لماذا أخفق الإصلاح الديني في الإسلام؟
إذا كان الانشغال بالمسألة السياسية هو الأصل فيما أصاب خطاب النهضة
العربية الحديثة، على العموم، من الإخفاق والعجز، فإنه يجوز تصوُّر أن
يكون هذا الانشغال ذاته هو الجذر الغائر لما طال الإصلاح الديني في
الإسلام من العجز والإخفاق ذاتهما. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن الإصلاح
الديني قد نشأ، هو نفسه، بوصفه أحد الصور — أو حتى الأقنعة — التي
يشتغل بها، ومن ورائها، خطاب النهضة العربية الحديثة. وبالطبع فإن ذلك
يلزم عنه أن يتحدد الإصلاح بذات المحددات الحاكمة لخطاب النهضة على
العموم؛ أعني أنه إذا كانت السياسة هي المحدد الحاكم لخطاب النهضة
الحديثة، فإنها قد راحت تمارس ضغوطها على الإصلاح وتوجِّه خطابه على
نحوٍ شبه كاملٍ. ولسوء الحظ، فإن هذه الضغوط السياسية على الإصلاح قد
انتهت به إلى المآلات التعيسة التي انتهى إليها كل شيء في العالم
العربي، حيث لم يحصل منها العرب إلا على «الإسلام السياسي» الذي استحال
إلى رايةٍ سوداء تحارب تحت ظلالها الفيالقُ المنفلتة الهائجة التي
تنخرط الآن في نشر الخراب والفوضى في مشرق العالم العربي
ومغربه.
ويرتبط ذلك بما تئول إليه السياسة من إجبار الخطاب، الذي تصبح مركزًا
له، على الانشغال بكل ما هو «إجرائي»، على حساب ما يمكن القول إنه
الإهدار الكامل لما هو «تأسيسي». وهكذا فقد وجَّهت السياسة خطاب النهضة
العربية الحديثة إلى الوقوف عند محض الجوانب الإجرائية في الحداثة
الأوروبية التي اصطدم معها عند بداية القرن التاسع عشر؛ وبمعنى أنه لم
يعرف إلا مجرد استهلاك منتجاتها البَرَّانية الصُلبة. وكان ذلك،
بالطبع، على حساب الإهمال شبه الكامل للقيم والمبادئ التأسيسية الكبرى
التي هي الأساس الجَوَّاني الذي أنتج الحداثة نفسها. وهكذا مثلًا، فإن
الخطاب قد انشغل باستهلاك المُنتَج النهائي للعلم الحديث، من دون أن
ينشغل بامتلاك «العقل الحديث» بوصفه المبدأ التأسيسي الذي قام عليه
بناء هذا العلم نفسه. بل إن الخطاب قد راح يجاور بين استغراقه في
استهلاك المنتجات البَرَّانية للعلم الحديث، واشتغاله بذات «العقل
التقليدي» الموروث. ولقد كان من الحتم أن تصبح «التلفيقية» — والحال
كذلك — هي السمة الجوهرية لخطاب النهضة؛ وبالكيفية التي كان لا بد أن
تنتهي به إلى مآلاته التعيسة.
فإنه ليس من شكٍّ في أن هذه «التلفيقية» هي ما ستجعل الطهطاوي يضع
«تدبير السياسة الفرنساوية» القائم على: «إن ملك فرنسا ليس مطلق
التصرُّف، وإن السياسة الفرنساوية هي قانونٌ مقيِّد.»
١ إلى جوار «تدبير الدولة المصرية» القائم على: «إن للملوك
في ممالكهم حقوقًا تسمَّى بالمزايا، فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في
أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه في فعله مسئولية لأحدٍ من رعاياه.»
٢ ولقد كان ذلك بمثابة التجسيد الفعلي — في مسألةٍ بعينها —
لحقيقة أن الطهطاوي لم يفعل، على العموم، إلَّا أن طلب من التراث
الأشعري أن يرقد في سلامٍ، كمكوِّن جَوَّاني، تحت زخارف الممارسة
الحديثة، كمكوِّن بَرَّاني، ليتشاركا معًا في بناء خطابه الذي لا يزال
يشتغل — في عالم العرب — للآن. وهكذا فإن مبدأ «التحسين والتقبيح
العقليين»، ذا الأصل المعتزلي، الذي استخدمه الطهطاوي كجسرٍ ينقل
بواسطته ممارسة المُحدَثين إلى عالمه، قد كان عليه أن يتجاور مع مبدأ
«نفي السببية» الأشعري، القاضي بأن «التأثير في الحقيقة للمولى سبحانه
وتعالى، وأن إطلاق لفظ المؤثِّر على السبب إنما هو باعتبار الظاهر.»
٣ وكان ذلك يعني أن ما يستحيل قيامه إذا غابت السببية (وهو
مبدأ التحسين والتقبيح العقليين) عليه أن يشتغل إلى جوار مبدأ «نفي
السببية» المناقض له، وعلى النحو الذي بدا معه أنه خطاب النقائض
المتجاورة.
ولقد راحت هذه التلفيقية نفسها تضرب خطاب الإصلاح الديني بقوةٍ، وإلى
الحد الذي انتهى به إلى نهاياته الدامية التي يتردى فيها العرب الآن.
وهنا فإنه إذا كانت هذه التلفيقية قد ظهرت صافيةً عند رجل الإصلاح
الأول (جمال الدين الأفغاني) ابتداءً من الهيمنة الكلية للمسألة
السياسية على خطابه، فإن خفوت صوت السياسة عند تلميذه محمد عبده قد جعل
التلفيقية عنده أقل بروزًا مما هي عليه عند أستاذه. وإذ يعود صوت
السياسة زاعقًا مع رشيد رضا (تلميذ الأستاذ الإمام)، بسبب التطورات
التي ستبلغ ذروتها مع إعلان سقوط الخلافة، فإن الأمر سيتجاوز — مع ورثة
رضا — مجرد الانبناء «التلفيقي» إلى الانقلاب من «الإصلاح» إلى
«الإسلام السياسي».
فإذ بدا للأفغاني أن من أسماهم «المغفلين من الإفرنج»، يردُّون ما
يعيشه «المسلمون من فقرٍ وفاقةٍ وتأخرٍ في القوى الحربية والسياسية عن
سائر الأمم.»
٤ إلى الإسلام وعقائده، فإن سعيه إلى دفع هذا الاتِّهام قد
جعله يتبنَّى آليةً اعتذارية تقوم — بالأساس — على تصور أن ما يَرُدُّ
إليه الإفرنج «تأخر المسلمين» ليس هو الإسلام/الأصل، بقدر ما يمثل
نوعًا من الإسلام/المُحرَّف/المُشوَّه الذي صنعته عصور الانحطاط.
وكالمُتوقع، فإنه يمكن تصوُّر أن استعادة هذا الإسلام/الأصل النقي تمثل
جوهر ما يُقال إنه خطاب الإصلاح الذي انشغل بتجديد الإسلام في القرن
التاسع عشر.
وإذ الإسلام/الأصل هو إسلام ما قبل التأويل، فإنه يبدو — لسوء الحظ —
أن تحليلًا لتفكير رجل الإصلاح يكشف عن أن الإسلام المُستعاد عنده لم
يكن الإسلام/الأصل (على فرض أن هناك مثل هذا الإسلام حقًّا)، بقدر ما
كان، بدوره، من قبيل الإسلام المؤوَّل. وبالطبع فإن ذلك يعني أنه إذا
كان الإسلام/المُحرَّف هو كذلك لأنه ليس أصلًا، بل مؤَوَّلًا، فإن ما
راح الإصلاحيون يستعيدونه على أنه الإسلام/الأصل قد كان — وللغرابة —
إسلامًا مؤوَّلًا أيضًا. فإن ما كان يستدعيه رجال الإصلاح كأصلٍ، لم
يكن إلا مجرد أحد التأويلات التي اتسع لها الخطاب الذي تحققت له
السيادة في الإسلام. وينشأ ذلك عن حقيقة أن هذا الخطاب المهيمن يتسع
لأقوالٍ وتأويلات لا يُلغي ما قد يقوم بينها من الاختلاف حقيقة
اندراجها تحت مظلته الواسعة، بحسب ما تنطق دلالة مفهوم الخطاب. وإذ
الإسلام المُستعاد بوصفه الأصل/النقي هو — والحال كذلك — مجرد قولٍ
مؤَوَّل، فإن ذلك يعني أنه لا يختلف — في العمق — عن نقيضه المُحرَّف.
بل إن الأمر يتجاوز مجرد ذلك إلى حقيقة أنه يكاد — وللمفارقة — أن يكون
بمثابة إعادة إنتاج لنفس ما جرى النظر إليه على أنه الإسلام/الُمحرَّف،
وإن كان على نحوٍ مراوغٍ أو مخفف نسبيًّا. ويعني ذلك أن ما يُقال إنه
الإسلام/المحرَّف سوف يكون قادرًا على أن يطوي تحت مظلته ما يتعامل معه
رجل الإصلاح على أنه الإسلام/الأصل، ولعل ذلك ما تؤكده قراءةٌ مدققة
لما كتبه الأفغاني حول عقيدة «القضاء والقدر»، التي رأى رجل الإصلاح
الكبير أنها بمثابة «حصان طروادة» الذي يتسلَّل بواسطته الإفرنج للنيل
من الإسلام.
فهم (أي الإفرنج) يذهبون — على قوله — إلى أن المسلمين قد «قعدوا عن
الحركة إلى ما يلحقون به الأمم في العزة والشوكة، وخالفوا في ذلك أوامر
دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم، يتقدمون عليهم ويباهون
بما يكسبون … ونسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن
لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر، وتحويل جميع مهماتهم على
القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن
تقوم لهم قائمةٌ، ولن ينالوا عزًّا.»
٥ ومن جهته، فإن الأفغاني يأخذ عليهم أنهم لم يفرِّقوا «بين
الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بأن
الإنسان مجبورٌ في جميع أفعاله، وتوهَّموا أن المسلمين بعقيدة القضاء
يرون أنفسهم كالريشة المُعلَّقة في الهواء تُقلِّبها الرياح كيفما تميل.»
٦ وبما يحيل إليه ذلك من تمييزه القاطع بينهما. ومن هذا ما
صار إليه من أنه «لا يوجد مسلمٌ في هذا الوقت؛ من سُنِّي وشيعي وزيدي
وإسماعيلي ووهَّابي وخارجي، يرى مذهب الجبر المحض ويعتقد سلب الاختيار
عن نفسه بالمرة، بل كلٌّ من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءًا
اختياريًّا في أعمالهم، ويسمى الكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم.»
٧ وضمن سياق هذه المقابلة، فإنه لا بد من توقُّع أن «الكسب»
سيقوم — عند الأفغاني — مقام الإسلام/الأصل المقبول، وذلك فيما سيكون
«الجبر» هو القول الناطق عن الإسلام/المُحرَّف المرذول. وبعبارة أخرى،
فإن «الكسب» سيكون هو الأصل الذي جرى الانحراف عنه إلى «الجبر»، وبما
لا بد أن يترتب على ذلك من أن جوهر «التجديد» عنده سوف يتمثل في السعي
إلى استعادة الكسب/الأصل، باعتباره النقيض الكامل للجبر/الانحراف. ولعل
ما يلفت النظر هنا هي تلك التسوية التي يقيمها الأفغاني بين
الإسلام/الأصل وبين الكسب، وهي التسوية التي تستهدف التغطية على
المضمون الأيديولوجي للكسب الذي يجعل منه مرادفًا للجبر على نحوٍ يكاد
أن يكون كاملًا. ولسوء الحظ، فإنه يترتب على هذه التغطية انفتاح الباب
واسعًا أمام تثبيت الجبر الذي يجري استدعاء الكسب لكي يكون الأداة التي
ترفعه، وتلك هي مفارقة التجديد التي تجعله يئول — عند الأفغاني — إلى
تثبيت نقيضه.
إذ تكشف هذه القراءة عن أن القول الأشعري في القضاء والقدر الذي
اعتبره الأفغاني بمثابة الأصل/المقبول لا يكاد يختلف، في جوهره، عن
القول الجهمي فيها الذي اعتبره، في المقابل، من قبيل التأويل المرذول؛
وبما يعنيه ذلك من إمكان اندراج الواحد من القولين الجهمي والأشعري تحت
مظلة الآخر، رغم ما يبدو من تباينهما الظاهر. إذ يبدو أن جوهر التباين
بينهما لا يتجاوز حقيقة أن أحد القولين (وهو الجهمي) يُقرر «مذهب الجبر
المحض» على نحوٍ صريحٍ، وذلك فيما يقرر الآخر (وهو الأشعري) «مذهب
الجبر» أيضًا، ولكن على نحوٍ مراوغٍ وملتبسٍ. وبالطبع فإن ذلك يعني أن
التجديد عند الأفغاني لا يتجاوز حدود استبدال مضمونٍ بآخر لا يختلف عنه
إلا في الدرجة، وليس في النوع، وبما يؤكد على أنه يشتغل فيما دون نظام
الخطاب الذي ينبغي أن تكون له الأولوية القصوى في الاشتغال.
فالحق أن الكسب لا يختلف عن الجبر في انتهائه إلى سلب القدرة الفاعلة
عن الإنسان. فقد صار أصحاب نظرية الكسب من الأشاعرة إلى أن القدرة هي
«صفةٌ قديمةٌ أزليةٌ قائمة بذات الرب تعالى، متَّحدة لا كثرة فيها،
متعلقةٌ بجميع المقدورات.»
٨ ويعنون بالمقدورات «الممكنات كلها التي لا نهاية لها.»
٩ وهكذا فإن القدرة تتسع لتتعلق بكل ما في العالم من ممكناتٍ
بحيث «لا يمكن أن يُشار إلى حركةٍ ما، فيُقال إنها خارجةٌ عن إمكان
تعلُّق القدرة بها.»
١٠ وليس من شكٍّ في أن أفعال العباد هي من بين الممكنات التي
تتعلق بها هذه القدرة الأزلية «المتعلقة بجميع المقدورات.» فإن ثمة
«برهان قاطع على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى، وكل حادثٍ ممكن،
وفعل العبد حادث، فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق به قدرة الله، فهو محالٌ.»
١١ ومن هذا ما «زعمه أبو الحسن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة
العبد في مقدوره أصلًا، بل القدرة (الخاصة بالعبد) والمقدور واقعان
بقدرة الله تعالى.»
١٢ وبالطبع فإنه لا مجال، مع هذا النفي الكامل لقدرة العبد،
للحديث عن «جزءٍ اختياري للعباد في أعمالهم، يُسمَّى بالكسب.»
١٣ حيث الكسب — في حقيقته — ليس أكثر من حيلة لغوية للإفلات
من الشناعات التي يتأدى إليها نفي قدرة العبد. فقد أدرك الأشاعرة أن
«في المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطعٌ لطلبات الشرائع.»
١٤ حيث إن إثبات هذا الأثر هو شرطٌ في التكليف. وآنئذٍ فإنهم
راحوا يلتمسون أثرًا لقدرة العبد في فعله عبر ما يقولون إنه الكسب.
وهكذا فإنه كان على الأشعري أن يبسط نظرية في الكسب، صار فيها إلى أن
الله تعالى هو خالق الأفعال جميعًا، وأن العباد كاسبون لها بقدرةٍ
حادثةٍ مخلوقة لهم. فإن «الله قد أجرى سُنَّته — حسَب الأشعري — بأن
يُحَقِّقَ عَقِيبَ القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعلَ الحاصل
إذا أراده العبد وتجرَّد له، ويُسمَّى هذا الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من
الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد (بالقدرة التي يُحدثها
الله فيه طبعا).»
١٥ ورغم كل شيءٍ، فإن حيلة الكسب لم تفلح في رفع عبء القول
بالجبر عن الأشاعرة؛ لأنه يبقى أن القدرة التي يكسب بها البشر الأفعال
التي خلقها الله لهم، ليست فقط مخلوقةً من الله بدورها، بل إنها تكون
فقط قدرة على الترك دون الفعل. وهكذا فإنها ليست جوهرًا أصيلًا في
الإنسان، بل هي مجرد عَرَضٍ يلحق به من الخارج؛ ولأن العَرَضَ لا يبقى
— حسب الأشاعرة — زمانين، فإن القدرة بدورها لا تبقى، بل تزول في حال
زوال الفعل الذي تصحبه.
١٦ ولا شك أن قدرةً هي محض عَرَضٍ زائلٍ لا يمكن أن تكون
عنصرًا في فعلٍ يمكن نسبته إلى الاختيار، وذلك إلا أن يكون مجردَ
الاختيار في «الظاهر»، وأما في «الحقيقة» فإنه لا مجال إلا للجبر، ولا
شيء سواه. وهنا تحديدًا تنبثق ثنائية الظاهر والحقيقة التي يستوعب من
خلالها الأشاعرة نسبة الفعل إلى كلٍّ من الإنسان والله؛ بمعنى أن الفعل
يكون منسوبًا إلى الإنسان في «الظاهر» فحسب، وأما في «الحقيقة» فإنه لا
مجال لنسبته إلا إلى الله وحده. وبالطبع فإنه ليس من معنًى لتلك
الثنائية إلا أن «الجزء الاختياري في الفعل» هو مجرد وهم ظاهريٍّ، وأما
«الجزء الجبري فيه» فإنه الجانب الأكثر حقيقة فيه. وليس من شكٍّ أبدًا
في أن إثبات الاختيار — بالكسب — في الظاهر، سيئول — لا محالة — إلى
تثبيت الجبر في الباطن؛ وهي المفارقة التي لا تفارق فعل التجديد حين
يشتغل تحت مستوى نظام الخطاب.
ولعل هذا التثبيت للجبر — في الحقيقة — هو ما سينتهي إليه، بالفعل،
الكسب الأشعري الذي يستدعيه الأفغاني ليُصلح به الدين. ولقد راح هذا
الجبر المتخفِّي وراء الكسب يسعى إلى تثبيت نفسه من خلال نظرية «الفاعل
الأوحد» التي كانت الأساس النظري — أو حتى العقائدي — الذي ترتكن إليه
الأُوتوقراطيات العربية؛ سواء القديمة أو الحديثة. فإنه ليس من شكٍّ
أبدًا في أن «الكسب»، بمعنى إثبات فاعلية للإنسان في الظاهر، هو ما يقف
وراء ما صار إليه الغزالي — في سياق خصومته مع الشيعة — من وجوب أن
«ينظر الناظر إلى مرتبة الفريقين (السنَّة والشيعة)؛ إذ نسبت (الشيعة)
الباطنية نفسها إلى أن نصب الإمام عندهم من الله تعالى، وعند خصومهم
(الأشاعرة/السنة) من العباد، ثم لم يقدروا على بيان وجه نسبة ذلك إلى
الله إلا بدعوَى الاختراع على رسوله في النص على عليٍّ، ودعوى تنصيصه
على أحد أولاده بعد موته، إلى ضروب الدعاوَى الباطلة. ولما نسبونا
(يعني الأشاعرة/السنة) إلى أنَّا نُنصب الإمام بشهوتنا واختيارنا،
ونَقَموا ذلك منَّا، كشفنا لهم بالآخرة أنَّا لسنا نقدم إلا من قدمه
الله …، فكأنَّا في الظاهر رددنا تعيين الإمام إلى اختيار العباد، وفي
الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى ونصبه.»
١٧ وهكذا فإنه يقرر صريحًا أن الجزء الاختياري المنسوب إلى
العباد من فعل تعيين الإمام، والمُسمى بالكسب، لا يجاوز حدود أنه مجرد
اختيارٍ في الظاهر، وأما في الحقيقة فإنه مردودٌ إلى اختيار الله.
وبحسب تمييز الغزالي بين اختيارين؛ أحدهما للإنسان في الظاهر، وثانيهما
لله في الحقيقة، فإنه يبدو أن ترتيبه للعلاقة بينهما يُحيل إلى أن دور
الإنسان لا يجاوز كونه مجرد «أداة» يحقق الله من خلالها اختياره. وهنا
يلزم التنويه بأن هذا التصور للإنسان كأداة هو الآلية المراوغة التي
يتحقق من خلالها الجبر في الواقع الفعلي.
فإذ تَكاد الأشعرية أن تُلاشي الفرق بين الله والحاكم، إلى الحدِّ
الذي يُقاس فيه الله على الحاكم — حيث «الدليل على أنه (الله) مُريدٌ
بإرادةٍ قديمةٍ، أنه قام الدليل على أنه مَلِك، والمَلِك من له الأمر
والنهي (والإرادة)، فهو (أي الله) آمرٌ وناهٍ (ومُريد)»
١٨ — فإن ذلك يَؤُول إلى لزوم أن يكون وضع الإنسان بالنسبة
للحاكم هو نفس وضعه بالنسبة لله. وبمعنى أن «الكسب الأشعري» لن يكتفي
بأن يؤسس لتصور أن الإنسان أداةٌ لله في المجال العقائدي، بل وكذا
لتصور أنه أداةٌ للحاكم في المجال السياسي. ولعل هذا التصور للإنسان،
كأداة، هو أخطر ما تنتهي إليه نظرية الكسب الأشعري؛ وهو التصور الذي لا
يزال يحكم الممارسة العربية للآن. حيث يبقى للآن أن هذه الممارسة تنبني
— أو تكاد — على اعتبار أن الحاكم هو المريد القادر وحده في الحقيقة،
وأما سائر المحكومين فإنهم محض فاعلين في الظاهر، ولكنهم لا يجاوزون —
في الواقع — حقيقة أنهم مجرد «الأدوات» التي يَجري بها إنفاذ إرادة هذا
الحاكم وتحقيق مشيئته.
فإن نظرةً على واقع العرب تَؤُول إلى أن نظرية (الفاعل الأوحد)،
بجانبيها المتعلِّقين بتحصين الملوك وإفرادهم بالفاعلية، وطرد الناس من
ساحة السياسة بالكليَّة، لا تزال تمارس للآنِ هيمنة لا يمكن تحديها على
نحوٍ جِدِّيٍّ. ويرتبط ذلك — لا محالة — بحقيقة تحوُّلها من «فعلٍ
سياسي» إلى «معتقدٍ ديني». وغنيٌّ عن البيان أن هذا «المعتقد الديني»
ذا الأصل السياسي كان هو الذي يقف وراء ما جرى في ميدان التحرير، في
نفس الليلة التي تنحَّى فيها مبارك، حين رفع الإسلاميون شعارهم: «الله
وحده هو الذي أسقط النظام.» ولقد كانوا بذلك يردُّون «المعتقد الديني»
إلى «الأصل السياسي» الذي نشأ منه، لكنه كان يعود على النحو الذي
يتوافق فيه مع ما استقرَّ عليه خطاب النخبة (الحديثة!) من النظر إلى
المجتمع على أنه مجرد أداة وفقط، فإنه كان يجري التحوُّل به من أن يكون
أداة لدولة الباشا ونخبته، إلى أن يكون أداة لله، أو — بالأحرى —
لوكلائه الناطقين باسمه. وضمن هذا السياق، فإنه إذا كان المصريون هم
«الأدوات» التي أسقط الله بها مباركا عن السلطة، فإنهم سيكونون
«أدواته» التي سيرفع بها الإسلاميين ليأخذوا مكانه الخاوي. لكنه يبقى
أنه حين يكون الله هو الذي رفع الإسلاميين إلى السلطة من خلال أدواته،
فإن من سيحاولون إنزالهم عنها، لن يكونوا — بحسَب ما قال أحد دُعاتهم
المصريين أخيرًا — إلا خوارج معاندين لحكم الله، ومستحقِّين، لذلك،
لنفس جزاء المفسدين في الأرض (من التقتيل والصَّلب من خِلافٍ). وهكذا
يظل الخطاب (حداثيًّا وتقليديًّا) يتنزَّل بالناس إلى مرتبة «الأدوات»،
ويرفض أبدًا إنزالهم منزلة «الذوات» التي لها أن تُقرر وتختار. وهنا
يقوم المأزق الذي يجابه فيالق الإسلاميين الساعين إلى وراثة الدولة
الحاليَّة، التي يثور عليها الناس؛ وأعني من حيث لن يسمح لهم خطابهم
الراسخ إلا بإعادة إنتاج هذه الدولة القامعة من جديد، ولو كان ذلك من
خلال استبدال براقع القداسة، بزخارفِ وإكسسوارات الحداثة.
وهكذا فإن تحليلًا للكسب الأشعري، وتوابعه السياسية، يكشف عن كونه
يُمثل ضربًا من الجبر المقنَّع الذي يُغطي بالدين على الاستبداد في
السياسة. وبالطبع فإن ذلك يعني وجوب اعتباره، شأنه شأن الجبر، نوعًا من
الانحراف عن الأصل الذي لا يجوز أن يخرج عن إثبات «الإرادة الحرَّة»
للإنسان؛ بما هي الأساس الذي يقوم عليه التكليف. بل إنه يبدو أكثر
إضرارًا من الجبر؛ وذلك من حيث ما يُخايل به من وهم الفاعلية الذي يكشف
التحليل عن كونها محض فاعليةٍ ظاهرية. ويعني ذلك — بلا أدنى مواربة —
أن الكسب الأشعري الذي اعتبره الأفغاني من «أصول العقائد في الديانة
الإسلامية الحقَّة»، هو أحد أهم عوائق الإصلاح والتجديد. وهكذا فإن
جوهر الإشكالية يكمن في أن الأفغاني لا يكتفي فقط بالتفكير ضمن نظام
الخطاب الأشعري، الذي يبدو تجاوزه شرطًا لأي إصلاحٍ حقيقيٍّ، بل إنه
يسعى إلى التجديد باستدعاء مضمونٍ أشعري لا يختلف، إلا في الظاهر، عن
المضمون المرادَةِ إزاحتُه بسبب مسئوليته عن التخلف والانحطاط.
وأخيرًا، فإنه حين يدرك المرء أن «الكسب الأشعري» لم يكن إلا أحد
التأويلات التي أبدعها الخطاب الذي تحققت له السيادة في الإسلام لكي
يُرسِّخ هيمنته التي تبقى مسئولة — على نحوٍ جوهريٍّ — عما يُعانيه
العرب من التأخر والفوات على كافة الأصعدة، فإن ذلك يعني أن خطاب
الإصلاح والتجديد لم يفعل — بتبنيه للكسب الأشعري — إلا أن أعاد تثبيت
هيمنة خطاب السيادة التقليدي القديم. وإذا كان ذلك قد تحقق مع الأفغاني
من خلال استدعائه مضمونًا (هو الكسب) يندرج بمفرداته تحت مِظلة الخطاب
القديم، فإن وريثه الأستاذ الإمام (محمد عبده) قد جاور تحت مِظلة ذات
الخطاب بين مضمونَين متغايرَين. فبعد أن أدرك الإمام أنه لا سبيل إلى
امتلاك مكتسبات التمدُّن الحديث إلا من خلال إنجاز إصلاحٍ دينيٍّ —
كذلك الذي أنجزته أوروبا في بداية عصر حداثتها — فإنه قد سعى إلى فتح
الباب أمام استنبات المفاهيم المركزية التي قام عليها بناء هذا
الإصلاح، ومن أهمها على الإطلاق مفهوم الاختلاف. فالإصلاح
البُروتِستانيُّ لم يكن — في جوهره — إلا نوعًا من السعي إلى كسر
أُحادية فهم الكتاب المقدس واحتكار تفسيره، وفتح الباب أمام تعددية
الأفهام واختلافها، التي هي شرط البناء المعرفي والسياسي للعالم
الحديث. وهكذا فإن الباب قد انفتح أمام الحضور الإيجابي للاختلاف؛
بوصفه عامل إثراء للوحي، وليس بما هو عامل تهديد له؛ وأعني من حيث
«يُعبِّر عن تغيُّرٍ في الذهنية نتج عن علاقةٍ جديدة هي علاقة الاعتراف
المُتبادَل بين القوى التي استمرت تتصارع طَوال القرن السادسَ عشرَ
داخل الدين الواحد.»
١٩ وإذ وَرِثَ الأستاذ الإمام رؤية منسربة من الماضي، يحملها
الخطاب المهيمن، تَعتبر الاختلافَ عاملَ تهديد لهُوِيَّة الوحي/الأمة،
فإنه قد راح يفتح الباب أمام حضورٍ مُغاير له، كعامل إثراءٍ وتجديدٍ
لهما، ولكنه راح يفعل ذلك — لسوء الحظِّ — على مستوى مجرد المضمون
وحده؛ وبمعنى أن مفهومه الجديد للاختلاف قد راح يحضر كمضمون متجاورٍ مع
المفهوم التقليدي له، الذي يرقد ثاويًا في التجاويف الغائرة للخطاب
القديم المهيمن. وإذ هو الحضور على مستوى المضمون فحسب، فإن جزئية هذا
المضمون كان لا بد أن تحول بينه وبين التأثير في نظام الخطاب الكلي،
وبما آل — في النهاية — إلى التحييد الكامل لهذا المضمون
الجزئي.
من هنا إذن يأتي الإخفاق؛ أي من هذه التلفيقية التي جعلت الأفغاني
يقف بحدود الإصلاح عند مجرد تجديد الزخارف الخارجية على نحو ما فعل من
استبدال الكسب بالجبر، جاهلًا بأنه لم يُغادر بهذا الإبدال تحديدات
نظام الخطاب المهيمن المسئول عن الأزمة. وبعبارة أخرى، فإن إصلاحه لم
يُغادر ساحة «الإجرائي» إلى «التأسيسي»؛ وبمعنى أنه قد وقف عند حدود
العناصر والمضامين الجزئية التي تدور جميعًا داخل فلك نفس الخطاب، ولم
يُدرك أن لعبة الإبدال تلك لن تُفلِح في إنتاج أي إصلاحٍ، ما ظَلَّ
التأسيسي في الخطاب، أو نظامه، على حاله. ليس المطلوب، إذن، إبدال
مضمونٍ (كالكسب) بآخر (كالجبر) يعملان معًا تحت مظلة ذات الخطاب، بل
المطلوب هو كسر نظام هذا الخطاب وبنيته العميقة. وهي التلفيقية ذاتها
التي راحت تعمل مع الأستاذ الإمام محمد عبده عبر الجمع التجاوري بين
تصورات متناقضة؛ كما تجلى في جمعه بين الأشاعرة والمعتزلة على
تناقضهما، وكذا في جمعه بين تصورين متناقضين لمفهوم الاختلاف تاركًا
لهما أن يتصارعا معًا داخل نصِّه. وبالطبع فإن هذا التردد قد آل، مع
استمرار الهيمنة الكاملة للخطاب التقليدي، إلى أن حُوصر المعتزلة عنده،
وعلى نحوٍ ما اختفى التصور الإيجابي لمفهوم الاختلاف الذي سعى إلى
تكريسه؛ وذلك بحسب ما أظهرته التطورات التي طرأت على التفكير في
الإسلام بعده.
وهكذا فإنه يظهر أن أي استدعاء لسؤال الإصلاح إنما يستلزم وجوب تجاوز
الاشتغال على «الإجرائي»، أو المضامين والعناصر الجزئية التي يتسع لها
الخطاب، إلى الاشتغال على نظامه «التأسيسي» ذي الطابَع؛ وهو ما يبدو
أنه العمل الذي على جيلنا أن يضطلع به.