مصر وإندونيسيا والأزهر والتطرف!
عند ثلاثينيات القرن المنصرم، أرسل واحدٌ من مُسلمي جزيرة جاوة الإندونيسية سؤالًا يطلب الجواب عليه من القائمين على مَجلة المنار المصرية، التي كان قد أنشأها الأستاذ الإمام محمد عبده قبل بضعة عقود. وعندما وقع السؤال في يد السيد رشيد رضا، فإنه لم يجد من هو أنسب من الأمير شكيب أرسلان ليرسل إليه السؤال طالبًا منه الجواب عليه. وإذ كان الرجل الجاوي يسأل: لماذا تخلَّف المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟ فإن السيد أرسلان قد جعل من هذا السؤال عنوانًا لكتابه المعروف تقريبًا للكافَّة؛ والذي راح يُعدِّد فيه أسباب تخلُّف قومه في مقابل أسباب تقدُّم غيرهم. وإذ يبدو، هكذا، أن الرجل الجاوي لم يجد من يستفسر منه عن معضلة التخلف والتقدم إلَّا في مصر، فإن ذلك لا يكشف فحسْب عن الحضور الذي كان لمصر كأحد مراكز التفكير الكبرى في العالم الإسلامي آنذاك، بل يؤكد — وهو الأهم — على أن الجغرافيا وإن كانت قد باعدت بين المسلمين في المكان، فإنها لم تباعد بينهم في الأزمة.
وهنا فإنه إذا كانت أزمة «التخلف والتقدم» هي التي جمعت بين المسلمين في الحقبة الكولونيالية التي انحسرت مع النصف الثاني من القرن العشرين؛ فإنه يبدو أن مواجهة أزمة «التشدد والعنف» هي ما يجمع بينهم الآن. وبمثل ما أظهروا من التشارك في الانشغال بأزمة التخلف، فإن ذات التشارك يبقى ضروريًّا في مواجهة أزمة التشدد الراهنة، التي تكاد تدخل بالعالم الإسلامي إلى حقبة من الخراب والفوضى. وضمن هذا السياق، فإن التشارك بين الدول المؤثرة في محيطها الإقليمي (كمصر وإندونيسيا مثلًا) يكون على درجةٍ عالية من الأهمية. ويرتبط ذلك بحقيقة أن التشدد — وما يقارنه من العنف — يبدو ظاهرةً عابرةً أو حتى معولمة، وتحتاج — بالتالي — إلى استراتيجية في المواجهة تتجاوز مجرد تنسيق المواقف إلى وجوب فهم التجارب.
وضمن سياق السعي إلى فهم التجارب، فإنه يلزم استيعاب التجرِبة الإندونيسية مقارنة بالتجرِبة المصرية. وإذ يدرك المرء ضروبًا من التماثل المُلفت بين عناصر التجربتين، فإن في التجرِبة الإندونيسية ما يغيب عن نظيرتها المصرية، ويبقى حاسمًا في ما يخص قدرة إندونيسيا على محاصرة التشدد، بل حتى التغلب شبه الكامل عليه، مقارنة بمصر. وفيما يخص ضروب التماثل بين مصر وإندونيسيا، فإن البلدين قد تحررتا من القبضة الاستعمارية في نفس الفترة تقريبًا، ومن خلال الشرائح التي تَبلور وعيُها في إطار الجيوش الوطنية الحديثة. فقد كانت هذه الشرائح هي الأكثر من غيرها استيعابًا لمطالب ومقتضيات بناء الدولة الحديثة. وإذ تبلورت التجرِبة التحررية لكلٍّ من مصر وإندونيسيا في إطار الحرب الباردة التي اندلعت بين القطبين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى؛ فإن البلدين قد لعبا دورًا فعَّالًا في بناء سياسة تقوم على ما قيل إنه الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والتي جرى تدشينها في باندونج الإندونيسية.
ورغم النجاح النسبي الذي حققته الدولتان في مجالات شتى، تحت القيادة التاريخية لكلٍّ من ناصر وسوكارنو، فإن عوامل متعددة قد تضافرت بما أدى إلى إسقاط النظامين معًا عند أواخر ستينيات القرن الماضي تقريبًا. بعض هذه العوامل يتعلق بما مورس على النظامين معًا من ضغوط الخارج، وبعضها يتعلق بالعجز عن بناء نظام سياسيٍّ يتجاوز التمركز حول الحضور الطاغي لشخص الزعيم، بحيث ينتهي كل شيء بمجرد غيابه على نحو ما حصل في البلدين معًا. وهكذا فإن غياب الزعامة التاريخية في كلا البلدين قد فتح الباب أمام تبلور أنظمةٍ سياسية لم يحصد الناس من ورائها إلا محض الاستبداد والفساد، على نحو ما انعكس في الحكم المديد لكلٍّ من سوهارتو ومبارك. فكلا الرجلين لم يعرف من سياسة (في الخارج) إلا التبعية والتفريط، وأما في الداخل فإنه لا شيء يملكانه إلا الإفساد والتضييق. ومن هنا فإن مآلات النظامين كانت واحدة تمامًا؛ حيث أسقط الإندونيسيون سوهارتو مع نهاية القرن العشرين، وذلك فيما أسقط المصريون مباركًا مع نهاية العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ولكن ما تلا الثورة لم يكن واحدًا في كلا البلدين؛ ففي حين أن إندونيسيا — التي أنجزت قبل أشهرٍ قليلةٍ انتخابات رئاسية هادئة — لم تَنجرَّ إلى دوامة من الاضطراب والقلق التي كان يمكن أن تُعرقل تحولها الديمقراطي، فإن مصر لم تعرف — على مدى السنوات اللاحقة على ثورتها، وربما حتى الآن — إلا أشكالًا من عدم الاستقرار التي تُمثل تهديدًا لا يزال يحدق بمسعاها لبناء ديمقراطيتها. ولعل هذا التباين لا يجد ما يُفسره إلا في الإسلام السياسي تحديدًا؛ بمعنى أن الغياب الواضح لهذا العنصر في البيئة الإندونيسية هو ما يمكن أن يفسر النجاح النسبي لتحولها الديمقراطي، وذلك فيما لا يكاد يُجادل أي أحد في أن هذا العنصر بالذات هو ما يقدر على تفسير ما يحيط بالمسار الديمقراطي في مصر من عوائق وتحديات.
ولعل قدرة إندونيسيا على تحييد ظاهرة الإسلام السياسي — رغم أنها البلد الأغزر سكانًا من المسلمين — ترتبط بأن قضية الإسلام في إندونيسيا لم تكن «الدولة»، بل كانت «المجتمع»؛ بمعنى أنه لم ينشغل بالسيطرة على الدولة لتكون أداته في فرض هيمنته على المجتمع، بقدر ما كان منشغلًا بالتغلغل في المجتمع على النحو الذي يسمح له بتوجيهه والتأثير الإيجابي فيه. ومن هذا أن آباء الاستقلال الأوائل لم يقبلوا بتضمين أول دستور كتبوه لإندونيسيا ما يحيل إلى ربط الدولة بالإسلام، وتبنَّوا مبدأ «البانساشيلا» الذي يستوعب التعدد الديني والثقافي في إندونيسيا. ولقد تجلى الحضور الاجتماعي للإسلام في إندونيسيا من خلال الجمعيتين الأضخم من حيث عدد الأتباع في العالم؛ وهما جمعية «نهضة العلماء» وجمعية «المحمدية» اللتان يُهيمنان على الفضاء الإسلامي الإندونيسي.
ومن حسن الحظ، أن من يقف على رأس جمعية نهضة العلماء التي تلعب دورًا حاكمًا في الشأن الإندونيسي هو فضيلة الشيخ «مصطفى بصري» الذي يفخر بكونه أحد خريجي الأزهر في ستينيات القرن الماضي. وإذ يُجاهر الرجل بحبه لمصر وافتخاره بأزهرها، فإن للمرء أن يتمنى لو أن مصر تتواصل مع هؤلاء المحبين ليشاركوها معركتها في مواجهة مؤدلجي الإسلام.