدى ثمانية قرون، فإن ذلك قد فتح الباب واسعًا أمام ارتقاء «المسألة السياسية» إلى موقع الأصل في الإسلام. وأما في مصر فإنه لم يترتب على التلاقي مع الحداثة فيها ما يرتقي بالمسألة السياسية إلى مقام الأصل في الإسلام. وقد ارتبط ذلك بحقيقة أنه لم يترتب على التلاقي مع الحداثة في مصر أي تهديدٍ للإسلام أو المسلمين، بل لعله كان مدخلًا لإعمال ما كان مُعطَّلًا من مبادئ؛ من قبيل مبدأ الشورى الذي يعتبره المسلمون مبدأً أصيلًا في دينهم، بحسب ما يكشف عنه استحسان شيوخ الأزهر للإصلاحات التي أدخلها نابليون على طريقة الحكم في مصر. ولعل هذا التباين بين استجابتين لتحدي الحداثة يجد ما يدعمه في التباين الكبير بين نمطين في مسار حركة الإصلاح الديني؛ يقف على رأس أحدهما من لا يمكن الشك في انتسابه إلى فضاءات الإسلام الهندي (جمال الدين الأفغاني)، بينما يأتي على رأس الثاني المصري (محمد عبده).
فإذ يجعل الأفغاني من «المسألة السياسية» الأصل الرئيس في مشروعه لتجديد التفكير في الإسلام، فإن محمد عبده سوف يمضي، في المقابل، إلى إعلان البراءة الكليَّة من السياسة؛ وإلى حدِّ جعلها موضوعًا للسبِّ واللعنة. وبالطبع فإن ذلك يرتبط بالتباين الكبير بين التجربتين الهندية والمصرية؛ بمعنى أن ما عرفته الهند من إقصاء المسلمين عن حكمها قد جعل انشغال الأفغاني الجوهري لا يجاوز حدود التأكيد على ضرورة أن يكون الإسلام أساسًا لتشكيلٍ سياسيٍّ يجتمع فيه المسلمون الذين يتميزون — على قوله — برفضهم أي نوعٍ من العصبيات ما عدا عصبيتهم الإسلامية. وفي المقابل، فإن رجل الإصلاح المصري قد راح — مُنطلقًا من تجرِبةٍ مختلفةٍ — يركز على ضرورة تحرير الإسلام من استخدامه كقناعٍ يغطي على ضروبٍ من الجمود العقلي والاجتماعي التي تُعَدُّ هي المسئولة — وليست السياسة — عن التردِّي الحاصل في المجتمعات الإسلامية.
وفي المقابل، فإنه يمكن المصير هنا إلى أن الأفغاني — منطلقًا من تجرِبة الإسلام في الهند — كان هو أول من لامس في العصر الحديث — وعلى نحوٍ صريحٍ — فكرة أن ابتعاد الأمة عن الدين — وبكل ما ترتب على ذلك الابتعاد من التردِّي والخلل — إنما يرتبط بما جرى من انهيار الخلافة، وخروج الممالك والسلطنات عليها. وبالطبع فإنه كان لا بد أن يترتب على ذلك أن تكون عودة الدين — لكي تستردَّ الأمة مجدها السابق — مشروطة باستعادة الخلافة؛ وبما يعنيه ذلك من ابتداء تبلور «المسألة السياسية» كمركز للتفكير في أزمة الإسلام والأمة في العصر الحديث. ولسوء الحظ، فإن هذا النوع من التفكير الذي يرد الأزمة إلى غياب الدين، ثم يختزل هذا الغياب للدين في الانهيار الذي أصاب الخلافة، كان هو الذي قاد في النهاية إلى النزوع الدائم لتسييس الإسلام. ومن هنا ما يمكن قوله من أن الأفغاني هو نقطة البَدء في المسار الطويل لتسييس الإسلام الذي انطلق من الهند في القرن التاسع عشر، ثم تواصل مع رشيد رضا، الذي تتلمذ عليه حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين التي تناسلت منها كل حركات الإسلام السياسي التي تنشط الآن في نشر الخراب والفوضى في مشرق العالم العربي ومغربه.
ولسوء الحظ، فإن خطاب تسييس الإسلام — الذي كان الأفغاني هو من دشَّنه — سوف يتنامى إلى حدِّ إنتاج المفهوم الأخطر في الإسلام السياسي؛ وهو مفهوم «الحاكمية الإلهية» الذي سوف يأتي إلى العالم العربي من فضاءات الإسلام الهندي، ولكن مع أبي الأعلى المودودي هذه المرة. وبحسَب هذا المفهوم، فإن الخلافة والحكم السياسي سوف تتحول لتصبح جزءًا من صميم الألوهية ذاتها. ومن هذا ما يقوله المودودي: «ألم تر أنه بينما جاء في القرآن أن الله تعالى لا شريك له في الخلق وتقدير الأشياء وتدبير نظام العالم، جاء معه أن الله له الحُكم وله المُلك، وليس له شريك فيهما، مما يدل دلالة واضحة على أن الألوهية تشتمل على معاني الحكم والمُلك أيضًا، وأنه مما يستلزمه توحيد الإله ألا يُشرَك بالله تعالى في هذه المعاني كذلك.» لقد بلغ الأمر إذن إلى حدِّ الارتقاء بالخلافة والحكم إلى مقام «العقيدة» التي يكون مطلوبًا من الناس أن يتعبَّدوا لله بإقامتها. وللغرابة فإنه قد بات ممكنًا أن يتصور المرء أن يكون لهؤلاء «عقيدتهم في الحاكمية أو الخلافة» بمثل ما يتحدث خصومهم من الشيعة عن «عقيدتهم في الإمامة». ولعل ذلك يُجَلِّي معضلة التقليد السنِّي الذي فرض عليه تلاقيه مع الحداثة أن يشهد هذا الانقسام الذي يشقى به بين تصورين متناقضين للخلافة؛ تكون في أحدهما «مصلحة دنيوية»، بينما تكون في الآخر «عقيدة إلهية». وهكذا فإنه إذا كان إبعاد «آل البيت» عن السلطة السياسية قد أدى بأصحاب التقليد الشيعي إلى أن يكتبوا «عقيدتنا في الإمامة»، فإن إسقاط المسلمين السنَّة من على سُدَّة الحكم في الهند قد اختَطَّ مسارًا راح فيه البعض من أصحاب التقليد السنِّي يقتربون من حدود الكتابة في «عقيدتهم في الخلافة». إن المفارقة هنا تتأتى من أن واحدًا من مسارات «الحداثة» في العالم الإسلامي هو الأصل الذي يقف وراء تديين السياسة، واعتبار إقامة الخلافة مُعتقدًا وعبادة في التقليد السنِّي.
وإذا كان ما جرى من تحوُّل الخلافة في التقليد السنِّي المتأخر إلى «دينٍ وعقيدة» قد تحقق بتأثير نوعٍ معين من التلاقي مع الحداثة، فإن ذلك يئول — وللمفارقة — إلى بيان أن ما ينافح عنه صاحب «الإسلام وأصول الحكم» من اعتبارها مجرد «تاريخٍ وسياسة» هو ما يتجاوب مع التراث السابق للتقليد السُّنِّي الذي استقر — مع أحد كبار بنائيه (وهو الماوردي) — على اعتبار السياسة والسلطان، والخلافة بالتالي، هي إحدى أهم ضرورات الاجتماع البشري ولوازمه؛ بما يعنيه ذلك من أنها شأنٌ دنيويٌّ لا ديني. وفضلًا عن ذلك فإنه يبقى، في النهاية، أنه إذا كان «الإسلام وأصول الحكم» إنما يتواصل مع المسار العربي — أو حتى المصري — في الإصلاح الذي انشغل بتحرير الإسلام من الاستخدام كقناعٍ يتم التغطية به على ضروب متعددةٍ من الجمود العقلي والاجتماعي والسياسي، فإن ما يكشف عنه الحاصل الآن في العالم العربي من سعي فيالق العنف الجهادي إلى بناء دولة تكون بمثابة أداتها في الانسحاب من عوالم المدنيَّة، والارتكاس إلى عصورٍ كان فيها الدين مجرد غطاءٍ تستتر وراءه غرائز العدوان والعنف، إنما يئول إلى تأكيد القيمة القصوى لاستدعاء هذا المسار الذي يبقى «الإسلام وأصول الحكم» واحدًا من مناراته الكبرى.